×
الفوز الحقيقي هو ما يكون عند الموت، وفي القبر، وعند سؤال الملكين، وعند الحشر والنشر والصراط وتطايُر الصُّحف، وهذه المقالة تبين بعض صفات الفائزين التى ذكرها القرآن الكريم.

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله ربِّ العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام الأولين والآخرين، وقائد الغُرِّ المُحجَّلين، وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين، أما بعد؛

    أخي الحبيب! كثيرًا ما نسمع كلمة «فاز» فيقال: فاز فلان بجائزة، وفلان بسيارة، وفاز فلان بكأس، وفلان بميدالية. وفاز فلان بالمركز الأول، وفاز فريق كذا على فريق كذا بهدف أو أكثر. وفاز الملاكم الفلاني على خصمه بالضربة القاضية.. وهكذا كثيرًا ما تطرق هذه الكلمة آذاننا فيما يتعلق بجوائز الدنيا وهداياها، ولكن القليل منا من نظر في هذه الكلمة بعين بصيرته، وسافر بهمته إلى الفوز الأكبر الذي ليس بعده خسارة، واشتاق إلى السعادة العظمي التي ليس بعدها شقاء ﴿فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ [هود: 106 – 108].

    الفوز الحقيقي

    إن الفوز في الدنيا محفوف بالمكارة، ومُعرَّض للنقص والزوال والنسيان، فالغنى يتبعه فقر، والقوة يتبعها ضعف، والصحة يتبعها مرض، والشباب يتبعه عجز وهرم، والحياة نفسها لا تدوم..

    فأي فوز هذا الذي يكون في الدنيا؟

    أما الفوز الحقيقي فهو ما يكون عند الموت، وفي القبر، وعند سؤال الملكين، وعند الحشر والنشر والصراط وتطايُر الصُّحف: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ﴾ [الحاقة: 19 – 20].

    انظر -أُخَيَّ- إلى هذا الفائز، كيف يُنادي فرحًا مسرورًا: لقد أخذت كتابي بيميني، وهذه علامة فوزي وسعادتي الدائمة، اقرؤوا هذا الكتاب أيها الناس، لقد كنت على يقين من مجيء هذا اليوم، ومن وقوفي هذا الموقف، ولذلك فقد عملت له ألف حساب، وهذا هو الجزاء: ﴿فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾ [الحاقة: 21 – 24].

    وعلى الجانب الآخر يقف الخاسرون النادمون، الذين ضيَّعوا أعمارهم هباء، ولم يُقدِّموا شيئًا ليوم المعاد ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ﴾ [الحاقة: 25 – 29].

    ولذلك فقد كان الجزاء من جنس العمل: ﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ﴾ [الحاقة: 30 – 37].

    أعلمت -أُخَيَّ- إذن من الفائز؟ استمع إلى قول الحقِّ تعالى: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾ [آل عمران: 185].

    فالفوز في النجاة من النار.. الفوز في دخول الجنة مع الأبرار.. وما أعظم الفارق بين أهل الجنة وأهل النار.. بين أهل النعيم وأهل الجحيم.. بين الناجين والهالكين.. بين الفائزين والخاسرين.. أولئك في الجنة يأكلون ويشربون.. ويلعبون ويمرحون.. ويلتذُّون بأنواع الملذَّات وأصناف النعيم.. وأولئك يُعذَّبون ويُضربون .. ويصرخون ويجأرون.. فهل يستويان مثلاً؟ قال تعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ [الحشر: 20].

    سبيل الفوز والنجاة

    لعلك أخي الحبيب قد اشتقت إلى هذا الفوز العظيم والنجاح الكبير، ولعلك تتساءل فتقول: ما السبيل إلى هذا الفوز الكبير؟

    وأقول مجيبًا على هذا التساؤل: قال الله تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 38] فعليك -أخي- بكتاب الله عزَّ وجلَّ، اقرأ القرآن، وتدبر آياته .. ففي القرآن الكريم بيان شامل لصفات الفائزين وأعمالهم، وبيان شافٍ لصفات الهالكين وأعمالهم.. وفيه أيضًا مآل كل واحد من الفريقين.

    ومن صفات الفائزين التي ذكرها القرآن الكريم ما يلي:

    الصفة الأولى: الإيمان بالله

    والإيمان بالله هو أساس الفوز والسعادة والنجاة في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 72].

    وقال تعالى: ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [الحديد: 12].

    والإيمان عند أهل السنة والجماعة هو تصديق بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، أمَّا مَن يقولون: إن الإيمان في القلب ولا دخل للجوارح فيه، وأن الأعمال ليست من الإيمان، فأولئك هم أهل الضلال والأهواء والبدع.

    الصفة الثانية: صلاح العمل

    إن الإيمان الحقيقي يدفع صاحبه إلى طاعة الله ورسوله وإصلاح العمل، حتَّى يكون خالصًا لله تعالى، وصوابًا على سنة رسول الله ﷺ‬. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70 – 71].

    ونظرًا لارتباط الإيمان بالعمل فقد قرن الله تعالى بينهما في كثير من آيات القرآن، وجعل الفوز مُترتبًا على الإتيان بهما جميعًا فقال تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ﴾ [الجاثية: 30].

    وقال تعالى: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التغابن: 9].

    وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾ [البروج: 11].

    فانظر -أخي- كيف جَمعتْ هذه الآيات بين الإيمان والعمل الصالح.. وكيف وُصف الفوز في الآية الأولى بأنه مُبين، وفي الثانية بأنه عظيم.. وفي الثالثة بأنه كبير ليدل على كمال هذا الفوز الأخروي المُترتب على الإيمان والعمل الصالح.

    الصفة الثالثة: الاتباع وترك الابتداع

    من صفات المؤمنين الفائزين: الاتباع وترك الابتداع. قال تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 100].

    ولا يتحقق الاتباع وترك الابتداع إلا بأصلين اثنين:

    الأصل الأول: الإخلاص لله عزَّ وجلَّ.

    الأصل الثاني: متابعة الرسول ﷺ‬.

    قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الملك: 2] أحسنه: أخلصه وأصوبه. قالوا: يا أبا علي! ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقبل. وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقبل، حتَّى يكون خالصًا صوابًا. والخالص ما كان لله، والصواب ما كان على السُّنَّة.

    وقال سفيان الثوري: البدعة أحبُّ إلى إبليس من المعصية؛ لأن المعصية يُتاب منها والبدعة لا يُتاب منها.

    وقال أيوب السختياني: ما ازداد صاحب بدعة اجتهادًا إلا ازداد من الله عزَّ وجلَّ بُعدًا.

    الصفة الرابعة: ترك المعاصي

    فالمعاصي تُفسد القلب وتُظلمه، وتُسقط العبد من عين الله تعالى وتُورثه الذلَّ والخُذلان، وتُعرِّضه لأنواع العقوبات في الدنيا والآخرة. والمعاصي تُزيل النعم وتُحلُّ النِّقم، وتُمحق بركة العمر، وليس هناك فوزٌ ولا سعادةٌ ولا نجاةٌ إلا بترك المعاصي.

    قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [غافر: 7 – 9].

    فأبان تعالى: أن ترك السيئات والوقاية منها تؤدي إلى رحمة الله، ومَنْ رحمه الله فقد فاز فوزًا عظيمًا.

    وقال تعالى في بيان فوز أهل الطاعة وهلاك أهل العصيان: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [النساء: 13 – 14].

    قال يحيي بن مُعاذ الرازي: عجبت من ذي عقل يقول في دعائه: اللهم لا تُشمت بي الأعداء، وهو يُشمِت بنفسه كلَّ عدو له. قيل له: كيف ذلك؟ قال: يعصي الله فيُشمِت به في القيامة كلَّ عدو!!

    الصفة الخامسة: الصدق

    فالصدق من صفات المؤمنين الفائزين، قال تعالى: ﴿قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [المائدة: 119].

    قال الإمام ابن القيم رحمه الله: «وقد أمر الله سبحانه أهل الإيمان أن يكونوا مع الصادقين. فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119]. وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ﴾ فهم الرفيق الأعلى ﴿وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء: 69].

    وأخبر تعالى أن مَنْ صدَّقه فهو خير له. فقال: ﴿فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ [محمد: 21].

    وقَسَّم الله سبحانه الناس إلى صادق ومنافق، فقال: ﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ [الأحزاب: 24].

    والإيمان أساسه الصدق، والنفاق أساسه الكذب، فلا يجتمع كذب وإيمان إلا وأحدهما مُحارب للآخر.

    الصفة السادسة: الخوف من الله

    والخوف من الله عزَّ وجلَّ يُؤدي إلى ترك العصيان، وترك المعاصي يُثمر الفوز بالجنة والنجاة من النار. قال تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ﴾ [الأنعام: 15 – 16].

    والخوف من الله عزَّ وجلَّ من الفرائض على كل أحد. قال تعالى: ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ [البقرة: 40]، وقال: ﴿فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ﴾ [المائدة: 44]. بل إن الله سبحانه وتعالى علَّق الإيمان عليه فقال: ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 175].

    وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله! قول الله ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [المؤمنون: 60] أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق؟ قال: «لا يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصوم ويُصلِّي ويتصدق ويخاف أن لا يُقبل منه» [رواه الترمذي وصححه الحاكم].

    وقال الحسن في هذه الآية: عملوا -والله- بالطاعات، واجتهدوا فيها، وخافوا أن تُردَّ عليهم، إن المؤمن جمع إحسانًا وخشية، والمنافق جمع إساءة وأمنًا.

    قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ [النور: 52].

    الصفة السابعة: التقوى

    أخبر الله تعالى في كتابه عن فوز المتقين في الآخرة وخلودهم في الجنة ونجاتهم من النار، فقال سبحانه: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آَمِنِينَ * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [الدخان: 51 – 57].

    وبشَّرهم سبحانه بالفوز في الدنيا والآخرة قال عزَّ وجلَّ: ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [يونس: 63 – 64].

    والتقوى جماع الخيرات، وحقيقتها: التحرز بطاعة الله من عقوبته. وأصلها: اتِّقاء الشرك، ثم اتِّقاء المعاصي والسيئات، ثم اتِّقاء الشُّبُهات، ثم بعد ذلك ترك الفضلات.

    * قال ابن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾: أن يُطاع فلا يُعصَى، ويُذكَّر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر.

    * وقال الروذباري: التقوى: مجانبة ما يبعدك عن الله.

    * والتقوى لا تقوم إلا على ساق العلم، فالجاهل لا يمكن أن يكون تقيًّا. قال بكر بن خُنيس: كيف يكون متقيًا من لا يدري ما يتَّقي؟!

    الصفة الثامنة: الجهاد في سبيل الله

    والجهاد في سبيل الله من أفضل الأعمال، فقد سأل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه النبي ﷺ‬ فقال: أي العمل أحبُّ إلى الله تعالى؟ فقال ﷺ‬: «الصلاة لوقتها»، قال: ثم أي]؟ قال: «بر الوالدين»، قال ثم أي؟ قال: «الجهاد في سبيل الله» [متفق عليه].

    ولذلك جعل الله تعالى الجهاد في سبيل الله من أسباب الفوز العظيم يوم القيامة، قال تعالى: ﴿لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 88 – 89].

    والجهاد في سبيل الله من أعظم التجارة مع الله عزَّ وجلَّ وأربحها. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الصف: 10 – 13].

    الصفة التاسعة: ترك اتِّباع شياطين الجنِّ والإنس

    ومن أسباب الفوز بالجنة والنجاة من النار: ترك اتباع شياطين الجنِّ والإنس ومخالفتهم وإظهار العداوة لهم. قال تعالى: ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ﴾ [الصافات: 50 – 61].

    قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: «يخبر تعالى عن أهل الجنة أنه أقبل بعضهم على بعض يتساءلون عن أحوالهم وكيف كانوا في الدنيا، وماذا كانوا يُعانون فيها، وذلك من حديثهم على شرابهم واجتماعهم في تنادمهم ومعاشرتهم في مجالسهم وهم جلوس على السرر والخدم بين أيديهم يسعون ويجيئون بكل خير عظيم، من مآكل ومشارب وملابس وغير ذلك مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. ﴿قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ﴾. قال مجاهد: يعني شيطانًا. وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: هو الرجل المشرك يكون له صاحب من أهل الإيمان في الدنيا، ولا تنافي بين كلام مجاهد وابن عباس رضي الله عنهما، فإن الشيطان يكون من الجنِّ فيوسوس في النفس، ويكون من الإنس فيقول كلامًا تسمعه الأُذانان وكلاهما يتعاونان».

    والمراد أن المؤمن لما صدق بالبعث والجزاء، وأطاع ربَّه، وعصى القرين، كان ذلك سببًا في نجاته من النار وفوزه بالجنة حيث النعيم المقيم الذي لا يزول ولا يحول.

    الصفة العاشرة: الصبر

    قال ابن القيم رحمه الله: وهو واجب بإجماع الأمة، وهو نصف الإيمان، فإن الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر.

    وقد أخبر الله تعالى أن الصبر من أسباب الفوز والفلاح يوم القيامة، فقال سبحانه: ﴿إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ [المؤمنون: 109 – 111].

    والصبر هو: حبس النفس عن الجزع والتسخط، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن المعاصي.

    وهو ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على امتحان الله، وقال النبي ﷺ‬: «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له» [رواه مسلم].

    نسأل الله تعالى أن نكون من عباد الله الفائزين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.