من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
- من ترك
شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه
- المقدمة
- 1- سليمان عليه السلام ذبح الخيل لله فعوضه الله ريحًا تجري حيث شاء
- 2- تجاوز عن المعسرين فجاوز الله عنه
- 3- ترك فاحشة الزنا فعُوِّض بملك وامرأة حلال
- 4- حبست الشمس من أجل جهاده لله
- 5- عاقبة التقوى
- 6- عاقبة الاسترجاع والصبر
- 7- تَرَكَ تَعَلُّمَ السِّحر فكان مشعل هداية للآخرين
- 8- ترك فاحشة الزنا خوفًا من الله فأجرى الله على يديه معجزة
- 9- جزاء الصدق والأمانة
- 10- من فوض أمره لله كفاه
- 11- ذهب البردُ بزرعها فعُوِّضَتْ خيرًا لصبرها
- 12- تركها لله ففرج الله عنه
- 13- فيمن ترك محبوبه حرامًا فذل له حلالاً، أو أعاضه الله خيرًا منه
- 18- ترك معصية الله فمات من ليلته فغفر الله له
- 19- أصبح من أهل الجنة لتركه المعصية
- 20- ألقى نفسه حتى لا يرتكب المعصية فعوضه الله خيرًا
- 21- رد لله مائة دينار فعوضه ألفًا
- 22- ترك الكفر ودخل الجنة ولم يسجد لله سجدة
- 23- يترك سرقة الباذنجانة فيرزق امرأة
- 24- ترك الخيانة فجاءه الخير في أوانه
- 25- ترك الكذب فقبل في الوظيفة
- 26- ترك الرشوة ففتح عليه باب رزق
- 27- بركة التقوى مع الغافلين
- 28- لصٌّ حَوَّلَه الإسلام إلى شهيد
- 29- ترك الحسد فكان من أهل الجنة
- 30- الموعد في جنات النعيم
- 31- الصفقة الرابحة
- 32- الرأي والصرف مجانًا
- 33- درس في الإيثار
- 34- أعطَى درهمًا فوهب الله له مائة وعشرين ألفًا
- 35- جزاء الطاعة
- 36- جزاء الصبر
- 37- السخاء نقاء
- 38- الانتقال من المحنة إلى المنحة بسبب الصدق
- 39- ترك الحرام فخرج من جسده المسك
- 40- رمي من أعلى القلعة أولا وثانيًا فنجا سالمًا
- 41- تَرَكَ الغناءَ فَعَوَّضَه اللهُ الهدايةَ والإيمانَ
من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه
إبراهيم بن عبد الله الحازمي
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمدَ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بعد:
فقد جرت سنة الله تعالى في خلقه أنَّ مَنْ آثَرَ الألم العاجلَ على الوصال الحرام أعقبه ذلك في الدنيا المسرةَ التَّامَّة، وإن هلك فالفوز العظيم، والله تعالى لا يُضيع ما تحمَّل عبده لأجله، وكلُّ من خرج عن شيء منه لله حفظه الله عليه أو أعاضه الله ما هو أَجَلُّ منه، كما ترك يوسف الصِّديق عليه السلام امرأة العزيز لله واختار السجن على الفاحشة فعوَّضه الله أن مكَّنه في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء، وأتته المرأة صاغرة سائلة راغبة في الوصل الحلال فتزوجها فلما دخل بها قال: هذا خيرٌ مما كنت تريدين.
فتأمل كيف جزاه الله سبحانه وتعالى على ضيق السجن أن مكنه في الأرض ينزل منها حيث يشاء، وأذل له العزيز وامرأته، وأقرت المرأة والنسوة ببراءته وهذه سنته تعالى في عباده قديمًا وحديثًا إلى يوم القيامة.
ولما عقر سليمان بن داود عليهما السلام الخيل التي شغلته عن صلاة العصر حتى غابت الشمس سخر الله له الريح يسير على متنها حيث أراد، ولما ترك المهاجرون ديارهم لله وأوطانهم التي هي أحب شيء إليهم أعاضهم الله أن فتح عليهم الدنيا ومَلَّكَهم شرقَ الأرض وغربها، ولو اتَّقى اللهَ السارقُ وترك سرقة المال المعصوم لله لآتاه الله مثله حلالا قال الله تعالى: ﴿مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: 2، 3].
فأخبر الله سبحانه وتعالى أنه إذا اتقاه بترك أخذ ما لا يحل له رزقه الله من حيث لا يحتسب، وكذلك الزاني لو ترك ركوب ذلك الفرج حرامًا لله لأثابه الله بركوبه أو ركوب ما هو خير منه حلالا، ألك قلب أيها الإنسان فاعلم إذا..
إن من قدر على امرأة أو جارية حرامًا فتركها مخافة من الله أمَّنه الله يوم الفزع الأكبر وحرَّمه على النار وأدخله الجنة.
قال قتادة بن دعامة السَّدوسيّ التَّابعيّ الجليل: لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه ليس به إلا مخافة الله عز وجل إلا أبدله في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير له من ذلك، وعن أُبَيّ بن كعب رضي الله عنه قال: ما من عبد ترك شيئًا لله إلا أبدله الله به ما هو خير منه من حيث لا يحتسب، ولا تهاون به عبد فأخذ من حيث لا يصلح إلا أتاه الله بما هو أشد عليه. رواه وكيع في الزهد (2/635) وهَنَّاد (851) وأبو نعيم في الحلية (1/253) وإسناده لا بأس به.
ويشهد له حديث الزهري عن سالم عن أبيه مرفوعًا: ما ترك عبد شيئًا لله لا يتركه إلا له إلا عوض الله منه ما هو خير له في دينه ودنياه. أخرجه أبو نعيم في الحلية (2/196).
وعن أبي قتادة وأبي الدهماء وكانا يكثران السفر نحو البيت قالا أتينا على رجل من أهل البادية فقال لنا البدوي أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يعلمني مما علمه الله عز وجل وقال: «إنَّك لا تَدَعُ شيئًا اتِّقاءَ الله تعالى إلَّا أعطاك اللهُ عزَّ وجَلَّ خيرًا منه». رواه أحمد (5/363) وإسناده صحيح ورواه البيهقي (5/335) ووكيع في الزهد والقضاعي في مسنده.
وعن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ترك اللباس تواضعًا لله وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيَّرَ من أيِّ حُلَل الإيمان شاء يلبسها»([1]) .
وعنه عن أبيه قال: «من ترك شهوة وهو يقدر عليه تواضعًا لله دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق»([2]).
وعن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «النَّظْرة إلى المرأة سهم من سهام إبليس مسموم مَنْ تَرَكَه خوفَ الله أثابه الله إيمانًا يجد به حلاوته في قلبه» رواه أحمد في مسنده([3]) وله شاهد من حديث علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نَظَرُ الرجل في محاسن المرأة سهمٌ من سهام إبليس مسموم فمن أعرض عن ذلك السهم أعقبه الله عبادة تسره» رواه عمر بن شبة.
وما حرم الله على عباده شيئًا إلَّا عَوَّضَهم خيرًا منه؛ كما حرم عليهم الربا وعوضهم منه التجارة الرابحة، وحرم عليهم القمارَ وأعاضهم منه أكل المال بالمسابقة النافعة في الدين بالخيل والإبل والسهام، وحَرَّمَ عليهم الحرير وأعاضهم منه أنواع الملابس الفاخرة من الصوف والكتَّان والقطن، وحرم عليهم الزِّنا واللواط وأعاضهم منه النكاح بالنساء الحسان، وحرَّم عليهم شربَ المسكر وأعاضهم عنه بالأشربة اللذيذة النافعة للروح والبدن، وحرم عليهم سماع آلات اللهو من المعازف وغيرها وأعاضهم عنها بسماع القرآن العظيم وحرم عليهم الخبائث من المطعومات وأعاضهم عنها بالمطاعم الطيبات.
ومن عجائب حكمة الله، أنه جعل مع الفضيلة ثوابها الصحة والنشاط وجعل مع الرذيلة عقابها الانحطاط والمرض.. وهذه القصص التي كتبتها لوجه الله سبحانه والتي أسأله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل لها القبول بين المسلمين، وعنونت لها «من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه» أخذًا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيح، وجعلت القصص على ضوء الحديث الشريف وذلك لأهمية الموضوع.
وهي قصص البعض منها ذكر في القرآن الكريم والبعض منها في السنة النبوية الصحيحة والبعض الآخر عن الصحابة والتابعين وتابعيهم وإلى الوقت المعاصر. إن هذه القصص لأناس استشعروا عظمة الله وجلاله وهيبته.. استشعروا الخوف من الله وعقابه.. استشعروا يوم العرض عليه يوم لا ينفع مال ولا بنون.. استشعروا القرآن والسنة وهم المتقون لله. وهم الذين يستحقون أن يعطوا من الأوقات لقراءة حوادثهم وسيرهم العظيمة.
فإلى المسلمين كبارًا وصغارًا ذكورًا وإناثًا، وإلى شباب الصحوة الإسلامية وإلى كل من آثر مرضاة الله على هواه وشيطانه.. أهدي هذه الدرر والجواهر الغالية.. الغالية.. لمن هم أغلى وأغلى.
وكتب المعتز بالله وحده:
إبراهيم بن عبد الله الحازمي
عفا الله عنه وعامله بلطفه
الرياض: 18/ 9/1411هـ.
1- سليمان عليه السلام ذبح الخيل لله فعوضه الله ريحًا تجري حيث شاء
قال الله تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ﴾ [ص: 29-33]. يذكر تعالى أنه وهب لداود سليمان عليهما السلام، ثم أثنى سبحانه عليه، وأنه كثير الرجوع لمولاه، ثم ذكر تعالى ما كان من أمره في الخيل.
- وإليك أيها المسلم هذه القصة:
كان سليمان عليه السلام محبًّا للخيل من أجل الجهاد بها في سبيل الله، وكان معه الخيول الصَّافنات؛ وهي الخيول القوية السريعة، وكانت ذا أجنحة ويزيد عددها على عشرين ألفًا، فبينما هو يقوم بعرضها وتنظيمها فاتته صلاة العصر نسيانًا لا عمدًا، فلما علم أن الصلاة قد فاتته من أجل هذه الخيول قال: لا والله لا تشغليني عن عبادة ربي، ثم أمر بها فعقرت فضرب أعناقها وعراقيبها بالسيوف، فلما علم الله سبحانه من عبده سليمان أنه ذبح هذه الخيول من أجله سبحانه وخوفًا من عذابه ومحبة إجلالا له، بسبب أنه اشتغل بها حتى خرج وقت الصلاة، عوضه الله عز وجل ما هو خير منها وهو الريح التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب، غُدُوُّها شهر، ورواحها شهر، فهذا أسرع وخير من الخيل، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: «إنك لا تدع شيئًا اتقاء الله تعالى إلا أعطاك الله عز وجل خيرًا منه» رواه أحمد والبيهقي وهو حديث صحيح.
2- تجاوز عن المعسرين فجاوز الله عنه
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كان رجل يداين الناس فكان يقول لفتاه: إذا جئت معسرًا فتجاوز عنه لعل الله أن يتجاوز عنا قال: فلقي الله فتجاوز عنه»([4]) .
وفي لفظ آخر:
عن أبي مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الملائكة لَتَلَقَّتْ روحَ رجل كان قبلكم، فقالوا له: هل عملت خيرًا قط قال: لا، قالوا: تذكر، قال: لا، إلا أني كنت أُدَاينُ الناس، فكنت آمر فتياني أن يُنْظروا الموسر، ويتجاوزوا عن المعسر. قال الله سبحانه وتعالى: تجاوزوا عنه»([5]) .
3- ترك فاحشة الزنا فعُوِّض بملك وامرأة حلال
يوسف بن يعقوب عليهما السلام، قد ذكر الله قصته في سورة كاملة فيها فوائد وعبر تزيد على ألف فائدة، هذا النبي الكريم امتحن امتحانًا عظيمًا، ولكنه صبر وهذا شأن الصالحين، فانقلبت المحنة إلى منحة ربانية إليك هي:
يوسف أمه اسمها راحيل، وله إحدى عشر أخًا وكان أبوه يحبه حبًا جمًا فبدأ الحسد يدب في صدور إخوته وحيث إنهم عصبة- جماعة- ومع ذلك فإن يوسف وأخاه بنيامين لهما محبة في صدور أبيهما، فماذا كان منهم؟
طلبوا من أبيهم أن يرسل معهم أخاهم يوسف وأظهروا له أنهم يريدون أن يرعى معهم وقد أضمروا له ما الله به عليم، فأخذوه ثم ألقوه في البئر- الجُبّ- ثم مرت به قافلة، فأنزلوا الدَّلوَ فتعلَّق به، ثم باعوه على عزيز مصر، فاشتراه بدراهم معدودة ([6]) ثم ماذا حدث؟ يقول الله تعالى: ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ...﴾ الآيات. يذكر تعالى ما كان من مراودة امرأة العزيز ليوسف عليه السلام عن نفسه وطلبها منه ما لا يليق بحاله ومقامه، وهي في غاية الحسن والجمال والمنصب والشباب، وَغَلَّقَت الأبواب عليها وعليه وتهيأت له وتصنعت ولبست أحسن ثيابها وأفخر لباسها، وهي مع ذا كله امرأة الوزير، ويوسف عليه السلام شاب بديع الجمال والبهاء والشباب مركب الشهوة وكان عزبًا ليس عنده ما يعوضه، وكان غريبًا من أهله ووطنه والمقيم بين أهله وأصحابه يستحيي منهم أن يعلموا به فيسقط من عيونهم فإذا تغرب زال هذا المانع، وكانت هي المطالبة فيزول بذلك كلفة تعرض الرجل وطلبه وخوفه من عدم الإجابة، وكانت في محل سلطانها وبيتها بحيث تعرف وقت الإمكان، ومكانه الذي لا تناوله العيون، ومع هذا كله عَفَّ عن الحرام، وعصمه ربه عن الفحشاء؛ فهو من سلالة الأنبياء، وحماه مولاه عن كيد ومكر النساء وعَوَّضَه أن مَكَّنَه في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء، وآتاه الملك وأتته المرأة صاغرة سائلة راغبة في الوصل الحلال فتزوجها فلما دخل بها قال: هذا خير مما كنت تريدين. فتأمل أيها المسلم كيف أنه لما ترك الحرام لله عوضه الله خيرًا منه، ولذلك فهو سيد السادة النجباء السبعة الأتقياء المذكورين في الصحيحين عن خاتم الأنبياء في قوله عليه الصلاة والسلام من رب الأرض والسماء: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله».
4- حبست الشمس من أجل جهاده لله
لما مات موسى عليه السلام خرج ببني إسرائيل من التيه يوشع بن نون- عليه السلام- فقطع ببني إسرائيل نهر الأردن، وانتهى إلى أريحا، وكانت من أحصن المدائن سورًا وأعلاها قصورًا وأكثرها أهلا فحاصرها ستة أشهر، ثم إنهم أحاطوا بها يومًا وضربوا بالقرون يعني الأبواق، وكبروا تكبيرة رجل واحد فتفسخ سورها وسقط وجبة واحدها، فدخلوها وأخذوا ما وجدوا فيها من الغنائم وقتلوا اثنى عشر ألفًا من الرجال والنساء، وحاربوا ملوكًا كثيرة، وظهر على أحد عشر ملكًا من ملوك الشام، وانتهى محاصرته لها إلى يوم الجمعة بعد العصر، فلما غربت الشمس أو كادت تغرب ويدخل عليهم السبت الذي جعل عليهم، وشرع لهم ذلك الزمان قال لها: إنك مأمور وأنا مأمور، اللهم احبسها علي. فحبسها الله عليه حتى تمكن من فتح البلد وأمر القمر فوقف عند الطلوع.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الشمس لم تحبس لبشر إلا ليوشع ليالي سار إلى بيت المقدس». رواه أحمد وهو على شرط البخاري، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه لا يتبعني رجل قد ملك بضع([7]) امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبن، ولا آخر قد بنى بنيانًا ولم يرفع سقفها، ولا آخر قد اشترى غنمًا أو خلفات وهو ينتظر أولادها، فغزا فدنا من القرية حين صلى العصر أو قريبًا من ذلك، فقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علي شيئًا. فحبست عليه حتى فتح الله عليه، فجمعوا ما غنموا، فأتت النار لتأكله فأبت أن تطعمه، فقال: فيكم غلول ([8]) فليبايعني من كل قبيلة رجل. فبايعوه فلصقت يد رجل بيده، فقال: فيكم الغلول ولتبايعني قبيلتك. فبايعته قبيلته، فلصق بيد رجلين أو ثلاثة فقال: فيكم الغلول، أنتم غللتم. فأخرجوا له مثل رأس بقرة من ذهب، قال: فوضعوه بالمال وهو بالصعيد، فأقبلت النار فأكلته فلم تحل الغنائم لأحد من قبلنا؛ ذلك بأن الله رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا » انفرد به مسلم من هذا الوجه.
ولما استقرت يد بني إسرائيل على بيت المقدس استمروا فيه، وبين أظهرهم نبي الله يوشع يحكم بينهم بكتاب الله التوراة حتى قبضه الله إليه وهو ابن مائة وسبع وعشرين سنة فكان مدة حياته بعد موسى سبعًا وعشرين سنة.
5- عاقبة التقوى
كان الملك بخت نصر([9]) قد قدم بيت المقدس من الشام، فقتل بني إسرائيل وأخذ مدينة بيت المقدس عنوة، وسبى ذراريهم وفي السبي دانيال ([10]) عليه السلام وكان هذا الملك قد جاءه المنجمون وأصحاب العلم قبل ذلك، وقالوا له: أنه يولد ليلة كذا وكذا غلام يعور- يعني يعيب- ملكك ويفسده. فقال الملك والله لا يبقى تلك الليلة غلام إلا قتلته. إلا أنهم أخذوا دانيال فألقوه في أجمة الأسد فبات الأسد ولبوته يلحسانه ولم يضراه، فجاءت أمه فوجدتهما يلحسانه فنجاه الله، قال علماء تلك القرية فنقش دانيال صورته وصورة الأسدين يلحسانه في فص خاتمه لئلا ينسى نعمة الله عليه في ذلك. رواه ابن أبي الدنيا بإسناد حسن.
وفي لفظ: إن نبيًا كان في بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام بزمن طويل، يقال له دانيال، وإن قومه كذبوه فأخذه مَلِكُهم فقذفه إلى أسد مجوعة في جب فلما اطلع الله تعالى على حسن اتِّكاله عليه وصبره طلبًا لما لديه، أمسك أفواه الأسد عنه حتى قام على رؤوسها برجليه وهي مذلَّلةٌ غيرُ ضارة له فبعث الله تعالى إرميا من الشام حتى تخلص دانيال من هذه الشدة وأهلك من أراد إهلاك دانيال؛ فعن عبد الله بن أبي الهديل قال: ضري بخت نصر أسدين، فألقاهما في جب وجاء بدانيال فألقاه عليهما، فلم يهيجاه فمكث ما شاء الله، ثم اشتهى ما يشتهي الآدميون من الطعام والشراب فأوحى الله إلى إرميا ([11]) وهو بالشام أن أعد طعامًا وشرابًا لدانيال، فقال: يا رب أنا بالأرض المقدسة ودانيال بأرض بابل من أرض العراق، فأوحى الله تعالى إليه أن أعد ما أمرناك به، فإنا سنرسل إليك من يحملك ويحمل ما أعددت. ففعل، فأرسل الله إليه من حمله وحمل ما أعد، حتى وقف على رأس الجب. فقال دانيال: من هذا؟ قال: أنا إرميا. قال: ما جاء بك؟ قال: أرسلني إليك ربك. قال: وذكرني؟ قال: نعم. قال: الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره والحمد لله الذي لا يخيب من رجاه، والحمد لله الذي من توكل عليه كفاه والحمد لله الذي من وثق به لم يكله إلى غيره، والحمد لله الذي يجزي بالإحسان إحسانًا وبالسيئات غفراناً والحمد لله الذي يجزي بالصبر نجاة والحمد لله الذي يكشف ضرنا بعد كربنا، والحمد لله الذي هو ثقتنا حين تسوء ظنوننا بأعمالنا، والحمد لله الذي هو رجاؤنا حين تنقطع الحيل منا.
6- عاقبة الاسترجاع والصبر
الإنسان المسلم مُعَرَّضٌ في هذه الحياة للاختبار والابتلاء والامتحان، فعليه إذا ابتلي أن يصبر ويحتسب مصيبته عند الله، فإن الله لا يضيع عنده شيء، بل يخلف عليه خير مما أخذ منه، وإليك هذه القصة التي رواها الإمام مسلم في صحيحه: عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم آجرني في مصيبتي، واخلف لي خيرًا منها. إلا أخلف الله له خيرًا منها». قالت: فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ثم إني قلتها فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أرأيت أيها المسلم: إن من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه؛ فمن ترك لَطْمَ الخدود وشَقَّ الجيوب والنياحة وغير ذلك من المنكرات واحتسب مصيبته عند الله واسترجع فإن الله سبحانه يخلفه وهو خير الوارثين.
7- تَرَكَ تَعَلُّمَ السِّحر فكان مشعل هداية للآخرين
عن صهيب الرومي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان ملكٌ فيمن كان قبلكم وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك إني قد كبرت سني وحضر أجلي فادفع إليَّ غلامًا لأعلِّمَه السحر، فدفع إليه غلامًا فكان يعلمه السحر، وكان بين الملك وبين الساحر راهب، فأتى الغلام على الراهب فسمع من كلامه فأعجبه نحوه وكلامه وكان إذا أتى الساحر ضربه، وقال: ما حبسك وإذا أتى أهله ضربوه، وقالوا ما حبسك فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا أراد الساحر أن يضربك فقل حبسني أهلي، وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل حبسني الساحر قال: فبينما هو ذات يوم إذ أتى على دابة فظيعة عظيمة، قد حبست الناس فلا يستطيعون أن يجوزوا فقال: اليوم أعلم أمر الساحر أحب إلى الله أم أمر الراهب: قال فأخذ حجرًا فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك وأرضى من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس ورماها فقتلها ومضى فأخبر الراهب بذلك، فقال: أي بني أنت أفضل مني وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدل عليَّ. فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء ويشفيهم الله على يديه، وكان جليساً للملك فعمي فسمع به فأتاه بهدايا كثيرة فقال: اشفني ولك ما ههنا أجمع. فقال: ما أنا أشفي أحداً إنما يشفي الله عز وجل، فإن آمنت به ودعوت الله شفاك. فآمن فدعا الله فشفاه ثم أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس فقال له الملك: يا فلان، من رد عليك بصرك؟ فقال: ربي، قال: أنا، قال لا؛ ربي وربُّك الله، قال: ولك رب غيري؟ قال نعم؛ ربي وربك الله. فلم يزل يعذِّبُه حتَّى دَلَّ على الغلام، فأتى به، فقال: أي بنيّ، بَلَغَ منْ سحرك أن تبرئ الأكمه والأبرص، وهذه الأدواء! قال: ما أشفي أنا أحدًا؛ إنَّما يشفي اللهُ عزَّ وجلَّ. قال: أنا، قال: لا، قال: أولك ربٌّ غيري؟ قال: ربي وربُّك الله. قال: فأخذ أيضًا بالعذاب، ولم يزل به، حتى دل على الراهب، فأتى الراهب، فقال: ارجع عن دينك. فأبى، فوضع المنشارَ في مفرق رأسه حتَّى وقع شِقَّاه، وقال للأعمى: ارجع عن دينك. فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه، حتى وقع شقَّاه، وقال للغلام: ارجع عن دينك. فأبى فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا وقال : إذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فدهدوه. فذهبوا به فلما علوا الجبل قال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل، فدهدوا أجمعون، وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك فقال: ما فعل أصحابك فقال: كفانيهم الله. فبعث به مع نفر في قرقرة فقال: إذا لججتم البحر، فإن رجع عن دينه، وإلا فأغرقوه في البحر. فلججوا به، فقال الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت. فغرقوا أجمعون، وجاء الغلام حتى دخل على الملك فقال: ما فعل أصحابك فقال: كفانيهم الله، ثم قال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما أمرك به، فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني، وإلا فإنك لا تستطيع قتلي، قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد، ثم تصلبني على جذع، وتأخذ سهمًا من كنانتي، ثم قل: بسم الله رب الغلام. فوقع السهم في صدغه، فوضع الغلام يده على موضع السهم ومات، فقال الناس: آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام. فقيل للملك: أرأيت ما كنت تحذر، فقد والله نزل بك؛ قد آمن الناس كلهم. فأمر بأفواه السكك فحفر فيها الأخاديد، وأضرمت فيها النيران، وقال: من رجع عن دينه فدعوه، وإلا فأقحموه فيها. وقال: فكانوا يتعادون فيها ويتواقعون، فجاءت امرأة بابن لها ترضعه فكأنها تقاعست أن تقع في النار، فقال الصبي: اصبري يا أماه فإنك على الحق»([12]) .
8- ترك فاحشة الزنا خوفًا من الله فأجرى الله على يديه معجزة
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى بن مريم، قال: وكان في بني إسرائيل رجل عابد يقال له جريج، فابتنى صومعة وتعبَّد فيها، قال: فذكر بنو إسرائيل عبادة جريج فقالت بغيٌّ منهم: لئن شئتم لأفتننه فقالوا: قد شئنا ذاك قال: فأتته فتعرضت له، فلم يلتفت إليها فأمكنت من راع كان يؤوي غنمه إلى أصل صومعة جريج فحملت فولدت غلامًا فقالوا: ممن؟ قالت: من جريج. فأتوه فاستنزلوه فشتموه وضربوه، وهدموا صومعته فقال: ما شأنكم؟ قالوا: إنك زنيت بهذه البغيّ. فولدت غلامًا فقال: وأين هو؟ قالوا: هو ذا. قال: فقام فصلى ودعا، ثم انصرف إلى الغلام فطعنه بأصبعه فقال: بالله يا غلام، من أبوك؟ فقال: أنا ابن الراعي. فوثبوا إلى جريج فجعلوا يُقَبِّلونه وقالوا: نبني صومعتك من ذهب. قال: لا حاجة لي في ذلك، ابنوها من طين كما كانت. قال: وبينما امرأة في حجرها ابن ترضعه إذ مَرَّ بها راكبٌ ذو شارة فقالت: اللهم اجعل ابني مثل هذا، قال فترك ثديها وأقبل على الراكب فقال: اللهم لا تجعلني مثله. قال: ثم عاد إلى ثديها فَمَصَّه» قال أبو هريرة: فكأنِّي أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي صنيع الصبي ووضع أصبعه في فيِّه يمصُّها.
ثم مرت بأمه تضرب، فقالت: اللهم لا تجعل ابني مثلها، قال: فترك ثديها وأقبل على الأمة فقال: اللهم اجعلني مثلها. قال: فذاك حين تراجعا... الحديث، فقالت: خلفي مر الراكب ذو الشارة فقلت: اللهم اجعل ابني مثله، فقلت: اللهم لا تجعلني مثله، ومررت بهذه الأمة فقلت: اللهم لا تجعل ابني مثلها فقلت: اللهم اجعلني مثلها. فقال يا أمتاه، إن الراكب ذو الشارة جبار من الجبابرة، وإن هذه الأمة يقولون: زنت. ولم تزن، وسرقت، ولم تسرق، وهي تقول: حسبي الله([13]) .
9- جزاء الصدق والأمانة
المسلم مأمور بأداء الأمانة والتَّحَلِّي بالأخلاق الحسنة والصفات الحميدة؛ فمَنْ عمل بهذه الصِّفات جوزي بالجزاء الأوفى في الدنيا والآخرة؛ فمن ترك الخيانة والغدر لله سبحانه بصدق وإخلاص، عَوَّضَه الله على ذلك خيرًا كثيرًا.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشترى رجل من رجل عقارًا له، فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب فقال له الذي اشترى العقار: خذ ذهبك مني؛ إنَّما اشتريتُ منكَ الأرض، ولم أبتع منك الذهب. وقال الذي له الأرض: إنما بعتك الأرض وما فيها. فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟ قال أحدهما: لي غلام، وقال الآخر: لي جارية، قال: أنكحوا الغلام الجارية وأنفقوا على أنفسهما منه وتصدقا([14]).
وعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر أنَّ رجلاً من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار فقال: ائتني بشهداء أشهدهم. قال: كفى بالله شهيدًا. قال: ائتني بكفيل. قال: كفى بالله كفيلاً، قال: صدقت. فدفعها إليه إلى أجل مسمى، فخرج في البحر فقضى حاجته، ثم التمس مركبًا يقدم عليه للأجل الذي أجله فلم يجد مركبًا، فأخذ خشبة فنقرها وأدخل فيها ألف دينار وصحيفة معها إلى صاحبها، ثم زجَّجَ ([15]) موضعها، ثم أتى بها البحر ثم قال: اللهم إنَّك قد علمتَ أنِّي استسلفت فلانًا ألف دينار، فسألني كفيلا فقلت: كفى بالله كفيلاً. فرضي بذلك، وسألني شهيدًا فقلت: كفى بالله شهيدًا. فرضي بذلك، وإني قد جهدت أن أجد مركباً أبعث إليه بالذي أعطاني فلم أجد مركباً، وأني استودعتُكَها. فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه ثم انصرف وهو في ذلك يطلب مركباً إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبًا يجيئه بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطباً، فلما كسرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الرجل الذي كان تسلَّف منه، فأتاه بألف دينار، وقال: والله ما زلتُ جاهدًا في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدتُ مركبًا قبل الذي أتيت فيه. قال: هل كنت بعثت إليَّ بشيء؟ قال: ألم أخبرك أنِّي لم أجد مركبًا قبل هذا الذي جئت فيه! قال: فإن الله أَدَّى عنك الذي بعثت به في الخشبة، فانصرف بألفك راشدًا ([16]) .
10- من فوض أمره لله كفاه
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بينما رجل وامرأة له في السلف الخالي لا يقدران على شيء، فجاء الرجل من سفره فدخل على امرأته جائعًا قد أصابته سغبة ([17]) شديدة، فقال لامرأته: عندك شيء؟ قالت: نعم، أبشر؛ أتاك رزقُ الله، فاستحثَّها فقال: ويحك، أبتغي إن كان عندك شيء. قالت: نعم، هنيئة نرجو رحمة الله، حتى إذا طال عليه المطال قال: ويحك، قومي فابتغي إن كان عندك شيء فأتيني به؛ فإني قد بلغت الجهد وجهدت. فقالت: نعم، الآن ينضح التنور، فلا تعجل. فلما أن سكت عنها ساعة وتحينت أيضًا أن يقول لها قالت من عند نفسها: لو قمت فنظرت إلى تنوري. فقمت فوجدت تنورها ملآن من جنوب الغنم ورحاها تطحن فقامت إلى الرحى فنفضتها واستخرجت ما في تنورها من جنوب الغنم، قال أبو هريرة: فوالذي نفس أبي القاسم بيده عن قول محمد صلى الله عليه وسلم: «لو أخذت ما في رحيبها ولم تنفضها لطحنت إلى يوم القيامة»([18]) .
وفي لفظ آخر: دخل رجل على أهله فلما رأى ما بهم من الحاجة خرج إلى البرية، فلما رأت امرأته ما لقي قامت إلى الرحى فوضعتها، وإلى التنور فسجرته، ثم قالت: اللهم ارزقنا، فنظرت فإذا الجفنة قد امتلأت، قال: وذهبت إلى التنور فوجدته ممتلئًا، قال: فرجع الزَّوجُ، قال: أصبتم بعدي شيئًا؟ قالت امرأته: نعم؛ من ربِّنا. فرفعتها إلى الرحى ثم قامت، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال: «أما إنَّه لو لم ترفعها لم تزل تدور إلى يوم القيامة»([19]) .
11- ذهب البردُ بزرعها فعُوِّضَتْ خيرًا لصبرها
عن البرقي([20]) قال:
رأيت امرأة بالبادية، وقد جاء البرد([21]) فذهب بزرع كان لها، فجاء الناس يعزونها، فرفعت طرفها إلى السماء، وقالت: اللهم أنت المأمول لأحسن الخلق، وبيدك التعويض عما تلف، فافعل بنا ما أنت أهله، فإن أرزاقنا عليك وآمالنا مصروفة إليك.
قال: فلم أبرح، حتى جاء رجل من مياسير البلد من فضلاء الناس، فحدَّث بما كان، فوهب لها خمس مائة دينار ([22]) .
12- تركها لله ففرج الله عنه
عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينما ثلاثة نفر ممن كان قبلكم يمشون إذ أصابهم مطر فآووا إلى غار فانطبق عليهم فقال بعضهم لبعض: إنه والله يا هؤلاء لا ينجيكم إلا الصدق فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه. فقال واحد منهم: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أجير عمل لي على فرق ([23]) من أرز فذهب وتركه، وإني عمدت إلى ذلك الفرق فزرعته فصار من أمره، إني اشتريت منه بقرًا، وإنه أتاني يطلب أجره فقلت: اعمد إلى تلك البقر فسقها. فقال لي: إنما لي عندك فرق من أرز. فقلت له: اعمد إلى تلك البقر؛ فإنها من ذلك الفرق- فساقها- فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنها. فانساخت عنهم الصخرة، فقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت آتيهما كل ليلة بلبن غنم لي، فأبطأت عنهما ليلة فجئت وقد رقدا، وأهلي وعيالي يتضاغون ([24]) من الجوع، وكنت لا أسقيهم حتى يشرب أبواي، فكرهت أن أوقظهما وكرهت أن أدعهما فيستكنا لشربتهما، فلم أزل أنتظر حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا، فانساخت عنهم الصخرة، حتى نظروا إلى السماء، فقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنه كانت لي ابنة عم من أحب الناس إليّ، وأني راودتها عن نفسها فأبت إلا أن آتيها بمائة دينار، فطلبتها حتى قدرت فأتيتها بها فدفعتها إليها فأمكنتني من نفسها فلما قعدت بين رجليها قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت وتركت المائة دينار، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا. ففرج الله عنهم»([25]) .
13- فيمن ترك محبوبه حرامًا فذل له حلالاً، أو أعاضه الله خيرًا منه
قال أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله تعالى: بلغني عن بعض الأشراف أنه اجتاز بمقبرة فإذا جارية حسناء عليها ثياب سواد، فنظر إليها فعلقت بقلبه فكتب إليها:
قد كنتُ أحسب أن الشمس واحدة | ||
والبدر في منظر بالحسن موصوفُ | ||
حتى رأيتك في أثواب ثاكلة | ||
سود وصدغك فوق الخد معطوف | ||
فرحت والقلب مني هائم دَنِفٌ | ||
والكبد حري ودمع العين مذروف | ||
ردي الجواب ففيه الشكر واغتنمي | ||
وصل المحب الذي بالحب مشغوف | ||
ورمى بالرقعة إليها فلما قرأتها كتبت:
إن كنت ذا حسب زاكٍ وذا نسبٍ | ||
إن الشريف بغض الطرف معروف | ||
إن الزناة أناس لا خلاق لهم | ||
فاعلم بأنك يوم الدين موقوف | ||
واقطع رجاك لحاك الله من رجل | ||
فإن قلبي عن الفحشاء مصروف | ||
فلما قرأ الرقعة زجر نفسه وقال: أليس امرأة تكون أشجع منك؟ ثم تاب ولبس مدرعة من الصوف والتجأ إلى الحرم، فبينما هو في الطواف يومًا وإذا بتلك الجارية عليها درع من صوف فقالت له: ما أليق هذا بالشريف، هل لك في المباح؟ فقال: قد كنت أروم هذا قبل أن أعرف الله وأحبه، والآن قد شغلني حبه عن حب غيره فقالت له: أحسنت. ثم طافت وهي تنشد:
فطفنا فلاحت في الطواف لوائح | ||
غنينا بها عن كل مرأى ومسمع | ||
14- (ب)
وقال الحسن البصري: كانت امرأة بغيٌّ قد فاقت أهل عصرها في الحسن لا تمكن من نفسها إلا بمائة دينار، وإن رجلا أبصرها فأعجبته فذهب فعمل بيديه وعالج، فجمع مائة دينار، فجاء فقال: إنك قد أعجبتني. فانطلقتُ فعملت بيدي وعالجت حتى جمعت مائة دينار فقالت: ادفعها إلى القهرمان حتى ينقدها ويزينها، فلما فعل قالت: ادخل. وكان لها بيت منجد وسرير من ذهب فقالت: هلمّ لك، فلما جلس منها مجلس الخائن تذكر مقامه بين يدي الله فأخذته رعدة وطفئت شهوته. فقال: اتركني لأخرج ولك المائة دينار فقالت: ما بدا لك وقد رأيتني كما زعمت فأعجبتك فذهبت فعالجت وكدحت حتى جمعت مائة دينار فلما قدرت عليَّ فعلت الذي فعلت؟ فقال: ما حملني على ذلك إلا الفرق من الله، وذكرت مقامي بين يديه قالت: إن كنت صادقًا فما لي زوج غيرك. قال: ذريني لأخرج. قالت: إلا أن تجعل لي عهدًا أن تتزوجني، فقال: لا حتى أخرج. قالت: عليك عهد الله إن أنا أتيتك أن تتزوجني. قال: لعل، فَتَقَنَّعَ بثوبه ثم خرج إلى بلده، وارتحلت المرأة بدنياها نادمة على ما كان منها حتى قدمت بلده فسألت عن اسمه ومنزله فدلت عليه، فقيل له: الملكة جاءت بنفسها تسأل عنك. فلما رآها شهق شهقة فمات، فأسقط في يدها فقالت: أما هذا فقد فاتني أما له من قريب؟ قيل: بلى أخوه رجل فقير فقالت: إني أتزوجك حبًا لأخيك قال: فتزوجته فولدت له سبعة أبناء.
15- (ج)
وقال الحسن بن زيد: ولينا بديار مصر رجل فوجد على بعض عُماله فحبسه وقيده، فأشرفت عليه ابنة الوالي فهويته فكتبت إليه:
أيها الرامي بعينيـ | ـه وفي الطرف الحتوف | |
إن ترد وصلا فقد أمـ | كنك الظبي الألوف |
فأجابها الفتى:
إن تريني زاني العيـ | نين فالفرج عفيف | |
ليس إلا النظر الفا | تر والشعر الظريف |
فأجابته:
ما تأبيت لأني | كنت للظبي عيوفاً | |
غير أني خفت ربا | كان بي برًا لطيفاً |
فذاع الشعر وبلغت القصة الوالي فدعا به فزوجه إياها ودفعها إليه([26]) .
16- (د)
ذكر أن رجلا أحب امرأة وأحبته فاجتمعا فراودته المرأة عن نفسه فقال: إن أجلي ليس بيدي، وأجلك ليس بيدك، فربما كان الأجل قد دنا فنلقى الله عاصيين، فقالت: صدقت. فتابا وحسنت حالهما وتزوجت به.
17- (هـ)
وقال يحيى بن أيوب: كان بالمدينة فتى يعجب عمر بن الخطاب رضي الله عنه شأنه، فانصرف ليلة من صلاة العشاء فتمثلت له امرأة بين يديه، فعرضت له بنفسها ففتن بها ومضت، فاتبعها حتى وقف على بابها فأبصر وجلا عن قلبه وحضرته هذه الآية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ *﴾ [الأعراف: 201] فخر مغشيًا عليه، فنظرت إليه المرأة فإذا هو كالميت فلم تزل هي وجارية لها يتعاونا عليه حتى ألقياه على باب داره، فخرج أبوه فرآه ملقى على باب الدار لما به، فحمله وأدخله فأفاق فسأله ما أصابك يا بني؟ فلم يخبره فلم يزل به حتى أخبره، فلما تلا الآية شهق شهقة فخرجت نفسه، فبلغ عمر رضي الله قصته فقال: ألا آذنتموني بموته؟ فذهب حتى وقف على قبره فنادى: يا فلان ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن: 46] فسمع صوتًا من داخل القبر: قد أعطاني ربي يا عمر([27]) .
ووردت القصة على وجه آخر وهو: كان شاب على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ملازمًا للمسجد والعبادة فهويته جارية فحدث نفسه بها، ثم إنه تذكر وأبصر فشهق شهقة فغشي عليه منها فجاء عم له فحمله إلى بيته فلما أفاق قال: يا عم انطلق إلى عمر فأقرئه مني السلام وقل له: ما جزاء من خاف مقام ربه؟ فأخبر عمر فأتاه وقد مات فقال: لك جنتان ([28]) .
18- ترك معصية الله فمات من ليلته فغفر الله له
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان الكفل لا يتورع من ذنب عمله، فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارًا على أن يطأها، فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته أرعدت وبكت فقال: ما يبكيك أكرهتُك؟ قالت: لا، ولكن هذا عمل لم أعمله وإنما حملتني عليه الحاجة، قال: فتفعلين هذا وأنت لم تفعليه قط؟ ثم قال اذهبي والدنانير لك ثم قال: والله لا يعصي الله ذو الكفل أبدًا فمات من ليلته فأصبح مكتوبًا على بابه: قد غفر الله لذي الكفل»([29]) .
19- أصبح من أهل الجنة لتركه المعصية
وقال أبو عمران الجوني: كان رجل من بني إسرائيل لا يمتنع من شيء، فجهد أهل بيت من بني إسرائيل فأرسلوا إليه جارية منهم تسأله شيئًا فقال: لا أو تُمَكِّنيني من نفسك. فخرجت، فجهدوا جهدًا شديدًا، فرجعت إليه فقالت: أعطنا فقال: لا أو تمكنيني من نفسك. فرجعت فجهدوا جهدًا كثيرًا، فأرسلوها إليه، فقال لها ذلك فقالت: دونك. فلما خلا بها جعلت تنتفض كما تنتفض السعفة، قال لها: ما لك؟ قالت: إني أخاف الله رب العالمين، هذا شيء لم أصنعه قط، قال: أنت تخافين الله ولم تصنعيه وأفعله؟ أعاهد الله أني لا أرجع إلى شيء مما كنت فيه، فأوحى الله إلى نبي من أنبيائهم أن فلانًا أصبح في كتب أهل الجنة.
20- ألقى نفسه حتى لا يرتكب المعصية فعوضه الله خيرًا
ذكر أن شابًا في بني إسرائيل لم يكن فيهم شاب أحسن منه كان يبيع المكاتل، فبينا هو ذات يوم يطوف بمكاتله إذ خرجت امرأة من دار ملك من ملوك بني إسرائيل، فلما رأته رجعت مبادرة فقالت لابنة الملك: إني رأيت شابًا بالباب يبيع المكاتل لم أر شابًا قط أحسن منه قالت: أدخليه. فخرجت فقالت: ادخل. فدخل، فأغلقت بابًا آخر دونه، ثم استقبلته بنت الملك كاشفة عن وجهها ونحرها. فقال لها: استتري عافاك الله فقالت: إنا لم ندعك لهذا، إنما دعوناك لكذا. وراودته عن نفسه فقال لها: اتقي الله. قالت: إنك إن لم تطاوعني على ما أريد أخبرت الملك أنك إنما دخلت تكابرني على نفسي. فقال لها: ضعي لي وضوءًا. فقالت: أعليَّ تتعلل؟ يا جارية ضعي له وضوءًا فوق الجوسق مكانًا لا يستطيع أن يفر منه، فلما صار في الجوسق قال: اللهم إني دعيت إلى معصيتك وإني أختار أن ألقي نفسي من هذا الجوسق ولا أركب معصيتك. ثم قال: بسم الله وألقى نفسه من أعلاه، فأهبط الله ملكًا أخذ بضَبْعَيْه فوقع قائمًا على رجليه، فلما صار في الأرض قال: اللهم إن شئت رزقتني رزقًا يغنيني عن بيع هذه المكاتل، فأرسل الله عليه رِجْلاً من جراد من ذهب فأخذ منه حتى ملأ ثوبه، فلما صار في ثوبه قال: اللهم إن كان هذا رزقاً رزقتنيه من الدنيا فبارك لي فيه، وإن كان ينقصني مما لي عندك في الآخرة فلا حاجة لي فيه. فنودي؛ إن هذا الذي أعطيناك جزء من خمسة وعشرين جزءًا؛ لصبرك على إلقائك نفسك. فقال: اللهم فلا حاجة لي فيما ينقصني مما لي عندك في الآخرة. فرفع الجراد.
21- رد لله مائة دينار فعوضه ألفًا
حكى المبرد عن شيخه أبي عثمان المازني أنه قصده بعض أهل الذمة ليقرأ عليه كتاب سيبويه وبذل له مائة دينار فامتنع ورده، فقلت له: أترد هذا القدر مع شدة فاقتك؟ فقال: إن هذا الكتاب يشتمل على ثلاثمائة وكذا وكذا آية من كتاب الله، ولست أرى تمكين هذا الذِّمِّيِّ منها غيرة على القرآن، فاتفق أن غنت جارية بحضرة الواثق بقول العرجيّ:
أظلوم إن مصابكم رجلا | ||
أهدي السلام تحية ظلم | ||
فاختلف أهل مجلسه في إعراب "رجل" فمنهم من قال: هو نصب وجعله اسم إن، ومنهم من رفعه على أنه خبرها، والجارية أصرت على النصب وقالت: لَقَّنَني إياه كذلك شيخي أبو عثمان المازني. فأمر الواثق بإحضاره إلى بين يديه قال: فلما مثلت بين يديه قال: من الرجل؟ قلت: من بني مازن. قال: أي الموازن؟ أمازن تميم أم مازن قيس أم مازن ربيعة؟ قلت: من مازن ربيعة. فكلَّمني بكلام قومي فقال لي: باسمك؟ وقومي يقلبون الميم باء، والباء ميمًا، فكرهت أن أواجهَه بلفظة مكر فقلت: بكر يا أمير المؤمنين؟ ففطن لما قصدته وأعجب به فقال: ما تقول في قول الشاعر:
أظلوم إن مصابكم رجلا | ||
أهدي السلام تحية ظلم | ||
أترفع رجلا أم تنصبه؟ فقلت: الوجه النصب يا أمير المؤمنين، فقال: ولم ذلك؟ فقلت: لأن مصابكم مصدر بمعنى إصابتكم، فأخذ اليزيدي في معارضتي فقلت: هو بمنزلة قولك: إن ضربك زيدًا ظلم. فرجلا مفعول مصابكم ومنصوب به، والدليل عليه أن الكلام مُعَلَّقٌ إلى أن تقول ظلم فيتم، فاستحسنه الواثق وقال: هل لك من ولد؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين؛ بُنَيَّةٌ. قال: فما قالت لك عند مسيرك إلينا؟ قلت: أَنْشَدَتْ قولَ الأعشى:
أيا أبتا لا ترم عندنا | ||
فأنا بخير إذا لم ترم | ||
ترانا إذا أضمرتك البلا | ||
د نجفي وتقطع منا الرحم | ||
قال: فما قلت لها؟ قال: قلت قول جرير:
ثقي بالله ليس له شريك | ||
ومن عند الخليفة بالنجاح | ||
فقال: علي النجاحُ إن شاء الله. ثم أمر لي بألف دينار وردني إلى البصرة مكرَّماً، فقال أبو العباس المبرد: فلما عاد إلى البصرة قال لي: كيف رأيت يا أبا العباس؟ رددنا لله مائة دينار فَعَوَّضَنا اللهُ ألفًا.
22- ترك الكفر ودخل الجنة ولم يسجد لله سجدة
عن أبي هريرة أنه كان يقول: أخبروني عن رجل دخل الجنة لم يصل صلاة؟ ثم يقول: هو عمرو بن ثابت.
قال ابن إسحاق: قال الحصين بن محمد: قلت لمحمود بن لبيد: كيف كانت قصته؟ قال: كان يأبى الإسلام، فلما كان يوم أحد بدأ له فأخذ سيفه حتى أتى القوم فدخل في عرض الناس فقاتل حتى وقع جريحًا، فوجده قومه في المعركة فقالوا: ما جاء بك؟ أشفقة على قومك، أم رغبة في الإسلام؟ قال: بل رغبة في الإسلام؛ قاتلتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصابني ما أصابني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه من أهل الجنة». وفي رواية: «ثم مات فدخل الجنة وما صلى صلاة»([30]) .
وورد بلفظ آخر وهو: عن الزهري وعروة قالا: جاء عبد حبشي أسود من أهل خيبر كان في غنم لسيده، فلما رأى أهل خيبر قد أخذوا السلاح سألهم، قال: ما تريدون؟ قالوا: نقاتل هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي. فوقع في نفسه ذكر النبي فأقبل بغنمه حتى عمد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إلى ما تدعو؟ قال: «أدعوك إلى الإٍسلام؛ إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وأن لا تعبدوا إلا الله»، قال: فقال العبد: فماذا يكون لي إن شهدت بذلك وآمنت بالله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الجنة إن مت على ذلك»، فأسلم العبد فقال: يا نبيَّ الله، إن هذه الغنم عندي أمانة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخرجها من عسكرنا وارمها بالحصى؛ فإن الله سيؤدي عنك أمانتك به. ففعل، فرجعت الغنم إلى سيدها، فعرف اليهودي أن غلامه أسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعظ الناس، فذكر الحديث في إعطائه الراية عليًا ودُنُوِّه من حصن اليهود وقتله مرحبًا، وقُتل مع علي بن أبي طالب ذلك العبد الأسود، فاحتمله المسلمون إلى عسكرهم، فأدخل في الفسطاط، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطلع في الفسطاط ثم أطلع على أصحابه فقال: لقد أكرم الله هذا العبد وساقه إلى خير قد كان الإسلام في قلبه حقًا، وقد رأيت عند رأسه اثنتين من الحور العين.
وقد روى الحافظ البيهقي هذه القصة بإسناده عن جابر بن عبد الله، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر فخرجت سرية فأخذوا إنسانًا معه غنم يرعاها فذكر نحو قصة هذا العبد الأسود وقال فيه: قتل شهيدًا وما سجد لله سجدة.
23- يترك سرقة الباذنجانة فيرزق امرأة
كان في دمشق مسجد كبير اسمه جامع التوبة، وهو جامع مبارك فيه أنس وجمال، وكان فيه منذ نحو سبعين سنة شيخٌ مُرَبٍّ عالم عامل اسمه الشيخ سليم المسوطي، وكان مضربَ المثل في فقره وفي إبائه وعزة نفسه وبذلها للآخرين.
وكان يسكن في غرفة في المسجد، مر عليه يومان لم يأكل فيهما شيئًا، وليس عنده ما يطعمه ولا ما يشتري به طعامًا، فلما جاء اليوم الثالث أحس كأنه مشرف على الموت وفكر ماذا يصنع، فرأى أنه بلغ حد الاضطرار الذي يجوز له أكل الميتة أو السرقة بمقدار الحاجة وآثر أن يسرق ما يقيم صلبه- هذا ما رآه في حاله هذه- وكان المسجد يتصل سطحه ببعض البيوت يستطيع المرء أن ينتقل من أولها إلى آخرها مشيًا على أسقفها، فصعد إلى سقف المسجد، وانتقل منه إلى الدار التي تليه فلمح بها نساء فغض من بصره وابتعد ونظر فرأى إلى جانبها دارًا خاليًا وشم رائحة الطبخ تصدر منها، فأحس من جوعه لما شمها كأنها مغناطيس تجذبه إليها، وكانت البيوت من دور واحد، فقفز قفزتين من السقف إلى الشرفة، فصار في الدار وأسرع إلى المطبخ فكشف غطاء القدر، فرأى فيها باذنجانًا محشوًا، فأخذ واحدةً ولم يبال من شدة جوعه بسخونتها، وعض منها عضة، فما كاد يبتلعها حتى ارتد إليه عقله ودينه وقال لنفسه: أعوذ بالله أنا طالب علم مقيم في المسجد ثم اقتحم المنازل وأسرق ما فيها؟
وكبر عليه ما فعل وندم واستغفر ورد الباذنجانة وعاد من حيث جاء فنزل إلى المسجد وقعد في حلقة الشيخ وهو لا يكاد من شدة الجوع يفهم ما يسمع، فلما انقضى الدرس وانصرف الناس.. جاءت امرأة مستترة- ولم يكن في تلك الأيام امرأة غير مستترة- فكلمت الشيخ بكلام لم يسمعه، فتلفَّت الشيخ حوله فلم ير غيره فدعاه وقال له: هل أنت متزوج؟ قال: لا. قال: هل تريد الزواج؟ فسكت، فأعاد الشيخ سؤاله فقال: يا شيخ، ما عندي ثمن رغيف والله فلماذا أتزوج؟ قال الشيخ: إن هذه المرأة خبرتني أن زوجها توفي وأنها غريبة عن هذا البلد، ليس لها فيه ولا في الدنيا إلا عم عجوز فقير، وقد جاءت به معها وأشار إليه قاعدًا في ركن الحلقة وقد ورثت دار زوجها ومعاشه، وهي تحب أن تجد رجلا يتزوجها؛ لئلا تبقى منفردة فيطمع فيها فهل تريد أن تتزوج بها؟ قال: نعم، وسألها الشيخ هل تقبلين به زوجًا؟ قالت نعم. فدعا الشيخ عمها ودعا شاهدين وعقد العقد، ودفع المهر عن التلميذ وقال له خذ بيد زوجتك. فأخذ بيدها فقادته إلى بيتها، فلما أدخلته كشفت عن وجهها فرأى شبابًا وجمالا، وإذا البيت هو البيت الذي اقتحمه، وسأله هل تأكل؟ قال: نعم. فكشفت غطاء القدر، فرأت الباذنجانة فقالت: عجبًا من الذي دخل الدار فعضها؟ فبكى الرجل وقص عليها الخبر فقالت له: هذه ثمرة الأمانة، عففت وتركت الباذنجانة الحرام فأعطاك الله الدار كلها وصاحبتها حلال، ومن ترك شيئًا لله عوَّضه الله خيرًا منه ([31]) .
24- ترك الخيانة فجاءه الخير في أوانه
قال القاضي أبو بكر محمد بن عبد الباقي بن محمد البزار الأنصاري: كنت مجاورًا بمكة حرسها الله تعالى، فأصابني يومًا من الأيام جوع شديد لم أجد شيئًا أدفع به عني الجوع، فوجدت كيسًا من أبريسم مشدودًا بشرابة من أبريسم أيضًا، فأخذته وجئت به إلى بيتي، فحللته فوجدت فيه عقدًا من لؤلؤ لم أر مثله.
فخرجت فإذا بشيخ ينادي عليه، ومعه خرقة فيها خمس مائة دينار وهو يقول: هذا لمن يرد علينا الكيس الذي فيه اللؤلؤ، فقلت: أنا محتاج، وأنا جائع، فأخذ هذا الذهب فانتفع به، وأرد عليه الكيس، فقلت له: تعال إليَّ، فأخذته وجئت به إلى بيتي، فأعطاني علامة الكيس وعلامة الشرّابة وعلامة اللؤلؤ وعدده والخيط الذي هو مشدود به، فأخرجته ودفعته إليه، فسلم إلي خمس مائة دينار، فما أخذتها وقلت: يجب علي أن أعيده إليك، ولا آخذ له جزاءًا. فقال لي: لا بد أن تأخذ. وألح علي كثيرًا، فلم أقبل ذلك منه فتركني ومضى، وأما ما كان مني، فإني خرجت من مكة وركبت البحر، فانكسر المركب وغرق الناس، وهلكت أموالهم، وسلمت أنا على قطعة من المركب، فبقيت مدة في البحر لا أدري أين أذهب؟ فوصلت إلى جزيرة فيها قوم، فقعدت في بعض المساجد، فسمعوني أقرأ، فلم يبق في تلك الجزيرة أحد إلا جاء إليَّ وقال: علِّمني القرآن. فحصل لي من أولئك القوم شيء كثير من المال، ثم إني رأيت في ذلك المسجد أوراقًا من مصحف، فأخذتها أقرأ فيها، فقالوا لي: تحسن تكتب؟ فقلت: نعم، فقالوا: علمنا الخط. فجاؤوا بأولادهم من الصبيان والشباب، فكنت أعلمهم، فحصل لي أيضًا من ذلك شيء كثير، فقالوا لي بعد ذلك: عندنا صبية يتيمة ولها شيء من الدنيا تريد أن تتزوج بها فامتنعت، فقالوا: لا بد. وألزموني، فأجبتهم إلى ذلك.
فلما زفُّوها إليَّ مددت عيني أنظر إليها، فوجدت ذلك العقد بعينه معلقًا في عنقها فما كان لي حينئذ شغل إلا النظر إليه، فقالوا: يا شيخ كسرت قلب هذه اليتيمة من نظرك إلى هذا العقد، ولم تنظر إليها، فقصصت عليهم قصة العقد، فصاحوا وصرخوا بالتهليل والتكبير حتى بلغ إلى جميع أهل الجزيرة، فقلت: ما بكم؟ فقالوا: ذلك الشيخ الذي أخذ منك العقد أبو هذه الصبية، وكان يقول: ما وجدت في الدنيا مسلمًا غير هذا الذي رد علي هذا العقد. وكان يدعو ويقول: اللهم اجمع بيني وبينه حتى أزوجه بابنتي، والآن قد حصلت فبقيت معها مدة ورزقت منها بولدين، ثم إنها ماتت فورثت العقد أنا وولداي، ثم مات الولدان، فحصل العقد لي، فبعته بمائة ألف دينار، وهذا المال الذي ترونه معي من بقايا ذلك المال([32]).
25- ترك الكذب فقبل في الوظيفة
كان هناك رجلا أسلم من الأوروبيين وحسن إسلامه وكان صادقًا في أفعاله، وحريصًا على أن يظهر إسلامه، ويعتز به أمام الكفار، دون خجل أو حياء أو تردد حتى ولو لم يكن هناك مناسبة فإنه يحرص على ذلك يقول: فأعلن في إحدى المؤسسات الحكومية الكافرة عن فرصة وظيفية، فتقدم لها هذا المسلم الفخور بإسلامه، وكان لا بد من المقابلة الشخصية والتنافس قائم على هذه الوظيفة، فلما بدأت المقابلة سألته اللجنة الخاصة بالمؤسسة عدة أسئلة، كان منها: هل تشرب الخمر؟ فأجاب قائلا: لا أشرب الخمر لأنني أسلمت وديني يمنعني من معاقرة الخمر وشربها. قالت اللجنة: هل لك خليلات وصديقات؟ قال صاحبنا: لا؛ لأن ديني الإسلام الذي أنتسب إليه يحرم علي ذلك، ويَقصر علاقتي على زوجتي التي نكحتها بمقتضى شريعة الله عز وجل. وخرج وهو شبه يائس من أن ينجح في هذه المسابقة؛ ولكن النتيجة أن جميع هؤلاء المتسابقين -وكان عددهم كبيرًا- فشلوا ونجح هو وحده في هذه المسابقة فذهب إلى مسؤول اللجنة وسأله قائلا: كنت انتظر أن تحرموني من هذه الوظيفة عقابًا لي على مخالفتي لكم في دينكم وعلى اعتناق الإسلام، ولكني فوجئت بقبولي على إخوانكم من النصارى فما سر ذلك؟ قال: إن المرشح لهذه الوظيفة كان يشترط فيه أن يكون شخصًا منتبهًا في جميع الحالات، حاضر الذهن والإنسان الذي يتعاطى الخمر لا يمكن أن يكون كذلك فكنا نترقب شخصًا من الذين لا يشربون الخمر ونظرًا لتوفر هذا فيك فلقد وقع الاختيار عليك في هذه الوظيفة. فخرج حامدًا مولاه على ما أولاه من نعمة وآلائه العظيمة وهو يردد ﴿ومن يتق الله يجعل له مخرجا﴾.
26- ترك الرشوة ففتح عليه باب رزق
ذكر أحد الأخوة عن أحد التجار في السعودية بداية رحلته مع التجارة، حيث نقل عنه أنه كان يعمل في أحد ثغرات البلاد، وكانت البضائع لا بد أن تمر عليه حتى يوقع عليها فكان للمتلاعبين بالمرصاد، ولكن علم أن رئيسه يأخذ الرشاوي ولقد بلغت برئيسه الوقاحة أن نصح صاحبنا بعدم التشدد وأخذ المال تسهيلا للراشي.
ولما سمع صاحبنا هذا الكلام ارتعدت فرائصه وأحس بالخوف، فخرج من المكتب وهو يكاد يختنق من الحزن والأسى والتردد، ومرت الأيام وكل يأتي إلى صاحبنا .. فهذا يقول له: هذه هدية من مؤسستنا. وهذا يقول: هذا المال إكرامية من شركتنا لمجهودك الطيب. وهو يرد ذلك ويرفضه، لكن إلى متى سيبقى على هذا الحال، وأحس بالخوف أن تضعف نفسه، وأن يأخذ مالا حرامًا، وأصبح بين أمرين؛ إما أن يتخلى عن منصبه وراتبه أو أن يتعدى حدود الله ويأخذ الرشاوي، ولأن قلبه على الفطرة.. ولأن قلبه يستشعر قول الله عز وجل: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ قدَّم استقالته، يقول صاحبنا: ثم رزقني الله شاحنة صغيرة، وبدأتُ بمتابعة النقل، ثم رزقني الله شاحنة أخرى، وبدأ بعض التجار يطلبونني لنقل بضائعهم؛ لحرصي عليها وكأنها من مالي، ومن الحوادث التي مرت علي أن اصطدمت إحدى شاحناتي وتكسرت بسبب نوم السائق فلما اعتذر عفوت عنه، فاندهش رجل المرور من سماحتي وأصر على أن يتعرف علي وبعد أعوام كبر منصب رجل المرور وجاءت بضاعة كبيرة فما أراد هذا إلا أنا فاختارني لحمل هذه البضاعة بنقلياتي دون مناقصة.
فانظر أخي القارئ كيف تفتحت له أبواب الرزق، وهو الآن من أكبر التجار، وله من التبرع لوجوه الخير والإحسان إلى الفقراء النصيب الكبير... وهكذا؛ فمن ترك شيئًا لله عوَّضه الله خيرًا منه([33]).
27- بركة التقوى مع الغافلين
ذُكر أن شابًا فيه تقى وفيه غفلة.. طلب العلم عند أحد المشائخ، حتى إذا أصاب منه حظًا قال الشيخ له ولرفقائه: لا تكونوا عالة على الناس فإن العالم الذي يمد يده إلى أبناء الدنيا لا يكون فيه خير، فليذهب كل واحد منكم وليشتغل بالصنعة التي كان أبوه يشتغل بها، وليتق الله فيها. وذهب الشاب إلى أمه فقال لها: ما هي الصنعة التي كان أبي يشتغل بها؟ فاضطربت المرأة فقالت: أبوك قد ذهب إلى رحمة الله فما بالك وللصنعة التي كان يشتغل بها؟ فألح عليها، وهي تتملص منه، حتى إذا اضطرها إلى الكلام، أخبرته وهي كارهة أنه كان لصًا!
فقال لها: إن الشيخ أمرنا أن يشتغل كلٌّ بصنعة أبيه ويتقي الله فيها. قالت الأم: ويحك، في السرقة تقوى؟ وكان في الولد غفلة وحمق فقال لها: هكذا قال الشيخ! وذهب فسأل وتسقط الأخبار حتى عرف كيف يسرق اللصوص، فَأَعَدَّ عدَّةَ السَّرقة وصلَّى العشاء وانتظر حتى نام الناس، وخرج ليشتغل بصنعة أبيه كما قال الشيخ، فبدأ بدار جاره وَهَمَّ أن يدخلها، ثم ذكر أن الشيخ قد أوصاه بالتقوى، وليس من التقوى إيذاء الجار، فتخطى هذه الدار، ومر بأخرى، فقال لنفسه: هذه دار أيتام، ومر بأخرى فقال لنفسه: هذه دار أيتام، واللهُ حَذَّرَ من أكل مال اليتيم. وما زال يمشي حتى وصل إلى دار تاجر غنيٍّ ليس فيه حرس، ويعلم الناس أن عنده الأموال التي تزيد عن حاجته فقال: ههنا. وعالج الباب بالمفاتيح التي أعدها ففتح ودخل فوجد دارًا واسعة وغرفًا كثيرًا فجال فيها حتى اهتدى إلى مكان المال، وفتح الصندوق فوجد من الذهب والفضة والنقد شيئًا كثيرًا فَهَمَّ بأخذه ثم قال: لا، لقد أمرنا الشيخ بالتقوى، ولعل هذا التاجر لم يؤد زكاة أمواله، لنخرج الزكاة أولاً.
وأخذ الدفاتر وأشعل فانوسًا صغيرًا جاء به معه وراح يراجع الدفاتر ويحسب، وكان ماهرًا في الحساب، خبيرًا بإمساك الدفاتر، فأحصى الأموال، وحسب زكاتها، فنحى مقدار الزكاة جانبًا، واستغرق في الحساب، حتى مضت ساعات، فنظر فإذا هو الفجر فقال: تقوى الله تقضى بالصلاة أولا، وخرج إلى صحن الدار فتوضأ من البركة وأقام الصلاة، فسمع رب البيت فنظر فرأى عجبًا: فانوسًا مضيئًا! ورأى صندوق أمواله مفتوحًا، ورجلا يقيم الصلاة فقالت له امرأته: ما هذا؟ قال: والله لا أدري، ونزل إليه فقال: ويلك من أنت وما هذا؟ قال اللص: الصلاة أولا ثم الكلام فتوضأ ثم تقدم فصل بنا، فإن الإمامة لصاحب الدار، فخاف صاحب الدار أن يكون معه سلاح، ففعل ما أمره، والله أعلم كيف صلى، فلما قضيت الصلاة قال له: خَبِّرْني من أنت وما شأنك؟ قال: لص، قال: وماذا تصنع بدفاتري؟ قال: أحسب الزكاة التي لم تخرجها من ست سنين، وقد حسبتها وفرزتها لتضعها في مصارفها. فكاد الرجل يجن من العجب وقال له: ويلك، ما خبرك هل أنت مجنون؟ فخبَّرَه خبرَه كله، فلما سمعه التاجرُ ورأى ضَبْطَ حسابه، وصِدْقَ كلامه، وفائدة زكاة أمواله، ذهب إلى زوجته فكلَّمَها، وكان له بنت، ثم رجع إليه فقال له: ما رأيك لو زَوَّجْتُك بنتي وجعلتُك كاتبًا وحاسبًا عندي، وأسكنتُك أنت وأمك في داري، ثم جعلتُك شريكي؟ قال: أقبل. وأصبح الصباح فدعا المأذون بالشهود وعقد العقد ([34]) .
28- لصٌّ حَوَّلَه الإسلام إلى شهيد
كان مالك بن الرَّيب من مازن تميم، وكان لصاً يقطع الطريق مع شظاظ الضبّي الذي يضرب به المثل فيقال: اللص من شظاظ، عاش عمره كله يغني بسنانه للحرب، لا يعمل لوصال الأحبة، وسلب القلوب، ولكن يعمل لقطع الطرق، وسلب القوافل، ولما ولى معاوية بن أبي سفيان سعيد بن عثمان بن عفان إمارة خراسان، سار فيمن معه فأخذ طريق فارس، فلقيه بها مالك بن الريب، وكان مالك فيما ذكر من أجمل العرب جمالا وأبينهم بيانًا، فلما رآه سعيد أعجبه، ومالك في نفر من أصحابه، فقال: ويحك يا مالك! ما الذي يدعوك إلى ما يبلغني عنك من العداء وقطع الطريق؟ قال: أصلح الله الأمير! العجز عن مكافأة الإخوان([35]) .
قال: فإن أغنيتك واستصحبتك، أتكف عما تفعل، وتتوب إلى الله توبة نصوحًا وتتبعني؟ قال: نعم، أصلح الله الأمير، أكف كفًا ما كف أحد أحسن منه. فاستصحبه وأجرى عليه خمسمائة دينار في كل شهر، وكان معه في جهاده كأعظم ما يكون المجاهدون في سبيل الله، حتى مات شهيدًا بخراسان.. طعن فسقط وهو بآخر رمق، فقال هذه القصيدة يرثي بها نفسه، ويذكر غربته وما كان من أمره، وهي أعظم قصيدة قالها شاعر في رثاء نفسه، عربي عاش عمره كله في جزيرته.. ما استمتع بحياته، ولا ناجى طيف ذكرياته، ولا انتشى برحيق آماله، لأنه لم يجد يوم راحة يخلو فيه إلى نفسه، فيحس لذة الأحلام وجمال التذكر وسحر الأمل، لينبثق في نفسه الشعر المخبوء في نفسه في الرمق الأخير من حياته، وها هو ذا الآن ملقى على صعيد غريب عنه، في بلاد لا يعرفها ولا تعرفه، ولا يألفها ولا تألفه؛ فهو يتذكر الآن (الآن فقط) بلده وأرضه ويدرك قيمة تلك النعم الجسام، ولا يدرك المرء قيمة النعم إلا بعد زوالها، وتثور في نفسه الأماني، فلا يتمنى إلا أن يبيت ليلة أخرى بجنب الغضى، وأن يسوق كرة أخرى أبله إلى المرعى، ويذكر كيف كان يزدري هذه النعمة التي يراها الآن عظيمة، واسمعوه الآن يقول هذا بألفاظه ورنته وقافيته الباكية:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة | ||
بجنب الغضى أزجي القلاص النواجيا | ||
فليت الغضى لم يقطع الركب عرضه | ||
وليت الغضى ماشي الركاب لياليا | ||
لقد كان في أهل الغضا (لودنا الغضا) | ||
مزار ولكن الغضى ليس دانيا | ||
ويلوم نفسه ويعجب منها كيف سوغت له أن يقبل بهذا النفي راضيًا مختارًا ويعجب من أبويه كيف لم ينهياه من عمل السوء، وما الذي جاء به إلى باب خراسان وقد كان نائيًا عنه:
ألم ترني بعت الضلالة بالهدى | ||
وأصبحت في جيش ابن عفان غازياً | ||
لعمري لئن غالت خراسان هامتي | ||
لقد كنت عن بابي خراسان نائياً | ||
فلله دري يوم أترك طائعًا | ||
بني بأعلى الرقمتين ومالياً | ||
ودرّ الظباء السانحات عشية | ||
يخبرن أني هالك من ورائيا | ||
ودر كبيري اللذين كلاهما | ||
عليّ شفيق ناصح لو نهانيا | ||
واسمعوه كيف يفتش عمن يبكي عليه فلا يجد أحدًا لا يجد من يبكيه إلا سيفه وفرسه
تذكرت من يبكي علي فلم أجد | ||
سوى السيف والرمح الرديني([36]) باكياً | ||
وأشقر خنذ يد([37]) يجر عنانه | ||
إلى الماء لم يترك له الدهر ساقياً | ||
أيها القارئ الحبيب، لقد مات مع مالك في تلك السفرة آلاف وآلاف، ولا يزال الناس قبله وبعده يموتون، فينساهم ذووهم، ويسلوهم أهلوهم، وهذا التائب المنيب لله سبحانه، والذي ترك قطع الطريق والسير في طريق الضلال والضياع والتيه، واستشهد في سبيل الله، جعلكم تذكرونه وتبكونه وأنتم لا تعرفونه، وهكذا من ترك شيئًا لله عوَّضه الله خيرًا منه، ولولا الإطالة لذكرت قصيدته التي تربو على خمسين بيتًا([38]) وهذه هي عظمة الشعر، وهذا هو خلود الشاعر.
29- ترك الحسد فكان من أهل الجنة
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا جلوسًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يَطْلُعُ عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنة». فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه قد تعلق نعليه في يده الشمال، فلما كان الغد قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضاً، فطلع ذلك الرجل على مثل حالته الأولى، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال: إني لاحيت أبي فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثًا، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت. قال: نعم، قال أنس: وكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل إلا شيئًا غير أنه إذا تعارَّ وتَقَلَّبَ على فراشه ذكر الله عز وجل وكَبَّر حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرًا. فلما مضت الثلاث ليال وكدت أن أحتقر عمله، قلت: يا عبد الله، إني لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجر ثم، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرار: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلعت أنت الثلاث مرات، فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي به، فلم أرك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ما هو إلا ما رأيت. فلما وَلَّيْتُ دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشًّا، ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إياه، فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق ([39]) .
30- الموعد في جنات النعيم
ذكر المبرّد عن أبي كامل عن إسحاق بن إبراهيم عن رجاء بن عمرو النخعي قال: كان بالكوفة فتى جميل الوجه شديد التعبد والاجتهاد فنزل في جوار قوم من النخع، فنظر إلى جارية منهن جميلة فهويها وهام بها عقله، ونزل بالجالية ما نزل به، فأرسل يخطبها من أبيها فأبخره أبوها أنها مسماة لابن عم لها، فلما اشتد عليهما ما يقاسيانه من ألم الهوى أرسلت إليه الجارية: قد بلغني شدة محبتك لي وقد اشتد بلائي بك، فإن شئت زرتك، وإن شئت سهلت لك أن تأتيني إلى منزلي، فقال للرسول: ولا واحدة من هاتين الخلتين ﴿إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الأنعام: 15]، أخاف نارًا لا يخبو سعيرها، ولا يخمد لهيبها. فلما أبلغها الرسولُ قولَه قالت: وأراه مع هذا يخاف الله؟ والله ما أحد أحق بهذا من أحد، وإن العباد فيه لمشتركون، ثم انخلعت من الدنيا، وألقت علائقها خلف ظهرها وجعلت تتعبد، وهي مع ذلك تذوب وتنحل حبًا للفتى وشوقًا إليه حتى ماتت من ذلك، فكان الفتى يأتي قبرها فيبكي عنده ويدعو لها، فغلبته عينه ذات يوم على قبرها فرآها في منامه في أحسن منظر فقال: كيف أنت وما لقيت بعدي؟
قالت:
نعم المحبة يا سُؤلي محبتكم | ||
حب يقود إلى خير وإحسان | ||
فقال: على ذلك إلام صرت؟ فقالت:
إلى نعيم وعيش لا زوال له | ||
في جنة الخلد ملك ليس بالفاني | ||
فقال لها: اذكريني هناك؛ فإني لست أنساك. فقالت: ولا أنا والله أنساك، ولقد سألت مولاي ومولاك أن يجمع بيننا فأعنِّي على ذلك بالاجتهاد. فقال لها: متى أراك؟ فقالت: ستأتينا عن قريب فترانا. فلم يعش الفتى بعد الرؤيا إلا سبع ليال حتى مات رحمه الله تعالى.
31- الصفقة الرابحة
الصحابةُ- رضوان الله عليهم- قَدَّمُوا البذلَ والتَّضْحية والفداء من أجل هذا الدِّين العظيم، فكانوا نعم الأنصار له، وخير المجاهدين في سبيله، حين استلهموا الإسلام واقعًا يطبقونه في السلوك وشعورًا يحسونه في الضمير، فأخلصوا له حق الإخلاص، وفدوه بكل عال ونفيس؛ فقد دعاهم إلى الهجرة فانطلقوا سراعًا وتركوا مكة وفي قلوبهم حنين، وفي نفوسهم لوعة، مؤثرين العقيدة على مواقع الصبا ومرابع الطفولة، ومواطن الذكريات والحنين، ودعاهم داعي الجهاد فكانوا الفرسان الأشاوس الذين يرتاع منهم الروع، وهاجروا إلى الله ورسوله مسجلين أخلد الأمثلة الرائعة في مجال الفداء والتضحية والإيمان العميق الحق، ولنستمع إلى هذه القصة:
لما أقبل صهيب مهاجرًا نحو النبي صلى الله عليه وسلم وتبعه نفر من قريش وقالوا له: أتيتنا صعلوكًا ثم أصبت بين أظهرنا المال، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج أنت ومالك! والله لا يكون ذلك. فنزل عن راحلته وانتشل ما في كنانته ثم قال: يا معشر قريش، لقد علمتم أني من أرماكم رجلاً، وأيم الله لا تصلون إليَّ حتى أرمي بكل سهم معي في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، افعلوا ما شئتم. ثم قال صهيب: أرأيت إن جعلت لكم مالي، أَتُخَلِّون أنتم سبيلي؟ قالوا: نعم، فخلع لهم ماله، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قال: «ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى». ونزلت: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 207] ([40]) .
32- الرأي والصرف مجانًا
بينما رجل يمشي في الصحراء إذا به يسمع صوتًا من السماء: اسق حديقة فلان. فتنحي ذلك السحاب، فأفرغ ماءه في حرّة ([41]) ، فإذا شرجة ([42]) من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله، فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته فقال له: يا عبد الله! ما اسمك؟ قال: فلان. للاسم الذي سمع في السحابة، فقال له: يا عبد الله! لم تسألني عن اسمي؟ فقال: إني سمعت صوتًا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلان، لاسمك! فما تصنع فيها؟ قال: أما إذا قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثًا، وأَرُدُّ فيها ثلثه. وفي رواية: وأجعل ثلثه في المساكين والسائلين وابن السبيل([43]) .
وهكذا أيها المسلم، من ترك رذيلة البخل والشح عوِّض خيرًا كثيرًا.
33- درس في الإيثار
ذكر عن الواقدي أنه قال: أضقت إضاقة شديدة وهجم شهر رمضان، وأنا بغير نفقة، فضاق ذرعي بذلك، فكتبتُ إلى صديق لي علوي، أسأله أن يقرضني ألف درهم، فبعث إليَّ بها في كيس مختوم فتركتها عندي، فلما كان عشي ذلك اليوم، وردت علي رقعة صديق لي يسألني إسعافه لنفقة شهر رمضان بألف درهم، فوجهت إليه بالكيس بخاتمه، فلما كان في الغد جاءني صديقي الذي اقترض مني، والعلوي الذي اقترضت منه، فسألني العلوي عن خبر الدراهم فقلت: صرفتها في مهم.
فأخرج الكيس بختمه وضحك وقال: والله قد قرب هذا الشهر، وما عندي إلا هذه الدراهم، فلما كتبت إليَّ، وجهت بها إليك، وكتبت إلى صديقنا هذا أقترض منه ألف درهم، فوجه إليَّ بالكيس فسألته عن القصة فشرحها، وقد جئناك لنقتسمها وإلى أن ننفقها يأتي الله بالفرج.
قال الواقدي: فقلت لهما: لست أدري أيّنا أكرم، فقسمناها ودخل شهر رمضان، فأنفقت أكثر ما حصل منها وضاق صدري وجعلت أفكر في أمري، فبينما أنا كذلك إذ بعث إليَّ يحيى بن خالد البرمكي في سحرة يوم فصرت إليه، فقال: يا واقدي، رأيتك البارحة فيما يرى النائم، وأنت على حال دلتني على أنك في غمٍّ شديد وأذى، فاشرح لي أمرك. فشرحته، إلى أن بلغت حديث العلوي وصديقي والألف درهم، فقال: ما أدري أيكم أكرم. وَأَمَرَ لي بثلاثين ألف درهم، ولهما بعشرين، وقَلَّدَني القضاء([44]) .
34- أعطَى درهمًا فوهب الله له مائة وعشرين ألفًا
عن الفضيل بن عياض([45]) قال: حدثني رجل أن رجلاً خرج بغزل، فباعه بدرهم ليشتري به دقيقًا، فَمَرَّ على رجلين، كلُّ واحد منهم آخذٌ برأس صاحبه، فقال: ما هذا؟ فقيل: يقتتلان في درهم. فأعطاهما ذلك الدرهم، وليس له شيء غيره، فأتى إلى امرأته فأخبرها بما جرى له فجمعت له أشياء من البيت فذهب لبيعها فكسدت عليه، فمر على رجل ومعه سمكة قد أروحت ([46]) .
فقال له: إن معك شيئًا قد كسد، ومعي شيء قد كسد، فهل لك أن تبيعني هذا بهذا؟ فباعه، وجاء الرجل بالسمكة إلى البيت، وقال لزوجته: قومي فأصلحي أمر هذه السمكة؛ فقد هلكنا من الجوع. فقامت المرأة تصلحها، فشقت جوف السمكة فإذا هي بلؤلؤة قد خرجت من جوفها. فقالت المرأة: يا سيدي قد خرج من جوف السمكة شيء أصغر من بيض الدجاج وهو يقارب بيض الحمام.
فقال: أريني. فنظر إلى شيء ما رأى في عمره مثله، فطار عقله، وحار لُبُّه، فقال لزوجته: هذه أظنُّها لؤلؤة. فقالت: أتعرف قدر اللؤلؤ؟ قال: لا، ولكني أعرف من يعرف ذلك. ثم أخذها وانطلق بها إلى أصحاب اللؤلؤ إلى صديق له جوهري فسلَّم عليه، فردَّ عليه السلام وجلس إلى جانبه يتحدث وأخرج تلك البيضة وقال: انظر كم قيمة هذه. قال: فنظر زمانًا طويلا، ثم قال: لك بها عليَّ أربعون ألفًا، فإن شئت أقبضتك المال الساعة، وإن طلبت الزيادة فاذهب بها إلى فلان، فإنه أثمن بها لك مني.
فذهب بها إليه فنظر إليها واستحسنها وقال: لك بها عليَّ ثمانون ألفًا، وإن شئت الزيادة فاذهب بها إلى فلان؛ فإنِّي أراه أثمن بها لك مني. فذهب بها إليه، فقال: لك بها عليَّ مائة وعشرون ألفًا، ولا أرى أحدًا يزيدك فوق ذلك شيئًا. فقال: نعم، فوزن له المال، فحمل الرجل في ذلك اليوم اثنتي عشرة بدرة، في كل بدرة عشرة آلاف درهم، فذهب بها إلى منزله ليضعها فيه، فإذا فقير واقف بالباب يسأل، فقال: هذه قصتي التي كنت عليها أدخل. فدخل الرجل فقال: خذ نصف هذا المال، فأخذ الرجل الفقير ست بدر فحملها ثم تباعد غير بعيد ورجع إليه وقال: ما أنا بمسكين ولا فقير؛ وإنما أرسلني إليك ربك عز وجل الذي أعطاك بالدرهم عشرين قيراطًا؛ فهذا الذي أعطاك قيراطاً منه وذخر لك تسعة عشر قيراطًا ([47]) .
35- جزاء الطاعة
عن حميد بن هلال عن رجل قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو يريني بيتًا فقال: إن امرأة كانت فيه فخرجت في سرية من المسلمين، وتركت ثنتي عشرة عنزًا وصيصيتها كانت تنسج بها، قال: ففقدت عنزًا من غنمًا وصيصيتها، فقالت: يا رب، إنك قد ضمنت لمن خرج في سبيلك أن تحفظ عليه، وإني قد فقدت عنزًا من غنمي وصيصيتها وإني أنشدك عنزي وصيصيتي، قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر شدة مناشدتها ربها تبارك وتعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأصبحت عنزها ومثلها، وصيصيتها ومثلها، وهاتيك فائتها». قال: فقلت: بل أصدقك ([48]) .
36- جزاء الصبر
وعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: مات ابن لأبي طلحة من أم سلمة، فقالت لأهلها لا تحدثوا أبا طلحة حتى أكون أنا أحدثه، قال: فجاء فقربت إليه عشاء فأكل وشرب، قال: ثم تصنعت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك، فوقع بها أنه قد شبع وأصاب منها، قالت: يا أبا طلحة، أرأيت لو أن قومًا أعاروا عاريتهم أهل بيت، فطلبوا عاريتهم، ألهم أن يمنعوا؟ قال: لا، قالت: فاحتسب ابنك، قال: تركتيني حتى تلطخت ثم أخبرتيني بابني مني، فانطلق حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بارك الله لكما في غابر ليلتكما». قال: فحملت فولدت غلامًا، فقال لي أبو طلحة: احمله حتى تأتي به النبي صلى الله عليه وسلم. وبعثت به بتمرات، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أمعه شيء؟» قالوا: نعم، تمرات. فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم فمضغها ثم أخذها من فيه فجعلها في فيّ الصبي، ثم حنَّكه وسماه عبد الله.. خرَّجاه في الصَّحيحين ([49]) .
وفي رواية البخاري قال سفيان بن عيينة: فقال رجل من الأنصار: فرأيت لهم تسعة أولاد كلهم قد قرأ القرآن. يعني من أولاد عبد الله الذي ولد من جماع تلك الليلة التي مات فيها الولد المذكور؛ وهو أبو عمير الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يداعبه ويقول: «يا أبا عمير ما فعل النغير؟»
وفي رواية ([50]) : قال: فحملت بابن له فسمَّاه عبد الله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل صبارة بني إسرائيل». فقيل: يا رسول الله، وما كان خبرها؟ فقال: «كان في بني إسرائيل امرأة وكان لها زوج وكان لها منه غلامان، وكان زوجها أمرها بطعام تصنعه ليدعو الناس عليه ففعلت واجتمع الناس في داره، فانطلق الغلامان يلعبان فوقعا في بئر كانت في الدار، فكرهت أن تُنَغِّصَ على زوجها الضيافةَ، فَأَدْخَلَتْهُما البيت وسجتهما بثوب، فلما فرغوا دخل زوجها فقال: أين أبنائي؟ قالت: هما في البيت، وإنها كانت تمسحت بشيء من الطيب وتعرضت بالرجل حتى وقع عليها، ثم قال: أين أبنائي؟ قالت: هما في البيت. فناداهما أبوهما فخرجا يسعيان فقالت المرأة: سبحان الله، والله لقد كانا ميتين، ولكن الله تعالى أحياهما ثوابًا لصبري».
37- السخاء نقاء
عن رجل من قريش، قال: حج محمد بن المنكدر([51]) من بني تيم بن مرة، قال: وكان معطاء فأعطى حتى بقي في إزار واحد وحج معه أصحابه، فلما نزل الروحاء أتاه وكيله، فقال: ما معنا نفقة وما بقي معنا درهم، فرفع محمد صوته بالتلبية فلبي ولبى أصحابه ولبى الناس وبالماء محمد بن هشام ([52]) . فقال: والله إني لأظن أن محمد بن المنكدر بالماء فانظروا، فنظروا وأتوه فقالوا: هو بالماء . فقال: ما أظن معه درهماً، احملوا إليه أربعة آلاف درهم.
38- الانتقال من المحنة إلى المنحة بسبب الصدق
عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب بن مالك- وكان قائد كعب من بنيه حين عمي- قال: سمعت كعب بن مالك يحدث حين تخلف عن قصة تبوك، قال كعب لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك، غير أني كنت تخلفت في غزوة بدر، ولم يعاتب أحدًا تخلف عنها، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها.
كان من خبري أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر حين تخلفت عنه في تلك الغزاة، والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد واستقبل سفرًا بعيدًا ومفازًا، وعدوًا كثيرًا، فجلى للمسلمين بوجهه الذي يريد والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ- يريد الديوان- قال كعب: فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن سيخفي له، ما لم ينزل فيه وحي الله.
وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع، ولم أقض شيئاً فأقول في نفسي: أنا قادر عليه. فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئًا، فقلت: أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحقهم. فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض شيئًا ثم غدوت ثم رجعت ولم أقض شيئًا فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو وهممت أن أرتحل فأدركهم وليتني فعلت، فلم يقدر لي ذلك، فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت فيه أحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصًا عليه النفاق، أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك: ما فعل كعب؟ فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله حبسه برداه ونظره في عطفه، فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرًا. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال كعب بن مالك، فلما بلغني أنه توجه قافلا حضرني همي وطفقت أتذكر الكذب وأقول: بماذا أخرج من سخطه غدًا؟ واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي. فلما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادمًا زاح عني الباطل، وعرفت أني لن أخرج منه أبدًا بشيء فيه كذب فأجمعت صدقه، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادمًا، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون، فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له- وكانوا بضعة وثمانين رجلا- فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله، فجئته، فلما سلمت عليه تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المغضب ثم قال: تعال. فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي: ما خَلَّفَك؟ ألم تكن قد اتبعت ظهرك؟ فقلت: بلى، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عفو الله، لا والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك». فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبًا قبل هذا ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المتخلفون، قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك، فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي. ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم، رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك، فقلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العمري وهلال بن أمية الواقفي، فذكروا رجلين قد شهدا بدرًا فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما لي، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا، حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحد وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا؟ ثم أصلي قريبًا منه فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إلي وإذا التفت نحوه أعرض عني. حتى إذا طال علي ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحب الناس إلي، فسلمت عليه، فوالله ما ردّ السلام فقلت: يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت. فعدت له فنشدته فسكت، فعدت له فنشدته فقال: الله ورسوله أعلم. ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسورت الجدار قال: فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له، حتى إذا جاءني دفع إليَّ كتابًا من ملك غسان فإذا فيه: أما بعد فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالْحَقْ بنا نواسك، فقلت لما قرأتها: وهذا أيضًا من البلاء، فتيممت بها التنور فسجرته بها، حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك. فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا، بل اعتزلها ولا تقربها. وأرسل إلى صاحبي مثل ذلك. فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فتكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر. قال كعب: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع، ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: لا، ولكن لا يقربك قالت: إنه والله ما به حركة إلى شيء، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا، فقال لي بعض أهلي لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه.
فقلت: والله لا استأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدريني ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته فيها، وأنا رجل شاب فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا، فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله قد ضاقت عليَّ نفسي، وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت، سمعت صوت صاروخ أوفى على جبل سلع بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر. قال فخررت ساجدًا وعرفت أن قد جاء فرج، وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا وذهب قبل صاحبي مبشرون وركض إلي رجل فرسًا وسعى ساع من أسلم فأوفى على الجبل وكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوته إياهما يبشراه، والله ما أملك غيرهما يومئذ واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتلقاني الناس فوجًا فوجًا يهنوني بالتوبة يقولون: لتهنك توبة الله عليك. قال كعب: حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس، فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهناني، والله ما قام إليَّ رجل من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة، قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبرق وجهه من السرور: «أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك». قال: قلتُ أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: بل من عند الله. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه، فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله إن من توبتي أن انخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك»، قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخير. فقلت: يا رسول الله، إن الله إنما نجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقًا ما بقيت، فوالله ما أعلم أحدًا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذبًا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت. وأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ﴾... إلى قوله: ﴿وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 117].
فوالله ما أنعم الله عليَّ من نعمة قط- بعد أن هداني للإسلام- أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا؛ فإن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد؛ فقال تبارك وتعالى: ﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ﴾ إلى قوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة: 95] قال كعب: وكنا تخلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه، فبذلك؛ قال الله: ﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾ وليس الذي ذكر الله ما خلفنا عن الغزوة؛ إنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه([53]) .
39- ترك الحرام فخرج من جسده المسك
كان هناك شابًا يبيع البز (القماش) ويضعه على ظهره ويطوف بالبيوت ويسمونه (فَرَقْنا) وكان مستقيم الأعضاء جميل الهيئة، من رآه أحبه لما حباه الله من جمال ووسامة زائدة على الآخرين، وفي يوم من الأيام وهو يمر بالشوارع والأزقة والبيوت رافعًا صوته "فرقنا" إذ أبصرته امرأة فنادته فجاء إليها، وأمرته بالدخول إلى داخل البيت وأعجبت به وأحبته حبًا شديدًا، وقالت له: إنني لم أدعوك لأشتري منك.. وإنما دعوتك من أجل محبتي لك ولا يوجد في الدار أحد. ودعته إلى نفسها فذكَّرها بالله وخوَّفها من أليم عقابه.. ولكن دون جدوى؛ فما يزيدها ذلك إلا إصرارًا. وأحب شيء إلى الإنسان ما منعها.. فلما رأته ممتنعًا من الحرام قالت له: إذا لم تفعل ما آمرك به صحتُ في الناس وقلت لهم: دخل داري ويريد أن ينال من عفَّتي. وسوف يصدق الناس كلامي لأنك داخل بيتي. فلما رأى إصرارها على الإثم والعدوان، قال لها: هل تسمحين لي بالدخول إلى الحمام من أجل النظافة. ففرحت بما قال فرحًا شديدًا.. وظنت أنه قد وافق على المطلوب.. فقالت: وكيف لا يا حبيبي وقرة عيني.. إن هذا لشيء عظيم.
ودخل الحمام وجسده يرتعش من الخوف والوقوع في وحل المعصية.. فالنساء حبائل الشيطان وما خلى رجل بامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما.. يا إلهي ماذا أعمل دلني يا دليل الحائرين وفجاءة جاءت في ذهنه فكرة فقال: أنا أعلم جيدًا: إن من الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله وأعلم: إن من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه.. ورب شهوة تورث ندمًا إلى آخر العمر، وماذا سأجني من هذه المعصية غير أن الله سيرفع من قلبي نور الإيمان ولذته.. لا.. لا.. لن أفعل الحرام.. ولكن ماذا سأفعل؟ هل أرمي نفسي من النافذة؟ لا أستطيع ذلك.. فإنها مغلقة جدًا ويصعب فتحها.. إذا سألطخ جسدي بهذه القاذورات والأوساخ؛ فعلها إذا رأتني على هذه الحال تركتني وشأني.. وفعلا صمم على ذلك الفعل الذي تتقزز منه النفوس.. مع أنه يخرج من النفوس! ثم بكى وقال: رباه إلهي وسيدي، خوفك جعلني أعمل هذا العمل.. فأخلف علي خير.. وخرج من الحمام فلما رأته صاحت به: اخرج يا مجنون؟ فخرج خائفًا يترقب من الناس وكلامهم وماذا سيقولون عنه.. وأخذ متاعه والناس يضحكون عليه في الشوارع حتى وصل إلى بيته وهناك تنفس الصعداء وخلع ثيابه ودخل الحمام واغتسل غسلا حسنًا ثم ماذا؟ هل يترك الله عبده ووليه هكذا.. لا أيها الأحباب.. فعندما خرج من الحمام عوضه الله شيئًا عظيمًا بقي في جسده حتى فارق الحياة وما بعد الحياة. لقد أعطاه الله سبحانه رائحة عطرية زكية فواحة تخرج من جسده.. يشمها الناس على بعد عدة مترات وأصبح ذلك لقبًا له.. "المسكي"؛ فقد كان المسك يخرج من جسده.. وعوضه الله بدلا من تلك الرائحة التي ذهبت في لحظات رائحة بقيت مدى الوقت.. وعندما مات ووضعوه في قبره كتبوا على قبره: هذا قبر المسكي وقد رأيته.
وهكذا أيها الإنسان المسلم.. الله سبحانه لا يترك عبده الصالح هكذا.. بل يدافع عنه؛ إن الله يدافع عن الذين آمنوا.. الله سبحانه يقول: «ولئن سألني لأعطينه».. فأين السائلين!
- أيها العبد المسلم:
من كل شيء إذا ضيعته عوض | ||
وما من الله إن ضيعته عوض | ||
الله سبحانه يعطي على القليل الكثير؛ فأين الذين يتركون المعاصي ويُقبلون على الله حتى يعوضَهم خيرًا مما أخذ منهم؟!
ألا يستجيبون لنداء الله ونداء رسوله ونداء الفطرة.. يا ليت.
40- رمي من أعلى القلعة أولا وثانيًا فنجا سالمًا
حكى الشريف أبو الحسن محمد بن عمر العلوي ([54]) قال: لما كنت محبوسًا بقلعة خست بنواحي نيسابور من فارس حين حبسني عضد الدولة بها، كان صاحب القلعة الذي أسلمت إليه يؤنسني بالحديث، فحدثني يومًا أن هذه القلعة كانت في يد رجل كان راعيًا بهذه البلاد ثم صار قائدًا واحتوى عليها، فصارت معقلا، وانضم إليه اللصوص، فصار يُغير بهم على النواحي فيخرجون ويقطعون الطريق وينهبون القرى ويفسدون ويعودون إلى القلعة، فلا تمكن فيهم حيلة، إلى أن قصدهم أبو الفضل أبو العميد، وحاصرهم مدة وافتتحها وسلمها إلى عضد الدولة، قال: فكان في محاصرة أبي الفضل لهم ربما نزلوا وحاربوه، فظفر منهم في وقعة كانت بينه وبينهم بنحو خمسين رجلا، فأراد قتلهم قتلة يرهب بها من في القلعة.
قال: وهي على جبل عظيم، حياله بالقرب من جبل آخر وعليه نزل أبو الفضل، فأمر بالأسارى فرمي بهم من رأس الجبل الذي عليه القلعة فيصل الواحد منهم إلى الأرض قطعًا قد قطعته الأضراس الخارجة في الجبل والحجارة، ففعل ذلك بجميعهم حتى بقي غلام بدأ ينبت شعر وجهه، فلما طرح وصل إلى الأرض سالمًا، فلما لحقه مكروه، وقد تقطع حبل كتافه، فقام الغلام يمشي في قيده طالبًا الخلاص، فكبر الديلم وأهل عسكر أبي الفضل استعظاماً للصورة وكيف نجا، وكَبَّرَ أهل القلعة، فاغتاظ أبو الفضل وأمر برد الغلام، فنزل من جاء به فأمر أن يكتف ويرمي ثانية، فسأله من حضر أن يعفو عن الخلاف فلم يفعل، وألحوا عليه فحلف أنه لا بد أن يطرحه ثانية، فأمسكوا عن الكلام، وطرح الغلام، فلما بلغ الأرض قام يمشي سالمًا وارتفع من التكبير والتهليل أضعاف ما ارتفع أولا، فقال الحاضرون هل بعد هذا شيء؟ وسألوه العفو عنه وبكى بعضهم، فاستحى أبو الفضل وعجب، وقال: ردوه آمنًا. فردوه، فأمر بقيوده ففكت وبثياب فطرحت عليه، وقال له: اصدقني عن سريرتك مع الله عز وجل التي نجاك بها هذه النجاة. فقال: ما أعلم لي حالا توجب هذا إلا أني كنت غلامًا أمردًا مع أستاذي فلان الذي هو أحد من قتل الساعة، وكان يخرجني معه فنقطع الطريق ونخيف السبيل ونقتل الأنفس وننهب الأموال، ونهتك الحرم ونفجر بهن، ونأخذ كل ما نجد.. وإذا لم أفعل ما يأمرني به فإنه يؤذيني ويقتلني. فقال له أبو الفضل: هل كنت تصوم وتصلي؟ قال: ما كنت أعرف الصلاة، ولا صمت قط ولا فينا مَن يصوم.
فقال له: ويلك، فما هذا الأمر الذي نجَّاك الله به؟! فهل كنت تتصدق؟ قال: ومن كان يجيئنا حتى نتصدق عليه؟ قال: فَفَكِّرْ، واذْكُرْ شيئًا إن كنتَ فَعَلْتَهُ لله وإن قل.. ففكر الغلام ساعة ثم قال: نعم، سَلَّمَ إليَّ أستاذي منذ سنين رجلاً كان أَسَرَه في بعض الطرقات بعد أن أخذ جميع ما معه وصعد به إلى القلعة، وقال له: اشتر نفسك بمال تستدعيه من بلادك وأهلك وإلا قتلتك. فقال الرجل: ما أملك من الدنيا كلها غير ما أخذته مني. فعذَّبَه أيَّامًا وهو لا يذعن بشيء، ثم جد به يومًا في العذاب جدًا شديدًا فحلف الرجل بالله تعالى وبالطلاق وبأيمان غليظة أنه لا يملك من الدنيا إلا ما أخذه منه، وأنه ليس له في بلده إلا نفقة جعلها لعياله قَدْرُها نفقة شهر، إلى أن يعود إليهم، وأن الصدقة الآن تحل له ولهم.
واستسلم الرجل للموت، فلما وقع في نفس أستاذي أنه صادق قال: انزل به، وامض إلى الموقع الفلاني فاذْبَحْه، وجئني برأسه. فأخذت الرجل وحدرته من القلعة، فلما رآني أَجُرُّه قال لي: إلى أين تمضي بي؟ وأيُّ شيء تريد مني؟ فعرفه ما أمرني به أستاذي، فجعل يبكي بكاء شديدًا ويلطم ويتضرع ويسألني أن لا أفعل، ويناشدني الله عز وجل، وذكر لي أن له بناتاً أطفالاً لا كادَّ لهم وكاسب سواه، وخَوَّفَني بالله عز وجل وما جعل من الجزاء لمن فَرَّجَ عن مسلم كربة من كرب الدنيا، وسألني أن أُطْلِقَه، فأوقع الله تعالى رحمة له في قلبي، فقلت له: إن لم أرجع إليه برأسك قتلني، ولحقك فقتلك. فقال: يا هذا أطلقني أنت، ولا تعد إلى صاحبك إلا بعد ساعة وأعدو أنا فلا يلحقني وإن لحقني كنت أنت قد برأت من دمي وصاحبك لا يقتلك مع محبته لك فتكون قد أجرت فيَّ.. والله لا يضيع أجر من أحسن عملا. فازدادت رحمتي له، فقلت له خذ حجرًا فاضرب به رأسي، حتى يسيل دمي، وأجلس ههنا حتى أعلم أنك قد صرت على فراسخ ثم أعود أنا إلى القلعة. فقال: لا أستحسن أن أكافئك على خلاصي بأن أشجعك، فقلت: لا طريق إلى خلاصك وخلاص نفسي إلا هكذا.
ففعل وتركني وطار عدواً، وجلستُ في موضعي حتى وقع لي أنه صار على فراسخ كثيرة، وجئت إلى أستاذي غريقًا بدمائي. فقال: ما بالك، وأين الرأس؟ فقلت: سلمت إليَّ شيطانًا، لا رجلا، ما هو إلا أن حصل معي في الصحراء حتى صارعني، فطرحني إلى الأرض وشدخني بالحجارة كما ترى، وطار يعدو فغشي علي، فمكثت في موضعي إلى الآن، فلما رقأ دمي ([55]) ورَجَعَتْ قوتي جئتك. فأنزل خلقًا وراءه، فعادوا من غد، وفتشوا فما وقفوا له على أثر.
فإن يكن الله تعالى قد خَلَّصَني لشيء فعلتُه فلهذا..
قال: فجعله أبو الفضل في مرافقيه المقربين منه واصطنعه لنفسه.
41- تَرَكَ الغناءَ فَعَوَّضَه اللهُ الهدايةَ والإيمانَ
الدُّولُ الكافرةُ عمومًا سواء الأوروبية أم الغربية أم الشرقية تعيش في شقاء.. نعم والله هذه هي الحقيقة.. لأن القلب الذي هو ملك الأعضاء.. السعادة والنعيم والعذاب والجحيم فيه.. لا تغتر بنعيمهم؛ فجسومهم في جنة وقلوبهم في نار؛ هذه هي الحقيقة.
ولذلك فإن الإنسان الكافر يعيش في ضيق ونكد؛ كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾، أتدري ما هو الضنك يا عبد الله؟ إنَّه العذاب الداخلي، إنَّه الحسرة والضيق والنهاية .. الانتحار.. وهذه الدولة الإسكندنافية لما رأت كثرة الانتحارات قالت: نضع لهم منحرًا ينتحرون فيه؛ حتى نستفيد من دمهم للمرضى والمصابين.. وإليك أيها الأخ المسلم الحبيب قصة شاب ترك بهجة الدنيا وضجيجها ومغرياتها وأقبل قلبه على الله فانشرح وانفسح.
إليك أيها المسلم قصة من ترك الغناء وما يصاحبه من شرب الخمور وارتكاب الفواحش والآثام ورقص الديسكو والمزامير بأنواعها.. إنه الإنسان الذي دخل الإيمان قلبه فوجد فيه الهناء والطمأنينة، وجد فيه الراحة والسكينة، وجد فيه الرِّفْعَةَ والعِزَّةَ، وجد فيه الخير والصلاح والفلاح.. إنها قصة المطرب البريطاني الذي ضربت شهوته الآفات "كات ستيفنز" الذي أصبح اسمه فيما بعد "يوسف إسلام" ها هو يرويها بنفسه وما أجمل حديث النفس عن النفس بصدق.. ها هو يرويها بهذه السطور البليغة التعبير البالغة التأثير فيقول([56]):
ولدتُ في لندن قلب العالم الغربي، ولدت في عصر التلفزيون وارتياد الفضاء ولدت في عصر وصلت في التكنولوجيا إلى القمة في بلد معروف بحضارته في بريطانيا، ترعرعت في هذا المجتمع وتعلمت في مدرسة "كاثوليكية"؛ حيث علمتني المفهوم المسيحي (النصراني) للحياة والعقيدة، وعرفت ما يفترض أن أعرفه عن الله، وعن المسيح عليه السلام والقدر والخير والشر، حدثوني كثيرًا عن الله، وقليلا عن المسيح، وأقل من ذلك عن الروح القدس. كانت الحياة حولي مادية تنصب من كل أجهزة الإعلام، حيث كانوا يعلموننا بأن الغنى هو الثروة الحقيقية والفقر هو الضياع الحقيقي، وأن الأمريكي هو المثل للغني، والعالم الثالث هو المثل للفقر والمجاعة والجهل والضياع!! ولذلك لا بد أن أختار طريق الغنى وأسلك مسلكه، لأعيش حياة سعيدة وأفوز بنعيم الحياة، ولهذا فقد بنيت فلسفة الحياة على ألا علاقة لها بالدين وانتهجت هذه الفلسفة لأدرك سعادة النفس.
وبدأت أنظر إلى وسائل النجاح، وكانت أسهل طريقة أن أشتري (جيتارًا) وأؤلف بعض الأغاني، وألحنها، وأنطلق بين الناس، وهذا ما فعلته بالفعل، باسم (كات ستيفنز) وخلال فترة قصيرة حيث كنت في الثامنة عشرة من عمري، كان لي ثمانية شرائط مسجلة، وبدأت أقدم الكثير من العروض، وأجمع الكثير من المال حتى وصلت إلى القمة!! وعندما كنت في القمة كنت أنظر إلى أسفل خوفًا من السقوط!! وبدأ القلق ينتابني، وبدأت أشرب زجاجة كاملة كل يوم، لأستجمع الشجاعة كي أغني، كنت أشعر أن الناس حولي يلبسون أقنعة ولا أحد يكشف عن وجهه القناع قناع الحقيقة!! كان لا بد من النفاق؛ حتى تبيع وتكسب، وحتى تعيش!!
وشعرت أن هذا ضلال، وبدأت أكره حياتي واعتزلت الناس وأصابني المرض، فنقلت إلى المستشفى مريضًا بالسل، وكانت فترة المستشفى خيرًا لي؛ حيث إنها قادتني إلى التفكير، كان عندي إيمان بالله، ولكن الكنيسة لم تعرِّفني ما هو الإله وعجزت عن إيصال حقيقة هذا الإله الذي تتحدث عنه!! كانت الفكرة غامضة وبدأت أفكر في طريقي إلى حياة جديدة، وكان معي كتب عن العقيدة والشرق، وكنت أبحث عن السلام والحقيقة، وانتابني شعور أن أتجه إلى غاية ما، ولكن لا أدرك كنهها ولا مفهومها.. ولم أقتنع أن أظل جالسًا خالي الذهن؛ بل بدأت أفكر وأبحث عن السعادة التي لم أجدها في الغنى، ولا في الشهرة، ولا في القمة، ولا في الكنيسة، فطرقت باب (البوذية والفلسفة الصينية) فدرستها وظننت أن السعادة هي أن نتنبأ بما يحدث في الغد حتى نتجنب شروره، فصرت قدريًا وآمنت بالنجوم، والتنبؤ بالطالع، ولكني وجدت ذلك كله هراء، ثم انتقلت إلى الشيوعية ظنًا مني أن الخير هو أن نقسم ثروات هذا العالم على كل الناس، ولكني شعرت أن الشيوعية لا تتفق مع الفطرة؛ فالعدل أن تحصل على عائد مجهودك ولا يعود إلى جيب شخص آخر، ثم اتجهت إلى تعاطي العقاقير المهدئة لأقطع هذه السلسلة القاسية من التفكير والحيرة، وبعد فترة أدركت أنه ليست هناك عقيدة تعطيني الإجابة، وتوضح لي الحقيقة التي أبحث عنها، ويئست؛ حيث لم أكن آنذاك أعرف شيئًا عن الإسلام فبقيت على معتقدي وفهمي الأول الذي تعلمته من الكنيسة؛ حيث أيقنت أن هذه المعتقدات هراء، وأن الكنيسة أفضل قليلا منها، عدت إليها ثانية وعكفت من جديد على تأليف الموسيقى وشعرت أنها هي ديني، ولا دين لي سواها!! وحاولت الإخلاص لهذا الدين؛ حيث حاولت إجادة التأليف الموسيقيِّ، وانطلاقًا من الفكر الغربي المستمد من تعاليم الكنيسة الذي يوحي للإنسان أنه قد يكون كاملا كالإله إذا أتقن عمله أو أخلص له وأحبه!!
وفي عام 1975م حدثت المعجزة بعد أن قدم لي شقيقي الأكبر نسخة من القرآن الكريم هدية، وبقيت معي هذه النسخة حتى زرت القدس في فلسطين ومن تلك الزيارة بدأت أهتم بذلك الكتاب الذي أهدانيه أخي، والذي لا أعرف ما بداخله وماذا يتحدث عنه، ثم بحثت عن ترجمة للقرآن الكريم بعد زيارتي للقدس، وكانت المرة الأولى التي أفكر فيها عن الإسلام؛ فالإسلام في نظر الغرب يعتبر عنصريًا عرقيًا، والمسلمون أغراب أجانب؛ سواء كانوا عربًا أو أتراكًا، ووالديَّ كانا من أصل يوناني، واليوناني يكره التركي المسلم؛ لذلك كان من المفروض أن أكره القرآن الذي يدين به الأتراك بدافع الوراثة، ولكني رأيت أن أطلع عليه؛ أي على ترجمته فلا مانع من أن أرى ما فيه، ومن أول وهلة شعرت أن القرآن يبدأ بـ (بسم الله) وليس باسم غير الله، وعبارة بسم الله الرحمن الرحيم كانت مؤثرة في نفسي، ثم تستمر الفاتحة فاتحة الكتاب: (الحمد لله رب العالمين) كل الحمد لله خالق العالمين ورب المخلوقات.
وحتى ذلك الوقت كانت فكرتي ضئيلة على الإله، حيث كانوا يقولون لي: إن الله الواحد مقسم إلى ثلاثة كيف؟ لا أدري.
وكانوا يقولون لي أن إلهنا ليس إله اليهود.. !! أما القرآن الكريم فقد بدأ بعبادة الله الواحد رب العالمين جميعًا، مؤكدًا وحدانية الخالق، فليس له شريك يقتسم معه القوة، وهذا أيضًا مفهوم جديد، ثم كنت أفهم قبل معرفتي بالقرآن الكريم أن هناك مفهوم الملائمة والقوى القادرة على المعجزات، أما الآن فبمفهوم الإسلام، الله وحده هو القادر على كل شيء.
واقترن ذلك بالإيمان باليوم الآخر وأن الحياة الآخرة خالدة فالإنسان ليس كتلة من اللحم تتحول يومًا إلى رماد كما يقول علماء الحياة؛ بل ما نفعله في هذه الحياة يحدد الحالة التي سنكون عليها في الحياة الآخرة، القرآن هو الذي دعاني للإسلام، فأجبت دعوته، أما الكنيسة التي حطمتني وجلبت لي التعاسة والعناء فهي التي أرسلتني لهذا القرآن، عندما عجزت عن الإجابة على تساؤلات النفس والروح.
ولقد لاحظت في القرآن شيئًا غريبًا هو أنه لا يشبه باقي الكتب، ولا يتكون من مقاطع وأوصاف تتوافر في الكتب الدينية التي قرأتها ولم يكن على غلاف القرآن الكريم اسم المؤلف، ولهذا أيقنت بمفهوم الوحي الذي أوحى الله به إلى هذا النبي المرسل، لقد تبين لي الفارق بينه وبين الإنجيل الذي كتب على أيدي مؤلفين مختلفين من قصص متعددة. حاولت أن أبحث عن أخطاء في القرآن الكريم، ولكن لم أجد، كان كله منسجمًا مع فكرة الوحدانية الخالصة وبدأت أعرف ما هو الإسلام.
لم يكن القرآن رسالة واحدة بل وجدت فيه كل أسماء الأنبياء الذين شرفهم وكرمهم الله،@@@ ولم يفرق بين أحد منهم وكان هذا المفهوم منطقيًا فلو أنك آمنت بنبي دون آخر فإنك تكون قد دمرت وحدة الرسالات. ومن ذلك الحين فهمت كيف تسلسلت الرسالات منذ بدء الخليقة وأن الناس على مدى التاريخ كانوا صفين: إما مؤمن، وإما كافر. لقد أجاب القرآن على كل تساؤلاتي وبذلك شعرت بالسعادة سعادة العثور على الحقيقة.
وبعد قراءة القرآن الكريم كله خلال عام كامل، بدأت أطبق الأفكار التي قرأتها فيه فشعرت في ذلك الوقت أنني المسلم الوحيد في العالم. ثم فكرت كيف أكون مسلمًا حقيقيًا؟ فاتجهت إلى مسجد لندن وأشهرت إسلامي، وقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله. حين ذاك أيقنت أن الإسلام الذي اعتنقته رسالة ثقيلة وليس عملا سهلا ينتهي بالنطق بالشهادتين لقد ولدت من جديد! وعرفت إلى أين أسير إخواني من عباد الله المسلمين. ولم أقابل أحدًا منهم قبل ولو قابلت مسلمًا يحاول أن يدعوني للإسلام لرفضت دعوته بسبب أحوال المسلمين المزرية وما تشوهه أجهزة إعلامنا في الغرب، بل حتى أجهزة الإعلام الإسلامية كثيرًا ما تشوه الحقائق الإسلامية كثيرًا ما تقف وتؤيد افتراءات أعداء الإسلام العاجزين عن إصلاح شعوبهم التي تدمرها الآن الأمراض الأخلاقية والاجتماعية وغيرها!!
لقد اتجهت للإسلام من أفضل مصادره وهو القرآن الكريم، ثم بدأت أدرس سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وكيف أنه بسلوكه وسنته علم المسلمين الإسلام، فأدركت الثروة الهائلة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته؛ لقد نسيت الموسيقى، وسأل إخواني: هل أستمر؟ فنصحوني بالتوقف؛ فالموسيقى تشغل عن ذكر الله، وهذا خطر عظيم.
لقد رأيت شبابًا يهجرون أهلهم، ويعيشون في جو الأغاني والموسيقى، وهذا لا يرضاه الإسلام الذي يحث على بناء الرجال.
هذه قصة المغني البريطاني المشهور، كان ستيفنز (يوسف إسلام) الذي رفض الشهرة والملايين لأنه وجد ما يبحث عنه منذ أمد بعيد؛ ألا وهو الحق والهداية التي هي سبب للسعادة الأبدية دنيا وأخرى، فعوضه الله الإيمان الذي لا يعادله شيء.. نعم والله.. حياة بدون إيمان جحيم لا يطاق.. وعوَّضه أيضًا محبته سبحانه وتعالى له؛ فالله يحب المؤمنين والمتقين والمحسنين؛ عوضه محبة السماء والأرض له.. عوضه الذكر الحسن بين عباده المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها.
الخاتمة:
هذا ما يسَّر الله سبحانه كتابته فله الحمد في الأولى والآخرة.. وأسأله سبحانه أن ينفعني به وينفع به العباد ويجعل له القبول في السماء والأرض، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم.. إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلي اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
([1]) رواه الترمذي (2/79) والحاكم (4/183) وأحمد (3/439) وأبو نعيم في الحلية (8/48) وقال الترمذي: حديث حسن، وهو كما قال.
([2]) ذكره البخاري في تاريخه (6/2/101).
([3]) (5/384) قلت: وفيه عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي، ويقال الكوفي، فيه ضعف ولكن يشهد له الحديث الذي بعده، ورواه أيضًا الحاكم في مستدركه (4/313) والقضاعيُّ في مسنده (1/195) والطبراني في الكبير (10362) وورد من حديث ابن عمر عند القضاعيِّ (1/196) فهو حديث حسن، ولم يصب من ضعفه، والله أعلم.
([4]) متفق عليه البخاري (6/379) في الأنبياء ومسلم (1562).
([5]) متفق عليه البخاري (4/261) في البيوع ومسلم (1560).
([6]) هذا اختصار الاختصار لقصة هذا النبي الكريم ومن أراد معرفتها كاملة فليقرأها بتَدَبُّر- أعني سورة يوسف- ثم يعود إلى أي تفسير بالمأثور، وخاصة ابن كثير في تفسيره وفي تاريخه والله أعلم.
([7]) البضع: الجماع، أو الفرج نفسه.
([8]) الخيانة وسرقة الغنائم.
([9]) أونبوخذ نصر (604ق. م -561ق.م) ملك بابل أغار على مصر، وفتح أورشليم (القدس) وأحرقها وأجلى أهل يهوذا إلى بابل المنجد.
([10]) النبي دانيال صاحب سفر دانيال من أسفار العهد القديم، وهو بطل نبوءة دانيال وضعه التقليد المسيحي في عداد الأنبياء الكبار الأربعة، أنظر (المنجد) والبداية (2/36-38) وقد وجدوا الصحابة قبره وما يتعلق به في الفتوح التي وقعت في عهد عمر بن الخطاب.
([11]) إرميا: أحد كبار أنبياء بني إسرائيل الأربعة، دعي إلى النبوة قبل انقراض مملكة يهوذا وقاسى من ملوكها الاضطهادات، انظر المراجع السابقة.
([12]) كذا رواه أحمد في المسند (6/ 16- 18)، ورواه مسلم والنسائي من حديث حماد بن سلمة، زاد النسائي وحماد بن زيد كلاهما عن ثابت به ورواه الترمذي من طريق عبد الرزاق عن معمر عن ثابت بإسناده، وأورده ابن إسحاق في السيرة وذكر أن اسم الغلام هو: عبد الله بن التامر.
([13]) رواه البخاري (6/511) وأحمد وهذا لفظه ومسلم في الأدب وانظر كتابنا: الأعلام فيما ورد في بر الوالدين وصلة الأرحام في بقية تخريجه.
([14]) رواه البخاري في أخبار بني إسرائيل ومسلم.
([15]) أي دققه وطوله.
([16]) رواه البخاري (4/469) كتاب الكفالة ورواه أحمد في المسند.
([17]) الجوع الشديد.
([18]) رواه أحمد في المسند وفيه شهر بن حوشب وفيه ضعف ولكن يشهد له الذي بعده.
([19]) رواه أحمد في المسند من حديث أبي هريرة وإسناده صحيح.
([20]) هو أبو عبد الله أحمد بن جعفر بن عبد ربه بن حسان الكاتب المعروف بالبرقي: ترجم له الخطيب البغدادي في تاريخه (4/69).
([21]) بفتح الباء والراء: ماء الغمام يتجمد في الهواء ويسقط على الأرض حبوباً.
([22]) الفرج بعد الشدة (1/ 181).
([23]) مكيال بالمدينة يسع ثلاثة أصع.
([24]) يصيحون ويصرخون.
([25]) رواه البخاري ومسلم وانظر بقية التخريج والكلام على الحديث في كتابنا الأعلام فيما ورد في بر الوالدين وصلة الأرحام.
([26]) روضة المحبين (479-480).
([27]) المرجع السابق (481-482).
([28]) المرجع السابق (481-482).
([29]) رواه أحمد في المسند (6/334-336) والترمذي (4/657) وقال حديث حسن والحاكم في المستدرك (4/254-255).
([30]) انظر فتح الباري بشرح صحيح البخاري (6/25) كتاب الجهاد قال الحافظ ابن حجر: إسناده صحيح.
([31]) ذكره الشيخ علي الطنطاوي.
([32]) انظر أنيس الجليس الجزء الأول.
([33]) قصص إيمانية جمع عادل العبد العالي.
([34]) ذكرها الشيخ علي الطنطاوي (بتصرف)، وهذه الحادثة إنما ذكرتها لما فيها من طرافة وحسن تخلص والله المستعان.
([35]) أي أنه كان على مذهب عروة بن الورد والشنفري وكانوا يسمون صعاليك العرب.
([36]) منسوب إلى ردينة، وهي امرأة كانت تقوم الرماح.
[37])) الفرس الطويل الصلب.
([38]) انظر مع الرعيل الأول للأستاذ محب الدين الخطيب (165) ورجال من التاريخ للشيخ علي الطنطاوي (130).
([39]) رواه أحمد في المسند (3/166) وقال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء (3/183) رواه أحمد بإسناد صحيح على شرط الشيخين.
([40]) رواه أحمد في فضائل الصحابة (2/828) وعبد الرزاق في المصنف (11/52) بنحوه وابن أبي حاتم والحاكم في المستدرك وقال صحيح على شرط مسلم وانظر الإصابة (2/195) الحلية (1/150).
([41]) الحرة أرض بها حجارة سود كثير
([42]) شرجة وجمعها شراج وهي مسايل الماء.
([43]) رواه مسلم (4/2288) (2984) وأحمد (2/269).
([44]) انظر الفرج بعد الشدة للقاضي التنوخي (2/332).
([45]) أبو علي الفضيل بن عياض التميمي (105-187) شيخ الحرم المكي من أكابر العباد الصلحاء ولد بسمرقند وتوفي بمكة (الأعلام 5/360).
([46]) تغيرت رائحته؛ أي أنتن.
([47]) الفرج بعد الشدة (3/238) ونشرت الصحف أن امرأة وجدت في جوف سمكة لؤلؤة فباعتها بأربع مائة دينار كويتي، وكانت تمر بضائقة مالية شديدة.. واشتدي أزمة تنفرجي.. انظر كتابنا «الفرج بعد الشدة والضيقة».
([48]) رواه أحمد في المسند.
([49]) البخاري (9/587) في العقيقة ومسلم (2144).
([50]) هذه الرواية ذكرها طاهر بن محمد الحداد في كتابه: عيون المجالس عن معاوية بن قرة، وانظر برد الأكباد (25).
([51]) هو محمد بن المنكدر بن عبد الله بن عبد العزي القرشي التيمي (54-130) من أهل المدينة محدث زاهد الأعلام (7/333).
([52]) ابن إسماعيل المخزومي، ولاه هشام بن عبد الملك إمرة مكة والطائف سنة (114) ولما ولي الوليد بن يزيد الخلافة عزله واعتقله، الأعلام (7/355).
([53]) رواه البخاري (8/113) كتاب المغازي باب حديث كعب بن مالك.
([54]) توفي سنة (390) كان المقدم على الطالبين مع ثروة وغنى وجاه وكان العوام يطيعونه واعتقل بعد ذلك ودخل السجن ثم بعد فترة خرج المنتظم (7/211).
([55]) جف وانقطع.
([56]) المجلة العربية العدد (104).