×
لقد اعتنى الإسلام بالأيتام عناية كبيرة، وهذا الكتيب يبين عناية القرآن والسنة والسلف باليتيم، مع ذكر بعض الأمثلة لمن عاش يتيمًا.

 اليتيم

عبد الحميد بن عبد الرحمن السحيباني


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد بن عبد الله، وآله وصحبه أجمعين، وبعد:

فإن من أهم الموضوعات التي تحتاج إلى مدارسة بين المسلمين موضوع «اليتيم» ذلك المخلوق الضعيف الذي قدر الله عز وجل وجوده في هذه الحياة، وإلى أن يرث تبارك اسمه الأرض ومن عليها امتحانًا للناس واختبارًا.

اعتنى الله عز وجل بموضوع اليتيم وهو من فقد أباه وهو دون البلوغ ذكرًا كان أو أنثى – اعتنى به – سبحانه – عناية عظمى في القرآن العظيم، وذلك من عدة أوجه:

أولها: أن الله عز وجل أثنى ثناءً جميلاً على المؤمنين الذين يسدون رمق اليتيم وجوعته، قال تبارك اسمه: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا﴾ [الإنسان: 8-10].

وذكر سبحانه جزاء هؤلاء الذين حرصوا على إطعام اليتيم وسد فاقته بقوله: ﴿فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا...﴾ إلى آخر الآيات [الإنسان: 11-22].

وهكذا نرى جزاء من يحسن إلى اليتيم ويرأف به، وكيف لا يكون هذا جزاءه، وهو قد أحسن إلى اليتيم المضيع، كيف لا يكون هذا جزاؤه، وهو قد كفكف دمعه، وسد رمقه، وأثلج صدره!

وثاني تلك الوجوه: أن الله تعالى ذم الذين لا يكرمون اليتيم ولا يرحمونه، فقال مبينًا حال الكفار الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، قال: ﴿كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ﴾ [الفجر: 17] وهؤلاء ماذا سيكون حالهم في الآخرة؟ ﴿وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ [الفجر: 23، 24].

نعم، يقول: يا ليتني قدمت لحياتي هنا فهي الحياة الحقيقية.. يا ليتني آمنت بالله.. يا ليتني رحمت اليتيم.. يا ليتني أطعمته.. يا ليتني كسوته.. يا ليتني مسحت على رأسه.. يا ليتني كفكفت دمعته.. وفرجت كربته.. وأدخلتُ السرور إلى قلبه المكلوم..

ولقد حذر الله عز وجل رسوله - صلى الله عليه وسلم - من قهر اليتيم بعد أن عدد عليه عظيم نعمه وجزيل هباته والتي كان منها أنه سبحانه وجده يتيمًا فآواه، وأنزل في ذلك آيات تتلى إلى يوم القيامة، هي درس وموعظة لكل مسلم يؤمن بالله: ﴿وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ [الضحى: 1-11].

وذم الله عز وجل كذلك أولئك الذين لا يعرفون لليتيم حقًا، ولا يرعون فيه واجبًا، وليس في قلوبهم تجاهه شفقة ولا رحمة، قال تبارك اسمه: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ [الماعون: 1-3]. قال ابن كثير: «يقول تعالى: أرأيت يا محمد الذي يكذب بالدين وهو المعاد والجزاء والثواب، فذلك الذي يدع اليتيم أي هو الذي يقهر اليتيم ويظلمه حقه ولا يطعمه ولا يحسن إليه» [تفسير القرآن العظيم (4/554)].

ولا شك أن هذا التنبيه القرآني الواضح في التحذير من قهر اليتيم والإساءة إليه لهو أعظم زاجر لأولئك الظلمة الذين ما زالوا في غيهم سادرين، ما زالوا يواجهون اليتامى والمساكين والبائسين بكل ألوان القهر والاستعباد! هذا التنبيه القرآني أعظم زاجر لهم إن كان لهم قلوب يعقلون بها» أو آذان يسمعون بها.

والواحد من هؤلاء الظلمة هو الذي عناه الشاعر بقوله:

فكم يتيم مدقع ويتيمة

من جوره ماتا على فرش الضنى

وثالث تلك الوجوه: أن الله عز وجل أمر بالمحافظة على أموال اليتامى وحرم إفسادها وتضييعها: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: 220].

ورابع الوجوه: الأمر بإعطاء اليتامى أموالهم عندما يرشدون ويعرفون كيف يتصرفون في أموالهم، قال سبحانه: ﴿وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ [النساء: 2].

وقال سبحانه: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ [النساء: 6].

وخامس الوجوه: التشنيع الشديد على من أكل أموال اليتامى ظلمًا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ [النساء: 10]. نعم، إنه تحذير للذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا بأن هذا المال نار، وإنهم ليأكلون هذه النار، وإن مصيرهم لإلى النار، فهي تشوي البطون، وتشوي الجلود، هي النار من باطن وظاهر هي النار مجسمة حتى لتكاد تُحسها البطون والجلود، وحتى لتكاد تراها العيون وهي تشوي البطون والجلود»([1]).

وقال سبحانه: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾ [الإسراء: 34].

قال ابن الجوزي في زاد المسير ([2]): «إنما خَصَّ مال اليتيم لأن الطمع فيه، لقلة مُراعيه وضعف مالكه أقوى».

* * * *


 عناية السنة بموضوع اليتيم

شدد النبي - صلى الله عليه وسلم - تبعًا للكتاب الكريم النكير في مسألة أكل مال اليتيم كما ثبت في البخاري ([3]) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - «اجتنبوا السبع الموبقات» وذكر منها: «أكل مال اليتيم».

وبين عليه الصلاة والسلام المنزلة العظيمة التي يتبوأها كافل اليتيم، فقال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم ([4]) كتاب الزهد والرقائق: «كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة» وأشار مالك بالسبابة والوسطى.

وفي صحيح ابن حبان ([5]) وصححه الأرنؤوط عن سهل بن سعد: «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا» وأشار بالسبابة والوسطى.

قال ابن حبان: «قوله - صلى الله عليه وسلم -: هكذا» أراد به في دخول الجنة لأن كافل اليتيم تكون مرتبته مع مرتبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجنة واحدة». اهـ.

وفي مسند أبي يعلي لكن ضعف إسناده محقق الكتاب ([6]) «من ضم يتيمًا بين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يستغنى عنه وجبت له الجنة البتة».

والحديث رواه كذلك الطبراني في معجمه الكبير([7]) وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - ما يبين عظم التفريط في مال اليتيم عندما نصح أبا ذر - رضي الله عنه - فقال عليه الصلاة والسلام كما في كتاب الإمارة من صحيح مسلم: «يا أبا ذر، إني أراك ضعيفًا وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا توليَّنَّ مال يتيم».

* * * *


أحاديث ضعيفة

جاءت أحاديث كذلك في الرفق باليتيم ولكنها غير صحيحة نذكرها لبيان ضعفها.

1- «من مسح على رأس يتيم رحمة له كتب له بكل شعرة حسنة ورفع له بكل شعرة درجة».

قال الذهبي في ميزان الاعتدال ([8]): قال البخاري: فائد (يعني فائدًا أبا الورقاء أحد رجال الإسناد): منكر الحديث».

2- «من مسح رأس يتيم يوم عاشوراء وقعت له بكل شعرة درجة في الجنة» قال الذهبي في «ميزان الاعتدال»([9]) «موضوع».

3- «إذا بكى اليتيم وقعت دموعه في كف الرحمن تعالى فيقول: من أبكى هذا اليتيم الذي واريت والديه تحت الثرى؟. من أسكته فله الجنة».

قال الخطيب البغدادي في «تاريخ بغداد»([10]) هذا حديث منكر جدًا لم أكتبه إلا بإسناده، ورجاله كلهم معروفون إلا موسى بن عيسى فإنه مجهول وحديثه عندنا غير مقبول». وقال الذهبي في «تذكرة الحفاظ»([11]) لما ذكر الخبر المتقدم وذكر موسى بن عيسى، قال: «هو واضعُه» يعني موسى بن عيسى.

4- حديث البزار في قصة اليتيم الذي جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه إحدى وعشرين تمرة، وقول معاذ لليتيم: «يا غلام، جبر الله يتمك» ضعيف جدًا، لأن في إسناده فائدًا أبا الورقاء، وقد تقدم كلام الذهبي في «ميزان الاعتدال... في أبي الورقاء هذا حيث قال: «منكر الحديث» وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد»([12]): متروك.

* * * *


 عناية السلف باليتيم

اعتنى السلف رحمهم الله تعالى باليتيم، فدعوا - مقتضين في ذلك الكتاب والسنة – إلى العناية باليتيم والإحسان إليه، وطبقوا ذلك في واقع حياتهم، لأن العلم بذلك يقتضي العمل. ففي وصية علي - رضي الله عنه - - لما قُتل - لولديه الحسن والحسين: «قولا الحق وارحما اليتيم وأغيثا الملهوف واصنعا للآخرة»([13]).

وقال أبو الدرداء - رضي الله عنه - فيما كتبه إلى سلمان الفارسي - رضي الله عنه -: «يا أخي، ارحم اليتيم، وأدنه منك، وأطعمه من طعامك»([14]).

وسأل الإمام أحمد يرحمه الله كما في «طبقات الحنابلة»([15]) لأبي يعلى رجلٌ، فقال: «كيف يرق قلبي؟» فقال الإمام أحمد: «ادخل المقبرة وامسح رأس اليتيم». وقال أبو الدرداء - رضي الله عنه - محذِّرًا من دعوة اليتيم: «إياك ودعوة المظلوم ودعوة اليتيم، فإنهما تسريان بالليل والناس نيام»([16]).

ورحم الله القائل وهو يحذر من ظلم اليتيم:

واتقوا الله في ضعاف اليتامي

وبما يُستحل غير الحلال

واعلموا أن لليتيم وليًا

عالمًا يهتدي بغير سؤال

ثم مال اليتيم لا تأكلوه

إن مال اليتيم يرعاه والي

وقد مدح أحد الشعراء وهو عبد الصمد بن المعذل أحد الرجال المشهورين بالعطاء والصدقة وبذلك المعروف، مدحه لأنه كان يحسن إلى اليتيم، وهذا الرجل هو سعيد بن سلم قال عبد الصمد هذا يرثيه:

كم يتيم نعشته بعد يتم

وفقيرًا أغنيته بعد عدم

كلما عضت النوائب نادى

رضي الله عن سعيد بن سلم ([17])

* * * *


 رحمته - صلى الله عليه وسلم - باليتيم

كان عليه الصلاة والسلام يمتثل أمر الله عز وجل له بعدم قهر اليتيم حق الامتثال، بدليل ما أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة وابن حبان في صحيحه ولفظ مسلم عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كانت عند أم سليم يتيمة وهي أم أنس([18])، فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليتيمة فقال: «آنتِ هِيَهْ؟ لقد كَبْرتِ، لا كَبرَ سِنُك» فرجعت اليتيمة إلى أم سليم تبكي. فقالت أم سليم: مالك؟ يا بُنية! قالت الجارية: دعا علي نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا يكبر سني، فالآن لا يكبرُ سني أبدًا أو قالت: قرني. فخرجت أم سليم مستعجلة تلوث خمارها([19])، حتى لقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مالك يا أم سُليم! قالت: يا نبي الله أدعوت على يتيمتي؟ قال: وما ذاك يا أم سليم؟ قالت: زعمت أنك دعوت أن لا يكبر سنُها ولا يكبر قرنها. قال: فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: يا أم سليم! أما تعلمين أن شرطي على ربي أني اشترطت على ربي فقلت: إنما أنا بشر. أرضى كما يرضى البشر وأغضب كما يغضب البشر فأيما أحد دعوتُ عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن تجعلها له طهورًا وزكاة وقربةُ يقرِّبه بها منه يوم القيامة».

قال النووي في شرحه على مسلم بعد ذكره هذا الحديث والروايات الواردة فيه: «هذه الأحاديث مبينة على ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - من الشفقة على أمته والاعتناء بمصالحهم والاحتياط لهم والرغبة في كل ما ينفعهم».

وقال النووي كذلك: «فإن قيل: كيف يدعو على من ليس هو بأهل للدعاء عليه أو يسبُّه أو يلعنه ونحو ذلك؟ فالجواب ما أجاب به العلماء، ومختصره وجهان: أحدهما: أن المراد ليس بأهل لذلك عند الله تعالى وفي باطن الأمر، ولكنه في الظاهر مستوجب له، فيظهر له - صلى الله عليه وسلم - استحقاقه لذلك بأمارة شرعية ويكون في باطن الأمر ليس أهلاً لذلك وهو - صلى الله عليه وسلم - مأمور بالحكم بالظاهر والله يتولى السرائر، والثاني: أن ما وقع من سبه ودعائه ونحوه ليس بمقصود بل هو مما جرت به عادة العرب في وصل كلامها بلا نية كقوله: تربت يمينك.. لا يقصدون بشيء من ذلك حقيقة الدعاء، فخاف - صلى الله عليه وسلم - أن يصادف شيء من ذلك إجابة، فسأل ربه سبحانه وتعالى ورغب إليه في أن يجعل ذلك رحمة وكفارة وقربه وطهورًا وأجرًا وإنما كان يقع هذا منه في النادر والشاذ من الأزمان، ولم يكن - صلى الله عليه وسلم - فاحشًا ولا متفحشًا ولا لعانًا ولا منتقمًا لنفسه، وقد سبق في هذا الحديث أنهم قالوا: ادع على دوس فقال: اللهم اهد دوسًا، وقال: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، والله أعلم»([20]).

* * * *

 عناية السلف باليتيم

اعتنى السلف رحمهم الله تعالى باليتيم عناية عظمى امتثالاً لأمر الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.

هذا عثمان بن عفان - رضي الله عنه - يرثيه كعب بن مالك، ويذكر عنايته باليتيم، فيقول:

كم من يتيم كان يجبر عظمه

أمسى بمنزله الضياع يطوفُ

ما زال يقبلهم ويرأب ظلمهم

حتى سمعت برنة التلهيف ([21])

* * * *


 ابن عمر رضي الله عنهما

* وروى أبو نعيم في «حلية الأولياء»([22]) عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا تغدى أو تعشى دعا من حوله من اليتامى، فتغدى ذات يوم فأرسل إلى يتيم فلم يجده وكانت له سُويقهُ محلاة يشربها بعد غدائه فجاء اليتيم وفد فرغوا من الغداء وبيده السويقة يشربها، فناولها إياه، وقال: خذها، فما أراك غُبنت.

* ذكر ابن حجر في «الإصابة»([23]) قال: روى أحمد في الزهد من طريق همام عن جار لهم يكنى أبا يعقوب قال: كان هاهنا رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقال له: صُواب (بضم الصاد المهملة) كان لا يصنع طعامًا إلا دعا يتيمًا أو يتيمين».

* * * *


 عمر بن عبد العزيز

* لما ولي عمر بن العزيز يرحمه الله الخلافة ازدحم على بابه الشعراء وكان منهم جرير، فلم يأبه بهم عمر ولم يلتفت إليهم ووافق جرير قدوم عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي وكان ورعًا فقيهًا، فقال له جرير: اذكرني للخليفة. قال عون: إن رأيت لك موضعًا فعلت، فدخل عون على عمر فسلم عليه ثم حمد الله وذكر بعض كلامه ومواعظه، ثم قال: هذا جرير بالباب.. فأذن لجرير فدخل عليه، فقال يا أمير المؤمنين، إني أخبرت أنك تحب أن توعظ ولا تطرب، فَأْذَنْ لي في الكلام. فَأَذِنَ له، فكان مما قال:

كم بالمواسم من شعثاء أرملة

ومن يتيم ضعيف الصوت والنظر

أُذهبتْ خَلْقتُهُ حتى دعا ودعت

يا رب بارك لطر الناس في عمر

من يعدك تكفي فقد والده كالـ

فرخ في الوكر لم ينهض ولم يَطِر

قال الراوي: فترقرقت عينا عمر ثم جهز إلى الحجاز عيرًا تحمل الطعام والكسى والعطايا، يُبث في فقرائهم ([24]) وفي البداية والنهاية ([25]) أن عمر بن عبد العزيز خرج ابن له وهو صغير يلعب مع الغلمان، فشجه صبي منهم فاحتملوا الصبي الذي شج ابنه وجاؤوا به إلى عمر، فسمع الجلبة فخرج إليهم فإذا امرأة تقول إنه ابني وإنه يتيم فقال لها عمر: هوني عليك، ثم قال لها عمر: أله عطاء في الديوان؟ قالت: لا، قال: فاكتبوه في الذرية، فقالت زوجهُ فاطمة: أتفعل هذا به وقد شج ابنك؟! فعل الله به وفَعَل، المرة الأخرى يشج ابنك ثانية فقال عمر يرحمه الله: «ويحك، إنه يتيم وقد أفزعتموه!».

* * * *


 عتبة الغلام

روى أبو عبد الله اليربوعي كما في «حلية الأولياء»([26]) قال: نازعت عتبة الغلام نفسه لحمًا فقال لها: اندفعي عني إلى قابل، فما زال يدافعها سبع سنين، حتى إذا كان في السابعة أخذ دانقًا ونصف إفلاس فأتى بها صديقًا له من أصحاب عبد الواحد بن زيد خبازًا، فقال: يا أخي، إن نفسي تنازعني لحمًا منذ سبع سنين وقد استحييت منها، كم أعِدُها وأُخِلفها، فخذ لي رغيفين وقطعة من لحم بهذا الدانق والنصف، لما أتاه به إذا هو بصبي، قال: يا فلان، ألست أنت ابن فلان وقد مات أبوك؟ قال: بلى. قال الراوي: فجعل عتبة الغلام يبكي ويمسح رأسه، وقال: قرة عيني من الدنيا أن تصير شهوتي في بطن هذا اليتيم، فناوله ما كان معه ثم قرأ: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾.

وهذا الفعل في رحمة اليتيم والعناية به أمر ممدوح يؤجر عليه عتبة لكن تركه أكل اللحم ليس بحسن لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الإنكار على من ترك أكل اللحم، وقال: «فمن رغب عن سنتي فليس مني».

* * * *

 الدعاء بإشراك الوالدين في أجر العناية باليتيم

ذكر المزي في «تهذيب الكمال» في ترجمة العبد الصالح عُميرة بن أبي ناجية أحد العباد الذي كان إذا قرأ يبكي، وإذا سجد يبكي، وإذا سكت عن القراءة وفرغ من الصلاة جلس يبكي، هذا العبد الصالح دعا ذات يوم يتيمًا فأطعمه وسقاه ودهن رأسه، وقال اللهم أشرك والدي في هذا، فنام فرأى في نومه أبويه ومعهما ذلك اليتيم، يقولان يا بني، ما أعظم بركة هذا اليتيم علينا!

* * * *


 اليتيم ومصيبة فقد الأب

إن فقدان الابن أو البنت للأب ألم كبير في صدر كل منهما، ولكن هل يعني ذلك أن يجلس اليتيم مكتوف اليدين، مهموم القلب، حزينًا على مر الأيام لا يؤدي عملاً، ولا يطلب علمًا؟

إن ذلك حيلة من لم يؤت إيمانًا بالله تعالى الذي يصرف الأمور، ويفعل ما يشاء، وهو الحكيم الخبير.

نعم إن فقدان الأب والمعيل بعد الله عز وجل مصيبة عظيمة ولكن لا يعني ذلك أن يكون اليتيم مهزومًا في ميدان الابتلاء، بل المسلم الصادق مع الله تعالى يفوض الأمر في ذلك إلى الله عز وجل إلى قول ربه سبحانه: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: 155-157].

وما يدري اليتيم، فلربما كان ابتلاؤه بفقد أبيه خيرًا له إن صبر ولم يجزع ولم يسخط، كما أخرج مسلم في كتاب الزهد والرقائق من صحيحه، باب: المؤمن أمره كله خير من حديث صهيب بن سنان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير. وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن. إن أصابته سراءُ شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراءُ صبر، فكان خيرًا له». وهكذا إن أراد اليتيم لنفسه النجاة في دنياه وأخراه فليتوكل على الله تعالى ولا يعجزن، وليتخذ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعدد كبير من سلف هذه الأمة ممن عاش يتيمًا، ليتخذ منهم قدوة صالحة تنفعه في دنياه وأخراه، وتكون خير معين له على مواجهة مشاق الحياة وآلامها.

 النبي - صلى الله عليه وسلم - يعيش يتيمًا

ليكن اليتيم آخذًا عبرة ودرسًا بشحذ الهمة واقتفاء سير نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي عاش يتيمًا فلم يكن يتمه مانعًا له من الجد والاجتهاد وحتى كان - صلى الله عليه وسلم - قائد البشرية ومعلم الإنسانية.

لقد عاش - صلى الله عليه وسلم - يتيمًا حيث مات والده وهو في بطن أمه آمنة، ثم ماتت أمه آمنة وهو ابن ست سنين، ورغم ذلك كان - صلى الله عليه وسلم - ناجحًا في حياته كلها أعظم نجاح، وما أحسن قول جمال الدين بن جلال الدين الجوزي رحمه الله تعالى ([27]):

فضل النبيين الرسول محمد

شرفًا يزيد وزادهم تعظيمًا

در يتيم في الفخار وإنما

خير الآلي ما يكون يتيمًا

ساد النبيين الكرام وكلُّهم

صلَّوا عليه وسلموا تسليمًا

والله قد صلى عليه كرامة

صلُّوا عليه وسلموا تسليمًا

وبدت عليه صلوات الله وسلامه عليه أمارات التوفيق منذ أيامه الأولى، وما أحسن قوله:

وبَدَتْ في رضاعه معجزاتٌ

ليس فيها عن العيون خفاءُ

إذْ أتته ليتمه مرضعاتٌ

قلن ما في اليتيم عنا غناء

فأتته من آل سعد فتاةٌ

قد أبتها لفقرها الرضعاء

أرضعته لبانها فسقتها "

وبنيها ألبانَهنَّ الشاءُ ([28])

 أبو هريرة - رضي الله عنه -

وهذا أبو هريرة الصحابي الحافظ والإمام النجيب يقول عن نفسه - رضي الله عنه - كما في «حلية الأولياء»([29]) مبينًا توفيق الله تعالى له رغم يتمه: «نشأتُ يتيمًا وهاجرت مسكينًا، وكنتُ أجيرًا لابنة غزوان بطعام بطني وعقبة رجلي، أحدو بهم إذا ركبوا، وأحتطب إذا نزلوا، فالحمد لله الذي جعل الدين قوامًا وجعل أبا هريرة إمامًا».

 عبد الله ذو البجادية

أحد الصحابة الأبرار، قال عنه ابن حجر في «الإصابة»([30]) كان يتيمًا في حجر عمه، فلما أسلم عبد الله نزع منه كل شيء أعطاه حتى جرده من ثوبه، فأتى أمه، فقطعت له بجادًا لها باثنتين، فاتزر نصفًا وارتدى نصفًا، وعلى الرغم من هذا العناء الذي عاناه هذا الصحابي اليتيم إلا أنه واصل المسيرة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مجاهدًا مناضلاً، ولم يكن يتمه مانعًا له من ذلك، يقول ابن حجر: كان ابن مسعود - رضي الله عنه - يحدث يقول: «قمتُ في جوف الليل في غزوة تبوك، فرأيتُ شعلة من نار في ناحية العسكر فانتبهتُ فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما وإذا عبد الله ذو البجادين - رضي الله عنه - قد مات، فإذا هم قد حفروا له ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حفرته، فلما دفناه، قال: «اللهم إني أمسيتُ عنه راضيًا، فارض عنه».

قال ابن حجر: رواه البغوي بطوله من هذا الوجه ورجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعًا». اهـ.

والحادثة رواها أبو نعيم في «حلية الأولياء»([31]) وزاد أن عبد الله بن مسعود قال: «فوالله لوددتُ أني مكانه ولقد أسلمتُ قبله بخمس عشرة سنة».

 القاسم بن محمد

وهذا القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنهم - الإمام القدوة، قتل أبوه محمد وهو صغير فعاش يتيمًا في حجر عمته عائشة رضي الله عنها فتفقه بها، حتى لقد أثنى عليه يحيى بن سعيد الأنصاري، فقال: ما أدركنا بالمدينة أحدًا نفضله على القاسم بن محمد، وقال أبو الزناد: ما رأيت فقيهًا أعلم من القاسم، وما رأيت أحدًا أعلم بالسنة منه. وقال ابن عيينة: كان القاسم أعلم أهل زمانه. وقال ابن سعد: كان إمامًا فقيهًا رفيعًا ورعًا كثير الحديث ([32]).

 الأوزاعي

الإمام الكبير عبد الرحمن بن عمرو بن محمد الأوزاعي، ولد ببعلبك ونشأ يتيمًا في حجر أمه، وكانت تنتقل به من بلد إلى بلد، وتأدب بنفسه فلم يكن في أبناء الملوك والخلفاء والوزراء والتجار وغيرهم أعقل منه ولا أورع ولا أعلم ولا أفصح ولا أوقر ولا أحلم ولا أكثر صمتًا منه، وما تكلم بكلمة إلا كان المتعين على من سمعها من جلسائه أن يكتبها من حسنها ([33]).

 الشافعي

محمد بن إدريس الشافعي العالم الرباني يحدث عن نفسه فيقول: كنتُ يتيمًا في رقبة أمي، ولم يكن عندها ما تعطي المعلم، وكان المعلم قد رضي مني أن أقوم على الصبيان إذا كان غائبًا، وأخفف عنه إذا حضر، فلما ختمت القرآن قلت: يا نفسي قد حصل لك القطب الأعظم، فدخلت المسجد، فكنت أجالس العلماء والفقهاء فكنتُ إذا سمعتُ منهم الحديث أو المسألة حفظتُها، وكان منزلنا في شعب الخيف، فكنتُ أنظر إلى العظم يلوح فآخذه، وأكتب فيه الحديث أو المسألة وأطرحه في جرة كانت عندنا قديمة، فقدم علينا والي اليمن فكلمه بعض القرشيين في أن أصحبه ولم يكن عند أمي ما تعطيني أتحمل به، فرهنت دارها على ستة عشر دينارًا ودفعتها إلي، فتحملت بها مع والي اليمن، فلما وصلنا سالمين استعملني على عمل، فحمُدتُ فيه فزادني عملاً آخر فحمدتُ فيه، ودخل العمال مكة فأحسنوا علي الثناء ([34]).

 أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة

إخوتي الكرام، على الرغم من أن بعض اليتامى لا يجد اهتمامًا فمن يكفله بعد أبيه، إلا أن بعضهم تجد عنده من العزيمة والصبر والجلد والمثابرة في تحصيل العلم النافع ما تتعجب منه أعظم التعجب، وخذوا هذه الحادثة التي هي في حقيقتها تسلية لكل يتيم، هذا الخطيب البغدادي يذكر في «تاريخ بغداد»([35]) عن الإمام أبي يوسف تلميذ أبي حنيفة أنه حدث عن نفسه فقال: «توفي أبي إبراهيم بن حبيب وخلفني صغيرًا في حجر أمي، فأسلمتني إلى قصار أخدمه والقصار هو الذي يغسل الثياب ويبيضها كما في القاموس يقول أبو يوسف: «فكنت أدعُ القُصَّار وأمر إلى حلقة أبي حنيفة، فأجلس استمع، فكانت أمي تجيء خلفي إلى الحلقة فتأخذ بيدي وتذهب بي إلى القصار، وكان أبو حنيفة يُعني بي لما يرى من حضوري وحرصي على التعلم، فلما كثُر ذلك على أمي وطال عليها هربي قالت لأبي حنيفة: ما لهذا الصبي فساد غيرك، هذا صبي يتيم، لا شيء له، وإنما أُطعمه من مغزلي وآمل أن يكسب دانقًا يعود به على نفسه، فقال لها أبو حنيفة: مُرِّي يا رعناء، هذا هو ذا يتعلم أكل الفالوذج بدهن الفستق، فانصرفت عنه وقالت له: أنت شيخ قد خرفت وذهب عقلُك، قال: ثم لزمتُه فنفعني الله تعالى بالعلم، ورفعني حتى تقلدتُ القضاء، وكنتُ أجالس الرشيد وآكل معه على مائدته، فلما كان في بعض الأيام قدم لي هارون فالُوذَجَةً، فقال لي هارون: يا يعقوب كل منه، فليس كلَّ يوم يُعمل لنا مثلُه، فقلت: وما هذه يا أمير المؤمنين، فقال: هذه فالوذَجَة بدهن الفُستق، فضحكتُ، فقال لي: مم ضحكت فقلت: خيرًا، أبقى الله تعالى أمير المؤمنين، فقال: لتُخْبِرَنِّي وألحَّ عليه، فخبرتُه بالقصة من أولها إلى آخرها، فعجب من ذلك وقال: بعمري إن العلم ليرفع وينفع دينًا ودنيا، وترحم على أبي حنيفة، وقال: كان ينظر بعين عقله ما لا يراه بعين رأسه.

فانظر يا رعاك الله انظر يا أيها اليتيم، يا مَنْ فقد أباه، انظر كيف رفع الله عز وجل بالعلم هذا اليتيم أبا يوسف، وتأمل ماذا سوف تكون حاله لو ترك العلم حسب رغبة أمه وعمل مع القصار؟! إنه درس عظيم في علو الهمة، والتغلب على الأحزان، والوقوف أمام الابتلاء بصبر وثبات ويقين.

 البخاري

شيخ الإسلام وإمام الحفاظ الذي كان رأسًا في الذكاء والعلم والعبادة والورع، يقول عنه الذهبي في «تذكرة الحفاظ»([36]) «نشأ يتيمًا» لكن – يا إخوة – هل أقعده اليتم عن العلم؟ لا، لقد بذل كل وسعه في ذلك حتى إنه قال عن نفسه: كتبت عن أكثر من ألف رجل، وقال عنه الذهبي: صنف وحدث وما في وجهه شعرة!

 اليونيني

الفقيه الحافظ الإمام القدوة، تقي الدين، أبو عبد الله محمد بن أبي الحسين، المولود سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة مات والده، فنشأ يتيمًا في حجر أُمه، لكن لم يمنعه اليتم من الجد حتى إنه حفظ القرآن، وجود الكتابة ثم حفظ الجمع بين الصحيحين للحميدي بكامله، وكان رحمه الله حسن الخَلق والخُلق، نفاعًا للخلق حتى لقد قال عنه الحافظ عمر بن الحاجب: حدثني أنه حفظ صحيح مسلم جميعه وكرره في أربعة أشهر، وكان يحفظ في الجلسة الواحدة أكثر من سبعين حديثًا، وحفظ سورة الأنعام في يوم واحد.

 ابن باز رحمه الله

الشيخ الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز يرحمه الله قدوة لكل يتيم أن ينهض فيجد ويجتهد، ولد في مدينة الرياض، ونشأ يتيمًا لكن لم يقعده ذلك عن العمل والجد في طلب العلم، حيث حفظ القرآن قبل أن يبدأ مرحلة البلوغ، ولازم الشيخ محمد بن إبراهيم يرحمه الله عشر سنوات وتقدم في العلم حتى أصبح أحد الثلة المقدمة في علوم الشريعة ومرجع المستفتين من مختلف أنحاء العالم، ووضع الله عز وجل له القبول في قلوب الخلق، ولن ينسى الواحد منا أبدًا الألم والحزن الذي ألم بالمؤمنين يوم مات ابن باز، إي والله يا إخوة:

بكينا وفاءً لأمرئ قل أن يُرى

له في الدعاة العاملين نظير

فخلوا ملامي إنْ ألح بي البُكا

فإن فراق الصالحين عسيرُ

 خاتمــة

وبعدُ – يا إخوة – فهل انتهى الموفقون في حياتهم ممن عاشوا اليتم إبان صغرهم عند هؤلاء الأئمة الذين ذكرتهم؟

الجواب: لا، فكثير من وفقه الله تعالى وسدد خطاه، رغم فقده والده وهو صغير، ولكني ذكرت هذه النماذج العظيمة لتكون حافزًا ومشجعًا لكل من فقد معيله بعد الله تعالى أن يجد ويجتهد، لأن الطريق طويل، والسفر بعيد، ولن يبلغ أحد أمنيته إلا على سلم التوكل على الله تعالى وبذل النفس في كل خير، وثني الركب في حلق الذكر عند العلماء المخلصين، ومجالسة الصالحين، وفقني الله وإياك لكل خير، وجنبنا كل شر، وجعلنا من أنصار دينه وحماة شريعته. آمين.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

وكتبه/ عبد الحميد بن عبد الرحمن السحيباني

15/12/1422هـ

ص.ب: 4047 الرياض 11499

البريد الإلكتروني: [email protected]



([1]) عن «الظلال» (1/582).

([2]) (3/114).

([3]) (3/1017).

([4]) (4/2287).

([5]) (2/207).

([6]) سليم أسد.

([7]) (19/300).

([8]) (8/161).

([9]) (2/190).

([10]) (13/42).

([11]) (4/1203).

([12]) (8/161).

([13]) تاريخ الأمم والملوك (3/157).

([14]) حلية الأولياء.

([15]) (1/214).

([16]) المصدر السابق (1/221).

([17]) وفيات الأعيان (4/88).

([18]) وفيات الأعيان (4/88).

([19]) أي أم سليم هي أم أنس.

([20]) شرح النووي على مسلم (16/151، 152).

([21]) تاريخ الأمم والملوك (2/695).

([22]) (1/299) وانظر «الأدب المفرد» للبخاري ص60.

([23]) (3/452).

([24]) حلية الأولياء (5/327، 328).

([25]) (9/202).

([26]) (6/230).

([27]) نفح الطيب.

([28]) السيرة الحلبية (1/149).

([29]) (1/379).

([30]) (4/162).

([31]) (1/122).

([32]) تذكرة الحفاظ (1/96).

([33]) «البداية والنهاية» (10/115).

([34]) «تاريخ دمشق» (51/282، 283).

([35]) (14/244).

([36]) (4/1439).