رسائل دعوية
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
- رسائل
دعوية
- مقدِّمـة
- خفقةٌ من قلب مُحبِّك
- هذه ثمرة استجابتك
- هكذا فلتكن
- دورُك المنتظَر
- رسالة إلى مُدَخِّن
- رسالة إلى لاعب البلوت
- رسالة إلى رجل الأمن
- رسالة إلى خرِّيج
- رسالة إلى صاحب الطبق العالي
- رسالة إلى المتلبِّسين بالإخاء
- إلى المتناسين لخلق الرحمة
- فطر دَنَّسَتْها الشَّهوات
- دعوة إلى النجاة
- بأيِّ حال عدتَ يا رمضان
- يعود رمضان.. أما آن لك أن تتوب
- يا بنت الجزيرة قفي فأنت متَّهَمةٌ
- أختاه: لعل الواشين كذبوا
- أختاه لعل القائلين صدقوا
- صرخة مشجِّع ومساءلة ناصح
- صور من المعاناة
- مواساةُ مجتمع
- الثَّعالب البشرية في موقف مصالحة
- إقامتي نظامية وسلوكي منحرف
- الحياة الزائفة والعبرة المفقودة
- الإنسان الذي نريد
- للمتأسِّين فقط
- وقفة محاسبة
- بين الشروق والغروب لحظة مساءلة
رسائل دعوية
مشعل بن عبد العزيز الفلاحي
مقدِّمـة
الحمد لله الذي علم بالقلم، علَّم الإنسان ما لم يعلم، وأشهد أن لا إله إلا الله القائل: خلق الإنسان علمه البيان، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله النبي الأمي المبعوث رحمة للعالمين صلى الله عليه وسلم.
أما بعد:
فإن هذه النفسَ البشريةَ ما خُلقت إلا لعبادة الله عز وجل؛ قال الله مؤكِّدًا هذه القضية: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات]، والعبادة في مفهومها العام أوسع مما يعتقده كثيرٌ من الناس؛ فهي كما قال شيخ الإسلام: "العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة"، وفي هذا المعنى دلالة واضحة وجَليَّة على أن حركات الإنسان، سكناته وقوله وفعله، بل حتى تفكيره - عبادة متى خلصت النية وصَفَتْ من شوائب النفس الأمارة.
ومن زمن بعيد كانت هذه النفس دائما تحدِّثني حديثا يؤلِّب في نفس المساهمة في الإصلاح والمشاركة في البناء، وبالتالي تجيش مشاعري في أحيان كثيرة بأشجان وأحزان، أشجان كلما رأيت صورة الإصلاح تبدو واضحة جلية كما أعاين الحق أشبه ما يكون ببزوغ الفجر الجديد، وكم كانت هذه الصورة في أوقات كثيرة ترفعني إلى ذر السحاب فأُحَلِّقُ بنفسي عاليًا، حتى ربما الأفكار تواردت هناك فسقت هذه الريشة من سفح ذلك الفرح فسبكت جل آمالها وطموحاتها، وأحيانا تجيش هذه المشاعر بشيء من الحزن والآهات فتفجر في نفسي ينابيع الهموم على واقع أمتي المرير فتستقي هذه الريشة من نفس هذه الأحزان، فتكتب مجبرة راغمة، وكنت بحمد الله في كلا الحالين أجير هذه المشاعر لخدمة هذا الدين ولإصلاح هذه الأمة، ولن تجدني أمتي يوما مخذلا في الطريق ولا معولا من معاول الهموم؛ كيف ذلك وأنا أدرك أن الحياة كلها سحابة صيف عابرة، فلهذا الدين روحي ونفسي فداء لهذه العقيدة كل ما أملك من أفكار، لها الأوقات والأعمار؛ فهي أعزُّ ما أملك، أحيا عليها وأموت من أجلها.
سأثأر ولكن لرب ودين | وأمضي على سنتي في يقين | |
فإما إلى النصر فوق الأنام | وإما إلى الله في الخالدين |
أخي الكريم:
بين يديك جملة رسائل صحفيَّة احتضنتها جريدة المدينة من سنوات فأخرجتها للقراء وهي تلبس ثوب الكلمة الهادفة والمعاني السامية؛ فهي إهداء مني لشخصك الكريم غير أني آمل أن تعذرني؛ فقد كان إعدادُها وليدَ الساعة وأطولها عمرا لم يلبث ضحى يوم، إنها ليست وليدة تفكير عميق إنما كدر نفس وصفائها ربنا أخرجها ولم يكتمل نموها بعد، وحق لها اليوم أن تتمثل أمامك قول القائل:
إن تجد عيبًا فَسُدَّ الخللا | جَلَّ مَنْ لا عيبَ فيه وعلا |
فالنفس طبعها الطيش والعجلة، وليت شعري اليوم من يصبِّرني؟! من يُعَلِّمني؟! الأناة وواقع أمتي يحترق عبثا من اللاهين.
هذه رسائلي بين يديك لا أعدم منك – إن شاء الله - رسالةً تُصْلحُ بها الأخطاء، وكلمات تقوم بها المعاني، وإشارات توسد بها المثالب، لك مني وافرُ التحية؛ فأنت المرآة التي أرى بها صورتي واضحةً جليةً... إلى رسائل أخرى قادمة، إلى ذلك الحين وكل حين ألقاك فأنت نعم الناصح والمعين.
خفقةٌ من قلب مُحبِّك
أيها الإنسان.. هي الحياة صدف وعجائب؛ أتذكر لقياي بك؟! أتذكر ذلك المسار الذي جمعني وإياك؟! نعم، نعم؛ لا أظنُّك تنسى مداد الأيام وسراب النهار؛ بل أظنك تذكرت حتى شعاع القمر في أحلى لياليه، أيها الإنسان هي محض الصدفة التي قادت بيدي إلى التعرف عليك فكانت أجمل الليالي وأحلى اللقاءات، كنت أظن أيها الإنسان أن رابطةً مثل هذه صعبٌ أن تحلَّ قيودها، وأن توسد أيامها، ويغفل عن شيء من أعاجيبها.
أيُّ تَغَيُّر تغيَّرتَه يا ترى أمامك؟! أترى أيها الإنسان أنَّ التزامي بمنهج رسولك عيب وأثره يحجب شعاع حبك لي؟! أم يا ترى أن قصرَ ثوبي وظهور شعرات وجهي قدح ومذمة تتهرب بها عني، وتحجب شمس ناظريك عن مقابلتي؟! إنني يا أخي أحببت هذا الطريق وتعلقتُ به لأنه يخدم منهجي ويعزِّز قوتي، بل يزيدني شموخا ورفعة.
أحببت يا أخي هذا الطريق لأنه أراحني من عناء الأوهام، وصدى الهمسات، وتجرُّع الغُصَص، جعلني أشعر بكرامتي، أكسبني معرفة هدفي في الحياة، بل أرشدني إلى مغزى طريقي الطويل.
مرة أخرى أعاتبك لماذا أمسك بأجاديب ثوبك وتتملق مني؟! لماذا أحاول شدَّك جهدا ولازلتَ تحاول الفكاك والشُّطوح عن طريقي؟ أسألك يا أخي مرات ومرات، هل تشعر بسعادة فيما أنت فيه؟ هل تحس بهتاف الحب؟ هل تشعر بشيء من السمو والرفعة؟ أظنك تقول نعم؛ فلقد ناداني وإياك صوت إمامنا السلفي الحسن البصري وهو يقول: "وإن هملجت بهم البراذين وجلجت بهم الخيول فإن ذل المعصية لا يفارقهم"؛ فهلا استشعرت عقبات الطريق المظلمة؛ إنني لعميق حبي لك أدعوك إلى التفكير بشرط أن يكون بينك وبين نفسك، أدعوك إلى الإجابة على أسئلة هي المعنى الحقيقي للحياة، لماذا خلقت؟ ما هدفك في الحياة؟ أي رسالة تحملها؟ أي منهج تسير عليه؟ من قدوتك؟ حينها نتحول أنا وإياك بصدى صوت واحد نقول:
سأثأر ولكن لرب ودين | وأمضي على سنتي في يقين | |
فإما إلى النصر فوق الأنام | وإما إلى الله في الخالدين |
وداعا وداعا إلى رسالة أخرى بعنوان "هذه ثمرات استجابتك".
هذه ثمرة استجابتك
أيها الإنسان، تحدَّثتُ معك بالأمس عن الأمل المنتظَر منك، وأشكرك جزيلًا على حسن استجابتك، ولا زلت معك على ثنايا الطريق، أخي الإنسان، إنَّ ثمرةَ استجابتك لدين الله والالتزام بنهج رسولك الكريم يجعلك في عداد من قال الله فيهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [الأحقاف: 13]. يجعلك في زمرة قول رسولك الكريم: «إن الله إذا أحبَّ عبدًا نادى جبريل: إني أحبُّ فلانًا فأحبه. فيحبه جبريل، وينادي في السماء: إن الله يحبُّ فلانًا فأحبُّوه. فيحبُّه أهلُ السماء، ويوضع له القبول في الأرض»([1])، وفي رواية: «إن حبه ليشرب مع الماء البارد».
أيُّ فضل وأيُّ عظمة أنت تعيشها بين ظلال الآية والحديث؟! كم هو العمر بأيامه ولياليه في مثل هذه السعادة؟! وكم هو الزمن بسنينه وشهوره؟! أقل بكثير من لحظات الهاتف المشرق التي تعيشها في ظل هذه الحياة الهادفة، إني أبارك لك عمرك دقائق أيامك وثواني لياليك على ما أنت فيه من نظرة وإشراق لا زالت معك على جنبات الطريق؛ فأذكِّرك بقول أحد سلفك الكرام (أبو سليمان الدَّاراني): ذاق طعم الإيمان واستشرب تعاليمه. فقال معبِّرًا: "والله إنها لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها القلب فرحا، فأقول: إن كان أهل الجنة فيما نحن فيه فوالله إنهم لفي عيش رغيد". أسعد الله أيامك وأراحك من عناء الهموم، وفي الختام وداعا وداعا..
إلى قريب في رسالة بعنوان "هكذا فلتكن".
هكذا فلتكن
إنني قبل أيام هاتفتُك برسالة ذكَّرتُك فيها بعرى ما نعيش فيه من سعادة ورأفة، واليوم أُذَكِّرُك بأنَّ تلك السعادةَ هي حلم ينتظره الكثير؛ لكن ربما تحقق ذلك للكثيرين ثم فقد منهم بين لحظة وأخرى؛ إنني أدعوك اليوم لتعزيز موقعك بين أهل الاستقامة؛ فلئن ظفرت بإخلاص من الشيطان في لحظة من اللحظات فأنين قسمه يلاحقك في كل اللحظات: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [ص: 82].
إن الاستقامةَ تتطلَّبُ مني ومنك أكبر مما تتصور، وعناءً أكبر مما مضى؛ إنك تحتاج دائما إلى ربك ومولاك يثبتك ويُعَزِّزُ موقعَك وينصرك على أعدائك، وثمة مقومات إن كانت على بالك فأبشر بعزِّ الدنيا والآخرة، وأبشر بكلِّ عزٍّ وثبات؛ إنها أولًا: قوةُ صلتك بربك ومولاك؛ وذلك عن طريق إقامة الفرائض على الوجه الأكمل والأحسن.
المواظبة على قليل النوافل وكثيرها.
الاهتمام بقيام الليل ومناجاة السحر الطويل.
إحناء ظهرك على مطالعة الكتب وتقليبها.
الإقبال على القرآن حفظا وتلاوة واعتبارا.
إن هذه ثمة مقومات، أمثالي وأمثالك بحاجة ماسة إليها، وبالمواظبة عليها وسداد ثغراتها تكتمل شخصيتك، وينمو جذرك، ويصلب عودك، فتعيش صالحا مصلحا، نورٌ على نور يهدي الله لنوره من يشاء.
سدَّدك الله وزادك نورا وبصيرة.. وداعا. وداعا.
في رسالة أخرى بعنوان: دورُك المنتظَر
دورُك المنتظَر
أيها الحبيب.. هل نفَّذْتَ نصيحتي؟ هل تشعر بنماء جذرك، وصلابة عودك؟ إذاً هيا معي إلى دورك في الحياة.. إن الإسلام بحاجة إلى مثلك، أمثالك الجادين المخلصين؛ إننا نعيش على مضض الجمر في انتظار دورك، فما هو يا ترى دورك في الحياة وكيف تؤدِّيه؟ إنني أدعوك أن تساهم بكل ما تستطيع.. فالثغرات كُثُرٌ والرجالُ القادمةُ هم القلَّة.
إنني أدعوك إلى الخطابة؛ فهي باب واسع ينتظر أمثالك، أدعوك إلى إلقاء الموعظة الصادقة بين حين وآخر؛ فهي مَنْفَذٌ إلى أوقات المصلين المتعبدين، أدعوك إلى المقالة الصحفية؛ فقُرَّاءُ الصُّحُف هم اللوحة العريضة التي تستقبل هتاف كلماتك، أدعوك إلى مناصحة الناكصين؛ فهم في أَمَسِّ الحاجة إلى نَثْر كلماتك ودقَّة عباراتك، أدعوك إلى إمامة المسجد؛ فهي حقل عظيم للتربية والتعليم، أدعوك إلى إحناء ظهرك وتقليب صفحات الكتب؛ فنحن إن صَحَّ التعبيرُ في أزمة إلى العلماء المصلحين الصادقين المربِّين، وفي الختام كل سبيل وكل منفذ يخدم دينك فنحن في أمسِّ الحاجة إليه، طَيَّبَ اللهُ روحَكَ، وحَسَّنَ نيَّتَك، وجعلك من أهل هذا الشرف المشرق.
وداعا، وداعا، وداعا، إلى لقاء ليس بالبعيد.
رسالة إلى المتخلِّفين عن الصلاة
أخي الحبيب: أحييك بتحية الإسلام تحية أهل الجنة يوم يلقونه سلام، فسلام الله عليك ورحمته وبركاته، وبعد أحدثك عن حبي لك، أو عن إشفاقي ووجلي عليك، أم أحدثك حديثا غير ذلك كله؟ أحدثك عن أمنياتي وآمالي وطموحاتي، وعن كل ذلك سأحدثك.
أخي الحبيب: يجمعني بك رباط أخوة يلبسنا بها كتاب ربنا الكريم: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 1]، يجمعنا بك نَسَبٌ عريقٌ؛ فأنت يا أخي ابن لخالد، وحفيد لمعاذ، وذو رباط بسلمان، أنت الذي يُجلُّك ربُّك بقوله: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ﴾ [الإسراء: 70]. فعشت بهذا التكريم أسمى مخلوق على وجه هذه البسيطة، أنت الذي تدخل في زمام أمة عاشت كل معاني التكريم في قول ربها: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: 110]. وحديث رسولها: «أنتم الآخرون السابقون يوم القيامة»، كل هذا لك أنت لأنك فتى الإسلام وشريانُه الحيويُّ، أو يحق لك اليوم أن تنسى كل هذه المعالم ولا تعطيها قدرها المرموق.
أين أنت يا أخي عن بيوت الله؟ كم صَلَّت جموعُ المسلمين من صلاة، أو لم ترهم راكعين ساجدين؟! أين أنت يا أخي عن هذه الجموع؟! أين أنت عن القارين والتالين؟! بل أين أنت عن سماع الأذان الذي يتردد في أنحاء قريتنا الحبيبة؟! أَوَتُصرُّ يا أخي أن تكون نشازا ضد هذا الكون كله؟! مصداقا لقول ربك: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ﴾ [الحج: 18]. أين أنت يا أخي من سجود الشَّجَر والدَّوَاب؟! أَوَتُحبُّ يا أخي أن يغلبَك وينتصرَ عليك يا أخي حيوان أو جماد فيخر ساجدا لله طائعا له ملبيا لندائه وأنت تأبى ذلك كله؟! فواعتبي عليك يا فتى الإسلام.
أخي الحبيب: تلفت عند تَأَخُّرك عن أداء الصلاة، من هم أقرانك؟ من هم الذين يعيشون سمات التخلف؟ إن لم يكن الشاذين من الناس، فهم فئة غلبهم الشيطان، وانتصرت عليهم شهواتهم، وأَنْسَتْهم أهواؤهم حقَّ خالقهم ومولاهم، أَفَيَسُرُّكَ أن تكون جليسَ هؤلاء وتترك ثلل العابدين الطائعين؟!
أخي الحبيب: قف مع نفسك لحظات وأنت تسمع صوت المؤذن "الله أكبر"، قَدِّرْ معنى هذه الكلمة، أَعْطها حقَّها من الرعاية، أَفَيَسُرُّكَ أن تكون هذه الكلمة أهونَ شيء عندك؟ أَفَتَنْسى كلَّ معالم الربوبية؟ أفيعجبك أن يردِّدَ المؤذن "الله أكبر" وأنت تلوي عنقك عن سماعه؟ أوما سألتَ نفسَك لماذا الأمة كلها تستجيب لهذا النداء وأنت الوحيد الذي تكابر؟ أفتعاند من خلقك؟! أتجابه من ربَّاك؟! عد لنفسك، ذكِّرها من الذي رباك، من الذي خلقك فسواك، من الذي أَمَدَّكَ بالنِّعم، من الذي جعلك مخلوقا كريما في أعلى معاني الكرامة، أفتنسى ذلك كلَّه؟! لا يا فتى الإسلام؛ فليس ذلك من خُلُق الكرماء.
أخي الحبيب: أَوَنَسيتَ حديثَ القرآن: ﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأعراف: 97-98-99].
أخي الحبيب: أولا تريد الجنةَ: "فيها ما عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر" أولا تخاف من النار: ﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ﴾ [ق: 30]، أولا تخشى لقاء الله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ [الفجر: 14].
أخي الحبيب: الأملُ يَحْدوك إلى التزام المنهج الحق والسير مع الرفقة الصالحة، فهيا نأخذ بيد بعض إلى أبواب المسجد، فنغسل كل خطيئة، ونَلج إلى أبواب الرحمة، وحينها تُكْتَب في عداد الطائعين الصالحين.
أخي الحبيب: كلِّي أملٌ بعد رسالتي هذه أن تكتحل عيني برؤيتك بين صفوف المسلمين في بيوت الله عز وجل؛ فذلك كلُّ ما أتمنى.
رسالة إلى مُدَخِّن
أنت أخي أُكْبر فيك إسلامك، أُعَظِّم فيك صلاتك، أمتدح شبابك ورَيْعانك، رأيتُك تتكرَّر على المساجد، وسمعتُك تقرأ القرآن، وعلمت أنك أشدُّ حياء من أصحابك وذويك، أعجبني شخصك وشد نظري ملحظك، مثلك يحب ويُهْتَمُّ به؛ فأنت – يا رعاك الله - شبلُ الإسلام حبيبٌ محبٌّ؛ ولهذا كله أكتب إليه هذه الرسالة، أملي أن يُكْتَبَ لها قبولٌ عند شخصك الكريم؛ فذلك كلُّ ما أتمنى، أخي دعني أسألك: لماذا تُدَخِّنُ؟ أَوَلَسْتَ عبدًا لله؟! قل لي بربِّك: لمن تُصَلِّي؟ ولمن تقرأ القرآن؟ أليس ذلك كله لربك؟! لمن خلقك؟! فلماذا وأنت بهذا الهدف السامي تشعل سيجارة وتمسك بخرطوم (نارجيلة)؟! أوليس من تتعبَّد له حقيقًا بأن تخاف منه؟ لماذا يا أخي تعيش متناقضات في حياتك بين يدي ربك وأمنيات عدوك؟! أوليس أنت أخي حَريٌّ بالتفكير في ذلك ومحاسبة نفسك عنه؟! فليس ذلك بحياة؟
أخي المدخن: نفسُك التي بين جنبيك أمانةٌ عندك ووديعة استودعك ربك، أفتحبسها على غير هدى؟! أَتُكَبِّلُها بأساور المعصية؟! أَتُحْجم من سيرها بعراقيل واهية؟! لماذا غيرُك من الناس يُحَلِّق بهذه في عالم الروحانيات، وأنت تهيم بها في أودية الشتات والخذلان؟!
أخي المدخِّن: أَوَتَطيبُ نفسُك وتهنأُ بأَذيَّة عباد الله؟! لا أظن ذلك يليق بشخصك؛ فكيف وأنت تفعل ذلك بعمد وسبق إصرار، فتغدو إلى تلك السيجارة لتشعلها فتؤذي بريحها الآخرين فترتبط صورتك بصورة الإيذاء القبيحة، وكيف لو زدت أنت بنفسك هذه الصورة إيذاء أكثر فآذيت ملائكةَ الله في بيوت الله؟! أَوَيَسُرُّك أن تكون مُتَحَلِّيًا بصفة الإيذاء لعباد الله؟! لا؛ فأنت أكبر من ذلك كله.
أخي المدخن: زوجتُك المسكينةُ: أَوَتَرْضَى منها ريحا غير جميلة؟! تتزيَّنُ لك وتتجمَّل من أجلك، فتأتي إليك فتعاملها بغير المثْل، تتعمَّد إيذاءها برائحة الدخان المنتنة، وقد تصبر ولا تتحدث إليك بمأساتها وهي المسكينة مأسورة في سجن الروائح الخبيثة، فهل تقدم لإطلاقها من أَسْرها وستخبرك حينها عن سجنها المقيت، أَوَلَيْسَ الحقّ أن تكون على أحسن حال وأجمل هيئة؟!
أخي المدخن: المال الذي في يدك، أَوَلَيْسَ الله ملَّكَكَ إيَّاه لتنفق على نفسك من خير ما أعطاك، أفجزاء الجميل أن تقدِّمَه ثمنا لشراء سيجارة؟! وهل يعتبر هذا الفعل منك عذرا مسوغا أمام الله يوم القيامة.
أخي المدخن: العقلاء يسعون دائما للمعالي، يترقون في درج المكارم، يأنفون من الدنايا، وأنت تنزل نفسك إلى الحضيض وتهوي بها الدركات؛ فالتدخين يزري بك، ويثلم مروءتك، وينقص قدرَك، ويدل على ضعف إرادتك، وسفول همتك، ولا أظنك أخي ترضى بهذا السقوط المشين.
أخي المدخن: الصحة مطلب كل إنسان، وأنت بالذات أجمل ما عندك صحة نفسك أن تشوبها الأمراض وتفتك بها السموم، فلماذا أراك اليوم بهذه السيجارة تتعمَّد دمارَك، وتسعى لحَتْفك، أَوَسَمعت؟! فحديثُ السَّرطان على كل لسان، وأنت تقود نفسك إلى هذا الخطر الداهم، فلماذا تفعل ذلك كله؟!
وأخيرا أخي المدخن: أدرك أنك حبيب محب، واعلم نقاء فطرتك، وقوة شخصيتك، وأدرك أن نفسك الأبية قادرة بإذن الله أن تتخلص من أدران المعصية؛ فهذه رسالتي بين يديك، أملي أن تكون حاديك إلى أن تطلب معالى الأمور، والله يحفظ ويرعاك.
رسالة إلى لاعب البلوت
أخي الفاضل: أخصُّك برسالة حب وفيض أماني، أبوح لك بنصح مشفق يوم تخاذل الناس عن النصيحة، أبوح لك بسرِّي المكنون، أهامسك بحديث الود عسى أن يجدك على خير ما يريد.
أخي الفاضل: لقد رأيتُك تقضي أوقاتا غير قليلة على ورق البلوت، وزاد نظري سوءا أنك في أماكن الدناءة وحمأ المياه فتراكمت مثالب انهزام الشخصية على عاتقك، أفترضي يا أخي لنفسك هذه المكانة؟! لا؛ فلستُ أخالك بهذه الصفات الدنيئة.
أخي الفاضل: وقتُك ثمينٌ، وحياتُك جادَّةٌ، وأيَّامُك محسوبةٌ عليك، وساعات عمرك مسجَّلةٌ في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فما هو نظرك عن وقت لعب البلوت؛ أفي سجلَّات الحسنات أم في سجل السيئات؟! قارن بنفسك وستجد لهذا السؤال جوابًا، أَوَيَسُرُّكَ يا أخي الفاضل أن تذهب حياتُك في توافه الأمور؟! أَوَيُعجبك يا أخي أن ترى أولئك الجادِّين يستثمرون أوقاتهم في النافع المفيد وأنت على ورق البلوت دون فائدة ولا تحصيل.
أخي الفاضل: مَن الذي صَنَعَ الذي في يديك؟ من أحاك لك مثل هذه الخطط؟ أوليسوا أعداء دينك؟! ماذا يريدون منك؟! أيريدون نجاحا وتفوُّقا، أم يريدون أن تبقى بلا هدف ودون غاية؟ لقد تفنَّن الأعداءُ يا أخي في نزع اهتمامك بدينك ورفعة أمتك فوفروا لك من الوسائل ما يبقيك تعيش على انتصارات موهومة.
أخي الفاضل: ما الفرق بينك وبين الجادِّين من الناس؟ أولئك شغلوا أوقاتهم في النافع المفيد، وأنت في مكانك تراوح على هذه الورقات، يتقدم بهم العمر فيزيدهم رفعة عند ربهم عز وجل ويتقدم بك أنت العمر فيزيدك بُعْدًا عن الله عز وجل، أَوَيَسُرُّك أن يَنْتَصِر هؤلاء على شهواتهم، وأنت ترديك شهوتك في الحضيض؟!
أخي الفاضل: عجبًا لتلك المرأة المسكينة التي رضيت بالوحدة وعانت أوقات الفراغ دون صديق مؤانس وأنت لا تأبه بها ولا تسأل عن حالها، لقد خرجت المسكينة من جنح أبوين حنونين إلى جنحك الدافئ فأبت وريقات البلوت إلا أن تحرمها لذة البقاء معك فعاشت ألمين موجعين؛ ألم الفراق لأهلها وألم الوحدة بمنأى عنك؛ فإلى متى سَتَبْقَى هذه المرأة وحيدةً بين جدران أربعة؟! أَوَتَرْضَى أن تَمْتَدَّ لها يدٌ طائشةٌ أو عينٌ خائنةٌ؟! أَوَيَسُرُّكَ أن تبقى وحيدة بلا مسامر؟!
أخي الفاضل: مَنْ هم أصحابُك؟ من هم رفاقُك الذين يسامرونك على ورقات البلوت؟ أهم المسارعون إلى المساجد؟ أم هم الطائعون المتعبدون؟ أم هم ثلل لا من أولئك ولا من هؤلاء؟ أَوَيَسُرُّك أن تكون جليسَ شارب الدُّخان، وحبيب المتأخر عن الطاعة، وصديق الآبق من ربه؟! أَوَيُعْجبك يا أخي الفاضل أن يكون هؤلاء لك بأصحاب وخلَّان؟! إن كنت كذلك فخذ قولَ رسولك الكريم - صلى الله عليه وسلم -: «المرءُ على دين خليله فلينظر أحدُكم مَنْ يُخالل»([2])، فاجعله وسامًا على صَدْرك، حينَها يعرفُك كُلُّ من رآك، أَوَيَسُرُّكَ غدا موقفَ الحساب أن تتهرب منهم، تودُّ أن لا تراهم، تسارع الخطو بعيدًا عنهم مصداقًا لقول ربِّك: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف: 67]. أخشى عليك غدا أن تقول: ﴿يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا﴾ [الفرقان: 28].
أخي الفاضل: يقول رسولك الكريم - صلى الله عليه وسلم -: «لن تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يُسْأَل عن خمس: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه... الحديث»([3]). فهل ما تقدمه من ساعات على ورق البلوت سينفعك عند مساءلة الله لك يوم القيامة.
وأخيرا أخي الفاضل: أسأل الله أن يتغمَّدني وإياك بواسع رحمته، وأن يُلْهمنا رشدنا فيما يعود علينا بالنفع والفائدة، والله يحفظك ويرعاك.
رسالة إلى رجل الأمن
لا أكتمك سرًّا؛ أنت سرُّ أماني، أنت اللوحة التي بك استمددت نفوذي وامتناني، أنت في الطرقات وعلى الأزقة وفي الخلاوي، أنت اطمئناني، نعم أنت يا رجل الأمن أمين على سري، أمين على أمتي، أمين على حريتي، أمين على نفوذي، كنت مسافرا يوما بأهلي ويوما بخلَّاني وفجأة تعطلت ركابي فكنت فزعا على أهلي ونفسي وخلاني، فإذا أنت يا أخي نعم الناصر والمعين، وقفت لجانبي، ساعدتني، منحتني ثقتك، فنعم الرجل أنت.
سارت ركابي واطمأنَّت نفسي، فشكرت لك جميل صنيعك، وعظيم مسؤوليتك، وأنا اليوم أخي أكثر امتنانا بك، ومن منطلق هذا الحب وهذه الحفاوة أسديك يا أخي جملة معان تزاحمت في خاطري لكنني أرجو منك أن تكون أخا يتقبل وفاض كلمتي يرعيها سمعه، ويكنها قلبه، وتلتف عليها جوانح نفسه.
أولا: يا أخي، كم مرةً رأيتُك عابسَ الوجه مقطب الجبين محملق العينين، فقلت في نفسي: لماذا يا أخي هذا الخلق؟! بين الناس يا أخي بحاجة إلى رحمة ومواساة وطيب خاطر، لماذا لا تجعل من نفسك نموذجا بخلقك الكريم للرعية على شتى مساربها؟! حينها تكسب رضا ربك ويشار إليك بالبنان...
ثانيا: يا أخي كم هي من المسؤوليات التي عظمت بك؟ وكم هم الرعايا الذين تحت يدك وفي كنف رعايتك؟ هل قمت بالواجب تجاههم؟ أم أهملتهم ولم ترع لله حقا، وإني مسائلك أخي: الذين في الشوارع وعلى الأزقة في ساعات متأخرة مسؤولية من؟ إن لم تكن أنت المسئول، هؤلاء يا أخي هم مصدر خطر على المجتمع وعلى الأمة جميعا، وإذا وقع الخطر ممن نندب حينها، وأنت كنت المسؤول الأول والأخير؟! أخشى عليك بهذه الهزيمة النفسية وهذا التكاسل الدنيء أن تكون ساهمت في مرض مجتمعك، فالله الله أن يؤتى أمتك من ثغرة أنت من حراسها.
ثالثا: يا أخي، هذا اللباس عليك يعطي الأمة جميعا مصدر ثقة وأمان، وهذا النظر هو اللائق بك لأنك مؤتمن؛ فالكلمة السيئة والنظرة الخاطئة ثلم وثلم كبير؛ ليس لشخصك ولكن للباسك ولمجتمعك ولأمتك، فالله الله أن تكون رصيد أخطاء مجتمعة.
رابعا: يا أخي، زرت بحكم الحاجة عملكم لأمر يتعلق بي فساءني يا أخي رائحة الدخان المؤذية، وساءني كثيرا جمع من النارجيلات أمام مكانكم، وآلمني أكثر منظرك أنت، وأنت تمسك بسيجارة وتناول خرطوم نارجيلة، فقمت متأسِّفا من عندك متألما على حالك؛ فأنت أكبر من كل ما رأيت؛ فإياك إياك.
خامسا: العدلُ مَطْلَبٌ عظيمٌ، فليكن من سماتك، والظُّلْمُ مرتعٌ وخيمٌ فلا يكن من صفاتك، وانشد الحق أينما كنت، وإيَّاك من الكَسَل والتهاون؛ فهو داءٌ خطير، فلتكن جادًّا في عملك متميِّزًا في أدائه؛ فبلدُك يحتاج منك مثل هذه اللسمات.
وأخيرا: خصيتك من وقتي أثمنه، ومن جهدي أجمله، ومن دقائق راحتي أغلاها، وعسى أن أراك قريبا مثل ما أردت.
رسالة إلى خرِّيج
هاجت مشاعري، وتاقت نفسي، ترقرت عيوني فقط عندما سمعت بنبأ تخرُّجك، وقد تسألني لماذا؟ وليس من حَقِّي عليك السؤال، نعم يا أخي؛ تسألني عن هَيَجان مشاعري، أم تسأل عن جَرَيان دموعي، أم تسأل عن فيض الفرح الذي غمر قلبي وَهَيَّجَ قواي؟ لا تسل فإني لم أكن طيلة زمن دراستك غافل عنك لاه عن تقدُّمك وظهور شروق فجرك المرتقب؛ بل كنت أرصد تلك الأيام وأراها أشبه ما تكون ببطء سير السلحفاة التي ذهبت أخبار بطئها عبر كتب الأمثال.
أخي الخرِّيج، من عام إلى عام وأنا أنتقل بين أحياء تلك القرى وهذه التَّجَمُّعات وكنت أرى أشبه ما يكون بطيف العجز يتراءى أمام عيني، نظرت فإذا فوة المساجد خالية، التفتُّ فهذا يسأل، وهذا يصرخ، وهذا يستغيث.
حاولتُ أن أمضي قُدُمًا فإذا برجل يجتذب ثوبي شَدَّني إليه، فما أن استقبلتُه حتى أَثَّرَ في ظهري زحمةُ الناس، نظرت فإذا فئام من الناس تتدافع، حاولتُ أن أُغْمض عيني فإذا بأصوات تَئنُّ من داخل أسوار البيوت، دَفَعْتُ بالسَّبَّابة لأحجم عبيرَ الأصوات المتداخلة فإذا بمشاهد مؤسفة؛ أدركني الوقتُ وسار الزَّمن؛ فلا أنا بالذي أجبت الصارخَ ولا أنا بالذي لَبَّى فوضى الأصوات المتداخلة.
فما كان منِّي إلا أن جلستُ وأمكنت نفسي من الأرض ووضعت يدي على رأسي مرة ثانية كأن دافع الإصلاح وغز خاطري، فقمتُ مسرعًا إلى أكمة بيتي، حاولتُ أن أنظر فإذا بك مقبلٌ على وجهك أساريرُ الفرح.
ساعة وساعة وأنت تقترب وودي أن أعانقك، وفعلا أمكنت يدي من يدك ولم أرض إلا بتقبيل رأسك عرفانا مني بفيض الأُخُوَّة، وهنيئًا بالنجاح، ولعلك تسأل مرة أخرى، لكن على وجه اللَّهْفَة: كل هذا التِّرْحاب وهذه الأعطيات لماذا؟ فأقول: أوما رأيتَ يا أخي تلك المساجد التي أمست خاوية من النصح والتوجيه.
أين يا أخي تلك الصورة الزاخرة عن مساجد المسلمين الأوائل التي كانت دورا للعلم وكتاتيب لحفاظ القرآن الكريم؛ بل وكانت يا أخي إسطبلات لإعداد الجيوش وتجهيز الغزاة، ألم يَدُرْ في فكرك اليوم أن تكون بطلًا لساحتها؟! ألم يتوجَّب اليوم عليك عن ذي قبل أن تكون فارس الكلمة، وخطيب الجماعة، وقائد زمر الشباب، لا أشك أن تلك الصورةَ العريضةَ وزحامَ الناس خلف ظهري مأساة تدلُّك على أن الساحةَ خاليةٌ، وإن كانت تبدو في ثوب الكاسية العارية.
عفوًا يا أخي كأني بصورة الإصلاح تفسخ قناع الجهل، تلك الأبواب المغلقة على المساجد بدت اليوم تنفرج لعناقيد وأزاهير من شباب الأمة، انظر معي أخي صلاة العصر حانت، ارتفعت أصوات الأذان، من هم هؤلاء الصبية الذين يتدافعون إلى المساجد! إنهم أخي الصورة المشرقة طلاب حلقات التحفيظ، أزاهير المستقبل، وعناقيد الضياء، فهل أنت عازم أخي بعد غياب طويل أن تخدم دينك وترد عطاء مجتمعات بعطائك؟!
ساعة من وقتك لهذه الحلقات التي لبست ثوب الحزن على فراقك، وشحب الوجه كدرا إلى لقائك، وعطشت القلوب ظمأً في انتظار نصحك وإرشادك، وها نحن ننتظر لعل الفرج قرب.
مرة أخرى أخي مضت الأيام وسارت الركبان وأنا ألتفت يمنة ويسرة، أمشي خطوات وأتوقف خطوات أكثر، أسارع الأيام، نظرتُ إلى الرفيق فلم أجد، رأيتُ الناس يلهثون ويلعبون، فهممت أن أشاركهم.
كم مرةً خطت قدمي إلى فضول فلم أجد من يصارحني، واليوم أخي أَتَوَسَّمُ فيك ريعانَ الأخوَّة وبسمة الصدق وفيض النُّصح اليوم؛ فقد أحسستُ كأنِّي أسير بدافع من القوة، فمرحبًّا بك خليلاً وناصحاً ومعيناً.
وأخيراً بعد كل هذا لا تلمني إن صرختُ بالتهليل والتكبير؛ فلمثلك تعلو صيحاتُ الابتهاج، ولا تلمني إن طلبتُ الاستجمام يوما أو شهرا أو فسحة لأجل المعاودة؛ فأنت ضيفٌ كريمٌ وبطلٌ منتصرٌ وأمنيةٌ تَحَقَّقَتْ.
رسالة إلى صاحب الطبق العالي
رسالة إليك أنت بالذات، أنت عظيمُ الهدف وكبيرُ الغاية، أنت المعلم، أنت العامل، أنت الجندي، أنت الطالب، ولو لم تكن من كل أولئك فأنت ربُّ الأسرة ومعيلُها، أنت الراعي لهم بعد الله، الزوجةُ أسيرةٌ تحت يدك، والأبناء أمانةٌ في عنقك، والجيران أنت مسؤول عنهم وعن حسن جوارهم، من هذا المنطلق أحببتُ الحديثَ معك واللقاءَ بك؛ لا على كرسيِّ الضيافة؛ ولكن عَبْرَ هاتف الكلمة ومصداقيَّة النصيحة، فأقول: حَدَّثَني زميلي قبل زمن أنَّك من أنصار القنوات الفضائية مادحًا ومبجِّلًا ومعجبًا، هالني خبرُك، وآلمني حديثك، وتمنيت يومها أن زميلي ما حدَّثني ولا ذكَّرني، ومرَّت الأيامُ وأنا أشعر في قلبي بأسًى.
الخبرُ يَطْمسُ شيئًا من مآثر شَخْصك الكريم، جالت بنا الأيام فحدَّثني آخرُ عن أمانيك، فإذا بها أن تكون يوما تدبر مشاهد العالم برأس أصبعيك على جهاز (الريموت) الصغير فزدت بذلك لوعةً وخوفًا على مستقبلك، وكلُّ ما يمنعني يومها عن التحدث إليك كبرك في خاطري وعظيم نفسك في مخيَّلتي، وكانت الكلمات تؤلمني؛ لكن سرعان ما يمسح ذلك كله يوم أن أراك راكعا ساجدا لمولاك، وأمس بالذَّات.
ومع كلِّ أسف ترجمت الحديث والأماني إلى حقائق واقعية، فهالني صحنُ الاستقبال (الدش) فوق سطح منزلك، توقفتُ، أعدتُ النَّظَرَ، كَرَّرْتُ؛ نعم، هي مأساةٌ لابُدَّ منها، هو الحزن لابد منه، هو التأنيب والمساءلة المرة، نعم، هو الجراح الذي يسيلُ الدماءَ بمجرَّد نظرة إلى علو سطحك البائس، جلست أسأل نفسي: هل هذا هو الذي يتردَّد على المساجد، هل هذا هو القانت الداعي؟! هل هذا هو الراكع الساجد؟! دعني أخي اليوم أناقشك، دعني أهامسك بحديث الودِّ فوالله لولا الشفقة عليك ما حدثتُك ولا سألتُك ولا حتى أضمرتُ في نفسي حزنا وأسى على ما دنستَ به نفسك وأضعتَ به أسرتَك وكنت جارَ سوء على حَيِّكَ ومجتمعك.
أخي الفاضل: هل بإمكانك - بارك الله فيك - أن تجمع بين متناقضين اثنين؛ طاعتك، صلاتك سجودك، دعائك، وبين مجاهرتك بهذا الطبق العالي فوق منزلك، أولم تقرأ حديث رسولك الكريم: «كل أمتي معافى إلا المجاهرون»([4]).
وما أدري كيف لو فاتَتْكَ معافاةُ ربِّك في هذه الحياة؛ قد يتحوَّل السَّتْرُ الذي عليك فضيحة في نفسك، وكشف عورات لأهلك، وعاقبة سوء في أسرتك، ومقالة سوء تتأجَّج على كل لسان في كل طريق، ولا تأمن ذلك؛ فمن استخفيت به ولم ترع له قد يمكر بك؛ فتكون ضحيةَ نفسك الأمارة بالسوء.
أخي الفاضل: العينُ المسكينةُ التي تحدُّها للنَّظَر في محارم الله عبر هذا الطبق، ألستَ مسؤولًا عنها وقد قال رسولك - صلى الله عليه وسلم -: «العين تزني وزناها النظر»([5])؟! فما جوابُك عند ربِّك في إسرافك على هذه النعمة في غير حقِّها، وستدرك يومًا أنها هي التي ستكون خصمًا لدودًا لك؟!
أخي الفاضل: لماذا أنت بالذَّات غَلَبَتْكَ شهوتُك؟ لماذا شَطَحَتْ بك نفسُك؟ لماذا شعرت بالانهزامية حتى اندمست فطرتك فتلقفت ذراعيك صنع أعدائك وشانئيك؛ بل تغيَّرت معالم الفطرة لديك فأدخلتهم قعرَ بيتك وجعلتهم قدوات لزوجك وابنك وسائر أسرتك وأخويك.
أخي الفاضل: المسكينةُ تلك المرأة، الأسرةُ الضعيفةُ إذا شاهدت سفها في الأخلاق وسوءا في المعاملة وازدادت بعدا عن الله، كيف تجيب المسكينةُ ربَّها يوم يسألها، يوم يعاقبها، يوم يأخذ بناصيتها، يوم تقول بملء فمها: ظلمني يا رب، ظلمني يا رب، والله وما خرجت ولا اتجهت، ولكن آذاني به في قعر بيتي فأسأت وأخطأت.
أخي الفاضل: أولم تفكر في أولادك الصِّبية يوم يتعلقون بك فيقبِّلونك ويمازحونك، يسرحون ويمرحون فرحا وسرورا بك وهم والله يا أخي في أحوج ما يكونون إلى حنان وتربية يعيشون بها في ظلال الجنان، فكيف بك تنسى معالم الأبوة لهم فتفتح لهم بابا إلى النار يرونه وهم صغار أشبه ما يكون بالسراب الذي يعتقدون أنه ماء، فيتضح لهم أنه لهب يحرق غيرتهم ويؤلم أعينهم وينكس فطرهم، فيكونوا ضحيَّةَ تصرُّفاتك المشينة؛ فلا حياة خيرة لأنفسهم ولا دعوة صالحة لأبيهم؛ بل شرًّا محضا وداءً مؤلمًا على مجتمعهم.
أخي الفاضل: كل هذه المآسي التي ذكرت تكفي كل مسلم من أمثالك أن يتفكَّر في عاقبة أمره، فكيف يا أخي إذا ضم لذلك حديث رسولك: «ما من عبد يسترعيه الله يموت يوم يموت وهو غاشٌّ لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة»([6])؛ بل فَكِّرْ مَليًّا أنك بشرائك لهذا (الدش) كنت قدوةً سيئةً لمجتمعك، وحينها يكون كل من شرى هذا أو نظر فيه أو شارك في وجوده عليك من سيئاتهم مثل ما عليهم حتى تقوم الساعة؛ مصداقًا لقول ربِّك: ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [النحل: 25]؛ بل وأنت في ظلمة القبر يجري عليك هذا بسيئاته يوما تلو يوم؛ فتكون في قبرك رهين سيئات مجتمعة أثر تصرفاتك المشينة؛ مصداقًا لحديث رسولك: «من سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة»([7]).
فما أدري، هل أنت على استعداد أن تُضَحِّي بهذه النَّفْس نتيجة شهوات عاجلة، وغدا ليس ببعيد تقف في عرصات القيامة عريانًا من الثياب صامتا غلقا خاشعا متفكِّرًا وربُّك أمامك يسألك: لماذا يا عبدي تسيء إليَّ؟ لماذا يا عبدي تستخفُّ بي؟ لماذا تؤثر عاجلًا فأنت زائل على أجل باق مستقر.
أخي الفاضل: وجَّهتُ إليك هذه الرسالة حبًّا فيك أولا، وثانيا أخشى غدًا أن تراني في عرصات القيامة فتشكوني إلى الله فأصبح رهينَ شكوتك المؤلمة.
رسالة إلى المتلبِّسين بالإخاء
رسالة إليكم أنتم الذين أصغيت لكم بسرِّي المكنون، رسالة لكم أنتم الذين أعطيتُكم من أوقاتي أثمنَها وأغلاها، رسالة إليكم أنتم الذين صافحتُكم غير مصافحة الناس، هششتُ في وجوهكم حتى بانت مني النواجذُ، ابتسامة أخرجها مكنون قلبي وصفاء نفسي وأريحة روحي ووجداني، كنتُ أبوح لكم بآهاتي وأحزاني، أغادر بيتي إليكم طلبًا في مشورة أو نصح وإرشاد، هامستُكم بأجاديب حديثي فكانت أنفس الشجون في روحي، وأغلى الأمنيات في ذاكرتي، وكم من لائم لي في هذا لكنني كنت أراكم في الصورة أنتم فقط، وغيركم من الناس في سطح الطرقات لا يعني لي إلا عشرات في الطريق، بالأمس فقط صحوتُ على صوت تنفيذ به روح الفجر الباكر، أيقظني من نومي صوت منك أنت أخي يتردد مع ذبذبات الهواء، قمتُ فرحًا أباطش في الهواء، على أن أمسك بأطراف صوتك الشَّدي، وإذا بي أحسُّ بوَخْز في يدي أثناء ذلك البطش.
نظرتُ في أناملي، أثر دماء تتساقط، عدتُ أُنَشِّفُها لكن الدماء أسرعت في الانهمال، خرجتُ إلى الناس أصرخ فيمن يعاونني على إيقاف دمي فلم أجد، خرجت أتخبَّطٍُ فلا أجد إلا الجدران، وفجأة والناس طوابير صحو أضج مسامعهم صوت صديقي، كانت دمائي تتساقط، أَثَّرت في الطريق باحمرار، آذت الجدران بالسَّراب، بدأتُ أتمايل، أحسستُ بالسقوط، فؤادي يرتجف، أناملي ترتعش، من يعاونني على العودة إلى فراشي مرة أخرى، يعود الصوتُ فيقرع جسدي، يعوقني عن القيام، تَدَثَّرْتُ بلحافي؛ لكن هذا الصوت أقوى بكثير من الجدران.
لحافي يخترقُ كلَّ شيء عليَّ فيكدر نفسي ويؤنِّب روحي، عدتُ أتفهَّم الكلمات، صديقي يكشف عورتي، أخي ينبز سيرتي، خلي يتهمني، يسيء إليَّ فقط ظلما وعدوانا لي، عدتُ أراجعُ نفسي، أتأسَّف على حديثي، أضرب على لساني، أتنهَّدُ حسرةً على أوقاتي، هيهات يا زماني؛ هذا ليس بخل، هذا عدوٌّ لابسٌ ثوبَ الأصدقاء، عدتُ هذه المرة أسير ولكن ببطء، أصافحُ الناسَ لكن أَشُكُّ في بَسَماتهم، عدتُ أحاصرهم في ألفاظهم، أُنَقِّبُ عن مكنونهم وضمائرهم، وفجأة ارتطمتُ بجدار الحقيقة، لماذا أنا هكذا؟ لماذا أعامل الناس بهذه الصورة؟ لماذا أشام أحدهم وقلبي يتخوف منه؟ دائما تؤنبني هذه النفس، فقلت لها يوما: أولا تعذريني يا نفس، صورة صديقي جرح أثار الصديدَ على قلبي، طغت وأثَّرت في خاطري، عذرا يا نفس، أتت خطوط متدلية فحاولت أن أمسك بها، فإذا هي شوك ورق السعدان، أرض لينة رغبت أن أطأ عليها فإذا هي رماد يخبو تحته جمر من نار، سقاء على الطريق أمسكت به فإذا فيه ماء يجرح الأمعاء، كوخ أردت أن أسكنه فإذا هو جيفة عليها السباع.
عذرا يا نفس، انعكست كل هذه الصور؛ فمن حقي أن أتردد في الصحبة كثيرا، عذرا أتأكد من وفاء الصديق، دعيني أعاتبك أنت نفس أمارة، أمرتيني بصحبة السوء زيفت لي طريق العابثين، أبديت لي الصورة الظاهرية جميلة أنيقة، وأخفيت عني بواطن النفس الشريرة؛ فمن حَقِّي أن أتوقَّفَ، من حقي أن أتريَّث، من حقي أن أبقى صامتًا دون حديث واقفا دون سير؛ فالناس تغيَّروا تجملوا بصورهم الظاهرية وبقي الباطن يعاني أمراضًا مزمنة.
إلى المتناسين لخلق الرحمة
الرحمة كلمةٌ قامت عليها نواميسُ الكون، وهي تعبر عن جميل مكنون أولئك الرحماء، ولعل المتأمِّلَ لهذه الكلمة يدرك معنى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الراحمون يرحمهم الرحمن»([8])، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثلًا حيًّا لهذه الصفة؛ فهو الرحمةُ المهداةُ، ولو قَلَّبْتَ سيرتَه لرأيتَ عجبًا من هذا الخلق الكريم؛ أو لم تسمع بخبر الحمرة التي جاءت تفرك بجسمها أمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تشتكي إليه فَقْدَ أبنائها وتهدم عشَّها، فثار هذا الخلق في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائلًا: «مَنْ فَجَعَ هذه بولدها، ردُّوا عليها ولدَها»([9])، وقد كان من دأب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يمسح بيده على رؤوس اليتامى ليعوِّضَهم حنانَ الأَبَوَيْن، وها هو - صلى الله عليه وسلم - يذكر في حديثه تلك البَغيّ التي نالت رحمة الله عندما تخلقت بهذا الخلق فَسَقَتْ ذلك الكلبَ الذي يَلْهَثُ من العطش فَغَفَرَ اللهُ لها.
إن هذه المعاني تعلم الإنسان خلقَ الرحمة ليكون سلوكا حَيًّا له في حياته، ونظرة على واقع الناس اليوم يدرك معه نسيان هذا الخُلُق والتجافي عنه؛ فذلك الإنسان الذي نسي عطف والديه كبيرين مقعدين فلا يهتم بهم ولا يقدر عواطفهما ولا يستجيب لندائهما، هل اتصف بخلق الرحمة؟
والإنسان الآخر الذي لا يعرف إلا الجفاء والغلظة فابتسامته ينقِّب عنها بالملاقيط، فتارة يضرب زوجه، وأخرى يسيء لابنه وثالثة يعتدي على جاره، هل عرف خلق الرحمة؟
وذلك الثالث الذي يعتدي على الحيوان فيضربه بسياط محرقة، ويمد يده إلى ذلك الطائر فيكسر جناحيه، ويثبت تلك الحمامة فينتف ريشها، وينصب المصيدة لتلك الطيور فيدعها تموت مخنقة، وذلك الذي ينشر السموم في طرقاتها فتموت مجبرة، هل عرفوا خلق الرحمة؟
وذلك الذي استأجر الأجير فَحَمَّلَه ما لا يطيق، وأثقل كاهلَه وعَرَّضَه لحرارة الشمس، ومع ذلك أجاعه فلم يطعمه، وعطش فلم يسقيه، ورأى الظل فمنعه من أن يسكن فيه، وبعد ذلك منعه من حقِّه، طرده دون أن يستكمل عملَه، هل عرف هذا خلق الرحمة؟!
إن هذه الفئات من الناس نسيت أو تناست هذا الخلق الكريم فلم تتمثل به، ولم يكن سلوكًا في حياتها، فهل لهم اليوم بعد هذا الحديث أن يعودوا فيربُّوا أنفسَهم على الأخلاق الكريمة فيدخلوا ضمن السلسلة التي تحدَّث عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «الراحمون يرحمهم الرحمن»([10]).
فطر دَنَّسَتْها الشَّهوات
مبارك عليك - هذه الأمة - زَخَم الحب وفَيْح الإطراء؛ لقد توجت هذه الأمة حتى اشمخرَّ رأسُها وحق لها ذاك الزَّخَم وآن لها كبرياء التفوق؛ نعم؛ لأنها تعيش رسالةً هي أعظمُ رسالة وحدثًا هو أكبرُ حَدَث وأزاهير بنت وفرعت على رسائل سابقة وعلى أحداث متقدِّمة؛ إنها تعيش عبيرَ قول رَبِّها: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: 110]، وأَثَر رسولها: َ«أنتم الآخرون السابقون يوم القيامة». مبارك لهذه الفطر عُلُوُّ الرِّفعة وسُمُوُّ المكانة؛ نعم؛ إنَّها تنعم في فجاج ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ﴾ وترتع في أرض: ﴿كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ﴾ [سبأ: 15]؛ نعم، لقد حقَّ لهذه الأمة أن تلبس تاجَ الكرامة وأن تشمخرَّ بفيض الإطراء.
ومما زادني شرفا وتيها | وكدت بأخمص أطأ الثريا | |
دخولي تحت قولك يا عبادي | وأن صَيَّرْتَ أحمد لي نبيًّا |
وما عسى أن أذكركم بعد هذا الزخم وخلف هذا الإطراء، عذرا لن أذكركم ولن أتحدث إليكم إلا عن فطر تنكبت الطريق فرفضت تاج العزة وتنزلت عن علو المكانة، فطر تَمَسَّكَتْ بآثار الممسوخين فساخت أقدامُها في الأرض، وتَعَقَّدَتْ أسرارُها في القلب، فكانت أسيرةَ الشَّهْوَة وتَغَيَّرَت فيها معالم الفطرة؛ لقد عاشت الشَّهوةُ قلوبَ أقوام من نسل هذه الأمة فأَرْدَتْهم صَرْعى، وكتبت عليهم آثارَ الرَّذيلة وخطر المخالفة، لقد استَشْرَبَت الشَّهْوةُ قلوبَهم حتى تَنَكَّسَتْ فطرهم ونسوا معالم طريقهم.
عفوا فكأني بسائل: مَنْ هم أولئك الذين نَخْشَى عليهم سوءَ المغبَّة والوقوع في حمأ الرذيلة ودناءة الشَّهْوة؟ فأقولُ بكلِّ استحياء وعلى عنت من ريشة قلمي: هو ذاك الشَّابُّ الذي ربما رأيتَه يتزيَّن لزميله، وذلك الإنسان الذي حدثتنا الليالي بسمره وأشجانه.
ولا شكَّ أنَّه الرجل الذي عاش بصحبة المردان يتلقَّف أخبارهم ويشدوا بأحاديث الأنس عند لقياهم، وربما هو من رأيت في يده ولمحت في جيبه صورة يعرضها ويتسلى بها ويحدِّث عنها الصحب الكرام. حتى قال قائلهم:
وقف الهوى حيث أنت فليس لي | ||
متأخر عنه ولا متقدم | ||
وأهنتني فأهنت نفسي جاهدا | ||
ممن يهون عليك ممن يكرم | ||
أشبهت أعدائي فصرت أحبهم | ||
إذ كان حظي منك حظي منهم | ||
أجد الملامة في هواك لذيذة | ||
حبا لذكرك فليلمني اللوم | ||
عذرا فذكر المثالب قد يكون منقصةً للكاتب لكن فيض الحرص أصابني بشرر متطاير؛ فربَّما تعجلت فتساقط أثر الشرار في محيرتي التي أسقي بها ريشة قلمي، وعذرا فليس لي إلا هذه المحبرة، وإني لأرجو أن يستجم حبرها حتى لا يلوث أوراق إخوتي الناصحين.
إن قضية انحلال الفطرة نهج قديم حتى إن درج مسماه على مسمى فاعليه فاستحقوا حينها اللعنة وقلبت بيوتهم رأسا على عقب، ولعلي اليوم أرى الصورة تتكرر والمشهد يعاد عرضه ممن تنكَّبوا الطريق وترسموا نهج سابقيهم فكانوا أحق بقول الشاعر:
وإن لم يكونوا قوم لوط بعينهم | ||
فما قوم لوط منهم ببعيد | ||
وإنهم في الخسف ينتظرونهم | ||
على مورد من مهلة ووعيد | ||
يقولون لا أهلا ولا مرحبا بكم | ||
ألم يتقدم ربكم بوعيد | ||
فقالوا بلى لكنكم قد سننتم صراطا | ||
لنا في العشق غير حميد | ||
أتينا به الذكران من عشقنا لهم | ||
فأوردنا ذا العشق شر ورود | ||
وأخيرا لقد باتت الصورة واضحة جلية، وأولئك الآباء وهؤلاء المربُّون إن لم يكن بهم عمى فهم يتعامون، وإني اليوم لنذير لكم بين يدي عذاب شديد، وأخشى اليوم بتكرر الصورة أن يتكرر مشهد الخسف: ﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ﴾ [هود: 82].
دعوة إلى النجاة
رأيتُه في ظلِّ دار يتأَوَّه، سمعت أفيف نفسه وتبرُّم حاله، الشمس تلاحقه، لَفَتَ نظري محيَّاه، حاولتُ أن أتقرَّب إليه، جَلَسْتُ معه، وفعلا آثارُ الحزن باديةٌ، أَثَرُ السَّهَر مرهق، العينين غائرتان، الوجه شاحب، أخذت بيده، شَجَّعْتُه، حادثتُه، سألتُه عن حاله فقال لي بنبرة المحزون: النهار بأكمله أتململ على فراش الحزن والليل؛ جزءٌ مع الأصحاب وآخرُ على الأزقة آخذ وأعطي، معي يَبْتَسم قليلا، فقلتُ له مستسمحًا في بضع دقائق: لَعَلِّي يا أخي أرى فيك ريعان الشباب وفتوةَ الرِّجال وأحلامَ المستقبل القريب؛ أنت أخي أكبر بكثير من الجلوس على الطرقات، أنت في نظر دينك غرة في جبين التاريخ، أنت يا أخي كنز من كنوز الأمة، أنت نور مشرق، وقد تسحق ظلمات التيه والضلال، فلماذا تَبْخَسُ نفسك حَقَّها؟
أخي الحبيب: هَلَّا رأيتَ أفواجَ الشباب الطائعين في المساجد وفي حلق الذكر تتلألأ على وجههم أثر الطاعة ويبين على محياهم سواطع الأنواع، هلا توقفتَ مع نفسك لحظات أمام المرآة، ونظرت في وجهك البريء دَنَّسَتْه جوانحُ المعصية، اغْبَرَّ من تَرْك الطاعة، تهافت النورُ حتى لم يبن عن محيَّاك، هل توقفتَ أخي مع قول ربِّك : ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ﴾ [القيامة: 22]، فقرأتَ تفسيرَها وتوقفتَ مع معانيها حينما تعرف ثمة الفرق بين وجه شاحب من أثر المعصية وآخر تبرق أساريره بضياء الطاعة ونور القربة.
أخي الحبيب: ما الذي يوقفك عن الهداية؟ لماذا أبناء حيك يوما بعد يوم يتقدَّم بهم السَّيرُ وأنت لا زلتَ تراوح مكانك؟ صَدِّقْني يا أخي، لوعة الحزن تَنْتَابني، وألم المعاناة يصطادني، أتدري لماذا؟ لك أنت يومَ أراكَ ضعيفَ الإرادة متأخرًا عن الطاعة حاجمًا عن الإقدام.
أخي الحبيب: مصعب بن عمير وخالد وأسيد وسعد بن معاذ وغيرهم كثير ما الذي يربطني وإياك بهم؟ لعل رباطنا صلة تاريخ، ورباط دين، وعظمة أمة، أين هم الآن يا أخي؟
أحدهم اهتزَّ لموته عرشُ الرحمن، وآخرُ يطير بجناحين في الجنان، وثالث يغسل بماء المزن بين السماء والأرض، وكلُّهم غدًا صفوفُ الجنان؛ أَوَلا تَهْتَزُّ مشاعرُك للقائهم؟! أَوَلا يَذرف دمعك لفقدهم؟! أَوَلا تحدث نفسك بسيرهم وأمجادهم؟! فيالَيْتَني أجندل صريعا في لحظ مشتهاهم، لماذا يا أخي تتقلَّد سيرةَ غيرهم؟! لماذا تَعْبَثُ بشعرك وتُمَزِّقُ أثوابَك وينير لسانُك بسير غيرهم مدحا وتبجيلًا لهم وهم غسيل أقدام السل وظلمة في زمان التاريخ.
أخي الحبيب: لَعَلَّ كثيرين ممَّن هم حولك يؤذونك على الشُّطوح؛ على الشُّطوح والتخلف، يؤلِّبون فيك نزعة الهوى، وغمار الشهوة، فيا ليت شعري غدًا مِنْ هَوْلِ خمسين ألف سنة، الشمسُ قريبة، الجسد عار، الوقوف طويلا، العرق على قدر الأعمال، وفي الوقت نفسه أم في ساحة العرض تتهرب؛ أب بجانب الطَّريق، أخ يرتجف فزعًا، أصحاب يُعْلنون البراءةَ من بعض، وأنت أنت أمام فوة جهنم تنظر وتتأمل؛ القعر بعيد، والحطمة تزدلف، تَوَدُّ حينَها أن تَفْتَدي من العذاب بأبنائك وأخيك وصاحبتك وبنيك، تلقيهم فيها وتنجو بنفسك، وهيهات هيهات.
فواحزنا على سوء الصُّحْبَة، وياليت اعتبرتَ أخي الحبيب، أَوَمَا سَمعْتَ بخَبَر الجنَّة؛ نور يتلألأ، وريحانةٌ تَهْتَزُّ، ونور مشرق، أوما قرأتَ يا أخي عن حور الجنان: لَنَصيفُها على رَأْسها خيرٌ من الدُّنيا وما فيها([11])، أَوَمَا تَفَكَّرْتَ: ﴿أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى﴾ [محمد: 15].
وأخيرًا أخي؛ أنت مكسبٌ للأمَّة، أنت لبنة صالحة في المجتمع، لا نعدم فيك بعد هذه الرسالة أن تكون جنديا في المعركة أو معلِّما في المدرسة، أو عابدًا في المحراب، وحينها بصوت عال فلتقل: يا أصحابي أنا ذاهب، جنة الخلد أريد، فجلوس الأزقة غير حميد.
بأيِّ حال عدتَ يا رمضان
أهلا وسهلا بالصيام | يا حبيبا زارنا في كل عام | |
قد لقيناك بحب مفعم | كل حب في سوى المولى حرام |
أهلا وسهلا بك يا رمضان، حَلَلْتَ أهلًا ونَزَلْتَ سهلًا، كأني بك اليوم يا رمضان خفيف كريم، عدتَ يا رمضان وأنا لا زلت أنا، أنا يا رمضان المتأخر عن الطاعة لا زلت متأخرا، أنا الذي يتثاقل مسمعي عن الأذان، عُدْتُ وحالي مثل ما عهدتني قبل أزمان، أنا الذي خَطَتْ قَدَمي إلى الحرام، أنا الذي تَقَلَّبَتْ عيني على الشطآن، أنا الذي جَنَحَ مسمعي فسمع مزامير وأوتارًا، أنا الذي غَنَّى قلبي شهوةً ولم يَرْعَوِ خوفًا من النيران، أنا يا رمضان لا زلتُ أنا، أنا الذي يا رمضان وقفتُ عابدًا فتاهت في نيَّتي شوب وألوان، أنا يا رمضان لا زلتُ أنا؛ فعساك يا رمضان أن تُغَيِّرَ حالي إلى الإحسان.
أقبلت يا رمضان وكُلِّي أسف على سوء استقبالك في العام، عشت أنت يا رمضان في العالم ليالي ملؤها الغفران لكنني كنت ابنا لك عاقًّا، كنت يا رمضان أسامر البلوت، ولم أتذكر إلا بعد فوات الأوان؛ في العام يا رمضان الناس تتلو القرآن وأنا في ملاعب الكرة على السَّمَر والهجران، أنا يا رمضان تناسيتُ قَدْرَكَ فلم أَخْتم القرآن، أنا يا رمضان في العام الناسُ تتهجَّد في السحر وأنا أسامر الصَّحْبَ والخلَّان، أوما تذكر يا رمضان إدباري عن التَّراويح والقيام، عدتَ يا رمضان وأنا لم يكتب لي أوب ولا رجعان، فعساك أن تلبسني حللا وغفرانا.
عدتَ يا رمضان والمسجد الأقصى يئن من وطأة الأعداء؛ أو ما تدري يا رمضان أنَّ النَّفَقَ قد حُفر من أزمان وأحقاب، عدتَ يا رمضان والمسجد الأقصى يلبس خلقان الثياب؛ فمتى تعود يا رمضان والمسجد الأقصى يلبس حلل العيد في انتظار مقدم الضيوف الكرام؟! عدتَ يا رمضان وعجائز الشيشان بلا ناصر ولا أعوان، عدتَ يا رمضان والطفلة البوسنيةُ تقرح جسمها بلفح العدو والنيران، عدتَ يا رمضان وليبيريا تلبس ثوب الحزن من أعوام، عدتَ يا رمضان والهند تعاني من الهندوس جراح وأهات وآلام، عدتَ يا رمضان وجاري فقير يلوذ بالجيران، عدتَ يا رمضان وأخي في ديار الغربة أضناه سفر وترحال، عدتَ يا رمضان وكهلي يئنُّ من وطأة الأمراض، عدتَ يا رمضان وفي وجه طفلي عبوس من الظلم والعدوان، عدتَ يا رمضان وأمتي أشلاء وأجزاء وأحزاب، عدت يا رمضان وصديقي به غضب وهجران.
فمرحبا بك يا رمضان ذكرتني جراحي وآلامي وأحزانا، مرحبا بك يا رمضان أغسل فيك حوبي وأخطائي أَمَلًا في الرحمة والغفران، أنا الذي يا رمضان لم أُقَدِّر لك حرمة في يوم من الأيام؛ لكن حَسْبي أَنَّها غفلة عفا عليها الزمان، غفلة عشتُها فيك يا رمضان ذلك العام فأسأت في وجه أمي من غير ذنب ولا حسبان، آذيتُ أبي شيخًا وكََهْلًا وعجزان، هَجَرْتُ أخي من غير خطأ ولا عدوان، أَشْعَلْتُ سيجارة في ليلك الحاني دونما خوف ولا حسبان، عاقرتُ نارجيلة في حضيض المكان لكن دونما وعي ولا إدراك لشرف المكان، وها أنت عدتَ يا رمضان، وها هي يدي تمتدُّ لمصافحتك، فهل تمتدُّ يدُك ناسيًا كل حوب وذنب وجرمان، هذا هو أملي وها أنا ذا أتيتُك تائبًا نادمًا متألمًا على فرط الزمان في غير صالح ولا غفران.
يعود رمضان.. أما آن لك أن تتوب
إليك أيها الأخ الفاضل شذى سلامي وعاطر تحيَّتي وأغلى أمنياتي؛ فلك وإليك رسالتي؛ فأنت صديقي ورفيقُ دَرْبي، فأبارك لك أخي عودَ رمضان؛ مبارَكٌ عليك أيَّامه وأعاده عليك أعواما متتاليةً وأزمنةً متتابعةً، وكل عام وأنت في أطيب حال وعلى خير؛ إنني اليومَ أَشْعُرُ بشيء من الفرحة وأنا أراك تَنْعم برمضان بين أهلك وذويك، وتزداد فرحتي كلما قابلتك، مبارك لك أيامك بحلول هذا الشهر الكريم.
أخي... ثمة كلمات باحت مرات ومرات على لساني لك أنت صديق العمر، فكنت دائما أحاول اختزالها والتكتم بها خوفا ألا تلقى عندك استجابة أو شيئا من الترحيب، واليوم ما أن رأيت يبس شفاتك، وبهاء وجهك، وأثر سجود جبهتك، إلا زادني ذلك ثقة في البوح لك بسري المكنون؛ فهاك حديثي واسمع شذى كلمتي:
أولا: ها هو رمضان عاد إليك، وتلك نعمةٌ لا تُقَدَّر بكنوز الذهب، فهل وقفتَ مع نفسك وذكَّرْتَها أنَّ أيَّامَك تنقضي بتدابير السُّنون وشبابُك يَضْمَحلُّ وعودُك يَذْبُل؟! أولم تسمع قول إمامك الحسن البصري - رحمه الله - وهو يقول: "يا ابن آدم إنما أنت مجموعة أيام كلما ذهب يوم ذهب بعضك". فما بالك إذًا بذهاب السنين ومضي الأعمار والأوقات.
ثانيا: أيها الأخ المبارك، هل كان لك في رمضان الماضي أخوة صُمْتَ معهم وتَبَسَّمْتَ إليهم وذهبتَ وعدتَ برفقتهم؟ فأين هم اليوم؟ إنهم في الحفر المظلمة، انقطع خبرهم ومات ذكرهم واندفن ماضيهم، أليس لك فيهم عبرة ومن مودَّتهم عظة؛ فلربما قرب رحيلك وأخاف ألا تكمل شهرك.
ثالثا: دَعْني أسألك: هل أكملتَ رمضانَ الفائتَ صيامًا وقيامًا؟ لا أظنُّك تقول نعم؛ فربما فاتَتْكَ أيامٌ مباركةٌ تجرَّعت فيها شربات الماء، وأكلت لذيذ لقيمات الخبز؛ أما القيام فعذرا؛ فقد رأيتك ولا أكثر من وهلة مدبرا عند قيام الناس لأداء القيام، وأسفا لقد آذاني وآذى المسلمين صوت سيارتك ذاهبة آيبة، والناس عاكفون في مساجدهم، فهل لديك في هذا العود المبارك من توبة لإتمام الصيام وتكثير سواد المسلمين في القيام.
رابعا: لقد رأيتُك في رمضان تَتَلَهَّى في قضاء ليلك بغير المباح؛ رأيتك ساهرًا مع ورق البلوت، وواقفا مع الكرة، ومنهمكًا على مشاهدة ما لا يرضي ربَّك ومولاك، فأعيذك في هذا الشهر الكريم أن تكون نسخة كربونية من شخصك في رمضان الفائت؛ فمثلك يعتبر وأنت في أعين الناس محل أسوة.
خامسا: مررتُ بك في رمضان الفائت وآذاني للأسف رائحة سيجارتك، وما كنت أظنُّ بأنَّك تتمتَّع في ضحى النهار بطاعة ربك ومولاك يابسة شفتاك وفي الليل رطبة لكن بلون أسود قبيح.
سادسا: لقد ذكرني جليسك اليوم ونحن نتجاذب الحديث عن قدوم رمضان أنك في رمضان المنصرم لم تتم القرآن، بل قال لي أنك لم تتألم لذلك ولم تتحسر، فلي عليك عتب، من أين لك غدا نصرة من شكوى رسولك: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا﴾ [الفرقان: 30]. عسى أنك فهمتَ قَصْدي وأَدْرَكْتَ مناي؛ فلو مرة واحدة عسى أن تنال ثواب الخاتمين، وأخيرا تَقَبَّلْ رسالتي، ولولا حبِّك وحرصا على فلاحك ما شافهتُك بحديثي ولا نَمَّقْتُ لك كلماتي.
يا بنت الجزيرة قفي فأنت متَّهَمةٌ
أختاه يا إشراقة الصباح يا زهرة الغروب، بل يا ثريا السماء المضيئة، أيتها المهرة الثمينة، أنت شريكة الرجل، أنت عونه ومدده، أنت شمسه الساطعة التي بموتها يضمحل، وأنت الظل الذي بهدوئه ستكن، وبزواله ربما نحترق، ثم أهمس إليك وأقول ما أضاءت شمس وزها النور إلا بشيء من جمال أنوثتك وبريق حياتك، ثم بعد هذا كله أنت بنت الجزيرة امرأة الحجاب فتاة الستر والعفاف.. صديقتي أكن لك العجب، وحبر قلمي قد يخونني عن الاستطراد.. عفوا مع كل هذا الهزيج فأنت متهمة... متهمة في قضية فتحتُ صفحاتها، وقلبت ورقاتها، فنبشتْ جراحي، وأعادت أساي، وبثت شيئا من همومي وأحزاني.
أنت متهمة بخلع جلباب قلمك للرياضة وصفحاتها، عفوا، متَّهَمةٌ بأكبر من ذلك، متَّهمة بخلع جلباب عينيك وستر وجهك لشاشة التلفاز وخوض غمار التشجيع، أفصحيح يا بنت الجزيرة أنك أصبحت تعشقين الرياضة وتطبلين لها؟.. وهل صحيح ما يقال أنك أمسيت قرينة زوجك في تقييم مبارة ومشاهدة؟! وهل ما يردد من أن ضجيج أبنائك أدوى الجيران وأنت تنمقين لاعبًا وتَسُبِّين آخر؟ لا.. لا.. لا أكاد أصدق غيرة بنت الجزيرة عفا عليها الزمن واستحكمت على عراها أتربة الحاضر المشين، إنني لا أخفيك سرا أنك عندي أكبر من ذلك كله، أكبر من كل ما قد يتلألأ على شفاتي من كلمات، وعلى رأس ريشة قلمي من تعابير، أتدرين لماذا؟ لأن قلمك شفاف وذو بوتقة واسعة نحتاجه في مجالات كثيرة لكن حتما الرياضة ليست منها؛ فسلوك درب الرياضة ترجل لأنوثته، وإهانة وقدح لشفافيته، وقطع وتمزيق لحجابه وستره، فمعذرة؛ أفيكون جزاء العلم والمعرفة هذا التدنيس، أفتكون رسالة التعليم بهذا السلوك، وعفوا مرة أخرى فلا زلت عند ظني الأول بك أخالك سبيلا لهذه التهم.
أختاه: لعل الواشين كذبوا
أيتها الأخت المباركة: لقد أمليت على أذنيك قبل أيام رسالة قصدت فيها النصح والإرشاد، وكانت تحمل عنوان: (يا بنت الجزيرة قفي فأنت متهمة)، فجاءتني البشائرُ عنك أنك كنت خيرَ مستجيبة، وأنا اليوم طمعًا في الإصلاح أخاطبك مرة أخرى وأنضح بشيء من الكلمات المعبِّرة على سَمْعك، ولي فيك أمل كبير أن يُكْتَبَ لرسالتي هذه ولو شيء من فيح سابقتها وقليل من عبيرها؛ نعم لقد تَصَفَّحْت مجالات وصحفًا فرأيتها تخطب ودَّك وتنافح عن سيرتك، كلُّ هذا بالدَّاخل، أما من الخارج فرأيتُ صورةً منمَّقةً ملونة، ولقصد يجرونك إلى التشبه، ويغرونك بفيض المديح، رأيتُها تكتب عن بنات جنسك ممن أسفرن عن وجوههن، وفسخن تاج الغيرة من على رؤوسهن مادحات لهن مباركات لسيرهن، فعرفت أنهن يَوَدُّون منك نفس الخطى.. أَمَّلَهم سرعةُ استجابتك، وعاجل تلبيتك.
أختاه: لقد ابتلينا كما ابتليت الأمة بأهل التَّطريز والتفصيل ممَّن يَسْعَى لدَمارك وفَضح أسرارك؛ لقد رأيتُ بجانب تلك المكائن مجلات تصفحتُها وإذا بنساء غريبات إن لم أكن واهما فهن شبه عاريات، وللأسف سمعت بعد ذلك أنك تعشقين التَّشَبُّهَ، فارتديت ما ارتدت أولئك السافرات، وما أدل على ذلك من أني رأيتك البارحة في نفس اللباس تهرعين وسط الأسواق وتركضين خلف الموديلات، حتى أني ولغير قصد رأيت أجزاء من أطراف ساقيك؛ كل ذلك وهم يطبِّلون بمدحك وحسن الثناء عليك.
أختاه: هل صحيح ما حَدَّثَني به قريباتي وزميلاتك من أنك تعشقين اللِّباس الضيق، وتنافحين عن الموضة، وتجتهدين في تقليد غيرك من السافرات.. وهل ما يشاع الآن صحيح من أنك تقلِّدين ممثلةً وترسمين خطاها، وربما تكتبين على يديك عنوانها وشيئًا من سَيْرها، أما أني لو علمتُ ما تحدَّثْتُ ولا كَتَبْتُ.
أختاه: لقد طاشت عيناني وبغير قصد على صحيفة سيارة فرأيت أشبه ما يكون بأنامل يدك وأثر محبرتك، فهل صحيح أنك تتفرَّجين وربما تعرفين لاعبين، بل وساءني كثيرا تنميقك وتبجيلك فلا أخالك بهذا السلوك، ويا ويل الناقلين.
أختاه: لعلَّ الواشين كَذَبوا عندما قالوا لي: في حقيبتك صورة لاعب، ورسالة من مغنٍّ، وذكريات من عاشق، ولعلهم أيضا لم يَصْدُقُوني الحديث عندما قالوا لي: على ظهر يدك حروف ذكريات وقلوب عاشقين؛ فلا زالت ثقتي فيك كبيرة.
أختاه: جاءتني رسالة من زميلتك تشتكي تعلقك بها، وحبك لمرافقتها، وجنونك لفقدها، وسهرك مع صورها ورسائلها؛ فهل صحيح ما تدَّعيه زميلتُك؟! أخشى عليك فرط السلوك؛ فحوادث أنس الفتيات ببعضهن أعاجيب مضحكة، أرجو أن يكون ذلك غير صحيح.
أختاه: كَثُرَ الواشون حولك، والتفَّ المادحون لك من كل جانب، وصَدِّقيني غَرَّارون، وإن مدحوك غَرَّارون.
أختاه لعل القائلين صدقوا
أَيَّتُها الأخت المباركة: حدثني عنك الوشاة بالأمس حديثا آذى مسمعي وآلم نفسي، وكَدَّرَ خاطري وأيَّامي، واليوم قرع بابي زمرة من القائلين فحدثوني حديثا آخر غير حديث الوشاة، فأوهن معصمي عن الكتابة، وأوقف لساني عن التحدُّث، فجاء اليوم حديث القائلين ليعيد قوة معصمي ويطلق حديث لساني، فإليك حديثًا أَثْلَجَ صدري، وأَخْرَجَ نفسي، وطَيَّبَ ذكرَك عندي.. نعم؛ لقد سمعتُ أنَّ في بيتك مكتبة إسلامية مسموعة ومقروءة جل وقتك بين أركانها، فأصبحت أسوة وقدوة يعلق عليك المجتمع أمانيه وأمنياته، ولا أدل على ذلك من أني سمعت الجيران يذكرون حديثَك ويتذكَّرون أقاويلَك فياليتَ مثلك كثير..
أختاه، لقد ابتلينا كما ابتليت الأمة بتحلل الأخلاق، ورعونة التشبُّه، وفوضوية ما كان هاجس بنات المسلمين الأول، أما أنت بارك اللهُ فيك فبلغني أن وقتَك منظَّمٌ، وحياتَك إيجابيةٌ، والدعوة المنزلية التي تقومين عليها بتعليم الأسرة وتحديث الجيران خيرُ شاهد على حرصك وهداية الآخرين؛ فأنت اليوم يا أختاه بذرة صالحة؛ تُعَلِّمين أمًّا عجوزًا الفاتحةَ، وتقرئين الجيرانَ سُوَرًا من القرآن، والدرس الأسبوعي الذي تقومين به مع بنات الحي نال إعجابي واستحساني، فقلت في نفسي: فلْيَمُت المغرضون. وفتاة الإسلام اليوم نبراس هدى، ومعلم حياة، ونور هداية.
أختاه.. هل صحيح ما حدثتني به قريباتي وزميلاتك من أنك تصلين الضحى، وتصومين البيض، وتتهجدين في السَّحَر، وهل ما يقال الآن صحيح من أنك تحملين في حقيبتك مصحفا مجزَّءًا من القرآن، أما إنِّي لو علمتُ ما حزنت ولا تعبت..
أختاه.. طاشت عيني على رسائل دعوية وأشرطة إسلامية في يد قريبتي، فسألتها، قالت: هذه إهداء من معلمتي وتلك جائزة على توجُّهي وخلقي، فقلت: مبارك عليك يا وطني؛ فتاة الإسلام تبني لك – إن شاء الله - صروحًا شامخةً من العزِّ والتَّوَجُّه.
أختاه.. لعل النَّاقلين صدقوا عندما قالوا لي: في مرتبك صدقات وإحسان، ولعلَّهم أيضًا صدقوا عندما قالوا لي: إنك تنفقين على مساكين وتهتمِّين بالضُّعفاء من الجيران، وترعين الفقيرات في مدرستك، فشكرًا على هذا الإحسان يا أخيَّة..
أختاه: جاءتني رسالة من زميلتك تقول: ما أعظم خلقك! وما أجمل قدوتك! وما أحسن حديثك وموعظتك! وما أروع اهتمامك بدرسك وإعدادك!
أختاه.. علا ذكرك، وارتفع صيتك، وزاد المتوجهون بحديثك، فلعل ذلك يا أختاه عاجلُ بشرى المؤمنة في هذه الحياة..
أختاه.. هل تذكرين حديث الوشاة سابقا، اليوم شربوا علقم الحديث، وطمعوا مرارة الوشاية، والمغرضون في تلك الرسالة خسَّت تجارتُهم وعادت نصائحهم، ما سكنت أفواههم، وحق لي أمس الأول ألا أصدقهم، ويحق لي اليوم أن أعيش سرورًا بحديثهم وأقاويلهم.
صرخة مشجِّع ومساءلة ناصح
لأول وهلة خرجت فزعا من بيتي؛ أصوات في الخارج مزعجة، صيحاتٌ تعلو متأجِّجة، توقفت قليلا فإذا بصوت التلفاز يعلو، نظرت فإذا فئام حوله تلهو، برهة من الزمن فإذا أصوات الإطارات تؤذيني، وقفت متعجبًا، وَلَّى نومي واضطربت نفسي؛ ابني من خلفي يجرُّ ثوبي ويبكي، أمي قامت عطفا وحنانا لي، أبي استنكر الأصوات فقام فزعًا يتوكَّأ فسقط ولم يدر.
وقفتُ على بوابة منزلي فقلت في نفسي هل سقطت جروزني أم تاه الشِّيشان على أرضي؟! تقدَّمْتُ خطوات وفي قلبي حزن وألم، لم أتحقَّق في زحمة الضَّجيج، لكن كأنما صورة تعلو وتعرض، حاولت أن أرى المعالم، فقط ليل الحزن يعمي، هممتُ أن أساهم، تَذَكَّرْتُ، التفتُّ، إلى الوراء أمي وأبي، بلوعة الحزن، ينظرون إلى النجم آفل، انتظرت قليلا فإذا بأفق الفجر بارز، مضت الدقائق والثواني فإذا بقرص الشمس باد، حينها فقط رأيت الصورة واضحة جلية، الأصوات المزعجة لفوز فريق، الصَّيْحاتُ المتأجِّجة لهزيمة فريق آخر، الصورة المعروضة في زحمة الضَّجيج، صورة لاعب مارد، الصراعات من أجل لهو عابر، بكاء ابني، وسقوط أبي، ولوعة أمي وتأريق نفسي، كله بسبب مشجع فارع، عدت فأغلقت بابي وأوسدت فراشي، فتحت دفتر أحزاني، أسقيت قلمي من محبرة آلامي فتاهت نقطة الحبر تسابقني إلى الحديث معك فكان هذا الحوار أسائلك، ألا توقعك نفسك الأمارة إلى الإعراض عن حديثي، فهو إليك أنت فقط، وغيرك وليس لهم من اهتماماتي إلا نزغ الحبر على أطراف الهوامش، فاسمع، فإليك أقول: أخي المشجِّع، كم من مرة رأيتُك تصفِّق بكلتا يديك، وكم من مرة دَوَتْ على رأسي صيحات التَّشجيع المؤرِّقة، وكم من مرة سمعتك تجادل زميلك على بوابة المسجد عن فوز فريق وخسارة آخر، ألا ترى يا أخي أن هذا الواقع منك غير لائق بشخصك الكريم، كنت أظن يا أخي عندما رأيتك تصفق وتجادل وتناقش البوسنيَّ، أم حصل ما يجعلك تهتم وتناقش وتجادل مَن حاول تَهْوينَ الأمور، ولم أدر بشأنك حتى سمعت لجاجَك وكثرةَ خصامك ففهمت وتحسَّرت.
أخي المشجِّع: هب أنك من لا يهتمُّ بأخبار المسلمين ولا يعنيك شأنهم، وأعيذك من هذا، لكن لنفترض، إذًا فأيُّهما أكبر في نظرك: تكبيرات المؤذِّن، أم صيحات التَّشجيع؟! فلقد رأيتك ولأكثر من مرة عندما تتوقف المباراة للانتقال إلى أطهر بقعة لأداء الصلاة مباشرة تدير بالريموت الشاشة من سماع صوت المؤذن إلى هدير المباراة.
أخي المشجع: سأنزل معك أكثر، هب أنك حضرت الصلاة واستجبت لنداء الفطرة، لكن بأي شيء تفسِّر تلك النظرات العابثة مع آيات القرآن، فحرمك دقائق مع التشجيع، أعيذُك يا أخي الفاضل أن تكون وقائع المباراة تعيش في قلبك أكبر مما تعيشه مع كلمات القرآن ولَذَّة المناجاة.
أخي المشجع: كم من مرة شاورتك في زيارة صديق، وكم من مرة دللتك على خير، وكم ناصحتك بحضور درس أو سماع موعظة، وكم وكم هي المرات التي تعتذر لحضور مباراة وترتيب لأخرى، واستعداد لثالثة، تنكبت يا أخي طرق الخير المشروعة في سبيل لهو عابر عابث.
أخي المشجع: كم هم الذين شاركوا بفضل نصحك وتوجيهك، وكم هي المرات التي شاركت بتصفيقك وتبجيلك، وكم هي الخيرات التي فاتت بلعبك وسوء صنيعك، لقد أصبحت يا أخي داعيًا ولكن لغير هدى، وقدوة ولكن على هوامش الحياة، ومؤثِّرا ولكن في نزغ حمأ المياه، لا تأنف من حديثي فهو لك بالذات، ولا تسخط على كلماتي فهي إليك ناصحتك ولم يكن قصدي الجهر والإعلان وجادلتك ولم يكن في نيَّتي خبث ولا إدغان، غيري يلهو بنفسه وأنا أجاذب ريشة قلمي لأكتب لك كل غال ونفيس.
صور من المعاناة
أتحدَّث اليومَ عن مشكلة تبدو ظاهرة، تلك التي تخرج إلينا في يوم عبارة عن ضجيج، وتبدو في يوم آخر نزغات دمع معبرة، وفي يوم ثالث تخرج صامتة مفكرة، لكن شكواها لوحة عارضة على وجهها، وفي يوم رابع تخرج صارخة بأصوات متداخلة تتخطَّى البيوتات ليقف المجتمع بشتى أصنافه يعاينون هذه الصورة المؤلمة، هذه الحالات متمثلة في حال أمٍّ عجوز على يد وليد لها في سن النُّضْج والكمال، الأم التي حملته كرها ووضعته كرها، الأم التي فرحت لفرحه، وبكت حزنا لمجرد بكائه، الأم التي عاشت يوما آلاما بأحزانه، الأم التي ازدادت فرحا بلقياه من ترحاله، الأم التي باتت تقامر ليلها سمرا لمرضه وأتعابه، كل هذه المعاناة لم تشفع لهذه المسكينة تجاه نزغ العواطف المريضة؛ فكم نادت يوما دون أن يسمع لها، وكم ساءلت دون أن يجيبها حتى انبحَّ صوتُها وآثرت المسكينةُ الصمتَ الحزينَ على الكلمة الضائعة دون حسبانها، الأم التي جاعت لتطعم وليدها، احتاجت اليوم وافتقرت فلم يمد يد العون لها، حتى ربما سألت جيرانها عشاء ليلة وطعام يوم، وربما تدثرت بثياب مهتَّكة، وهو يرفل في نعيم الحياة دونما شعور بفقرها وحاجتها، كوخها الصغير الذي تسكن فيه علامة واضحة على حالها ومأساتها، وقد يظلم الليل وهي على ضوء سراجها الباهت تنتقل بين جدرانها، هذا إذا توفَّرت لديها عوامل إشعاله، أما إذا انعدمت فتراها قبيل الغروب تنطوي على فراشها دونما عشاء أو حتى شربة ماء، ووليدها ما يدري من تعاقب المناسبات أي فرش يغسله وأي سجاد جميل يغيره.
هذه المسكينة قد تخرج على عُكَّازها في شوارع القرية تريد علبةَ حليب من بقالة، وتَوَدُّ شيئًا من الغاز لتشعل، قد تتعرقل في مشيها، وقد تسقط في منحدر لها، وقد تتلفَّت فزعةً من أبواق السيارات، ووليدها يركب أجمل السيارات وأحدث الموديلات...
في رمضان يزداد وضعُها أسى وحرقةً، تراها في النهار ذابلًا عودُها تَقْصُرُ خطاها، الجوع آلمها، العطش عانها، وفي وقت الإفطار لك أن تنظر؛ على طاولتها إناء مكسور به شربة ماء غير باردة، وتمرة شَوَّهَها الغبارُ فقط، لا أحد معها إلا عكازها، كل هذا وابنها يأكل ويشرب جميل خيرات الأرض، وفي العيد يخرج الناس سراعا عبارات الفرح ترتسم على محيَّاهم، أثواب العيد بَرَّاقة، مساكنهم مزدانةٌ بجميل الورود وأزكى الطَّيِّبات، وهي المسكينةُ في عشِّها الصَّغير، أثوابها ممزَّقة وكوخُها مكشوف، أسرتُها مهتَّكةٌ بالية، لا تعرف المسكينة عن العيد إلا أخبار المهنِّئين، فلا يسعها هذا الحال إلا أن يتسرب الدمع على وجنتيها رثاء حالها وشكوى معبرة لحالها مع ابنها وفلذة كبدها.
كل هذه المآسي وابنها حيٌّ يعيش في وظيفة راقية لكن أنسته زخارف الحياة هذه المسكينة، وقد يرى من العيب أن يعودها ومن العار أن ينتسب إليها، وجميل إن بقي على هذا الحال، تخشى المسكينةُ أن يرمي بها في دور الرعاية، فبقيت المسكينةُ تعاني صورًا من المعاناة.
مواساةُ مجتمع
أعجبتني منك ابتسامتك.. سَرَّني حالُك.. سيرتُك حميدة وطباعك جميلة، وأنت أنت غرة في مجتمعك، لمعت في سماء قريتك.. مررت يوما من الأيام بجانب بيتك فرأيت طول البنيان وروعة البناء ودهشة المنارة.. تقدَّمت خطوات فإذا بجارك يأوي في كوخ صغير.. ملابسه ممزَّقة.. على وجهه يبدو البؤس وسوء الحال.. وبعده بخطوات طفلٌ من الجيران دمعة ألم على خدِّه.. ولوعة معاناة على ناظره.. وبجانبه أمٌّ عجوز تَمُدُّ يدَها طلبًا لرزق مولودها.. استوقفني هذا الحال كثيرا ففاضت عبرتي، وتألَّمَتْ نفسي.. وتَكَدَّرَ خاطري.. فقلت ومن جوانب البيت.. أيا أخي الحبيب، من أي مال الله أُعْطيتَ.. تلك المبالغ التي في يديك؟! أَوَليس لله حقٌّ فيها؟! أليس من جود وكرم ترطب به شفاة يابسة؟ وتوقف به دمعة جارية؟ وتبدو به مسرور وجه شاحب بألم المعاناة.. لماذا يا أخي أراك تُحْجم عن الإنفاق..
أخي الحبيب: أَوَلَا تذكر حالك في زمن مضى؟! أَوَلَا تذكر شقاء المعيشة ونصب الأبدان؟! أَوَلَا تذكر فقرَك وبؤسَك في يوم كان؟!
أخي الحبيب: جارُك الفقيرُ وصبيتُه الصِّغارُ رأيتهم في يوم مضى خارج أسوار المنزل.. الدمع يتصبَّبُ، والألم يبدو محزنًا، والمعاناةُ تَرْتَسمُ بوضوح، وقفتُ بجانبهم، سألتُهم ما الخبر؟ أتدري ماذا قال لي.. قال لي بنبرات الحزن: صبيتي يتضاغون جوعًا، أبنائي يعانون بؤسًا.. أطفالي يشكون جفاء الجيران.. أَوَلَا تَدْري يا سائلي أنني لا أعرف جاري إلا بسوء المعاملة؟ أَوَلَا تعلم أن صبيتي ينظرون إلى جاري بألم المعاناة..
أخي الحبيب: كم من قريب؟! كم من أرملة تنتسب لك؟! كم من عجوز تنتظر عطاءك وفيض إحسانك؟! ألجأَتْهم ظروف الزمن إلى حنانك وجميل عطائك؟ أولا تتفقَّدهم؟ أولا تهتمُّ بهم؟ ألا تعيش مع أحزانهم وآلامهم.. فوا أسفي على صلة الأرحام..
أخي الحبيب: في مجتمعك الذي تعيش فيه، أَوَلَا تدري أنه في أغلى ليالي العمر في ليلة العيد.. التهليل التكبير وصوت صارخ فرحا بقدوم العيد.. أنت وأبناؤك تضجُّون فرحة، وغيرك من البؤساء في مجتمعك تَبيتُ تصارعهم الأوهام.. ينتظرون شروقَ شمس العيد، وأبناؤهم لا يجدون أثوابَ الفرحة، حتى لعب الأطفال يا أخي لا يملكونها.. عَلَمَتْنا يا أخي الأعيادُ الماضيةُ ألوانًا من هذه المشاهد البائسة، وكان بإمكانك أن تكون عضوًا فعَّالًا في مجتمعك وأن ترسم الفرحة على ملامح أبناء جارك وصديقك وقريبك..
أخي الحبيب: يؤلمني كثيرًا منظرُ البؤساء في مجتمعك ويؤنِّب نفسي حالُ الشيوخ والأرامل في قريتك، وينتابني الحزن بحال المستضعفين المساكين في دائرتك، فعسى بعد هذه الرسالة أن تمسح دمعة حزن ولوعة معاناة وألم نفس، فتكون استجبتَ لدعوة الإنفاق ومواساة المجتمع.
الثَّعالب البشرية في موقف مصالحة
من أيِّ جهة أنطلق؟ ومن أي طريق أبدأ؟ وفي أي الجهات أسير؟ أنا حائر عند نقطة البداية، وللحيرة سببٌ هو أني وغيري من الناس قد نصادقُ من نصادق بناء على الودِّ والحبِّ ومعاني الأخوة، فلا يسعنا الزمنُ مع هذه المعاني، إلا أن نلقي بهمومنا وأشجاننا على قلوب أولئك الناس ظانِّين أن قلوبَهم تَسَعُ همومَنا وتتلقَّف أحزانَنا كما هو الدليل من أول نظرة المتأمل المنصف أنَّه لا تثريبَ على أولئك المتحدِّثين؛ لأن مفهومَ الثقة عندهم ينجلي ويظهر في أقلِّ الصُّور تعبيرًا؛ فهم وجدوا صوتًا ليِّنًا وحضنًا شبهَ متَّسع، ولسانًا أشبه بقطران الندى، فما كان منهم إلا أن سارعوا في الخطو فارتموا في أحضان أولئك الناس، وفور ما استجمُّوا جلوسًا، وأفرغوا شدوا الأحاديث، وأفاضوا تلال الهموم، أحسُّوا وكأنَّ الحضنَ بدأ يضيق، والصوتَ بدأ يخشوشن ولسان تنفذ منه رائحة سم الثعابين، حاولوا الهروب لكن هذه الصورة ما لبثت أن اختفت خلف الصورة الأولى، فأصبحوا يخطون خطوات إلى الأمام ويتراجعون بمثلها إلى الخلف.
نعم، إن هذه الصورةَ صورُ شخصيات متعدِّدة في مجتمعك أنت، وفي مجتمع غيرك من الناس، تراهم في لقياهم بك أصحابَ أسنان بيض لامعة وكلمات أبرد من ماء الثَّلج وعناق أكثر ما يكون شبها بلقاء الأخوان بعد الفراق، وفي الوقت نفسه هم أولئك فور انصرافك عنهم تخرج منهم كلمات تلمز شخصك وتثلب سيرتك وتقدح في حياتك، يشوِّهون صورتَك بأحاديث الأنس مع أصحابهم؛ فهم كما يقال: "معك معك وفي نفس الوقت عليك عليك".
إنَّ هذه الشخصيات للأسف تعاني مرضًا خطيرًا، في حياتهم انفصام الشخصية وتبلور الأفكار ونفاق باطن في السريرة، إنني وغيري من الناس نعتب على هؤلاء لأننا وثقنا بهم وأحسنَّا بهم الظَّنَّ فعاملونا بصور عكسية للصورة التي بادلناهم بها، نعتب عليهم لأنَّ لقيانا بهم كلَّ صباح؛ فهم منَّا ونحن منهم، وكم هي المرات التي قَرَعْنا أبوابَهم للزيارة ولا ندري ما يُكنُّون في أنفسهم، ومن حقِّنا اليومَ أن نهمسَ في آذانهم بكلمة عتاب، فنقول: عفوا، لماذا نعامل بوجهين اثنين؛ وجه أبيض مستنير وآخر شاحب مظلم؟ لماذا تنبز سيرتي وتكشف عورتي وتجعلني فضيح أسراري وعلى من؟ على الأعداء والحاقدين، أَوَلَسْتَ يا أخي أنا بأحوج إلى نصيحة منك تحاثني بها فتصلح أخطائي وتلم شعثي؟ لماذا تأخذني إلى نصف الطريق وأمام المارَّة تشير إلى عيوبي ومثالبي؟ أولم أكن بحاجة ماسَّة منك إلى إشارة خفيَّة وصوت هامس ورسالة بغير عنوان.
إنني اليوم أدعوك إلى المسامَحة، ضع يديك في يدي، ودعني أُمْسك بأناملك كثيرًا؛ فقد كانت شرارًا أحمر، فعساها اليوم أن تلاقي أناملك فتتحوَّل إلى رايات خضراء فتكون رائعة في مظهرها ناصعة في مخبرها، هيا بنا نسير إلى نفس الباب فتنادي بأعلى صوتك وتشير بنفس إبهامك وتقول للملأ: هذا خلِّي ورفيقي وابن مجتمعي. ولك حينها أن أعانقك عناقَ أخويٍّ كريم، لا عناق مخذل حقود.
إقامتي نظامية وسلوكي منحرف
مبارك عليك يا بلد استتباب الأمن، وفيض النعم، وتوافر الحياة الطيبة؛ ففيك بحمد الله أماكن مقدسة، وبين جنبيك آثارُ الرسالة، وأنت مهد النُّبوَّات، لهذه الأشياء فقط أنا متعلِّقٌ بك، ولن تَجَفَّ ريشةُ قلمي عن دفع عجلتك إلى الأمام إلا بجفاف لساني عن تجرُّع الماء البارد، وأفوِّل نفسي من مَعين الحياة، واليوم أمام أعين القراء دعني أنكث شيئا من جروحك، وتحمل يا بلدي شعابَ الدماء المتدفقة؛ فعسى بهذا النّكث أن تندمل جروح أخرى.
لقد رأيتُ يا بلدي وأنا بساحاتك أفواجًا من أولئك العمالة الذين وردوا إليك يا بلدي لشيء أو لآخر، لقد رأيت فيهم البنَّاءَ والسائقَ والخيَّاطَ وثللًا ليس لهم هَمٌّ إلا التَّحْديث في الطُّرُقات والسَّير في الأزقات؛ نعم، إنَّ منهم أو جُلُّهم إقامته نظاميةٌ، لكن مع كلِّ أسف سلوكُه منحرفٌ؛ لقد رأيتُ أفواجًا منهم يقدِّمون لأبناء هذا البلد إكسيرًا حراريًّا يدفع به ثمن الإقامة وهمَّ الفراق، يقدم على هذا الإكسير شريط الفيديو والموضة الخليعة وشيء من حبات الإنفلونزا تسهل له حبَّات كثر من أصناف المخدرات.
لقد رأيتُه يا بلدي دخل كهوفًا وأزقَّةً يحمل ماكينة الخياط النسائية، فتعرَّف على أهل الحي ثم دعا أفواجًا من أصحابه ليشاركوهم المهنة وتعب العمل، فكان الجميع بوابة فساد عريضة وتحلل أهل الحي.
مرة ثانية يا بلدي لقد رأيت فيك عاملًا يوصل المياه إلى أهلك وذويك فيقرع الباب ليقدم جرعة الماء ممزوجة بشيء من التفسخ وسوء الأدب، فلا يرعوي عن فعله حتى تتحول مياهه حنظلة وطرقة معتمة.
وها أناذا البارحة يا بلدي رأيت صاحب أقمشة يحملها على ظهره يراقب فيها دوام الموظَّفين وخروج الأبناء فينثرها بين نساء الحي فيرى وينظر حتى إني رأيته يا بلدي يتعرف على مداخلك ويترقب مسالكك، وإني أخشى عليك منه ومن أمثاله.
ومرة أخرى يا بلدي.. لقد علمت أنك تستقدم هذه الأيام ضيفة نسائية خادمة لأهل البيت، وصدقني يا بلدي لقد رأيتها تقدم دين النصرانية لابنيك وتتعبد لدينها بين ناظريك، ولعلي لا أكتم سرا أنها أفسدت أهل الحي وأوبقت شباب المجتمعات، وأخيرا كل هذا يا بلدي وقد لا يلام كثيرا صاحب الأرض المعطاءة ولكن ليتنبه فأنامل التخريب ربما تظهر في قفاز أبيض مزدهر.
الحياة الزائفة والعبرة المفقودة
أعاجيب هذه الحياة ويكمن عجبُها كثيرا في أنك وأنت تسير في هذه الحياة سيرا حثيثا غير آبه بما حولك من المناظر وربما متناسيا كثيرا من الواجبات، وفجأةً وفي عَرض الطريق يستوقفك صياحُ الناس، يشدُّك أنين تلك العجوز، يلفت نظرك آهات ذلك الأب فتهرع إليهم سائلًا مستوحيًا خبرهم، فتجيبك الدموع وهي تتدفق، وتجيبك وهي تنظر نظرة ألم وحسرة، يجيبك القلب وهو يقلب أسى الجراح، كل هذه تقول لك إن جارك وصديقك وقريبك وَدَّعوا هذه الحياةَ إلى غير رجعة، فتنتبه في سيرك وتلتفت يمنة ويسرة وتنظر في خطاك وتتعجَّب أن هذا الإنسان لن تلقاه في هذه الحياة مرة أخرى، ستتلاشى ذكراه من يوم إلى آخر حتى يصبح المسكين بمثابة الذكريات المنسيَّة، العجب عندما ترى هذا الإنسان الذي فاجأه الحديث وهاله الموقف واستوقفته هذه الدنيا الزهيدة في موقف الوداع - تجده يلملم شعثَ نفسه ويصلح سيره ويتوقف كثيرا عن خطوه السابق، لكن مع مرور الزمن سرعان ما تراه يتراجع إلى الخلف، سرعان ما يعود إلى شطحاته المؤذية؛ وذلك لأن الضجيجَ الذي سمعه والموقف الذي رآه بدأ يتلاشى وربما انعدم.
فتجده نسي الدموعَ المتدفقةَ والمواقفَ المحزنةَ فتمطَّى الباطلَ ونبزَ بغير الحقِّ؛ بل تراه يشير بالعين الخاطئة ويخطو خطوات جريئة يبقى أثرها سيئًا على نفسه، وفجأة يعود الأنين مرة أخرى وتنساب الدموع مرة ثانية وتزداد صفحات الوجه لوعةً وأسى؛ لكن هذه الوهلةَ تجمَّعت هذه التعابير على فراق الشخص نفسه الذي أضجَّه أنين الناس قبل ذلك، فبكى الناس على فراقه وشكى الصديق أحزانه وبعثر الجار آلامه.
ومع تسارع الأيام يهدأ هؤلاء كلهم عن شكواهم وتذهب لوحةُ الأسى من وجوههم وتتحجَّر الدموعُ في أعينهم ليعاودوا السير في هذه الحياة من جديد، وكأنما أولئك لم يكونوا.
فتتَّضح صورة هذه الدنيا الباهتة أنَّها مجرَّدُ سراب، وأن هؤلاء الناس مهما كانت خلَّتُهم وشدةُ رباطهم إلا أن الأيامَ تكسر ذكراهم وتنسيهم أحبابَهم، حتى هم أنفسهم يعاد عليهم شريطُ هذه الذكريات؛ فهل لهذه اللحظة المتكررة من وقفة محاسَبَة؟!
الإنسان الذي نريد
نريد ذلك الإنسان الذي يعرف ربَّه فيقدره، يعرف شأنه فيعظِّمه، يسير ضمن عقد الكون المتسلسل دونما استكبار عن الحق ولا عنت في الطريق، تَمَعَّن في قول الله: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ...﴾ [الحج: 18]. الجمادات كلها تسير ضمن ذلك العقد المحكم، سنة ربانية، وحكمة إلهية، نريد من يسارع في الدوران ويزيد في حجم العقد، لا الذي يمشي تارة ويتلفت في الطريق.
نريد ذلك الإنسان الذي يعيش لدينه فيفكر بعلقه ويتحدث لسانه وتكتب أنامله وتخطو قدمه كل ذلك من أجل دينه، يزداد به العمر فيزداد ثباتا تعصف به الفتن فيتشبث بعقيدته تشبُّثَ عود الأراك بالأرض.
نريد ذلك الإنسان الذي يُقَدِّمُ لأمَّته ومجتمعه صنوف البذل والعطاء حتى يصبح لبنةً صالحةً من لبنات المجتمع، الإنسان الذي يحافظ على مقدَّرات الأمة، وكنوز المجتمع؛ لا لشيء إلا للحفاظ على البنية الأساس، فيكون أحد هؤلاء الذين ساهموا في البناء، فيُحفظ في تاريخ الأمة أنَّه من البناة ولم يكن يوما معولا من معاول الهدم.
نريد ذلك الإنسان الذي يستفيد من مرور الأيام فيأخذ منها العبر ويكون يومه خيرًا من أمسه، وغدًا خيرًا من اليوم، نريده من أولئك الذين يتقدَّم بهم الزمن فتزيدهم الأيام نضجا ونجاحا، وحينما يقعدهم الزمن عن المسير ينفعون الأمة بتفكيرهم وحديثهم، حتى ولو حَبَسَهم الزمنُ على الأَسرَّة.
نريد ذلك الإنسان الذي يعيش للآخرين فيساعد محتاجهم ويأخذ بيد عجوزهم ويرشد ضالَّهم، ذلك الذي يشعر بمريضهم، يفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم، يقدِّم لهم وكأنما يقدِّم لنفسه، ذلك الذي يبتسم بلا قيود، ويسلِّم بلا تعارف، ويبذل لهم من أجل الله.
نريد ذلك الإنسان الذي يمسح رأس اليتيم، يبتسم في وجهه، يحمله في سيارته مكان ما يريد، نريد الإنسان الذي يعوِّض هؤلاء فقدَ أبيهم فيتفقدهم بين لحظة وأخرى يكسو عاريهم ويطعم جائعهم ويرأف على فاقد الحنان لديهم.
لعلَّ الحقيقة التي تبدو واضحة جلية هي أن المؤمن يعيش استعلاء وعزة، دائما تميد به إلى العلو، ترفعه عاليا وإن كان على سطح الأرض، تشمخ برأسه إلى السحاب وإن كان يسير بين الناس، هذه حقائق واضحة جلية لمن عاش لذةَ الإيمان ويختلف هذا العلو بين المؤمنين حسب ما معهم من الإيمان والعمل الصالح.
أرأيت بلالًا الحبشيَّ تصرعه أنوفُ الباطل وأكابر قريش ويوسد الرمال على ظهره وتنزل على بطنه أحجار جبال مكة، ومع ذلك كله يأنف أن يرضخَ للباطل وتزأر نفسه بكلمة "أَحَدٌ أَحَدٌ" فيراجَع عله أن ينثني، وهو يقول: والله لا أحسن غيرها([12]).
هذه النفس إذا ذاقت هذه اللَّذَّةَ الروحيَّةَ تأبى أن تستذلَّ من بني البشر، وكما قال محمد أحمد الراشد في كتابه الرقائق([13]) وهو يتحدث عن هذه النفس، قال: علمها التحليق، تكره الإسفاف، عرفها العز تنفر من الذل، أذقها اللذات الروحية العظيمة تحقر اللذات الحسية الصغيرة، حتى قال الله تعالى مؤكِّدًا هذا الأمرَ عقب غزوة أحد حينما أصابهم من الوهن والضعف، ذكَّرهم وأثنى عليهم بقوله: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران]، فعقَّبَ سيد قطب على هذا المعنى في ظلاله الوارفة قائلا([14]): أنتم الأعلون، عقيدتكم أعلى، فأنتم الأوصياء على هذه البشرية كلها، وهم شاردون عن المنهج ضالون عن الطريق.
هذا الاستعلاء عاشه أقوام سابقون فقدَّموا أرواحهم على أكفِّهم فعلوا في تاريخ الأمة حتى وصلوا إلى بطحاء الجنة وهم أحياء يمشون على وجه الأرض؛ فها هو سعد يَدُكُّ معاقلَ الفرس في القادسية فيثنيه الجراح، فيعقبه أبو محجن الثَّقَفيُّ على البلقاء فيثلم جيش الفرس ثلمة القائد الأَشَمّ، وأنس بن النضر تسمو روحُه من هتاف ريح الجنة ما يجعله يمزِّق أشلاء، وسعد بن معاذ ينطف جرحه من آثار الحروب، وخالد يغامر بحياته فيكون سيفًا من سيوف الله، وحمزة أسدٌ أشمّ يثلم جيش قريش، وخبيب يموت مشنوقًا فداءً لدين الله، وسعد بن ربيع في اللحظات الأخيرة يردِّد لا يصل إلى رسول الله وفيكم عين تطرف، وغيرهم وغيرهم كثير، هذا الاستعلاءُ نفتقده اليومَ كثيرًا في حياتنا اليومية؛ فربَّما ننسى أو نتناسى معالم هذه العزَّة وروح هذا الاستعلاء، فنبقى أحيانًا كثيرةً أرضيِّين نهفو إلى التراب ولا نَرْقَى إلى المعالي، فهل نعود إلى معالم هذا الدِّين فنستردَّ هذه العزَّةَ ونلبس ثوب الاستعلاء.
للمتأسِّين فقط
الأخلاق الحميدة صفات ومناهج وعلوم ينبغي للإنسان أن ينهل من مواردها حتى يخرج إلى الناس في ثوب الخلق الكريم، حينها يألفه الناس، ويتوجَّه إليه العامةُ، ويشار إليه بالبنان، وقبل ذلك كله يكسب رضى ربه الرحمن.
واليوم كم من الناس للأسف وجوههم مكفهرة، أحوالهم متقلبة، صدورهم ضيقة، فضَجَّ بهم أبناؤهم وأزواجهم وجيرانهم، وتعدَّى الضَّجيج إلى المجتمع، ولك أن تسمع كثرة الشاكين لتدرك عظم سوء الخُلُق في أذهان الناس، واليوم أجول بكلِّ مَنْ أراد التَّأَسِّي في رحاب سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتعرف الأمة قدوتها فتقتدي وتتنبَّه لمسارها الصحيح فتسير فيه.
فهذه الرسالةُ إليك أنت أخي المعلم، وإليك أنت أخي الأب، ولك أنت بالذات جاري العزيز، وللمتأسِّين عامَّة، فأقول: أوما قرأت يا أخي كتاب الله وهو يوجِّه الخطاب لرسوله الكريم: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: 159]. فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صفيُّه وخليلُه وأمينُه على وَحْيه يقال له هذا القول؛ فهلَّا أخي علمتَ عظمَ الفرق وأدركت أهميةَ لين الجانب.
أَوَما سمعتَ يا أخي خبرَ نبيِّك عندما دخل عليه في المسجد أعرابيٌّ من البادية، وحينها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في غمرة الذِّكْر مع صحابته الكرام، فما كان من هذا الأعرابيِّ إلا أن رفع ثوبَه في وسط المسجد دون رعاية لحرمة هذا البيت وجهلا بهذه العظمة، ثم جلس وبال، فوثب الصحابة عليه غيرةً على بيت الله ونهروه وزجروه، فياليت شعري من هو القائد ومن هو القدوة ومن هو الرحمة، قال: «دعوه». ولما انتهى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أهريقوا على بوله ذنوبا من ماء». فتوقَّف الصحابيُّ متعجِّبًا وقال بروح الحبِّ والألفة: "اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحد". فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: «لقد حَجَّرْتَ واسعًا»([15]).
أَوَما قبلتَ يا أخي سيرةَ نبيِّك فقرأتَ عن ذلك الصحابيِّ الذي صلَّى خلفَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعطس فقال بصوت عال: "الحمد لله". فضرب القومُ بأيديهم على أفخاذهم استنكارًا لهذا الفعل، فقال: واثكل أماه واثكل أماه. فلما انتهى رسول الله من أداء الصلاة نظر إليه الصحابة خوفًا من مكروه سَيَحلُّ به؛ لكن نظرة الرحيم تأبى الزلل.. فما سأله ولا ناقشه ولا عاتبه ولا زاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن قال: «إنما هذه الصَّلاة لا يصلح فيها شيء من كلام البشر». فقال الصَّحابيُّ: "بأبي هو وأمي رسول الله؛ والله ما نهرني ولا كهرني..."([16]). ولقد حَدَّثَتْنَا كتبُ السِّيرة أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلِّي بالمسلمين وفي يده "أمامة بنت أبي العاص"، فكان إذا سجد تسلَّقت على ظهره، فيأبى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يَنْهَضَ من سجوده خشيةَ أن يؤذيها، فطالت الصَّلاة على غير عادتها، فلما انتهى جعل يعتذر للمسلمين، وبعد هذا الخبر بصفحات خبر آحاد مفادُه أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب بالناس فرأى الحسن والحسين مقبلان يتعثَّران، فما كان منه إلا أن ترك الخطبة ثم نزل فحملهما وقبَّلهما وقال: «هذان ريحانتي من الجنة»([17]). أقعدهما وعاد لخطبته.
وتُحَدِّثُنا كتبُ السِّيرة حديثًا ثالثًا؛ أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ على أخ لأنس مات له طير صغير كان يتسلى به ويداعبه، فحزن عليه حزنًا شديدًا، فما كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن قال: «يا أبا عمير ما فعل النَّغير، يا أبا عمير ما فعل النَّغير»([18]).
وحدَّثَتْنا كتبُ السِّيرة حديثًا رابعًا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى كساء على صبية صغيرة فجاء إليها يداعبها ويقول: «يا أمَّ خالد سنا يا أمَّ خالد..». و"سنا": جميلٌ بلغة الحبشة.. هذه الأحاديث ليست سردًا من الخيال ولا حكايات قديمة على ألسنة عجائز المدينة؛ إنما هي حياة رجل كريم رسول هدى ونبي رحمه، فماذا ينتظر المربُّون من نماذج غير هذه.. ولماذا تجانب القدوة وأفعال كثيرة من الناس هذه السيرة العطرة بين أيديهم.. فقط نحن بحاجة إلى التأسِّي.
وقفة محاسبة
لك أنت بالذات أعيش أطارد تقلُّبات الدَّهر، أعاند لهفات العمر من أجل إسعادك، أكابد غصص الأيام لألبسك حلل السعادة، وبين يوم وآخر، وأن ألاطفك وأودك نفسي بين جنبي عايشت هواها فذقت من أجلها كل هواء.
وبالأمس فقط أحسستُ بالتَّأنيب حينما رأيت انصرام عام هجري وإقبال عام آخر؛ وقفت متسائلًا؛ لأول مرة ينصرم العام! أم لأول مرة تتوالى الشهور؟ لقد عاشت هذه النفس أعواما مديدة حتى عتاب الصفاء لم يكن يطرق مسمعها، واليوم بالذات حاولت جاهدا أن أمسك بها، تتملَّق منِّي، أحاول شدَّها، تتهرب وتتوارى؛ لكنني اليوم أكثر حالا من ذي قبل.
قفي أيتها النفس إنني مسائلك فمشدِّد عليك المسألة فلا تجدي عليَّ؛ رأيتُك في أعوام مضت تؤلِّبين عينًا مسكينة على الشطوح يمنة ويسرة، كم من نظرة خائنة طاشت فلامست عورة بادية.
ناظرت حالي عبر أيام مضت وشهور تَصَرَّمَت وسجلات ربما كتبت وحفظت، كم من عين تقلبت في الحرام، وكم من نظرة خائنة عاثت في مناظر الفاتنات والمردان كانت تتلذذ ولم تشعر يوما بأنين ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر: 19]! تتلذَّذ ولم تدر إلا بعد فوات الأوان، أنَّ القلبَ عاش بتلك النظرة قسوةً عاثت في النفس بالحرمان، يد طائشة امتدت فغمست حتى المرفق مياه الصنابير عجزت أن تدملها، ثم نقلت جسدا بين دور وآخر، لم تدر بأن الخطو يكتب ويأنب، نفس غايرت المقصد فكتبت أيام الحسرة والشقوة.
عفوًا يا نفس ولغير مرة نبرات الأذان تتمطى من بيوت الله لا تتسلق سلالم أذنيك الكريمتين؛ لكن ربما تثاقلت خطاك ولم تقوين على المبادرة، لماذا أراك كل حين تقبعين في المؤخرة ونبأ الاقتراع([19]) قد طاف على مسمعك؛ لماذا أنت بالذات تعيشين ألوانًا من الكسل والخمول في دور الرحمة وغيرك عليهم صلوات الملائكة دائمة ([20])؟! فالأسوة الأسوة.
عفوًا يا نفس، رأيت أنفسًا يعلو شفاهها اليبس ورأيت في يدك زجاجة الماء وعلى شفاتك أثر من نعمة قريب، أيُّ فرق بينك وبين هؤلاء؟! عفوًا يا نفس، لقد طرق مسمعي ولمئات المرات أنين القرآن، ينطلق يعانق أبواب السماء في ليال مظلمة؛ بل حالكة الظلام.
رَوَّضْتُك وحاولت شدك، ذكرتُك وأرخيت مسمعك فآثرت لين الفراش وبقيت حاملة الأردان، فأصبحت وفيك أثر من سواد وعلى وجهك عبوس وضجر وغيرك تلألأ عليهم أنوار السحر، عفوا يا نفس كم هي المرات التي وقف بجانبك المحتاج فمدَّ يده وفاضت عبرته، ويدك مغلولة أبت أن تمتد بفيض العطاء، وأنا أعلم أنك ترفلين في ثوب الغنى، لماذا يا نفس هذا الخلق المشين، وغيرك يتفجرون بينابيع العطاء؟!
وأخيرا يا نفس قبل أن أوادعك أذكرك بقول ربك: ﴿أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ﴾ [الزمر: 56]. فتكون لك عبرة ودافع إلى العلو والرفعة.
بين الشروق والغروب لحظة مساءلة
ها هي الدقائق تتوالى، والأيام والشهور تنقضي، والسنون تتدابر، نقف اليوم ننظر إلى أيام عامنا الهجري وهي أشبه ما يكون بورق الشجر اليابس يتحاتُّ ورقة ورقة حتى ربما ترى الشجرة عودا صامتا بعد أن كانت ترجف بالثمار، وعامنا الهجري ولَّى فأصبح اليوم شبيها بتلك الشجرة، وللأسف صحوتُ متأخِّرًا على غير العادة، وربما السبب برودة الشعاع المنبثق من تلك الشمس الهادئة، أحسست أن اليوم يوم غير تلك الأيام فعدت إلى ورقة التقويم فإذا هي آخر ورقة مدلاة، حاولت أن أراقب الشمس وهي تخطو سريعا، كنت أقف دونما حاجب عنها وفي لحظة الغروب بالذات بخافق يهمس في نفسي يعاتب هذه النفس فيقول: أولم تشعري يا نفس بتقضي الأيام مراحل دونما استعداد للرحيل؟! أشبهتك اليوم يا نفس بتلك الشجرة التي تساقط ورقها فأصبحت دوما أوراقا فكأنك اليوم أنت دونما أعمال صالحة تظلك وترفرف عليك وتحجب عنك شعاع الشمس المحرقة.
يا نفس.. ورقة التقويم ترفرف وحدها، حتى الغراء اللاصق بدأ يتخلى عنها، فأخشى أن يكون غدا وبعد غد آخر أيامك، ويصبح ذلك اليوم أشبه ما يكون بورقة التقويم لكن دونما إبقاء شيء من ذلك الغراء، لتنظري إلى نفسك أنت تتلاطم بها أمواج الرياح وتهوج بها أعاصير الشهوات.
يا نفس.. غربت شمس آخر يوم عامك الهجري وأنت تنظرين إليها وغيرك من الناس غربت شمس أعوام مضت وهي تنظر إليهم، فبقيت في حياتك أثر للعبرة وزمن للتوبة، وغيرك لم يجدوا ذلك في هجعة الناس ودمعة اليأس هطالة في وداع الأيام.
يا نفس.. أوما تمعَّنت في وداع العام؟! كم من دفين في تراب المقابر! وكم من ضجيج من تلك الحفر كانوا يحلمون بنفس ما تحلمين وارَتْهم الدنيا وشمسها ساطعة! كم من نجم أفل عليهم، وكم من ليل سدل ظلامه عليهم، وأنت ترفلين في ثوب الحياة! فإلى متى خطوك ثابت، وحديثك صامت، وليلك لم ينجل.
يا نفس.. قلبك وجوارحك ليس خلقا لله فلماذا في وضح النهار تغاير هدفها؟! ولماذا في سدول الليل تخون رسالتها؟! وكأني بك يا نفس أسيرة هدف مقيت! أفلا يكون انصرام هذا العام ذكرى لك تقومين نهجك، وتصلحين اعوجاج خطاك.
يا نفس.. ماذا قدَّمت لدينك؟! بماذا جاهدت لرسالتك؟! أعداء دينك كتبوا فسوَّدوا الصُّحف، قالوا فلَوَّثوا الأوراق، خطوا سريعا فعاثوا فسادا في البلاد، وأنت لسانك مخبوء دون حديث، وكلماتك شدوٌ دون رسالة وهدف، وسيرك دونما معنى ولا غاية، فماذا أقول لعامك الهجري المنصرم؟!
يا نفس.. لماذا تصمتين دومًا عن التسبيح وفي نفس الوقت تتشدَّقين بسير أولئك البشر، فأراك تنبزين عالما وتثلبين مصلحا؟! أراك تشوِّهين الصورة، وتقلبين الهدف، وربما تتناسين معالم الطريق الطويل؛ فها هو يا نفس عامنا الهجري تغرب شمسه، وهذه الكلمات وتلك التصرفات في سجلات، وقد لا تستطيعين الفكاك منها غدا.
يا نفس.. لماذا آمالك ضئيلة؟! لماذا أمنياتك دنيئة؟! لماذا لا تنظرين إلى تلك الأنفس الطموحة فتحققين تلادا في الدنيا، وحياة نجاة في الآخرة.
يا نفس.. غدًا المساءلة، غدًا المحاورة، غدًا يا نفس الملامة، ﴿أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ﴾، غدًا يا نفس تظهر لك أيامك المودعة سيئات دفينة أنسيتها مع الأيام، ﴿وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾، أفلا تُبَدِّلين ذلك حسنات بيض فتكون العاقبة بالنجاة!
وأخيرا يا نفس.. لست بمثبِّط لك عن إصلاح النفس والسريرة وإعادة الخطو إلى دروب النجاح، ولست كذلك حاجم لك عن التغيير فها هي شمس عامك الجديد تشرق وكأني اليوم ألمحها صافية ممتعة، فخذي بجسدك إلى معالي الأمور، تسامي عن حب الظهور، رفرفي قليلا إلى أعلى عن سماع الخذول، أشدي يا نفس بنبرات القرآن؛ فليس في الحياة أسمى من هذا الشَّدو ولا أجمل من هذه النبرات.
يا نفس.. عامك أقبل فأقبلي، أيامك الدنيئة ولَّت فارحلي، لا أودُّ أن أراك تعيشين على نثرات الحب المتساقطة، تسامي كفعل الصقور، خذي كل ما تريدين لكن بارتفاع عن سطح هذه البسيطة.
([1]) رواه مسلم من حديث أبي هريرة.
([2]) رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي هريرة.
([3]) رواه الترمذي عن ابن مسعود.
([4]) مسلم، والبخاري من حديث أبي هريرة.
([5]) رواه مسلم.
([6]) متفق عليه من حديث معقل بن يسار.
([7]) رواه مسلم من حديث جرير.
([8]) روه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود، والترمذي من حديث عبد الله بن عمرو.
([9]) رواه أبو داود.
([10]) رواه الإمام أحمد في مسنده وسبق.
([11]) متفق عليه من حديث أنس.
([12]) سير أعلام النبلاء 1/352.
([13]) الرقائق/ محمد أحمد الراشد 51.
([14]) ظلال القرآن 1/474.
([15]) متفق عليه من حديث أنس.
([16]) رواه مسلم.
([17]) رواه البخاري وأحمد من حديث ابن عمر.
([18]) البخاري وأحمد من حديث أنس.
([19]) حديث أبي هريرة في الصحيحين «لو يعلمون ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا».
([20]) حديث أبي هريرة في الصحيحين، وفيه «فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه».