الصحابة والاستجابة
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
الصحابة والاستجابة
إبراهيم بن صالح الدحيم
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله، وفق من شاء لطاعته فاستجابوا لأمره وانقادوا لشرعه وسلموا تسليمًا، وأضل من شاء فحرم مجاورته وعذب بالبعد عنه، وما الله يريد ظلمًا للعباد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخليله ومصطفاه صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا وبعد:
فحين تكون حقيقة الحياة أكلاً وشربًا ونومًا وتردد أنفاس فقط. فإن ذلك يعني عدم الفارق بين الدواب والهوام وبين ذلك الإنسان الذي كرمه ربه فقال: }وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ{ [الإسراء: 70].
بل حين يضل الإنسان ويفهم الحياة على إنها شهوة بطن وفرج.. فإنه يضرب في البهيمية بأكبر سهم }إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ{ [الأنفال: 22] بل ربما صار شرًا منها وأسوأ حالاً كما قال تعالى: }أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ{ [الأعراف: 179].
إن الحياة الحقيقية لا تكون إلا بالاستجابة لأمر الله عز وجل وطاعته والسير على منهجه وشريعته دون تلكؤ أو تباطؤ }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ{ [الأنفال: 24] إنها دعوة للاستجابة لتعاليم الإسلام وشريعته وهدايته (إنها دعوة للحياة بكل صور الحياة وبكل معاني الحياة.. إنه يدعوهم إلى عقيدة تحيي القلوب والعقول، وتطلقها من أوهام الجهل والخرافة، ومن ضغط الوهم والأسطورة، ومن الخضوع المذل للأسباب الظاهرة والحتميات القاهرة، ومن العبودية لغير الله والمذلة للعبد أو للشهوات سواء...)([1]). إنها دعوة لحياة القوة والعزة والاستعلاء، إنها دعوة لحياة الأدب الراقي والخلق الرفيع في جو لا ينبت فيه غير الكلمة الطيبة واللفظة الحانية والقلب الرحيم إنها دعوة لحياة المنهج في وهج الحياة }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ{.
* قال ابن القيم رحمه الله: (إن الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ولرسوله، فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له، وإن كانت حياة بهيمة، مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات. فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله والرسول ظاهرًا وباطنًا. فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا، وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان. ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول ﷺ فإن كل ما دعا إليه ففيه الحياة، فمن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة، وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول ﷺ)([2]).
* ولا يستجيب لهذه النداءات العُلوية إلا من ارتقت نفوسهم وصفت مشاعرهم وأصاخت أسماعهم }إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ{ [الأنعام: 36] أما الذين هم في سكرتهم يعمهون، وفيما اشتهت أنفسهم غارقون، فإنهم لا يفيقون حتى تأتيهم الساعة بغتة وهم عنها معرضون }وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ{ [الأنعام: 36].
* لقد تحددت معاني الحياة الطيبة النافعة عند الرعيل الأول فطلبوها واجتهدوا فيها، وخلصوها من الرغبات الذاتية والشهوات الدونية، لم تكن الاستجابة لأمر الله عندهم تخضع لفرصة التفكير، أو لوطأة التأجيل، ولا حتى التدقيق أو التحقيق لمحاولة صرف الأمر إلى الآخرين دون أن يكون له فيه نصيب، بل كان الأمر يأتي فيظن كل واحد من الصحابة أنه المعني به أولاً قبل غيره.
صافحوا النجم على بعد المنال | واستطابوا القيظ عن برد الظلال | |
واستذلوا الوعر من أخطارها | إنما الأخطار أثمان المعالي |
إن السر الوحيد الذي قلب وجه الأرض، وحوّله من سواد مظلم إلى نور مشرق أشد من ضوء الضحى وضوحًا، هو هذه الاستجابة الصادقة لأمر الله وأمر رسوله ﷺ.
ونشرع الآن بذكر نماذج عالية من استجابات الصحابة لأمر الله وأمر رسوله ﷺ، أعرضها غير مرتبة ولا معنونة استثارة للنفس ودفعًا للسآمة والملل مع تعليق مختصر يناسب المقام.
صورة منيرة لاستجابة الصحابة
* تجارة أبي الدحداح: عن ابن مسعود t قال: لما نزلت }مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا{ [البقرة: 245] قال أبو الدحداح t: يا رسول الله! أو إن الله يريد منا القرض؟! قال: «نعم يا أبا الدحداح»! قال: يدك يا رسول الله، قال: فناوله يده قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي، حائطًا فيه ستمائة نخلة، ثم جاء يمشي حتى أتى الحائط وأم الدحداح فيه في عياله فناداها: يا أم الدحداح! قالت لبيك: قال: اخرجي فقد أقرضت ربي حائطًا فيه ستمائة نخلة»([3]) وحين يتمالكك العجب من فعل أبي الدحداح! فاعجب أكثر من مطاوعة زوجته له!!. كم هي الخطب الرنانة التي تلهب العواطف؟! وكم الآيات التي تتلى في الترغيب بالصدقة، والأحاديث التي تتردد على الأسماع في ذلك، ثم انظر حصيلة هذا الضخ العاطفي الضخم! بينما يسمع الصحابي آية واحدة تحرك مشاعره وتزهده في الدنيا!!
أيها الشح جافني واعتزلني | فلقد زدت في اليقين يقينا |
* غسلته الملائكة: وهذا حنظلة بن أبي عامر يدخل على زوجته في ليلة عرسه فينادي منادي الجهاد: يا خيل الله اركبي! فيفزع من فراشه إلى فرسه ويأخذ سيفه، ويدخل الجيش، ويلتقي الفريقان في مواجهة سريعة حاسمة، فيقتل فيها الزوج العروس لتتم له السعادة في الشهادة، ويرفع النبي ﷺ بصره وهو يقول: «إن صاحبكم تغسله الملائكة فسلوا صاحبته عنه» فقالت: إنه خرج لما سمع الهائعة وهو جنب... فقال ﷺ: «لذلك غسلته الملائكة»([4]). الله أكبر.. ناداه منادي الجهاد وهو في ليلة عرسه فأجاب، دعاه الشوق إلى الجنة وإلى لقاء الله فلبى، ولم يجد فرصة لأن يغتسل خوفًأ أن يتأخر!!
جاء بها قالصة عن ساق | ... تحن والحنة للمشتاق | |
ما أولع الحنين بالنياق | تذكري رمل النقى واشتاقي |
فبالله حدثني عن رجل ينام ملء عينيه: آمنًا في سربه معافىً في جسده، يسمع داعي الله ينادي كل يوم (الصلاة خير من النوم) ولا يحرك ساكنًا، بل لسان حاله يردد (النوم خير من الصلاة!!).
من قال حي على الصلاة | يقول حي على الجهاد |
* اللهم ارحم بني سلمة: يعود رسول الله ﷺ وأصحابه من أحد، تلك الغزوة التي اشتد فيها القرح وعظم فيها الجرح، قتل فيها من خيار الصحابة من قتل، وجرح فيها من جرح، حتى إذا صلى صلاة الصبح من اليوم الثاني أمر بلالاً فنادى: إن رسول الله ﷺ يأمركم بطلب عدوكم، ولا يخرج معنا إلا من شهد القتال أمس، فخرج سعد بن معاذ إلى داره يأمر قومه بالمسير وكلهم جريح فقال: إن رسول الله ﷺ يأمركم أن تطلبوا عدوكم فقال: أسيد بن حضير t وبه سبع جراحات يريد أن يداويها!! (سمعًا وطاعة لله ورسوله) وأخذ سلاحه ولم يعرِّج على دواء، ولحق برسول الله ﷺ وخرج من بني سلمة أربعون جريحًا: بالطفيل بن النعمان ثلاثة عشر جرحًا، وبالحارث بن الصمة عشر جراحات، حتى وافوا رسول الله ﷺ على جراحهم فقال لما رآهم «اللهم ارحم بني سلمة».
تأن بدمعك لا تفنه | فبين يديك بكاء طويل |
* الجريحان: وعن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان، أن رجلاً من أصحاب رسول الله ﷺ من بني عبد الأشهل، كان شهد أحدًا. قال: شهدت أحدًا مع رسول الله ﷺ أنا وأخ لي فرجعنا جريحين، فلما أذن مؤذن رسول الله ﷺ بالخروج في طلب العدو قلت لأخي وقال لي: أتفوتنا غزوة مع رسول الله؟! والله ما لنا من دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول الله ﷺ - وكنت أيسر جرحًا من أخي – فكنت إذا غلب حملته عقبة، ومشى عقبة، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون فخرج رسول الله ﷺ حتى انتهى إلى حمراء الأسد...([5]) فأنزل الله تعالى قوله }الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ{ [آل عمران: 172].
لقد مزجوا حرارة الألم بلذة الطاعة، فانقلب الأنين حنينًا، والمشقة شوقًا!! ونحن: أقعدنا ألم الضرس، ووجع الرأس – ليس عن ساح الكفاح – بل عن إجابة داعي الفلاح؟! ثم نطلب بعد ذلك عزًا، ونأمل نصرًا، حالنا كما قال الأول:
يحاول نيل المجد والسيف مغمدٌ | ويأمل إدراك العلى وهو نائمُ! |
* لا تهزمهم الإبل: وفي حنين لما انكشف النبي ﷺ وأصحابه ولم يبق مع النبي ﷺ إلا عدد قليل جدًا، أمر العباس أن ينادي بالناس: أين أصحاب الشجرة؟! وكان العباس صيتًا، قال: فناديت بأعلى صوتي، أين أصحاب الشجرة!! قال: فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، فقالوا: يا لبيك. قال: فاقتتلوا والكفار.. ولابن إسحاق نحوه وزاد «فجعل الرجل يعطف بعيره فلا يقدر، فيقذف درعه ثم يأخذ بسيفه ودرقته ثم يؤم الصوت ([6]). إنها التربية النبوية على بذل النفوس والأموال رخيص في سبيل الله، وإجابة داعي الله لا يحجز عنه خوف أو طمع. فهل تملك لغة تعلق بها على هذه المواقف؟!
* انتهينا انتهينا: وحين هاجر الصحابة إلى المدينة لم تكن الخمر قد حرمت بعد، فكان منهم من يتعاطاها كما يتعاطى الحلال من الطعام والشراب، يشربونها في نواديهم ومجالسهم فلما نزل قوله تعالى: }فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ{ [المائدة: 91]. قالوا: انتهينا انتهينا. يقول أنس: كنت ساقي القوم يومئذ في بيت أبي طلحة، وإذ بمنادي رسول الله ﷺ ينادي فقال: اخرج فانظر، فخرجت فإذا منادٍ ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت، قال: فجرت في سكك المدينة فقال لي أبو طلحة: اخرج فاهرقها، فهرقتها..»([7]). لقد كان يكفي الصحابة أن يسمعوا كلمة واحدة في تحريم شيء حتى يجتنبوه في امتثال تام واستجابة عامة لم يشهد التاريخ لها مثيلاً!! لم يكن يمنعهم من تركها جريان العادة عليها، ولم يكونوا بحاجة إلى أيام ليتدرجوا في تركها، لقد تركوها مباشرة. وهذه هي حال أصحاب الإرادة القوية، تلك الإرادة التي ينشئها الإيمان، فتباشر آيات القرآن بالقبول والإذعان، إنها صورة عظيمة لمجتمع الصحابة!! فهل نجد في حاضر الأمة أفرادًا حين يقال لهم: إن الغناء محرم، والدخان محرم، والربا محرم... يكون رجع صدى أحدهم «سمعنا وأطعنا»؟!. إنه الإيمان الذي باشر القلوب فجعلها تذعن راضية مختارة! قارن هذا مع ما جرى في القرن العشرين (حيث أرادت الولايات المتحدة الأمريكية أن تخلص شعبها من مضار الخمر وتجرب ما جاء به القانون الإسلامي فشرعت في سنة 1930 قانون تحريم الخمر، والذي حرم على الناس بيع الخمور أو شراءها أو صنعها أو تصديرها أو استيرادها وقد مهدت الحكومة لهذا القانون بدعاية واسعة عن طريق السينما والتمثيل والإذاعة ونشر الكتب والرسائل، وكلها تبين مضار الخمر مدعومة بالإحصائيات الدقيقة والبحوث العلمية والطبية، وقد قدر ما أنفق بـ 65 مليونًا من الدولارات، وسودت تسعة آلاف مليون صفحة في بيان مضار الخمر والزجر عنها، وأنفق ما قدر مجموعة بأربعة ملايين ونصف من الجنيهات لأجل تنفيذ هذا القانون، ودلت الإحصائيات للفترة الواقعة بين تاريخ تشريعه وبين تشرين الأول 1933 أنه قتل في سبيل تنفيذ هذا القانون مائتا نسمة، وحبس نصف مليون، وغرم المخالفون له غرامات تبلغ مليون ونصف المليون من الجنيهات، وصودرت أموال تقدر بأربعمائة مليون جنيه. وكان آخر المطاف أن اضطرت الحكومة الأمريكية إلى إلغاء قانون التحريم في أواخر سنة 1933، ولم تنفعها تلك الأموال الطائلة والتضحيات الجسيمة لحمل الناس على ترك الخمر الثابت ضررها، لأن القانون لم يكن له سلطان على النفوس يحملها احترامه وطاعته. ولكن كلمة }فَاجْتَنِبُوهُ{ [المائدة: 90] التي جاءت بها الشريعة الإسلامية في جزيرة العرب وبين أناس اعتادوا شربها دون أن يسبق ذلك دعاية واسعة أو نشر كتب ورسائل – ألجمت الأفواه عن تذوق الخمر ودفعت أولئك الناس إلى إراقة خمورهم بأيديهم لا بيد شرطي أو رقيب ([8]).
* نفوس روضت شهواتها: وصورة أخرى في هذا المعنى من الاستجابة لله ولرسوله ﷺ، والتخلص من الحضوض النفسية والانتصار على دافع الشهوة، نعرض لذلك في وقت نرى كثيرًا من الشباب قد باع دينه من أجل شهوة زائلة ونزوة عارمة، ففي البخاري في خبر قدوم وفد هوازن مسلمين فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم وأنه خيرهم بين الأموال والسبي فاختاروا السبي فقام رسول الله ﷺ في المسلمين فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: «أما بعد فإن إخوانكم قد جاءونا تائبين وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم فمن أحب منكم أن يطيب ذلك فليفعل». فقال الناس: قد طيبنا ذلك يا رسول الله، فقال رسول الله ﷺ: «إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم». فرجع الناس، فكلمهم عرفاؤهم، ثم رجعوا إلى رسول الله ﷺ فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا)([9]) تصور هذا الموقف وانظر مدى الاستجابة، السبي وزع والجواري قسمت ثم يأتي الطلب بعد أن تعلقت النفوس بل ربما بعد أن هيئت الجارية لسيدها!! نقل ابن حجر عن ابن إسحاق في مغازيه» قال: حدثني أبو وجزة يزيد بن عبيد السعدي أن رسول الله ﷺ أعطى من سبي هوازن علي بن أبي طالب جارية يقال لها ريطة بنت حبان بن عمير، وأعطى عثمان جارية يقال لها زينب بنت خناس، وأعطى عمر قلابة فوهبها لابنه، قال ابن إسحاق: فحدثني نافع عن ابن عمر قال: بعثت جاريتي إلى أخوالي في بني جمح ليصلحوا لي منها، حتى أطوف بالبيت ثم أتيتهم، فخرجت من المسجد فإذا الناس يشتدون، قلت: ما شأنكم؟ قالوا: رد علينا رسول الله ﷺ نساءنا وأبناءنا فقلت دونكم صاحبتكم فهي في بني جمح، فانطلقوا فأخذوها ([10]) إنها الاستجابة في الوقت الذي تعلق فيه القلب، واشتاقت فيه النفس، إننا لا نستطيع أن نجرد ابن عمر من معاني الرغبة فيه، ولا من إنسانيته، لكنه الإيمان الذي يصنع العجائب وكفى!
وليس بالبطل الماشي إلى بطلٍ | في الحرب تخمد أحيانًا وتشتغل | |
لكنه من لوى قلبًا إذا رشقت | فيه العيون فذاك الفارس البطل |
* بعد ما غلت القدور: وصورة أخرى في هذا المعنى من الاستجابة الجماعية، ففي صحيح البخاري عن ابن أبي أوفى رضي الله عنهما قال: أصابتنا مجاعة ليالي خيبر فوقعنا بالحمر الأهلية فانتحرناها، فلما غلت القدور نادى منادي رسول الله: أكفئوا القدور، فلا تطعموا من لحوم الحمر شيئا»([11]) وفي لفظ لمسلم «فأكفئت القدور بما فيها وإنها لتفور بما فيها»([12])... (مجاعة) و (القدور تغلي) أي استشراف سيكون عند الصحابة، وأي تعلق ستبلغه نفوسهم!! ثم في هذه الحالة تأتيهم الأوامر النبوية أن الحمر الأهلية قد حرمت.. فما العمل؟! اكفئوا القدور.. هل أحالوها مظاهرات واحتجاجات يملأ ضجيجها الأسواق والساحات العامة؟! لا (فأكفئت القدور بما فيها وإنها تفور بما فيها) وانتهت القضية.. ودون أي مراجعة!!
* التنظيم العجيب: وفي حديث كعب بن مالك الطويل([13]) في خبر تخلفه عن غزوة تبوك يقول – واقرأ العجب في حديثه – وفيه: (فنهى رسول الله ﷺ عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا، حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي التي أعرف. فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد... حتى إذا طال علي ذلك من جفوة الناس، مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة – وهو ابن عمي وأحب الناس إليَّ – فسلمت عليه، فوالله ما رد عليَّ السلام، فقلت: يا أبا قتادة، أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت، فعدت له فنشدته فسكت، فعدت عليه فنشدته، فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار... قال كعب: حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين، إذا رسول رسول الله ﷺ يأتيني فقال: إن رسول الله ﷺ يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا، بل اعتزلها ولا تقربها، وأرسل إلى صاحبي مثل ذلك، فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك، فتكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر...) إن الكلمات تعجز عن التعليق على هذا الموقف، عن ماذا نتحدث؟! هل نتحدث عن الانضباط العام من الصحابة في عدم الحديث مع كعب وصاحبيه حتى استوحشت عليهم الديار؟! أم نتحدث عن الحميم والقريب لكعب – أبو قتادة – وكيف أنه استجاب للأمر مع شدته، أجزم أن هذا الأمر لو طلب من أبي قتادة أيام الجاهلية فستكون الثريا أقرب إلى الطالب منها، فالعصبية قد ضربت فيهم أطنابها، وشدت عليهم حبالها، قد صوت شاعرهم فقال:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت | غويت وإن ترشد غزية أرشد |
لكنه الإيمان!! وسنكررها: إنه الإيمان حين يستقر في القلوب..
ثم لا ننسى هذه الاستجابة الفذة من كعب t - صاحب القصة – فقد تتابعت عليه المحنة، ولا يزال على استعداد تام لقبول أوامر النبي ﷺ، حتى ولو كان ذلك في فراق زوجته؟!
* عند تحويل القبلة: عن البراء t أن رسول الله ﷺ صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وإنه صلى، أو صلاها - صلاة العصر - وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلى معه، فمر على أهل مسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي ﷺ قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت...»([14]).
* معاملة النساء: في الجاهلية كان الرجل يستنكف على المرأة، ويرى أنها مسخرة لخدمته، مخلوقة لحاجته، حتى إذا أشرقت أنوار الرسالة تحولت الصخور الجلمد – التي كانت قبل في الجاهلية – إلى قلوب لينة تلين إلى ذكر الله وأمره، تبتغي الأجر مظانه، فعن العرباض بن سارية t قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا سقى الرجل امرأته الماء أجر». قال: فقمت إليها فسقيتها وأخبرتها بما سمعت([15]).
يا سائق الظعن قلب في رحالهم | أمانة رعيها والحفظ إيمان |
* الحلف بالله: وفي الجاهلية أيضا اعتاد الناس تعظيم الآباء حتى كانوا يحلفون بهم، فلما نهاهم النبي ﷺ عن ذلك، هل اعتذروا بجريان العادة؟! عن عمر بن الخطاب t قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم» وفي رواية: «فمن كان حالفًا فليحلف بالله، أو ليصمت» وفي رواية: قال عمر: فوالله ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله ﷺ ينهى عنها، ذاكرًا ولا آثرًا ([16])»([17]). كم هي الكلمات التي تخرج على ألسنة الناس وفيها محاذير شرعية – اللعان، التنابز بالألقاب ونحوها – ثم إذا نهيتهم عنها وجدت أن تغيير ذلك يحتاج إلى زمن!!
* باب النساء: وعن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ «لو تركنا هذا الباب للنساء. قال نافع: فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات»([18]) وكان عمر «نهى أن يدخل من باب النساء»([19]). لقد عرف الباب عند عموم الصحابة بعد ذلك بباب النساء!! إنه تمام الانقياد ومنتهى الاستجابة والطاعة، يكفي أن يقترح النبي ﷺ فتنقاد النفوس لذلك، كأنما تؤمر به أمرًا، وفي الحديث عنه ﷺ «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به»([20]).
* عند تأبير النخل: وإذا كان الاقتراح منه ﷺ يقع موقع الأمر، فإن الظن وتوقع الأصلح يكفي للتسليم والانقياد، عن موسى بن طلحة عن أبيه قال: مررت مع رسول الله ﷺ يقوم على رءوس النخل، فقال: «ما يصنع هؤلاء؟» فقالوا يلقحونه، يجعلون الذكر في الأنثى فيلقح، فقال رسول الله ﷺ: «ما أظن يغني ذلك شيئًا»، قال: فأخبروا بذلك فتركوه، فأخبره النبي ﷺ فقال: «إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنًا، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئًا، فخذوا به، فإني لن أكذب على الله عز وجل»([21]) آه.. لقد سار القوم ووقفنا، وتقدموا ورجعنا، فوصلوا وانقطعنا، وإن لم نلحق بهم شقينا، لقد أقعدنا العجز وأخرنا التسويف!
إن قلت قم قال: رجلي ما تطاوعني.. أو قلت خذ قال: كفي ما تواتيني!!
* هزموا ثورة نفوسهم: صورة أخرى من الاستجابة تجسْد لك معنى آخر جميلاً، هو التنازل عن الحقوق، والعفو عن الزلات طاعة الله واستجابة لأمره. أخرج الترمذي وأصل الحديث في البخاري أن معقل بن يسار t: زوج أخته رجلاً من الصحابة وأعانه على تكاليف الزواج ويسر له الأمر، حتى إذا مر به زمن طلقها طلاقًا رجعيًا، فلما خرجت من عدتها أراد أن يرجع إليها فخطبها مع الخطاب فقال معقل: وقد غضب من فعله – كيف يزوجه ويعينه ثم يطلق، وضع نفسك مكانه..؟! – زوجتك وفرشتك وأكرمتك فطلقتها ثم جئت تخطبها، لا والله لا تعود إليك أبدًا، - وكان رجلاً لا بأس به، والمرأة تريد أن ترجع إليه – وأنزل الله هذه الآية }وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعُروفِ{ [البقرة: 232] «فلما سمعها معقل قال: الآن أفعل يا رسول الله، فزوجها إياه»([22]). عجبًا والله: ما الذي حل غضب معقل، وما الذي أزال حنقه؟! إنه تعظيم أمر الله تعالى.
* هزموا أطماعهم: وقريب من هذا الموقف ما روي في سنن أبي داود عن أم سلمة قالت: أتى رسول الله ﷺ رجلان يختصمان في مواريث لهام لم تكن بينة إلا دعواهما، فقال النبي ﷺ: «إنما أنا بشر مثلكم وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذ منه شيئا فإنما أقطع له قطعة من النار. فبكى الرجلان وقال كل واحد منهما حقي لك»([23]). قارن ذلك مع واقعنا الذي اشتعلت فيه الخصومات، وازدادت فيه العداوات، وبحت فيه أصوات الدعاة تنادي }إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ{ [الحجرات: 10] ولا مجيب؟!
* في التذلل للإخوان: عن علي بن زيد، قال: بلغ مصعب بن الزبير عن عريف الأنصار شيء، فهم به، فدخل عليه أنس بن مالك t فقال له: إني سمعت رسول الله ﷺ يقول «استوصوا بالأنصار خيرًا – أو قال: معروفًا – اقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم» فألقى مصعب نفسه على سريره، وألزق خده بالبساط، وقال: أمر رسول الله ﷺ على العين والرأس، فتركه)([24]) لقد انطفأت نار العداوة إكرامًأ لقول رسول الله ﷺ. فلله ما أكرم الجيل وما أعظم الأمة التي ينتسب إليها هؤلاء!.
* معاملة الأسرى: وعن أبي عزيز بن عمير أخي مصعب ابن عمير رضي الله عنهما قال: كنت في الأسرى يوم بدر، فقال رسول الله ﷺ: «استوصوا بالأسارى خيرًا» وكنت في نفر من الأنصار، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم أكلوا التمر وأطعموني البر لوصية رسول الله ﷺ ([25]).
يا ربع إن وصلوا وإن صرموا | فهم الأولى ملكوا الفؤاد هُمُ | |
شغلوا بحسنهم نواظرنا | وعلى القلوب بحبهم ختموا |
* الوصية: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله ﷺ قال: «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي به يبيت ليلتين، إلا ووصيته عنده»([26]) زاد مسلم ([27]): قال ابن عمر: ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله ﷺ يقول ذلك إلا وعندي وصيتي.
* تنفيذ الأمر العام: وأخرج البيهقي بسند صحيح من طريق ثابت عن ابن أبي ليلى: كان النبي ﷺ يخطب فدخل عبد الله بن رواحة t فسمعه يقول: «اجلسوا» فجلس مكانه خارجًا من المسجد، فلما فرغ قال له: «زادك الله حرصًا على طواعية الله وطواعية رسوله»([28]). ومثله روي عن ابن مسعود أن النبي ﷺ كان يخطب فقال للناس: «اجلسوا» فسمعه ابن مسعود وهو على الباب فجلس؛ فقال ﷺ: «يا عبد الله ادخل»([29]). أي حالة من حالات الانضباط والاستجابة هذه الحالة، إنه الصدق الذي لا يحتاج معه إلى متابعة أو مراقبة، قارن ذلك بحال المنافقين الذين يستخفون من الناس، ويفرحون أن تغيب عنهم الأعين }يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا{ [النور: 63] حتى لا يقعوا في طائل التكليف.
* الاستجابة في اللباس: وعن سهل بن الحنظلية t أنه كان بدمشق فقال له: أبو الدرداء t: كلمة تنفعنا ولا تضرك قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول «نعم الرجل خريم الأسدي لو قص من شعره وقصر إزاره، فبلغ ذلك خريمًا، فعجل فأخذ السفرة فقصر من جمته ورفع إزاره إلى أنصاف ساقيه»([30]).. يا ترى كم تحتاج من وقت لتقنع شابًا على رفع ثوبه أو ترك القزع والتشبه بالكفار والفساق في قصات شعورهم أو ألبستهم المتميعة؟!
* الريطة: وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (هبطنا مع رسول الله ﷺ من ثنية فالتفت إلي وعلي ريطة مضرجة بالعصفر فقال: «ما هذه الريطة عليك؟! فعرفت ما كره فأتيت أهلي وهم يسجرون تنورًا لهم فقذفتها قيه ثم أتيته من الغد فقال: يا عبد الله ما فعلت الريطة؟ فأخبرته فقال: ألا كسوتها أهلك فإنه لا بأس به للنساء)([31]).
والنساء شقائق الرجال، لم يكن حالهم بأقل من الرجال لقد استجبن وما استلبثن، سجل لهن التاريخ مواقف يشتد منها العجب مقارنة بالواقع المعاصر؟!
* النساء والحجاب: أخرج ابن حاتم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: لما نزلت قوله تعالى: }يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ{ [الأحزاب: 59] خرجت نساء الأنصار كأن على رءوسهن الغربان من السكينة، وعليهن أكسية سود يلبسنها»([32]).
* الاحتشام من الإيمان: وعن عائشة قالت يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله }وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ{ [النور: 31] شققن مروطهن فاختمرن بها»([33]) الله أكبر.. شققن مروطهن مباشرة فاختمرن بها! لم تنتظر حتى تذهب إلى السوق فتشتري خمارًا!! لقد كانت المرأة من الصحابة لا تعرف الحجاب قبل الإسلام، فلما نزل الأمر به، سارعت في الاستجابة حتى لكأنها متحجبة منذ زمن!! فهل تعي ذلك نساء المؤمنين اللاتي ولدن في الإسلام فتحفظ حجابها، وتستجيب لنصح الناصح حين تؤمر بتغطية ما ظهر من بدنها – وهي المرأة التي اعتادت الحجاب من نعومة أظفارها وعلمت أنه أمر ربها -؟!
* عدم الاختلاط: عن أبي أسيد الأنصاري t أنه سمع النبي ﷺ وهو خارج من المسجد فاختلط رجال مع نساء في الطريق فقال ﷺ: «يا معشر النساء استأخرن فإن ليس لكن أن تحققن الطريق عليكن بحافات الطريق، قال أبو أسيد فقد رأيت المرأة تلتصق بالجدار حتى أن ثوبها يعلق بالجدار من شدة لصوقها به»([34]). واليوم تجد الرجل أحيانًا هو الذي يلتصق بالجدار بسبب صفاقة المرأة وقلة حيائها، وذهاب الأدب عنها!!.
* * *
هذا شيء من خبر الصحابة الذين كانت حياتهن كلها استجابة لأمر الله ورسوله عرضناها من أجل بعث النفوس على التأسي: }لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ{ [الممتحنة: 6].
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم | إن التشبه بالكرام فلاح |
وحين نبتغي للأمة عزًا ونطلب لها نصرًا، فلابد أن نحتذي حذو السلف الصالحين من الصحابة والتابعين، كما قال الإمام مالك رحمه الله: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
فها هي أخبار القوم قد نشرت لك، وأعلامهم قد رفعت إليك، قد صوت الداعي بك فعليك بالحق وهلم فالحق، فالصبح قد بان ضيائه، واستبان نهاره، وأشرقت أنواره.
تالله قد لاح الصباح لمن له | عنينان نحة الفجر ناظرتان | |
وأخو العماية في عمايته يقول | الليل بعد... أيستوي الرجلان؟! | |
تالله قد رفعت لك الأعلام إن | كنت المشمر نلت دار أمان | |
وإذا جبنت وكنت كسلانًا فما | حرم الوصول إليه غير جبان |
الختام
* وختامًا لابد أن نقول: إن الاستجابة لله ليست خيارًا من خيارين مطورحين... كلا، بل هي أمر رباني لا محيد عنه ولا محيص، فأنت عبد والله ربك وما على العبد إلا الطاعة، }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ{ [الأنفال: 24] فإن دعاك الداعي فلم تجب، وناداك فلم تستجب، فأتم الآية علَّ شدة الوعيد فيها يحيي قلبك ويحرك كيانك }وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ{ [الأنفال: 24] (إنها صورة تستوجب اليقظة الدائمة، والحذار الدائم، والاحتياط الدائم. اليقظة لخلجات القلب وخفقاته ولفتاته، والحذر من كل هاجسة فيه وكل ميل مخافة أن يكون انزلاقًا...)([35]) الحذر من أن يحول الله بينك وبين قلبك، عندها لا ينفع فيك وعظ ولا يرث فيك نصح، فيمرض القلب ويزداد حتى يصاب بالرآن ويقع في الهلاط. إنها حالة شديد وصوءة مفزعة مرعبة يخلفها الإعراض عن الله وعن رسوله وعن أمره وهداه }وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ{.
* قال ابن القيم رحمه الله: «والخبر أن من ترك الاستجابة له ولرسوله، حال بينه وبين قلبه عقوبة له على ترك الاستجابة، فإنه سبحانه يعاقب القلوب بإزاغتها عن هداها ثانيًا كما زاغت هي عنه أولاً. قال تعالى: }فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ{ [الصف: 5]..»([36]) فاستجب لداعي الله واحذر التسويف فقد يقطع الأجل باب العمل، واستح أن يكون جواب نداء الله منك الإعراض، فإنه ليس لعذاب الله من دافع، وما لك من الله من ناصر: }اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ{ [الشورى: 47] }لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ{ [الرعد: 18]. اللهم اجعلنا ممن دعوته فأجاب، وناديته فلبَّى، ووعدتهم منك الحسنى.
هذا وبالله التوفيق والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرا..
([1]) ظلال القرآن 3/1494.
([2]) بدائع التفسير الجامع لتفسير ابن القيم، جمع يسري السيد 2/331.
([3]) تفسير ابن جرير لآية (245) من سورة البقرة.
([4]) صلاح الأمة في علو الهمة. للعفاني وحسنه (3/369) وعزاه للحاكم، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وسكت عنه الذهبي. وله شواهد يتقوى بها.
([5]) تاريخ الطبري 2/75، البداية والنهاية 4/56.
([6]) فتح الباري 8/40.
([7]) البخاري (2464) ومسلم (1980) واللفظ لمسلم.
([8]) المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية عبد الكريم زيدان ص37.
([9]) البخاري (4318).
([10]) فتح الباري 8/46 ط دار السلام.
([11]) البخاري (3155).
([12]) مسلم (1940).
([13]) البخاري (4418).
([14]) البخاري (4486).
([15]) السلسلة الصحيحة رقم (2736).
([16]) آثرًا: أي: حاكيًا عن غيري أنه حلف بها.
([17]) البخاري (3424) ومسلم 01654).
([18]) أبو داود (462-571) وصححه الألباني.
([19]) أبو داود (464) وضعفه الألباني.
([20]) رواه النووي في الأربعين وقال حديث حسن صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح.
([21]) رواه مسلم (2361).
([22]) البخاري (5130) والترمذي (2981).
([23]) رواه أبو داود (3584).
([24]) السلسلة الصحيحة رقم (3509).
([25]) الطبراني في الكبير 22/977، وقال الهيثمي إسناده حسن 6/86.
([26]) البخاري (4409).
([27]) مسلم (1628).
([28]) الإصابة رقم الترجمة (5282). ط. بيت الأفكار الدولية.
([29]) حياة الصحابة ص (471) ط بيت الأفكار، وعزاه لابن أبي شيبة وهو في كنز العمال (7/56).
([30]) أحمد 4/180.
([31]) أبو داود (4066) وحسنه الألباني.
([32]) ابن كثير في تفسير الآية 6/482 ط دار طيبة وروى ابن أبي حاتم بمعناه عن عائشة في نساء الأنصار عند نزول قوله تعالى (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) ابن كثير 6/46. وهو في سنن أبي داود (4102) وصححه الألباني.
([33]) البخاري (4758).
([34]) أبو داود (5272) وحسنه الألباني.
([35]) الظلال 3/1495.
([36]) بدائع التفسير 2/334.