×
يتضمن هذا الكتاب عددًا من النَّماذج التي استعرضها الحافظ ابن كثير – رحمه الله - في كتابه (البداية والنهاية) لنهاية كثير من الطُّغاة والظالمين؛ بدءاً بفرعون وقومه حتى العصر الذي عاش فيه ابن كثير – رحمه الله -.

 وماذا بعد الظلم ؟ [ أحداث تاريخية هامة وقصص واقعية عن نهاية الظلم ]

عبد الحميد بن عبد الرحمن السحيباني

بسم الله الرحمن الرحيم

 توطئـة

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على مَنْ لا نبيَّ بعدَه نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن سار على نَهْجه واقتفى أثرَه إلى يوم الدين، أما بعد:

فإن الناظرَ في أحوال الأمم والشُّعوب قبلنا - وبخاصة الظالمين منهم - ممَّن أهلكه الله – تعالى - لَيَأْخذ من ذلك عظات وعبرًا؛ كيف لا وقد قال - سبحانه: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [يوسف: 111].

إنَّ في تأمُّل مصير الظالمين وما جرى عليهم من الإهلاك عبرةً لكلِّ جبَّار عنيد؛ نعم؛ الجبَّارُ الذي ما كان يَهْدَأُ له بال في الدُّنيا إلَّا وهو يرى بأمِّ عينيه دماءَ الأبرياء من المؤمنين تنـزف على يد زبانيته المجرمين، فما يحرك له ذلك ساكنا؛ بل وكأنَّ شيئًا لم يكن!!! وهو – زيادة على ذلك - قد أطلق لنفسه العنان، فأغرقها في الشَّهَوات والشُّبُهات؛ منتهكًا بذلك الحرمات، ضاربًا بالشَّرع المطهَّر عرضَ الحائط: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾. [البروج: 8- 9].

أَيُّها الأخ الكريم:

ما المصيرُ الذي صار إليه أولئك الطُّغاة الذين ملكوا القوَّةَ والمالَ وأسبابَ البقاء والغَلَبة؟!

ألم يأخذهم الله جميعًا بعدما فَتَنوا النَّاسَ وآذَوهم طويلًا!

﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [العنكبوت: 40].

وهكذا يكون مصيرُ كلِّ ظالم ومتجبِّر على مَرِّ الأزمان والدُّهور، ولا يَبْقى إلَّا حماية الله – تعالى - وركنه القويّ الرَّكين.

إنَّها حقيقةٌ ضخمة عُني بها القرآن الكريم؛ حيث قرَّرها في نفوس الفئة المؤمنة، فكانت بذلك أقوى من جميع القوى التي وَقَفَتْ في طريقها، وداست بها على كبرياء الجبابرة في الأرض، ودكَّت بها المعاقلَ والحصونَ.

لقد استقرَّتْ هذه الحقيقةُ الضَّخمةُ في كلِّ نفس، وعمَّرت كلَّ قلب، واختلطت بالدم، وجرت معه في العروق، ولم تَعُدْ كلمة تقال باللِّسان، ولا قضية تحتاج إلى جدل؛ بل بديهة مستقرة في النَّفس لا يجول غيرها في حسٍّ أو خيال.

قوَّةُ الله هي القوة، وولاية الله هي الولاية، وما عداها فهو واهنٌ ضئيلٌ هزيلٌ مهما علا واستطال، ومهما تَجَبَّرَ وطَغَى، ومهما مَلَكَ من وسائل البَطْش والطُّغيان والتَّنكيل.

أيُّها الأخ المبارك:

وبعد هذا الاسترسال المفيد - بإذن الله - نقول: إنَّ هذا الكتابَ "وماذا بعد الظلم" يدور حولَ بسط عدد من النَّماذج التي استعرضها الحافظ ابن كثير([1]) – رحمه الله - في كتابه العظيم (البداية والنهاية) لنهاية كثير من الطُّغاة والظالمين؛ بدءاً بفرعون وقومه حتى العصر الذي عاش فيه ابن كثير – رحمه الله([2]).

وحقيقةً.. إنَّ كتابَ "البداية والنهاية" كتاب جليل القدر، عظيم النفع لمن تأمله، وهذا ما دعانا إلى إصدار الجزء الأول من هذه السِّلسلة المبارَكة؛ (إحياء كتب التراث الإسلاميّ)؛ سائلين الله – تعالى - أن يجعلَها خالصةً لوجهه، نافعةً لعباده؛ إنَّه أعظمُ مسؤول، وأكرمُ مأمول.

سبحان ربِّك ربِّ العزَّة عمَّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله ربِّ العالمين.


 1-             نهاية فرعون وجنوده

لما تمادى قبطُ مصر على كفرهم وعُتُوِّهم وعنادهم متابعةً لملكهم فرعون ومخالفةً لنبيِّ الله ورسوله وكليمه موسى بن عمران- عليه السلام، وأقام الله على أهل مصر الحجج العظيمة القاهرة وأراهم من خوارق العادات ما بهر الأبصار وحيَّر العقول، وهم مع ذلك لا يرعوون ولا ينتهون ولا ينـزعون ولا يرجعون، ولم يؤمن منهم إلا القليل - قيل ثلاثة هم امرأة فرعون ولا علم لأهل الكتاب بخبرها، ومؤمن آل فرعون، والرجل الناصح الذي جاء يسعى من أقصى المدينة فقال: ﴿يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين﴾. قاله ابنُ عبَّاس فيما رواه ابنُ أبي حاتم عنه، ومرادُه غير السَّحَرة؛ فإنَّهم كانوا من القبط. وقيل: بل آمن طائفة من القبط من قوم فرعون والسَّحرة كلِّهم وجميع شعب بني إسرائيل. ويدلُّ على هذا قولُه تعالى: ﴿فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾ [يونس: 83]؛ فالضمير في قوله: ﴿إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ﴾ عائد على فرعون؛ لأنَّ السِّياقَ يدلُّ عليه. وقيل: على موسى؛ لقربه. والأَوَّلُ أظهر كما هو مقرَّرٌ في التَّفسير، وإيمانهم كان خفيةً لمخافتهم من فرعون وسطوته وجبروته وسلطته، ومن ملائهم أن ينموا عليهم إليه فيفتنهم عن دينهم؛ قال الله تعالى مخبرًا عن فرعون وكفى بالله شهيدا: ﴿وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي جبار عنيد مستعل بغير الحقِّ، ﴿وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾: أي في جميع أموره وشؤونه وأحواله؛ ولكنه جرثومة قد حان انجعافها([3])، وثمرة خبيثة قد آن قطافها، ومهجة ملعونة قد حتم إتلافها، وعند ذلك قال موسى: ﴿يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾؛ يأمرهم بالتَّوَكُّل على الله والاستعانة به والالتجاء إليه، فأتمروا بذلك، فجعل الله لهم مما كانوا فيه فرجا ومخرجا. ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 85، وما بعدها] - أوحى الله تعالى إلى موسى وأخيه هارون- عليهما السلام- أن يتَّخذوا لقومهما بيوتًا متميزةً فيما بينهم عن بيوت القبط؛ ليكونوا على أهبة في الرَّحيل إذا أمروا به ليعرف بعضهم بيوت بعض.

 وقوله: ﴿وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً﴾: قيل: مساجد. وقيل: معناه كثرة الصَّلاة فيها. قاله مجاهد، وأبو مالك، وإبراهيم النخعي، والربيع، والضَّحَّاك، وزيد بن أسلم، وابنه عبد الرحمن، وغيرهم؛ ومعناه على هذا الاستعانة على ما هم فيه من الضُّرِّ والشِّدَّة والضِّيق بكثرة الصَّلاة؛ كما قال تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ [البقرة: 153]، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا حَزَبَه أمرٌ صلَّى. وقيل: معناه أنهم لم يكونوا حينئذ يقدرون على إظهار عبادتهم في مجتمعاتهم ومعابدهم فأمروا أن يصلوا في بيوتهم؛ عوضًا عمَّا فاتهم من إظهار شعار الدِّين الحقِّ في ذلك الزَّمان الذي اقتضى حالُهم إخفاءَه؛ خوفاً من فرعون وملئه. والمعنى الأوَّلُ أقوى؛ لقوله: ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، وإن كان لا يُنافي الثَّاني أيضاً، والله أعلم. وقال سعيد بن جبير: ﴿وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً﴾: أي متقابلة.

 ﴿وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾: هذه دعوةٌ عظيمةٌ دعا بها كليمُ الله موسى على عدوِّ الله فرعون غضبًا لله عليه؛ لتكبُّره عن اتِّباع الحقِّ وصدِّه عن سبيل الله ومعاندته وعُتُوِّه وتمرُّده واستمراره على الباطل ومكابرته الحقّ الواضح الجليّ الحسِّيّ والمعنويّ والبرهان القطعيّ؛ فقال: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ﴾: يعني قومَه من القبط ومن كان على ملته ودان بدينه: ﴿زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ﴾، أي وهذا يغترُّ به من يعظم أمر الدنيا فيحسب الجاهل أنهم على شيء؛ لكون هذه الأموال وهذه الزِّينة من اللِّباس والمراكب الحسنة الهنيَّة والدُّور الأنيقة والقصور المبنيَّة والمآكل الشَّهيرة، والمناظر البهيَّة، والملك العزيز، والتَّمكين والجاه العريض في الدُّنيا لا الدِّين.

 ﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ﴾: قال ابن عباس ومجاهد: أي أهلكها. وقال أبو العالية والربيع بن أنس والضَّحَّاك: اجعلها حجارةً منقوشةً كهيئة ما كانت. وقال قتادة: بلغنا أن زروعَهم صارت حجارةً. وقال محمد بن كعب: جعل سكرهم حجارة. وقال أيضاً: صارت أموالهم كلُّها حجارة.

 ذُكر ذلك لعمر بن عبد العزيز فقال عمر بن عبد العزيز لغلام له: قم ائتني بكيس. فجاءه بكيس فإذا فيه حمص وبيض قد حول حجارة. رواه ابن أبي حاتم.

 وقولُه: ﴿وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾: قال ابن عباس: أي اطبع عليها؛ وهذه دعوة غضب لله تعالى ولدينه ولبراهينه؛ فاستجاب الله تعالى لها وحقَّقها وتقبَّلها كما استجاب لنوح في قومه؛ حيث قال: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾. ولهذا قال تعالى مخاطباً لموسى حين دعا على فرعون وملئه وأَمَّنَ أخوه هارون على دعائه فنـزل منـزلة الداعي أيضاً: ﴿قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾[يونس: 89].

 قال المفسِّرون وغيرُهم من أهل الكتاب: استأذن بنو إسرائيل فرعون في الخروج إلى عيد لهم، فأذن لهم وهو كارهٌ؛ ولكنَّهم تجهَّزوا للخوارج وتأهَّبوا له؛ وإنما كان في نفس الأمر مكيدةٌ بفرعون وجنوده ليتخلَّصوا منهم ويخرجوا عنهم، وأمرهم الله تعالى فيما ذكره أهل الكتاب أن يستعيروا حليًّا منهم فأعاروهم شيئًا كثيرًا فخرجوا بليل فساروا مستمرِّين ذاهبين من فورهم طالبين بلادَ الشَّام، فلما علم بذهابهم فرعون حنق عليهم كل الحنق واشتدَّ غضبُه عليهم، وشرع في استحثاث جيشه وجميع جنوده؛ ليلحقهم ويمحقَهم؛ قال الله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ * فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾. [الشعراء: آية 53 وما بعدها]. قال علماءُ التَّفسير: لما ركب فرعون في جنوده طالباً بني إسرائيل يقفو أثرهم كان في جيش كثيف عرمرم حتى قيل: كان في خيوله مائة ألف. فَحَلَّ أدهم، وكانت عدة جنوده تزيد على ألف ألف وست مائة ألف؛ فالله أعلم.

والمقصود أنَّ فرعونَ لحقهم بالجنود فأدركهم عند شروق الشَّمس وتراءى الجمعان ولم يبق ثمَّ ريبٌ ولا لبسٌ، وعاين كلٌّ من الفريقين صاحبَه وتحقَّقَه ورآه ولم يبقَ إلا المقاتلة والمجادلة والمحاماة؛ فعندها قال أصحابُ موسى وهم خائفون: إنا لمدركون. وذلك لأنَّهم اضطروا في طريقهم إلى البحر؛ فليس لهم طريق ولا محيد إلا سلوكه وخوضه؛ وهذا ما لا يستطيعه أحد ولا يقدر عليه، والجبال عن يسرتهم، وعن أيمانهم وهي شاهقة منيفة، وفرعون قد غالقهم وواجههم وعاينوه في جنوده وجيوشه وعَدَدِه وعُدده وهم منه في غاية الخوف والذُّعر لما قاسوا في سلطانه من الإهانة والمنكر، فشكوا إلى نبيِّ الله ما هم فيه قد شاهدوه وعاينوه، فقال لهم الرسول الصَّادق المصدوق: ﴿كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾.

 وكان في السَّاقة فتقدَّم إلى المقدمة ونظر إلى البحر وهو يتلاطم بأمواجه، ويتزايد زبد أجاجه وهو يقول: ههنا أمرت. ومعه أخوه هارون ويوشع بن نون، وهو يومئذ من سادات بني إسرائيل وعلمائهم وعبَّادهم الكبار، وقد أوحى الله إليه وجعله نبيًّا بعد موسى وهارون - عليهما السلام - ومعهم أيضاً مؤمن آل فرعون وهم وقوف، وبنو إسرائيل بكمالهم عليهم عكوف.

 ويقال: إن مؤمن آل فرعون جعل يقتحم بفرسه مراراً في البحر هل يمكن سلوكه فلا يمكن، ويقول لموسى عليه السلام: يا نبي الله أههنا أمرت. فيقول: نعم. فلما تفاقم الأمر وضاق الحال واشتدَّ الأمر واقترب فرعون وجنودُه في جدهم وحدهم وحديدهم وغضبهم وحنقهم وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر؛ فعند ذلك أوحى الحليم العظيم القدير ربُّ العرش الكريم إلى موسى الكليم: ﴿أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ﴾. فلمَّا ضربه - يقال: إنه قال له: انفلق بإذن الله. ويقال: إنه كنَّاه بأبي خلد. فالله أعلم. قال الله تعالى: ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾ [الشعراء: 63]. ويقال: إنَّه انفلق اثني عشر طريقاً لكلِّ سبط طريق يسيرون فيه، حتى قيل: إنه صار أيضاً شبابيك لَيَرَى بعضُهم بعضاً، وفي هذا نظر؛ لأن الماء جرم شفاف إذا كان من ورائه ضياء حكاه.

 وهكذا كان ماءُ البحر قائماً مثل الجبال مكفوفاً بالقدرة العظيمة الصَّادرة من الذي يقول للشيء كن فيكون، وأمر الله ريح الدبور([4]) فلقحت حال البحر فأذهبته حتى صار يابساً لا يعلق سنابك الخيول والدَّوابّ؛ قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى * فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى﴾ [طه: آية 79 وما بعدها].

 والمقصود أنه لما آل أمر البحر إلى هذه الحال بإذن الرَّبِّ العظيم الشَّديد المحال أمر موسى - عليه السلام - أن يجوزه ببني إسرائيل، فانحدروا فيه مسرعين مستبشرين مبادرين وقد شاهدوا من الأمر العظيم ما يحيِّر النَّاظرين ويهدي قلوبَ المؤمنين؛ فلمَّا جاوزوه وخرج آخرهم منه وانفصلوا عنه - كان ذلك عند قدوم أوَّل جيش فرعون إليه ووفودهم عليه - فأراد موسى - عليه السلام - أن يضربَ البحرَ بعصاه ليرجع كما كان عليه؛ لئلَّا يكون لفرعون وجنوده وصولٌ إليه ولا سبيل عليه؛ فأمره القدير ذو الجلال أن يترك البحرَ على هذه الحال؛ كما قال وهو الصَّادق في المقال: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ * أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آَتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ * وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ * فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ * كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ * وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ * وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآَتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآَيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ﴾. [الدُّخان: آية 17 وما بعدها].

 فقوله تعالى: ﴿وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا﴾: أي ساكناً على هيئته لا تغيِّره عن هذه الصِّفة. قاله عبد الله بن عبَّاس ومجاهد وعكرمة والرَّبيع والضَّحَّاك وقتادة وكعب الأحبار وسماك بن حرب وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم.

 فلما تركه على هيئته وحالته وانتهى فرعون فرأى ما رأى وعاين ما عاين هاله هذا المنظر العظيم وتحقَّق ما كان يتحقَّقه قبل ذلك من أنَّ هذا من فعل ربِّ العرش الكريم؛ فأحجم ولم يتقدَّم وندم في نفسه على خروجه في طلبهم والحالة هذه؛ حيث لا ينفعه النَّدم؛ لكنه أظهر لجنوده تجلُّداً وعاملهم معاملة العدا وحملته النفس الكافرة والسجية الفاجرة على أن قال لمن استخفَّهم فأعطوه وعلى باطله تابعوه: انظروا كيف انحسر البحر لي لأدرك عبيدي الآبقين([5]) من يدي الخارجين عن طاعتي وبلدي. وجعل يوري في نفسه أن يذهب خلفهم ويرجو أن ينجو، وهيهات، ويقدم تارة ويحجم تارات.

 فذكروا أنَّ جبريل - عليه السلام - تبدَّى في صورة فارس راكب على رمكة([6]) حايل؛ فمرَّ بين يدي فحل فرعون - لعنه الله - فحمحم وأقبل عليها، وأسرع جبريل بين يديه فاقتحم البحرَ واستبق الجواد وقد أجاد فبادر مسرعا، هذا وفرعون لا يملك من نفسه ضرًّا ولا نفعاً؛ فلمَّا رأتْه الجنودُ قد سلك البحر اقتحموا وراءه مسرعين فحصلوا في البحر أجمعين أكتعين أبصعين حتى همَّ أوَّلُهم بالخروج منه، فعند ذلك أمر الله تعالى كليمه فيما أوحاه إليه أن يضرب البحر بعصاه فضربه، فارتفع عليهم البحر كما كان، فلم ينجُ منهم إنسان؛ قال الله: ﴿وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [الشعراء: آية 65]؛ أي في إنجائه أولياءه؛ فلم يغرق منهم أحد، وإغراقه أعداءه فلم يخلص منهم أحد.

 آية عظيمة وبرهان قاطع على قدرته تعالى العظيمة وصدق رسوله فيما جاء به عن ربِّه من الشَّريعة الكريمة والمناهج المستقيمة، وقال تعالى: ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾ [يونس: آية 90]؛ يخبرُ تعالى عن كيفية غرق فرعون زعيم الكفرة القبط، وأنه لما جعلت الأمواج تخفضه تارةً وترفعه أخرى وبنو إسرائيل يَنظرون إليه وإلى جنوده: ماذا أحلَّ اللهُ به وبهم من البأس العظيم والخطب الجسيم؛ ليكون أقر لأعين بني إسرائيل وأشفى لنفوسهم!

 فلما عاين فرعون الهلكةَ وأحيط به وباشر سكرات الموت أناب حينئذ وتاب وآمن حين لا ينفع نفساً إيمانُها؛ كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾ [يونس: آية 96]، وقال تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ﴾ [غافر: آية 84].

 وهكذا دعا موسى على فرعون وملئه أن يطمس([7]) على أموالهم ويَشْدُدَ على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذابَ الأليم؛ أي حين لا ينفعهم ذلك، ويكون حسرة عليهم، وقد قال تعالى لهما - أي لموسى وهارون - حين دعوا بهذا: ﴿قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا﴾ [يونس: 89]؛ فهذا من إجابة الله تعالى دعوةَ كليمه وأخيه هارون - عليهما السلام.

 ومن ذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدَّثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لما قال فرعون: ﴿آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ﴾ [يونس: 89]، قال: قال لي جبريل: لو رأيتني وقد أخذت من حال البحر فدسسته في فيه مخافةَ أن تنالَه الرَّحمة. ورواه الترمذيُّ وابن جرير وابن أبي حاتم عند هذه الآية من حديث حمَّاد بن سلمة. وقال التِّرْمذيُّ: حديث حسن.

وقال أبو داود الطَّيالسيّ: حدَّثنا شعبةُ عن عديِّ بن ثابت وعطاء بن السَّائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قال لي جبريل: لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسّه في فم فرعون مخافةَ أن ينالَه الرَّحمة». ورواه التِّرمذيُّ وابن جرير من حديث شعبة، وقال التِّرمذيُّ: حسن غريب صحيح. وأشار ابنُ جرير في رواية إلى وَقْفه، وقال ابنُ أبي حاتم: حدَّثنا أبو سعيد الأَشَجُّ، حدَّثنا أبو خالد الأحمر، عن عمر بن عبد الله بن يعلى الثَّقَفيّ عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما أغرق اللهُ فرعونَ أشار بإصبعه ورفع صوته: ﴿آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ﴾. قال: فخاف جبريل أن تسبقَ رحمة الله فيه غضبه فجعل يأخذ الحال بجناحيه فيضرب به وجهه فيرمسه، ورواه ابن جرير من حديث أبي خالد به، وقد رواه ابن جرير من طريق كثير بن زاذان وليس بمعروف، وعن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قال لي جبريل يا محمد لو رأيتني وأنا أغطه وأدس من الحال في فيه مخافة أن تدركه رحمة الله فيغفر له». يعني فرعون.

 وقد أرسله غيرُ واحد من السَّلَف؛ كإبراهيم التَّيميّ وقتادة وميمون بن مهران، ويقال أنَّ الضَّحَّاكَ بن قيس خطب به الناس، وفي بعض الرِّوايات: «إن جبريل قال: ما بغضت أحدا بغضي لفرعون حين قال أنا ربكم الأعلى ولقد جعلت أدس في فيه الطين حين قال ما قال».

 وقولُه تعالى: ﴿آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾: استفهامُ إنكار ونص على عدم قبوله تعالى منه ذلك؛ لأنَّه - والله أعلم - لو ردَّ إلى الدُّنيا كما كان لعاد إلى ما كان عليه كما أخبر – تعالى - عن الكفار إذا عاينوا النار وشاهدوها أنَّهم يقولون: ﴿يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنعام: 27]؛ قال الله تعالى: ﴿بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [الأنعام: 28]، وقوله: ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً﴾ [يونس: 92].

 قال ابنُ عبَّاس وغيرُ واحد: شَكَّ بعضُ بني إسرائيل في موت فرعون حتى قال بعضهم: إنه لا يموت. فأمر اللهُ البحرَ فرفعه على مرتفع – قيل: على وجه الماء، وقيل: على نجوة من الأرض - وعليه درعُه التي يعرفونها من ملابسه؛ ليتحقَّقوا بذلك هلاكَه ويعلموا قدرةَ الله عليه؛ ولهذا قال: ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ﴾؛ أي مصاحباً درعَك المعروفة بك؛ (لتكون) - أي أنت - آية (لمن خلفك)؛ أي من بني إسرائيل، دليلًا على قدرة الله الذي أهلكه. ولهذا قرأ بعض السَّلَف: لتكون لمن خلفك آية.

 ويُحْتَمَلُ أن يكون المرادُ: ننجِّيك مصاحباً لتكون درعك لمن خلفك آية. ويُحتمل أن يكون المرادُ: ننجيك مصاحباً لتكون درعُك علامةً لمن وراءك من بني إسرائيل على معرفتك وأنَّك هلكتَ. والله أعلم.

 وقد كان هلاكُه وجنودُه في يوم عاشوراء كما قال الإمام البخاريُّ في صحيحه: حدَّثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قدم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المدينة واليهود تصوم يوم عاشوراء، فقالوا: هذا يوم ظَهَرَ فيه موسى على فرعون. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنتم أحق بموسى منهم فصوموا». وأصلُ هذا الحديث في الصحيحين وغيرهما، والله أعلم.


 2- نهاية قارون

قال الله تعالى: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [القصص: آية 76].

قال الأعمش عن المنهال بن عمرو بن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان قارون ابنَ عمّ موسى، وكذا قال إبراهيم النَّخعيُّ وعبد الله بن الحرث بن نوفل، وسماك بك حرب، وقتادة، ومالك بن دينار، وابن جريج، وزاد فقال: هو قارون بن يصهر بن قاهث، وموسى بن عمران بن قاهث. قال ابنُ جريج: وهذا قولُ أكثر أهل العلم؛ أنَّه كان ابنَ عمِّ موسى، ورَدَّ قولَ ابن إسحاق؛ أنَّه كان عمَّ موسى، قال قتادة: وكان يسمَّى النور لحسن صوته بالتَّوراة، ولكنَّ عدوَّ الله نافق كما نافق السَّامريُّ فأهلكه البغي؛ لكثرة ماله.

 وقال شهر بن حوشب: زاد في ثيابه شبراً طولاً ترفُّعاً على قومه. وقد ذكر الله تعالى كثرة كنوزه حتى إنَّ مفاتيحه كان يثقل حملها على القيام من الرِّجال الشِّداد، وقد قيل: إنَّها كانت من الجلود، وإنها كانت تحمل على ستين بغلا. فالله أعلم.

 وقد وعظه النُّصَحاءُ من قَوْمه قائلين: لا تفرح. أي لا تبطر بما أُعطيت وتفخر على غيرك؛ ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ﴾. يقولون: لتكن همَّتُك مسروفةً لتحصيل ثواب الله في الدَّار الآخرة؛ فإنَّه خيرٌ وأبقى، ومع هذا: ﴿لَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾. أي: وتناول منها بمالك ما أحلَّ الله لك. فتمتع لنفسك بالملاذِّ الطَّيِّبة الحلال، ﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾: أي وأحسن إلى خَلْق الله كما أحسن اللهُ خالقُهم وبارئُهم إليك. ﴿وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ﴾: أي ولا تسئ إليهم ولا تفسد فيهم فتقابلهم ضدَّ ما أمرت فيهم فيعاقبك ويَسلبك ما وَهَبَك؛ ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾.

 فما كان جواب قومه لهذه النَّصيحة الصحيحة الفصيحة إلا أن ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾؛ يعني: أنا لا أحتاج إلى استعمال ما ذكرتم ولا إلى ما إليه أشرتم؛ فإنَّ اللهَ إنَّما أعطاني هذا لعلمه أنِّي أستحقه وأنِّي أهل له، ولولا أنِّي حبيبٌ إليه وحظي عنده لما أعطاني ما أعطاني.

 قال الله تعالى ردًّا على ما ذهب إليه: ﴿أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾: أي قد أهلكنا من الأمم الماضية بذنوبهم وخطاياهم مَنْ هو أَشَدُّ من قارون قوَّةً وأكثر أموالاً وأولاداً؛ فلو كان ما قال صحيحاً لم نعاقب أحداً ممَّن كان أكثر مالاً منه ولم يكن ماله دليلاً على محبَّتنا له واعتنائنا به؛ كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ [سبأ: 37]، وقال تعالى: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ﴾ [المؤمنون: 55].

 وهذا الرَّدُّ عليه يدلُّ على صحَّة ما ذهبنا إليه من معنى قوله: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾. وأمَّا مَن زَعَمَ أنَّ المرادَ من ذلك أنَّه كان يعرف صَنْعَةَ الكيمياء أو أنَّه كان يحفظ الاسم الأعظم فاستعمله في جمع الأموال فليس بصحيح؛ لأنَّ الكيمياء تخييلٌ وصبغةٌ لا تحيل الحقائق ولا تشابه صنعةَ الخالق، والاسم الأعظم لا يصعد الدُّعاء به من كافر به، وقارون كان كافراً في الباطن منافقاً في الظاهر.

 ثم لا يصحُّ جوابُه لهم بهذا على هذا التَّقدير، ولا يبقى بين الكلامين تلازُمٌ، وقد وضَّحنا هذا في كتابنا "التفسير" ولله الحمد؛ قال الله تعالى: ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ﴾: ذكر كثيرٌ من المفسِّرين أنَّه خرج في تجمُّل عظيم من ملابس ومراكب وخَدَم وحَشَم، فلما رآه مَن يُعَظِّم زهرةَ الحياة الدُّنيا تَمَنَّوا أن لو كانوا مثلَه وغبطوه بما عليه وله؛ فلمَّا سمع مقالتهم العلماء ذوو الفهم الصحيح الزُّهَّاد الألبَّاء قالوا لهم: ﴿وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾: أي ثواب الله في الدَّار الآخرة خير وأبقى وأجلّ وأعلى؛ قال الله تعالى: ﴿وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾: أي وما يلقَّى هذه النَّصيحة وهذه المقالة وهذه الهمَّة السَّامية إلى الدَّار الآخرة العليَّة عند النَّظَر إلى زهرة هذه الدُّنيا الدَّنيَّة إلا مَن هدى اللهُ قلبَه وثبَّتَ فؤادَه وأَيَّدَ لبَّه وحقَّقَ مرادَه، وما أحسن ما قال بعضُ السَّلَف: إنَّ اللهَ يحبُّ البصرَ النَّافذَ عندَ ورود الشُّبُهات، والعقل الكامل عند حلول الشَّهوات؛ قال الله تعالى: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ﴾.

 لمَّا ذَكَرَ تعالى خروجَه في زينته واختياله([8]) فيها وفخرَه على قومه بها قال: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ﴾. كما روى البخاريُّ من حديث الزُّهريِّ عن سالم عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بينا رجلٌ يَجُرُّ إزارَه إذ خُسف به فهو يَتَجَلْجَلُ في الأرض إلى يوم القيامة». ثم رواه البخاري من حديث جرير بن زيد عن سالم عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه.

 وقد ذَكَرَ ابنُ عبَّاس والسُّدِّيُّ أنَّ قارون أعطى امرأةً بغيًّا مالاً على أن تقولَ لموسى - عليه السلام - وهو في ملأ من الناس: إنك فعلت بي كذا وكذا. فيقال: إنها قالت له ذلك فأرعد من الفرق وصلى ركعتين، ثم أقبلَ عليها فاستحلفها من ذلك على ذلك وما حملك عليه؟ فذكرت أنَّ قارون هو الذي حَمَلَها على ذلك، واستغفرت وتابت إليه، فعند ذلك خرَّ موسى ساجداً ودعا الله على قارون، فأوحى اللهُ إليه: إنِّي قد أَمَرْتُ أن تطيعَك فيه. فأمر موسى الأرضَ أن تبتلعَه ودارَه فكان ذلك، فالله أعلم.

 وقد قيل: إنَّ قارون لما خرج على قومه في زينته مَرَّ بجحفله([9]) وبغاله وملابسه على مجلس موسى - عليه السلام - وهو يذكِّر قومَه بأيَّام الله، فلما رآه النَّاسُ انصرفت وجوهُ كثير من النَّاس ينظرون إليه، فدعا موسى - عليه السلام - فقال له: ما حملك على هذا؟ فقال: يا موسى، أما لئن كنتَ فضِّلتَ عليَّ بالنُّبوَّة فلقد فضلت عليك بالمال، ولئن شئتَ لتخرجن فلتدعون عليَّ ولأدعونَّ عليك. فخرج وخرج قارون في قومه فقال له موسى: تدعو أو أدعو؟ قال: أدعو أنا. فدعى قارون فلم يجب في موسى، فقال موسى: أدعو؟ قال: نعم. فقال موسى: اللهمَّ مر الأرضَ فلتطعن اليوم، فأوحى الله إليه: إني قد فعلت. فقال موسى: يا أرض خذيهم. فأخذتهم إلى أقدامهم، ثم قال: خذيهم. فأخذتهم إلى ركبهم، ثم إلى مناكبهم، ثم قال: أقبلي بكنوزهم وأموالهم. فأقبلت بها، حتى نظروا إليها.

 ثم أشار موسى بيده فقال: اذهبوا بني لاوي. فاستوت بهم الأرض. وقد روي عن قتادة أنَّه قال: يخسف بهم كلَّ يوم قامة إلى يوم القيامة، وعن ابن عبَّاس أنَّه قال: خُسف بهم إلى الأرض السابعة. وقد ذكر كثيرٌ من المفسِّرين ههنا إسرائيليَّات كثيرة أضربنا عنها صفحاً وتركناها قصداً.

 وقولُه تعالى: ﴿فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ﴾. لم يكن له ناصر من نفسه ولا من غيره؛ كما قال: ﴿فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ﴾. ولما حلَّ به ما حلَّ من الخسف وذهاب الأموال وخراب الدَّار وإهلاك النَّفس والأهل والعقار ندم مَن كان تَمَنَّى مثل ما أُوتي وشكروا الله تعالى الذي يدبِّر عبادَه بما يشاء من حُسْن التَّدْبير المخزون، ولهذا قالوا: ﴿لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾. وقد قال قتادة: "ويكأن" بمعنى ألم تر أن، وهذا قول حسن من حيث المعنى والله أعلم.

 ثم أخبر تعالى أنَّ ﴿الدَّارَ الْآَخِرَةَ﴾؛ وهي دارُ القرار، وهي الدَّار التي يغبط من أعطيها ويعزَّى مَنْ حُرمها؛ إنَّما هي مُعَدَّةٌ للذين لا يريدون عُلُوًّا في الأرض ولا فساداً؛ فالعُلُوُّ هو التَّكَبُّر والفخر، والأشر والبطر والفساد هو عمل المعاصي اللَّازمة والمتعدِّدة من أَخْذ أموال النَّاس وإفساد معايشهم والإساءة إليهم وعدم النُّصْح لهم، ثم قال تعالى: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾.

 وقصَّةُ قارون هذه قد تكون قبل خروجهم من مصر؛ لقوله: فخسفنا به وبداره الأرض. فإنَّ الدَّارَ ظاهرةٌ في البُنْيان، وقد تكون بعد ذلك في التيه وتكون الدَّارُ عبارةً عن المحلة التي تضرب فيها الخيام؛ كما قال عنترة:

يا دار عبلة بالجواء تكلمي

وعمي صباحا دار عبلة واسلمي([10])

والله أعلم.

 وقد ذكر الله تعالى مذمَّةَ قارون في غير ما آية من القرآن؛ قال الله: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾ [غافر: آية 34]، وقال تعالى في سورة العنكبوت بعد ذكر عاد وثمود وقارون وفرعون وهامان: ﴿وَلَقَدْ جَاءَتهمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ * فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾. [العنكبوت: آية 39]؛ فالذي خسف به الأرض قارونُ كما تقدَّم، والذي أغرق فرعون وهامان وجنودهما أنَّهم كانوا خاطئين.

 وقد قال الإمام أحمد: حدَّثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا سعيد، حدثنا كعب بن علقمة، عن عيسى بن هلال الصدفي، عن عبد الله بن عمرو، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر الصلاة يوماً فقال: «مَنْ حافظ عليها كانت نوراً وبرهاناً ونجاةً يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبيّ بن خلف». [انفرد به أحمد رحمه الله].


 (3) نهاية أمية بن خلف

قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عبَّاد بن عبد الله بن الزُّبير عن أبيه، وحدثنيه أيضاً عبد الله بن أبي بكر وغيرهما، عن عبد الرحمن بن عوف، قال: كان أميةُ بن خلف لي صديقاً بمكة، وكان اسمي عبد عمرو، فتسمَّيْتُ حين أسلمتُ عبد الرحمن، فكان يلقاني ونحن بمكة فيقول: يا عبد عمرو أرغبت عن اسم سمَّاكَه أبوك؟ قال: فأقول نعم! قال: فإني لا أعرف الرحمن، فاجعل بيني وبينك شيئاً أدعوك به؛ أما أنت فلا تجيبني باسمك الأول، وأما أنا فلا أدعوك بما لا أعرف. قال: وكان إذا دعاني يا عبد عمرو لم أجبه. قال: فقلت له: يا أبا علي، اجعل ما شئت. قال: فأنت عبد الإله. قال: قلت: نعم! قال: فكنت إذا مررت به قال: يا عبد الإله. فأجيبه فأتحدث معه، حتى إذا كان يوم بدر مررتُ به وهو واقفٌ مع ابنه عليّ وهو آخذٌ بيده، قال: ومعي أدراع لي قد استلبتها فأنا أحملها، فلما رآني قال: يا عبد عمرو. فلم أجبه، فقال: يا عبد الإله. فقلت: نعم! قال: هل لك فيّ؛ فأنا خير لك من هذه الأدراع التي معك؟ قال: قلت: نعم ها الله. قال: فطرحت الأدراع من يدي وأخذت بيده وبيد ابنه وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط، أما لكم حاجة في اللبن؟ ثم خرجت أمشي بهما.

 قال ابن إسحاق: حدثني عبد الواحد بن أبي عون عن سعد بن إبراهيم عن أبيه عن عبد الرحمن بن عوف، قال: قال لي أميَّةُ بن خلف وأنا بينه وبين ابنه آخذاً بأيديهما: يا عبد الإله من الرجل منكم المعلم بريشة نعامة في صدره؟ قال: قلت حمزة. قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل. قال عبد الرحمن: فوالله إني لأقودهما إذ رآه بلال معي– وكان هو الذي يعذب بلالا بمكة على الإسلام- فلما رآه قال: رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا. قال: قلت- أي بلال: أسيري. قال: لا نجوتَ إن نجا. قال: ثم صرخ بأعلى صوته: يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا. فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل المسكة([11]) فأنا أَذُبُّ عنه. قال: فأخلف رجل السيف فضرب رجل ابنه فوقع، وصاح أميَّة صيحة ما سمعت بمثلها قط. قال: قلت: انج بنفسك ولا نجاء، فوالله ما أغني عنك شيئا.

 قال: فهبروهما بأسيافهم حتى فرغوا منهما. قال: فكان عبد الرحمن يقول: يرحم الله بلالاً فجعني بأدراعي وبأسيري. وهكذا رواه البخاريُّ في صحيحه قريباً من هذا السِّياق فقال في الوكالة: حدَّثنا عبد العزيز– هو ابن عبد الله- حدَّثنا يوسف- هو ابن الماجشون- عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن جدِّه عبد الرحمن بن عوف قال: كاتبتُ أمية بن خلف كتاباً بأن يحفظني في صاغيتي([12]) بمكة وأحفظه في صاغيته بالمدينة، فلما ذكرت الرحمن قال: لا أعرف الرحمن، كاتبني باسمك الذي كان في الجاهلية. فكاتبتُه عبد عمرو، فلمَّا كان يوم بدر خرجتُ إلى جبل لأحرزه حين نام الناس، فأبصره بلال فخرج حتى وقف على مجلس من الأنصار فقال: أمية بن خلف؟ لا نجوت إن نجا أمية بن خلف. فخرج معه فريق من الأنصار في آثارنا فلما خشيت أن يلحقونا خلَّفْت لهم ابنَه لأشغلهم فقتلوه، ثم أتوا حتى تبعونا وكان رجلاً ثقيلاً، فلما أدركونا قلت له: ابرك. فبرك، فألقيتُ عليه نفسي لأمنعه فتخلَّلوه بالسُّيوف من تحتي حتى قتلوه، وأصاب أحدهم رجلي بسيفه، فكان عبد الرحمن بن عوف يرينا ذلك في ظهر قدمه. سمع يوسف صالحاً وإبراهيم أباه. تفرد به البخاري من بينهم كلهم، وفي مسند رفاعة بن رافع أنَّه هو الذي قتل أميةَ بن خلف.


 (4) نهاية أبي جهل

قال ابن هشام: وأقبل أبو جهل يوم بدر ويرتجز ويقول:

ما تنقم الحرب العوان([13]) مني

بازل عامين حديث سني

لمثل هذا ولدتني أمي

قال ابن إسحاق: ولما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عدوِّه أمر بأبي جهل أن يلتمس في القتلى، وكان أول من لقي أبا جهل كما حدثني ثور بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس، وعبد الله بن أبي بكر أيضاً قد حدَّثني ذلك؛ قالا: قال معاذ بن عمرو بن الجموح أخو بني سلمة: سمعت القوم وأبو جهل في مثل الحرجة([14]) وهم يقولون: أبو الحكم لا يخلص إليه، فلما سمعتها جعلته من شأني فصمدت نحوه، فلما أمكنني حملت عليه فضربته ضربة (أطنت) ([15]) قدمَه بنصف ساقه، فوالله ما شبهتها حين (طاحت)([16]) إلا بالنواة (تطيح) من تحت (مرضخة)([17]) النَّوَى حين يضرب بها، قال: وضربني ابنُه عكرمة على عاتقي فطرح يدي فتعلَّقتُ بجلدة من جنبي، وأجهضني القتال عنه؛ فلقد قاتلتُ عامَّة يومي، وإنِّي لأسحبها خلفي، فلما آذتني وضعت عليها قدمي ثم تمطيتُ بها عليها حتى طرحتُها.

 قال ابن إسحاق: ثم عاش بعد ذلك حتى كان زمن عثمان، ثم مرَّ بأبي جهل –وهو (عقير)([18])- معوذ بن عفران فضربه حتى أثبته، وتركه وبه رمق، وقاتل معوذ حتى قتل، فمرَّ عبدُ الله بن مسعود بأبي جهل حين أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يلتمس في القتلى وقد قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - فيما بلغني: «انظروا إن خفي عليكم في القتلى إلى أثر جرح في ركبته فإني ازدحمت أنا وهو يوما على مأدبة لعبد الله بن جدعان ونحن غلمان وكنت أشفَّ منه بيسير، فدفعته فوقع على ركبتيه (فحجش) ([19]) في أحدهما حجشا لم يزل أثره به». قال ابنُ مسعود: فوجدته بآخر رمق فعرفته. فوضعت رجلي على عنقه، قال وقد كان ضبث بي([20]) مرة بمكة فآذاني ولكزني، ثم قلت له: هل أخزاك الله يا عدوَّ الله؟ قال: وبماذا أخزاني؟ قال: أعمد من رجل قتلتموه، أخبرْني لمن الدائرة اليوم؟ قال: قلت: لله ولرسوله.

قال ابن إسحاق: وزعم رجال من بني مخزوم أنَّ ابنَ مسعود كان يقول: قال لي: لقد التقيتُ مرتقى صعباً يا رويعي الغنم. قال: ثم احتززتُ رأسَه ثم جئتُ به رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسولَ الله، هذا رأس عدوِّ الله. فقال: «آلله الذي لا إله غيره»؟ وكانت يمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -- فقلت: نعم! والله الذي لا إلهَ غيره. ثم ألقيتُ رأسَه بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فحمد الله. هكذا ذكر ابن إسحاق - رحمه الله.

 وقد ثبت في الصَّحيحين من طريق يوسف بن يعقوب بن الماجشون عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن عبد الرحمن بن عوف، قال: إني لواقف يوم بدر في الصَّفِّ فنظرتُ عن يميني وشمالي فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، فتمنَّيتُ أن أكون بين أظلع منهما، فغمزني أحدُهما فقال: يا عم، أتعرف أبا جهل؟ فقلت: نعم، وما حاجتك إليه؟ قال: أخبرت أنَّه يسبُّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، والذي نفسي بيده لئن رأيتُه لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا. فتعجبتُ لذلك فغمزني الآخر فقال لي أيضاً مثلَها. فلم أنشب أن نظرتُ إلى أبي جهل وهو يجول في الناس فقلت: ألا تريان! هذا صاحبُكم الذي تسألان عنه. فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فأخبراه فقال: «أيُّكما قتله»؟ قال كلٌّ منهما: أنا قتلتُه. قال: «هل مسحتما سيفيكما»؟ قالا: لا. فنظر النبي - صلى الله عليه وسلم - في السَّيفين فقال: «كلاهما قتله». وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، والآخر معاذ بن عفراء. وقال البخاريُّ: حدَّثنا يعقوب بن إبراهيم ثنا إبراهيم بن سعيد عن أبيه عن جده، قال: قال عبد الرحمن: إنِّي لفي الصَّفِّ يوم بدر إذ التفتُّ فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السِّنِّ فكأنِّي لم آمن بمكانهما إذ قال لي أحدهما سرًّا من صاحبه: يا عمّ أرني أبا جهل. فقلت: يا ابنَ أخي ما تصنع به؟ قال: عاهدتُ الله إن رأيتُه أن أقتله أو أموت دونه. وقال لي الآخر سرًّا من صاحبه مثله، قال: فما سَرَّني أنَّني بين رجلين مكانهما، فأشرتُ لهما إليه، فشدَّا عليه مثل الصَّقْرَيْن حتى ضرباه وهما ابنا عفراء.

 وفي الصَّحيحين أيضاً من حديث أبي سليمان التّيميّ عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ينظر ماذا صنع أبو جهل؟» قال ابن مسعود: أنا يا رسول الله. فانطلق فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد. قال: فأخذ بلحيته، قال: فقلت: أنت أبو جهل؟ فقال: وهو فوق رجل قتلتموه. أو قال: قتله قومه. وعند البخاريِّ عن أبي أسامة عن إسماعيل بن قيس عن ابن مسعود أنَّه أتى أبا جهل فقال: هل أخزاك الله؟ فقال: هل أعمد من رجل قتلتموه؟ وقال الأعمش: عن أبي إسحاق عن أبي عبيد عن عبد الله قال: انتهيت إلى أبي جهل وهو صريع وعليه بضة ومعه سيف جيد، ومعي سيف رديء فجعلت (أنقف)([21]) رأسَه بسيفي وأذكر نقفا كان ينقف رأسي بمكة حتى ضعفت يده([22] فأخذت سيفَه فرفع رأسَه فقال: على من كانت الدائرة لنا أو علينا؛ ألستَ رويعينا بمكَّةَ؟ قال: فقتلتُه، ثم أتيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقلت: قتلت أبا جهل. فقال: «آلله الذي لا إله إلا هو»؟ فاستحلفني ثلاث مرات ثم قام معي إليهم فدعا عليهم.

وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، ثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة: قال: قال عبد الله: انتهيت إلى أبي جهل يوم بدر وقد ضربت رجله وهو يَذُبُّ النَّاسَ عنه بسيف له، فقلت: الحمد لله الذي أخزاك الله يا عدوَّ الله. قال: هل هو إلا رجل قتله قومه؟! فجعلت أتناوله بسيف لي غير طائل، فأصبتُ يدَه فندر([23]) سيفه فأخذته فضربته حتى قتلتُه، قال: ثم خرجت حتى أتيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كأنَّما أقلَّ من الأرض([24]) فأخبرته فقال: «آلله الذي لا إله إلا هو؟» فردَّدها ثلاثا، قال: قلت: آلله الذي لا إله إلا هو. قال: فخرج يمشي معي حتى قام عليه فقال: «الحمد لله الذي قد أخزاك الله يا عدو الله هذا كان فرعون هذه الأمة». وفي رواية أخرى قال ابن مسعود: (فنفلني)([25]) سيفه.

 وقال أبو إسحاق الفزاري عن الثَّوريِّ عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن ابن مسعود قال: أتيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ بدر فقلتُ: قد قتلت أبا جهل. فقال: «آلله الذي لا إله إلا هو؟» فقلت: آلله الذي لا إله إلا هو. مرتين أو ثلاثا، قال: فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «الله أكبر الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده». ثم قال: «انطلق فأرنيه»، فانطلقت فأريته فقال: «هذا هو فرعون هذه الأمة». ورواه أبو داود والنسائيُّ من حديث أبي إسحاق السّبيعيّ به. وقال الواقديّ: وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مصرع ابني عفراء فقال: «رحم الله ابني عفراء فهما شركاء في قتل فرعون هذه الأمة ورأس أئمة الكفر». فقيل: يا رسول الله! ومن قتله معهما؟ قال: «الملائكة وابن مسعود قد شرك في قتله». [رواه البيهقي].

وقال البيهقي: أخبرنا الحاكم الأصم، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس بن بكير عن عنبسة بن الأزهر عن أبي إسحاق قال: لما جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البشير يوم بدر بقتل أبي جهل استحلفه ثلاثة أيمان بالله الذي لا إله إلا هو لقد رأيته قتيلا؟ فحلف له فخر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساجدا. ثم روى البيهقي من طريق أبي نعيم عن سلمة بن رجاء عن الشعثاء – امرأة من بني أسد - عن عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتين حين بشر بالفتح وحين جيء برأس أبي جهل.

 وقال ابن ماجة: حدثنا أبو بشر بكر بن خلف، حدثنا سلمة بن رجاء قال: حدثتني شعثاء عن عبدالله بن أبي أوفى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى يوم بشر برأس أبي جهل ركعتين.

وقال ابن أبي الدنيا حدثنا أبي حدثنا هشام أخبرنا مجالد عن الشعبي أن رجلا قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن مررت ببدر فرأيت رجلا يخرج من الأرض فيضربه رجل بمقمعة معه حتى يغيب في الأرض، ثم يخرج فيفعل به مثل ذلك مرارا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ذاك أبو جهل بن هشام يعذب إلى يوم القيامة». وقال الأموي في مغازيه: سمعت أبي ثنا المجالد بن سعيد عن عامر قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني رأيت رجلا جالسا في بدر ورجل يضرب رأسه بعمود من حديد حتى يغيب في الأرض! فقال رسول الله: «ذاك أبو جهل وكل به ملك يفعل به كلما خرج فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة».

 وقال البخاري: حدثنا عبيد بن إسماعيل، ثنا أبو أسامة عن هشام عن أبيه قال: قال الزبير: لقيت يوم بدر عبيدة بن سعيد بن العاص وهو مدجج لا يرى منه إلا عيناه، وهو يكنى أبا ذات الكرش، فقال: أنا أبو ذات الكرش، فحملت عليه (بعنـزة)([26]) فطعنته في عينه فمات. قال هشام: فأخبرت أن الزبير قال: لقد وضعت رجلي عليه ثم تمطيت فكان الجهد أن نزعتها، وقد انثنى طرفاها. قال عروة: فسأله إياها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاه إياها، فلما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذها ثم طلبها أبو بكر فأعطاه إياها، فلما قبض عمر أخذها ثم طلبها عثمان منه فأعطاه إياه، فلما قتل عثمان وقعت عند آل علي فطلبها عبد الله بن الزبير فكانت عنده حتى قتل. وقال ابن هشام: حدثني أبو عبيدة وغيره من أهل العلم بالمغازي أن عمر بن الخطاب قال لسعيد بن العاص –ومر به - إني أراك كأن نفسك شيئا أراك تظن أني قتلت أباك، إني لو قتلته لم أعتذر إليك من قتله، ولكني قتلت خالي العاص بن هشام بن المغيرة، فأما أبوك فإني مررت به، وهو يبحث بحث الثَّور بروقه فحدت عنه، وقصد له ابن عمه عليّ فقتله.


 (5) نهاية النضر بن الحار وعقبة بن أبي معيط

قال ابن إسحاق: حتى إذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصفراء قتل النضر بن الحارث قتله علي بن أبي طالب كما أخبرني بعض أهل العلم من أهل مكة، ثم خرج حتى إذا كان بعرق الظَّبية قتل عقبة بن أبي معيط. قال ابن إسحاق: فقال عقبة حين أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتله: فمن للصبية يا محمد؟ قال: «النار». وكان الذي قتله عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح أخو بني عمرو بن عوف كما حدَّثني أبو عبيدة بن محمد بن ياسر. وكذا قال موسى بن عقبة في مغازيه، وزعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقتل من الأسارى أسيرا غيره. قال: ولما أقبل إليه عاصم بن ثابت قال: يا معشر قريش، علام أقتل من بين مَن ههنا؟ قال: على عداوتك الله ورسوله. وقال حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب عن الشعبي قال: لما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتل عقبة قال: أتقتلني يا محمد من بين قريش؟ قال: «نعم! أتدرون ما صنع هذا بي؟ جاء وأنا ساجد خلف المقام فوضع رجله على عنقي وغمها فما رفعها حتى ظننت أن عيني ستندران، وجاء مرة أخرى بسلا شاة فألقاه على رأسي وأنا ساجد فجاءت فاطمة فغسلته عن رأسي». قال ابن هشام: "ويقال: بل قتل عقبة علي بن أبي طالب فيما ذكره الزهري وغيره من أهل العلم".

قلت: كان هذان الرجلان من شرِّ عباد الله وأكثرهم كفرا وعنادا وبغيا وحسدا وهجاءً للإسلام وأهله لعنهما الله وقد فعل. قال ابن هشام: فقالت قتيلة بنت الحارث أخت النضر بن الحارث في مقتل أخيها:

يا راكباً إن الأثيل مظنة

من صبح خامسة وأنت موفق

أبلغ بها ميتا بأن تحية

ما إن تزال بها النجائب تخفق

مني إليك وعبرة مسفوحة

جادت بوابلها وأخرى تخنق

هل يسمعن النضر إن ناديته

أم كيف يسمع ميت لا ينطق

أمحمد يا خير ضيء كريمة

من قومها والفحل فحل معرق

ما كان ضرك لو مننت وربما

من الفتى وهو المغيظ المحنق

أو كنت قابل فدية فلينفقن

بأعز ما يغلو به ما ينفق

والنضر أقرب من أسرت قرابة

وأحقهم إن كان عتق يعتق

ظلت سيوف بني أبيه (تنوشه)([27])

لله أرحام هنالك تشقق

صبرا يقاد إلى المنية متعبا

(رسف)([28]) المقيد وهو (عان)([29]) موثق

قال ابن هشام: ويقال - والله أعلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بلغه هذا الشعر قال: «لو بلغني هذا قبل قتله لمننت عليه».


 (6) نهاية كعب بن الأشرف

وكان من بني طيء ثم أحد بني نبهان؛ ولكن أمَّه من بني النَّضير. هكذا ذكره ابن إسحاق قبل جلاء بني النضير، وذكره البخاريُّ والبيهقيُّ بعد قصة بني النَّضير، والصَّحيح ما ذكره ابن إسحاق فيما يأتي؛ فإنَّ بني النَّضير إنَّما كان أمرُها بعد وقعة أحد، وفي محاصرتهم حرمت الخمر.

 قال البخاريُّ في صحيحه: "قَتْل كعب بن الأشرف": حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان قال عمرو: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله؟» فقال: محمد بن مسلمة. فقال: يا رسول الله أتحب أن أقتله؟ قال: «نعم». قال: فَأْذَنْ لي أن أقول شيئاً. قال: قل. فأتاه محمد بن مسلمة فقال: إن هذا الرجل قد سَأَلَنا صدقة، وإنَّه قد عنَّانا، وإنِّي قد أتيتُك أستسلفك. قال: وأيضا والله لتملنه. قال: إنا قد اتبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء بصير شأنه، وقد أردنا أن تسلفنا. قال: نعم ارهنوني. قلت: أيُّ شيء تريد؟ قال: ارهنوني نساءكم. فقالوا: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟ قال: فارهنوني أبناءكم. فقالوا: كيف نرهنك أبناءنا فيسب أحدهم فيقال رهن (بوسق)([30]) أو وسقين! هذا عار علينا؛ ولكن نرهنك اللأمة. قال سفيان: يعني السلاح. فواعده أن يأتيه ليلا فجاءه ليلا ومعه أبو نائلة وهو أخو كعب من الرضاعة؛ فدعاهم إلى الحصن، فنـزل إليهم، فقالت له امرأته: أين تخرج هذه الساعة؟ وقال غير عمرو: "قالت: أسمع صوتا كأنه يقطر منه الدم". قال: إنما هو أخي محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة: إن الكريم لو دعي إلى طعنه بليل لأجاب. قال: ويدخل محمد بن مسلمة معه رجلان فقال: إذا ما جاء فإني مائل بشعره فأشمه فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه. وقال: مرة: ثم أشمكم. فنـزل إليهم متوشِّحاً وهو ينفخ منه ريح الطِّيب، فقال: ما رأيت كاليوم ريحا أطيب. وقال غير عمرو: "قال: عندي أعطر نساء العرب وأجمل العرب". قال عمرو: فقال: أتأذن لي أن أشمَّ رأسك؟ قال: نعم. فشمَّه ثم أشم أصحابه، ثم قال: أتأذن لي؟ قال: نعم. فلما استمكن منه قال: دونكم. فقتلوه، ثم أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبروه.

 وقال محمد بن إسحاق: كان من حديث كعب بن الأشرف وكان رجلا من طيء ثم أحد بني نبهان وأمه من بني النضير أنه لما بلغه الخبر عن مقتل أهل بدر حين قدم زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة قال: والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها. فلما تيقن عدو الله الخبر خرج إلى مكة فنـزل على المطلب بن أبي وداعة بن صبيرة السهمي وعنده عاتكة بنت أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف فأنـزلته وأكرمته وجعل يحرض على قتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وينشد الأشعار ويندب من قتل من المشركين يوم بدر.

 فذكر ابن إسحاق قصيدتَه التي أوَّلُها:

طحنت رحى بدر لمهلك أهله

ولمثل بدر تستهل وتدمع

وذكر جوابها من حسان بن ثابت – رضي الله عنه - ومن غيره، ثم عاد إلى المدينة فجعل يشبب بنساء المسلمين ويهجو النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.

 وقال موسى بن عقبة: وكان كعب بن الأشرف أحد بني النضير أو فيهم؛ آذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالهجاء وركب إلى قريش فاستغواهم، وقال له أبو سفيان وهو بمكة: أناشدك، أدينا أحب إلى الله أم دين محمد وأصحابه! وأيُّنا أهدى في رأيك وأقرب إلى الحق؛ إنا نطعم الجزور الكوماء، ونسقي اللبن على الماء، ونطعم ما هبت الشمال. فقال له كعب بن الأشرف: أنتم أهدى منهم سبيلا. قال: فأنـزل الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم -: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾ [النساء: 51-52]، وما بعدها.

قال موسى ومحمد بن إسحاق: وقدم للمدينة يعلن بالعداوة ويحرض الناس على الحرب ولم يخرج من مكة، حتى أجمع أمرهم على قتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعل يشبِّب بأم الفضل بنت الحارث وبغيرها من نساء المسلمين. قال ابن إسحاق: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما حدثني عبد الله بن المغيث بن أبي بردة: «من لابن الأشرف؟» فقال له محمد بن مسلمة أخو بني عبد الأشهل: أنا لك به يا رسول الله أنا أقتله. قال: «فافعل إن قدرت على ذلك»، قال: فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلاثا لا يأكل ولا يشرب إلا ما يعلق نفسه، فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعاه فقال له: «لم تركت الطعام والشراب؟» فقال: يا رسول الله قلت لك قولا لا أدري هل أفي لك به أم لا. قال: «إنما عليك الجهد». قال: يا رسول الله، إنه لابد لنا أن نقول، قال: «فقولوا ما بدا لكم فأنتم في حل من ذلك». قال: فاجتمع في قتله محمد بن مسلمة وسلكان بن سلامة بن وقش وهو أبو نائلة أحد بني عبد الأشهل، وكان أخا كعب بن الأشرف من الرضاعة، وعباد بن بشر بن وقش أحد بني عبد الأشهل والحارث بن أوس بن معاذ أحد بني عبد الأشهل، وأبو عبس بن جبر أخو بني حارثة، قال: فقدموا بين أيديهم إلى عدو الله كعب سلكان بن سلامة أبا نائلة، فجاءه فتحدَّث معه ساعة فتناشدا شعرا– وكان أبو نائلة يقول الشعر- ثم قال: ويحك يا ابن الأشرف إني قد جئتك لحاجة أريد ذكرها لك فاكتم عني، قال أفعل.

 قال: كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء، عادتنا العرب ورمتنا عن قوس واحدة، وقطعت عنا السبيل حتى ضاع العيال وجهدت الأنفس وأصبحنا قد جهدنا وجهد عيالنا. فقال كعب: أنا ابن الأشرف، أما والله لقد كنت أخبرك يا ابن سلامة أن الأمر يصير إلى ما أقول. فقال له سلكان: إني قد أردت أن تبيعنا طعاما ونرهنك ونوثق لك تحسن في ذلك؟ قال: ترهنوني أبناءكم؟ قال: لقد أردت أن تفضحنا، إن معي أصحابا لي على مثل رأي وقد أردت أن آتيك بهم فتبيعهم وتحسن في ذلك ونرهنك من الحلقة ما فيه وفاء، وأراد سلكان أن لا ينكر السلاح إذا جاؤوا بها. فقال: إن في الحلقة لوفاء. قال: فرجع سلكان إلى أصحابه فأخبرهم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن إسحاق: فحدثني ثور بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس قال: مشى معهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بقيع الغرقد ثم وجههم وقال: «انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم».

 ثم رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بيته وهو في ليلة مقمرة، فانطلقوا حتى انتهوا إلى حصنه، فهتف به أبو نائلة وكان حديث عهد بعرس فوثب في ملحفته، فأخذت امرأته بناحيتها وقالت: أنت امرؤ محارب وإن أصحاب الحرب لا ينـزلون في هذه الساعة، قال: إنه أبو نائلة لو وجدني نائما ما أيقظني. فقالت: والله إني لأعرف في صوته الشر. قال: يقول لها كعب: لو دعي الفتى لطعنه أجاب. فنـزل فتحدث معهم ساعة وتحدثوا معه ثم قالوا: هل لك يا ابن الأشرف أن نتماشى إلى شعب العجوز فتحدث به بقية ليلتنا هذه؟ قال: إن شئتم. فخرجوا فمشوا ساعة، ثم إنَّ أبا نائلة شام يده في فود رأسه ثم شم يده فقال: ما رأيتُ كالليلة طيباً أعطر قط. ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها حتى اطمأن، ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها، فأخذ بفودي رأسه ثم قال: اضربوا عدوَّ الله! فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئا. قال محمد بن مسلمة فذكرت مغولا([31]) في سيفي فأخذته وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصن إلا أوقدت عليه نار، قال: فوضعته في ثُنته ثم تحاملتُ عليه حتى بلغت عانته فوقع عدو الله، وقد أصيب الحارث بن أوس بجرح في رجله أو في رأسه؛ أصابه بعض سيوفنا. قال: فخرجنا حتى سلكنا على بني أمية بن زيد ثم على بني قريظة ثم على بعاث حتى أسندنا في حرة العريض وقد أبطأ علينا صاحبنا الحارث بن أوس ونزفه الدم، فوقفنا له ساعة ثم أتانا يتبع آثارنا فاحتملناه، فجئنا به رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - آخرَ اللَّيل وهو قائم يصلي، فسلَّمنا عليه، فخرج إلينا فأخبرناه بقتل عدو الله وتفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جرح صاحبنا، ورجعنا إلى أهلنا، فأصبحنا وقد خافت يهود بوقعتنا بعدوِّ الله، فليس بها يهوديٌّ إلا وهو خائف على نفسه.

 قال ابنُ جرير: وزعم الواقديُّ أنَّهم جاؤوا برأس كعب بن الأشرف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن إسحاق: وفي ذلك يقول كعب بن مالك:

فغودر منهم كعب صريعا

فذلت بعد مصرعه النضير

على الكفين ثم وقد علته

بأيدينا مشهرة ذكور

بأمر محمد إذ دس ليلا

إلى كعب أخا كعب يسير

فماكره فأنـزله بمكر

ومحمود أخ ثقة جسور


 (7) نهاية أبي رافع اليهوديّ

قال ابن إسحاق: ولما انقضى شأنُ الخندق وأمرُ بني قريظة، وكان سلام بن أبي الحقيق – وهو أبو رافع - فيمن حزب الأحزاب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت الأوس قبل أُحد قد قالت كعب بن الأشرف، فاستأذن الخزرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتل سلام بن أبي الحقيق وهو بخيبر فأذن لهم. قال ابن إسحاق: فحدَّثني محمد بن مسلم الزُّهريُّ عن عبد الله بن كعب بن مالك قال: وكان مما صنع الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أن هذين الحيَّيْن من الأنصار الأوس والخزرج كانا يتصاولان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تصاول الفحلين لا تصنع الأوس شيئا فيه غناء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا وقالت الخزرج: والله لا يذهبون بهذه فضلاً علينا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها وإذا فعلت الخزرج شيئا قالت الأوس مثل ذلك.

 قال: ولما أصابت الأوسُ كعبَ بن الأشرف في عداوته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت الخزرج: والله لا يذهبون بها فضلاً علينا أبداً. قال: فتذاكروا من رجل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العداوة كابن الأشرف فذكروا ابن أبي الحقيق وهو بخيبر، فاستأذنوا الرسول صلى الله عليه وسلم في قتله فأذن لهم، فخرج من الخزرج من بني سلمة خمسة نفر: عبد الله بن عتيك، ومسعود بن سنان، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة الحارث بن ربعي، وخزاعي بن أسود - حليف لهم من أسلم ، فخرجوا، وأَمَّرَ عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن عتيك، ونهاهم أن يقتلوا وليداً أو امرأةً، فخرجوا حتى إذا قدموا خيبر أتوا دار ابن أبي الحقيق ليلاً، فلم يدعوا بيتاً في الدَّار حتى أغلقوه على أهله، قال: وكان في علية له إليها عجلة، قال: فأسندوا إليها حتى قاموا على بابه فاستأذنوا، فخرجت إليهم امرأته، فقالت: من أنتم؟ قالوا: أناس من العرب نلتمس الميرة. قالت: ذاكم صاحبكم فادخلوا عليه.

 فلما دخلنا أغلقنا علينا وعليه الحجرة؛ تَخَوُّفاً أن يكون دونه مجاولة تحول بيننا وبينه، قال: فصاحت امرأتُه فنوَّهت بنا فابتدرناه وهو على فراشه بأسيافنا، فوالله ما يدلُّنا عليه في سواد الليل إلا بياضه كأنه قبطيةٌ ملقاة. قال: فلما صاحت بنا امرأتُه جعل الرجل يرفع عليها سيفَه ثم يذكر نهيَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيكفّ يده؟! ولولا ذلك لفرغنا منها بليل. قال: فلما ضربناه بأسيافنا تحامل عليه عبد الله بن أُنيس بسيفه في بطنه حتى أنفذه وهو يقول: قطني قطني. أي: حسبي حسبي. قال: وخرجنا وكان عبد الله بن عتيك سيئ البصر، قال: فوقع من الدرجة فوثبت يده وثبا شديدا وحملناه حتى نأتي به منهرا([32]) من عيونهم فندخل فيه، فأوقدوا النيران واشتدوا في كل وجه يطلبوننا حتى إذا يئسوا رجعوا إليه فاكتنفوه وهو يقضي.

 قال: "فقلنا: كيف لنا بأن نعلم بأن عدو الله قد مات؟" قال: فقال رجل منا: أنا أذهب فأنظر لكم. فانطلق حتى دخل في الناس قال: فوجدتها – يعني امرأته - ورجال يهود حوله، وفي يدها المصباح تنظر في وجهه وتحدِّثهم وتقول: أما والله قد سمعت صوتَ ابن عتيك ثم أكذبت نفسي وقلت: أنَّى ابن عتيك بهذه البلاد. ثم أَقْبَلَتْ عليه تنظر في وجهه فقالت: فاظ وإله يهود. فما سمعت كلمة كانت ألذَّ على نفسي منها. قال: ثم جاءنا فأخبرنا فاحتملنا صاحبنا وقدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرناه بقتل عدوِّ الله، واختلفنا عنده في قتله كلُّنا يدَّعيه، قال: "فقال: هاتوا أسيافكم". فجئنا بها فنظر إليها فقال لسيف عبد الله بن أنس: هذا قتله، أرى فيه أثر الطعام. قال ابن إسحاق: فقال حسان بن ثابت في ذلك:

لله در عصابة لاقيتهم

يا ابن الحقيق وأنت يا ابن الأشرف

يسرون بالبيض الخفاف إليكم

مرحا كأسد في عرين مغرف

حتى أتوكم في محل بلادكم

فسقوكم حتفاً ببيض ذُفَّف([33])

مستبصرين لنصر دين نبيهم

مستصغرين لكل أمر مجحف

هكذا أورد هذه القصة الإمام محمد بن إسحاق رحمه الله، وقد قال الإمام أبو عبد الله البخاري: حدثنا إسحاق بن نصر، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن أبي زائدة عن أبيه عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - رهطا إلى أبي رافع فدخل عليه عبد الله بن عتيك بيته ليلا وهو نائم فقتله. قال البخاريُّ: حدَّثنا يوسف بن موسى، حدثنا عبد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي رافع اليهوديِّ رجالاً من الأنصار، وأَمَّرَ عليهم عبدَ الله بن عتيك، وكان أبو رافع يؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعين عليه، وكان في حصن له بأرض الحجاز، فلما دنوا منه وقد غربت الشمس وراح الناس بسرحهم قال عبد الله: اجلسوا مكانكم؛ فإني منطلق متلطف للبواب؛ لعلي أن أدخل، فأقبل. حتى دنا من الباب ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجته وقد دخل الناس، فهتف به البواب: يا عبد الله، إن كنت تريد أن تدخل فادخل؛ فإني أريد أن أغلق الباب. فدخلت فكمنت، فلمَّا دخل الناس أغلق الباب ثم علَّق الأغاليق عليّ وَدّ؛ قال: فقمت إلى الأقاليد وأخذتُها وفتحت الباب، وكان أبو رافع يسمر عنده، وكان في علالي له؛ فلما ذهب عنه أهل سمره صعدتُ إليه فجعلت كلما فتحت بابا أغلقت عليَّ من داخل فقلت: إنَّ القومَ سدروا لي لم يخلصوا إليَّ حتى أقتله. فانتهيتُ إليه فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله لا أدري أين هو من البيت، قلت: أبا رافع. قال: من هذا؟ فأهويت نحو الصَّوت فأضربه بالسيف ضربة وأنا دهش، فما أغنيت شيئا وصاح، فخرجت من البيت، فأمكث غير بعيد ثم دخلتُ إليه فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ فقال: لأمِّك الويل؛ إنَّ رجلاً في البيت قتل بالسيف.

 قال: فأضربته ضربة أثخنته ولم أقتله ثم وضعت صبيب السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره فعرفت أني قتلتُه فجعلتُ أفتح الأبوابَ باباً باباً حتى انتهيتُ إلى درجة له فوضعتُ رجلي وأنا أرى أنِّي قد انتهيتُ، فوقعتُ في ليلة مقمرة فانكسرت ساقي فعصبتها بعمامة حتى انطلقت حتى جلست على الباب فقلت: لا أخرج الليلة حتى أعلم أَقَتَلْتُه، فلمَّا صاح الديك قام الناعي على السور فقال: أنعي أبا رافع ناصر أهل الحجاز، فانطلقتُ إلى أصحابي فقلت: النَّجاء؛ فقد قتل الله أبا رافع، فانتهيتُ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فحدثتُه فقال: «ابسط رجلك»، فبسطتُ رجلي فمسحها، فكأنما لم أشتكها قط.

 قال البخاريُّ: حدَّثنا أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي، حدثنا شريح، حدثنا إبراهيم بن يوسف، عن أبيه، عن أبي إسحاق، سمعت البراء قال: بعث رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي رافع عبدَ الله بن عتيك وعبدَ الله بن عتبة في ناس معهم، فانطلقوا حتى دنوا من الحصن فقال لهم عبد الله بن عتيك: امكثوا أنتم حتى أنطلق أنا فأنظر. قال: فتلطفت حتى أدخل الحصن، ففقدوا حماراً لهم، فخرجوا (بقبس)([34]) يطلبونه، قال: فخشيتُ أن أعرف. قال: فغطيتُ رأسي وجلستُ كأنِّي أقضي حاجة، فقال: من أراد أن يدخل فليدخل قبل أن أغلقه. فدخلت ثم اختبأت في مربط حمار عند باب الحصن فتعشوا عند أبي رافع وتحدَّثوا حتى ذهب ساعة من الليل ثم رجعوا إلى بيوتهم، فلما هدأت الأصوات وأنا لا أسمع حركة خرجت.

 قال: ورأيت صاحب الباب حيث وضع مفتاح الحصن في كوة فأخذته ففتحت به باب الحصن، قال: قلت: إن نذر بي القوم انطلقت على مهل ثم عمدت إلى أبواب فغلقتها عليهم من ظاهر ثم صعدت إلى أبي رافع في سلم فإذا البيت مظلم قد طفئ سراجُه، فلم أدر أي الرجل، فقلت: يا أبا رافع. قال: مَنْ هذا؟ فعمدتُ نحو الصوت فأضربه، وصاح فلم تغن شيئا، قال: ثم جئتُه كأنِّي أغيثه فقلت: مالك يا أبا رافع؟ وغيَّرْتُ صوتي. قال: لا أعجبك لأمك الويل دخل عليَّ رجل فضربني بالسيف. قال: فعمدتُ إليه أيضاً فأضربه أخرى فلم تغن شيئاً فصاح وقام أهله، ثم جئت وغيَّرت صوتي كهيئة المغيث، فإذا هو مستلق على ظهره، فأضع السيف في بطنه ثم أنكفئ عليه، حتى سمعتُ صوت العظم، ثم خرجت دهشا حتى أتيتُ السُّلَّمَ أريد أن أنزل فأسقط منه، فانخلعت رجلي فعصبتها، ثم أتيتُ أصحابي أحجل فقلت: انطلقوا فبشِّروا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنِّي لا أبرح حتى أسمع النَّاعية، فلما كان في وجه الصُّبح صعد النَّاعية فقال: أنعي أبا رافع. قال: فقمت أمشي ما بي قلبه، فأدركتُ أصحابي قبل أن يأتوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فبشَّرتُه. تفرَّد به البخاريُّ بهذه السِّياقات من بين أصحاب الكتب السِّتَّة، ثم قال: قال الزّهريّ: قال أبيّ بن كعب: فقدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر فقال: «أفلحت الوجوه». قال: أفلح وجهُك يا رسول الله. قال: «أفتكتموه؟» قالوا: نعم. قال: «ناولني السيف». فسلَّه فقال: «أجل؛ هذا طعامه في ذباب السيف». قلت: "يحتمل أن عبد الله بن عتيك لما سقط من تلك الدَّرجة انفكَّت قدمُه وانكسرت ساقه ووثبت رجلُه، فلما عَصَّبها استكنَّ ما به لما هو فيه من الأمر الباهر، ولما أراد المشي أعين على ذلك لما هو فيه من الجهاد النافع، ثم لما وصل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستقرت نفسه ثاوره([35]) الوجع في رجله، فلما بسط ومسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذهب ما كان بها بأس في الماضي، ولم يبق بها وجع يُتَوقَّع حصولُه في المستقبل؛ جمعاً بين هذه الرِّواية والتي تقدَّمت، والله أعلم.

 هذا وقد ذكر موسى بن عقبة في مغازيه مثل سياق محمد بن إسحاق وسمى الجماعة الذين ذهبوا إليه كما ذكره ابن إسحاق وإبراهيم وأبو عبيد.


 (8) نهاية خالد بن سفيان الهذليّ

ذكر الحافظ البيهقيُّ في الدَّلائل تلو مقتل أبي رافع، قال الإمام أحمد: حدَّثنا يعقوب، حدَّثنا أبي عن ابن إسحاق، حدثني محمد بن جعفر بن الزُّبير، عن ابن عبد الله بن أنيس عن أبيه قال: دعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنه قد بلغني أن خالد بن سفيان بن نبيح الهذليّ يجمع لي الناس ليغزوني وهو بعرنة فائته فاقتله. قال: قلت: يا رسول الله، انعتْه لي حتى أعرفه. قال: إذا رأيته وجدت له قشعريرة. قال: فخرجت متوشِّحاً سيفي حتى وقعتُ عليه وهو بعرنة من ظعن يرتاد لهن منـزلاً، وحين كان وقت العصر، فلما رأيته وجدتُ ما وصف لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من القشعريرة فأقبلت نحوه وخشيت أن يكون بيني وبينه نجاولة تشغلني عن الصلاة، فصليت وأنا أمشي نحوه أومئ برأسي للركوع والسجود، فلما انتهيتُ إليه قال: من الرجل؟ قلت: رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل فجاءك لذلك. قال: أجل أنا في ذلك. قال: فمشيت معه شيئا حتى إذا أمكنني حملت عليه السيف حتى قتلته ثم خرجت وتركت ظعائنه([36]) مكبَّات عليه، فلمَّا قدمتُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرآني قال: «أفلح الوجه». قال: قلت: قتلتُه يا رسول الله. قال: «صدقت». قال: ثم قام معي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل في بيته فأعطاني عصا فقال: «أمسك هذه عندك يا عبد الله بن أنيس». قال: فخرجت بها على الناس فقالوا: ما هذه العصا؟ قال: قلت: أعطانيها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأمرني أن أمسكها. قالوا: أولا ترجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتسأله عن ذلك. قال: فرجعتُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسولَ الله، لم أعطيتني هذه العصا؟ قال: «آية بيني وبينك يوم القيامة أن أقل الناس المنحصرون يومئذ». قال: فقرنها عبد الله بسيفه فلم تزل معه حتى إذا مات أمر بها فضمت في كفنه ثم دفنا جميعا.

 ثم رواه الإمام أحمد عن يحيى بن آدم عن عبد الله عن عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن بعض ولد عبد الله بن أنيس– أو قال عن عبد الله بن عبد الله بن أنيس- عن عبد الله بن أنيس فذكر نحوه. وهكذا رواه أبو داود عن أبي معمر عن عبد الوارث عن محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر عن عبد الله بن أنيس عن أبيه فذكر نحوه، ورواه الحافظ البيهقيُّ من طريق محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبد الله بن عبد الله بن أنيس عن أبيه فذكره. وقد ذكر قصة عروة بن الزبير وموسى بن عقبة في مغازيهما مرسلة فالله أعلم.

 قال ابن هشام: وقال عبد الله بن أنيس في قتله خالد بن سفيان:

تركت ابن ثور كالحوار وحوله

نوائح تفري كل جيب معدد

تناولته والظعن خلفي وخلفه

بأبيض من ماء الحديد المهند

أقول له والسيف يعجم رأسه

أنا ابن أنيس فارس غير قعدد

أنا ابن الذي لم ينـزل الدهر قدره

رحيب قناء الدار غير مزند

وقلت له خذها بضربة ماجد

خفيف على دين النبي محمد

وكنت إذا هم النبي بكافر

سبقت إليه باللسان وباليد

قلت: عبد الله بن أنيس بن حرام أبو يحيى الجهني صحابيٌّ مشهور كبير القدر، كان فيمن شهد العقبة وشهد أحداً والخندق وما بعد ذلك، وتأخَّر موتُه بالشام إلى سنة ثمانين على المشهور. وقيل: توفِّي سنة أربع وخمسين، والله أعلم. وقد فَرَّقَ عليُّ بن الزبير وخليفة بن خيَّاط بينه وبين عبد الله بن أنيس أبي عيسى الأنصاري الذي روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه دعا يوم أحد بإداوة فيها ماء فحل فمها وشرب منها كما رواه أبو داود والترمذيُّ من طريق عبد الله العمري عن عيسى بن عبد الله بن أنيس عن أبيه، ثم قال الترمذيُّ: وليس إسناده يصحُّ وعبد الله العمري ضعيف من قبل حفظه.


 (9) نهاية الأسود العنسي، المتنبيء الكذاب

قال أبو جعفر بن جرير: حدَّثني عمرو بن شيبة النُّميريّ، ثنا علي بن محمد –يعني المدائني - عن أبي معشر ويزيد بن عياض عن جعد...، وغسّان بن عبد الحميد وجويرية بنت أسماء عن مشيختهم قالوا: أمضى أبو بكر جيشَ أسامة بن زيد في آخر ربيع الأول سنة 11هـ، وأتى مقتل الأسود في آخر ربيع الأول بعد مخرج أسامة، فكان ذلك أول فتح فتحه أبو بكر وهو بالمدينة.

صفة خروجه وتمليكه ومقتله:

كانت اليمن لحمير، وكانت ملوكُهم يُسَمُّون التبابعة، وكان ملك الحبشة قد بعث أميرين من قُوَّاده؛ وهما أبرهة الأشرم وأرياط، فتملَّكا له اليمن من حمير، وصار مُلْكُها للحبشة، ثم اختلف هذان الأميران، فقتل أرياط واستقل أبرهة بالنِّيابة، وبنى كنيسة سماها العانس؛ لارتفاعها، وأراد أن يصرف حجَّ العرب إليها دون الكعبة، فجاء بعض قريش فأحدث في هذه الكنيسة، فلما بلغه ذلك حَلَفَ ليخربن بيت مكة، فسار إليه ومعه الجنود والفيل محمود، فكان من أمرهم ما قَصَّ الله في كتابه، فرجع أبرهة ببعض من بقي من جيشه في أسوأ حال وشرِّ خيبة، وما زال تسقط أعضاؤه أنملة أنملة، فلما وصل إلى صنعاء انصدع صدرُه فمات، فقام بالملك بعده ولده بلسيوم بن أبرهة ثم أخوه مسروق بن أبرهة، فيقال: إنه استمر ملك اليمن بأيدي الحبشة سبعين سنة، ثم ثار سيف بن ذي يزن الحميريّ، فذهب إلى قيصر ملك الرُّوم يَسْتَنْصره عليهم، فأبى ذلك عليه؛ لما بينه وبينهم من الاجتماع في دين النصرانية، فسار إلى كسرى ملك الفرس فاستغاث به، وكان له معه مواقف ومقامات.

 ثم اتَّفق الحال على أن بعث معه ممَّن بالسجون طائفة تقدَّمهم رجل منهم يقال له: وهرز، فاستفذَّ ملك اليمن من الحبشة، وكسر مسروق بن أبرهة وقتله، ودخلوا إلى صنعاء وقرَّروا سيف بن ذي يزن في الملك على عادة آبائه، وجاءت العرب تهنئه من كل جانب؛ غير أنَّ لكسرى نوايا على البلاد؛ فاستمرَّ الحال على ذلك حتى بُعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقام بمكة ما أقام، ثم هاجر إلى المدينة، فلما كتب كُتبه إلى الأفاق يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فكتب في جملة ذلك كسرى ملك الفرس:

بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم الفرس، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد.. فأسلم تسلم... إلى آخره.

 فلما جاءه الكتاب قال: ما هذا؟ قالوا: هذا كتاب جاء من عند رجل بجزيرة العرب يزعم أنه نبي، فلما فتح الكتاب فوجده قد بدأ باسمه قبل اسم كسرى، غضب كسرى غضبا شديدا، وأخذ الكتاب فمزَّقه قبل أن يقرأه، وكتب إلى عامله على اليمن– وكان اسمه باذام: أما بعد.. فإذا جاءك كتابي هذا فابعث من قبلك أميرين إلى هذا الرجل الذي بجزيرة العرب الذي يزعم أنه نبي، فابعثه إليّ في جامعة. فلما جاء الكتاب إلى باذام بعث من عنده أميرين عاقلين، وقال: اذهبا إلى هذا الرجل، فانظرا ما هو؛ فإن كان كاذباً فخذاه في جامع حتى تذهبا به إلى كسرى، وإن كان غير ذلك فارجعا إليَّ فأخبراني ما هو؛ حتى أنظر في أمره، فقدما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، فوجداه على أسدّ([37]) الأحوال وأرشدها، ورأيا منه أموراً عجيبةً يطول ذكرها، ومكثا عنده شهراً حتى بلغا ما جاءا له.

 ثم تقاضاه الجواب بعد ذلك، فقال لهما: ارجعا إلى صاحبكما فأخبراه أنَّ ربي قد قتل الليلة ربَّه. فأرخا ذلك عندهما ثم رجعا سريعا إلى اليمن فأخبرا "باذام" بما قال لهما، فقال: احصوا تلك الليلة؛ فإنَّ ظهر الأمر كما قال؛ فهو نبي. فجاءت الكتب من عند ملكهم أنه قد قتل كسرى في ليلة كذا وكذا، لتلك الليلة، وكان قد قتله بنوه؛ ولهذا قال بعض الشعراء:

وكسرى إذ تقاسمه بنوه

بأسياف كما اقتسم اللحام

تمخضت المنون له بيوم

أتى ولكل حاملة تمام([38])

وقام بالملك بعده ولده يزدجرد وكتب إلى باذام أن خذ لي البيعة من قبلك، واعمد إلى ذلك الرجل فلا تهنه وأكرمه، فدخل الإسلام في قلب باذام وذريته من أبناء فارس ممَّن باليمن، وبعث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإسلامه، فبعث إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنيابة اليمن بكمالها، فلم يعزله عنها حتى مات، فلما مات استناب ابنَه شهر بن باذام على صنعاء وبعض مخاليف، وبعث طائفة من أصحابه نُوَّاباً على مخاليف أخر؛ فبعث أَوَّلًا في سنة عشر عليًّا وخالدًا، ثم أرسل معاذًا وأبا موسى الأشعري، وفرَّق عمالةَ اليمن بين جماعة من الصَّحابة؛ فمنهم شهر بن باذام، وعامر بن شهر الهمداني على همدان، وأبو موسى على مأرب، وخالد بن سعيد بن العاص على عامر نجران ورفع وزبيد، ويعلى بن أمية على الجند، والطاهر بن أبي هالة على عل والأشعريين، وعمرو بن حرام على نجران، وعلى بلاد حضر موت زياد بن لبيد، وعلى السَّكاسك عكاشة بن مور بن أخضر، وعلى السكون معاوية بن كندة، وبعث معاذ بن جبل معلما لأهل البلدين–اليمن وحضر موت- يتنقل من بلد إلى بلد، ذكره سيف بن عمر، وذلك كله في سنة عشر، آخر حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فبينما هم على ذلك إذ نَجَمَ([39]) هذا اللعين الأسود العنسي.

خروج الأسود العنسي:

واسمه عبهلة بن كعب بن غوث، من بلد يقال لها: كهف حنان، في سبعمائة مقاتل، وكتب إلى عمَّال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أيها المتمردون علينا، أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضنا، ووفِّروا ما جمعتم؛ فنحن أولى به، وأنتم على ما أنتم عيه. ثم ركب فتوجَّه إلى نجران فأخذها بعد عشر ليال من مخرجه، ثم قصد إلى صنعاء، فخرج إليه شهر بن باذام فتقاتلا، فغلبه الأسود وقتله، وكسر جيشه من الأبناء، واحتل بلدة صنعاء لخمس وعشرين ليلة من مخرجه، ففر معاذ بن جبل من هنالك واجتاز بأبي موسى الأشعري، فذهبا إلى حضر موت وانحاز عمالُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الطَّاهر، ورجع عمر بن حرام وخالد بن سعيد بن العاص إلى المدينة، واستوثقت اليمن بكاملها للأسود العنسي، وجعل أمره يستطير([40]) استطارة الشرارة، وكان جيشه يوم لقي شهرا سبعمائة فارس، وأمراؤه قيس بن عبد يغوث ومعاوية بن قيس ويزيد بن محرم بن حصن الحارثي ويزيد بن الأفكل الأزدي، واشتد ملكه واستغلظ أمره، وارتدَّ خلقٌ من أهل اليمن، وعامله المسلمون الذين هناك بالتّقية، وكان خليفته على مذحج عمرو بن معدي كرب، وأسند أمر الجند إلى قيس بن عبد يغوث، وأسند أمر الأبناء إلى فيروز الديلمي وداذويه وتزوج بامرأة شهر بن باذام وهي ابنة عم فيروز الديلمي، واسمها زاذ، وكانت امرأة حسناء جميلة، وهي مع ذلك مؤمنةٌ بالله ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - ومن الصالحات.

 قال سيف بن عمر التميمي: وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتابه حين بلغه الأسود العنسي مع رجل يقال له: وبر بن يحنس الديلمي؛ يأمر المسلمين الذين هناك بمقاتلة الأسود العنسي ومصاولته، وقام معاذ بن جبل بهذا الكتاب أتم القيام، وكان قد تزوج امرأة من السكون يقال لها: رملة، فخربت عليه السكون لصبره فيهم، وقاموا معه في ذلك، وبلغوا هذا الكتاب إلى عمال النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ومن قدروا عليه من الناس، واتَّفق اجتماعهم بقيس بن عبد يغوث أمير الجند، وكان قد غضب على الأسود واستخفَّ به وَهَمَّ بقتله، وكذلك كان أمر فيروز الدَّيْلميّ قد ضعف عنده أيضاً، وكذا داذويه، فلما أعلم وبر بن نحيس قيس بن عبد يغوث؛ وهو قيس بن مكشوح، كان كأنَّما نزلوا عليه من السَّماء، ووافقهم على الفَتْك بالأسود وتوافق المسلمون على ذلك، وتعاقدوا عليه، فلما أيقن ذلك في الباطن أطلع شيطان الأسود للأسود على شيء من ذلك، فدعا قيس بن مكشوح، فقال له: يا قيس، ما يقول هذا؟ قال: وما يقول؟ قال: يقول: عمدت إلى قيس فأكرمته حتى إذا دخل منك كلَّ مدخل، وصار في العز مثلك، مال ميل عدوك، وحاول ملكك، وأضمر على الغدر؛ إنه يقول: يا أسود يا أسود يا سوآه يا سوآه، فَطُفْ به وخُذْ من قيس أعلاه وإلا سلبك وقطف قبلك. فقال له قيس وحلف له فكذب: وذي الخمار لأنت أعظم في نفسي وأجلّ عندي من أن أحدِّث بك نفسي. فقال له الأسود: ما إخالك تكذب الملك؛ فقد صدق وعرف الآن أنَّك تائبٌ عمَّا اطَّلع عليه منك. ثم خرج قيس من بين يديه فجاء إلى أصحابه فيروز وداذويه وأخبرهم بما قال له ورد عليه، فقالوا: إنَّا كلَّنا على حذر، فما الرأي.

 فبينما هم يشتورون إذ جاءهم رسوله فأحضرهم بين يديه، فقال: ألم أشرفكم على قومكم؟ قالوا: بلى. قال: فماذا يبلغني عنكم؟ فقالوا: أقلنا مرتنا هذه. فقال: لا يبلغني عنكم فأقيلكم. قال: فخرجنا من عنده ولم نكد، وهو في ارتياب من أمرنا، ونحن على خطر؛ فبينما نحن في ذلك إذ جاءتنا كتب من عامر بن شهر أمير همدان، وذي ظليم، وذي كلاع، وغيرهم من أمراء اليمن، يبذلون لنا الطاعة والنصر على مخالفة الأسود؛ وذلك حين جاءهم كتابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحثُّهم على مصاولة الأسود العنسيِّ، فكتبا إليهم أن لا يحدثوا شيئا حتى نبرم الأمر([41]).

 قال قيس: فدخلتُ على امرأته أزاذ، فقلت: يا ابنة عمي؛ قد عرفت بلاء هذا الرجل عند قومك، قتل زوجك، وطأطأ في قومك القتل، وفضح النساءَ؛ فهل عندك ممالأة عليه؟ قالت: على أيِّ أمر؟ قلت: إخراجه. قلت: أو قتله. قالت: نعم، والله ما خلق الله شخصاً هو أبغض إليَّ منه، فما يقوم لله على حق ولا ينتهي له عن حرمه، فإذا عزمتم أخبروني أعلمكم بما في هذا الأمر. قال: فأخرج فإذا فيروز وداذويه ينتظران يريدون أن يناهضوه؛ فما استقرَّ اجتماعه بهما حتى بَعَثَ إليه الأسود، فدخل في عشرة من قومه، فقال: ألم أخبرك بالحقِّ وتخبرني بالكذابة؟ إنه يقول: يا سوأة يا سوأة، إن لم تقطع من قيس يده يقطع رقبتك العليا، حتى ظنَّ قيس أنَّه قاتله فقال: إنَّه ليس من الحقِّ؛ إنَّا أهلُك وأنت رسول الله؛ فقتلي أحبُّ إليَّ من موتات أموتها كلَّ يوم. فَرَقَّ له وأمره بالانصراف، فخرج إلى أصحابه فقال: اعملوا عملكم.

 فبينما هم وقوف بالباب يشتورون إذ خرج الأسودُ عليهم وقد جمع له مائة؛ ما بين بقرة وبعير، فقام وخطَّ خطًّا وأقيمت من ورائه، وقام دونها، فنحرها، غير محبسة ولا معقلة، ما يقتحم الخط منها شيء، فجالت إلى أن زهقت أرواحُها، قال قيس: فما رأيتُ أمراً كان أفظعَ منه، ولا يوماً أوحشَ منه. ثم قال الأسود: أَحَقٌّ ما بلغني عنك يا فيروز؟ لقد هممتُ أن أنحرك فأُلْحقَك بهذه البهيمة. وأبدى له الحربة.

 فقال له فيروز: اخترنا لصهرك، وفضَّلْتَنا على الأبناء؛ فلو لم تكن نبيًّا ما بعنا نصيبَنا منك بشيء؛ فكيف وقد اجتمع لنا بك أمرُ الآخرة والدنيا؟! فلا تقبل علينا أمثال ما يَبْلُغك؛ فإنَّا بحيث تحب. فرضي عنه وأمره بقسم لحوم تلك الأنعام، ففَرَّقَها فيروز في أهل صنعاء، ثم أسرع اللِّحاق به، فإذا رجل يُحَرِّضُه على فيروز ويسعى إليه فيه.

 واستمع له فيروز، فإذا الأسودُ يقول: أنا قاتله غدا وأصحابه، فاغد عليَّ به. ثم التفت فإذا فيروز، فقال: مه. فأخبره فيروز بما صنع من قسم ذلك اللَّحم، فدخل الأسود دارَه، ورجع فيروز إلى أصحابه فأعلمهم بما سمع وبما قال وقيل له، فاجتمع رأيُهم على أن عاودوا المرأة في أمره، فدخل أحدهم – وهو فيروز - إليها فقالت: إنه ليس من الدر بيت إلا والحرس محيطون به غير هذا البيت؛ فإن ظهرَه إلى مكان كذا وكذا من الطريق؛ فإذا أمسيتُم فانقبوا عليه من دون الحرس، وليس من دون قتله شيء، وإني سأضع في البيت سراجاً وسلاحاً. فلما خرج من عندها تلقَّاه الأسودُ فقال له: ما أدخلك على أهلي؟ ووحأ رأسه. وكان الأسودُ شديداً، فصاحت المرأة فأدهشته عنه، ولولا ذلك لقتله، وقالت: ابن عمي جاءني زائراً، فقال: اسكتي لا أبالك، قد وهبته لك.

 فخرج على أصحابه فقال: النَّجاء النجاء. وأخبرهم الخبر، فحاروا؛ ماذا يصنعون؟ فبعثت المرأة إليهم تقول لهم: لا تنثنوا عمَّا كنتم عازمين عليه. فدخل عليها فيروز الدَّيْلميّ فاسْتَثْبَتَ منها الخبر، ودخلوا إلى ذلك البيت فنَقَّبوا من داخله بطائن ليهون عليهم النَّقْب من خارج، ثمَّ جلس عندهما جهرة كالزَّائر، فدخل الأسود فقال: وما هذا؟ فقالت: إنه أخي من الرّضاعة، وهو ابن عمّي. فنَهَرَه وأخرجه، فرجع إلى أصحابه، فلمَّا كان الليلُ نقَّبوا ذلك البيتَ فدخلوا فوجدوا فيه سراجاً تحت جفنه، فتقدَّم إليه فيروز الدَّيْلميّ والأسود نائم على فراش من حرير قد غرق رأسُه في جسده، وهو سكران يغط، والمرأة جالسة عنده، فلما قام فيروز على الباب أجلسه شيطانه وتكلم على لسانه – وهو مع ذلك يغط - فقال: مالي ومالك يا فيروز؟ فخشي إن رجع يهلك وتهلك المرأة، فعاجله وخالطه وهو مثل الجمل، فأخذ رأسَه فدقَّ عنقه ووضع ركبتيه في ظهره حتى قتله، ثم قام ليخرج إلى أصحابه ليخبرهم، فأخذت المرأة بذيله وقالت: أين تذهب عن حرمتك. فظنَّت أنَّها لم تقتله، فقال: أخرج لأعلمهم بقتله، فدخلوا عليه ليحتزوا رأسَه، فحركه شيطانُه فاضطرب، فلم يضبطوا أمره حتى جلس اثنان على ظهره، وأخذت المرأةُ بشعره، وجعل يبربر بلسانه، فاحتزَّ الآخرُ رقبتَه، فخار كأشدّ خوار ثور سمع قطّ، فابتدر الحرس إلى المقصورة، فقالوا: ما هذا؟ ما هذا؟ فقالت المرأة: النَّبيُّ يوحَى إليه. فرجعوا.

وجلس قيس وذادويه وفيروز يأتمرون كيف يعملون أشياعهم؛ فاتَّفقوا على أنَّه إذا كان الصَّباح ينادون بشعارهم الذي بينهم وبين المسلمين؛ فلمَّا كان الصُّبْحُ قام أحدهم- وهو قيس- على سور الحصن فنادى بشعارهم، فاجتمع المسلمون والكافرون حول الحصن، فنادى قيس- ويقال: وبر بن يحنش- الأذان: أشهد أنَّ محمداً رسولُ الله، وأن عبهلة كذاب. وألقى إليهم رأسَه فانهزم أصحابُه وتبعهم الناس يأخذونهم ويرصدونهم في كلِّ طريق يأسرونهم، وظهر الإسلام وأهله، وتراجع نُوَّابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أعمالهم، وتنازع أولئك الثَّلاثة في الأمارة، ثم اتَّفقوا على معاذ بن جبل يصلِّي بالناس، وكتبوا بالخبر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد أطلعه الله على الخبر من ليلته، كما قال سيف بن عمر التَّميميّ عن أبي القاسم الشّنويّ عن العلاء بن زيد عن ابن عمر: أتى الخبر إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من السَّماء الليلة التي قتل فيها العنسيّ ليبشِّرنا، فقال: قتل العنسيّ البارحة؛ قتله رجلٌ مبارك من أهل بيت مباركين. قيل: ومن؟ قال: فيروز، فيروز. وقد قيل: إنَّ مدةَ مُلْكه منذ ظهر إلى أن قتل ثلاثة أشهر، ويقال: أربعة أشهر. فالله أعلم. وقال سيف بن عمر عن المستنير عن عروة عن الضَّحَّاك عن فيروز: قال: قتلنا الأسود، وعاد أمرنا في صنعاء كما كان؛ إلَّا أنَّا أرسلنا إلى معاذ بن جبل فتراضينا عليه، فكان يصلِّي بنا في صنعاء، فوالله ما صلَّى بنا إلا ثلاثة أيام حتى أتانا الخبر بوفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانتقضت الأمور، وأنكرنا كثيراً ممَّا كنَّا نعرف، واضطربت الأرض، وقد قدمنا أن خبر العنسي جاء إلى الصِّدِّيق في أواخر ربيع الأول سنة 11هـ بعدما جَهَّزَ جيش أسامة، وقيل: بل جاءت البشارة إلى المدينة صبيحةَ توفِّي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. والأول أشهر، والله أعلم. والمقصود أنه لم يجئهم فيما يتعلَّق بمصالحهم واجتماع كلمتهم وتأليف ما بينهم والتَّمسُّك بدين الإسلام إلَّا الصِّدِّيق رضي الله عنه.


 (10) نهاية مسيلمة الكذَّاب

كان أبو بكر الصديق– رضي الله عنه- قد بعث خالد بن الوليد سنة 11هـ إلى قتال بني حنيفة باليمامة، وأوعب معه المسلمون، وعلى الأنصار ثابت بن قيس بن شماس، فسار لا يَمُرُّ بأحد من المرتدِّين إلا نكَّل بهم، وقد اجتاز بخيول لأصحاب سجاح([42]) فشَرَّدَهم وأمر بإخراجهم من جزيرة العرب، وأردف الصِّدِّيق خالداً بسرية لتكون ردءا له من ورائه، وقد كان بعث قبله إلى مسيلمة عكرمة بن أبي جهل، وشرحبيل بن حسنة، فلم يقاوما بني حنيفة؛ لأنهم نحو أربعين ألفاً من المقاتلين، فعجل عكرمة قبل مجيء صاحبه شرحبيل فناجزهم فنكب، فانتظر خالدا، فلما سمع مسيلمة بقدوم خالد عسكر بمكان يقال له: عقربا في طرف اليمامة والرِّيف وراء ظهورهم، وندب الناس وحثَّهم، فحشد له أهلُ اليمامة، وجعل على مجنبتي جيشه المحكم بن الطفيل، والرجال بن عنفوة بن نهشل، وكان الرجال هذا صديقه الذي شهد له أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنه قد أشرك معه مسيلمة بن جيب في الأمر. وكان هذا الملعون من أكبر ما أضلَّ أهل اليمامة، حتى اتَّبعوا مسيلمة لعنهما الله.

 وقد كان الرجال هذا قد وفد إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وقرأ البقرة، وجاء زمنَ الرِّدَّة إلى أبي بكر فبعثه إلى أهل اليمامة يدعوهم إلى الله ويثبِّتهم على الإسلام، فارتدَّ مع مسيلمة وشهد له بالنُّبُوَّة، قال سيف بن عمر عن طلحة عن عكرمة عن أبي هريرة: كنت يوماً عند النبي - صلى الله عليه وسلم - في رهط معنا الرجال بن عنفوة، فقال: إنَّ فيكم لرجلاً ضرسه في النار أعظم من أحد. فهلك القوم وبقيت أنا والرجال، وكنت متخوِّفا لها، حتى خرج الرجال مع مسيلمة وشهد له بالنُّبُوَّة، فكانت فتنة الرجال أعظمَ من فتنة مسيلمة. رواه ابن إسحاق عن شيخ عن أبي هريرة.

 وقرب خالد وقد جعل على المقدمة شرحبيل بن حسنة، وعلى المجنبتين زيدا وأبا حذيفة، وقد مرت المقدمة في الليل بنحو من أربعين وقيل ستين فارسا، عليهم مجاعة بن مرارة، وكان قد ذهب لأخذ ثأر له في بني تميم وبني عامر وهو راجع إلى قومه فأخذوهم؛ فلما جيء بهم إلى خالد عن آخرهم فاعتذروا إليه فلم يصدِّقْهم، وأمر بضرب أعناقهم كلهم، سوى مجاعة؛ فإنه اسْتَبْقاه مقيَّدًا عنده؛ لعلمه بالحرب والمكيدة، وكان سيِّداً في بني حنيفة، شريفاً مطاعاً، ويقال: إن خالداً لما عرضوا عليه قال لهم: ماذا تقولون يا بني حنيفة؟ قالوا: نقول منا نبيٌّ ومنكم نبيٌّ. فقتلهم إلا واحداً اسمه سارية، فقال له: أيُّها الرجل، إن كنت تريد عدا بعدول هذا خيراً أو شراً فاستبق هذا الرجل– يعني مجاعة بن مرارة- فاسْتَبْقاه خالدٌ مقيَّدًا، وجعله في الخيمة مع امرأته وقال: استوص به خيراً. فلما تواجه الجيشان قال مسيلمة لقومه: اليوم يوم الغيرة، اليوم إن هزمتم تستنكح النساء سبيات، وينكحن غير حظيات. فقاتلوا عن أحسابكم وامنعوا نساءكم.

 وتقدَّم المسلمون حتى نزل بهم خالد على كثيب يشرف على اليمامة، فضرب به عسكره، وراية المهاجرين مع سالم مولى أبي حذيفة، وراية الأنصار مع ثابت بن قيس بن شماس، والعرب على راياتها، ومجاعة بن مرارة مقيد في الخيمة مع أم تميم امرأة خالد، فاصطدم المسلمون والكفار فكانت جولة وانهزمت الأعراب حتى دخلت بنو حنيفة خيم خالد بن الوليد وهمُّوا بقتل أم تميم، حتى أجارها مجاعة وقال: نعمت الحرة هذه. وقد قتل الرجال بن عنفوة - لعنه الله - في هذه الجولة؛ قتله زيد بن الخطاب، ثم تذامر الصَّحابة بينهم وقال ثابت بن قيس بن شماس: بئس ما عَوَّدْتُم أقرانَكم. ونادوا من كل جانب: اخلصنا يا خالد. فخلصت ثلةٌ من المهاجرين والأنصار وجمى البراء بن معرور، وكان إذا رأى الحرب أخذته العرواء فيجلس على ظهر الرحال حتى يبول في سراويله، ثم يثور كما يثور الأسد.

 وقاتلت بنو حنيفة قتالاً لم يُعْهَدْ مثلُه، وجعلت الصحابة يتواصون بينهم ويقولون: يا أصحاب سورة البقرة، بطل السِّحرُ اليوم. وحفر ثابت بن قيس لقدميه في الأرض إلى أنصاف ساقيه، وهو حامل لواء الأنصار بعدما تحنط وتكفن، فلم يزل ثابتا حتى قتل هناك، وقال المهاجرون لسالم مولى أبي حذيفة: أتخشى أن نؤتى من قبلك؟ فقال: بئس حامل القرآن أنا إذاً. وقال زيد بن الخطَّاب: أيُّها الناس، عضُّوا على أضراسكم واضربوا في عدوِّكم وامضوا قدماً. وقال: والله لا أتكلم حتى يهزمهم الله أو ألقى الله فأكلمه بحجتي. فقتل شهيداً - رضي الله عنه.

 وقال أبو حذيفة: يا أهل القرآن، زَيِّنوا القرآن بالفعال. وحمل فيهم حتى أبعدهم وأصيب - رضي الله عنه، وحمل خالد بن الوليد حتى جاوزهم، وسار لجبال مسيلمة وجعل يترقَّب أن يصل إليه فيقتله، ثم رجع، ثم وقف بين الصَّفَّيْن ودعا البراز، وقال: أنا ابن الوليد العود، أنا ابن عامر وزيد، ثم نادى بشعار المسلمين– وكان شعارهم يومئذ "يا محمداه- وجعل لا يبرز لهم أحد إلا قتله، ولا يدنو منه شيء إلا أكله، ودارت رحى المسلمين، ثم اقترب من مسيلمة فعرض عليه النِّصف والرجوع إلى الحق، فجعل شيطان مسيلمة يلوي عنقَه، لا يقبل منه شيئا، وكلما أراد مسيلمة يقارب من الأمر صرفه عنه شيطانه، فانصرف عنه خالد، وقد مَيَّزَ خالد المهاجرين من الأنصار من الأعراب، وكل بني أب على رايتهم يقاتلون تحتها؛ حتى يعرف الناس من أين يؤتون، وصبرت الصَّحابة في هذا الموطن صبراً لم يُعْهَدْ مثله، ولم يزالوا يتقدَّمون إلى نحور عدوِّهم حتى فتح الله عليهم، وولَّى الكفارُ الأدبارَ، واتَّبعوهم يقتلون في أقفائهم، ويضعون السيوف في رقابهم حيث شاؤوا، حتى ألجؤوهم إلى حديقة الموت.

 وقد أشار عليهم محكم اليمامة– وهو محكم بن الطفيل لعنه الله- بدخولها، فدخلوها وفيها عدوُّ الله مسيلمة- لعنه الله، وأدرك عبد الرحمن بن أبي بكر محكم بن الطفيل فرماه بسهم في عنقه وهو يخطب فقتله، وأغلقت بنو حنيفة الحديقةَ عليهم، وأحاط بهم الصحابة، وقال البراء بن مالك: يا معشر المسلمين، ألقوني عليهم في الحديقة. فاحتملوه فوق الجحف ورفعوها بالرِّماح حتى ألقوه عليهم من فوق سورها، فلم يزل يقاتلهم دون بابها حتى فتحه، ودخل المسلمون الحديقة من حيطانها وأبوابها يقتلون من فيها من المرتدة من أهل اليمامة، حتى خلصوا إلى مسيلمة - لعنه الله، وإذا هو واقف في ثلمة جدار كأنَّه جمل أورق، وهو يريد يتساند، لا يعقل من الغيظ، وكان إذا اعتراه شيطانه أزبد حتى يخرج الزبد من شدقيه، فتقدَّم إليه وحشيّ بن حرب مولى جبير بن مطعم– قاتل حمزة- فرماه بحربته فأصابه وخرجت من الجنب الآخر، وسارع إليه أبو دجانة سماك بن خرشة، فضربه بالسَّيف فسقط، فنادت امرأة من القصر: وأمير الوضاءة قتله العبد الأسود. فكان جملة من قتلوا في الحديقة وفي المعركة قريبا من عشرة آلاف مقاتل، وقيل: واحد وعشرون ألفا، وقتل من المسلمين ستمائة، وقيل: خمسمائة. فالله أعلم.

 وفيهم من سادات الصحابة، وعيان الناس من يذكر بعد، وخرج خالد وتبعه مجاعة بن مرارة يرسف في قيوده، فجعل يريه القتلى ليعرفه بمسيلمة، فلما مروا بالرجال بن عنفوة قال له خالد: أهذا هو؟ قال: لا، والله هذا خير منه، هذا الرجال بن عنفوة.

قال سيف بن عمر: ثم مروا برجل أصفر أخنس، فقال: هذا صاحبكم، فقال خالد: قبحكم الله على اتباعكم هذا، ثم بعث خالد الخيول حول اليمامة يلتقطون ما حول حصونها من مال وسبي، ثم عزم على غزو الحصون ولم يكن بقي فيها إلا النساء والصبيان والشيوخ الكبار، فخدعه مجاعة فقال: إنها ملأى رجالا ومقاتلة فهلم فصالحني عنها. فصالحه خالد لما رأى بالمسلمين من الجهد وقد كلوا من كثرة الحروب والقتال، فقال: دعني حتى أذهب إليهم ليوافقوني على الصلح، فقال: اذهب. فسار إليهم مجاعة فأمر النساء أن يلبسن الحديد ويبرزن على رؤوس الحصون، فنظر الصلح، ودعاهم خالد إلى الإسلام فأسلموا عن آخرهم ورجعوا إلى الحق ورد عليهم خالد بعض ما كان أخذ من السبي، وساق الباقين إلى الصديق، وقد تسرى علي بن أبي طالب بجارية منهم، وهي أم ابنه محمد الذي يقال له: محمد بن الحنفية– رضي الله عنه، وقد قال ضرار بن الأزور في غزوة اليمامة هذه:

فلو سئلت عنا جنوب لأخبرت

عشية سالت عقرباء وملهم

وسال بفرع الواد حتى ترقرقت

حجارته فيه من القوم بالدم

عشية لا تغني الرماح مكانها

ولا النبل إلا المشرفي المصمم

فإن تبتغي الكفار غير مسيلم

جنوب فإني تابع الدين مسلم

أجاهد إذا كان الجهاد غنيمة

ولله بالمرء المجاهد أعلم

وقد قال خليفة بن خياط، ومحمد بن جرير، وخلق من السلف: كانت وقعة اليمامة في سنة إحدى عشرة، وقال ابن قانع: في آخرها، وقال الواقدي وآخرون: كانت في سنة عشرة، والجمع بينها أن ابتداءها في سنة إحدى عشرة، والفراغ منها في سنة ثنتي عشرة والله أعلم.

 ولما قدمت وفودُ بني حنيفة على الصِّدِّيق قال لهم: أسمعونا شيئاً من قرآن مسيلمة. فقالوا: أوتعفينا يا خليفة رسول الله؟ فقال: لابد من ذلك. فقالوا: كان يقول: يا ضفدع بنت الضفدعين نقي لكم نقين، لا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين، رأسك في الماء، وذنبك في الطين. وكان يقول: والمبذرات زرعا، والحاصدات حصدا، والذاريات قمحا، والطاحنات طحنا، والخابزات خبزا، والثاردات ثردا، واللاقمات لقما، إهالة وسمنا، لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر، رفيقكم فامنعوه، والمعتر فآووه، والناعي فواسوه. وذكروا أشياء من هذه الخرافات التي يأنف من قولها الصبيان وهم يلعبون، فيقال: إن الصدِّيق قال لهم: ويحكم، أين كان يذهب بعقولكم؟! إن هذا الكلام لم يخرج من أل. وكان يقول: والفيل، وما أدراك ما الفيل، له زلوم طويل. وكان يقول: والليل الدامس، والذئب الهامس، ما قطعت أسد من رطب ولا يابس. وكان يقول: لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشي. وأشياء من هذا الكلام السَّخيف الركيك البارد السميج.

 وقد أورد أبو بكر ابن الباقلاني– رحمه الله- في كتابه إعجاز القرآن أشياء من كلام الجهلة المتنبئين كمسيلمة وطليحة والأسود وغيرهم؛ مما يدلُّ على ضعف عقولهم وعقول من اتَّبَعهم على ضلالهم ومحالهم، فقال له مسيلمة: ماذا أنزل على صاحبكم في هذا الحين؟ فقال له عمرو: أنزل عليه سورة وجيزة بليغة. فقال: وما هي؟ قال: أنزل عليه: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾. قال: ففكَّر مسيلمة ساعة ثم رفع رأسه فقال: ولقد أنزل عليَّ مثلُها. فقال له عمرو: وما هي؟ فقال مسيلمة: يا وبر يا وبر، إنما أنت إيراد وصدر، وسائرك حفر نقر. ثم قال: كيف ترى يا عمرو؟ فقال له عمرو: والله إنك لتعلم أني أعلم أنك تكذب.

 وذكر علماء التاريخ أنه كان يتشبَّه بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصق في بئر فغزر ماؤه، فبصق في بئر فغاض ماؤه بالكلية. وفي أخرى فصار ماؤه أجاجا، وتوضأ يمسح رؤوسهم؛ فمنهم من قرع رأسه، ومنهم من لثغ لسانه، ويقال: إنه دعا لرجل أصابه وجع في عينيه فمسحها فعمي.

 وقال سيف بن عمر عن خليد بن زفر النمري، عن عمير بن طلحة عن أبيه أنه جاء إلى اليمامة فقال: أين مسيلمة؟ فقال: مه رسول الله. فقال: لا، حتى أراه. فلما جاء قال: أنت مسيلمة؟ فقال: نعم. قال: مَنْ يأتيك؟ قال: رجس، قال: أفي نور أم في ظلمة؟ فقال: في ظلمة. فقال: أشهد أنك كذاب وأن محمداً صادق؛ ولكن كذاب ربيعة أحبُّ إلينا من صادق مضر. واتَّبَعَه هذا الأعرابيُّ الجلف- لعنه الله- حتى قتل معه يوم عقربا.


 (11) نهاية المختار بن أبي عبيد على يد مصعب بن الزُّبَير

كان عبد الله بن الزبير قد عَزَلَ في سنة 67هـ عن نيابة البصرة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزوميّ المعروف بالقباع، وولَّاها لأخيه مصعب بن الزُّبير، ليكون ردا وقرنا وكفؤا للمختار بن أبي عبيد([43])؛ فلمَّا قدم مصعب البصرةَ دخلها متلثِّماً فيمم المنبر، فلما صعده قال الناس: أمير أمير. فلما كشف اللِّثام عرفه الناس فأقبلوا إليه، وجاء القباع فجلس تحته بدرجة، فلما اجتمع الناس قام مصعب خطيباً فاستفتح القصص حتى بلغ: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا﴾ [القصص: 4]، وأشار بيده نحو الشَّام أو الكوفة، ثم قال: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ [القصص: 5]، وأشار إلى الحجاز وقال: يا أهل البصرة، إنكم تلقبون أمراءكم، وقد سميت نفسي الجزار. فاجتمع عليه الناس وفرحوا به، ولما انهزم أهل الكوفة حين خرجوا المختار فقهرهم وقتل منهم من قتل كان لا ينهزم أحد من أهلها إلا قصد البصرة، ثم خرجه المختار ليلتقي بالذي جاء بالرؤوس والبشارة.

 اغتنم من بقي بالكوفة من أعداء المختار غيبتَه فذهبوا إلى البصرة؛ فراراً من المختار؛ لقلَّة دينه وكفره، ودعواه أنه يأتيه الوحي، وأنه قدم الموالي على الأشراف، واتَّفق أنَّ ابنَ الأشتر حين قتل ابن زياد واستقل بتلك النواحي، فأحرز بلادا وأقاليم ورساتيق لنفسه، واستهان بالمختار، فطمع مصعب فيه وبعث محمد بن الأشعث بن قيس على البريد إلى المهلب بن أبي صفرة، وهو نائبهم على خراسان، فقدم به أهل البصرة وتقوَّى به مصعب، فركب في أهل البصرة ومن اتبعهم من أهل الكوفة فركبوا في البحر قاصدين الكوفة.

وقدم مصعب بين يديه عباد بن الحصين، وجعل على ميمنته عمر بن عبيد الله بن معمر، وعلى الميسرة المهلب بن أبي صفرة، ورتب الأمراء على رايتها وقبائلها، كمالك بن مسمع، والأحنف بن قيس، وزياد بن عمر، وقيس بن الهيثم وغيرهم، وخرج المختار بعسكره، فنـزل المدار وقد جعل على مقدمته أبا كامل الشَّاكري، وعلى ميمنته عبد الله بن كامل، وعلى ميسرته عبد الله بن وهب الجشمي، وعلى الخيل وزير بن عبد الله السلولي، وعلى الموالي أبا عمرة صاحب شرطته.

ثم خطب الناس وحثَّهم على الخروج، وبعث بين يديه الجيوش، وركب هو وخلق من أصحابه وهو يبشِّرهم بالنَّصر، فلما انتهى مصعب إلى قريب الكوفة لقيتهم الكتائب المختارية فحملت عليهم الفرسان الزُّبيريَّة، فما لبثت المختارية إلا يسيرا حتى هربوا على حمية، وقد قتل منهم جماعة من الأمراء، وخلق من القراء، وطائفة كثيرة من الشيعة الأغبياء، ثم انتهت الهزيمة إلى المختار.

وقال الواقديُّ: لما انتهت مقدمة المختار إليه جاء مصعب فقطع الدجلة إلى الكوفة، وقد حصَّن المختار القصرَ واستعمل عليه عبدَ الله بن شداد، وخرج المختار بمن بقي معه فنـزل حروراء، فلما قرب جيش مصعب منه جهز إلى كل قبيلة كردوسا([44])، فبعث إلى بكر بن وائل سعيد بن منقذ، وإلى عبد القيس مالك بن منذر، وإلى العالية عبد الله بن جعدة، وإلى الأزد مسافر بن سعيد، وإلى بني تميم سليم بن يزيد الكندي، وإلى محمد بن الأشعث السائب بن مالك.

 ووقف المختار في بقية أصحابه فاقتتلوا قتالا شديدا إلى الليل، فقتل أعيان أصحاب المختار وقتل تلك الليلة محمد بن الأشعث وعمير بن علي بن أبي طالب، وتفرق عن المختار باقي أصحابه، فقيل له: القصر القصر. فقال: والله ما خرجت منه وأنا أريد أن أعود إليه؛ ولكن هذا حكمُ الله. ثم ساروا إلى القصر فدخل، وجاءه مصعب ففرَّق القبائل في نواحي الكوفة، واقتسموا المحال، وخلصوا إلى القصر، وقد منعوا المختار المادة والماء، وكان المختار يخرج فيقاتلهم ثم يعود إلى القصر، ولما اشتد عليه الحصار قال لأصحابه: إنَّ الحصارَ لا يزيدنا إلا ضعفا، فانزلوا بنا حتى نقاتل حتى الليل حتى نموت كراما. فوهنوا فقال: أما فوالله لا أعطي بيدي. ثم اغتسل وتَطَيَّبَ وتَحَنَّطَ وخرج فقاتل هو من معه حتى قتلوا.

وقيل: بل أشار عليه جماعة من أساورته بأن يدخل القصر دار إمارته، فدخله وهو ملوم مذموم، وعن قريب ينفذ فيه القدر المحتوم، فحاصره مصعب فيه وجميع أصحابه حتى أصابهم من جهد العطش ما الله به عليم، وضيَّق عليهم المسالك والمقاصد، وانسدت عليهم أبواب الحيل، وليس فيهم رجل رشيد ولا حليم، ثم جعل المختار يجيل فكرته ويكرر رويته في الأمر الذي قد حل به، واستشار من عنده في هذا السبب السيئ الذي قد اتصل سببه بسببه من الموالي والعبيد، ولسان القدر والشرع يناديه: ﴿قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ﴾ [سبأ: 49]، ثم قوى عزمه قوة الشجاعة المركبة فيه، على أن أخرجته من بين مَنْ كان يُحالفه ويواليه، ورأى أن يموت على فرسه؛ حتى يكون عليها انقضاء آخر نفسه، فنـزل حميةً وغضباً وشجاعة وكلباً، وهو مع ذلك لا يجد مناصاً ولا مفرًّا ولا مهرباً، وليس معه من أصحابه سوى تسعة عشر، ولعله إن كان قد استمر على ما عاش عليه أن لا يفارقه التِّسْعَة عشر الموكَّلون بسقر، ولما خرج من القصر سأل أن يخلي سبيله فيذهب في أرض الله فقالوا له: إلا على حكم الأمير.

 والمقصود أنَّه لما خرج من القصر تقدَّم إليه رجلان شقيقان أخوان - وهما طرفة وطراف ابنا عبد الله بن دجاجة من بني حنيفة - فقتلاه بمكان الزياتين من الكوفة واحتزَّا رأسَه وأتيا به إلى مصعب بن الزُّبَيْر، وقد دخل قصر الإمارة فوضع بين يديه، فلما وضع رأس المختار بين يدي مصعب أمر لهما بثلاثين ألفا.

وقد قتل مصعب جماعة من المختارية، وأسر منهم خمسمائة أسير، فضرب أعناقهم عن آخرهم في يوم واحد، وقد قتل من أصحاب مصعب في الوقعة محمد بن الأشعث بن قيس، وأمر مصعب بكفِّ المختار فقُطعت وسُمِّرت إلى جانب المسجد، فلم يزل هنالك حتى قدم الحجاج فسأل عنها، فقيل له: هي كفُّ المختار. فأمر بها فرفعت وانتزعت من هنالك؛ لأنَّ المختار كان من قبيلة الحجَّاج، والمختار هو الكذَّاب، والمبير الحجاج.

 ولهذا أخذ الحجَّاج بثأره من ابن الزُّبير فقتله وصلبه شهوراً، وقد سأل مصعب أمَّ ثابت بنت سمرة بن جندب امرأة المختار عنه فقالت: ما عسى أن أقول فيه إلا ما تقولون أنتم فيه. فتركها واستدعى بزوجته الأخرى - وهي عمرة بنت النعمان بن بشير - فقال لها: ما تقولين فيه؟ فقالت: رحمه الله؛ لقد كان عبداً من عباد الله الصَّالحين. فسجنها وكتب إلى أخيه: إنها تقول: إنه نبيّ. فكتب إليه أن أخرجها فاقتلها، فأخرجها إلى ظاهر البلد فضربت ضربات حتى ماتت، فقال في ذلك عمر بن أبي رمثة المخزومي:

إن من أعجب العجائب عندي

قتل بيضاء حرة عطبول([45])

قتلت هكذا على غير جرم

إن لله درها من قتيل

كتب القتل والقتال علينا

وعلى الغانيات جَرُّ الذُّيول

وقال أبو مخنف: حدَّثني محمد بن يوسف أنَّ مصعباً لقي عبدَ الله بن عمر بن الخطَّاب فسلَّم عليه فقال ابن عمر: من أنت؟ فقال: أنا ابن أخيك مصعب بن الزُّبير. فقال له ابن عمر: نعم؛ أنت القائل: سبعة آلاف من أهل القبلة في غداة واحدة عش ما استطعت. فقال له مصعب: إنهم كانوا كفرة سحرة. فقال ابن عمر: والله لو قتلت عدلهم غنما من تراث أبيك لكان ذلك سرفا.

ترجمة المختار بن أبي عبيد الثَّقَفيّ:

هو المختار بن أبي عبيد بن مسعود بن عمرو بن عوف بن عفرة بن عميرة بن عوف بن ثقيف الثَّقَفي، أسلم أبوه في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يره، فلهذا لم يذكره أكثر الناس في الصحابة؛ وإنَّما ذكره ابن الأثير في الغابة، وقد كان عمر بعثه في جيش كثيف في قتال الفرس سنة ثلاث عشرة، فقتل يومئذ شهيداً، وقتل معه نحوٌ من أربعة آلاف من المسلمين، وعرف ذلك الجسر به؛ وهو جسر على دجلة، فيقال له إلى اليوم جسر أبي عبيد، وكان له من الولد صفية بنت أبي عبيد، وكانت من الصالحات العابدات؛ وهي زوجة عبدالله بن عمر بن الخطاب، وكان عبد الله لها مكرماً ومحبًّا في حياته؛ وأما أخوها المختار هذا فإنَّه كان أولاً ناصبيًّا يبغض عليًّا بغضاً شديداً، وكان عند عمه في المدائن، وكان عمُّه نائبَها، فلما دخلها الحسن بن عليّ خَذَلَه أهلُ العراق وهو سائر إلى الشام لقتال معاوية بعد مقتل أبيه، فلما أحسَّ الحسن منهم بالغدر فَرَّ منهم إلى المدائن في جيش قليل، فقال المختار لعمِّه: لو أخذت الحسن فبعثتَه إلى معاوية لاتَّخذتَ عندَه اليدَ البيضاءَ أبداً. فقال له عمه: بئس ما تأمرني به يا ابن أخي.

 فما زالت الشيعة تبغضه حتى كان من أمر مسلم بن عقيل بن أبي طالب ما كان، وكان المختار من الأمراء بالكوفة، فجعل يقول: أما لأنصرنَّه. فبلغ ابن زياد ذلك فحبسه بعد ضربه مائة جلدة، فأرسل ابن عمر إلى يزيد بن معاوية يتشفَّع فيه، فأرسل يزيد إلى ابن زياد فأطلقه وسيَّره إلى الحجاز في عباءة، فصار إلى ابن الزبير بمكة فقاتل معه حين حصره أهل الشام قتالاً شديداً.

 ثم بلغ المختار ما قال أهل العراق فيه من التخبيط([46])، فسار إليهم وترك ابن الزبير، ويقال أنه سأل ابنَ الزُّبير أن يكتب له كتاباً إلى ابن مطيع نائب الكوفة ففعل، فسار إليها، وكان يُظْهر مدحَ ابن الزُّبير في العلانية ويسبُّه في السِّرِّ، ويمدح محمد بن الحنفية ويدعو إليه، وما زال حتى استحوذ على الكوفة بطريق التَّشَيُّع وإظهار الأخذ بأثر الحسين.

 وبسبب ذلك التفَّت عليه جماعات كثيرة من الشيعة وأخرج عامل ابن الزبير منها، واستقر ملك المختار بها، ثم كتب إلى ابن الزبير يعتذر إليه ويخبره أن ابن مطيع كان مداهنا لبني أمية، وقد خرج من الكوفة، وأنا ومن بها في طاعتك. فصدَّقه ابن الزبير لأنَّه كان يدعو إليه على المنبر بوم الجمعة على رؤوس الناس ويُظْهرُ طاعتَه، ثم شرع في تتبُّع قتلة الحسين ومن شهد الوقعة بكربلاء من ناحية ابن زياد، فقتل منهم خلقاً كثيراً وظفر برؤوس كبار منهم - كعمر بن سعد بن أبي وقَّاص أمير الجيش - الذين قتلوا الحسين، وشمر بن ذي الجوشن أمير الألف الذين ولُّوا قتل الحسين، وسنان بن أبي أنس، وخولى بن يزيد الأصبحي، وخلق غير هؤلاء، وما زال حتى بعث سيف نقمته إبراهيم بن الأشتر في عشرين ألفا إلى ابن زياد، وكان ابن زياد حين التقاء في جيش أعظم من جيشه– في أضعاف مضاعفة- كانوا ثمانين ألفا، وقيل ستين ألفا، فقتل ابنُ الأشتر ابنَ زياد وكسر جيشه واحتاز ما في معسكره، ثم بعث برأس ابن زياد ورؤوس أصحابه مع البشارة إلى المختار، ففرح بذلك فرحاً شديداً، ثم إنَّ المختارَ بَعَثَ برأس ابن زياد ورأس حصين بن نمير ومن معهما إلى ابن الزبير بكة، فأمر ابن الزُّبير بها فنصبت على عقبة الحجون.

وقد كانوا نصبوها بالمدينة، وطابت نفس المختار بالملك، وظن أنه لم يبق له عدو ولا منازع؛ فلما تبيَّن ابنُ الزبير خداعَه ومكرَه وسوءَ مَذْهَبه بعث أخاه مصعباً أميراً على العراق، فسار إلى البصرة، فجمع العساكر، فما تَمَّ سرور المختار حتى سار إليه مصعب بن الزُّبير من البصرة في جيش هائل فقتله واحتزَّ رأسَه، وأمر بصَلْب كفه على باب المسجد، وبعث مصعب برأس المختار مع رجل من الشُّرط على البريد إلى أخيه عبد الله بن الزُّبَير، فوصل مكة مع رجل من الشرط على البريد، إلى أخيه عبد الله بن الزبير، فوصل مكة بعد العشاء فوجد عبد الله يتنفل، فما زال يصلي حتى أسحر ولم يلتفت إلى البريد الذي جاء بالرأس، فلما كان قريب الفجر قال: ما جاء بك؟ فألقى إليه الكتاب فقرأ، فقال: يا أمير المؤمنين معي الرأس، فقال: ألقه على باب المسجد. فألقاه ثم جاء فقال: جائزتي يا أمير المؤمنين. فقال: جائزتك الرأس الذي جئت به تأخذه معك إلى العراق.

ثم زالت دولة المختار كأن لم تكن، وكذلك سائر الدول، وفرح المسلمون بزوالها؛ وذلك لأنَّ الرجلَ لم يكن في نفسه صادقاً؛ بل كان كاذباً يزعم أنَّ الوحيَ يأتيه على يد جبريل. قال الإمام أحمد: حدَّثنا ابن نمير، حدَّثنا عيسى القارئ أبو عمير بن السدي عن رفاعة القباني قال: دخلت على المختار فألقى لي وسادة وقال: لولا أن أخي جبريل قام عن هذه لألقيتها لك. قال: فأردتُ أن أضرب عنقَه. قال: فذكرت حديثاً حدَّثَنيه أخي عمر بن الحمق، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أيُّما مؤمن أمَّن مؤمناً على دمه فقتله فأنا من القاتل بريء». وقال الإمام أحمد: حدَّثنا يحيى بن سعيد القطَّان عن حمَّاد بن سلمة، حدَّثني عبدالله بن عمير عن رفاعة بن شداد، قال: كنت أقوم على رأس المختار، فلما عَرَفتُ كذبَه هممتُ أن أسلَّ سيفي فأضرب عنقَه، فذكرت حديثاً حدَّثناه عمر بن الحمق؛ قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من أمن رجلا على نفسه فقتله أعطي لواء غدر يوم القيامة». ورواه النسائي وابن ماجه من غير وجه عن عبد الملك بن عمير، وفي لفظ لهما: «من أمَّن رجلاً على دم فقتله فأنا بريء من القاتل، وإن كان المقتول كافراً». وفي سند هذا الحديث اختلاف. وقد قيل لابن عمر: إن المختار يزعم أن الوحي يأتيه، فقال: صدق؛ قال تعالى: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ﴾ [الأنعام: 121].

 وروى ابنُ أبي حاتم عن عكرمة قال: قدمت على المختار فأكرمني وأنزلني عنده، وكان يتعاهد مبيتي باللَّيل، قال: فقال لي: اخرج فحدِّث النَّاس. قال: فخرجتُ، فجاء رجل فقال: ما تقول في الوحي؟ فقلت: الوحي وحيان؛ قال الله تعالى: ﴿بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ﴾ [يوسف: 3]. وقال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ [الأنعام: 112].

 قال: فهمُّوا أن يأخذوني، فقلتُ: ما لكم وذاك! إني مفتيكم وضيفكم. فتركوني؛ وإنَّما أراد عكرمة أن يعرض بالمختار وكذَّبه في ادِّعائه أنَّ الوحيَ يَنـزل عليه.

وروى الطَّبرانيُّ من طريق أنيسة بنت زيد بن الأرقم أنَّ أباها دخل على المختار بن أبي عبيد فقال له: يا أبا عامر لو شفت رأي جبريل وميكائيل. فقال له زيد: خسرت وتعست؛ أنت أهون على الله من ذلك، كذاب مفتر على الله ورسوله. وقال الإمام أحمد: حدَّثنا ابن إسحاق بن يوسف ثنا ابن عوف الصِّدِّيق النَّاجي أنَّ الحجاجَ بن يوسف دخل على أسماء بنت أبي بكر الصِّدِّيق بعدما قتل ابنها عبد الله بن الزبير فقال: إن ابنك ألحد في هذا البيت، وإن الله أذاقه من عذاب أليم، وفعل به وفعل. فقالت له: كذبت؛ كان بارًّا بالوالدين، صوَّاماً قوَّاماً، والله لقد أخبرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه «سيخرج من ثقيف كذَّابان؛ الآخرُ منهما شرٌّ من الأَوَّل، وهو مبيرٌ». هكذا رواه أحمد بهذا السَّنَد واللَّفظ، وقد أخرجه مسلمٌ في صحيحه في كتاب الفضائل عن عقبة بن مكرم العمي البصريِّ عن يعقوب بن إسحاق الحضرميِّ عن الأسود بن شيبان عن أبي نوفل عن أبي عقرب، واسمُه معاوية بن سلم، عن أسماء بنت أبي بكر؛ أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن في ثقيف كذابا ومبيرا».

 وفي الحديث قصة طويلة في مقتل الحجَّاج ولدها عبد الله في سنة ثلاث وسبعين للهجرة، وقد ذكر البيهقيُّ هذا الحديث في دلائل النُّبوَّة، وقد ذكر العلماءُ أنَّ الكذَّابَ هو المختار بن أبي عبيد، وكان يُظْهر التَّشَيُّعَ ويُبْطن الكهانة وأسرَّ إلى أخصَّائه أنَّه يوحَى إليه؛ ولكن ما أدري هل كان يدَّعي النُّبوَّة أم لا، وكان وقد وضع له كرسي يعظم ويحف به الرِّجال، ويستر بالحرير، ويحمل على البغال، وكان يُضاهي به تابوت بني إسرائيل المذكور في القرآن، ولا شكَّ أنَّه كان ضالًّا مضلًّا أراح الله المسلمين منه بعدما انتقم به من قوم آخرين من الظالمين؛ كما قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الأنعام: 129]. وأمَّا المبير فهو القتَّال؛ وهو الحجَّاج بن يوسف الثَّقَفيّ نائب العراق لعبد الملك بن مروان الذي انتزع العراقَ من يد مصعب بن الزُّبَير.

وذكر الواقديُّ أنَّ المختارَ لم يزل مظهراً موافقة ابن الزُّبير حتى قدم مصعب إلى البصرة في أوَّل سنة سبع وستِّين وأظهر مخالفتَه، فسار إليه مصعب فقاتله، وكان المختار في نحو من عشرين ألفاً، وقد حمل عليه المختار مرَّةً فهزمه؛ ولكن لم يَثْبت جيشُ المختار، حتى جعلوا ينصرفون إلى مصعب ويدعون المختار، وينقمون عليه ما هو فيه من الكهانة والكذب؛ فلمَّا رأى المختار ذلك انصرف إلى قصر الإمارة، فحاصره مصعب فيه أربعة أشهر، ثم قتله في رابع عشر رمضان سنة سبع وستين، وله من العمر سبع وستون سنة فيما قيل.


 (12) نهاية الحجَّاج بن يوسف الثَّقَفيّ

ترجمتُه:

هو الحجَّاج بن يوسف بن أبي عقيل بن مسعود بن عامر بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثَقيف، وهو قسي بن منبه بن بكر بن هوازن، أبو محمد الثَّقَفيّ، سمع ابنَ عبَّاس وروى عن أنس وسمرة بن جندب وعبد الملك بن مروان وأبي بردة بن أبي موسى، وروى عنه أنس بن مالك، وثابت البنانيّ، وحميد الطَّويل، ومالك بن دينار، وجواد بن مجالد، وقتيبة بن مسلم، وسعيد بن أبي عروبة. قاله ابن عساكر، قال: وكانت له بدمشق دورٌ منها دارُ الرِّواية بقرب قصر ابن أبي الحديد.

 وولَّاه عبد الملك بن مروان الحجازَ فقتل ابن الزُّبير، ثم عزله عنها وولَّاه العراق، وقدم دمشق وافداً على عبد الملك، ثم روى من طريق المغيرة بن مسلم، سمعت أبي يقول: خطبنا الحجَّاجُ بن يوسف فذكر القبر، فما زال يقول: إنه بيت الوحدة، وبيت الغربة. حتى بكى وأبكى من حوله، ثم قال: سمعتُ أميرَ المؤمنين عبدَ الملك بن مروان يقول: سمعت مروان يقول في خطبته: خطبنا عثمان بن عفان فقال في خطبته: (ما نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قبر أو ذكره إلا بكى). وهذا الحديثُ له شاهدٌ في سنن أبي داود وغيره، وساق من طريق أحمد بن عبد الجبار: ثنا يسار عن جعفر عن مالك بن دينار قال: دخلت يوماً على الحجَّاج فقال لي: يا أبا يحيى، ألا أحدِّثُك بحديث حسن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقلت: بلى! فقال: حدَّثني أبو بردة عن أبي موسى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من كانت له إلى الله حاجة فليدع بها في دبر صلاة مفروضة». وهذا الحديث له شاهدٌ عن فضالة بن عبيد وغيره في السُّنن والمسانيد، والله أعلم.

قال الشَّافعيُّ: سمعت مَنْ يذكر أنَّ المغيرةَ بن شعبة دخل على امرأته وهي تتخلَّل- أي تخلل أسنانها لتخرج ما بينها من أذى- وكان ذلك في أوَّل النَّهار، فقال: والله لئن كنت باكرت الغذاء إنَّك لرعينة دنيَّة، وإن كان الذي تخلِّلين منه شيء بقي في فيك من البارحة، إنَّك لقذرة. فطلَّقها، فقالت: والله ما كان شيء ممَّا ذكرت؛ ولكنَّني باكرت ما تباكره الحرة من السِّواك، فبَقيَتْ شظيةٌ في فمي منه، فحاولتُها لأخرجها. فقال المغيرةُ ليوسف أبي الحجاج: تَزَوَّجْها؛ فإنَّها الخليقة بأن تأتي برجل يسود. فَتَزَوَّجَها يوسف أبو الحجَّاج. قال الشَّافعيُّ: فأخبرت أنَّ أبا الحجَّاج لما بنى بها واقعها فنام فقيل له في النوم: ما أسرع ما ألحقت بالمبير.

قال ابن خلِّكان: واسم أمِّه الفارعة بنت همام بن عروة بن مسعود الثَّقَفيّ، وكان زوجُها الحارثَ بن كلّدة الثَّقَفيّ طبيب العرب، وذكر عنه هذه الحكاية في السِّواك. وذكر صاحب العقد أنَّ الحجَّاجَ كان هو وأبوه يُعَلِّمان الغلمان بالطَّائف، ثم قدم دمشق، فكان عند روح بن زنباع وزير عبد الملك، فشكا عبدُ الملك إلى روح أنَّ الجيشَ لا ينـزلون لنـزوله ولا يرحلون لرحيله، فقال روح: عندي رجل توليه ذلك. فولَّى عبدُ الملك الحجَّاجَ أمرَ الجيش، فكان لا يتأخَّر أحد في النـُّزول والرَّحيل، حتى اجتاز إلى فسطاط روح بن زنباع وهم يأكلون فضربهم وطوف بهم وأحرق الفسطاط، فشكا روح ذلك إلى عبد الملك، فقال للحجّاج: لم صنعت هذا؟ فقال: لم أفعله؛ إنَّما فعله أنت؛ فإن يدي يدُك، وسوطي سوطُك، وما ضرَّكَ إذا أعطيت روحاً فسطاطين بدل فسطاطه، وبدل الغلام غلامين، ولا تكسرني في الذي ولَّيتَني؟ ففعل ذلك وتقدَّم الحجَّاجُ عنده. قال: وبنى واسط في سنة أربع وثمانين، وفرغ في سنة ستٍّ وثمانين، وقيل قبل ذلك؛ قال: وفي أيَّامه نُقطت المصاحف، وذكر في حكايته ما يَدُلُّ أنَّه كان أوَّلاً يُسمَّى كليباً، ثم سُمِّي الحجَّاج، وذكر أنَّه ولد ولا مخرج له حتى فتق له مخرج، وأنه لم يرتضع أيَّاماً حتَّى سقوه دم جدي ثم دم سالح([47]) ولطخ وجهَه بدمه فارتضع، وكانت فيه شهامة وحبٌّ لسَفك الدِّماء؛ لأنَّه أول ما ارتضع ذلك الدم الذي لطخ به وجهه، ويقال: إنَّ أمَّه هي المتمنِّية لنصر بن حجَّاج بن علاط. وقيل: إنها أمُّ أبيه. والله أعلم.

 وكانت فيه شهامةٌ عظيمةٌ، وفي سيفه رهق([48])، وكان كثيرَ قتل النُّفوس التي حرَّمها الله بأدنى شبهة، وكان يغضب غضبَ الملوك، وكان فيما يزعم يتشبَّه بزياد بن أبيه، وكان زياد يتشبَّه بعمر بن الخطاب فيما يزعم أيضاً، ولا سواء ولا قريب.

 وقد ذكر ابنُ عساكر في ترجمة سليم بن عنـز التجيبي قاضي مصر، وكان من كبار التابعين، وكان ممَّن شهد خطبةَ عمر بن الخطاب بالجابية، وكان من الزَّهادة والعبادة على جانب عظيم، وكان يختم القرآن في كلِّ ليلة ثلاث ختمات في الصلاة وغيرها.

والمقصودُ أنَّ الحجَّاجَ كان مع أبيه بمصر في جامعها فاجتار بهما سليم بن عنـز هذا، فنهض إليه أبو الحجَّاج فسلَّم عليه، وقال له: إنِّي ذاهب إلى أمير المؤمنين، فهل من حاجة لك عنده؟ قال: نعم؛ تسأله أن يعزلني عن القضاء. فقال: سبحان الله! والله لا أعلم قاضياً اليوم خيراً منك. ثم رجع إلى ابنه الحجَّاج، فقال له ابنه: يا أبت أتقوم إلى رجل من تجيب وأنت ثقفي؟ فقال له: يا بُني، والله إنِّي لأحسب أنَّ النَّاسَ يُرحمون بهذا وأمثاله. فقال: والله ما على أمير المؤمنين أضرُّ من هذا وأمثاله، فقال: ولم يا بني؟ قال: لأنَّّ هذا وأمثاله يجتمع الناس إليهم فيحدِّثونهم عن سيرة أبي بكر وعمر، فيحقر الناس سيرة أمير المؤمنين ولا يرونها شيئاً عند سيرتهما فيخلعونه ويخرجون عليه ويبغضونه، ولا يرون طاعتَه، والله لو خلص لي من الأمر شيءٌ لأضربنَّ عنقَ هذا وأمثاله. فقال له أبوه: يا بني، والله إنِّي لأظنُّ أنَّ الله - عز وجل - خلقك شقيًّا. وهذا يدلُّ على أنَّ أباه كان ذا وجاهة عند الخليفة، وأنَّه كان ذا فراسة صحيحة؛ فإنَّه تفرَّس([49]) في ابنه ما آل إليه أمرُه بعد ذلك.

قالوا: وكان مولدُ الحجَّاج في سنة تسع وثلاثين. وقيل: في سنة أربعين. وقيل: في سنة إحدى وأربعين. ثم نشأ شابًّا لبيباً فصيحاً بليغاً حافظاً للقرآن، قال بعض السلف: كان الحجَّاجُ يقرأ القرآنَ كلَّ ليلة. وقال أبو عمرو بن العلاء: ما رأيتُ أفصحَ منه ومن الحسن البصريّ. وكان الحسن أفصحَ منه.

 وقال الدارقطني: ذكر سليمان بن أبي منيح عن صالح بن سليمان قال: قال عقبة بن عمرو: ما رأيتُ عقول الناس إلا قريباً بعضها من بعض؛ إلَّا الحجَّاج وإياس بن معاوية؛ فإنَّ عقولَهما كانت ترجح على عقول النَّاس.

 ومعلوم أنَّ عبدَ الملك لما قتل مصعب بن الزُّبير سنة ثلاث وسبعين بعث الحجَّاج إلى أخيه عبد الله بمكَّة فحاصره بها وأقام للنَّاس الحجَّ عامئذ، ولم يتمكَّن ومن معه من الطَّواف بالبيت، ولا تمكَّن ابنُ الزُّبير ومَن عندَه من الوقوف، ولم يزل محاصرَه حتى ظفر به في جمادى سنة ثلاث وسبعين، ثم استنابه عبد الملك على مكة والمدينة والطائف واليمن، ثم نقله إلى العراق بعد موت أخيه بشهر، فدخل الكوفة، وأقام بين ظهرانيهم عشرين سنةً كاملةً، وفتح فيها فتوحات كثيرة هائلة منتشرة، حتى وصلت خيولُه إلى بلاد الهند والسِّند، ففتح فيها جملة مدن وأقاليم، ووصلت خيولُه أيضاً إلى قريب من بلاد الصِّين، ونحن نورد هنا أشياء أُخَر ممَّا وقع له من الأمور والجراءة والإقدام والتَّهاون في الأمور العظام؛ مما يُمْدَحُ على مثله وممَّا يُذَمُّ بقوله وفعله، ممَّا ساقه الحافظُ ابنُ عساكر وغيرُه:

فروى أبو بكر بن أبي خيثمة عن يحيى بن أيُّوب عن عبد الله بن كثير ابن أخي إسماعيل بن جعفر المديني ما معناه أنَّ الحجَّاجَ بن يوسف صلَّى مرَّةً بجنب سعيد بن المسيب– وذلك قبل أن يلي شيئا- فجعل يرفع قبلَ الإمام ويقع قبلَه في السُّجود؛ فلمَّا سلم أخذ سعيد بطرف ردائه– وكان له ذكر يقوله بعد الصلاة- فما زال الحجَّاجُ ينازعه رداءَه حتى قضى سعيد ذكره، ثم أقبل عليه سعيد فقال له: يا سارق يا خائن؛ تصلِّي هذه الصَّلاة؛ لقد هممتُ أن أضربَ بهذا النَّعْل وجهَك. فلم يَرُدَّ عليه، ثمَّ مضى الحجَّاجُ إلى الحَجِّ، ثم رجع فعاد إلى الشام، ثم جاء نائباً على الحجاز.

 فلما قُتل ابنُ الزُّبير كَرَّ راجعاً إلى المدينة نائباً عليها؛ فلمَّا دخل المسجد إذا مجلس سعيد بن المسيَّب، فقصده الحجَّاج، فخشي النَّاس على سعيد منه، فجاء حتى جلس بين يديه فقال له: أنت صاحب الكلمات؟ فضرب سعيد صدرَه بيده وقال: نعم! قال: فجزاك الله من معلم ومؤدِّب خيراً؛ ما صلَّيْتُ بعدَك صلاةً إلا وأنا أذكر قولك. ثم قام ومضى.

 وروى الرياشيُّ عن الأصمعيّ وأبي زيد عن معاذ بن العلاء– أخي أبي عمرو بن العلاء- قال: لما قتل الحجَّاج ابنَ الزُّبير ارتجَّتْ مكة بالبكاء، فأمر الناس فجمعوا في المسجد ثم صعد المنبر فقال بعد حمد الله والثناء عليه: يا أهل مكة! بلغني إكبارُكم قتلَ ابن الزبير، ألا وإنَّ ابنَ الزُّبير كان من خيار هذه الأمَّة، حتى رغب في الخلافة ونازع فيها أهلها، فنـزع طاعة الله واستكن([50]) بحرم الله، ولو كان شيء مانعَ العصاة لمنعت آدم حرمة الله، إن الله خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وأباح له كرامته، وأسكنه جنَّتَه، فلما أخطأ أخرجه من الجنة بخطيئته، وآدم أكرم على الله من ابن الزبير، والجنةُ أعظم حرمةً من الكعبة، اذكروا الله يذكركم.

وقال الإمام أحمد: حدَّثنا إسحاق بن يوسف ثنا عون عن أبي الصِّدِّيق النَّاجي أنَّ الحجَّاجَ دخل على أسماء بنت أبي بكر بعدما قتل ابنها عبد الله فقال: إنَّ ابنَك ألحد في هذا البيت، وإن الله أذاقه من عذاب أليم، وفعل. فقالت: كذبت، كان بَرًّا بوالديه، صَوَّاماً قوَّاماً، والله لقد أخبرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه «يخرج من ثقيف كذَّابان الآخر منهما شر من الأول، وهو مبير»([51]).

 ورواه أبو يعلى عن وهب بن بقية عن خالد عن عون عن أبي الصِّدِّيق قال: بلغني أنَّ الحجَّاجَ دخل على أسماء فذكر مثله، وقال أبو يعلى: ثنا زهير، ثنا جرير عن يزيد بن أبي زياد، عن قيس بن الأحنف، عن أسماء بنت أبي بكر قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المثلة، وسمعتُه يقول: «يخرج من ثقيف رجلان كذاب ومبير». قالت: فقلت للحجَّاج: أمَّا الكذَّاب فقد رأيناه، وأما المبير فأنت هو يا حجَّاج.

 وقال عبيد بن حميد: أنبأ يزيد بن هارون أنبأ العوَّام بن حوشب حدَّثَني من سمع أسماء بنت أبي بكر الصِّدِّيق تقول للحجَّاج حين دخل عليها يعزِّيها في ابنها: سمعت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يخرج من ثقيف رجلان مبير وكذَّاب». فأمَّا الكذَّاب فابن أبي عبيد– تعني المختار- وأمَّا المبير فأنت.

 وقد رواه غير أسماء عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال أبو يعلى: ثنا أحمد بن عمر الوكيعيّ، ثنا وكيع، حدثنا أم عراب عن امرأة يقال لها عقيلة، عن سلامة بنت الحر قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «في ثقيف كذاب ومبير». تفرَّدَ به أبو يعلى، وقد روى الإمام أحمد عن وكيع عن أم عراب– واسمها طلحة- عن عقيلة عن سلامة حديثاً آخر في الصلاة، وأخرجه أبو داود وابن ماجه، وروي من حديث ابن عمر، فقال أبو يعلى: ثنا أمية بن بطام، ثنا يزيد بن ربيع، ثنا إسرائيل، ثنا عبد الله بن عصمة، قال: سمعت ابن عمر «أنبأنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّ في ثقيف مبيراً وكذَّاباً». وأخرجه التِّرمذيُّ من حديث شريك عن عبد الله بن عاصم ويقال عصمة، وقال: حسن غريب لا نعرفه إلَّا من حديث شريك.

وقال الشَّافعيُّ: ثنا مسلم بن خالد عن ابن جريج عن نافع أنَّ ابن عمر اعتزل ليالي قتال ابن الزُّبير والحجَّاج بمنى؛ فكان لا يصلِّي مع الحجَّاج، وقال الثَّوريُّ عن محمد بن المنكدر عن جابر أنَّه دخل على الحجَّاج فلم يسلِّم عليه ولم يكن يصلِّي وراءَه.

 وقال إسحاق بن راهويَّة: أنبأ جرير عن القعقاع بن الصَّلت قال: خطب الحجَّاج فقال: إنَّ ابنَ الزُّبير غيَّر كتابَ الله، فقال ابنُ عمر: ما سَلَّطَه الله على ذلك، ولا أنت معه، ولو شئت أقول: كذبت. لفعلت.

 وروي عن شهر بن حوشب وغيره أنَّ الحجَّاج أطال الخطبة فجعل ابن عمر يقول: الصلاة الصلاة. مرارا، ثم قام فأقام الصَّلاة فقام النَّاس، فصلَّى الحجَّاج بالنَّاس، فلما انصرف قال لابن عمر: ما حملك على ذلك؟ فقال: إنَّما نجيء للصَّلاة فصل الصلاة لوقتها ثم تفتق([52]) ما شئت بعد من تفتقه.

وقال الأصمعيُّ: سمعت عمِّي يقول: بلغني أنَّ الحجَّاجَ لما فرغ من ابن الزُّبَير وقدم المدينة لقي شيخاً خارجاً من المدينة فسأله عن حال أهل المدينة، فقال: بشرِّ حال؛ قتل ابن حواريّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال الحجَّاج: ومَن قتله؟ فقال: الفاجر اللعين الحجاج عليه لعائن([53]) الله وتهلكته، من قليل المراقبة لله. فغضب الحجاج غضباً شديداً ثم قال: أيها الشيخ! أتعرف الحجاج إذا رأيته؟ قال: نعم! فلا عرفه الله خيراً ولا وقاه ضراً. فكشف الحجاجُ عن لثامه وقال: ستعلم أيها الشيخ الآن إذا سال دمك الساعة. فلما تحقق الشيخ الجد قال: والله إن هذا لهو العجب يا حجاج، لو كنت تعرفني ما قلت هذه المقالة. أنا العباس بن أبي داود، أصرع كل يوم خمس مرات، فقال الحجاج: انطلق فلا شفى الله الأبعد من جنونه ولا عافاه.


مقتل سعيد بن جبير- رحمه الله- على يد الحجاج ثم نهايته بعده:

قال ابن جرير: وفي سنة 94هـ قتل الحجّاج بن يوسف سعيد بن جبير، وكان سبب ذلك أنَّ الحجَّاجَ كان قد جعله على نفقات الجند حين بَعَثَه مع ابن الأشعث إلى قتال رتبيل ملك التُّرك، فلما خلعه ابنُ الأشعث خلع معه سيد بن جبير، فلما ظفر الحجَّاجُ بابن الأشعث وأصحابه هرب سعيد بن جبير إلى أصبهان، فكتب الحجَّاج إلى نائبها أن يبعثه إليه، فلما سمع بذلك سعيد هرب منها، ثم كان يعتمر في كل سنة ويحج، ثم إنَّه لجأ إلى مكة فأقام بها إلى أن وليها خالد بن عبد الله القسري، فأشار من أشار على سعيد بالهرب منها، فقال سعيد: والله لقد استحْيَيْتُ من الله؛ ممَّ أفر ولا مفرَّ من قَدَره؟ وتولى على المدينة عثمان بن حيَّان بدل عمر بن عبد العزيز، فجعل يبعث مَنْ بالمدينة من أصحاب ابن الأشعث من العراق إلى الحجَّاج في القيود، فتعلم منه خالد القسري فعين من عنده من مكة سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد بن جبر، وعمرو بن دينار، وطلق بن حبيب.

 ويقال: إنَّ الحجَّاجَ أرسل إلى الوليد يخبره أن بمكة أقواما من أهل الشقاق، فبعث خالد بهؤلاء إليه ثم عفا عن عطاء وعمرو بن دينار؛ لأنَّهما من أهل مكَّة، وبعث بأولئك الثَّلاثة؛ فأما طلق فمات في الطريق قبل أن يصل، وأما مجاهد فحبس فما زال في السِّجن حتى مات الحجَّاج، وأما سعيد بن جبير فلما أوقف بين يدي الحجَّاج قال له: يا عيد ألم أشركك في أمانتي! ألم أستعملك، أفلم أفعل، ألم أفعل؟ كلُّ ذلك يقول: نعم. حتى ظن من عنده أنه سيخلِّي سبيله، حتى قال له: فما حملك على الخروج عليّ وخلعت بيعة أمير المؤمنين؟ قال سعيد: إنَّ ابنَ الأشعث أخذ منِّي البيعةَ على ذلك وعزم عليّ. فغضب عند ذلك الحجَّاج غضباً شديداً وانتفخ حتى سقط طرف ردائه عن منكبه، وقال له: ويحك ألم أقدم مكة فقتلتُ ابنَ الزُّبَيْر وأخذتُ بيعةَ أهلها وأخذتُ بيعتَك لأمير المؤمنين عبد الملك؟ قال: بلى. قال: ثم قدمتُ الكوفةَ والياً على العراق فجدَّدتُ لأمير المؤمنين البيعةَ فأخذت بيعتَك له ثانيةً؟ قال: بلى! قال فتنكث([54]) بيعتين لأمير المؤمنين وتفي بواحدة للحائك ابن الحائك؟ يا حرسي اضرب عنقه. قال: فضربت عنقه فبدر رأسه عليه لاطئة صغيرة بيضاء. وقد ذكر الواقدي نحو هذا، وقال: أما أعطيك مائة ألف؟ أما فعلت أما فعلت.

قال ابن جرير: فحدثت عن أبي غسان مالك بن إسماعيل قال: سمعت خلف بن خليفة يذكر عن رجل قال: لما قتل الحجّاج سعيد بن جبير فندر رأسه هلَّلَ ثلاثاً؛ مرة يفصح بها، وفي الاثنتين يقول مثل ذلك لا يفصح بها.

 وذكر أبو بكر الباهليُّ قال: سمعت أنسَ بن أبي شيخ يقول: لما أتى الحجَّاجُ بسعيد بن جبير قال: لعن ابن النَّصرانية– يعني خالد القسري، وكان هو الذي أرسل به من مكة- أما كنت أعرف مكانه؛ بلى والله والبيت الذي هو فيه بمكة. ثم أقبل عليه فقال: يا سعيد ما أخرجك عليَّ؟ فقال: أصلح الله الأمير؛ أنا امرؤ من المسلمين يخطئ مرة ويصيب أخرى. فطابت نفسُ الحجَّاج وانطلق وجهه، ورجا الحجَّاج أن يتخلَّصَ من أمره، ثم عاوده في شيء فقال سعيد: إنَّما كانت بيعة في عنقي. فغضب عند ذلك الحجاج فكان ما كان من قتله. وذكر عتاب بن بشر عن سالم الأفطس قال: أتى الحجَّاج بسعيد بن جبير وهو يريد الرُّكوبَ وقد وضع إحدى رجليه في الغرز، فقال: والله لا أركب حتى تتبوأَ مقعدَك من النَّار، اضربوا عنقَه. فضربت عنقه، قال: والتبس الحجَّاج في عقله مكانه، فجعل يقول: قيودنا قيودنا. فظنوا أنه يريد القيود التي على سعيد، فقطعوا رجليه من أنصاف ساقيه وأخذوا القيود.

وقال محمد بن أبي حاتم: ثنا عبد الملك بن عبد الله بن خباب، قال: جيء بسعيد بن جبير إلى الحجَّاج فقال: كتبت إلى مصعب بن الزُّبير؟ فقال: بل كتبت إلى مصعب. قال: لا والله لأقتلنَّك. قال: إنِّي إذاً لسعيد كما سمَّتْني أمي. قال: فقتله، فلم يلبث الحجَّاج بعده إلا أربعين يوماً، وكان إذا نام يراه في المنام يأخذ بمجامع ثوبه ويقول: يا عدوَّ الله فيم قتلتني؟ فيقول الحجاج: مالي ولسعيد بن جبير، مالي ولسعيد بن جبير؟

 وقد ذكر أنَّ سعيدا قُتل في شعبان، وأن الحجاج مات بعده في رمضان، وقيل قبله بستة أشهر. وذكر عن الإمام أحمد أنه قال: قتل سعيد بن جبير وما على وجه الأرض أحد إلا وهو محتاج– أو قال مفتقر- إلى علمه. ويقال: إنَّ الحجَّاجَ لم يسلط بعده على أحد.

تتمة: قال الذهبيُّ في سير أعلام النُّبَلاء (4/343) عند ترجمته للحجَّاج: "أهلكه اللهُ في رمضان سنة خمس وتسعين كهلاً، وكان ظلوما جبَّارا ناصبيا، خبيثا، سفَّاكا للدِّماء". وذكر في (4/340) في ترجمة سعيد بن جبير أنَّ الحجَّاجَ وجد سعيداً في الكعبة وناساً منهم طلق بن حبيب، فسار بهم إلى العراق فقتلهم عن غير شيء تعلَّق عليهم به إلا العبادة، فلمَّا قتل سعيد بن جبير خرج منه دم كثير حتى راع الحجَّاج، فدعا طبيباً قال له: ما بال دم هذا كثير؟ فقال: إن أمنتني أخبرتك، فأمنه، قال: قتلته ونفسه معه. اهـ.


 (13) نهايةُ الخليفة الأمويّ الوليد بن يزيد بن عبد الملك

ترجمته:

هو الوليد بن يزيد عبد الملك بن مروان بن الحكم أبو العبَّاس الأمويّ الدمشقيّ؛ بويع له بالخلافة بعد عمِّه هشام بن عبد الملك يوم الأربعاء لستٍّ خَلَوْنَ من ربيع الآخر سنة 125هـ، وأمُّه أمُّ الحجَّاج بنت محمد بن يوسف الثَّقَفيّ، وكان مولدُه سنة تسعين، وقيل ثنتين وتسعين، وقيل سبع وثمانين، وقتل يوم الخميس لليلتين بقيتا في جمادى الآخرة سنةَ ستٍّ وعشرين ومائة، ووقعت بسبب ذلك فتنة عظيمة بين الناس بسبب قتله، ومع ذلك إنَّما قُتل لفسقه، وقيل: وزندقته.

 وقد قال الإمامُ أحمد: حدَّثنا أبو المغيرة، ثنا ابن عيَّاش، حدَّثَني الأوزاعيُّ وغيرُه عن الزُّهريِّ عن سعيد بن المسيَّب عن عمرو بن الخطَّاب قال: ولد لأخي أم سلمة زوج النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - غلام فسمَّوه الوليد، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «سميتموه باسم فراعينكم، ليكونن في هذه الأمة رجل يقال له الوليد، لهو أشد فسادا لهذه الأمة من فرعون لقومه». قال الحافظ ابن عساكر: وقد رواه الوليد بن مسلم ومعقل بن زياد محمد بن كثير وبشر بن بكر عن الأوزاعيِّ فلم يذكروا عمر في إسناده وأرسلوه، ولم يذكر ابن كثير سعيد بن المسيَّب، ثم ساق طرقه هذه كلَّها بأسانيدها وألفاظها.

 وحكي عن البيهقيِّ أنَّه قال: هو مرسَلٌ حسنٌ، ثم ساق من طريق محمد عن محمد بن عمر بن عطاء عن زينب بنت أمِّ سلمة عن أمِّها قالت: "دخل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وعندي غلام من آل المغيرة اسمه الوليد، فقال: «من هذا يا أمَّ سلمة؟» قالت: هذا الوليد. فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «قد اتَّخذتم الوليد خناناً- حساناً- غَيِّروا اسمَه؛ فإنَّه سيكون في هذه الأمة فرعون يقال له الوليد». وروى ابنُ عساكر من حديث عبد الله بن محمد بن مسلم، ثنا محمد بن غالب الأنطاكيّ، ثنا محمد بن سليمان بن أبي داود، ثنا صدقة، عن هشام بن الغاز، عن مكحول، عن أبي ثعلبة الخشني، عن أبي عبيدة بن الجراح، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يزال هذا الأمر قائما بالقسط حتى يثلمه رجل من بني أمية».

نهايةُ وزوالُ دَوْلَته:

كان هذا الرجلُ مجاهراً بالفواحش مُصرًّا عليها، منتهكاً محارمَ الله– عزَّ وجلَّ- لا يتحاشى من معصية، وربَّما اتَّهمه بعضُهم بالزَّندقة والانحلال من الدِّين، فالله أعلم؛ لكن الذي يظهر أنَّه كان عاصياً شاعراً ماجناً متعاطياً للمعاصي، لا يتحاشاها من أحد، ولا يستحيي من أحد، قبل أن يلي الخلافة وبعد أن ولي.

 وقد روي أنَّ أخاه سليمان كان من جملة مَن سعى في قتله، قال: أشهد أنَّه كان شروباً للخمر ماجناً فاسقاً، ولقد أرادني على نفسي الفاسق، وحكى المعافي بن زكريا عن ابن دريد عن أبي حاتم عن النَّبيِّ أنَّ الوليدَ بن يزيد نَظَرَ إلى نصرانيَّة من حسان نساء النَّصارى اسمها سفري فأحبَّها، فبعث يراودها عن نفسها فأبت عليه، فألحَّ عليها وعشقها فلم تطاوعه، فاتَّفق اجتماع النصارى في بعض كنائسهم لعيد لهم، فذهب الوليد إلى بستان هناك فتنكَّر وأظهر أنه مصاب، فخرج النساء من الكنيسة إلى ذلك البستان، فرأينه فأحدقن به، فجعل يكلِّم سفري ويحادثها وتضاحكه ولا تعرفه، حتى اشتفى من النظر إليها، فلما انصرفت قيل لها: ويحكم، أتدرين مَنْ هذا الرَّجل؟ فقالت: لا! فقيل لها: هو الوليد. فلما تحقَّقَتْ ذلك حنَّت عليه بعد ذلك، وكانت عليه أحرص منه عليها قبل أن تحنَّ عليه. فقال الوليد في ذلك أبياتاً:

أضحك فؤادك يا وليد عميدا

صبا قديما للحسان صيودا([55])

في حب واضحة العوارض طفلة([56])

برزت لنا نحو الكنيسة عيدا

عود الصليب فويح نفسي من رأى

منكم صليبا مثله معبودا

فسألت ربي أن أكون مكانه

وأكون في لهب الجحيم وقودا

وقال فيها أيضا لما ظهر أمره وعلم بحاله الناس. وقيل: إنَّ هذا وقع قبل أن يلي الخلافة:

ألا حبذا سفري وإن قيل إنني

كلفت بنصرانية تشرب الخمرا

يهون علينا أن تظل نهارنا

إلى الليل لا ظهرا تصلي ولا عصرا

قال القاضي أبو الفرج المعافي بن زكريا الجريري المعروف بابن طرار النهزواني بعد إيراده هذه الأشياء: للوليد في نحو هذا من الخلاعة والمجون وسخافة الدين ما يطول ذكره، وقد ناقضاه في أشياء من منظوم شعره المتضمِّن ركيكَ ضلاله وكفره.

 وروى ابن عساكر بسنده أنَّ الوليد سمع بخمار صلف بالحيرة فقصده حتى شرب منه ثلاثة أرطال من الخمر، وهو راكب على فرسه، ومعه اثنان من أصحابه، فلما انصرف أمر للخمَّار بخمسمائة دينار، وقال القاضي أبو الفرج: أخبار الوليد كثيرة قد جمعها الأخباريُّون مجموعةً ومفردةً، وقد جمعت شيئاً من سيرته وأخباره، ومن شعره الذي ضمنه ما فجر به من جرأته وسفاهته وحمقه وهزله ومجونه وسخافة دينه، وما صرَّح به من الإلحاد في القرآن العزيز، والكفر بمن أنزله وأُنْزل عليه، وقد عارضتُ شعرَه السَّخيفَ بشعر حصيف([57])، وباطله بحق نبيه شريف، وترجيت رضاء الله عز وجل واستيجاب مغفرته.

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: ثنا سليمان بن أبي شيخ، ثنا صالح بن سليمان، قال: أراد الوليدُ بن يزيد الحجَّ وقال: أشرب فوقَ ظهر الكعبة الخمر. فهمُّوا أن يَفْتكوا به إذا خرج، فجاؤوا إلى خالد بن عبد الله القسريّ فسألوه أن يكون معهم فأبى، فقالوا له: فاكتم علينا، فقال: أما هذا فنعم. فجاء إلى الوليد فقال: لا تخرج؛ فإني أخاف عليك. فقال: ومن هؤلاء الذين تخافهم عليَّ؟ قال: لا أخبرك بهم. قال: إن لم تخبرني بهم بعثتُ بك إلى يوسف بن عمر. قال: وإن بعثتَ بي إلى يوسف بن عمر. فبعثه إلى يوسف فعاقبه حتى قتله.

 وذكر ابنُ جرير أنَّه لما امتنع أن يعلمه بهم سجنه ثم سلَّمه إلى يوسف بن عمر يستخلص منه أموالَ العراق فقتله، وقد قيل: إنَّ يوسفَ لما وفد إلى الوليد اشترى منه خالد بن عبد الله القسري بخمسين ألف ألف يخلصها منه، فما زال يعاقبه ويستخلص منه حتى قتله، فغضب أهل اليمن من قتله، وخرجوا على الوليد.

قال الزُّبيرُ بن بكَّار: حدَّثنا مصعبُ بن عبد الله قال: سمعت أبي يقول: كنت عند المهدي، فذكر الوليد بن يزيد فقال رجل في المجلس: كان زنديقاً. فقال المهديُّ: خلافة الله عنده أجلُّ من أن يجعلها في زنديق. وقال أحمد بن عمير بن حوصاء الدِّمَشْقيّ: ثنا عبد الرحمن بن الحسن، ثنا الوليد بن مسلم، ثنا حصين بن الوليد عن الأزهريّ بن الوليد قال: سمعت أمَّ الدرداء تقول: إذا قتل الخليفة الشّاب من بني أمية بين الشّام والعراق مظلوماً لم يزل طاعة مستخفًّا بها ودماً مسفوكاً على وجه الأرض بغير حقٍّ.

 قال الإمام أبو جعفر بن جرير الطَّبريّ:

قتل يزيد بن الوليد الناقص للوليد بن يزيد:

قد ذكرنا بعض أمر الوليد بن يزيد وخلاعته ومجانته وفسقه وما ذكر عن تهاونه بالصَّلوات واستخفافه بأمر دينه قبل خلافته وبعدها؛ فإنَّه لم يزدد في الخلافة إلَّا شرًّا ولهواً ولذة وركوباً للصَّيد وشرب المسكر ومنادمة الفُسَّاق؛ فما زادتْه الخلافةُ على ما كان قبلها إلا تمادياً وغروراً، فثقل ذلك على الأمراء والرَّعية والجند، وكرهوه كراهة شديدة، وكان من أعظم ما جنى على نفسه حتى أورثه ذلك هلاكه، إفساده على نفسه بني عميه هشام والوليد بن عبد الملك مع إفساد اليمانية، وهي أعظم جند خراسان؛ وذلك أنَّه لما قتل خالد بن عبد الله القسري وسلمه إلى غريمه يوسف بن عمر الذي هو نائب العراق إذ ذاك فلم يزل يعاقبه حتى هلك، انقلبوا عليه وتنكَّروا له وساءهم قتلُه، ثم روى ابن جرير بسنده أنَّ الوليدَ بن يزيد ضرب ابنَ عمِّه سليمان بن هشام مائة سوطاً وحلق رأسَه ولحيتَه وغرَّبه إلى عمان فحبسه بها، فلم يزل هناك حتى قتل الوليد، وأخذ جارية كانت لآل عمِّه الوليد بن عبد الملك، فكلَّمه فيها عمر بن الوليد فقال: لا أردُّها. فقال: إذًا تكثر الصَّواهل([58]) حول عَسكرك. وحبس الأفقم يزيد بن هشام، وبايع لولديه الحكم وعثمان، وكانا دون البلوغ، فشقَّ ذلك على النَّاس أيضاً ونصحوه فلم ينتصح، ونهوه فلم يرتدع ولم يقبل.

قال المدائنيُّ في روايته: ثقل ذلك على الناس ورماه بنو هشام وبنو الوليد بالكفر والزندقة وغشيان أمهات أولاد أبيه، وباللُّواط وغيره، وقالوا: قد اتَّخذ مائة جامعة على كل جامعة اسم رجل من بني هاشم ليقتله بها، ورموه بالزَّندقة، وكان أشدهم فيه قولاً يزيد بن الوليد بن عبد الملك، وكان الناسُ إلى قوله أميل؛ لأنَّه أظهر النُّسك والتَّواضع، ويقول: ما يسعنا الرِّضا بالوليد حتى حمل الناس على الفتك به. قالوا: وانتدب للقيام عليه جماعة من قضاعة واليمانية وخلق من أعيان الأمراء وآل الوليد بن عبد الملك، وكان القائم بأعباء ذلك كلِّه والدَّاعي إليه يزيد بن الوليد بن عبد الملك، وهو من سادات بني أمية، وكان ينسب إلى الصَّلاح والدِّين والوَرَع، فبايعه الناس على ذلك.

 وقد نهاه أخوه العبَّاسُ بن الوليد فلم يقبل، فقال: والله لولا أنِّي أخاف عليك لقيَّدتُك وأرسلتُك إليه، واتَّفق خروج الناس من دمشق من وباء وقع بها، فكان ممَّن خرج الوليد بن يزيد أمير المؤمنين في طائفة من أصحابه نحو المائتين، إلى ناحية مشارف دمشق، فانتظم إلى يزيد بن الوليد أمره وجعل أخوه العباسُ ينهاه عن ذلك أشدَّ النَّهي، فلا يقبل، فقال العباس في ذلك:

إني أعيذكم بالله من فتن

مثل الجبار تسامى ثم تندفع

إن البرية قد ملت سياستكم

فاستمسكوا بعمود الدين وارتدعوا

لا تلحمن ذئاب الناس أنفسكم

إن الذئاب إذا ما ألحمت رتعوا([59])

لا تبقرن بأيدكم بطونكم

فثم لا حسرة تغني ولا جزع

فلما استوثق ليزيد بن الوليد أمرُه، وبايعه مَن بايعه من الناس، قصد دمشق فدخلها في غيبة الوليد، فبايعه أكثر أهلها في الليل، وبلغه أنَّ أهلَ المزة قد بايعوا كبيرهم معاوية بن مصاد، فمضى إليه يزيد ماشياً في نفر من أصحابه، فأصابهم في الطريق خطر شديد، فأتوه فطرقوا بابه ليلا ثم دخلوا، فكلمه يزيد في ذلك فبايعه معاوية بن مصاد، ثم رجع يزيد من ليلته إلى دمشق على طريق القناة وهو على حمار أسود، فحلف أصحابه أنه لا يدخل دمشق إلا في السلاح، فلبس سلاحا من تحت ثيابه فدخلها، وكان الوليد قد استناب على دمشق في غيبته عبد الملك بن محمد بن الحجَّاج بن يوسف الثَّقَفيّ، وعلى شرطتها أبا العاج كثير بن عبد الله السَّلَميّ، فلما كان ليلة الجمعة اجتمع أصحاب يزيد بين العشائين عند باب الفراديس، فلما أذن العشاء الآخرة دخلوا المسجد، فلما لم يبق في المسجد غيرهم، بعثوا إلى يزيد بن الوليد فجاءهم فقصدوا باب المقصورة ففتح لهم الخادم، فدخلوا فوجدوا أبا العاج وهو سكران، فأخذوا خزائن بيت المال وتسلَّموا الحواصل، وتقوَّوا بالأسلحة، وأمر يزيد بإغلاق أبواب البلد، وأن لا يفتح إلا لمن يعرف.

 فلما أصبح الناس قدم أهل الحواضر من كل جانب فدخلوا من سائر أبواب البلد، كل أهل محلة من الباب الذي يليهم، فكثرت الجيوش حول يزيد بن الوليد بن عبد الملك في نصرته، وكلهم قد بايعه بالخلافة.

 وقد قال فيه بعضُ الشعراء في ذلك:

فجاءتهم أنصارهم حين أصبحوا

سكاسكها أهل البيوت الصنادد([60])

وكلب فجاؤوهم بخيل وعدة

من البيض والأبدان ثم السواعد

فأكرم بها أحياء أنصار سنة

هم منعوا حرماتها كل جاحد

وجاءتهم شيبان والأزد شرعا

وعبس ولخم بين حام وذائد([61])

وغسان والحيان قيس وتغلب

وأحجم عنها كل وان([62]) وزاهد

فما أصبحوا إلا وهم أهل ملكها

قد استوثقوا من كل عات ومارد

وبعث يزيد بن الوليد عبد الرحمن بن مصاد في مائتي فارس إلى قطنا ليأتوه بعبد الملك بن محمَّد بن الحجَّاج نائب دمشق وله الأمان، وكان قد تحصَّن هناك، فدخلوا عليه فوجدوا عنده خرجين في كلِّ واحد منهما ثلاثون ألف دينارا، فلما مرُّوا بالمزة قال أصحاب ابن مصاد: خذ هذا المال؛ فهو خير من يزيد بن الوليد. فقال: لا والله لا تحدث العرب أني أول من خان. ثم أتوا به يزيد بن الوليد فاستخدم من ذلك المال جندا للقتال قريبا من ألفي فارس، وبعث به مع أخيه عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك خلف الوليد بن يزيد ليأتوا به، وركب بعض موالي الوليد فرسا سابقا فساق به حتى انتهى إلى مولاه من الليل، وقد نفق الفرس من السوق، فأخبره الخبر فلم يصدِّقه وأمر بضربه، ثم تواترت عليه الأخبار فأشار عليه بعض أصحابه أن يتحول من منـزله ذاك إلى حمص؛ فإنَّها حصينة.

 وقال الأبرش سعيد بن الوليد الكلبي: أنزل على قومي بتدمر، فأبى أن يقبل شيئا من ذلك؛ بل ركب بمن معه، وهو في مائتي فارس، وقصد أصحاب يزيد فالتقوا بثقلة في أثناء الطريق فأخذوه، وجاء الوليد فنـزل حصن البخراء الذي كان للنعمان بن بشير، وجاءه رسول العبَّاس بن الوليد: إني آتيك– وكان من أنصاره- فأمر الوليد بإبراز سريره فجلس عليه وقال: أعليّ يتوثب الرِّجال وأنا أثب على الأسد وأتخصَّر الأفاعي؟

 وقدم عبد العزيز بن الوليد بمن معه؛ وإنما كان قد خلص معه من الألفي فارس ثمانمائة فارس، فتصافُّوا فاقتتلوا قتالاً شديداً، فقتل من أصحاب العباس جماعة حملت رؤوسهم إلى الوليد، وقد كان جاء العباس بن الوليد لنصرة الوليد بن يزيد، فبعث إليه أخوه عبد العزيز فجيء به قهراً حتى بايع لأخيه يزيد بن الوليد، واجتمعوا على حرب الوليد بن يزيد، فلما رأى الناس اجتماعَهم فرُّوا من الوليد إليهم، وبقي الوليد في ذل وقل من الناس، فلجأ إلى الحصن فجاؤوا إليه وأحاطوا به من كلِّ جانب يحاصرونه، فدنا الوليد من باب الحصن فنادى: ليكلمني رجل شريف. فكلَّمه يزيد بن عنبسة السكسكي، فقال الوليد: ألم أدفع الموت عنكم؟ ألم أعط فقراءكم؟ ألم أخدم نساءكم؟ فقال يزيد: إنَّما تنقم عليك انتهاك المحارم وشرب الخمور ونكاح أمهات أولاد أبيك، واستخفافك بأمر الله عز وجل. فقال: حسبك يا أخا السكاسك؛ لقد أكثرت وأغرقت، وإن فيما أحل الله لي لسعة عما ذكرتَه. ثم قال: أما والله لئن قتلتموني لا ترتقن فتنتكم ولا يلم شعثكم([63]) ولا تجتمع كلمتكم.

 ورجع إلى القصر فجلس ووضع بين يديه مصحفا فنشره وأقبل يقرأ فيه وقال: يوم كيوم عثمان. واستسلم، وتسور عليه أولئك الحائط، فكان أول من نزل إليه يزيد بن عنبسة، فتقدم إليه وإلى جانبه سيف فقال: نحه عنك. فقال الوليد: لو أردت القتال به لكان غير هذا، فأخذ بيده وهو يريد أن يحسبه حتى يبعث به إلى يزيد بن الوليد، فبادره عليه عشرة من الأمراء، فأقبلوا على الوليد يضربونه على رأسه ووجهه بالسيوف حتى قتلوه، ثم جروه برجله ليخرجوه، فصاحت النسوة فتركوه، واحتز أبو علاقة القضاعي رأسه، واحتاطوا على ما كان معه مما كان خرج به في وجهه ذلك، وبعثوا به إلى يزيد مع عشرة نفر، منهم منصور بن جمهور وروح بن مقبل وبشر مولى كنانة من بني كلب، وعبد الرحمن الملقب بوجه الفلس، فلما انتهوا إليه بشَّروه بقتل الوليد وسلَّموا عليه بالخلافة، فأطلق لكل رجل من العشرة عشرةَ آلاف، فقال له روح بن بشر بن مقبل: أبشر يا أمير المؤمنين بقتل الوليد الفاسق. فسجد شكراً لله ورجعت الجيوش إلى يزيد، فكان أول من أخذ يدَه للمبايعة يزيد بن عنبسة السكسكي فانتزع يده من يده وقال: اللهمَّ إن كان هذا رضى لك فأعنِّي عليه.

 وكان قد جعل لمن جاءه برأس الوليد مائة ألف درهم، فلما جيء به –وكان ذلك ليلة الجمعة، وقيل يوم الأربعاء- لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة. فأمر يزيد بنصب رأسه على رمح وأن يطاف به في البلد، فقيل له: إنما ينصب رأس الخارجي. فقال: والله لأنصبنه. فشهره في البلد على رمح ثم أودعه عند رجل شهرا ثم بعث به إلى أخيه سليمان بن يزيد، فقال أخوه: بعدا له، أشهد أنك كنت شروبا للخمر ماجنا فاسقا، ولقد أرادني على نفسي هذا الفاسق وأنا أخوه، لم يأنف من ذلك.

 وقد قيل: إنَّ رأسَه لم يزل معلَّقاً بحائط جامع دمشق الشَّرقيِّ ممَّا يلي الصحن حتى انقضت دولة بني أمية. وقيل: إنما كان ذلك أثر دمه، وكان عمره يوم قتل ستًّا وثلاثين سنة، وقيل ثمانيا وثلاثين، وقيل إحدى وثلاثين، وقيل اثنتان، وقيل خمس، وقيل ست وأربعون سنة، ومدة ولايته سنة وستة أشهر على الأَشْهَر، وقيل ثلاثة أشهر.

 قال ابن جرير: كان شديدَ البطش طويلَ أصابع الرجلين، كانت تضرب له سكة الحديد في الأرض ويربط فيها خيط إلى رجله ثم يثب على الفرس فيركبها ولا يمس الفرس، فتنقلع تلك السكة من الأرض مع وثبته.


 (14) نهاية القرمطي الخبيث زكرويه بن مهرويه

في المحرَّم من سنة 294هـ اعترض زكرويه([64]) في أصحابه إلى الحُجَّاج من أهل خراسان وهم قافلون من مكة فقتلهم عن آخرهم وأخذ أموالهم وسبى نساءهم، فكان قيمة ما أخذه منهم ألفي ألف دينار، وعدة من قتل عشرين ألف إنسان، وكانت نساء القرامطة يطفن بين القتلى من الحُجَّاج وفي أيديهم الآنية من الماء يزعمن أنهن يسقين الجريح العطشان، فمن كلمهن من الجرحى قتلنه وأجهزن عليه، لعنهن الله ولعن أزواجهن.

ذكر مقتل زكرويه:

لما علم الخليفة العباسيُّ المكتفي بالله بخبر الحجيج وما أوقع بهم الخبيث جهز إليه جيشا كثيفا فالتقوا معه فاقتتلوا قتالا شديدا جدا، قتل من القرامطة خلق كثير ولم يبق منهم إلا القليل، وذلك في أول ربيع الأول منها، وضرب رجل زكرويه بالسيف في رأسه فوصلت الضربة إلى دماغه، وأخذ أسيرا فمات بعد خمسة أيام، فشقوا بطنه وصبروه وحملوه في جماعة من رؤوس أصحابه إلى بغداد، واحتوى عسكر الخليفة على ما كان بأيدي القرامطة من الأموال والحواصل، وأمر الخليفة بقتل أصحاب القرمطي، وأن يُطاف برأسه في سائر بلاد خراسان؛ لئلا يمتنع الناس عن الحج، وأطلق من كان بأيدي القرامطة من النساء والصبيان الذين أسرهم.

وفيها غزا أحمد بن كنغلغ نائب دمشق بلاد الروم من ناحية طرسوس فقتل منهم نحوا من أربعة آلاف وأسر من ذراريهم نحوا من خمسين ألفا، وأسلم بعض البطارقة وصحبته نحو من مائتي أسير كانوا في حبسه من المسلمين، فأرسل ملك الروم جيشا في طلب ذلك البطريق، فركب في جماعة من المسلمين فكبس جيش الروم فقتل منهم مقتلة عظيمة وغنم منهم غنيمة كثيرة جدا، ولما قدم على الخليفة أكرمه وأحسن إليه وأعطاه ما تمناه عليه. وفيها ظهر بالشام رجل فادعى أنه السفياني فأخذ وبعث به إلى بغداد فادعى أنه موسوس فترك، وحج بالناس الفضل بن عبد الملك الهاشمي.


 (15) نهاية الحسين بن منصور الحلاج

قال ابن كثير: وفي سنة 309هـ كان مقتل الحسين بن منصور الحلاج، ولنذكر شيئا من ترجمته وسيرته، وكيفية قتله على وجه الإيجاز وبيان المقصود بطريق الإنصاف والعدل، من غير تحمل ولا هوى ولا جور.

ترجمة الحلاج:

ونحن نعوذ بالله أن نقول عليه ما لم يكن قاله، أو نتحمل عليه في أقواله وأفعاله، فنقول: هو الحسين بن منصور بن محمى الحلاج أبو مغيث، ويقال أبو عبد الله، كان جده مجوسيا محمى من أهل فارس من بلدة يقال لها البيضاء، ونشأ بواسط، ويقال بتستر، ودخل بغداد وتردد إلى مكة وجاور بها في وسط المسجد في البرد والحر، مكث على ذلك سنوات متفرقة، وكان يصابر نفسه ويجاهدها، ولا يجلس إلى تحت السماء في وسط المسجد الحرام، ولا يأكل إلا بعض قرص ويشرب قليلا من الماء معه وقت الفطور مدة سنة كاملة، وكان يجلس على صخرة في شدة الحر في جبل أبي قبيس، وقد صحب جماعة من سادات المشايخ الصوفية، كالجنيد بن محمد، وعمرو بن عثمان المكي، وأبي الحسين النوري.

 قال الخطيب البغدادي: والصوفية مختلفون فيه؛ فأكثرهم نفى أن يكون الحلاج منهم، وأبى أن يعده فيهم، وقبله من متقدميهم أبو العباس بن عطاء البغدادي، ومحمد بن خفيف الشيرازي، وإبراهيم بن محمد النصر أباذي النيسابوري، وصححوا له حاله، ودونوا كلامه، حتى قال ابن خفيف: الحسين بن منصور عالم رباني. وقال أبو عبد الرحمن السلمي– واسمه محمد بن الحسين: سمعت إبراهيم بن محمد النصر أباذي وعوتب في شيء حكي عن الحلاج في الروح فقال للذي عاتبه: إن كان بعد النبيين والصديقين موحد فهو الحلاج. قال أبو عبد الرحمن: وسمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت الشبلي يقول: كنت أنا والحسين بن منصور شيئا واحدا، إلا أنه أظهر وكتمت. وقد روي عن الشبلي من وجه آخر أنه قال- وقد رأى الحلَّاج مصلوباً: ألم أنهك عن العالمين؟ قال الخطيب: والذين نفوه من الصوفية نسبوه إلى الشعبذة([65]) في فعله، وإلى الزندقة في عقيدته وعقده. قال: وله إلى الآن أصحاب ينسبون إليه ويغالون فيه ويغلون.

 وقد كان الحلاج في عبارته حلو المنطق، وله شعر على طريقة الصوفية. قلت: لم يزل الناس منذ قتل الحلاج مختلفين في أمره؛ فأمَّا الفقهاء فحكي عن غير واحد من العلماء والأئمة إجماعهم على قتله، وأنه قتل كافرا، وكان كافرا ممخرقا([66]) مموها مشعبذا، وبهذا قال أكثر الصوفية فيه.

 ومنهم طائفة كما تقدم أجملوا القول فيه، وغرهم ظاهره ولم يطلعوا على باطنه ولا باطن قوله؛ فإنه كان في ابتداء أمره فيه تعبد وتأله وسلوك، ولكن لم يمكن له علم ولا بنى أمره وحاله على تقوى من الله ورضوان؛ فلهذا كان ما يفسده أكثرَ مما يصلحه، وقال سفيان بن عيينة: من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى، ولهذا دخل على الحلاج الحلول([67]) والاتحاد([68])، فصار من أهل الانحلال والانحراف.

 وقد روي من وجه أنه تقلبت به الأحوال وتردد إلى البلدان، وهو في ذلك كله يظهر للناس أنه من الدعاة إلى الله عز وجل، وصحَّ أنَّه دخل إلى الهند وتعلم بها السحر، وقال: أدعو به إلى الله، وكان أهل الهند يكاتبونه بالمغيث– أي أنه من رجال الغيث، ويكاتبه أهل سركسان بالمقيت، ويكاتبه أهل خراسان بالمميز، وأهل فارس بأبي عبد الله الزاهد، وأهل خوزستان بأبي عبد الله الزاهد حلاج الأسرار.

 وكان بعض البغاددة حين كان عندهم يقولون له: المصطلم([69]). وأهل البصرة يقولون له: المحير. ويقال: إنما سماه الحلاج أهل الأهواز لأنه كان يكاشفهم عن ما في ضمائرهم، وقيل لأنه مرة قال الحلاج: اذهب لي في حاجة كذا وكذا. فقال: إني مشغول بالحلج، فقال: اذهب فأنا أحلج عنك، فذهب ورجع سريعا فإذا جميع ما في ذلك المخزن قد حلجه.

 يقال: إنه أشار بالمرود؛ فامتاز الحب عن القطن. وفي صحَّة هذا ونسبته إليه نظر، وإن كان قد جرى مثل هذا؛ فالشياطين تعين أصحابها ويستخدمونهم. وقيل: لأن أباه كان حلاجا.

 ومما يدل على أنه كان ذا حلول في بدء أمره أشياء كثيرة، منها شعره في ذلك؛ فمن ذلك قوله:

جبلت روحك في روحي كما

يجبل العنبر بالمسك الفنق([70])

فإذا مسَّك شيء مسّني

وإذا أنت أنا لا تفترق

وقوله:

مزجت روحك في روحي كما

تمزج الخمرة بالماء الزلال

فإذا مسَّك شيء مسَّني

فإذا أنت أنا في كل حال

وقوله أيضاً:

قد تحققتك في سر

ي فخاطبك لساني

فاجتمعنا لمعان

وافترقنا لمعان

إن يكن غيبك التعظيـ

ـم عن لحظ العيان([71])

قد صيرك الوجـ

ـد من الأحشاء دان([72])

وقد أنشد لابن عطاء قول الحلاج:

أريدك لا أريدك للثواب

ولكني أريدك للعقاب

وكل مآربي قد نلت منها

سوى ملذوذ وجدي بالعذاب

فقال ابن عطا: قال هذا ما تزايد به عذاب الشغف وهيام الكلف، واحتراق الأسف، فإذا صفا ووفا علا إلى مشرب عذب وهاطل من الحق دائم سكب. وقد أنشد لأبي عبد الله بن خفيف قول الحلاج:

سبحان من أظهر ناسوته

سر سنا لا هوته الثاقب([73])

ثم بدا في خلقه ظاهرا

في صورة الأكل والشارب

حتى لقد عاينه خلقه

كلحظة الحاجب بالحاجب

فقال ابن خفيف: علا من يقول هذا لعنةُ الله؟ فقيل له: إن هذا من شعر الحلاج، فقال: قد يكون مقولا عليه. وينسب إليه أيضا:

أوشكت تسأل عني كيف كنت

وما لاقيت بعدك من هم وحزن

لا كنت إن كنت أدري كيف كنت

ولا لا كنت أدري كيف لم أكن

قال ابن خلِّكان: ويروى لسمنون لا للحلاج. ومن شِعره أيضا قوله:

متى سهرت عيني لغيرك أو بكت

فلا أعطيت ما أملت وتمنَّت

وإن أضمرت نفسي سواك فلا زكت

رياض المنى من وجنتيك وجنت

ومن شعره أيضاً:

دنيا تغالطني كأنني

لست أعرف حالها

حظر المليك حرامها

وأنا احتميت حلالها

فوجدتها محتاجة

فوهبت لذتها لها

وقد كان الحلاج يتلون في ملابسه؛ فتارة يلبس لباس الصوفية وتارة يتجرد في ملابس زرية، وتارة يلبس لباس الأجناد ويعاشر أبناء الأغنياء والملوك والأجناد. وقد رآه بعض أصحابه في ثياب رثَّة وبيده ركوة وعكازة وهو سائح فقال له: ما هذه الحالة يا حلاج؟ فأنشأ يقول:

لئن أمسيت في ثوبي عديم

لقد بليا على حر كريم

فلا يغررك أن أبصرت حالا

مغيَّرة عن الحال القديم

فلي نفس ستتلف أو سترقى

لعمرك بي إلى أمر جسيم([74])

ومن مستجاد كلامه وقد سأله رجل أن يوصيه بشيء ينفعه الله به فقال: عليك نفسك إن لم تشغلها بالحق وإلا شغلتك عن الحق. وقال له رجل: عظني. فقال: كن مع الحق بحكم ما أوجب. وروى الخطيب بسنده إليه أنه قال: علم الأولين والآخرين مرجعه إلى أربع كلمات: حب الجليل، وبغض القليل، واتباع التنـزيل، وخوف التحويل.

قلت: وقد أخطأ الحلَّاج في المقامين الأخيرين؛ فلم يتَّبع التَّنـزيل ولم يبق على الاستقامة؛ بل تحوَّل عنها إلى الاعوجاج والبدعة والضلالة، نسأل الله العافية.

وقال أبو عبد الرحمن السلمي عن عمرو بن عثمان المكي أنه قال: كنت أماشي الحلاج في بعض أزقة مكة، وكنت أقرأ القرآن فسمع قراءتي فقال: يمكنني أن أقول مثل هذا، ففارقته. قال الخطيب: وحدثني مسعود بن ناصر أنبأنا ابن باكوا الشيرازي، سمعت أبا زرعة الطَّبريَّ يقول: الناس فيه– يعني حسين بن منصور الحلاج- بين قبول ورَدٍّ؛ ولكن سمعت محمد بن يحيى الرَّازي يقول: سمعت عمرو بن عثمان يلعنه ويقول: لو قدرت عليه لقتلتُه بيدي. فقلت له: إيش الذي وجد الشيخ عليه؟ قال: قرأتُ آيةً من كتاب الله فقال: يمكنني أن أؤلِّفَ مثله وأتكلم به. قال أبو زرعة الطبري: وسمعت أبا يعقوب الأقطع يقول: زوجت ابنتي من الحسين الحلاج لما رأيت من حسن طريقته واجتهاده، فبان لي منه بعد مدة يسيرة أنَّه ساحر محتال، خبيث كافر. قلت: كان تزويجه إياها بمكة، وهي أم الحسين بنت أبي يعقوب الأقطع فأولدها ولده أحمد بن الحسين بن منصور، وقد ذكر سيرةَ أبيه كما ساقها من طريق الخطيب.

 وذكر أبو القاسم القشيريّ في رسالته في باب حفظ قلوب المشايخ: أن عمرو بن عثمان دخل على الحلاج وهو بمكة وهو يكتب شيئاً في أوراق فقال له: ما هذا؟ فقال: هو ذا أعراض القرآن. قال: فدعا عليه فلم يفلح بعدها، وأنكر على أبي يعقوب الأقطع تزويجه إياه ابنته. وكتب عمرو بن عثمان إلى الآفاق كتبا كثيرة يلعنه فيها ويحذر الناس منه، فشرد الحلاج في البلاد فعاث يميناً وشمالاً، وجعل يظهر أنه يدعو إلى الله ويستعين بأنواع من الحيل، ولم يزل ذلك دأبه وشأنه حتى أحلَّ الله به بأسَه الذي لا يرد عن القوم المجرمين، فقتله بسيف الشَّرع الذي لا يقع إلا بين كتفي زنديق، والله أعدل من أن يسلِّطَه على صديق؛ كيف وقد تهجَّم على القرآن العظيم، وقد أراد معارضته في البلد الحرام حيث نزل به جبريل، وقد قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الحج: 25]. ولا إلحادَ أعظم من هذا، وقد أشبه الحلاج كفار قريش في معاندتهم؛ كما قال تعالى عنهم: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ [الأنفال: 31].


 (16) نهايةُ الحاكم بن المعزِّ الفاطميِّ

في سنة 411هـ عدم الحاكم بمصر؛ وذلك أنَّه لما كان ليلة الثلاثاء لليلتين بقيتا من شوال فقد الحاكم بن المعز الفاطمي صاحب مصر، فاستبشر المؤمنون والمسلمون بذلك؛ وذلك لأنه كان جبَّارا عنيدا، وشيطانا مريدا، ولنذكر شيئا من صفاته القبيحة، وسيرته الملعونة، أخزاه الله.

كان كثر التَّلَوُّن في أفعاله وأحكامه وأقواله جائزا، وقد كان يروم أن يدعي الألوهية كما ادَّعاها فرعون؛ فكان قد أمر الرَّعيَّةَ إذا ذكر الخطيب على المنبر اسمه أن يقوم الناس على أقدامهم صفوفاً؛ إعظاماً لذكره واحتراماً لاسمه؛ فعل ذلك في سائر ممالكه؛ حتى في الحرمين الشَّريفين، وكان قد أمر أهل مصر على الخصوص إذا قاموا عند كذره خروا سجدا له، حتى إنه ليسجد بسجودهم مَن في الأسواق من الرِّعاع وغيرهم ممن كان لا يصلِّي الجمعة، وكانوا يتركون السُّجودَ لله في يوم الجمعة وغيره ويسجدون للحاكم، وأمر في وقت لأهل الكتابين بالدُّخول في دين الإسلام كرهاً، ثم أذن لهم في العودة إلى دينهم، وخرَّب كنائسَهم ثم عمَّرَها، وخرَّب القمامة ثم أعادها، وابتنى المدارس، وجعل فيها الفقهاء والمشايخ، ثم قتلهم وأخربها، وألزم الناس بغلق الأسواق نهاراً، وفتحها ليلا، فامتثلوا ذلك دهراً طويلاً، حتى اجتاز مرة برجل يعمل النجارة في أثناء النهار فوقف عليه فقال: ألم أنهكم؟ فقال: يا سيدي لما كان الناس يتعيشون بالنهار كانوا يسهرون بالليل، ولما كانوا يتعيشون بالليل سهروا بالنهار فهذا من جملة السهر، فتبسم وتركه، وأعاد الناس إلى أمرهم الأول.

 وكلُّ هذا تغييرٌ للرُّسوم، واختبار لطاعة العامة له؛ ليرقى في ذلك إلى ما هو أشرّ وأعظم منه، وقد كان يعمل الحسبة بنفسه؛ فكان يدور بنفسه في الأسواق على حمار له– وكان لا يركب إلا حمارا؛ فمن وجده قد غش في معيشة أمر عبدا أسود معه يقال له مسعود أن يفعل به الفاحشة العظمى، وهذا أمر منكر ملعون لم يسبق إليه، وكان قد منع النساء من الخروج من منازلهن وقطع شجر الأعناب حتى لا يتخذ الناس منها خمرا، ومنعهم من طبخ الملوخية، وأشياء من الرعونات التي من أحسنها منع النساء من الخروج، وكراهة الخمر، وكانت العامة تبغضه كثيرا، ويكتبون له الأوراق بالشتيمة البالغة له ولأسلافه في صورة قصص، فإذا قرأها ازداد غيظا وحنقا عليهم، حتى إن أهل مصر عملوا صورة امرأة من ورق بخفيها وإزارها، وفي يدها قصة من الشتم واللعن والمخالفة شيء كثير، فلما رآها ظنها امرأة، فذهب من ناحيتها وأخذ القصة من يدها فقرأها فرأى ما فيها، فأغضبه ذلك جدا، فأمر بقتل المرأة، فلما تحققها من ورق ازداد غيظا على غيظه، ثم لما وصل إلى القاهرة أمر السودان أن يذهبوا إلى مصر فيحرقوها وينهبوا ما فيها من الأموال والمتاع والحريم، فذهبوا فامتثلوا ما أمرهم به، فقاتلهم أهل مصر قتالا شديدا ثلاثة أيام، والنار تعمل في الدور والحريم، وهو في كل يوم- قبَّحه الله- يخرج فيقف من بعيد وينظر ويبكي ويقول: من أمر هؤلاء العبيد بهذا؟ ثم اجتمع الناس في الجوامع ورفعوا المصاحف وصاروا إلى الله عز وجل، واستغاثوا به، فرق لهم التُّرك والمشارقة وانحازوا إليهم، وقاتلوا معهم عن حريمهم ودورهم، وتفاقم الحال جدا، ثم ركب الحاكم لعنه الله ففصل بين الفريقين، وكفَّ العبيد عنهم، وكان يظهر التنصل مما فعله العبيد وأنهم ارتكبوا ذلك من غير علمه وإذنه، وكان ينفذ إليهم السلاح ويحثهم على ذلك في الباطن، وما انجلى الأمر حتى احترق من مصر نحو ثلثها، ونُهب قريب من نصفها، وسبيت نساء وبنات كثيرة، وفعل معهن الفواحش والمنكرات، حتى إن منهن من قتلت نفسها خوفا من العار والفضيحة، واشترى الرجال منهم من سبي لهم من النساء والحريم.

 قال ابن الجوزي: ثم ازداد ظلم الحاكم حتى عنَّ له أن يدَّعي الربوبية، فصار قوم من الجهال إذا رأوه يقولون يا واحد يا أحد يا محيي يا مميت قبحهم الله جميعا.

صفة مقتله:

كان قد تعدَّى شرُّه إلى الناس كلِّهم حتى إلى أخته، وكان يتهمها بالفاحشة، ويسمعها أغلظ الكلام، فتبرمت منه، وعملت على قتله، فراسلت أكبر الأمراء، أميرا يقال له ابن دواس، فتوافقت هي وهو على قتله ودماره، وتواطأ على ذلك، فجهز من عنده عبدين أسودين شهمين، وقال لهما: إذا كانت الليلة الفلانية فكونا في جبل المقطم، ففي تلك الليلة يكون الحاكم هناك في الليل لينظر في النجوم، وليس معه أحد إلا ركابي وصبي، فاقتلاه واقتلاهما معه، واتفق الحال على ذلك. فلما كانت تلك الليلة قال الحاكم لأمه: علي في هذه الليلة قطع عظيم، فإن نجوت منه عمرت نحوا من ثمانين سنة، ومع هذا فانقلي حواصلي إليك؛ فإن أخوف ما أخاف عليك من أختي، وأخوف ما أخاف على نفسي منها، فنقل حواصله إلى أمه، وكان له في صناديق قريب من ثلاثمائة ألف دينار، وجواهر أخر، فقالت له أمه: يا مولانا إذا كان الأمر كما تقول فارحمني ولا تركب في ليلتك هذه إلى موضع، وكان يحبها. فقال: أفعل، وكان من عادته أن يدور حول القصر كل ليلة، فدار ثم عاد إلى القصر، فنام إلى قريب من ثلث الليل الأخير، فاستيقظ وقال إن لم أركب الليلة فاضت نفسي، فثار فركب فرسا وصحبه صبي وركابي، وصعد الجبل المقطم فاستقبله ذانك العبدان فأنزلاه عن مركوبه، وقطعا يديه ورجليه، وبقرا بطنه، فأتيا به مولاهما ابن دواس، فحمله إلى أخته فدفنته في مجلس دارها، واستدعت الأمراء والأكابر والوزير وقد أطلعته على الحيلة، فبايعوا لولد الحاكم أبي الحسن علي، ولقب بالظاهر لإعزاز دين الله، وكان بدمشق، فاستدعت به وجعلت تقول للناس: إن الحاكم قال لي: إنه يغيب عنكم سبعة أيام ثم يعود، فاطمأن الناس، وجعلت ترسل ركابين إلى الجبل فيصعدونه، ثم يرجعون فيقولون تركناه في الموضع الفلاني، ويقول الذين بعدهم لأمه: تركناه في موضع كذا وكذا. حتى اطمأن الناس وقدم ابن أخيها واستصحب معه من دمشق ألف ألف دينار، وألف ألف درهم، فحين وصل ألبسته تاج جد أبيه المعز، وحلة عظيمة، وأجلسته على السرير، وبايعه الأمراء والرؤساء وأطلق لهم الأموال، وخلعت على ابن دواس خلعة سنية هائلة، وعملت عزاء أخيها الحاكم ثلاثة أيام، ثم أرسلت إلى ابن دواس طائفة من الجند ليكونوا بين يديه بسيوفهم وقوفا في خدمته، ثم يقولوا له في بعض الأيام: أنت قاتل مولانا، ثم يهبرونه بسيوفهم، ففعلوا وقويت حرمتها وثبتت دولتها. وقد كان عمر الحاكم يوم قتل سبعا وثلاثين سنة، ومدة ملكه من ذلك خمسا وعشرين سنة.


 (17) نهاية السلطان ركن الدين بيبرس الجاشنكير

استهلت سنة 709هـ وخليفة الوقت المستكفي أمير المؤمنين ابن الحاكم بأمر الله العباسي، وسلطان البلاد الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير، ونائبه بمصر الأمير سيف الدين سلار، وبالشام آقوش الأفرم، وفي ليلة سلخ صفر توجه الشيخ تقي الدين ابن تيمية– رحمه الله- من القاهرة إلى الإسكندرية صحبة أمير مقدم، فأدخله دار السلطان وأنزله في برج منها فسيح متسع الأكناف، فكان الناس يدخلون عليه ويشتغلون في سائر العلوم، ثم كان بعد ذلك يحضر الجماعات ويعمل المواعيد على عادته في الجامع، وكان دخوله إلى الإسكندرية يوم الأحد، وبعد عشرة أيام وصل خبره إلى دمشق فحصل عليه؛ تألَّم وخافوا عليه غائلة الجاشنكير وشيخه المنبجي، فتضاعف له الدعاء؛ وذلك أنهم لم يمكنوا أحدا من أصحابه أن يخرج معه إلى الإسكندرية، فضاقت له الصُّدور؛ وذلك أنه تمكَّن منه عدوُّه نصر المنبجيُّ.

 وكان سبب عداوته له أنَّ الشَّيخَ تقيَّ الدِّين كان ينال من الجاشنكير ومن شيخه نصر المنبجيّ، ويقول: زالت أيامه وانتهت رياسته، وقرب انقضاء أجله، ويتكلم فيهما وفي ابن عربيّ وأتباعه، فأرادوا أن يسيِّروه إلى الإسكندرية كهيئة المنفيّ؛ لعلَّ أحداً من أهلها يتجاسر عليه فيقتله غيلةً، فما زاد ذلك الناس إلا محبةً فيه وقرباً منه وانتفاعاً به واشتغالاً عليه، وحنوا وكرامة له.

 وجاء كتاب من أخيه يقول فيه: إن الأخ الكريم قد نزل بالثغر المحروس على نية الرباط، فإن أعداء الله قصدوا بذلك أمورا يكيدونه بها ويكيدون الإسلام وأهله، وكانت تلك كرامة في حقنا، وظنوا أنَّ ذلك يؤدِّي إلى هلاك الشيخ، فانقلبت عليهم مقاصدهم الخبيثة وانعكست من كلِّ الوجوه، أصبحوا وأمسوا وما زالوا عند الله وعند الناس العارفين سودَ الوجوه يتقطَّعون حسرات وندماً على ما فعلوا، وانقلب أهلُ الثَّغر أجمعين إلى الأخ مقبلين عليه مكرمين له، وفي كل وقت ينشر من كتاب الله وسنة رسوله ما تقر به أعين المؤمنين، وذلك شجى في حلوق الأعداء واتفق أنه وجد بالإسكندرية إبليس قد باض فيه وفرخ وأضل بها فرق السبعينية والعربية فمزق الله بقدومه عليهم شملهم، وشتت جموعهم شذر مذر، وهتك أستارهم وفضحهم، واستناب جماعة كثيرة منهم، وتوب رئيسا من رؤسائهم واستقر عند عامة المؤمنين وخواصهم من أمير وقاض وفقيه ومفت وشيخ وجماعة المجتهدين، إلا من شذ من الأغمار الجهال، مع الذلة والصغار- محبَّةُ الشيخ وتعظيمُه وقبول كلامه والرجوع إلى أمره ونهيه؛ فعلت كلمة الله بها على أعداء الله ورسوله، ولعنوا سرا وجهرا وباطنا وظاهرا، في مجامع الناس بأسمائهم الخاصة بهم، وصار ذلك عند نصر المنبجي المقيم المقعد، ونزل به من الخوف والذلِّ ما لا يعبر عنه، وذكر كلاما كثيرا.

والمقصود أن الشيخ تقيَّ الدين أقام بثغر الإسكندرية ثمانية أشهر مقيما ببرج متَّسع مليح نظيف له شبَّاكان؛ أحدهما إلى جهة البحر والآخر إلى جهة المدينة، وكان يدخل عليه من شاء، ويتردد إليه الأكابر والأعيان والفقهاء؛ يقرؤون عليه ويستفيدون منه، وهو في أطيب عيش وأشرح صدر.

وفي آخر ربيع الأول عزل الشيخ كمال الدين بن الزملكاني عن نظر المارستان بسبب انتمائه إلى ابن تيمية بإشارة المنبجي، وبإشارة شمس الدين عبد القادر بن الخطيري، وفي يوم الثلاثاء ثالث ربيع الآخر ولي قضاء الحنابلة بمصر الشيخ الإمام الحافظ سعد الدين أبو محمود مسعود بن أحمد بن مسعود بن زين الدين الحارثي، شيخ الحديث بمصر، بعد وفاة القاضي شرف الدين أبي محمد عبد الغني بن يحيى بن محمد بن عبد الله بن نصر بن أبي بكر الحرّاني.

 وفي جمادى الأولى برزت المراسيم السُّلطانية المظفرية إلى البلاد السَّواحليَّة بإبطال الخمور وتخريب الحانات ونفي أهلها، ففعل ذلك وفرح المسلمون بذلك فرحا شديدا.

 وفي مستهلِّ جمادى الآخرة وصل بريد بتوليه قضاء الحنابلة بدمشق للشيخ شهاب الدين أحمد بن شريف الدين حسن بن الحافظ جمال الدين أبي موسى عبد الله بن الحافظ عبد الغني المقدسي؛ عوضاً عن التَّقيِّ سليمان بن حمزة؛ بسبب تكلُّمه في نزول الملك الناصر عن الملك، وأنه إنما نزل عنه مضطهدا بذلك، ليس بمختار، وقد صدق فيما قال.

 في عشرين جمادى الآخرة وصل البريد بولاية شد الدواوين للأمير سيف الدين بكتمر الحاجب؛ عوضاً على الرُّستميِّ؛ فلم يقبل، وبنظر الخزانة للأمير عز الدين أحمد بن زين الدين محمد بن أحمد بن محمود المعروف بابن القلانسيّ، فباشرهما وعزل عنها البصراويّ محتسب البلد، وفي هذا الشهر باشر قاضي القضاة ابن جماعة مشيخة سعيد السعداء بالقاهرة بطلب الصوفية له، ورضوا منه بالحضور عندهم في الجمعة مرة واحدة، وعزل عنها الشيخ كريم الدِّين الأيكي؛ لأنه عزل منها الشهود، فثاروا عليه وكتبوا في حقه محاضر بأشياء قادحة في الدِّين، فرسم بصرفة عنهم، وعومل بنظير ما كان يعامل به الناس.

 ومن جملة ذلك قيامُه على شيخ الإسلام ابن تيمية وافتراؤه عليه الكذب مع جهله وقلَّة ورعه، فجعل الله له هذا الخزي على يدي أصحابه وأصدقائه جزاء وفاقا.

وفي شهر رجب كثر الخوف بدمشق وانتقل الناس من ظاهرها إلى داخلها؛ وسبب ذلك أنَّ السلطانَ الملكَ الناصرَ محمد بن قلاوون ركب من الكرك قاصداً دمشق يطلب عوده إلى الملك، وقد ملأه جماعة من الأمراء وكاتبوه في الباطن وناصحوه، وقفز إليه جماعة من أمراء المصريين، وتحدَّث النَّاس بسفر نائب دمشق الأفرم إلى القاهرة، وأن يكون مع الجمِّ الغفير، فاضطرب النَّاسُ ولم تفتح أبواب البلد إلى ارتفاع النهار، وتخبَّطت الأمور، فاجتمع القضاة وكثير من الأمراء بالقصر وجدَّدوا البيعةَ للملك المظفر.

 وفي آخر نهار السبت غلقت أبواب البلد بعد العصر وازدحم الناس بباب النصر وحصل لهم تعب عظيم، وازدحم البلد بأهل القرى وكثر الناس بالبلد، وجاء البريد بوصول الملك الناصر إلى الخمان، فانزعج نائب الشام لذلك وأظهر أنه يريد قتاله ومنعه من دخول البلد، وقفز إليه أميران ركن الدين بيبرس المجنون، وبيبرس العلمي، وركب إليه الأمير سيف الدين بكتمر حاجب الحجاب يشير عليه بالرجوع، ويخبره بأنه لا طاقة له بقتال المصريين، ولحقه الأمير سيف الدين بهادر يشير عليه بمثل ذلك، ثم عاد إلى دمشق يوم الثلاثاء خامس من رجب، وأخبر أنَّ السُّلطانَ الملك الناصر قد عاد إلى الكرك، فسكن الناس ورجع نائب السَّلطنة إلى القصر، وتراجع بعض الناس إلى مساكنهم، واستقروا بها.

صفة عود الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون إلى الملك وزوال دولة المظفر الجاشنكير بيبرس وخذلانه وخذلان شيخه نصر المنبجي الاتحادي الحلولي

لما كان ثالث عشر من سنة 709هـ شعبان جاء الخبر بقدوم الملك الناصر إلى دمشق، فساق إليه الأميران سيف الدين قطلوبك والحاج بهادر إلى الكرك، وحضَّاه إلى المجيء إليها، واضطرب نائب دمشق وركب في جماعة من أتباعه على الهجن في سادس عشر شعبان ومعه ابن صبح صاحب شقيف أرنون، وهيئت بدمشق أبهة السلطنة والإقامات اللائقة به، والعصائب والكوسات، وركب من الكرك في أبهة عظيمة، وأرسل الأمان إلى الأفرم، ودعا له المؤذنون في المأذنة ليلة الاثنين سابع عشر شعبان، وصبح بالدعاء له والسرور بذكره، ونودي في الناس بالأمان، وأن يفتحوا دكاكينهم ويأمنوا في أوطانهم، وشرع الناس في الزينة ودقت البشائر وقام الناس في الأسطحة ليلة الثلاثاء ليتفرجوا على السلطان حين يدخل البلد، وخرج القضاة، والأمراء والأعيان لتلقيه.

قال كاتبه ابن كثير: وكنت فيمن شاهد دخوله يوم الثلاثاء وسط النهار في أبهة عظيمة وبسط له من عند المصلى وعليه أبهة الملك وبسطت الشقاق الحرير تحت أقدام فرسه، كلما جاوز شقة طويت من ورائه، والجد على رأسه والأمراء السلحدارية عن يمينه وشماله وبين يديه، والناس يدعون له ويضجُّون بذلك ضجيجاً عالياً، وكان يوماً مشهوداً؛ قال الشيخ علم الدِّين البرزالي: وكان على السُّلطان يومئذ عمامة بيضاء، وكاوثة حمراء، وكان الذي حمل الغاشية على رأس السلطان الحاج بهادر وعليه خلعة معظمة مذهبة بفرو فاخم.

 ولما وصل إلى القلعة نصب له الجسر ونزل إليه نائبها الأمير سيف الدّين السنجري، فقبَّل الأرض بين يديه، فأشار إليه: إني الآن لا أنزل ههنا، وسار بفرسه إلى جهة القصر الأبلق والأمراء بين يديه، فخطب له يوم الجمعة.

وفي بكرة يوم السبت الثَّاني والعشرين من الشَّهر وصل الأمير جمال الدِّين آقوش الأفرم نائب دمشق مطيعاً للسُّلطان، فقبَّل الأرضَ بين يديه، فترجَّل له السُّلطان وأكرمه وأذن له في مباشرة النِّيابة على عادته، وفرح الناس بطاعة الأفرم له، ووصل إليه أيضا الأمير سيف الدين قبجق نائب حماة، والأمير سيف الدين استمرَّ نائب طرابلس يوم الاثنين الرابع والعشرين من شعبان، وخرج الناس لتلقِّيهما، وتلقَّاهما السلطان كما تلقَّى الأفرم.

 وفي هذا اليوم رسم السُّلطان بتقليد قضاء الحنابلة وعوده إلى تقيِّ الدِّين سليمان، وهنَّأه الناس، وجاء إلى السلطان إلى القصر فسَلَّمَ عليه ومضى إلى الجوزية فحكم بها ثلاثة أشهر، وأقيمت الجمعة الثانية بالميدان وحضر السلطان والقضاة إلى جانبه، وأكابر الأمراء والدولة، وكثير من العامة. وفي هذا وصل إلى السلطان الأمير قراسنقر المنصوري نائب حلب، وخرج دهليز السلطان يوم الخميس رابع رمضان ومعه القضاة والقراء وقت العصر، وأقيمت الجمعة خامس رمضان بالميدان أيضا، ثم خرج السلطان من دمشق يوم الثلاثاء تاسع رمضان، وفي صحبته ابن صصري وصدر الدين الحنفي قاضي العساكر والخطيب جلال الدين، والشيخ كمال الدين بن الزملكاني، والموقعون وديوان الجيش وجيش الشام بكماله قد اجتمعوا عليه من سائر مدنه وأقاليمه بنوابه وأمرائه.

 فلما انتهى السلطان إلى غزة دخلها في أبهة عظيمة، وتلقاه الأمير سيف الدين بهادر هو وجماعة من أمراء المصريين، فأخبروه أنَّ الملك المظفَّر قد خلع نفسه من المملكة، ثم تواتر قدوم الأمراء من مصر إلى السلطان وأخبروه بذلك، فطابت قلوب الشاميِّين واستبشروا بذلك ودقَّت البشائر...

واتَّفق في يوم هذا العيد أنَّه خرج نائب الخطيب الشَّيخ تقيّ الدين الجزري المعروف بالمقضاي في السناجق إلى المصلى على العادة، واستناب في البلد الشيخ مجد الدين التونسي، فلما وصلوا إلى المصلى وجدوا خطيب المصلى قد شرع في الصلاة، فنصبت السناجق في صحن المصلى وصلى بينهما تقيّ الدين المقضاي ثم خطب، وكذلك فعل ابن حسَّان داخلَ المصلَّى، فعُقد فيه صلاتان وخطبتان يومئذ، ولم يتفق مثل هذا فيما نعلم.

وكان دخول السلطان الملك الناصر إلى قلعة الجبل آخر يوم عيد الفطر من هذه السنة، ورسم لسلار أن يسافر إلى الشوبك، واستناب بمصر الأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار الذي كان نائب صفد، وبالشام الأمير قراسنقر المنصوري؛ وذلك في العشرين من شوال، واستوزر الصاحب فخر الدين الخليلي بعدها بيومين، وباشر القاضي فخر الدين كاتب المماليك نظر الجيوش بمصر بعد بهاء الدين عبد الله بن أحمد بن علي بن المظفر الحلي، توفي ليلة الجمعة عاشر شوال، وكان من صدور المصريين وأعيان الكبار، وقد روى شيئاً من الحديث، وصرف الأمير جمال الدين آقوش الأفرم إلى نيامة صرخد، وقدم إلى دمشق الأمير زين الدين كتبغا رأس نوبة الجمدارية شد الدواوين، وأستاذ دار الإستادارية؛ عوضا عن سيف الدين تجبا، وتغيرت الدولة وانقلبت قلبة عظيمة.

قال الشيخ عَلَمُ الدِّين البرزاليّ: ولما دخل السُّلطان إلى مصر يوم عيد الفطر لم يكن له دأب إلا طلب الشيخ تقيّ الدين بن تيمية من الإسكندرية معزَّزاً مكرَّماً مبجَّلاً، فوجه إليه في ثاني يوم من شوال بعد وصوله بيوم أو يومين، فقدم الشيخ تقيّ الدين على السلطان في يوم ثامن الشهر، وخرج مع الشيخ خلق من الإسكندرية يودعونه، واجتمع بالسلطان يوم الجمعة فأكرمه وتلقَّاه ومشي إليه في مجلس حفل فيه قضاة المصريين والشَّاميِّين، وأصلح بينه وبينهم، ونزل الشَّيخ إلى القاهرة، وسكن بالقرب من مشهد الحسين، والناس يتردَّدون إليه والأمراء والجند، وكثير من الفقهاء والقضاة؛ منهم من يعتذر إليه ويتنصَّل مما وقع منه، فقال: أنا حللت كل من آذاني.

قلت: وقد أخبرني القاضي جمال الدِّين بن القلانسيّ بتفاصيل هذا المجلس وما وقع فيه من تعظيمه وإكرامه ممَّا حصل له من الشُّكر والمدح من السُّلطان والحاضرين من الأمراء، وكذلك أخبرني بذلك قاضي القضاة منصور الدين الحنفي؛ ولكن إخبار ابن القلانسي أكثر تفصيلاً؛ وذلك أنَّه كان إذ ذاك قاضي العساكر، وكلاهما كان حاضرا هذا المجلس.

 ذكر لي أنَّ السلطانَ لما قدم عليه الشَّيخ تقيّ الدين ابن تيمية نهض قائماً للشَّيخ أول ما رآه، ومشى له إلى طرف الإيوان واعتنقا هناك هنيهة، ثم أخذ معه ساعة إلى طبقة فيها شباك إلى بستان فجلسا ساعة يتحدثان، ثم جاء ويد الشيخ في يد السلطان، فجلس السلطان وعن يمينه ابن جماعة قاضي مصر، وعن يساره ابن الخليليّ الوزير، وتحته ابن صصري، ثم صَدْر الدِّين عليّ الحنفيّ.

 وجلس الشيخ تقيّ الدين بين يدي السلطان على طرف طراحته، وتكلم الوزير في إعادة أهل الذِّمَّة إلى لبس العمائم البيض بالعلائم، وأنهم قد التزموا للديوان بسبع مائة ألف في كل سنة، زيادة على الحالية، فسكت الناس وكان فيهم قضاة مصر والشام وكبار العلماء من أهل مصر والشام من جملتهم ابن الزملكاني؛ قال ابن القلانسي: وأنا في مجلس السلطان إلى جنب ابن الزّملكاني، فلم يتكلم أحد من العلماء ولا من القضاة، فقال لهم السلطان: ما تقولون؟ يستفتيهم في ذلك؛ فلم يتكلم أحد، فجثا الشيخ تقيُّ الدين على ركبتيه وتكلَّم مع السُّلطان في ذلك بكلام غليظ، وردَّ على الوزير ما قاله ردًّا عنيفاً، وجعل يرفع صوته والسُّلطان يتلافاه ويسكته بترفُّق وتؤدة وتوقير.

 وبالغ الشيخ في الكلام وقال ما لا يستطيع أحد أن يقوم بمثله، ولا بقريب منه، وبالغ في التَّشنيع على مَنْ يوافق في ذلك، وقال للسلطان: حاشاك أن يكون أول مجلس جلسته في أبهة الملك تنصر فيه أهلَ الذِّمَّة لأجل حطام الدُّنيا الفانية، فاذكر نعمة الله عليك إذ ردَّ ملكَك إليك، وكبت عدوَّك ونصرك على أعدائك. فذكر أن الجاشنكير هو الذي جدَّد عليهم ذلك، فقال: والذي فعله الجاشنكير كان من مراسيمك؛ لأنه إنما كان نائباً لك، فأعجبَ السلطانَ ذلك واستمرَّ بهم على ذلك، وجرت فصول يطول ذكرُها.

 وقد كان السلطان أعلمَ بالشيخ من جميع الحاضرين ودينه وزينته وقيامه بالحقِّ وشجاعته، وسمعت الشيخَ تقيَّ الدين يذكر ما كان بينه وبين السُّلطان من الكلام لما انفردا في ذلك الشُّبَّاك الذي جلسا فيه، وأنَّ السُّلطانَ استفتى الشَّيخَ في قتل بعض القضاة بسبب ما كانوا تكلَّموا فيه، وأخرج له فتاوى بعضهم بعزله من الملك ومبايعة الجاشنكير، وأنهم قاموا عليك وآذوك أنت أيضاً، وأخذ يحثُّه بذلك على أن يفتيه في قتل بعضهم؛ وإنما كان حنقه عليهم بسبب ما كانوا سعوا فيه من عزله ومبايعة الجاشنكير؛ ففهم الشَّيخُ مرادَ السُّلطان فأخذ في تعظيم القضاة والعلماء، وينكر أن ينال أحداً منهم بسوء، وقال له: إذا قتلت هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم، فقال له: إنهم قد آذَوك وأرادوا قتلَك مراراً. فقال الشيخ: مَنْ آذاني فهو في حل، ومن آذى الله ورسوله فالله ينتقم منه، وأنا لا أنتصر لنفسي. وما زال به حتى حلم عنهم السلطان وصفح.

قال: وكان قاضي المالكية ابن مخلوف يقول: ما رأينا مثل ابن تيمية؛ حرضنا عليه فلم نقدر عليه وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا. ثم إنَّ الشيخَ بعد اجتماعه بالسُّلطان نزل إلى القاهرة وعاد إلى بثِّ العلم ونشره، وأقبلت الخلق عليه ورحلوا إليه يشتغلون عليه ويستفتونه ويجيبهم بالكتابة والقول، وجاء الفقهاء يعتذرون ممَّا وقع منهم في حقِّه فقال: قد جعلت الكلَّ في حلّ.

 وبعث الشيخُ كتاباً إلى أهله يذكر ما هو فيه من نعم الله وخيره الكثير، ويطلب منهم جملةً من كتب العلم التي له ويستعينون على ذلك بجمال الدين المزي؛ فإنَّه يدري كيف يستخرج له ما يريده من الكتب التي أشار إليها، وقال في هذا الكتاب: والحق كل ما له في علو وازدياد وانتصار، والباطل في انخفاض وسفول واضمحلال، وقد أذل الله رقاب الخصوم، وطلب أكابرهم من السلم ما يطول وصفه، وقد اشترطنا عليهم من الشروط ما فيه عزُّ الإسلام والسُّنَّة، وما فيه قمعُ الباطل والبدعة، وقد دخلوا تحت ذلك كلِّه، وامتنعنا من قبول ذلك منهم حتى يظهر إلى الفعل؛ فلم نثق لهم بقول ولا عهد، ولم نجبهم إلى مطلوبهم حتى يصير المشروط معمولا، والمذكور مفعولا، ويظهر من عزِّ الإسلام والسُّنَّة للخاصَّة والعامة ما يكون من الحسنات التي تمحو سيئاتهم.

 وذكر كلاماً طويلاً يتضمَّن ما جرى له مع السُّلطان في قمع اليهود والنَّصارى وذلِّهم، وتركهم على ما هم عليه من الذِّلَّة والصَّغار، والله سبحانه أعلم.

وفي شوال أمسك السلطان جماعة من الأمراء قريبا من عشرين أميرا، وفي سادس عشر شوال وقع بين أهل حوارن من قيس ويمن فقتل منهم مقتلة عظيمة جدا، قتل من الفريقين نحو من ألف نفس بالقرب من السَّوداء، وهم يسمونها السُّويداء، ووقعة السُّويداء، وكانت الكسرة على يمن فهربوا من قيس حتى دخل كثير منهم إلى دمشق في أسوأ حال وأضعفه، وهربت قيس خوفا من الدولة، وبقيت القرى خالية والزروع سائبة؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفي يوم الأربعاء سادس ذي القعدة قدم الأمير سيف الدين قبجق المنصوري نائبا على حلب فنـزل القصر ومعه جماعة من أمراء المصريين، ثم سافر إلى حلب بمن معه من الأمراء والأجناد واجتاز الأمير سيف الدين بهادر بدمشق ذاهبا إلى طرابلس نائبا والفتوحات السَّواحلية؛ عوضاً عن الأمير سيف الدِّين استدمر، ووصل جماعة ممن كان قد سافر مع السلطان إلى مصر في ذي القعدة، منهم قاضي الحنفية صدر الدِّين، ومحيي الدين بن فضل الله وغيرهما، فقمتُ وجلستُ يوماً إلى القاضي صدر الدِّين الحنفيّ بعد مجيئه من مصر فقال لي: أتحبُّ ابن تيمية؟ قلت: نعم، فقال لي وهو يضحك: والله لقد أحببت شيئاً مليحاً، وذكر لي قريباً مما ذكر ابن القلانسيّ، لكن سياق ابن القلانسي أتم.

مقتل الجاشنكيري:

كان قد فر الخبيث في جماعة من أصحابه، فلما خرج الأمير سيف الدين قراسنقر المنصوري من مصر متوجِّها إلى نيابة الشَّام عوضاً عن الأفرم، فلما كان بغزة في سابع ذي القعدة ضرب حلقة لأجل الصيد، فوقع في وسطها الجاشنكير في ثلاثمائة من أصحابه، فأحيط بهم وتفرَّق عنه أصحابه فأمسكوه ورجع معه قراسنقر وسيف الدين بهادر على الهجن، فلما كان بالخطارة تلقَّاهم استدمر فتسلَّمه منهم ورجعا إلى عسكرهم، ودخل به استدمر على السُّلطان فعاتبه ولامه، وكان آخر العهد به.

 قتل ودفن بالقرافة ولم ينفعه شيخه المنبجيُّ ولا أموالُه؛ بل قتل شر قتلة ودخل قراسنقر دمشق يوم الاثنين الخامس والعشرين من ذي القعدة فنـزل بالقصر، وكان في صحبته ابن صصري وابن الزملكاني وابن القلانسي وعلاء الدين بن غانم وخلق من الأمراء المصريين والشاميين، وكان الخطيب جلال الدِّين القزوينيّ قد وصل قبلهم يوم الخميس الثاني والعشرين من الشهر، وخطب يوم الجمعة على عادته؛ فلما كان يوم الجمعة الأخرى وهو التاسع والعشرون من الشَّهر خطب بجامع دمشق القاضي بدر الدين محمد بن عثمان بن يوسف بن حداد الحنبليّ عن إذن نائب السَّلطنة، وقرئ تقليده على المنبر بعد الصلاة بحضرة القضاة والأكابر والأعيان، وخلع عليه عقيب ذلك خلعة سنية، واستمر يباشر الإمامة والخطابة اثنين وأربعين يوما، ثم أعيد الخطيب جلال الدين بمرسوم سلطاني، وباشر يوم الخميس ثاني عشر المحرم سنة 710 من الهجرة.

وفي ذي الحجة درس كمال الدين بن الشِّيرازي بالمدرسة الشَّامية البرَّانية، انتزعها من يد الشيخ كمال الدين بن الزملكاني؛ وذلك أن استدمر ساعده على ذلك، وفيها أظهر ملك التتر خربندا الرَّفضَ في بلاده، وأمر الخطباءَ أوَّلاً أن لا يذكروا في خطبتهم إلا عليَّ بن أبي طالب– رضي الله عنه- وأهل بيته، ولما وصل خطيب بلاد الأزج إلى هذا الموضع من خطبته بكى بكاءاً شديداً، وبكى الناس معه، ونـزل ولم يتمكن من إتمام الخطبة، فأقيم مَنْ أتَمَّها عنه وصلَّى بالناس وظهر على الناس بتلك البلاد من أهل السُّنَّة أهل البدعة؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون. ولم يَحُجَّ فيها أحدٌ من أهل الشَّام بسبب تخبيط الدَّولة وكثرة الاختلاف.


 (18) نهاية الرافضي الخبيث محمود بن إبراهيم الشيرازي

وفي يوم الخميس سابع عشرة سنة 766 أولَ النَّهار وُجد رجلٌ بالجامع الأمويِّ اسمُه محمود بن إبراهيم الشِّيرازيّ وهو يَسُبُّ الشَّيخين ويصرِّح بلَعنهما، فرفع إلى القاضي المالكي قاضي القضاة جمال الدِّين المسلَّاتيِّ فاستتابه عن ذلك وأحضر الضراب فأول ضربة قال: لا إله إلا الله عليّ وليّ الله، ولما ضرب الثانية لعن أبا بكر وعمر، فالتهمه العامة فأوسعوه ضربا مبرحا بحيث كاد يهلك، فجعل القاضي يستكفهم عنه فلم يستطع ذلك، فجعل الرافضي يسبُّ ويلعن الصَّحابة، وقال: كانوا على الضلال؛ فعند ذلك حمل إلى نائب السلطنة وشهد عليه قوله بأنَّهم كانوا على الضَّلالة، فعند ذلك حكم عليه القاضي بإراقة دمه، فأخذ إلى ظاهر البلد فضربت عنقه وأحرقته العامة قبَّحه الله.

 وكان ممَّن يقرأ بمدرسة أبي عمر، ثم ظهر عليه الرفض فسجنه الحنبلي أربعين يوما، فلم ينفع ذلك، وما زال يصرح في كل موطن يأمر فيه بالسَّبِّ حتى كان يومه هذا أظهر مذهبه في الجامع، وكان سببَ قَتْله- قبَّحه الله كما قَبَّحَ مَن كان قبلَه- وانتهى بقتله في سنة خمس وخمسين.


فهرس هوامش الكتاب بناء على الترقيم الموجود من

"البداية والنهاية"([75])

1- (1/251).                   10- (6/328).

2- (1/288).                   11- (8/290).

3- (3/286).                   12- (9/101 و 123).

4- (3/287).                   13- (10/9).

5- (3/306).                   14- (11/108).

6- (4/6).                      15- (11/141 و149).

7- (4/139).                   16- (12/10).

8- (4/142).                   17- (14/57).

9- (6/310).                   18- (14/353).

ملحوظة: ما ذكر من نماذج هنا إنَّما هي مجرد أمثلة لأخذ العبرة؛ إذ قد يتبين للمدقِّق في "البداية والنهاية" أمثلة أخرى غير ما ذكر، فلذلك جرى هذا التَّنبيه!



([1]) هو إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضوء بن درع القرشي البصري ثم الدمشقي، أبو الفداء، عماد الدين، حافظ مؤرِّخ فقيه، ولد في قرية من أعمال بصرى الشام، وانتقل مع أخ له إلى دمشق سنة 706هـ، ورحل في طلب العلم، وتوفِّي بدمشق سنة 774هـ، وتناقل الناس تصانيفه في حياته، ومنه ما نحن بصدد الحديث عن جزء منه (البداية والنهاية) في 14 جزءاً في التاريخ على نسق الكامل لابن الأثير، انتهى فيه إلى حوادث سنة 767هـ و (شرح صحيح البخاري) لم يكمله، و(طبقات الفقهاء الشافعيين) كتب في حياته سنة 749هـ، و(تفسير القرآن العظيم)، و(الاجتهاد في طلب الجهاد) و(جامع المسانيد) و(اختصار علوم الحديث): رسالة في المصطلح شرحها أحمد محمد شاكر بكتاب "الباعث الحثيث إلى معرفة علوم الحديث"، و(اختصار السيرة النبوية)؛ طبع باسم (الفصول في اختصار سيرة الرَّسول) و(رسالة الجهاد) و(التكميل في معرفة الثقات والضعفاء والمجاهيل)، وهو في رجال الحديث. انظر طبقات المفسِّرين للدَّاوودي (1/111)، والأعلام للزَّركليِّ (1/320).

([2]) هذا الكتاب (وماذا بعد الظلم) هو إحدى الرسائل العلمية المستفادة من كتاب (البداية والنهاية) للحافظ ابن كثير، ولعلَّ اللهَ تعالى أن يوفِّقَنَا في المستقبل بإذنه تعالى لإصدار رسائل أخرى منتقاة من هذا الكتاب، نسأل الله – تعالى - أن تكون سببَ خير في تعريف العامَّة من المسلمين بجلالة الكتاب وقَدْره، والله الموفِّق.

([3]) جعف: صرع.

([4]) ريح الدبور: الريح الغربية.

([5]) الأبقين: الفارين.

([6]) رمكة: الفرس أو البرذون تُتَّخذ للنسل.

([7]) طمس على أموالهم: أهلكها.

([8]) الاختيال: الخيلاء والتكبر.

([9]) الجحفل: الجيش.

([10]) الجواء: البطن من الأرض والواسع من الأودية. وواد في ديار عبس.

([11]) المسكة بالتحريك السوار. أي جعلونا في حلقة كالسوار وأحدقوا بنا.

([12]) الصاغية: خاصة الناس والمائلون اليد.

([13]) العوان: الحرب الطاحنة.

([14]) الحرجة: الشجر الملتف وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه سأل أعرابيا عن الحرجة قال: هي شجرة من الأشجار لا يوصل إليها.

([15]) أطن: قطع.

([16]) طاحت: تاهت في الهواء.

([17]) مرضخة: حجر كبير تكسر به الحجارة الصغيرة.

([18]) عقير: مقطوع الساق.

([19]) حجش: جرح.

([20]) ضبث: قبض عليه ولزمه.

([21]) أنقف: أضربه.

([22]) في المصرية: صفقت يده.

([23]) ندر: سبط.

([24]) أي أحمل من شدة الفرح.

([25]) نفلني: أعطاني.

([26]) عنـزة: عصا لها رج في أسفلها.

([27]) تنوشه: تناله.

([28]) الرسف: مشية المقيد.

([29]) عان: أسير.

([30]) وسق: حمل البعير.

([31]) مغول: نصل طويل.

([32]) منهرا: خرق في الحصن.

([33]) الذفف: السيوف السريعة والخفيفة.

([34]) القبس: الشعلة.

([35]) ثاوره: عاد ثانية.

([36]) الظعائن: النساء.

([37]) أسد الأحوال: من السداد وهو الرأي المصيب والحال الحسن.

([38]) تمخضت: أنتجت وخلَّفَتْ. والمنون: الموت.

([39]) نجم: ظهر.

([40]) يستطير: يستفحل ويشتد.

([41]) نبرم الأمر: ننفذ، بعد إمعان الرأي فيه.

([42]) وهي سجاح بنت الحارث التميمية، متنبئة مشهورة، كانت أديبة شاعرة عارفة بالأخبار، تبعت في عهد الردة أيام أبي بكر وادَّعت النُّبوة بعد وفاة رسول الله ﷺ‬، وكانت في بني تغلب بالجزيرة، وكان لها علم بالكتاب أخذته عن نصارى تغلب، فتبعها جمع من عشيرتها، فأقبلت بهم من الجزيرة تريد غزو أبي بكر، فنـزلت باليمامة فبلغ خبرها مسيلمة وقيل له إن معها أربعين ألفا فخافها، وأقبل عليها في جماعة من قومه، وتزوج بها، فأقامت معه قليلا، وأدركت صعوبة الإقدام على قتال المسلمين، فانصرفت راجعة إلى أخوالها بالجزيرة، ثم بلغها مقتل مسيلمة فأسلمت وهاجرت إلى البصرة، وتوفيت فيها، وصلى عليها سمرة بن حندب– رضي الله عنه. انظر تاريخ الطبري (3/236)، والأعلام (3/78).

([43]) ستأتي ترجمته.

([44]) الكردوس: السيد.

([45]) العطبول: المرأة الفتية الجميلة الممثلة الطويلة العنق.

([46]) التخبيط: الفساد.

([47]) سالح: حامل السلاح.

([48]) زهق: الإثم والتهمة والجهل والخفة.

([49]) تفرس: نظر وحدق.

([50]) استكن: التجأ واطمأن.

([51]) مبير: مُهلك.

([52]) نفتق: تفتق فلان بالكلام: أنطق به لسانه.

([53]) لعائن: مفردها لعنة.

([54]) فتنكث: فتحنث، فتنقض.

([55]) صيودا: صياد.

([56]) طفلة: الناعمة الرقيقة.

([57]) حصيف: محكم لا خلل فيه.

([58]) الصواهل: الخيول.

([59]) رتعوا: أقاموا وأكلوا وشربوا في مكان فيه خصب وسعة.

([60]) الصنادد: الشجعان.

([61]) ذائد: حام ومدافع.

([62]) وان: ضعيف، خامل.

([63]) شعثكم: تفرقكم.

([64]) هو زكرويه بن مهرويه القرمطي، من زعماء القرامطة ومتألهيهم من أهل القطيف، اختفى أربع سنين في أيام المعتضد العباسي فلم يظفر به، ولما مات المعتضد أظهر نفسه واستهوى طوائف من أهل بادية العراق، وبث الدعاة، وكان أتباعه يسجدون له، وقد قتل في أيام المكتفي بالله أحد خلفاء بني العباس، كما سيأتي بإذن الله.

([65]) الشعبذة: الشعوذة.

([66]) الممخرق: الكاذب المختلف.

([67]) الحلول: أي حلول اللاهوت في الناسوت أي الرب في العباد.

([68]) الاتحاد: وهو اتحاد الخالق والمخلوق فيصيران شيئا واحدا، أو هو فناء المخلوق بالخالق.

([69]) المصطلم: القاطع.

([70]) الفنق: الناعم.

([71]) لحظ العيان: أي المشاهدة.

([72]) الوجد: شدة العشق، ودان: قريب.

([73]) المعنى أن الإنسان هو سر الله المضيء.

([74]) تتلف: تهلك، وترقى: تصعد.

([75]) ط. دار الريان للتراث، الأولى 1408هـ.