مع القرآن
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
مع القرآن
أزهري أحمد محمود
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله تعالى الذي أنزل كتابه هدًى للعالمين وضياءً للمؤمنين، والصلاة والسلام على النبي الأمين وآله وصحبه الميامين.
وبعد:
هذه كلمات مختصرة جُمعت في بيان فضل هذا الكتاب العزيز، والحجة الخالدة «القرآن الكريم».
والكلام عن مزايا القرآن ليس له حدود، ومهما تكلَّم الناس عن كتاب الله تعالى يبقى هذا الكتاب شامخًا بعلومه وأسراره ومعجزاته..
﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء: 88].
أخي المسلم:
لقد أنزل الله كتابه العزيز هدًى للعالمين. ونبراسًا للمهتدين..
﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 1، 2].
قال قتادة رحمه الله: «جعله الله هدًى وضيًاء لمن صدق به ونور للمتقين».
وهداية القرآن وضياؤه يكمنان في أنه تنزيل من الله العزيز الحكيم، الذي لا يخفى عليه شيء، وهو تشريعٌ من الحكيم الخبير..
﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: 42].
أخي المسلم:
ذاك هو سرُّ هداية القرآن، وسبب ضيائه ونوره!
ولذلك ما من أحدٍ طلب الضياء والهدى في غير هذا الكتاب إلاَّ ضل، وتخبَّط في سعيه، وكان من المحرومين.
﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ [الأنعام: 122].
فلتفهم أيها المتلمِّس لطريق الهداية أنَّ الهداية لا تكون إلاَّ بكتاب الله تعالى، وهو الذي هدى الله به عباده الصالحين: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: 52].
أخي المسلم:
وقد جعل الله تعالى كتابه شفاء للنفوس والصدور من أوصابها وأدوائها.
فما أحوج الخلق إلى هذا الشفاء .. وهل يرجو أحدٌ دواءً شافيًا أفضل من كتاب ربِّه تعالى؟!
قال الإمام ابن القيم رحمه الله:
«إنَّ القرآن شفاءٌ لما في الصدور، يذهب لما يلقيه الشيطان فيها من الوساوس والشهوات والإرادات الفاسدة؛ فهو دواءٌ لما أمره فيها الشيطان ومنها: أنَّ القرآن مادة الهدى والعلم والخير في القلب كما أنَّ الماء مادة النبات».
ويقف الإمام ابن القيم عند قوله تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الإسراء: 82].
فيقول:
«فهو الشفاء على الحقيقة من أدواء الشبه والشكوك، ولكن ذلك موقوف على فهمه، ومعرفة المراد منه، فمن رزقه الله تعالى ذلك أبصر الحق والباطل عِيانًا بقلبه كما يرى الليل والنهار».
فلتتذكر دائمًا أخي المسلم أنَّ كتاب الله تعالى هو الهدى والضياء المبين، وبدونه فأنت كسائر في ظلمة الليل البهيم!.. فكيف سيكون حالك؟!
فبالقرآن أبصر المبصرون واهتدى المهتدون وفاز العاملون، فأين أنت أخي المسلم من ذلك النور ا لإلهي والضياء الرباني؟!
وترى المحرومين من ذلك النور الإلهي يتخبَّطون في ظلام الحيرة وأمراض القلوب، ولو أنهم اقتبسوا من ذلك البرهان الرباني لكانوا في زمرة المهتدين وجماعة الفائزين.
أخي المسلم:
كما تحب أن ترى الأشياء حولك إذا أظلم الليل فتضيء المصباح، فأنت إلى نور كتاب ربِّك تعالى أحوج، فهل تدبَّرت في حالك؟!
فكن من أولئك الذين استضاءوا بذلك النور المبارك ﴿يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ [النور: 35].
وإياك أن تكون من أولئك الذين حُرموا من ذلك الضياء؛ فتكون من الضالين.
فمن أبصر في دنياه بكتاب ربِّه تعالى كان غدًا من المبصرين.
﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [الحديد: 12].
فضل قراءة القرآن وتعلمه وتعليمه
أخي المسلم:
إنَّ هذا القرآن نعمةٌ عظيمةٌ من النعم الإلهية، ولا يقدرها حقَّ قدرها إلاَّ من ذاق حلاوتها.
وإنَّ قراءة كتاب الله لِمن أرفع درجات ذِكر الله؛ فما ذكره الذاكرون بمثل قراءة كلامه، ولذلك كان فضلها عظيمًا.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف»([1]) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «وما اجتمع قوم في بيت في بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده»([2]) .
فيا له من أجرٍ شمَّر من أجله الصالحون، وتسابق إلى ساحاته المتقون، وتنافس فيه المتنافسون، ألا ترى عظم ذلك الثواب؟!
نزول الرحمة، وقُرب الملائكة .. وأعظمها وأجلها أن يذكرك الله تعالى في الملأ الأعلى!
فيا طالب الدرجات الرفيعة والمنازل المنيفة لا تغفلنَّ عن هذه الخيرات.
أخي المسلم:
ومن أجل شرف هذا الكتاب العزيز كان تعلمه وتعليمه من أفضل الأعمال .. عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال:
خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن في الصُّفَّة فقال: «أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق؛ فيأتي منه بناقتين كوماوين في غير إثم ولا قطع رحم؟».
فقلنا: يا رسول الله، نحب ذلك.
قال: «أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خيرٌ له من ناقتين وثلاث خير من ثلاث، وأربع خير من أربع، ومن أعدادهن من الإبل»([3]) .
فأين أنت من هذا الخير ا لعظيم؟!
فيا حسرة من ضيع هذا الثواب!
ولشرف تعلُّم هذا القرآن ها هو النبي - صلى الله عليه وسلم - يخبرنا ببُشرى أخرى.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران»([4]) .
قال الإمام القرطبي:
التتعتُع: التردُّد في الكلام عيًّا وصعوبة، وإنما كان له أجران من حيث التلاوة، ومن حيث المشقَّة، ودرجات الماهر فوق ذلك كلِّه؛ لأنه قد كان القرآن متعتعًا عليه، ثم ترقَّى عن ذلك إلى أن شُبِّه بالملائكة.
أخي المسلم:
فلتحرص على تعلُّم كتاب الله تعالى؛ فإنه نعم الذُخر لك في الدنيا والآخرة، وإذا أعانك الله تعالى على تعلُّم كتابه؛ فلتسعَ إلى نشره وتعليمه لغيرك، حتى تدخل في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «خيركم من تعلَّم القرآن وعلمه»([5]).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
ولا شكَّ أنَّ الجامع بين تعلُّم القرآن وتعليمه مُكمِّل لنفسه ولغيره، جامعٌ بين النفع القاصر والنفع المتعدِّي، ولهذا كان أفضل؛ وهو من جُملة من عنى سبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: 33].
والدعاء إلى الله يقع بأمورٍ شتَّى من جُملتها تعليم القرآن، وهو أشرف الجميع.
وقال أيضًا رحمه الله: وفي الحديث الحث على تعليم القرآن.
وقد سُئِل الثوري عن الجهاد وإقراء القرآن فرجح الثاني، واحتجَّ بهذا الحديث..
فعليك أيها المسلم أن تجعل من القرآن مدرستك التي تتعلَّم منها الهدى والرشاد.
وليكن كتابك المفضَّل الذي تحرص على قراءته وتعلمه، فاجعل أخي المسلم ذلك زادك النافع الذي تتزوَّد به لمعادك.
ألا يسرُّك أخي أن تأتي غدًا فتجد في صحيفتك ثواب قراءة كتاب ربِّك تعالى؟! فأنت يومها السعيد، الفائز حقًّا.
العمل بالقرآن
أخي المسلم:
لقد أنزل الله تعالى كتابه شرعًا للعباد، ومنهجًا يحتذون طريقه، ونورًا مبينًا..
والعمل بكتاب الله تعالى هو أصل كلِّ سعادة؛ فلن يسعد الخلق إلاَّ إذا عملوا بكتاب ربهم تبارك وتعالى، كما أنَّ ترك العمل بكتاب الله تعالى أصل كلِّ شقاء.
قال الله تعالى: ﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾ [طه: 123، 126].
ولقد كان العمل بالقرآن هو ديدن السلف الصالح وشعارهم في هذه الدنيا؛ فسعدوا بذلكـ وجعل الله لهم التمكين والثبات في الحياة الدنيا، وسيجزيهم يوم القيامة خير ما يجازي به أولياءه.
قال ابن عمر رضي الله عنهما:
كان الفاضل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صدر هذه الأمَّة لا يحفظ من القرآن إلا السورة أو نحوها، ورُزِقوا العمل بالقرآن، وإن آخر هذه الأمَّة يُقرِئون القرآن منهم الصبيَّ والأعمى، ولا يُرزقون العمل به!
وقال أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله:
كنا إذا تعلَّمنا عشر آيات من القرآن لم نتعلَّم العشر التي بعدها حتى نعرف حلالها وحرامها وأمرها ونهيها.
بل إنَّ الكثيرين ليحفظون كتاب الله ليقال لهم إنهم حفَّاظ لكتاب الله تعالى، من غير ائتمار بأوامره أو انتهاء عن نواهيه!
قال ابن مسعود رضي الله عنه:
إنَّ أ حدكم ليقرأ القرآن من فاتحته إلى خاتمته ما يُسقِط منه حرفًا وقد أسقط العمل به.
وهؤلاء هم الذين لم ينتفِعوا بكتاب الله تعالى، ولم يجدوا بركاته و آثاره الجميلة التي يجدها أهل القرآن حقًّا، ممن علم وعمل.
فيا لتعاسة هؤلاء، بأية حجَّة يحتجُّون غدًا إذا وقفوا بين يدي ربهم تعالى؟!
أخي المسلم:
إنَّ هذا القرآن إمَّا حُجَّة لك، وإما حجَّة عليك.
فإذا كنت من أولئك الذين يحرصون على الوقوف عند حدوده وتحليل حلاله وتحريم حرامه؛ فستجد غدًا أمامك ما يسرُّك.
وإن كنتَ من أولئك الذين يمرُّون على حروفه؛ غير متدبِّرين ولا عاملين؛ فأنت يومها من أخسر الخاسرين .. يوم أن يأتي القرآن خصيمًا لك!
قال معاذ بن جبل رضي الله عنه:
اعلموا ما شئتم أن تعلموا؛ فلن يأجركم الله بعلمه حتى تعملوا!
أخي المسلم:
قليلٌ أولئك الذين يعملون بكتاب الله تعالى، وقليلٌ أولئك الذين يتَّعظون بمواعظه، فلتحذر حال الغافلين، وإيَّاك أن تكون غدًا من الخاسرين، وتزوَّد اليوم من كتاب ربِّك ما ينفعك في دينك ودنياك.
ولن يضلَّ قومٌ تمسَّكوا بكتاب الله تعالى واتَّخذوه شرعةً ومنهاجًا.
والمسلم الصَّادق نموذج حيٌّ للقرآن، يُترجمه في حياته؛ فهو داعٍ إلى كتاب الله بعمله وإن لم يتكلَّم بلسانه.
وإذا رأى الناس شخصًا ترجم القرآن بأفعاله كان تأثُّرهم به أ شدَّ ممَّن حفظه أو فهمه ولم يعمل به.
وهذه الخصلة هي التي رفعت أولئك الطاهرين رضي الله عنهم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكانوا ذلك النموذج الصادق للوحي الصادق، أو قل: «كانوا قرآنا يمشي على الأرض»!
حتى كانت أخبارهم كضربٍ من الخيال؛ لأنَّ الناس لم يعهدوا مثل تلك الأخلاق .. ولكنه القرآن الذي يرفع الله به من يشاء من عباده، ومن رفعه الله تعالى بكتابه؛ فأكرم بذلك من شرف وسؤدد، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
أهل القرآن
وصايا لحفاظ القرآن
أخي المسلم:
إنَّ من شرف هذا القرآن أنه يشرف به أصحابه وإن لم يكونوا رؤوسًا في النسب والحسب.
عن عامر بن واثلة رضي الله عنه، أنَّ نافع بن عبد الحارث لقي عمر بعسفان، وكان عمر يستعمله على مكَّة، فقال: من استعملت على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزي.
قال: ومن ابن أبزي؟ قال: مولى من موالينا.
قال: فاستخلفتَ عليهم مولى؟!
قال: إنه قارئٌ لكتاب الله عزَّ وجل، وإنه عالم بالفرائض.
قال عمر: أما أنَّ نبيكم - صلى الله عليه وسلم - قد قال: «إنَّ الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين»([6]) .
فالقرآن شرف لأهله؛ وهو نعم الشرف؛ والمُنتَسِبُون إلى القرآن مُنتَسِبُون إلى أعلى نسب.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ لله أهلين من الناس» قالوا: يا رسول الله من هم؟! قال: «هم أهل القرآن، أهل الله وخاصته»([7]) .
أخي المسلم:
حقًّا، إنَّ العبد ليسعده أن يكون من أهل الله وخاصته، ونَيل هذه المنزلة ليس بالصعب، وما بينك وبين أن تكون من خاصة الله إلاَّ أن تصدق الإقبال على كتاب ربِّك تعالى، وليس شرطًا في ذلك أن تحفظ القرآن كلَّه، أو أن تُحيط بكلِّ شيء فيه، ولكن من أقبل على تلاوته وحفظ ما تيسَّر له، وعمل به، لم يهجره، فهو بلا شكّ داخلٌ في أهل القرآن، ويدلُّك على ذلك ما جاء عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول:
«يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به، تقْدمُهُ سورة البقرة وآل عمران»، وضرب لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أمثال ما نسيتهنَّ بعد.
قال: «كأنهما غمامتان أو ظُلتان سودوان، بينهما شَرْقٌ، أو كأنهما حزقَان من طير صوَّاف تحاجان عن صاحبهما»([8]) .
ومعنى شرق: ضياء ونور.
وحزقان من طير: الجماعة من الطير
ثم هذه كلمات نهديها إلى أولئك الذين أنعم الله عليهم بحفظ كتابه العزيز.
أولاً: إنَّ من وضع هذا الكتاب بين جنبيه، فليعلم أنه يحمل أطهر كتاب وأفضل مقروء، وأفضل ما ذكر به العبد ربَّه تبارك وتعالى.
ومن كان هذا حاله وجب عليه أن يستحضر عِظم القرآن، ومن استحضر ذلك انتفع بكتاب ربِّه تبارك وتعالى وامتثل أمره ونهيه..
ثانيًا: ينبغي لحافظ كتاب الله تعالى أن يتفقَّد دائمًا نيَّته، هل هو ممَّن أراد بتعلُّمه وجه الله تعالى والدار الآخرة؟
أم أراد بذلك عَرَضًا من أعراض الدنيا من مالٍ أو جاهٍ أو ذكر الناس له؟! فاستحضار النية ضرورية في كلِّ عمل يلتمس به العبد القربة إلى الله تعالى، ولا شكَّ أنَّ حفظ القرآن من الأعمال الفاضلة الشريفة، فاستحضار النية الصالحة فيه مما يُعين على حفظه والعمل به.
ثالثًا: وإذا أعانه الله تعالى على حفظه فينبغي أن يتفقَّد نفسه عند العمل به، هل هو ممَّن يعملون بأمره ونهيه أو من المعرضين عن العمل به.
وحافظ القرآن أولى الناس بالعمل به، وهو عند الناس قدوة، ينظر الناس إليه دومًا، فليتقِ الله في كتابه، وليحفظ حدوده كما حفظ رسمه.
رابعًا: وإذا وُفِّق حافظ القرآن إلى العمل به فليسعَ جاهدًا في تعليمه ونشره والدعوة إليه، ولا يبخل في بذله للناس، وينبغي عليه في ذلك أن يحثّ الناس على تعلُّمه إذا رأى منهم إعراضًا وعدم رغبة، فحافظ القرآن الحقيقي هو الحريص على تعليمه وإن أعرض الناس عن ذلك، وليس هو بذاك الذي إذا أتاه الناس علَّمهم، وإن لم يأتوه تركهم.
خامسًا: وينبغي لحافظ القرآن أن يكون شامة في الناس، متميزًا في فعله وقوله، وقدوة صالحة للناس، ينتفعون بسَمته وهديه قبل انتفاعهم بتعليمه، وإذا كان حافظ القرآن بهذه المثابة انتفع به الناس، وكان حاضًّا لهم على تعلُّم القرآن والعمل به، وإن لم يكن كذلك كان كغيره من الناس، ولن ينتفع بحفظه، ولن ينتفع الناس منه.
كانت تلك بعض الوصايا لأهل القرآن، سُقتها على سبيل الإيجاز، ولكن يدخل تحتها الكثير من المعاني، والعاقل من انتفع بالقليل، وقاده ذلك إلى فعل الكثير.
فضائل سور وآيات
القرآن كلُّه فاضل، وفيه وفي تلاوته الخير الكثير، وأينما حل القارئ منه حل في روضة من رياضه.
قال محمد بن واسع رحمه الله: "القرآن بستان العارفين، فأينما حلُّوا منه حلُّوا في رياض نضرة".
والمسلم بقراءته لكتاب الله تعالى يلتمس خير الدنيا والآخرة، فتجد أهل الإيمان الصادق إذا قرءوا كتاب الله تعالى اطمأنَّت نفوسهم ووجدوا الراحة الحقيقية.
وقال الله تعالى واصفًا هذا الفريق: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال: 2].
وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ﴾ [الرعد: 28، 29].
وقد وردت بعض النصوص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في فضل بعض السور والآيات، وهي تلفت الناس إلى فضل تلك السور والآيات، حتى يأخذ الناس بحظِّهم ونصيبهم منها.
عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه».
وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة».
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله:
يعني من قوله تعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ...﴾ إلى آخر السورة.
وقال أيضًا في شرحه لقوله - صلى الله عليه وسلم - «كفتاه»: أي أجزأتا عنه من قيام الليل بالقرآن.
وقيل: أجزأتا عنه عن قراءة القرآن مطلقًا، سواء كان داخل الصلاة أم خارجها.
وقيل: معناه أجزأتاه فيما يتعلَّق بالاعتقاد لما اشتملت عليه من الإيمان والأعمال إجمالاً.
وقيل: معناه كفتاه كلَّ سوء.
وقيل: كفتاه شرَّ الشيطان.
وقيل: دفعتا عنه شرَّ الإنس والجن.
وقيل: معناه كفتاه ما حصل له بسببهما من الثواب عن طلب شيء آخر، وعلى هذا فأقول يجوز أن يراد جميع ما تقدم والله أعلم.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قرأ آية الكرسي في دُبر كلِّ صلاة لم يحُلْ بينه وبين دخول الجنة إلا الموت»([9]) .
فأين أنت أيها المسلم من هذا الخير العظيم؟!
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غُفِر له، وهي سورة تبارك الذي بيده الملك»([10]).
وهذا خيرٌ عظيمٌ ويسيرٌ على من يسَّره الله له.
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألم ترَ آياتٍ أنزلت الليلة لم يُرَ مثلهنَّ قط؟ قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس»([11]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «احشدوا؛ فإني سأقرأ عليكم ثُلث القرآن»، فحشد من حشد، ثم خرج نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأ: ﴿قل هو الله أحد﴾ ثم دخل.
فقال بعضنا لبعض: إني أرى هذا خبرٌ جاء من السماء فذاك الذي أدخله، ثم خرج نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إني قلت لكم: سأقرأ عليكم ثُلث القرآن، أو أنها تعدل ثُلث القرآن »([12]).
أخي المسلم:
ما أيسر قطف الحسنات من كتاب الله تعالى، عملٌ قليلٌ وأجرٌ كثير!
مرابطة دقائق في تلاوة كتاب الله تعالى تملأ يدي صاحبها بالحسنات الكثيرة!
وكم مساكين أولئك الذين حرموا أنفسهم من هذا الخير العظيم!
وسيعلم الفريقان إذا وقف الناس أمام ربِّ العالمين أيهما كان من الفائزين؟!
أخي المسلم:
القرآن تجارة رابحة، وهي تجارة لا تعرف الخسارة، فلا يفوتنك هذا الخير العظيم حتى ينزل بك الموت، فتندم على ما فاتك من الصالحات، فقدِّم ذُخرًا ينفعك غدًا إذا قام الناس لربِّ العالمين.
وتلك السور والآيات التي سُقت لك فضلها ليست المداومة عليها بصعبة، فبالقليل من العزم يستطيع المرء المداومة على الكثير من الفضائل.
فشيءٌ يسيرٌ خيرٌ من لا شيء، ولكن من لزم عملاً صالحًا فينبغي أن يعوِّد نفسه المداومة عليه.
فالمبادرة المبادرة إلى تلك الخيرات، وإيَّاك أن تكون من الغافلين فتمسي غدًا من المغبونين الخاسرين.
أقسام الناس مع القرآن
هجران القرآن
أخي المسلم:
إنَّ السعيد حقًّا هو ذلك القريب من كتاب الله تعالى، تجده تاليًا له آناء الليل وأطراف النهار، عاملاً بأمره، منتهيًا عن نواهيه.
ويقابل ذلك السعيد شقيٌّ لم يعرف أين يجد لذَّة الحياة الحقيقية، وهو البعيد عن كتاب ربِّه تبارك وتعالى، فتجده مُعرضًا عن تلاوته، متعدِّيًا لحدوده، لا تردُّه نواهيه عن معصية، ولا تُحفِّزه أوامره على طاعة!.. وقد قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - أحوال الناس مع القرآن إلى أربعة أقسام، فقال - صلى الله عليه وسلم -:
«المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به كالأترجة، طعمها طيب وريحها طيب، والمؤمن الذي لا يقرأ القرآن ويعمل به كالتمرة طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كالريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كالحنظلة طعمها مر - أو خبيث - وريحها مر»([13]).
فعلى المسلم أن يحاسب نفسه مع أيِّ فريقٍ هو؟! وإذا حاسب العبد نفسه علم مع أيِّ قسمٍ هو؟!
فإنَّ المسلم الحريص على ما ينفعه هو الذي يحاسب نفسه حقَّ المحاسبة، ليدرك خلاص نفسه قبل فوات الأوان، فإنَّ هذا القرآن سيأتي غدًا إمَّا سائقًا لأهله إلى جنَّات النعيم، وإمَّا سائقًا للمعرضين عنه إلى الجحيم.
قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه:
إنَّ هذا القرآن كائنٌ لكم أجرًا، وكائنٌ لكم ذِكرًا وكائنٌ لكم نورًا، وكائنٌ عليكم وِزرًا، اتبعوا هذا القرآن ولا يتَّبعنكم القرآن، فإنه من يتبع القرآن يهبط به في رياض الجنة، ومن اتبعه القرآن يَزُخُّ (يدفع) في قفاه فيقذفه في جهنم!
أخي المسلم:
واختصار تلك الأقسام أنَّ حال الناس مع القرآن لا تخلوا من حالين: إمَّا أن تكون ممَّن يتلونه حقَّ تلاوته، وإما أن تكون ممن يهجرونه، أيًّا كانت أقسام الهجر.
ومن هجر كتاب الله تعالى، وجعل هواه وشهواته منهجًا له في حياته، فذاك الشقيُّ حقًّا!
وما قولك فيمن وضع كتاب الله تعالى في رفٍّ من رفوف بيته حتى علاه الغبار؟!
وإن حرَّكه فإنما يحركه ما بين تارة وأخرى لتنظيفه من الغبار، وقد يُحرِّكه غيره ليقوم بهذه المهمة، وقد يُحرِّكه الأطفال للعبث به أحيانًا..!
وكم وكم من أولئك الذين لا يتذكَّرون آخر مرَّة قرءوا فيها كتاب الله تعالى!
وذاك هو الهجر، وصاحبه غدًا هو الذي يكون القرآن خصيمه في يومٍ يكون محتاجًا فيه إلى الحسنة الواحدة!
وأيُّ حرمان أعظم من حرمان رجل يصبح ويمسي وهو يبصر كتاب ربِّه تعالى أمامه ثم لا يتزوَّد منه لآخرته؟!
وها أنا أقف بك عند أقسام الهجر، لأنقل لك هذه الكلمات الجامعة للإمام ابن القيم وهو يحدِّثك عن أقسام الهجر.
قال رحمه الله:
هجر القرآن أنواع:
أحدها: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه.
والثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه وإن قرأه وآمن به.
الثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه.
والرابع: هجر تدبُّره وفهمه.
والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره، ويهجر التداوي به، وكلُّ هذا داخل في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَب إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ [الفرقان: 30]
وإن كان بعض الهجر أهون من بعض.
أخي المسلم:
ابحث عن السعداء حقًّا! وتأمل حال العباد؛ فستجد أنَّ أسعد الناس هم الذين يتلون كتاب الله دومًا، أنسوا به إذ استوحشت قلوب الغافلين.
وابحث عن التعساء المحرومين؛ فستجدهم أولئك الذين اتَّخذوا هجر القرآن عادة!
ولا يذهبنَّ ذهنك إلى أنَّ السعداء هم أولئك الذين فتحت لهم الدنيا ذراعيها، فهم يتقلَّبون في نعيمها! وإنما السعادة الحقيقية هي سعادة القلوب! وإنَّ من خلا قلبه عن ذِكر الله تعالى فهو كالميت!
ولكنَّ السعداء أولئك الذين امتلأت قلوبهم بذكر الله تعالى وتلاوة كلامه..
فهم دومًا يتقلَّبون في اللذات، حتى إذا كان يوم القيامة فازوا باللذَّة الحقيقية التي لا كدر فيها، فازوا بالجنة!.
قال الحسن البصري رحمه الله:
تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة، وفي الذِّكر، وفي قراءة القرآن .. فإن وجدتم وإلاَّ فاعلموا أنَّ الباب مغلق!
فعلى المسلم أن يتفقَّد نفسه وينظر إلى حالها مع كتاب الله تعالى، هل هو من التالين أم هو من الهاجرين؟
فإن وجد نفسه أنه مع التالين العاملين حمد الله تعالى وسأله الزيادة والثبات، وإن وجد نفسه أنه مع الهاجرين استعاذ بالله تعالى، وأقبل على كتاب ربه تعالى، وسأله التوفيق إلى ذلك.
آداب تلاوة القرآن
أخي المسلم:
كتاب الله تعالى هو أكرم كتاب وأطهره فينبغي لمن أراد تلاوته، أن يستحضر عظمته، ولا يتهاون في ذلك فيجعل قراءته لكتاب الله كقراءته لأيِّ كتابٍ آخر؛ فإنَّ من الجفاء أن تقبل على تلاوة كتاب الله غير مستحضر لعظمته ولا موقِّر له!
فإنَّ من الأسباب المُعينة للعمل بكتاب الله أن تقرأه قراءة مُعظِّمٍ له، متأدبًا عند تلاوته.
فإذا تلوت كتاب الله تعالى فلتتهيَّأ لذلك بما هو أهله من الآداب وأنواع التعظيم.
وسأسوق إليك فيما يلي بعض الآداب التي ينبغي أن تراعيها وأنت تقرأ كتاب الله تعالى، وسألخِّص هذه الآداب من كلام القرطبي في مقدِّمة تفسيره، والذي نقله عن الحكيم الترمذي، ومن كلام النووي في كتابه «التبيان في آداب حملة القرآن»..
فمن آدابه:
ألاَّ يقرأه إلاَّ على طهارة.
السواك:
قال يزيد بن أبي مالك رحمه الله:
إنَّ أفواهكم طرق من طرق القرآن؛ فطهِّروها ونظِّفوها ما استطعتم.
استقبال القبلة:
كان أبو العالية رحمه الله إذا قرأ اعتمَّ ولبس وارتدى واستقبل القبلة.
وإذا تثاءب أمسك عن القراءة، لأنه إذا قرأ فهو مناجٍ لربه تعالى، والتثاؤب من الشيطان.
قال مجاهد رحمه الله: إذا تثاءبت وأنت تقرأ القرآن فأمسك عن القرآن تعظيمًا حتى يذهب تثاؤبك.
الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم:
وذلك عند الابتداء القراءة، وقول «بسم الله الرحمن الرحيم» إن كان ابتداء القراءة من أول السورة.
وإذا ابتدأ بالقراءة لا يقطعها بكلام الآدميين.
قراءته بتؤدة وترتيل:
أن يستعمل فيه ذهنه وفهمه حتى يعقل ما يخاطب به.
أن يقف على آية الوعد فيرغب إلى الله تعالى، ويسأله من فضله، وأن يقف على آية الوعيد فيستجير بالله منه.
وإذا قرأه فلا يلتقط الآيات من كلِّ سورة، بل يقرأ السورة كلها.
لا يترك المصحف منشورًا:
ولا يضع فوقه شيئًا من الكتب حتى يكون أبدًا عاليًا لسائر الكتب، علمًا كان أو غيره.
أن يضعه على حجره إذا قرأه أو على شيء بين يديه ولا يضعه على الأرض.
ومن الآداب التي ذكرها الإمام النووي في كتابه «التبيان في آداب حمله القرآن» قال:
ويُستحب أن تكون القراءة في مكان نظيف مختار، ولهذا استحب جماعة من العلماء القراءة في المسجد، لكونه جامعًا للنظافة وشرف البقعة، ومحصلاً لفضيلة أخرى وهي الاعتكاف.
الخشوع:
قال النووي: فإذا شرع في القراءة فليكن شأنه الخشوع والتدبر عند القراءة، والدلائل عليه أكثر من أن تُحصر، وأشهر وأظهر من أن تذكر، فهو المقصود المطلوب، وبه تنشرح الصدور، وتستنير القلوب. قال الله عز وجل ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ [النساء: 82]، وقال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾ [ص: 29].
والأحاديث فيه كثيرة، وأقاويل السلف فيه مشهورة.
استحباب ترديد الآية للتدبر:
قال النووي: وينبغي أن يرتل قراءته، وقد اتفق العلماء رضي الله عنهم على استحباب الترتيل قال الله تعالى: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ [المزمل: 4].
وثبت عن أم سلمة رضي الله عنها: أنها نعتت قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قراءة مفسَّرة حرفًا حرفًا ([14]) .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لأن أقرأ سورة أرتلها أحب إلي من أقرأ القرآن كلَّه».
وقال النووي:
ومما يُعتنى به ويتأكد الأمر به احترام القرآن من أمور قد يتساهل فيها بعض الغافلين القارئين مجتمعين، فمن ذلك اجتناب الضحك واللغط والحديث في خلال القراءة إلاَّ كلامًا يُضطر إليه.
وليتمثل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأعراف: 204] .
وليقتد بما رواه ابن أبي داود عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه إذا قرأ القرآن لا يتكلَّم حتى يفرغ منه.
ومن ذلك العبث باليد وغيرها؛ فإنه يناجي ربَّه سبحانه وتعالى، فلا يعبث بين يديه.
وقال النووي:
وينبغي للقارئ إذا ابتدأ من وسط السورة، أو وقف على غير آخرها أن يبتدئ من أول الكلام المرتبط بعضه ببعض، وأن يقف على الكلام المرتبط، ولا يتقيَّد بالأعشار والأجزاء؛ فإنها قد تكون في وسط الكلام المرتبط كالجزء الذي في قوله تعالى: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي﴾ [يوسف: 53] وفي قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ﴾ [الأعراف: 82].
فكلُّ هذا وشبيهه لا ينبغي أن يُبتدأ به، ولا يوقف عليه فإنه متعلِّق بما قبله، ولهذا المعنى قالت العلماء: قراءة سورة قصيرة بكاملها أفضل من قراءة بعض سورة طويلة بقدر القصيرة؛ فإنه قد يخفى الارتباط على بعض الناس في بعض الأحوال.
أخي المسلم:
كانت تلك بعض الآداب التي تتعلَّق بتلاوة كتاب الله تعالى، وقد اقتصرنا على بعضها ولخَّصنا أهمها، فعلى المسلم أن يحرص على التأدُّب إذا قرأ كتاب الله تعالى، وليستحضر دائمًا عظمة من يقرأ كلامه، لعلَّ الله تعالى أن ينفعه بتدبُّره والإقبال عليه.
تدبر القرآن
تحسين الصوت البكاء عند تلاوته
أخي المسلم:
لقد أنزل الله تعالى القرآن لتدبُّره والعمل به، قال الله تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾.
فتدبرك لكتاب الله تعالى هو سرُّ انتفاعك به.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:
«لا تنثروه نثر الدقل- التمر اليابس- ولا تهذوه هذَّ الشعر، قفوا عند عجائبه، وحرِّكوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة».
فإذا مررت بآية وعد، فيها ذِكر الجنان وما أعدَّه الله من الثواب العظيم لأهل طاعته فسل الله تعالى من فضله.
وإذا مررت بآية وعيد، وذكر النار وأهلها، فلتستعذ بالله تعالى من شرورها.
فإنَّ الله تعالى أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بتدبُّر كتابه، وأن يقرأه بمهل، فقال تعالى: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾.
قال القرطبي رحمه الله: أي لا تعجِّل بقراءة القرآن، بل اقرأه في مهلٍ و بيانٍ مع تدبر المعاني.
وقراءة القليل من كتاب الله مع التدبر خير من قراءة الكثير بغير تدبر، وقد ضرب العلماء لذلك مثلاً فقالوا: إنَّ ثواب الترتيل أرفع قدرًا وثواب كثرة القراءة أكثر عددًا، فالأول كمن تصدَّق بجوهرة عظيمة، والثاني: كمن تصدق بعدد من الدنانير.
وعن أبي حمزة قال:
قلت لابن عباس: إني رجل سريع القراءة، إني لأقرأ القرآن في ليلة فقال ابن عباس: لئن أقرأ سورة أحبُّ إليَّ، إن كنت لا بدَّ فاعلاً فاقرأ قراءة تسمعها أذنيك ويعيها قلبك.
ولقد كان من هدي نبينا - صلى الله عليه وسلم - القراءة بتأنٍّ وتدبُّر.
عن أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها قالت:
ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سبحته قاعدًا حتى كان قبل وفاته بعام، فكان يصلي في سبحته قاعدًا، و كان يقرأ بالسورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها([15]).
وقال مجاهد رحمه الله: أحبُّ الناس في القراءة إلى الله أعقلهم عنه.
تحسين الصوت بالقراءة
وأما تحسين الصوت بالقرآن فهو من لوازم الخشوع في القرآن، وقد حثَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على تحسين القرآن بالصوت الحسن.
عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال:
سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «حسنوا القرآن بأصواتكم؛ فإنَّ الصوت الحسن يزيد القرآن حُسنًا»([16]) .
وجاء أيضًا عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في العشاء ﴿والتين والزيتون﴾ فما سمعت أحدًا أحسن صوتًا أو قراءةً منه([17]) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه: «لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة! لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود!» ([18]) .
وروى ابن أبي داود عن أبي عثمان النهدي قال: دخلت دار أبي موسى الأشعري، فما سمعت صوت صنج، ولا بربط ولا ناي أحسن من صوته!
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
وأخرج ابن أبي داود من طريق ابن أبي مسجعة قال: كان عمر يقدم الشاب الحسن الصوت لحُسن صوته بين يدي القوم.
فعلى من أراد أن يتلو كتاب الله أن يحرص على تزيين القرآن بصوته، ولا يحتاج ذلك إلى تكلُّف، فبجهد يسير يستطيع الواحد تحسين صوته.
البكاء عند قراءة القرآن
أخي المسلم:
لقد اشتمل هذا الكتاب العزيز على عجائب، وحكم وأمثال وأخبار، لو خوطبت بها الحجارة لتشقَّقت.
قال الله تعالى: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الحشر: 21].
قال الإمام النووي رحمه الله: البكاء عند قراءة القرآن صفة العارفين وشعار الصالحين، قال الله تعالى: ﴿وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ﴾ وقال: ﴿خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾، ولقد كان السلف رضي الله عنهم غزيرة دمعتهم إذا قرءوا كتاب الله تعالى.
كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا قرأ قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ﴾ [الحديد: 16] بكى حتى يبلَّ لحيته من البكاء، ويقول: بلى يا رب.
وهذه عائشة رضي الله عنها قرأ عليها مسروق رحمه الله: ﴿فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ﴾ [الطور: 27] فبكت، وقالت: «رب منَّ وقني عذاب السموم».
وقرأ تميم الداري رضي الله عنه ليلة قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ [الجاثية: 21] فصار يُردِّدها ويبكي حتى الصباح.
أخي المسلم:
هل تذكر يومًا جرت فيه دموع عينيك وأنت تتلو كتاب الله تعالى؟!
وإذا كنت ممَّن لا تدمع أعينهم عند تلاوة كتاب الله، فهل حاسبت نفسك وسألتها عن سبب هذه القسوة؟!
وسألخص لك أسباب هذه القسوة:
الإعراض عن تلاوة كتاب الله:
فالكثيرون لا يتلون كتاب الله إلاَّ بعد زمنٍ طويل، فمن أين لهذا أن يرقَّ قلبه إذا قرأ القرآن؟!
غياب القلب عند تلاوة القرآن:
فهو قارئ ولكن قلبه في مكانٍ آخر!
غياب التدبُّر والخشوع:
فإنَّ من تدبَّر كلام الله تعالى وأحضر قلبه؛ فإنَّ قلبه حتمًا سيرق.
الانغماس في الدنيا والانشغال بها:
فقد أصبح ذلك هم الكثيرين، إذا أصبحوا وإذا أمسوا!
طول الأمل:
فالكثيرون يعقدون الآمال الطوال حتى ينسى أنه سيموت!
المعاصي والذنوب:
وهي من أخطر الأسباب في قسوة القلب.
فليسعَ جاهدًا في تطهير النفس وتزكيتها، حتى يقبل على كتاب الله بأرض طيبة الغراس.
وأخيرًا:
كانت تلك بعض الوقفات مع القرآن، حرصت فيها على الاختصار، وإلاَّ فإنَّ الحديث عن كتاب الله تعالى حديث لا تنقطع ثماره، ولا تملُّه القلوب، ونفعنا الله تعالى بكتابه العزيز، وجعله حجَّة لنا يوم الفزع الأكبر. وسائقًا إلى جنات الخلود.
اللهم آمين..
([1]) رواه الترمذي/ صحيح الترمذي: 2910.
([2]) رواه مسلم.
([3]) رواه مسلم.
([4]) رواه البخاري ومسلم.
([5]) رواه البخاري.
([6]) رواه مسلم.
([7]) رواه أحمد وابن ماجة صحيح ابن ماجة (179).
([8]) رواه مسلم.
([9]) رواه ابن السني (السلسلة الصحيحة 972).
([10]) رواه أحمد وأصحاب السنن/ صحيح الترمذي (2891).
([11]) رواه مسلم.
([12]) رواه مسلم.
([13]) رواه البخاري، ومسلم واللفظ للبخاري.
([14]) رواه أبو داود والنسائي والترمذي.
([15]) رواه مسلم.
([16]) رواه الدارمي، تخريج المشكاة للألباني (2208).
([17]) رواه البخاري و مسلم.
([18]) رواه البخاري ومسلم، واللفظ لمسلم.