×
من أراد أن يكون من أهل الفلاح فليلزم طريق الفلاح، وليتصف بصفاتهم، وليتعاطى أعمالهم، ويتخلق بأخلاقهم ويتمسك بعراهم حتى يدركه الموت وهو على ذلك، وهذا الكتيب يبين بعض صفات المفلحين.

 خطوات على درب الفلاح

بسم الله الرحمن الرحيم

 المقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:

فالناس صنفان: مفلحون وخاسرون، وليس من بني البشر من يحب أو يتمنى أن يكون من الخاسرين، وإنما البشر جميعًا مطبقون على محبة الفلاح والنجاح والفوز وتحصيل الخيرات، ولكن هناك فارق بين الدعوى والحقيقة، وبين الأماني والعمل، وإن قومًا يقولون: نحسن الظن بربنا وقد كذبوًا لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل.

والدعاوي ما لم يقيموا عليها

بينات أصحابها أدعياء

فمن أراد أن يكون من أهل الفلاح فليلزم طريق الفلاح، وليتصف بصفات أهل الفلاح، وليتعاطى أعمال أهل الفلاح، ويتخلق بأخلاقهم ويتمسك بعراهم حتى يدركه الموت وهو على ذلك.

وقد بين الله تعالى أصناف المفلحين وصفاتهم في كتابه، وجلى أمرهم، وكشف عن سلوكهم وأخلاقهم وأعمالهم.

فمن الآيات التي ذكرت أصناف المفلحين وأحوالهم قوله تعالى: }قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ{ [المؤمنون: 1-11].

فمن صفات المفلحين التي وردت في هذه الآيات:

 1- الإيمان بالله تعالى

والإيمان بالله تعالى هو الإقرار بوحدانيته وألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، واستحقاقه للعبادة وحده لا شريك له، ويستلزم الإيمان بالله تعالى: الإيمان بالملائكة والكتاب والرسل واليوم الآخر والقدر خيره وشره قال تعالى: }ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{ [البقرة: 2-5].

 ثمرات الإيمان

وللإيمان بالله تعالى ثمرات كثيرة منها:

1- تعظيم الله تعالى.

2- الإقبال على الطاعة والبعد عن المعصية.

3- ثبات القلب مع الخلق، وعدم الخوف إلا من الله.

4- التعلق بالله تعالى.

5- محبة الله تعالى.

6- محبة عباد الله الصالحين.

7- بغض كل ما يبغض الله تعالى.

8- الحرص على اتباع السنة.

9- كثرة ذكر الله تعالى وشكره ودعائه وعبادته.

10- الدخول في حفظ الله تعالى.

11- تواضع العبد للناس جميعًا.

12- استحياء العبد من الله عز وجل.

13- الفوز بالجنة، والنجاة من النار.

14- البعد عن جميع مظاهر الشرك والرياء.

15- هدوء البال، وسكينة النفس، وانشراح الصدر.

16- النجاة من كيد الأعداء.

17- تمييز الحق من الباطن ببصيرة الإيمان.

18- الدخول في رحمة الله تعالى.

19- تبديل السيئات حسنات.

20- دحر الشيطان والتغلب على مكائده.


 2- الخشوع في الصلاة

والخشوع في الصلاة هو روح الصلاة ولبها، وركنها الأعظم، فصلاة بغير خشوع كجسد بلا روح، وأي فائدة لجسد بلا روح؟ قال النبي ﷺ‬: «إن الرجل لينصرف، وما كتب له إلا عشر صلاته، تسعها، ثمنها، سبعها، وسدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها» رواه أبو داود، والنسائي وحسنه الألباني.

وقال النبي ﷺ‬: «أسوأ الناس سرقة الذي يسرق صلاته، لا يتم ركوعها ولا سجودها» رواه الطبراني، وحسنه الألباني.

ومما ينافي الخشوع في الصلاة:

1- ترك الجماعة : والصلاة وحده في بيته أو عمله، فإن الصلاة مع الجماعة من أكبر الأسباب المعينة على الخشوع.

2- الصلاة : وهو يدافع الأخبثين (البول والغائط).

3- الصلاة : حال الجوع الشديد والعطش.

4-  الصلاة : في الأماكن التي تكثر فيها الزخارف والنقوش.

5- رفع البصر إلى أعلى: أو الالتفات أو النظر إلى الإمام.

6- الوسوسة في الصلاة.

7- كثرة الحركة : بسبب تعديل الثياب والغطرة والعقال، والنظر في الساعة وغير ذلك.

8- عدم تدبر الآيات المتلوة من الإمام أو من نفسه.

9- عدم إحسان الوضوء.

10- سرعة الإمام في قراءه وصلاته.

11- التشويش على المصلين بنغمات الجوالات الموسيقية.

12- الفتنة بالدنيا: والانكباب عليها وشدة محبتها وتعلق القلب بها.

قال ابن مسعود: رضي الله عنه: الصلاة مكيال، فمن أوفى استوفى، ومن طفف فقد علم ما قال الله: }وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ{ [المطففين: 1].

وقال بعض الصحابة: يحشر الناس يوم القيامة على مثال هيئتهم في الصلاة، من الطمأنينة والهدوء، ومن وجود النعيم بها واللذة، نسأل الله تعالى أن نكون من أهل الخشوع في الصلاة.

 3- الإعراض عن اللغو

واللغو هو الباطل، وهو يشمل الشرك وسائر المعاصي وما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال، كما قال تعالى: }وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا{ [الفرقان: 72] قال ابن كثير: أي لا يحضرون الزور، وإذا اتفق مرورهم به؛ مروا ولم يتدنسوا منه بشيء ولهذا قال: }مَرُّوا كِرَامًا{  ([1]).

وقال تعالى: }وَإِذَا سَمِعُوا اللغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ{ [القصص: 55].

قال ابن كثير: أي لا يخالطون أهله، ولا يعاشرونهم، بل كما قال تعالى: }وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا{، }وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ{ أي إذا سفه عليهم سفيه وكلمهم بما لا يليق بهم الجواب عنه، أعرضوا عنه ولم يقابلوه بمثله من الكلام القبيح، ولا يصدر عنهم إلا كلام طيب، ولهذا قال عنهم إنهم قالوا: }لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ{ أي لا نريد طريق الجاهلين ولا نحبها([2]).

قال قتادة: أتاهم، والله، من أمر الله ما وقفهم عن ذلك:

فالقوم شغلتهم عيوبهم عن عيوب الناس، فاشتغلوا بإصلاح أنفسهم، وشغلوا أوقاتهم بما يقربهم من الله، ودار كرامته، وأعرضوا عن الدنايا وسفاسف الأمور، واشتغلوا بالغايات الحميدة والمقاصد السنية، ومع ذلك فإنهم لا يجاملون أهل الباطل، ولا يجلسون في مجالسهم، ولا يكثرون سوادهم، بل يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فيعرضون عن مجالس اللهو والباطل والغناء والغيبة والنميمة والسخرية والاستهزاء، وينصحون أصحاب هذه المجالس ويذكرونهم بالله، وهذه هي المجاهدة الحقيقية وقد قال تعالى:    }وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ{ [العنكبوت: 69] .

 4- إيتاء الزكاة

قال ابن كثير: الأكثرون على أن المراد بالزكاة ههنا: زكاة الأموال، مع أن هذه الآية مكية، وإنما فرضت الزكاة بالمدينة في سنة اثنتين من الهجرة. والظاهر أن التي فرضت بالمدينة إنما هي ذات النصب والمقادير الخاصة، وإلا فالظاهر أن أصل الزكاة كان واجبًا بمكة.. قال تعالى في سورة الأنعام وهي مكية }وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ{ [الأنعام: 141].

وقد يحتمل أن يكون المراد بالزكاة ههنا زكاة النفس من الشرك والدنس كقوله: }قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا{ [الشمس: 9، 10] وكقوله: }وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ{ [فصلت: 6، 7] على أحد القولين في تفسيرها.

وقد يحتمل أن يكون كلا الأمرين مرادًا، وهو زكاة النفوس وزكاة الأموال، فإنه من جملة زكاة النفوس، والمؤمن الكامل هو الذي يفعل هذا وهذا، والله أعلم.

فاحرص أخي المسلم على إخراج زكاة مالك، في مواقيتها طيبة بها نفسك، واعلم أن الزكاة بركة للمال ونماء له، وتطهير وتزكية للمتزكي والمتصدق، وكم يدفع الله بها من الشرور والآفات والأمراض والبلايا قال تعالى: }خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا{ [التوبة: 103].

واحرص كذلك، أخي المسلم، على زكاة نفسك وتطهيرها من الأمراض الخطيرة كالشح والحقد والحسد والبغضاء والكبر والغرور وغير ذلك من أمراض القلوب وآفات النفوس.

 5- البعد عن الفواحش ومقدماتها

فالمفلحون وقفوا عند حدود الله، فحفظوا فروجهم من الحرام، فلم يقعوا فيما نهاهم الله عنه من زنا أو لواط، ولم يقربوا سوى أزواجهم، التي أحل الله لهم، أو ما ملكت أيمانهم من سبايا الحروب، ومن تعاطى ما أحله الله له فلا حرج عليه.

قال النبي ﷺ‬: «احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك» أخرجه أحمد والحاكم، وحسنه الألباني.

والمفلحون يبتعدون عن مقدمات الزنا، من النظرة الخائنة والكلمة الماجنة، واللمسة الفاجرة، والخطوة الماكرة.

وقد كان السلف يبالغون في غض البصر حذرًا من فتنة قال ابن مسعود، رضي الله عنه: ما كان من نظرة إلا وللشيطان فيها مطمع.

وكان الربيع بن خيثم، رحمه الله يغض بصره فمر به نسوة فأطرق أي أمال رأسه إلى صدره، حتى ظن النسوة أنه أعمى، فتعوذن بالله من العمى !!

فالنظر بريد الزنا، فهو يزرع في القلب الشهوة، ويورث الحسرة، فالنظرة أولها أسف، وآخرها تلف، فمن طاوع طرفه، تابع حتفه.

 6- أداء الأمانة والوفاء بالعهد

ومن صفات عباد الله المفلحين أنهم إذا اؤتمنوا لم يخونوا أماناتهم، بل يؤدونها إلى أهلها، وإذا عاهدوا أو عاقدوا أوفوا بذلك تمام الوفاء، ليس فيهم شيء من صفات المنافقين التي بينها رسول الله ﷺ‬ في قوله: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» متفق عليه.

وقال النبي ﷺ‬: «إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن، فعلموا من القرآن وعلموا من السنة. ثم حدثنا عن رفع الأمانة، فقال: ينام الرجل نومة، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل المجل([3]) كجمر دحرجته على رجلك فنفط ([4])فتراه منتبرًا ([5]) ليس فيه شيء» ثم أخذ حصى فدحرجه على رجله. متفق عليه.

وقد أمر الله تعالى بأداء الأمانات إلى أهلها فقال: }إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا{ [النساء: 58].

وقال تعالى: }فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ{ [البقرة: 283].

ونهى ربنا عن خيانة الأمانة فقال: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ{ [الأنفال: 27].

 7- المحافظة على الصلاة

ومن صفات المفلحين أنهم يحافظون على صلاتهم، فيواظبون عليها في مواقيتها، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: سألت رسول الله ﷺ‬ فقلت: يا رسول الله ! أي العمل أحب إلى الله تعالى؟ فقال: «الصلاة على وقتها..» الحديث متفق عليه.

والصلاة لها شأن عظيم في الإسلام، ولذلك ذكرها الله تعالى مرتين في هذه الآيات التي أشارت إلى بعض صفات المفلحين، فافتتح الآيات بها، واختتمها بها.

ومما يدل على فضلها، وعلو شأنها قوله ﷺ‬: «استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن» رواه أحمد والبيهقي وصححه الألباني.

ومن المحافظة على الصلاة.

1- رعاية أوقاتها وحدودها.

2- إتمام أركانها  وواجباتها وكمالها.

3- الحرص على صلاة الجماعة.

4- المسارعة إليها عند وجوبها.

5- الحزن والكآبة والأسف عند فوات حق من حقوقها.

6- المحافظة على وضوئها وآداب المشي إليها وانتظارها وشغل القلب بها.

8- الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

قال تعالى: }وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{ [آل عمران: 104].

فالمفلح يدعو إلى الله عز وجل، على بصيرة وعلم وهدى، لا على جهل وهوى، يتكلم إذا تحتم الكلام، ويسكت إذا كان السكوت خيرًا، ويأمر بالمعروف ما استطاع، وينهى عن المنكر ما استطاع، ويصبر على ما أصابه في ذات الله تعالى كما قال سبحانه: }ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ{ [النحل: 125] وقال تعالى: }وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ{ [لقمان: 17].

وقال النبي ﷺ‬: «الدين النصيحة» قالوا: لمن؟ قال: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم» رواه مسلم.

وقال ﷺ‬: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» متفق عليه.

 9- الجهاد في سبيل الله

قال تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ{ [المائدة: 35].

وقال تعالى: }لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{ [التوبة: 88].

فالجهاد في سبيل الله من أعظم الحسنات وأفضل  القربات، وأكمل الطاعات، قال تعالى: }إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ{ [التوبة: 111].

وقال تعالى: }لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا{ [النساء: 95، 96].

وقال تعالى: }هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الليْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ{ [الصف: 10-13].

وعن أبي ذر، رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال: «الإيمان بالله، والجهاد في سبيله» متفق عليه.

وعن أنس، رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ‬ قال: «لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها» متفق عليه.

قال ابن القيم رحمه الله: «وأكمل الخلق عند الله من كمل مراتب الجهاد كلها، والخلق متفاوتون في منازلهم عند الله، تفاوتهم في مراتب الجهاد، ولهذا كان أكمل الخلق وأكرمهم على الله خاتم أنبيائه ورسله، فإنه كمل مراتب الجهاد، وجاهد في الله حق جهاده، وشرع في الجهاد من حين بعث إلى أن توفاه الله عز وجل» ([6]) .

 10- تقوى الله عز وجل

قال تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ{ [آل عمران: 130].

وقال تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ{ [آل عمران: 200].

وقال تعالى: }قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ{ [المائدة: 100].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سئل رسول الله ﷺ‬ عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال: «تقوى الله، وحسن الخلق» رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح غريب، وحسنه الألباني.

قال القشيري: فالتقوى جماع الخيرات، وحقيقة الاتقاء: التحرز بطاعة الله من عقوبته، وأصل التقوى اتقاء الشرك، ثم بعد ذلك اتقاء المعاصي والسيئات، ثم بعد ذلك اتقاء الشبهات، ثم بعد ذلك ترك الفضلات.

وقال سهل بن عبد الله: من أراد أن تصح له التقوى، فليترك الذنوب كلها.

وقال الإمام ابن رجب: وأصل التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه منه، فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه، من غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك، وهو فعل طاعته واجتناب معاصيه.

 ثمرات التقوى

للتقوى ثمرات عديدة كشفت عنها آيات الكتاب العزيز منها: القرب من الله تعالى يوم القيامة، مع التمتع باللقاء والرؤية، والأمن والمنزلة الرفيعة، والقبول وعدم الرد، وحصول الفلاح، والبشارة بالمحبة، والتزكية بالكرامة، والفوز بالجنة، والنجاة من النار، وإصلاح العمل، ومغفرة الذنوب، وعظم الأجر، وحسن العاقبة، والتوفيق للعلم، والبشرى بالعون والنصرة، وتيسير الأمور، والخروج من الغم والهم والمحنة، والرزق الواسع دون عناء أو مشقة، وغير ذلك من الثمرات.

 11- التوبة:

قال تعالى: }وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ{ [النور: 31].

وقال تعالى: }فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ{ [القصص: 67].

قال ابن القيم رحمه الله: ومنزل التوبة أول المنازل وأوسطها وآخرها، فلا يفارقه العبد السالك، ولا يزال فيه إلى الممات، وإن ارتحل إلى منزل آخر ارتحل به، واستصحبه معه ونزل به، فالتوبة هي بداية العبد ونهايته، وحاجته إليها في النهاية ضرورية، كما أن حاجته إليها في البداية كذلك، وقد قال الله تعالى: }وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ{ [النور: 31] وهذه الآية في سورة مدنية خاطب الله بها أهل الإيمان وخيار خلقه أن يتوبوا إليه بعد إيمانهم، وصبرهم وهجرتهم وجهادهم، ثم علق الفلاح بالتوبة تعليق المسبب بسببه، وأتى بأداة "لعل" المشعرة بالترجي، إيذانا بأنكم إذا تبتم كنتم على رجاء الفلاح، فلا يرجو الفلاح إلا التائبون جعلنا الله منهم ([7]).


 من فضائل التوبة

1- التوبة سبب للفلاح والفوز بسعادة الدارين.

2- بالتوبة تكفر السيئات.

3- إذا حسنت التوبة بدل الله سيئات صاحبها حسنات.

4- التوبة سبب للمتاع الحسن، وزيادة القوة، ونزول الأمطار، والإمداد بالأموال والبنين.

5- التوبة من أحب العبوديات إلى الله، والتائبون من أحب العباد إلى الله.

6- الله يفرح بتوبة التائبين.

7- التوبة توجب للتائب آثارًا عجيبة من المقامات العالية فتوجب له الرضا والمحبة والرقة واللطف والذل لله، والخضوع له، والانكسار بين يديه ([8]).

8- والتوبة تخلص العبد من صفة الظلم لقوله تعالى: }وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ{ [الحجرات: 11].

 علامات التوبة المقبولة

1- أن يكون بعد التوبة خيرًا مما كان قبلها.

2- ألا يزال الخوف مصاحبًا له، لا يأمن مكر الله طرفة عين.

3- أن يستحدث أعمالاً صالحة بعد التوبة لم يكن يعملها قبلها.

4- أن يكون سريع التأثر قريب الدمعة قوي الفكرة.

5- أن يكون قوي العزيمة والإصرار على ترك الذنوب أبدًا.

6- أن يكون منكسر القلب بين يدي الرب جل وعلا.

 شروط التوبة

1- الإسلام، فلا تصح من كافر قال تعالى }وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا{ [النساء: 18].

2- الإخلاص لله، فالله تعالى أغنى الشركاء عن الشرك قال تعالى:        }وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ{ فقوله: }إِلَى اللهِ{ يدل على وجوب الإخلاص.

وقال النبي ﷺ‬: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» متفق عليه.

3- الإقلاع عن المعصية، فلا تتصور صحة التوبة مع الإقامة على المعاصي حال التوبة.

4- الاعتراف بالذنب، إذ لا يمكن أن يتوب المرء من شيء لا يعده ذنبًا.

5- الندم على ما سلف من الذنوب، وقد قال النبي ﷺ‬: «الندم توبة» رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني.

6- رد المظالم إلى أهلها، إن كانت المعصية متعلقة بحقوق الآدميين.

7- وقوع التوبة قبل الغرغرة، أي قبل وصول الروح إلى الحلقوم وهي علامة الموت، والآية التي ذكرناها عند شرط الإسلام تدل على ذلك.

8- أن تكون قبل طلوع الشمس من مغربها، لقول النبي ﷺ‬: «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» رواه مسلم.

 12- الإخلاص واتباع السنة

أما دليل الإخلاص فقوله تعالى: }فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{ [الروم: 38].

وأما دليل اتباع السنة فقوله تعالى: }الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{ [الأعراف: 157].

والإخلاص ومتابعة النبي ﷺ‬ شرطان لازمان لقبول أي عمل من أعمال الطاعة، قال تعالى: }فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا{ [الكهف: 110].

وقال تعالى: }وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا{ [الفرقان: 23] وهي الأعمال التي كانت على  غير السنة، أو أريد بها غير وجه الله.

وقال تعالى: }الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا{ [تبارك: 2].

قال الفضيل بن عياض: هو أخلصه وأصوبه. قالوا: يا أبا علي! ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة، ثم قرأ قوله تعالى:   }فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا{ [الكهف: 110].

 13- الانقياد لحكم الله ورسوله ﷺ‬

ومن صفات المفلحين  الانقياد لحكم الله ورسوله ﷺ‬ قال تعالى: }إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{ [النور: 51].

وهذا هو عنوان الفوز يوم القيامة، ولذا قال بعدها: }وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ{ [النور: 52].

وهذا الانقياد لحكم الله ورسوله هو الفارق بين المؤمنين والمنافقين قال تعالى: }وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ{ [النور: 47-49].

فالمؤمن هو الذي يقبل حكم الله ورسوله ﷺ‬ بلا تردد ولا ضيق ولا تبرم بل يكون راضيًا به منشرحًا به صدره كما قال تعالى: }فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا{ [النساء: 65].

قال ابن القيم: فأقسم سبحانه بأجل مقسم به، وهو نفسه، عز وجل، على أنه لا يثبت لهم الإيمان ولا يكونون من أهله حتى يحكموا رسول الله ﷺ‬ في جميع موارد النزاع في جميع أبواب الدين.

ولم يقتصر على هذا حتى ضم إليه انشراح صدورهم بحكمه، حيث لا يجدون في أنفسهم حرجًا، وهو الضيق والحصر، من حكمه، بل يقبلوا حكمه بالانشراح، ويقابلوه بالتسليم، لا أنهم يأخذونه على إغماض، ويشربونه على قذى، فإن هذا مناف للإيمان، بل لا بد أن يكون أخذه بقبول ورضا وانشراح صدر.. ثم لم يقتصر سبحانه على ذلك حتى ضم إليه قوله تعالى: }وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا{ فذكر الفعل مؤكدًا بمصدره القائم مقام ذكره مرتين، وهو التسليم والخضوع له والانقياد لما حكم به طوعًا ورضا، وتسليمًا لا قهرًا ومصابرة، كما يسلم المقهور لمن قهره كرهًا بل تسليم عبد مطيع لمولاه وسيده الذي هو أحب شيء إليه، يعلم أن سعادته وفلاحه في تسليمه إليه، ويعلم بأنه أولى به من نفسه. وأبر به منها، وأقدر على تخليصها.

فمتى علم العبد هذا من رسول الله ﷺ‬ واستسلم له وسلم إليه: انقادت له كل علة في قلبه، ورأى ألا سعادة له إلا بهذا التسليم والانقياد ([9]).

 14- فعل الخير والعمل الصالح

ومن صفات عباد الله المفلحين أنهم يداومون على فعل الخير و العمل الصالح، ويجتهدون في ذلك أشد الاجتهاد قال تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ{ [الحج: 77].

وقال تعالى: }فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ{ [القصص: 67].

فلا بد أن يطرق المسلم أبواب العمل الصالح، ويؤثر مرضاة الله عز وجل، في كل وقت، فيكون له حظ من الصلاة، فيجتهد في إيقاعها على أكمل الوجوه، ويبادر إليها في أول الوقت، ويجتهد ألا تفوته مع الجماعة.

ويكون له حظ في باب الصيام فيجتهد أن يصوم رمضان على الوجه المطلوب، ثم يجتهد في صيام النوافل ولا يتركها.

ويكون له حظ من العلم الشرعي، فيعلم، ويرشد الطالب، ويعلم الجاهل.

ويكون له حظ من قراءة القرآن، وجمع القلب على تدبره، وتفهم معانيه وأحكامه.

ويكون له حظ من الذكر والدعاء ولزوم الأذكار المطلقة والمقيدة.

ويكون له حظ في مساعدة الخلق بجاهه أو بنفسه أو ببدنه، فيغيث الملهوف، ويعطي السائل والمحروم.

ويكون له حظ في زيارة المرضى وتشييع الجنائز وزيارة القبور فإن ذلك يدعو إلى كسر صولة الكبر في النفس، ويدعو إلى الزهد في الدنيا وطلب الآخرة.

ويكون له حظ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله عز وجل، والصبر على أذى الناس، واحتساب الأجر في ذلك عند الله تعالى وبالجملة يكون له حظ في جميع أبواب الطاعات وفعل الخيرات كما كان الصديق رضوان الله تعالى عنه يفعل فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ‬: «من أصبح منكم اليوم صائمًا؟» قال أبو بكر رضي الله عنه أنا قال: «فن تبع منكم اليوم جنازة؟» قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا قال: «فمن أطعم منكم اليوم مسكينًا؟» قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا. قال: «فمن عاد منكم اليوم مريضًا؟» قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا. فقال رسول الله ﷺ‬: «ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة» رواه مسلم.

 15- كثرة ذكر الله عز وجل

ومن صفات أهل الفلاح كثرة ذكر الله عز وجل لقوله تعالى: }فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ{ [الجمعة: 10].

وذكر الله تعالى هو الغنيمة الباردة التي توصل إلى الجنة بغير تعب ولا مشقة، بل إن أهل ذكر الله عز وجل، يشعرون بلذة ومتعة وهم في حال الذكر، لا يشعر بها صاحب الوتر والقينة مع وتره وقينته! ولذلك كان أحد السلف يقول: لو يعلم الملوك ما نحن عليه من النعيم واللذة لجالدونا عليها بالسيوف!

قال تعالى: }الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ{ [الرعد: 28].

وقال النبي ﷺ‬: «مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره مثل الحي والميت» رواه البخاري.

وقال النبي ﷺ‬: «سبق المفردون» قالوا: وما المفردون يا رسول الله! قال: «الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات» رواه مسلم.

وعن عبد الله بن بسر، رضي الله عنه، أن رجلاً قال: يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، فأخبرني بشيء أتشبث به، قال: «لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله» رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح.

وانظر أخي إلى قوله ﷺ‬: «من قال: سبحان الله وبحمده؛ غرست له نخلة في الجنة» رواه الترمذي وحسنه، تعرف كم نحن مضيعون نسأل الله العفو والعافية.

شكا رجل إلى الحسن قساوة قلبه فقال له: ادنه من الذكر.

بذكر الله ترتاح القلوب

ودنيانا بذكراه تطيب

وفي مجلس الذكر تنزل الرحمة، وتغشى السكينة، وتحف الملائكة، ويذكر الله أهلها فيمن عنده، فهم القوم لا يشقى بهم جليسهم، فر بما رحم معهم من جلس إليهم وإن كان مذنبًا.

 أحوال الذاكرين

قال ابن الجوزي: واعلم أن الذاكرين تختلف أحوالهم، فمنهم من يؤثر قراءة القرآن ويقدمه على كل ذكر.

ومنهم من أكثر ذكره التهليل والتسبيح والتحميد.

قال محمد بن ثابت البناني: ذهبت ألقن أبي وهو في الموت، فقلت: يا أبت! قل لا إله إلا الله، فقال: يا بني! خل عني فإني في وردي السادس أو السابع!!

ومن الذاكرين من غلب على قلبه حب المذكور، فلا يزال في الذكر والتعبد.

ومن الذاكرين من صار الذكر له إلفًا عن كل كلفة فماله هم غيره، فهو يذكر أبدًا على جهة الحضور.

قال مجمش الجلاب: صحبت أبا حفص النيسابوري اثنين وعشرين سنة، فما رأيته ذكر الله، تعالى، على حد الغفلة والانبساط، ما كان يذكر الله تعالى إلا على سبيل الحضور والحرمة والتعظيم.

وشغلت عن فهم  الحديث سوى

ما كان منك وعندكم شغلي

وأديم نحو محدثي نظري

أن قد فهمت وعندكم عقلي([10])

 أفضل الذكر وأنفعه

قال ابن القيم: من الذاكرين من يبتدئ بذكر اللسان، وإن كان على غفلة، ثم لا يزال فيه حتى يحضر قلبه، فيتواطآ على الذكر.

ومنهم من لا يرى ذلك، ولا يبتدئ على غفلة، بل يسكن حتى يحضر قلبه، فيشرع بالذكر بقلبه، فإذا قوي استتبع لسانه فتواطآ جميعًا.

فالأول: ينتقل الذكر من لسانه إلى قلبه.

والثاني: ينتقل من قلبه إلى لسانه من غير أن يخلو قلبه منه، بل يسكن أولا حتى يحس بظهور الناطق فيه، فإذا أحس بذلك نطق قلبه، ثم انتقل النطق القلبي إلى الذكر اللساني، ثم يستغرق في ذلك حتى يجد كل شيء منه ذكرًا.

وأفضل الذكر وأنفعه: ما واطأ فيه القلب اللسان، وكان من الأذكار النبوية، وشهد الذاكر معانيه ومقاصده ([11]).

 16- الثبات

ومن صفات أهل  الفلاح الثبات عند مواجهة المحن والشدائد، قال تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ{ [الأنفال:45].

فلا بد من الثبات على دين الله عز وجل، ولا بد من الثبات على العقيدة الصحيحة والمبدأ القويم، ولا بد من الثبات في المواقف الكبرى التي تبين الصادق من المتذبذب.

وللثبات أسباب منها : الإيمان بالله، عز وجل، كما قال تعالى:       }يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ{ [إبراهيم: 27].

ومن أسباب الثبات: القيام بنصر الله، عز وجل، وذلك بالتمسك بالكتاب والسنة، والذب عنهما وعن أهلهما، ونشر الإسلام، والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومقارعة أهل الباطل بالحجة والبرهان أو بالسيف والسنان، قال تعالى: }إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ{ [محمد: 7].

ومن أسباب الثبات: الثقة بنصر الله تعالى للمؤمنين الصابرين المجاهدين، وانظر إلى ثبات موسى عليه السلام حينما طارده فرعون وجنوده بغيًا وعنادًا }فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ{ [الشعراء: 61] البحر من أمامنا وفرعون وجنوده خلفنا فلا سبيل إلى الخلاص }قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ{ [الشعراء: 62] فثبت على الحق ووثق بنصر الله عز وجل ولم يتزلزل قلبه كما حصل لبنى إسرائيل فجاءه نصر الله عز وجل: }فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ{ [الشعراء: 63-68].

 17- الولاء والبراء

ومن صفات عباد الله المفلحين الولاء للمؤمنين والبراء من الكافرين قال تعالى: }لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{ [المجادلة: 22].

قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: الولاء والبراء معناه: محبة المؤمنين وموالاتهم، وبغض الكافرين ومعاداتهم والبراءة منهم ومن دينهم هذا هو الولاء والبراء كما قال الله سبحانه في سورة الممتحنة: }قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ{ [الممتحنة: 4].

وليس معنى بغضهم وعداوتهم أن تظلمهم، أو تتعدى عليهم إذا لم يكونوا محاربين، وإنما معناه أن تبغضهم في قلبك وتعاديهم بقلبك، ولا يكونوا أصحابًا لك، لكن لا  تؤذيهم ولا تضرهم ولا تظلمهم، فإذا سلموا ترد عليهم السلام، وتنصحهم وتوجههم إلى الخير، كما قال الله عز وجل: }وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ{ [العنكبوت: 46].

وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى، وهكذا غيرهم من الكفار الذين لهم أمان أو عهد أو ذمة، لكن من ظلم منهم يجازي على ظلمه، وإلا فالمشروع للمؤمن الجدال بالتي هي أحسن مع المسلمين والكفار، مع بغضهم في الله، للآية الكريمة السابقة، ولقوله سبحانه: }ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ{ [النحل: 125].

فلا يتعدى عليهم، ولا يظلمهم مع بغضهم ومعاداتهم في الله، ويشرع له أن يدعوهم إلى الله، ويعلمهم ويرشدهم إلى الحق ، لعل الله يهديهم بأسبابه إلى طريق الصواب، ولا مانع من الصدقة عليهم والإحسان إليهم، لقول الله عز وجل: }لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ{ [الممتحنة: 8].

ولما ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ‬ أنه أمر أسماء بنت أبي بكر، رضي الله عنهما أن تصل أمها وهي كافرة في حال الهدنة التي وقعت بين النبي ﷺ‬ وبين أهل مكة عام الحديبية ([12]).

 18- اجتناب المحرمات

ومن صفات أهل الفلاح اجتناب ما حرم الله عز وجل قال تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ{ [المائدة: 90].

واجتناب المحرمات فرض على كل مسلم لقوله ﷺ‬: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم..» رواه مسلم.

والمحرمات هي حدود الله، عز وجل، التي من تعداها فقد عرض نفسه للعذاب الأليم قال تعالى: }وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ{ [النساء: 14].

وهي الخبائث التي حرمها الله، عز وجل لخبثها وضررها كما قال تعالى: }وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ{ [الأعراف: 157].

 حكم تحريم المحرمات

ينبغي أن يعلم المسلم أن في تحريم المحرمات حكمًا منها:

أن الله يبتلى عباده بهذه المحرمات، فينظر كيف يعملون، ومن أسباب تميز أهل الجنة عن أهل النار، أن أهل النار قد انغمسوا في الشهوات التي حفت بها النار، وأهل الجنة صبروا على المكاره التي حفت بها الجنة، ولولا هذا الابتلاء ما تبين العاصي من المطيع.

وأهل الإيمان ينظرون إلى مشقة التكليف بعين احتساب الأجر وامتثال أمر الله لنيل رضاه، فتهون عليهم المشقة، وأهل النفاق ينظرون إلى مشقة التكليف بعين الألم والتوجع والحرمان، فتكون الوطأة عليهم شديدة والطاعة عسيرة.

وبترك المحرمات يذوق المطيع حلاوة: من ترك شيئًا لله، عوضه الله خيرًا منه، ويجد لذة الإيمان في قلبه ([13]).

 19- ذكر آلاء الله

ومن صفات أهل الفلاح ذكر آلاء الله عز وجل وتعداد نعمه والاعتراف بمننه قال تعالى: }فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ{ [الأعراف: 69].

وذكر آلاء الله، عز وجل، وهو من قواعد الشكر الذي هو من أعلى المنازل وأجل القربات،  والشكر مبني على خمس قواعد.

الأولى: خضوع الشاكر للمشكور.

الثانية: حبه له.

الثالثة: اعترافه بنعمته.

الرابعة: ثناؤه عليه بها.

الخامسة: ألا يستعمل النعمة فيما يكره المنعم.

فالشكر إذن هو الاعتراف بنعمة المنعم على وجه الخضوع، وإضافة النعم إلى موليها، والثناء على المنعم بذكر إنعامه، وعكوف القلب على محبته، والجوارح على طاعته، وجريان اللسان بذكره.

وكان النبي ﷺ‬ يذكر آلاء الله ونعمه عليه ويثني عليه بها، فكان ﷺ‬ إذا أصبح وإذا أمسى يقول: «اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر» رواه أبو داود، وحسنه ابن حجر والنووي.

ونعم الله على عباده كثيرة وآلاؤه جسيمة، قال تعالى: }وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ{ [إبراهيم: 34].

وأعظم النعم هي نعمة الإسلام والتوحيد، فلله الحمد والمنة على أن جعلنا من خير أمة أخرجت للناس، قال مجاهد في قوله تعالى: }وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً{ [لقمان: 20] قال: هي لا إله إلا الله.

وقال ابن عيينة: ما أنعم الله على العباد نعمة أفضل من أن عرفهم لا إله إلا الله.

وبعد نعمة الإسلام والتوحيد فإن هناك نعمًا أخرى لا تعد ولا تحصى، فهناك نعمة إرسال الرسل، وإنزال الكتب، ونعمة الستر والإمهال، ونعمة فتح باب التوبة ونعمة التوفيق للمصالح، ونعمة الصحة والعافية وسلامة الجوارح ونعمة العقل، ونعمة المال، ونعمة الطعام والشراب واللباس، ونعمة الزوجة والذرية قال تعالى: }وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ{ [الذاريات: 21] فكم من نعمة ظاهرة وباطنة في جسم الإنسان.

قال ابن القيم رحمه الله:

النعم ثلاثة:

1- نعمة حاصلة يعلم بها العبد.

2- ونعمة منتظرة يرجوها.

3- ونعمة هو فيها لا يشعر بها:

فإذا أراد الله إتمام نعمته على عبده عرفه نعمته الحاضرة، وأعطاه من شكره قيدا يقيدها به حتى لا تشرد، فإنها تشرد بالمعصية وتقيد بالشكر، ووفقه لعمل يستجلب به النعمة المنتظرة، وبصره بالطرق التي تسدها وتقطع طريقها، ووفقه لاجتنابها، وإذا بها قد وافت إليه على أتم الوجوه، وعرفه النعم التي هو فيها ولا يشعر بها.


 20- السلامة من شح النفس

ومن صفات أهل الفلاح السلامة من الشح، قال تعالى: }وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{ [الحشر: 9].

قال ابن كثير: أي من سلم من الشح فقد أفلح، وأنجح. وقال النبي ﷺ‬: «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءكم واستحلوا محارمهم» رواه مسلم.

قال النووي: «قوله: واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم» قال القاضي: يحتمل أن هذا الهلاك هو الهلاك الذي أخبر عنهم به في الدنيا: بأنهم سفكوا دماءهم، ويحتمل أنه هلاك الآخرة، وهذا الثاني أظهر، ويحتمل أنه أهلكهم في الدنيا والآخرة.

قال جماعة: الشح أشد البخل، وأبلغ في المنع من البخل. وقيل: هو البخل مع الحرص. وقيل: البخل في أفراد الأمور، والشح عام. وقيل: البخل في أفراد الأمور والشح بالمال  والمعروف، وقيل: الشح: الحرص على ما ليس عنده، والبخل بما عنده ([14]).

وقال ابن القيم رحمه الله: «وأما الشح فهو خلق ذميم، يتولد من سوء الظن، وضعف النفس، ويمده وعد الشيطان حتى يصير هلعًا، والهلع: شدة الحرص على الشيء، والشره به، فتولد عنه المنع لبذله والجزع لفقده، كما قال تعالى: }إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا{ [المعارج: 19-21]» ([15]).

وقال النبي ﷺ‬: «شر ما في المرء شح هالع وجبن خالع» رواه أبو داود وصححه الألباني.

وعن الأسود بن هلال قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: يا أبا عبد الرحمن إني أخاف أن أكون هلكت.

فقال له عبد الله: وما ذاك؟ قال: سمعت الله يقول: }وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{ [الحشر: 9] وأنا رجل شحيح لا أكاد أن أخرج من يدي شيئًا فقال عبد الله: ليس ذاك بالشح الذي ذكره الله في القرآن، إنما الشح الذي ذكر الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلمًا، ولكن ذاك البخل، وبئس الشيء البخل.

وعن أبي الهياج الأسدي، قال: كنت أطوف بالبيت فرأيت رجلاً يقول: اللهم قني شح نفسي لا يزيد على ذلك. فقلت له ([16]): فقال: إني إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزن ولم أفعل، وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ([17]).


الذين لا يفلحون

1- الكافرون

قال تعالى: }وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ{ [المؤمنون: 117].

وقال تعالى: }وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ{ [القصص: 82].

2- الذين يفترون على الله الكذب

قال تعالى: }قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ{ [يونس: 68، 69].

وقال تعالى: }وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ{ [النحل؛: 116].

3- السحرة

قال تعالى: }فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ * قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ{ [يونس: 76، 77].

وقال تعالى: }وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى{ [طه: 69].

4- المجرمون

قال تعالى: }فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ{ [يونس: 17].

5- الظالمون

قال تعالى: }وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ{ [الأنعام: 21].

وقال تعالى: }وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ{ [يوسف: 23].

وقال تعالى: }وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ{ [القصص: 37].

نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل الفلاح، وأن يقربنا من صفاتهم وأعمالهم وأن يباعد بيننا وبين سبيل المجرمين الخاسرين، أنه ولي ذلك والقادر عليه.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.




([1])  تفسير ابن كثير (3/436).

([2])  تفسير ابن كثير (3/518، 519).

([3])  المجل: أن يكون بين الجلد واللحم ماء.

([4])  نفط: تورم وانتفخ.

([5])  منتبرًا: مرتفعًا.

([6])  زاد المعاد (3/12).

([7])  مدارج السالكين (1/196).

([8])  كلمات متنوعة (3/41، 42).

([9])  زاد المهاجر إلى ربه (17، 18).

([10])  التبصرة بشيء من الاختصار (2/306، 307).

([11])  الفوائد (272).

([12])  مجموع فتاوى سماحة الشيخ (3/1021، 1022).

([13])  محرمات استهان بها الناس (10، 11).

([14])  شرح صحيح مسلم للنووي (16/350).

([15])  الروح (228).

([16])  فقلت له: أي راجعته في مقولته.

([17])  تفسير ابن كثير (4/433).