عدة البارين وتوعد العاقين
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي حذرنا من دار الغرور، وأمرنا بالاستعداد ليوم البعث والنشور، أحمده وهو الغفور الشكور، أمر ببر الوالدين وحذر من العقوق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد...
إن رضا الله في رضا الوالدين، يشهد لذلك ما جاء في القرآن الكريم من آيات كثيرة فيها الأمر بعبادة الله تعالى وحده، مقرونًا بها الإحسان إلى الوالدين، كقوله تعالى: }وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا{، وقوله: }وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا{ وهذا دليل على ما بينهما من تلازم وارتباط إذ لا تتحقق العبادة مع العقوق، ولا يغني الإحسان إلى الوالدين مع الإشراك بالله؛ لأن حقيقة العبادة هي المحبة مع الذل والخضوع لله تعالى، والامتثال والطاعة ولا تحصل حقيقة العبادة إلا بهما.
فالعقوق عصيان واستكبار فهو نقص في حقيقة العبادة ومعناها، كما ذكره المفسرون في أصحاب الأعراف عند قوله تعالى: }وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاً بِسِيمَاهُمْ{، وإلى هذا يشير رسول الله ﷺ فيما رواه عمرو بن مرة الجهني t أن رجلا جاء إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله شهدت أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصليت الخمس وأديت زكاة مالي وصمت رمضان، فقال النبي ﷺ: «من مات على هذا كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا -ونصب أصبعيه- ما لم يعق والديه» [رواه أحمد والطبراني بسند صحيح].
وروي عن ابن عباس أنه قال: ثلاث آيات نزلت مقرونة بثلاث لا تقبل منها واحدة بغير قرينتها.
إحداها: قوله تعالى: }وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ{ فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يقبل منه.
الثانية: قوله تعالى: }وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ{ فمن صلى ولم يزك لم يقبل منه.
الثالثة: قوله تعالى: }أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ{ فمن شكر الله ولم يشكر الوالدين لم يقبل منه.
وليس الأمر بالإحسان إلى الوالدين من خصوصيات هذه الأمة فحسب، بل هو أمر إلهي متقدم، كتبه الله على الأمم التي قبلنا كما قال عز وجل: }وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ{.
كما أثنى الله تعالى على الأنبياء وخص بالذكر منهم يحيى u لأنه كان برًا بوالديه على كبر سنهما، والبر في وقت الحاجة أعظم منه في غيره، والحاجة لا تتحقق إلا في سن الشيخوخة والضعف }وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا{. كما ذكر عيسى u لتفانيه في خدمة أمه واعتزازه ببرها، واعترافه بفضلها، وخفض الجناح لها: }وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا{.
والأمر بالإحسان إلى الوالدين عام مطلق ينضوي تحته ما يرضي الابن وما لا يرضيه من غير احتجاج ولا جدل ولا مناقشة.
وهذا أمر هام جدًا يجب الانتباه إليه؛ لأن كثيرًا من الأبناء يغفلون عنه، إذ يحسبون أن البر فيما يعجبهم، ويوافق رغباتهم، والحقيقة على خلاف ذلك وعكسه.
فالبر لا يكون إلا فيما يخالف هوى الابن وميوله، ولو كان فيما يوافق هواه لم يسمَ بارًا.
لما روى البيهقي في شعب الإيمان، والبخاري في الأدب المفرد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما من مسلم له والدان مسلمان يصبح إليهما محتسبًا إلا فتح الله له بابين -يعني من الجنة- وإن كان واحدًا فواحدًا، وإن أغضب أحدهما لم يرض الله عنه حتى يرضى عنه، قيل: وإن ظلماه؟ قال: وإن ظلماه.
وشروط البر ثلاثة:
الأول: أن يؤثر الولد رضا والديه على رضا نفسه وزوجته وأولاده وغيرهم من الناس.
الثاني: أن يطيعهما في كل ما يأمران به وينهيان عنه سواء وافق رغبته أم لم يوافقها، ما لم يأمراه بمعصية الله تعالى.
الثالث: أن يقدم لهما كل ما يلحظ أنهما يرغبان فيه من غير أن يطلباه منه عن طيب نفس وسرور، مع شعوره بتقصيره في حقهما، ولو بذل لهما ماله كله.
رضا الوالدين مقدم على رضا الزوجة:
ومن الناس من يكرم زوجته ظانًا فيها منتهى الوفاء، ويهين أمه ناظرًا إليها نظرة العداء.
روى أبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كانت تحتي امرأة وكنت أحبها وكان عمر يكرهها، فقال لي: طلقها، فأبيت فأتى عمر النبي ﷺ فذكر ذلك له فقال النبي ﷺ: «طلقها».
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة t قال: كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يومًا فأسمعتني في رسول الله ﷺ ما أكره، فأتيت رسول الله ﷺ، وأنا أبكي، قلت: يا رسول الله، إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى عليَّ، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال رسول الله ﷺ: «اللهم اهد أم أبي هريرة» فخرجت مستبشرًا بدعوة نبي الله ﷺ، فلما جئت فصرت إلى الباب، فإذا هو مجاف، فسمعت أمي خشف قدمي فقالت: مكانك يا أبا هريرة، وسمعت خضخضة الماء، قال: فاغتسلت ولبست درعها، وعجلت عن خمارها، ففتحت الباب، ثم قالت: يا أبا هريرة أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، قال: فرجعت إلى رسول الله ﷺ فأتيته وأنا أبكي من الفرح، قال: قلت: يا رسول الله، أبشر قد استجاب الله دعوتك، وهدى أم أبي هريرة، فحمد الله وأثنى عليه وقال خيرًا. رواه مسلم.
وفي الأدب المفرد: قال: كان أبو هريرة إذا دخل إلى أرضه بالعقيق صاح بأعلى صوته: السلام عليكِ ورحمة الله وبركاته يا أماه فتقول: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، فيقول: رحمك الله كما ربيتيني صغيرًا، فتقول: يا بني وأنت فجزاك الله خيرًا ورضي الله عنك كما بررتني كبيرًا.
وهذا أويس بن عامر عاصر النبي ﷺ ولكنه لم يره، فآمن به وصدقه وتمنى أن يهاجر إليه في المدينة غير أن اهتمامه بخدمة أمه أقعده عن الهجرة المباركة؛ لأنه طمع في مرافقة الرسول ﷺ في الجنة، بسبب بره بأمه وانصرافه إلى خدمتها، ولو فاتته الصحبة الشريفة في الدنيا ورؤية الرسول ﷺ.
ففي صحيح مسلم عن أسير بن جابر قال: كان عمر بن الخطاب إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم: أفيكم أويس بن عامر، حتى أتى على أويس، فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال: من مراد، ثم من قرن قال: نعم، قال: فكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم، قال: نعم، قال: لك والدة، قال: نعم، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لأبرها، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل، فاستغفر لي، فاستغفر له، فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة، قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكون في غبراء الناس أحب إليَّ. الحديث.
إن عمر t أفضل من أويس ولا شك، غير أن وصية النبي ﷺ له أن يطلب من أويس الاستغفار دليل على فضل أويس وعلو مقامه عند الله تعالى حتى لو أنه أقسم على الله لأبر قسمه، وكل ذلك لبره بأمه وزهده في الدنيا وإعراضه عنها.
وروى عبد الرزاق في المصنف، والبيهقي في الشعب، وهو مرسل، عن يحيى بن أبي كثير قال: «لما قدم أبو موسى وأبو عامر على رسول الله ﷺ فبايعوه وأسلموا قال: ما فعلت امرأة منكم تدعى كذا وكذا؟ قالوا: تركناها في أهلها، قال: فإنها قد غفر لها، قال: بم يا رسول الله؟ قال: ببرها بوالدتها، قال: كانت لها أم عجوز، فجاءهم النذير أن العدو يريد أن يغير عليكم الليلة، فارتحلوا ليلحقوا بعظيم قومهم ولم يكن معها ما تحمل عليه أمها، فعمدت إلى أمها، فجعلت تحملها على ظهرها، فإذا أعيت وضعتها ثم ألصقت بطنها ببطن أمها وجعلت رجليها تحت رجلي أمها من الرمضاء حتى نجت».
فاتقوا الله تعالى واستقيموا إليه واستغفروه، فإن بعضًا من أبنائنا في هذا الزمان، فسدت أخلاقهم، وماتت مشاعرهم، واضمحلت عزتهم، فأعرضوا عن والديهم، وأقبلوا على زوجاتهم تقليدًا للغرب، وذلك بسبب ما يشاهده بعضهم في الدش وغيره من صور نساء فاتنات وأغان مثيرة وتمثيليات مغرضة يقصد بها الغرب الكفرة تزيين الفاحشة، وتعليم السرقة، والتدريب على الجريمة، ونبذ مكارم الأخلاق والعادات العربية الكريمة.
وقد قال ﷺ: «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، ولكن أعداءنا الغربيين الكفرة، يودون أن يكون أبناؤنا، لا دين ولا عقيدة ولا دنيا ولا أخلاق ولا مروءة، وذلك فيما يبثونه في إعلامهم وبرامجهم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
ولهذا كثر في الأبناء العقوق، فتجد أحدهم لا ينفذ أمر أمه إلا إذا دعت عليه ورفعت صوتها عليه، ولا يلبي طلب أبيه إلا إذا عبس في وجهه وقطب، ولا يرغب في السكن مع والديه وهو أصلح له في دينه وأقصد وأوفر له في دنياه، وأهنأ له في عيشه، وقلما نجد ولدًا يكتفي بإشارة ويفهم بنظرة، ويتعظ بتأديب حسن.
إن إبراهيم u بلغ بره بأبيه مبلغًا عظيمًا، كان يدعو أباه آزر إلى الجنة ويدعوه أبوه إلى النار، يدعو أباه إلى عبادة الله وحده، وهو يدعوه إلى عبادة الأصنام، يغضب أبوه ويهدد ويتوعد.
كما قال الله تعالى: }أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا{ فيأخذه إبراهيم بالخلق والرفق }سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي{ الله أكبر، ما أعظم بر الولد حين يقابل أباه الغضب الثائر بالهدوء وضبط الأعصاب والأناة! وما أجمل أن يصيح بك أبوك ثم يتقدم نحوك رافعًا يده للضرب وأنت تنكب على قدميه بالتقبيل! إن الحياة دين وقضاء، والجزاء من جنس العمل.
فلقد رزق الله إبراهيم u إسماعيل u فبلغ من البر بأبيه ما لم يبلغه أحد في طاعة الوالد. كما ذكر الله عز وجل ذلك في كتابه المبين فقال تعالى: }فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ{ قال ابن كثير رحمه الله تعالى: }فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ{ بمعنى شب وارتجل وأطاق ما يفعله أبوه من السعي والعمل }قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى{ وروؤيا الأنبياء وحي.
وإنما أعلم ابنه إسماعيل بذلك ليكون أهون عليه وليختبر صبره وجلده وعزمه في صغره على طاعة الله تعالى وطاعة أبيه }قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ{ أي: امض لما أمرك الله من ذبحي }سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ{ أي سأصبر وأحتسب ذلك عند الله عز وجل، وصدق صلوات الله وسلامه عليه فيما وعد }فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلهُ لِلْجَبِينِ{ أي فلما تشهد وذكر الله تعالى إبراهيم على الذبح والولد شهادة الموت، وقيل: أسلما يعني استسلما وانقادا: إبراهيم امتثل أمر الله، وإسماعيل طاعة الله تعالى وطاعة أبيه، ومعنى: «تله للجبين» أي: صرعه على وجهه ليذبحه من قفاه، ولا يشاهد وجهه عند ذبحه ليكون أهون عليه.
قال ابن عباس وغيره: }وَتَلهُ لِلْجَبِينِ{ أكبه على وجهه وقال }وَتَلهُ لِلْجَبِينِ{ وعلى إسماعيل قميص أبيض، فقال له: يا أبتي إنه ليس لي ثوب تكفنني فيه غيره فاخلعه حتى تكفنني فيه، فعالجه ليخلعه فنودي من خلفه }أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا{ فالتفت إبراهيم فإذا بكبش أقرن أعين قال تعالى: }وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ{ وقوله تعالى: }وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا{ أي قد حصل المقصود من رؤياك بإضجاعك ولدك للذبح.
وذكر السدي وغيره أنه أمرّ السكين على رقبته فلم تقطع شيئًا بل حال بينهما وبينه صفحة من نحاس ونودي إبراهيم u: }قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ{ أي هكذا نصرف عمن أطاعنا المكاره والشدائد، ونجعل لهم من أمرهم فرجًا ومخرجًا }إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ{ أي الاختبار الواضح الجلي حيث أمر بذبح ولده، فسارع إلى ذلك مستسلمًا لأمر الله تعالى منقادًا لطاعته، ولهذا قال تعالى: }وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى{.
وقال تعالى عن أكبره أخوة يوسف: }قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ{.
أيها الأولاد أيها الأبناء، الوالد لا يرضيه إلا أن يرى من ابنه إقبالاً عليه بقلبه ونفسه وانصياعًا منه لأمره، وسعيًا لتحقيق ما يسره ويبهجه، وغاية البر أن يقضي الولد له حاجته من غير أن يسأله قضاءها ويقدم إليه ما لا يبين له حاجته إليه ويعطيه من غير أن يطلب منه.
فرضا الوالدين خير من الدنيا وما فيها، لئن كان المال ذخرًا في الدنيا، فرضا الوالد ذخر في الدنيا والآخرة، فالوالد شجرة وارفة تأوي إلى ظلها، وحصن منيع تلوذ به، وسيف قاطع يذب عنك، وراع يحميك، ويسدي إليك الحكمة التي تبصرك بشؤون دينك ودنياك، فإذا فقدته فقد خسرت كل هذه النعم، وكم نعمة لا يعرف المرء قيمتها إلا بعد زوالها.
أنصف أيها العاقل، لو أن أباك مرض يومًا هل تهجر فراشك ليلاً وتعطل عملك نهارًا، وتلزم سريره كما لو كنت أنت المريض؟ ولو أنه تأخر ساعة عن موعد حضوره إلى البيت مساء يوم، فهل تقلق عليه وتضطرب وتحسب لتأخره ألف حساب، كما لو تأخرت أنت؟ كم تخطئ معه فيصفح عنك، وكم يرى منك ما يسوؤه فيتغاضى عنك.
إن أبسط كلام العقوق كلمة (أف) وأبسط نظراته نظرة الغضب، والدك أشفق الناس عليك، وأرأفهم بك، وأكثرهم حبًا لك، أفيجوز لمن كانت هذه حاله أن تعصي أمره، وما يأمرك إلا بخير، وتتأفف من تصرفاته، وهو أدرى منك بما هو الأصلح لك، وتنظر إليه نظرة اشمئزاز، إن رأيت منه ما لا يرضيك؟
ليس من الأدب أن ترد يدك في فم من هو أكبر منك، أي أن تجاوبه أو تصوب إليه نظرة احتقار واستهتار، فكيف بأبيك ورضا الله في رضا الوالدين، وسخطه في سخط الوالدين.
أيها الابن: عليك أن تخفض صوتك، وتغض من طرفك، وتلين قلبك إذا ثار أبوك وغضب، انظر إلى أبيك نظرة المحب الرحيم، الخجل المتواضع.
أيها الأبناء اتقوا الله تعالى في آبائكم، وأدوا إليهم حقوقهم، وأجهدوا أنفسكم في كسب رضاهم، فهم الذين بذلوا أموالهم وأوقاتهم من أجلكم، وهم الذين أعطوكم من غير من ولا أذى، ويتمنون طول حياتكم، وتعطونهم أيها الأبناء مع المن والأذي مترقبين لمماتهم أطيعوهم والتزموا الأدب معهم ولا ترفعوا أصواتكم فوق أصواتهم، ولا تنظروا إليهم بعين الغضب والاشمئزاز.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
كتبه/ عبد الله بن إبراهيم القرعاوي