السجون المفتوحة عبر القصص الاجتماعية
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
السجون المفتوحة عبر القصص الاجتماعية
صالح بن عبد الله العثيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الأمين، نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم ... وبعد؛
فإن الحياة مليئة بالمواقف المفرحة والمبكية، السعيدة والتعيسة، التي تسترشد منها الأجيال المتتالية، وتعتبر بمثابة دروس ميدانية مثلها أبطالها على مسرح الحياة بدون اختيار منهم لكون ظروف الحياة هي التي فرضت عليهم أداء هذه الأدوار.
ونحن إذ نجمع بعض أوراق الشجر المتساقطة من تلك القصص الماضية نهدف من ذلك تسليط الضوء على تعاملنا مع بعض ومراجعة كل منا تصرفاته حتى لا يخسر الكثير ويتنازل عن أرصدته الإيجابية لمن يحب ولمن يكره.
هذه القصص المختارة تعبر عن الواقع المشرق والمظلم في تعاملنا، وتصور ظلم الإنسان لأخيه عندما ينام الضمير، أو يضعف الوازع الديني، فيطغى بما يملك من قدرات أو إمكانيات على إخوانه الآخرين ويتجاوز بذلك الحدود الشرعية ويدفعهم إلى سجن أنفسهم وآهاتهم داخل صدورهم إلى حين أن يجدوا الصديق الأمين الذين يثقون به فيمسح دموعهم ويفضون له كل ما يثقل كاهلهم؛ ليخفف من تلك المعاناة ويدمل جراحهم ويربطهم بالله، ويعينهم على التحلي بالصبر الذي هو من أعظم العبادات، ولا شك بأن البشرية مهما عملت لن تقضي على الصراع بين بذور الخير ونوازع الشر التي تعتبر نواميس هذه الحياة، ولكن المساعي المبذولة تنحصر في تقليل كفة الشر وحصره بعيدًا عنا.
وأنت أيها القارئ الكريم واحدٌ ممن نثق بهم؛ فهل تساعد تلك الفئة الحزينة على إذابة معاناتها، وإخراج نفوسها الحزينة من سجونها. والله الموفق.
قتلتني أمي وهي لا تدري
وَعيتُ الحياةَ بِدُونِ أبٍ، وعَرَفْتُ أخيرًا بأن أبي طلّق أمي وتزوج بأخرى، كما علمت بأن دخله محدود ومتواضع؛ حيث يعمل مستخدمًا في مدرسة ابتدائية، وقد خصص لنا مبلغ خمسمائة ريال شهريًا فقط، وهذا المبلغ القليل الذي لا يكفي لسد إيجار البيت نستبشر بمقدمه عندما نستلمه، ثم يتبخر سريعًا، كما أن الجمعية الخيرية تقدم لنا مساعدة مالية نخصصها لإيجار البيت والضمان الاجتماعي، أيضًا يمنح والدتي مساعدة مالية كل سنة، لكن كل هذه المساعدات تقضي عليها متطلبات الأسرة المتنوعة والضيوف الثقلاء من أمثال فاتورة الكهرباء التي تزورنا كل شهر وتلاطفنا حتى ندفع لها حقها، ثم فاتورة الهاتف التي تصرح وتلمح وتهدد بقطع العلاقة معنا حتى نعطيها حقها، وفاتورة الغاز، وفاتورة الصيانة لأدوات البيت والأجهزة كالثلاجة والمكيفات والغسالة ثم الفاتورة التي تلتهم كل ما تجده وهي فاتورة الأكل، وأهم منها فاتورة ملابس المدرسة ومتطلباتها وملابس الشتاء والصيف والمناسبات التي تفرض حقوقها بالقوة، ناهيك عن فواتير أخرى ترفع رأسها بين كل فترة وأخرى، مثل العلاج ومتطلبات الضيوف، وأثاث المنزل وغيرها، كل هذه التكاليف تعتبر كابوسًا تحمله أمي وحدها فوق رأسها كل يوم وتسعى أن تتخلص منه سريعًا وتسأل الله دائمًا العون والفرج.
نعم أنا أكبر واحدة في البيت بعد أمي، ولهذا وجب علي المسهامة قدر استطاعتي في حساب الفواتير المدفوعة بل التضحية، فإن لم يكن لدي دخل أساهم به فمن حقها علي أن أقطع ما أستطيع لأضعه في سلة التوفير، ولذلك سعيت منذ عرفت الواقع، بل منذ وقفت اللقمة في حلق والدتي أن أقف معها قدر استطاعتي؛ لذلك تنازلت عن شراء ثوب للمدرسة للعام الجديد، وقبلت لبس مريولي القديم مع الحذاء القديم؛ سعيًا لتقليل التكلفة إلى جانب تقليل طلباتي ما استطعت على الرغم من أن المنافسة حادة بين الفتيات في سوق التباهي والتفاخر، وبشكل خاص في مثل سِنِّي حول المشتريات المدرسية والحذاء؛ لأنه يعبر عن مستوى الأسرة القادرة على اختيار الأفضل والأغلى على الرغم من وجود ضوابط مدرسية لتقييد ذلك إلا أن الفتيات يخترقن جدار الضوابط، ويجدن ما يتبارين حوله من الأقلام والأدوات الهندسية وأدوات التربي الفنية وتجليد الدفاتر والأقلام وأنواعها وغيرها.
ومعلمتي بالفصل – سامحها الله – التي تجهل واقعي الاجتماعي والاقتصادي أصحبت تتندر بي من حيث لا تدري، وأنا أموت بالفصل خجلاً وألمًا لأني أتصنع بأني في مستوى تلك الفتيات، ولا أحب أن أظهر بينهن بأني فقيرة وغير قادرة على تأمين متطلبات المدرسة.
ذات يوم أكَّدْتُ عليَّ المُدرِّسة بتغيير حذائي الشتوي القديم المتهالك، ثم لامتني مرة لعدم تجاوبي معها، وعندما قرر بنات الفصل تحسين الفصل، ومساهمة كل فتاة بمبلغ من المال سأَلَتْ: مَنِ التي لم تُسَاهِم؟ فَأُشِيرَ إليَّ، فقالت: يكفينا منك مساهمتك في تغيير حذائك. لعلَّها كلمة سهلة قالتها ولم تعرف أبعادها؛ ولكنها كلمةٌ قاسية، تمنيت وقتها أن الأرض تنشق فتبلعني، لم تقف الأمور عند هذا الحد بل عندما دعي الفصل للمساهمة في مساعدة الشيشان تخلَّفْتُ عن الدفع لضيق ذات اليد، فألبستني وشاحًا جديدًا وقالت كل الفصل يتجاوب ويتعاون إلا "نورة"؛ شايفة حالها أو أنها غير حاسَّة بالآم الفقراء المساكين، ولم تَدْرِ أني أكابد متاعب كبيرة جدًا؛ ليس لعدم مساهمتي فقط، ولكن لضيق ذات اليد وأكثر ما يؤلمني كلمات معلمتي التي تخنقني كلما هممت أن أخرج للهواء الطلق بل إنها والله تقتلني يوميًا.
ربما كلماتها سهلة عند شخص كبير لديه لياقة في الصبر والتعليل الداخلي، ولكن لفتاة في مثل سني تصبح أجراس كلماتها تجعلني أتجرع واقعي المرّ ساعاتٍ وساعات ... ماذا أعمل حتى أكون في مستوى غيري فأرضي معلمتي؟!! رفقًا معلمتي بغصون من الأحاسيس ما زالت طريَّةً ... رفقًا معلمتي بي فهل ترفعين أسهمك على حساب جثة ميتة؟!! خافي من الله، ألا ترين أنك قضيت على مستقبلي، وأنت ترفعين وتستعرضين دفتر واجباتي أمام محكمة الطالبات قائلة: لسنا بحاجة يا نورة لمساعدتك بل اشتري بها على الأقل دفتر لك ... ما أسهل الكلمات عندما تقال، ولكنها كالفأس الذي يهوي على رأسي مما جعلني لا أطيق البقاء بالمدرسة، حجبت دموعي وخلفها سترت مشاعري ثم ذهبت إلى منزلي أجر الألم والحسرة.
لقد تمارضت وادّعيت أمام رفيقاتي وجيراني بأن ظروفي المرضية وظروف والدتي تعيقني عن مواصلة الدراسة، مرّت ثلاثة أعوام وفيها نضجت أكثر، وعرفت الحياة بطريقة أحسن ثم تعرف أحد أقاربي على الموانع التي عاقتني عن مواصلة دراستي فساعدني جزاه الله خيرًا وبذل جهود كبيرة حتى عدت مرة أخرى لمواصلة دراستي.
والآن تريدون نهاية معاناتي، ولعل أسلوبي في تناول قصتي خير دليل يعرفكم بأني أصبحت باحثة اجتماعية في مؤسسة داخلية أثبت جدارتي بفضل الله لأني أصبحت لا آخذ بالظواهر بل أبحث عن الدوافع والمسببات، وأرجو ألا أُخْطِئ مثل معلمتي التي أعترف لكم بأنها خدمتني كثيرًا من حيث تدري ولا تدري؛ حيث علمتني في المدرسة كثيرًا ودربتني بظلمها كيف أتقن مهنتي وأتجنب ظلم الآخرين.
ولكن إذا نَجَتْ نورة من الغَرَقِ بأعجوبة، فكم من فتاة غيري ستغرق تحت ألواح مظهرية ومطالب شكلية لا تستطيع أن تحملها إلى شاطئ الأمان؟! وحتى لا تقلقوا على والدتي؛ فمع أني تزوجت وعملت فقد خصصت لها شيئًا من راتبي وفاء بدورها ووقوفها معنا والتزامًا بمنهج رب العالمين الذي يدفعنا إلى التكافل والبر والرحمة بوالدينا وبأقاربنا وأرحامنا.
معلمتي ... مرة أخرى رفقًا بنا؛ فكم من بنت فقيرة! وكم من أخرى والدها من ذوي الدخل المحدود مثلي! وكم من بنت تعيش في ظروف الله أعلم بها! صحيح نحن أفضل حالاً من غيرنا، ولكن يوجد معنا من هو أفضل منا فالمقارنة غير متكافئة.
من أوسمة التفحيط
الولد يطلب من أبيه أن يُفَحِّطَ والأب سعيد بتجاوبه مع ابنه الوحيد، فيقوم بالتفحيط إكرامًا لابن السابعة، ولم يدر أنه يعلمه السلوك السيئ؛ ذات مرة لاحظ مسؤول الدوريات في الحارة هذا الرجل الكبير يفحط بسيارته كالمراهقين ولكنه علل ذلك بأنه رجل كبير، وقال في نفسه لعل الحركة جاءت عفوية وليست مقصودة، ولكن تكرار التفحيط دفع رجل الشرطة ذات يوم إلى استيقافه والتفاهم معه؛ لماذا تفحط؟
أجاب أبو إبراهيم وهو يضحك بسعادة كبيرة: مثلك عارف وليد ينبسط لما يسمع صرير الكفرات على الأرض، قال له رجل الأمن: خلّه يفرح أكثر عندما يشاهد أباه كريمًا في دفع المخالفة، رجل مثلك قدوة في المجتمع كيف تعلمه صورًا سلبية؟!
تغير وجه أبو إبراهيم وأخذ المخالفة بتردد، ثم قال: الله يسامحك. ردّ عليه رجل الأمن: الله يسامح الجميع، ولكن أرجو أن تكون قدوة حسنة لابنك، كيف تزرع فيه بذور الشر وتريده رجلاً صالحًا ثم أردف: يا أبا إبراهيم حاول أن توفر المال الكثير للمستقبل؛ فكم يستلف ابنك من سيارة وكم ستدفع من دية؟! هذا إن بقي ابنك على قيد الحياة، أو ربما أصبح معوقًا، هذا عقابك في الدنيا، فكيف بالآخرة، وقد سلمت ابنك سكينًا ليقتل الناس بها، ودربته عليها وشجعته على ذلك؟!
ذهب أبو إبراهيم لمنزله يجر همومه ساكتًا يتمنى كيف ينتقم من رجل الشرطة، ويكف يُمَنِّي نفسَه بأن له سلطة لكي يعاقبه أشد العقاب، نام القيلولة وهو يجتر أحلام الانتقام والهم يلاعبه، ومرت الأيام ورأى ابنه يجول ويصول في الحواري مفحطًا وهو يتابعه بابتسامته العريضة المعتادة، وكأنه يتابع أعظم منجزاته خلال عقد من الزمن، وأثناء مرور لوحات البهجة والسعادة التي تتابع إذا بالولد ينحرف نحو الموجودين حوله يتفرجون على حركاته وصوت الكفرات السحري فيقتل اثنتين من أخواته بالإضافة على موته هو أيضًا، وعمل إعاقة مستديمة لأخيه الذي يركب بصحبته.
ندم الأب ولات ساعة مندم، وتألم كثيرًا، ولكن هيهات فإن الندم لن يعيد الأمور إلى نصابها؛ لقد بكى الأب بكاءًا مرًا واختلطت الدموع بدم الأولاد وأحس بأنه هو الذي قتل أولاده بنفسه وأخذ يجأر بالبكاء بصوت عالي ليخرج آلامه التي تجثم على صدره، والناس مجتمعون حوله يسعون إلى تهدئته مستغربين حشرجة الصوت ودموعه التي أخذت تسيل على الأرض لتكون مستنقعًا يسبح به فينظف نفسه مما زرعه في ولده لحظات طويلة، وهو يتجرع جريرته ثم يجد يدًا دافئة توقظه على استعجال من نومه إنه صوت بنته التي دفنت كم كانت سعادته كبيرة وهو يتفحصها بأنها ما زالت على قيد الحياة، وهي تسأله: لماذا تبكي يا والدي، أخذ يطمئن على بقية الأسرة، قالت: إنهم جميعًا في البيت، الحمد لله على نعمه ما أسعدني أن أفيق من هواجسي المظلمة بحلم أيقظني وصحح مسار حياتي، لن أفحط بعد اليوم ولن أسمح لأحد أن يفحط إذا كنت أحب حياتي وحياة أولادي فحياة الآخرين أيضًا غالية عليهم.
ثم خرج من الغد لبعض شؤونه، فطلب منه ابنه الصغير التفحيط – حسب العادة – قال له: يا ابني، هذا سلوك خاطئ؛ لأن فيه مخاطرَ على حياتنا وحياة الآخرين، ولكن حبًا وكرامة دعنا نفحط على أقدامنا حتى لا يكون الموت وسامًا نحمله على صدورنا.
صافرة اليتيم
جلستُ في حديقة منزلي أتطلع إلى ابني الصغير وهو يلهو ببعض اللعب التي اشتريتها له، ورجعتْ بي الذكريات إلى طفولتي وأنا في مثل عمره، وأخذتني رجفة خفيفة تأتيني كلما تذكرت طفولتي رغم بعد الأيام، فبعض ذكريات الطفولة تحفر لها خطوطًا عميقة في عقل الإنسان ولا يمحوها مرور الزمن؛ تذكرت وفاة أبي واليتم الذي عشته، وكيف زلزلت هذه الوفاة كيان أسرتي؛ لأن أبي رحمه الله توفي في عمر الشباب، ولم يكن قد استطاع بناء كيانه المادي بشكل يوفر لنا مطالبنا الضرورية، مما اضطرنا الواقع الصعب الذي نعيشه – ويتربع على قمته الوضع المادي السيئ – إلى الاعتماد على عمي الذي أفرد لي مع والدتي غرفة في ملحق منزله وبين حيطان تلك الغرفة رضعتُ الألم وأحسست بمرارة اليتم وأنا أرى الفرق الشاسع بيني وبين أبناء عمي، وكان كل مناسبة سعيدة تمر على المجتمع تترك بعض بصماتها المريرة في ذاكرتي...
إن الحوادث التي مرت بي أذكرها وكأنها حدثت بالأمس القريب ... دعانا عمي كما دعى بعض أقاربنا في أحد الأعياد لمشاركة أسرته فرحة العيد، وتناول طعام العيد، وجلست مع الرجال بين أبناء عمي على صحن واحد ولكنها فرحة لم تعش طويلاً إذ انبعثت ريح كريهة مصدرها ابن عمي الأصغر سنًا مني ...
فنظر عمي إلي بغضب قائلاً: ألا تستحي لماذا تفعل ذلك؟ توقفت اللقمة في حلقي، وأنا أحاول أن أنفي عن نفسي تلك الفرية، ولكن عمي وبعض الحاضرين جاملوا عمي، وأكدوا له بأني أنا الفاعل كيف لا وهم يجلسون على مائدته وقالوا لي عيب عليك ألا تميز المكان وتحترم الناس من حولك.
شعرت بالظلم الشديد ولم تستطع دموعي ولا حتى كلامي ذو النبرات المتقطعة المخلوطة بالألم أن تشفع لي وتقنعهم ببراءتي وبدلاً من الفرحة انقلب العيد مأتمًا حزينًا ولم أفهم سبب تحامل الجميع علي إلا بعد زمن طويل عندما كبرت وأدركت أنني كنت الطرف الضعيف الذي يمكن أن يتحمل وزر الآخرين دون أن يجد مدافعًا يحامي عنه أو يجد له أبا يُرْجَى أو يُخْشَى أو جدارًا يستند عليه.
مر علينا عيد آخر وقلت في نفسي «عيد بأي حال عدت يا عيد؟!» لقد جلس عمي وسط عائلته يوزع ملابس العيد الجديدة على أبنائه وأنا أقف بينهم يداعبني الأمل في أن يأتي دوري، ولكن تنتهي كومة الملابس التي كان يوزعها عمي ثم ينظر فيراني ونظرة الحزن يبوح بها وجهي فيشير إليَّ ويقول لزوجته: دبري ثوبًا قديمًا من أثواب أحد أبنائك لهذا الولد المسكين لعلنا نكسب فيه أجرًا ثم يلتفت بسرور وهو يتابع فرحة أولاده بالثياب الجديدة قائلاً لهم: لا توسخوا ملابسكم مثله وهو يشير بيده إلي، تمنيت لو انشقت الأرض وابتلعتني وجريت منتحبًا إلى غرفة أمي التي أخذتني في حضنها الدافئ الحنون فاختلطت دموعها بدموعي .. لكم تعذبت هذه الأم الصابرة التي لم تستطع أن ترفع الظلم عن وحيدها لفقرها وعجزها واعتمادها على عمي في تدبير معيشتها التي تحصل عليها مقابل خدمتها الشاقة في بيتهم، وكم كنت قاسيًا عليها دون أن أدري وأنا أصيح فيها، وأطلب منها مغادرة الغرفة والسكن في منزل آخر بعيدًا عن منزل عمي، وكيف تمسكت بعدم ارتداء ثوب ابن عمي القديم مطالبًا والدتي بشراء ثوب جديد لي مثل أبناء عمي، ولسان حال أمي يقول: من أين لي ثمن الحلوى فأشريها؟! من أين لهذه الأم المسكينة المال؟!
لقد كنت أزيد إحساسها بالعجز والضعف؛ فكيف تلبي مطالبي وهي لا تملك أي مصدر دخل! ولكن كيف لعقلي الصغير أن يستوعب ذلك! ويستمر شريط الذكريات يمر بي، وأتذكر يوم عاد أحد جيراننا من رحلة للعمرة وكنت ألعب مع أبنائه أمام منزله عندما وصل فدعاني مع أبنائه لدخول منزله، «وأعطى كلاً منّا صافرة جزاه الله خيرًا»؛ إنها لحظة لن أنساها جعلتني أعانق السماء فرحًا؛ فهي أول لعبة أحصل عليها في حياتي تساويني بهم، وانطلقت مع أبناء جاري إلى الحارة نلهو ونلعب في سعادة غامرة وفجأة شعرت بيد ثقيلة تهوي على كتفي لأكتشف في ذعر شديد من هول المفاجأة الجافة عمي ينزع صافرتي بعنف ويكسرها تحت قدمه صائحًا ألا تستحي؟ ألا تعرف أن إزعاج الناس حرام؟
نظرت حولي فإذا كل طفل ما زال يلهو ويلعب بصافرته ... أما صافرتي صافرة اليتيم فهي مصدر كل الإزعاج، لعبتي الأولى والوحيدة مهشمة تحت الأقدام ... أحرام علي وحلال لغيري؟ يا سبحان الله! وهويت من السماء التي كنت أحلق فيها منذ لحظات لأصطدم بقوة الأرض والظلم الذي يعيش في بعض مستنقعاتها.
نعم حرام علي أنا وحدي فأنا اليتيم ... أنا اليتيم الذي يُنفَّس الناس فيه من أحقادهم وضغائنهم أنا اليتيم الذي يحمل وزر الآخرين، نعم أنا اليتيم الذي يجب أن يصرخ، وإذا صرخ لا يسمع؛ ما أقسى تلك القلوب التي تسعد أن تحتفل على جثث الآخرين! وما أمرّ تلك الذكريات! إنها كالعلقم، إنها كابوس جاثم على صدري تقودني إليه ذكرياتي، وما أحلى الصحوة بعد مثل هذا الحلم الكئيب!
لقد أفقت بسعادة من شريط الذكريات المرة على صوت ولد أختي اليتيم الذي يعيش معي وهو ينادي أبي، فاندفعت إليه وحضنته بقوة وبأيد مرتجفة ومشاعر متوترة وكدت أؤلمه كثيرًا دون وعي مني حاولت أقرن روحي روحه وقلت له: نعم أنا أبوك وسوف أظل بمشيئة الله أباك.
لقد تأملني بنظراته بسبب قسوتي في شدي له، وبكى فقلت: لا تبك على قلب يهفو لك ثم قبلته من جميع أطرافه وتذكرت قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «أنا وكافل اليتيم كهاتين وأشار بالسبابة والوسطى»، كما سرحت في جو النبوة وتذكرت يتم الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - وخطاب الله له بقوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى﴾ ثم أفتح المذياع لأجد إمام الحرم يصلي المغرب تاليًا الآية الكريمة:
﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ لأقول في نفسي ما أجمل هذه المناسبة والواقع أن معظم المجتمعات تعتني ولله الحمد بهذه الفئة بصورة فردية أو عبر مؤسسات اجتماعية حكومية، أو خيرية أهلية.
المغازلة ومستنقع الرذيلة
تقف الفتاة هنا تحذر أختها الصغيرة من مخاطر العبث باستخدام الهاتف من وَقْعِ تجربة أليمة حَصَلَتْ لها ذات يوم عندما استقبلتْ مكالمةً من شاب يتودَّدُ لها، ويؤكد لها على سلامة نيته ومقاصده، فبَلَعَتِ الطُّعْمَ وذهبت معه في رحلات هاتفية تحلق في غرام مفتوح، تقول هناء: كنت أتحين غياب والدتي أو انشغالها لغرض سماع صوته ومكالمته، ولشدة تعلقي به واندفاعي معه زودته بالأوقات المناسبة التي يستطيع أن يتحدث فيها معي بدون متاعب، كما أعطيته معلومات صحيحة حول أسرتي ومنزلي.
لقد أسرني في أحاديثه ومداعبته، فنسيت نفسي وديني وقيمي، وكدت أركب معه في سيارته بعد عهود قطعها عليَّ بألَّا يؤذيني، وكنت مخططة للخروج معه خلال وجودنا في قصر الأفراح بمناسبة زواج قريبة لنا، بحيث أركب معه ساعة واحدة فقط؛ ولكن الله أنقذني من جهلي عبر قصة مشابهة قرأتها تحت عنوان «يا فتاة المستقبل لماذا ترمين نفسك في مستنقع الرذيلة؟» وتدور أحداث القصة حول فتاة غرر بها شاب وهدم مستقبلها فكأنني استيقظت وقلت له: يا سليمان إذا كنت ترغب بالزواج مني فالبيوت لها أبواب، وأنا متندمة على لحظات العبث التي قضيتها معك على الهاتف، ولكن يا سليمان مع الأسف أخذ يهددني وقال لي: إن مكالماتك – يا هناء – مسجلة عندي وقد أسمعني صوتي لكي يؤكد لي ثبوت إدانتي ولكي يجعلني أنقاد معه بدون وعي أو تفكير وقد كدت أن أهلك.
أخذ تارة يهددني وتارة يعرض علي بأنه سوف يسلمها لي مقابل أن يراني مرة واحدة ترددت كثيرًا حول عروضه وتهديداته، مرة أقنع نفسي بأن أقابله وآخذ منه السكين التي يهددني بها لاعتقادي أنه لا يوجد بالسوق سوى سكين واحدة، ولست أدري فربما نسخ شريط التسجيل، وربما وقع أكبر مما كنت سأتجنب، ومرة أقنع نفسي بأن خير وسيلة تجاهل تهديداته وصرت في حيرة من أمري ولم أستطع طلب المساعدة من أحد خشية فضيحتي خاصة وأنا أنتظر الخطاب عبر باب الهواجس والأفكار.
طلبت العون من الله، ومن يتوكل على الله فهو حسبه استحسنت عرض مشكلتي على قريبة لنا متعلمة وذات أخلاق بطريقة غير مباشرة حيت أَلْبَسْتُ مشكلتي لمجهولة وعرضتُها عليها فنصحتني بضرورة إهماله وتركه، وقالت بأن تهديده يدينه بالذنب، ولن يستطيع أن يعمل شيئًا، وحتى لو قدر أن يعمل فمعالجة الخطأ بخطأ أكبر منه يعتبر سذاجة وضعفًا في التفكير، والرجوع من بداية الخطأ أفضل من التمادي فيه: قولي لها تتوب إلى الله وتستغفر من ذنبها. أخذتُ بالنصيحة وتجاهلت الهاتف كله، والحمد لله فقد نجوت من الضياع قبل فوات الأوان، والآن يا أختي يا قلبي؛ أرجوك ثم أرجوك البعد عن استخدام الهاتف بطريقة مذِلَّة تدفعين فيها شرفَكِ أو حياتَكِ.
من السارق؟
هرولتُ مسرعًا إلى مدرسة الأمانة حيث أعمل مدرسًا بها، وعيني على ساعتي؛ حيث شعرت بالتأخير الذي يدفعني إلى استعجال الخطى والدخول مباشرة إلى الفصل لأجد تلاميذي ينتظرونني، بدأت بتدريس مادتي (القواعد للغة العربية) التي أجيد تدريسها ولا أجيد تطبيقها، ورحم الله امرءًا عرف قدر نفسه فأنزلها منازلها ...
بدأت حصتي متنطعًا بكلمات حفظتها شارحًا للطلاب حروف العلة ومتى تذهب (الواو) للمستشفى لتقلب (ياء) ومتى يسبق (الواو) فتحة فتتألم وتقلب (ألفًا) ضحك أحد التلاميذ فسألته عن سبب ضحكه، فأفاد أن مثالي الذي وضعته على السبورة ينطبق على زميله علي حيث ورد في المثال كلمة (الأمين) وعندما طلبته الإيضاح أخبرني أن زميله دخل دار الملاحظة منذ شهر حيث سرق مبلغًا من المال، لذلك فهو ينعته استهزاء به الأمين.
أخذتني هذه الكلمات بعيدًا إلى واقع أليم عشته عندما كنت طفلاً صغيرًا وشاء الله أن آخذ دراجة أحد جيراننا الذي أبلغ جهات الأمن فقبضت علي وعندما علم الجار بأني أنا السارق تنازل عني مشكورًا احترامًا للجيرة وعندما علم أستاذي بالمدرسة سامحه الله بالقصة أخذ يتندر بي وينعتني بأبي الدراجة بالرغم من أنها أول مرة في حياتي تمتد يدي إلى حاجة ليست لي، ولم يكن الأمر بغرض سرقتها بقدر ما هو بنية اللعب بها، ولم يكن لدي الإدراك الجيد والمعالجة السليمة لأقوم مثلاً بالاستئذان من صاحبها لغرض قيادتها.
لذلك كلما داهَمَ زملائي بالفصل النّعاس أو الخمول صرخ بهم الأستاذ مداعبًا ومجددًا لهم نشاطهم: « لا تناموا وبيننا أبو الدراجة فربما سرقكم أو سرق ما في جيوبكم»، وكأنني أنا أول سارق على هذا الكوكب الأرضي، ويا ليتني كنت كذلك ليحظى اسمي بمنزلة مرموقة في الكتب التي تعتني بالأولويات، وربما حزت على جائزة أول سارق، وكأن أستاذي هو أطهر شخص على هذه البقعة، ولعله لو تذكر هو أو غيره طفولته ومراهقته وشبابه لوجد فيها ما هو مشين لأننا كلنا معرضون للخطأ ولكن الفارق الوحيد هو الحظ العاثر الذي قادني إلى مخفر الشرطة؛ بينما سمح للكثيرين بإنهاء مشاكلهم دون وصولها لأقسام الشرطة أو دون اكتشاف أمرهم ... وما أكثرهم، ويا ليتنا عندما نحاسب الغير على أخطائهم نتذكر أخطائنا وضعفنا وماضينا وأننا جميعًا بشر مثل غيرنا نخطئ ونصيب والله غفار لمن تاب وأناب؛ قال الله تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾ كما أن الله عظم أجر التائبين في عدد من الآيات الكريمة، والأحاديث النبوية الشريفة ...
... أنا مدرك أن الأستاذ لا يقصد الإضرار بي، أو التقليل من شأني، ولكنه قتلني دون أن يدري، واتخذ من جنحتي مجالاً خلابًا لجذب الطلاب إلى مادته، فأكلوا النعيم على جثتي، والمؤلم حقًا أنه عندما يكون أستاذك أو والدك أو شخص تحبه وتعتبره قدوتك هو الذي يقضي عليك بمثل هذه (الأوسمة) خاصة أن عقلي صغير حيث ما زلت طفلاً، فأي كلمة من أستاذي أو من أي شخص في عمره أو موقعه تعتبر شيئًا كبيرًا وذات تأثير فعال لكونها صفة ملازمة، وعندما كبرت شرحت لأستاذي تلك الواقعة عندما كنت تلميذًا في مدرسته ... ابتسم وقال: لعلك تعذرني إذا علمت أن بعض المجتمعات التي حولنا تفوق ذنبي، فهي تمقت كل من له صلة قرابة بالمذنب، ثم ذهب يطنب بشرحه من أجل أن يغطي صراحتي لأنه لا يجد الكلمات المناسبة التي تسعفه بالاعتذار، أدركت ذلك من خلال وجهه ثم سايرته وقلت له: هذا صحيح ولكن هل يفهم التلاميذ الصغار ذلك؟ هل يدرك التلميذ الصغير أن زميله تاب وأصبح فعلاً أمينًا؟ إن سخريته من زميله توضح أن عقله صغير بحجم جسمه، ولعله يكبر فيدرك ذلك ويتفهم ما قاله الإمام الشافعي:
لسانك لا تذكر به عورة امرئ | فكلك عورات وللناس أعين | |
وعنيك إن أبدت إليك معايبًا | فقل: يا عين للناس أعين |
أطفَأَتْ دُموعُ أَبِي سيجارَتِي
القضية ليست هي القدرة على تلاوة النصيحة فقط؛ بل معرفة العبارات والأساليب المؤثرة التي تدخل إلى قلوب الناس وتخاطبهم على قدر معارفهم وعقلياتهم، وتتفق مع سنهم وتوجهاتهم، فإذا كنا نمتلك ونحسن استخدام الأساليب الفعالة المؤثرة عندما نسعى إلى الحصول على قرض من صديق أو عندما نتقدم لخطبة فتاة، أليس من الأولى أن تستخدم تلك الأساليب الفعالة حين نريد إبعاد من نحب عما يضرهم في دينهم ودنياهم!
... والآن مع قصة توضح واحدًا من الأساليب الإرشادية الجيدة التي دخلت إلى القلب، فتربعت فيه، وهي نصيحة غير مباشرة استطاعت أن تخلق الاستجابة والقناعة النهائية عن طيب خاطر، لنصحب الموظف أبا عبد الرحمن الذي ما زال يعمل محاسبًا في وزارة التجارة وقد أدمن على شرب الدخان كما يقول لفترة طويلة، وتطوع عدد من معارفه ومحبيه بتقديم النصيحة له؛ إلا أن محاولاتهم ونصائحهم تمر عليه مرور الرياح العابرة ولا تؤثر عليه، ويقول: كنت أثناء النصيحة أترقب نهايتها لمعرفتي التامة بتفاصيلها، فما أكثر ما سمعتها بأساليب مكررة، ولم أعد تلميذًا يصغي إلى أساتذته، ولكني مع ذلك كنت أجامل والملل يلازمني حيث طبيعة الحياة وأنواع المجتمعات تفرض لونًا من القيم والأعراف، فمن يستطيع أن يصد ناصحًا حتى ولو كان لا يحسن أساليب النصح، ولا يعرف الأساليب الجيدة التي تقوم على المداخل الجيدة، والعبارات المؤثرة، ولكني كنت أُعَوِّلُ على حسن القصد وصفاء الضمير.
مع العلم أن بعض الناس نصحوني بطريقة معلنة وصريحة، وبعضهم سامحه الله يستخدم التجريح والكلام القاسي، وآخر ينصحك في مشهد من الناس مما يجعلك تكرهه وتحس أنه مغرض..
وذات يوم أراد والدي أن يدلي بدلوه بنصيحتي بطريقة تعتمد على التلميح وبأسلوب غير مباشر وهو أسلوب حديث ومؤثر؛ حيث اشترى لي علبًا منوعة من الدخان من خباز كان في حارتنا؛ حيث أن الخبازين في تلك الحقبة من الزمن كانوا يحتكرون بيع الدخان في مخابزهم؛ لعدم وجود منافس لهم لعدم إقبال المواطنين على بيعه قبيل المد العمالي الحالي، وبما أن والدي لا يعرف أنواع الدخان ولا كذلك نوع الدخان الذي أشربه فقد اضطر لشراء كافة الأنواع الموجودة عند الخباز.
وعندما أردت الخروج كعادتي إلى أصدقائي الذين كنت أتسامر معهم ليلاً، وأشرب الدخان معهم، دعاني والدي وقال لي بلهجة حزينة: بني الدنيا قصيرة وأنا أوشكت على الرحيل، ولم أستمتع بالجلوس معك، وليس هناك ما يفرق بيننا سوى هذا الدخان، ورمى علب الدخان أمامي وطلب مني الشرب أمامه بإلحاح شديد، بل أقسم علي يمينًا عندما وجدني مترددًا فكيف أشرب أمام والدي الذي أنكر أمامه أني أشرب الدخان أصلاً.
وأردف والدي قائلاً: دعني أفحصك وأتعرف على ملامحك جيدًا فلم أعد أميزك كثيرًا، وواصل حديثه معي قائلاً: أتمنى أن أستمتع معك بعض الوقت، اشرب يا بني ولا تجعل الدخان يفرق بيننا. أخذت أشرب الدخان بمرارة وفاءً وبرًا بقسم والدي، وخاصة بعد إصراره وتكرار قسمه، ولم أستمتع كعادتي بالشرب، وعندما انتهت الجلسة سعدت وخرجت إلى الشارع لكي أشرب فيه سيجارة واحدة، وأنا في طريقي إلى أصحابي أخرجت علبة الدخان، وأخذت واحدة وأشعلتها في شارع بيتنا الذي لم يشهد علي بسابقة أن شربت فيه الدخان، فكيف أشرب فيه الآن! أخذت أسترجع لحظات جلوسي مع والدي، وأتفرس ملامحه الحزينة والدخان في فمي، تضايقت كثيرًا من مشهد والدي ودموعه التي سالت على وجنتيه، ثم نزَلَتْ لتناجي الأرض، وهو يحاول أن يسترها، وأثناء ذلك المشهد المحزن سقطَتِ السيجارة من بين شفتي المتوترة إجلالاً لذلك المشهد، وتابعتُ مشاعر والدي الصادقة التي دفعته أن يشتري لي الدخان من أجل أن أظل بقربه وهو الرجل الورع الذي لا يقبل أحدًا أن يشرب الدخان أمامه؛ بينما سمح لي؛ بل أقسم عليَّ أنها مشاعرُ أبَوِيَّةٌ صادقةٌ، ولا تحتاج إلى ترجمة...
لقد أحسست ببرودةٍ بينَ أنامِلِي، وأحسست بألم برأسي، وعندما أَعَدْتُ السيجارة التي سقطت إلى فمي لم أستمتع بنكهتها المعتادة التي ألفتها مع الأيام بل وربما لم يكن لها أصلاً نكهة؛ ولكنها العادة السيئة التي ألفتها.
رميتها بعنف ومَزَّقْتُ علبةَ الدُّخان ورُحْتُ أعيش في جَوِّ والدي – رحمه الله – الذي تنازل عن مبادئه إكرامًا لابنه، ومنذ تلك الليلة تركت الدخان غير مجبر، بل أجبرني أسلوب أبي التربوي السليم المبني على عواطف صادقة، والهداية أولاً وآخرًا بيد الله.
ومن هذه القصة تعلمت الكثير في تربية أولادي وأدركت أهمية المداخل المناسبة والعبارات الجيدة، التي تدغدغ قلوب أولادنا، وكذلك اختيار الوقت والأسلوب والصورة التي نقابلهم بها؛ ليس لغرض أن نؤدي المهمة؛ بل أن نحقق المطلوب، ولكي نحقق المطلوب علينا أن نؤهل أنفسنا أولاً للأساليب التربوية التي تؤثر في أولادنا، إنها بذرة نزرعها ثم تصبح شجرة ثم بعد حين تُثْمِرُ، نحن مطالبون بالصبر ومتابعة الري بطريقة سليمة، ثم لا بد أن نكون قدوة طيبة وصورةً حسنةً أمام أولادِنا قبل كلِّ شيء، فكيف يقبل الولد نصيحةَ والدِه عندما يعاقبه على شرب الدخان؛ بينما هو بنفس الوقت يشرب الدخان وكأنه ينفث الصدق من فمه، والولد سوف يعتقد أن العقاب مجرد كراهية، فكيف إذا تَمَّ عتابُه أو عقابُه! فكيف سيكون ردة فعله! أضف إلى ذلك لو أن الولد خيل له بأن الذي يقوم بإجراء التحقيق معه في قضية السُّكْرِ مربٍّ مُسْكِرٌ؛ فكيف سيحكم على قضيته ومجتمعه؟!
من يقود الآخر...؟
اعتقدتُ أنِّي خبيرٌ في شؤون السَّيَّارات، وربما هيأ لي ذلك - خاصة وأن كثيرًا من الناس يسعون لمعرفة رأيي في السيارات التي سيختارونها - وكنت أقدم لهم نصائح كثيرة، ولكن صدقوني بدون مقابل، وذات يوم حضر لي صديق قديم، وطلب مني مرافقته لبيع سيارته، ذهبنا سويًّا لجراج السيارات، وأثناء سيرنا لموقع الجراج توقَّفْنا لتأدية صلاة العصر في المسجد، وعند نزولنا من السيارة علمنا بأن الإمام وجماعته سبقونا للصلاة.
لذلك تجمع من فاتتهم الصلاة وتقدمت للصلاة بهم لكوني أملك المواصفات المناسبة بين المتواجدين وبعد الصلاة أكملنا مسيرنا إلى جراج بين السيارات، وعند وصولنا إلى ساحة الجراج وجدتُ أن السيارات الواقفة كثيرة سعيت بمساعدة عامل المعرض أن أقدم سيارة صديقي على بعض السيارات الواقفة، ولكن صديقي اعترض وقال لي: لا أريد أن آخذ دور غيري، اعتقدت أنه يريد أن يتأخر بعض الوقت حتى يجتمع الكثير من الناس فتتعالى المزايدة ويتحسن السعر لسيارته، ولكنه اتضح لي مؤخرًا بأنه لا يريد أن يأخذ دورًا ليس له من الوجه الديني؛ لكونه يرى بأنه استولى أو سرق دورًا ليس له كما قال لي.
مضى أكثر من ساعة حتى وصلت سيارة صديقي الدور ثم فتح غطاء السيارة الأمامي وراح المعلق يهدر حولها، وبعض الناس يتابعون المزايدة والبعض الآخر منشغلون بفحصها من الداخل والخارج.
بعض الراغبين بالشراء من أهل المهنة يسعون إلى المزايدة رغبة للتكسب بها، وربما أشار بعضهم إلى بعض بإشارات مهنية معينة؛ كعلامة وقف المزايدة، والبعض الآخر يريد سيارة للاستخدام، أحد هؤلاء وقف عندنا وسأل: من هو صاحب السيارة؟ قلت له: ماذا تريد؟ قال: أحبُّ أن أسال صاحبها عنها وعن محركها، وهل توجد أعطال فيها؟
قلت له: أبشر؛ هذه سيارة ممتازة ولا يوجد بها شيء أبدًا، ولو أني لا أملك سيارة لاشتريتها، نعم إني أريد أن أخدم صديقي بهذه النعوت الجيدة لسيارته، ولكن صديقي صاحب السيارة قاطعني وقال للسائل عنها: هل تريد شراءها؟ قال: نعم. قال له: سيارتي تحتاج إلى رأس ماكينة حسب كلام المهندس أبي سامي الفلاني بشارع الورش، ثم قال: أيوجد فيها شيء آخر؟ قال صديقي: نعم المسجِّلُ غيرُ عامل. قال: وغير ذلك؟ قال: أعتقد بأنه لا يوجد فيها سوى ما ذكرتُ.
تَرَكَ الراغبُ في الشراء السيارةَ بعد سماعه بأنها تحتاج إلى رأس، وهَرْوَلَ يبحث عن سيارة أفضل منها، وكان هو أحد القلائل الذين يحاربون على اقتنائها قبيل لحظات، توقَّفَ السعر عند ثمانية عشر ألفًا، ولم يجد المعلِّقُ من يرفع السعر عند هذا الحَدِّ، تَوَجَّهَ لسيارةٍ أُخْرَى.
أَخَذْتُ أَلُومُ صديقي محمد وأُعَنِّفُهُ قائلاً: لقد أحرجتني؛ كيف أقول بأنها سيارة ممتازة، ثم تضع فيها عيوب؟! ثم أخذتُ أنصحُه وأقول له: أنا أعرفُ مِنْكَ، وأنا صاحب خبرة، والناس يأتون ليستفيدوا مني، وأنت تخالفني، أبشر فسيارتك لن تباع، لم يرد عليَّ؛ لأنه منشغلٌ بالبحث عن المشاركين في المزايدة على سيارته.
وجد بعضهم وعرضها على أكثر من واحد وكلهم لم تتجاوز عروضهم خمسة عشر ألف ريال، قلت له: هذا جزاء من لا يقبل نصيحة من هو أعرف منه، قال لي: أولاً أشكرك من كل قلبي وأدعو لك وأعرف بأنك حريص لتساعدني ولكن الشيطان هو الآخر يريد أن ينصحنا لكي يدخلنا معه النار، ألا تتفق معي بأن سكوتي عن عيوبها غش فإذا سَلِمْتُ مِنْ ذلك في الدنيا فكيف أَسْلَمُ منه في الآخرة يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه؟! ثم إن الثمن القليل المبارك كثير وسوف أبيعها بخمسة عشر ألف ريال لأني مقرر أن أبيعها ولن أرجع بها..
لم أجد إجابة مناسبة؛ فكلامه صحيح؛ لقد أفحمني ولكني لم أتعلم الاستسلام للحق سريعًا؛ لأن الشيطان ما زال يغويني ويمنحني المبررات والتعليلات وغيرها التي ستقودني إلى المهالك.
ذهب صديقي محمد مرة أخرى يبحث عن المزايدين الراغبين بالشراء؛ لكنه لم يجد أحدًا منهم؛ لأن معظم الناس انصرفوا أيضًا وأثناء سيرنا بالطريق استوقفنا صاحبنا الأول الذي كان يريد السيارة، وقال مخاطبًا صديقي محمد أريدها فكم تحب أن تبيعها؟ قال: كنت مقررًا أن أبيعها على الأقل باثنين وعشرين ألف ريال، قال: لا تسوى، ولكن ما رأيك بعشرين ألف ريال! وقد أعجبت بها ليس فقط لأني أحب هذا النوع من السيارات، ولكن صدقك دفعني لشراءها لقناعتي بأنه لا يوجد فيها عيب سوى ما ذكرت، وبالنسبة للمهندس الذي ذكرت فهو صديق لي، وسوف أذهب له لغرض إصلاحها.. اتفقنا بعد صلاة المغرب لإتمام الصفقة وعندما حضرنا لتأدية صلاة المغرب وجدنا الجماعة قد انتهوا من الصلاة عندئذ ترددت أن أصبح إمامًا كما هي عادتي على الرغم من أن صديقي محمد واثنين من الواقفين الراغبين الصلاة معنا دفعوني للصلاة بهم، لكني رفضت وقدمت صديقي محمدًا للإمامة، فاعتذر بحجة أن شكله لا يمنحه هذه المكانة، فقلت له: الدين عمل وتعامل، وورد عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «الدين المعاملة» كما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم -: «من غشنا فليس منا»، وأرجو أن يتوب الله عليَّ وعلى كلِّ مَنْ هو في مثل حالتي ..
هداني الله وإياكم إلى الحق والحمد لله، فقد عدت إلى الحق، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.
كُلٌّ مِنَّا مرآةٌ للآخَرِ
ليس المطلوب ماذا نكون بقَدْرِ ماذا نكون في نظر أولادنا، أراد أب أن يتعرف على صورته الحقيقية أمام أولاده فطلب منهم الوضوح والصدق وإسعافه بكل العيوب والصفات السلبية التي يرونها فيه، وقال في نفسه: لا بُدَّ من أن أُدَرِّبَ أولادي على أساليب الانتقاد ومنهجه وبالتالي فلا يُحْرَجون عندما يجدون أنفسهم عُرْضَةً للانتقاد، لذلك حَثَّهُم على نَقْدِه بِحَزْمٍ وقال لهم: كُلٌّ مِنَّا مرآةٌ للآخَرِ.
لقد تردَّدَ الأولادُ في خَلْعِ ملابسِ والدِهم وإظهار صورتِه الحقيقية وإزالة الملابس التي تستر عيوبه، ولكن تحت الإلحاح الشديد تجاسرت ابنته فاطمة وقالت له: أنت يا والدي تطالبنا جزاك الله خيرًا بالحوار الهادئ المتزن عندما نتناقش مع الناس، وأنت لم تؤهلنا لذلك بالتدريب فتسمح لنا أن نتدرب معك في هذا اللون المطلوب. قال لها مستغربًا: كيف أكون كذلك؟! أنت أخذت تتطاولين عليَّ يا فاطمة، وأنا أقول بأنك أفضل أخواتك! قالت له: آسفة؛ لقد أجبرتنا على التحدث بصراحة وأنت الآن تسحب رغبتك بتصرفك، قال: وما هو تصرفي؟ قالت: غضبك وعدم رغبتك بقول الصراحة، ربما تريد الصراحة التي تنشد من خلالها المدح بما يشبه الذم، وأنت تعرف منزلتك الكبيرة في نفوسنا مهما كنت، فكل فتاة بأبيها معجبة، ولكن كيف تريد منّا أن نحسن صنعة لم نتدرب عليها أصلاً! ثم سكتت.
حثّها والدها على مواصلة حديثها قائلاً لها: ثم ماذا يا فاطمة، قالت له: إذا أردت توجيهنا إلى جانب الخير تفرضه علينا ولا تحببه لنا فنقوم به إرضاء لك، وليس لقناعتنا كأننا نأكل الطعام من أجلك وليس من أجل أجسامنا. قال لها: ماذا عندك أيضًا يا فاطمة؟ قالها مستغربًا هذه الصراحة المتناهية التي لم يعهدها من قبل، ولم يكن يتوقع أن فيه كل هذه العيوب.
قالت: إذا تَحَدَّثَ مَعَكَ الصِّغَارُ لا تَهْتَمَّ بما يقولون، ولا تصغي لهم جيدًا، وهم بذلك يحسنون كأنك تنفر من أحاديثهم ولا تحبهم. قال لها: هل عندك شيء آخر؟! وكأنه شبع من كلامها، قالت: هناك أمور صغيرة لا أحب ذِكْرَها، وسأترك الحديث للبقية، ولكنك يا أبي مع كل ذلك تَحْمِلُ بين جوانِبِكَ قلبًا كبيرًا.
التفت إلى أحد أبنائه سليمان وقال له: ماذا تقول في حديث أختك فاطمة؟ قال سليمان مجيبًا: يا والدي، ما عندها سالفة تعتقد أن كل بنت تدخل الجامعة لا تحس بدخولها الجامعة حتى تبدأ تعارض أهلها، أختي ليس عندها وفاء ولا تعرف التأدب مع الكبار.
قاطعه والده بسعادة قائلاً له: ولكن هل ترى عيوبًا بي، أو ملاحظات؟ قال: لا يا والدي، فقط عندي لك دعاء بطول العمر ولا يوجد لك مثيل، الله يخليك لنا ذخرًا.
نظر إليه أخوه الكبير علي وأخذ يتمتم بينه وبين نفسه: "ثعلب ما ينخاف عليك حتى أبوك تلعب عليه، أكيد هذا تمهيد لتحقيق مطالبك". قال له والده: ماذا تقول أنت يا علي؟ قال علي: في ماذا: قال أبوه: ماذا تقول في كلام أختك؟ قال: أخشى أن أقول بأنها على غير حق وأكذب وأنت ربيتنا على عدم الكذب، وأخشى أن أقول بأنها على صواب فأغضبك، وأنا لا أحب أن أغضبك، قال هل عندك ملاحظات مثلها؟ قال: نعم، أنت يا والدي تحبب فينا استخدام الآداب والكلمات الجميلة، ولم نسمعها منك إلا قليلاً، خذ مثالاً على ذلك، إذا دخلت علينا لم تبادر بالسلام علينا ونحن جلوس، في حين تطالبنا بذلك، ولم نسمعك يومًا تحسن الاعتذار أو تتأسف لخطأ، أو تتنازل عن حق، أنت تطالبنا بأمور لم تزرعها فينا..
قال الأب: لماذا لم أزرعها فيكم، وأنا كل يوم أوعيكم وأنصحكم؟ قال: ما قصَّرْتَ يا والدي، لقد أصبحنا قادرين على توعية غيرنا ونصحهم، ولم نستطع أن نمارس السلوك الجيد ذاته، لأنك لم تمارسه معنا. قال: كيف ذلك؟ قال: إذا أردت منا سلوكًا حسنًا قم بالتعامل به معنا أولاً لكي ينتقل لنا بدون تكلف ولا جهد. قال: ثم ماذا؟ قال: سلامتك. أدار وجهه إلى هيفاء وقال: هل عندك مشاركة يا هيفاء؟ قالت: لقد فاض الإناء؛ أخشى أن نخسرك يا أبي عندما نقول لك ما في نفوسنا دفعة واحدة، ولكننا لا نريد أن نخدعك لأن طباعنا التي ربيتنا عليها تأبى أن نضعك في مكان عدونا فندفعك للشر من أبواب الثناء. قال: بدون فلسفة ثقيلة يا هيفاء، أعطيني ما عندك، من يحبني فلا يبخل عليَّ بملاحظاته، فطالما أنا قدوتكم فلا بد أن أسمع منك؛ فأنتم فلذات كبدي وأنتم دمي ومرآتي.
قالت هيفاء: طالما نحن كذلك فأنت بخيل جدًا. قال: كما تعرفون؛ كل راتبي أصرفه عليكم، فهل تريدون أن أسرق لكم حتى ترضوا عني. قالت: يا والدي أردت أن أقول شيئًا آخر ولكنك تعجلت الحكم على نفسك فلم أقصد ذلك؛ وإنما أعني أنك بخيل علينا بالابتسامة التي تسعدنا بها؛ لأننا نحس عندما تبتسم بأنك سعيد معنا، وأننا لم نكن عبئًا ثقيلاً عليك، وأنك ترفرف بالسعادة عندما ترانا وأن الحياة التي نعيشها في ظلك تعبر عنها بالابتسامة، ثم أيضًا لنا قدوة فيك؛ ابتسم لنبتسم معك، ونكون عائلة مبتسمة، أليس لنا الحق أن نأخذ بنصيحة علماء النفس: ابتسم لتبتسم لك الحياة. قال لها: كم أتمنى أن أكون كذلك؛ ولكنها مسؤوليات الحياة ومتطلباتها التي تذيب الابتسامة، وتقتلها في بعض الأوقات قبل خروجها.
ثم أردف قائلاً: أنتم على حقٍّ في كثير مما ذكرتم، ولن أدافع عن نفسي كثيرًا، حتى أكون قادرًا على تعديل الغصون الخشبية ليسهل تليين الغصون الأخرى، ومن اليوم فقد استيقظت على واقعي الصحيح بفضلكم؛ فأنتم عيوني التي أرى بها وقلبي النابض، ساعدوني على تلافي جميع السلبيات حتى أكون القدوة التي تفتخرون بها، وجهوني عندما أوشك الوقوع بالخطأ وساعدوني على سلوك الطريق الصحيح. ثم ابتسم وقال: أرجو أن تعجب ابتسامتي هيفاء؛ بل تعجبكم جميعًا. وكأنه بهذا الدرس الصغير والاعتراف الكبير هيأ الجميع للاستماع له مستقبلاً، والقبول بملاحظاته وتوجيهاته.
قبلت سكين أمي
رجعت البنت من بيت زوجها غاضبةً وشاكيةً سوءَ تعاملِ زوجِها معها، قالت لها أمها: يا بنيتي، أنت لا تحسنين صيد السمك، أنت تصنعين الطعم الذي لا تعشقه السمك ثم تُلَوِّنينها، لماذا لا تأتين إلى سنارتك؛ الزوج يا بنيتي ولدٌ مدلَّلٌ تريدين منه كل شيء وأنت لا تمنحينه أي شيء؛ إذا أردتِ أن تأخذي منه حاجتك أعطيه أولاً الطعم الذي يريد حتى تحصلي على الصيد ويكون لك رصيدًا عنده، يا بنتي، جملي جسمك وتعاملك معه تجديه تجَمَّلَ معك، فهل أنت تراعين جمالك له، وتباشرينه بحاجاته وتستقبلينه بالابتسامة والترحاب، لأن الرجل يعود إلى منزله وهو منهك ويكاد ينفجر لكنه يمسك نفسه؟! ثم ربما ينفجر في بيته على أتفه الأسباب، ساعديه على تنفيس شحنته، وأزيلي احتقانه؛ حتى يكون سعيدًا ومريحًا لك.
تلفتت البنت باستغراب وباندهاش إلى أمها، وقالت: لله درك محامية ممتازة، جئت لك أطلب منك العون ثم تقتلينني وتكونين عليَّ مع زوجي، قالت: عندما أكون مع زوجك فأنا معك، وعندما أكون معك فسوف أساعدك على هدم حياتك الزوجية، يا بنتي اسأليني؛ فقد رأيت بأمِّ عيني مواقف كثيرة تفقد المرأة بيتها بسبب تصرفات غير مدروسة، ثم قاطعتْها البنتُ مجيبةً أمَّها وقائلة: يا أمي، الآن تريدين تربيتي، لماذا لم تطبقي نصائحك مع والدي فتتجملي له، وتهتمي براحته على الوجه الذي تريدين مني؟! قالت: يا بنتي، كنت أعمل معه كل ما يريد ولكني كنت أخجل منك فأتجنب العمل الجيد والمجاملات الجميلة أمامكم.
قالت البنت: يا أمي، كان المفترض أن يكون أمامنا حتى ننهل منها ونستفيد في تطبيقها في حياتنا، قالت الأم: سأفعل إن شاء الله لو عاد الشباب يومًا تحذف له. قالت البنت: وما الفائدة إذا كانت تربيتك لنا ناقصة ثم تريدين منا أن نفعل ما جهلنا تطبيقه على الواقع. قالت الأم: يا بنتي لقد تعلمنا من أهلنا كثير من الأمور الطيبة، ولكننا تعلمنا بعض الجوانب التربوية التي لا تنسجم مع متطلبات الحياة الزوجية فلا تكوني مثلي ومثل عمتك وغيرنا ممن يتمنين أن يطبقن ما في نفوسهن من المودة لأزواجهن ولكنهن يخجلن.
أنا أعطيتك نصيحتي ولا تسأليني عن التطبيق؛ فلم يكن الأمر الآن ممكنًا لكي تستفيدي منه، وإذا أردت العودة عندي في البيت فأنا بحاجة إلى طباخة ماهرة وعاملة فاعلة لها خبرة متميزة مثلك ويطمئن لها القلب.
ذهبت الزوجة إلى بيتها وأسرعت في إعداد وجبة الغداء، وعندما حضر زوجها وكان متأثرًا بسبب الخصام السابق قالت له: لقد شكوت إلى والدتي، وحملتني لك رسالة مهمة.
قال بتثاقل: وما هي؟ ولسان حاله يتمنى عدم سماع الرسالة لقناعته أن الأم غالبًا مع بنتها، حتى لو كانت سترمي نفسها في بئر.
قالت الزوجة: إن أمي تسلم عليك كثيرًا وتقول: إن المشكلة تقع على عاتق زوجك، فهو الذي دلعك زيادة، وأن سبب تقصيرك معه راجع إلى إهماله وتسامحه معك، والمفروض أن يشكمك.
قال الزوج: يعني كيف تريد مني؟
قالت زوجته: ما رأيك في تبادل الأدوار لأكون الرجل مكانك؛ حتى أخبرك كيف تعني.
ضحك الزوجان وزالت الهموم، وتَمَنَّيَا ألا تُغَيِّمَ عليهما سماءُ البيت بمتاعب أخرى، وفي هذه اللحظة قبلت الزوجة سكين أمها؛ لأنها وجدت فيها الحياة السعيدة.
يا زين عشاكم
كتب طالب إلى مدرسته بعد تَخَرُّجِهِ منها معاتبًا ولائمًا على عدم تَقَبُّلِ النَّقْدِ البناء والاقتراحات الهادفة قائلاً بأنَّه معجبٌ كثيرًا ببعض أساليب المدرسة التربوية، ولكنه يُشَبِّهُ بعضَ أساليبِها بأساليبِ جَدِّهِ الكبير الذي هرم وبدأت مداركه تقل نشاطًا وحيوية، وقال في رسالته بأن جَدَّه يُعْتَبَرُ من الرجال الأوائل الذين يحملون القيم الكريمة، ولكنه يعتقد بأن دورة الحياة ما زالت واقفة عند الوسائل الحضارية الماضية غير معترف بالمتغيرات التي صبغت مختلف أوجه الحياة، وتطلب التكيف معها حسب المنهج الإسلامي، ثم وصف جدَّه بأنه متعنتٌ ومحتكر لجميع القرارات غيرُ آبهٍ بمن حوله وبمن تعنيهم هذه القرارات، وقال: كم أتمنى ألا تكون المدرسة بعقلية جدي في بعض قناعاته.
شعر مدير المدرسة مع فريقه بأنه من الضروري معرفة ماذا يريد أن يقول الطالب؛ لأن المدرسةَ يُهِمُّها بالدرجة الأولى تقييم خطوتها ورسالتها عن طريق الوقوف على آراء وملاحظات الطلاب؛ حتى تؤدي العملية التعليمية والتربوية بوجهها الصحيح..
لذلك اتَّصَلَتِ المدرسةُ بالطالب وطَلَبَتْ منه إيضاح وجهة نظره، وأكد له مدير المدرسة شخصيًا بأن وجهة نظره وملاحظاته ستكون مكان احترام هيئة المدرسة، وافق واشترط عدم ذكر اسمه أثناء نشرها، وقال: لقد مرَّ عليَّ في حياتي نقاش وجدال بين والدي وجدي حول رغبته السماح له بالمشاركة بالرأي والقرارات التي تخص الأسرة، وللعلم فإن أبي خريج مدرسة أهلية ومن المطَّلِعين على أبواب العلم بصورة شاملة، وهو يُحْسَبُ من فريق مَنْ يأخذ مِنْ كلِّ فَنٍّ بطرف، ومن أجل أن يقنع والدي أباه فقد أخذ يسرد بعض الروايات الإسلامية التي تدعم وجهة نظره، إلا أن جدي تمسك بحقه المطلق في اتخاذ القرارات بدون مشاركة من أحد أو نقد لما يصدره، وتدخل عمي وهو خريج إحدى الجامعات في المناقشة قائلاً: إن المدح والثناء الدائم مرض اجتماعي يجب ألا نربي شبابنا عليه؛ لأنه نوعٌ من النِّفاق، كما أن النقد المبنيَّ على عدم التَّرَوي وإعطاء البديل المناسب أو المعتمد على الأسلوب غير الواقعي المتزن يعتبر نوعًا من الهدم، ولذلك فنحن بحاجة إلى واقعية الحديث واتزان في الرأي وعدم إسراف في المدح.
وأستأنف الطالب حديثه قائلاً: لقد تذكرتُ جِدَالَ جَدِّي وأبي وأنا بينكم في المدرسة، وكم كنت أَوَدُّ أن أُبْدِي بعضَ الملاحظات لكم، ولكن سياستكم المدرسية لم تكن تسمح بذلك، وإنما كان الواقع ينشد منا بعض المديح والإطراء ولم نكن شعراء لنعلق لكم معلقة ظاهرها المدح، وباطنها الاستهزاء منكم يا رجال مدرستي ... لقد اتفقتم مع جدي في مسيرته ولعل لجدي بعض العذر حيث إنه غير متعلم ولكن كيف نعذركم يا رجال التربية ...
إن جدي يطالبنا بمدح كل شيء نراه لدى الغير، ويسايره والدي في ذلك احترامًا له برغم عدم قناعته، ويطالبنا بعدم إحراج جدي أو إبداء أي نقد لآرائه.
وقد حدث ذات مرة أن دعانا صديقٌ لجدِّي لوليمة عشاء وأخطأ أهل المضيف فوضعوا السكر بدل الملح، فأكلنا مجاملين ثم شكرناه على هذه الوجبة الحلوة التي لم نأكل مثلها في عمرنا، واكتشف المضيف الخطأ فاسود وجهه، ولو كنا صارحناه بمعرفتنا وبسطنا له الأمور وقلنا له مثلاً: إننا كلنا نخطئ وجل من لا يخطئ. لو فعلنا ذلك لَمَرَّ الأمر بسلام، ولكنَّ مَدْحَنا للطعام مجاملة أتى بنتيجة عكسية، ولم ينته الأمر عند ذلك؛ بل إن أخي الصغير زاد الطين بلة كما يقولون؛ فقد رَحَّبَ بمضيفنا بعد أيام وسط مجموعة من أصدقائه قائلاً: «يا زين عشاكم». وربما فهم مضيفنا أنه استهزاء به وتعريض بما حدث، وأنا لن أقول لكم: يا زين هذه القصة. وإن كان بودِّي أن أقول؛ ولكني أترك الحكم للقارئ الكريم، ويا ليته يقول: يا زين عشاكم.
سوق تسويق الكلام
وسائل الإعلام المتعددة مُسَوِّقةٌ لسياساتها وأهدافها فكأنها تحمل بضاعة مثل المسوقين المتجولين كلٌّ منهم يسعى إلى كسب مشترين لبضاعته؛ فكيف سيفلح المُسَوِّقُ في عرض سلعته أمام حجمٍ كبيرٍ من المنافسين، أم أنه سيعتمد على أحلام الأمس عندما كان الإنسان مكرهًا؛ بأن يشاهد أو يستمع لمسوق واحد؛ أقصد مسوقًا فرض نفسه على ساحة قريته، واحتكر سوقها، وليس أمامهم مَنْفَذٌ سوى الشراء منها حتى لو كانت سلعتُه عديمةَ الجودة وغاليةً ولا تلتزم بمواصفات الجودة.
في السوق المفتوح وأمام المنافسة القوية المفتوحة قد يخسر المسوِّقُ الإعلاميُّ أكثر مما يكسب؛ فالهدف للمُسَوِّقِ ليس القدرة على الوقوف بالسوق وعرض بضاعته ومجاراة الآخرين؛ بل لِنَيْلِ السَّبْقِ والاستيلاء على قناعاتهم وإغرائهم ثم كسب أموالهم.
مثل هذه الأفكار دفعتني ذات يوم بأن أتخيل بأني دخلت سوق بيع الكلام فوجدت فيه عددًا من المسوِّقين الذين يقومون ببيع الكلام للناس، سوق عظيم يوزن فيه الكلام والناس يشترون الكلام حسب موردها؛ فالكلام واحد ولكنْ منابِعُه متعدِّدةٌ وقِيَمُهُ مختلفةٌ ومتفاوتةٌ، وتتفاوت قيمة الكلمة من مُسَوِّقٍ لآخر حسب احترامه لعقليات الناس وأذواقهم وقوة صدق كلماته، كلٌّ يُسَوِّقُ بضاعتَه بمَنْطِقِه؛ فبعضهم يتصور بأن الناسَ أغبياء جهلاء ما زالوا قابعين في حياة التخلف، ويَتَصَوَّرُ أنه قادرٌ على الترويج لسلعته بشيء من الكذب والتزييف، ومع أنه قد ينجح حينًا إلا أنه سوف يخفق كثيرًا، لأنَّ المطيَّةَ التي يركبها أو يراهن عليها في عرض سلعته وسيلةٌ هزيلةٌ ومريضةٌ لا تستطيع نقلَه إلى بَرِّ الأمان؛ بل سَتَجْعَلُ منه أضحوكةً يتندر به الواقفون حوله، ويعتبرون أسلوبه في عرض سلعته لونًا من فن التهريج.
وفي الزاوية الأخرى من ذلك السوق ستجد مسوِّقًا يُحْسِنُ عَرْضَ بضاعتِه عن طريق احترام أذواق الناس وعقولهم؛ فيجد من الصدق وأمانة نقل الكلمة واحترام الأذواق مَعْبَرًا مُعَبَّدًا إلى إقناع الناس والتأثير عليهم، فيقبلون عليه مستمعين ومشاهدين.
إن مهنة الإعلام مهنةٌ صعبةٌ وحساسةٌ؛ فليس المنطقُ هو أن نقتنع بما نقول؛ بل أن نقنع غيرنا به، وأن ننقل رسالتنا عبر أذواق ضيوفنا؛ فلا نطبخ لهم إلا بمقدار ما يحبون ويعشقون حسب المنهج الإسلامي.
لقد قال لي زميل قديم: إذا أردتَ أن تَسُبَّ عَدُوَّكَ امدحه أمام الناس بما ليس فيه، فسوف تجد من يكفيك مهمتك؛ فيقوم بالتفتيش عن عيوبه فيعرضها؛ بل ستجد المنافسة الشديدة للنيل منه، وإذا كان هذه أساليبَ قذرة، فإن هناك من الناس من يسعى إلى دفع الناس إلى التفتيش عن عيوبهم عبر سوق بيع الكلام؛ حيث يختارون من يقوم بالمبالغة بمَدْحِهم عَبْرَ وسائلهم وفَرْضِهم على المجتمع؛ فتنقلب أدواتهم لتلميع صورتهم بالمجتمع إلى معاول هدم في شخصياتهم؛ فلا يجدون مقتنعًا بما يقولون؛ بل سيتحول الناس من محبين لهم إلى كارهين لهم.
مرة أخرى إذا أردنا أن نسوق بضاعتنا بالسوق المفتوح فلا بد من معرفة أسرار المهنة التي نتنافس مع غيرنا فيها؛ لكي نكتسب جزءًا من الجمهور؛ فإن ما نقوله أمامهم محسوبٌ لنا، فهل تعرف الوصفةَ السِّحْرِيَّةَ لإثبات نفسك؛ تقول الوصفة: «قَلِّلْ من نفسك ترتفع أسهمك».
وفي هذا الشأن ذكرت وكالة «أون»([1])، بأن أحدَ ملوكِ أوروبا سافر خارج بلاده ذات يوم، وعندما عاد وجد مظاهَرَةً حاشدة تنتظره في طريقه من المطار إلى القصر عارضة لافتات تقول فيها: لا مرحبًا بمَقْدِمِك، تَمْتَعُ نفسَك والفقرُ يزحف إلينا من كل صَوْبٍ، كيف نستقبلك وأنت لا تحس بنا؟
لقد وجد الملك مشاعر الشعب وجهًا لوجه أمامه دون تنقية أو فلترة أو تلميع أو ترجمة مصنعة، في حين كان يعتقد بأن الشعب يموت من أجله عبر وسائل إعلامه، لقد نصحه مساعدوه أن ينام تلك الليلة في القاعدة الجوية؛ حفاظًا على حياته؛ حيث أن قصره غيرُ مُهَيَّأ للدفاع عنه.
نام الملك تلك الليلة في القاعدة الجوية، والخوف يملأ جوفه، والقلق يداعب أجفانه، ثم قام في الصباح وخاطب شعبه عبر المذياع قائلاً: بالفعل أنا لست جديرًا بكم، وأعترف بأني مخطئ ولا خير في زعيم تحميه من شعبه فوهة المدافع إن لم يكن شعبُه له حاميًا، أقدِّمُ تنازلي عن العرش لكم، ولكم الحق في اختيار ما تشاؤون.
على أثر ذلك الخطاب الذي اعترف فيه بالحقيقة المرة، ولام نفسه قامت مظاهرة كبيرة وضخمة جدًا تطالب بعودته إلى العرش، وتقول: طالما أحسست فينا فنحن فداك ونريدك وأنت أفضل من يتولى أمرنا، إن كلماته في ذم نفسه واعترافه بالخطأ غيرت وجهة الشعب خلال دقائق معدودة وحولتها من مشاعر الكراهية والبغض إلى المودة والمحبة، الملك يعترف بالحق ويسب نفسه فيقبل عليه شعبه، فهل يقبل الإعلام بهذه الوصفة ...؟
أب للبيع
على لسان الأخصائي الاجتماعي بأحد دور الملاحظة الاجتماعية الذي يروي هذه القصة، والذي يقول بأن من أعجب المواقف التي مرت بي وقابلتني أثناء عملي الميداني في الدور الاجتماعي حالة الحدث صالح الذي كان موجودًا لدينا بالدار ومحكومًا عليه في قضية (سرقة)؛ فبعد انتهاء مدته بالدار قام بزف البشرى له وإبلاغه بانتهاء مدته، وأنه سيطلق سراحه في الأسبوع القادم، وطلبت منه إبلاغ أهله عند زيارته خلال نهاية الأسبوع، وإحضار الكفالة اللازمة، فانخرط الحدث صالح في بكاء شديد، ظننت في البداية أنها دموع الفرحة؛ لخروجه من الدار؛ ولكن استمرارَ البكاء وتعبيرات الحزن والقلق على وجهه جعلتني انتحي به بعيدًا عن زملائه الطلاب وأسأله عن سبب ذلك؛ فإذا به يقول: لا أريد أن أخرج من الدار، أرجو إبقائي هنا!! سألته في دهشة: ماذا تقول؟ قال: إني أحب البقاء بالدار رغم ما فيها من نظم وقيود تحدُّ من حرِّيَّتي؛ فهي أفضل من بيت أبي. قلت له: أنت مخطئ؛ فلا يوجد مكان أفضل من منزل الأسرة. رد قائلاً: أرجو أن تسمع قصتي أولاً ثم تحكم بنفسك. أرخيت له أذني وحثثته على الحديث.
بدأ الحدث صالح ابن الثالثة عشرة يروي قصته ...
توفيت والدتي منذ حوالي ثمانية أعوم وتركتني أنا وشقيقتي هدى وهي أصغر منه بعامين، وبعد وفاة الوالدة بعدة شهور أبلغني أبي أنه سيتزوج وستكون لنا خالة في مقام أمي فرحت برائحة الأم ... على الرغم أني لم أستوعب الكلام جيدًا لصغر سني. وبعد مرور حوالي عشرة أيام أقام والدي حفل عرس كبير وجاءت زوجة أبي للمنزل.
عاملتنا زوجة أبي في بداية الأمر معاملة طيبة، ثم بدأت معاملتها تتغير بالتدرج؛ فكانت دائمة الشكوى لوالدي كلما عاد إلى المنزل من عمله فتقول له: «ابنك عمل كذا وابنتك عملت كذا». ولم يكن أبي الذي يَعود مرهقًا من عمله لديه استعداد لسماع المشاكل وحَلِّها، كما أن صغر سننا وضعف قدرتنا أنا وشقيقتي على التعبير لم يكن يسمح لنا بالدفاع عن أنفسنا أمام القصص التي تختلقها زوجة أبي وتجيد حَبْكها وروايتها.
في البداية كان أبي ينصحنا وأحيانًا يوبخنا، ثم تطورت به الحال مع استمرار القصص والشكاوى إلى الضرب والسباب والإهانات وازداد الأمر سوءًا بعد أن رزق أبي بثلاثة أبناء من زوجته.
وبمرور الأيام تحولت أنا وشقيقتي إلى خدم في المنزل علينا أن نلبي طلبات خالتي وأبنائها؛ فأنا المسؤول عن كل ما يحتاجه البيت من السوق، بالإضافة إلى الأعمال الأخرى ، وشقيقتي مسؤولة عن التنظيف والعمل بالمطبخ، وليست الأعمال ذاتها هي المشكلة، بل التمييز الواضح، وإلا فإذا كان هناك من خير يسجل لزوج الأب فإنها أعدتنا للمستقبل بطريقة جيدة دون أن تعرف فانقلب السِّحر على الساحر، ولكن ذاك التفريق في المعاملة جعلنا ننظر بحسد إلى أبناء الذوات أبناء أبي الذين يتمتعون بالحب والتدليل وتستجاب رغباتهم وطلباتهم، وكأن أبي يشعر أنني وشقيقتي عبء عليه وعلى سعادته وأننا دائمًا نتسبب في تكدير جوِّ البيت بما تقصه عليه زوجته من قصص مختلفة عنا، وكان أبي يتجاوب معها ويتخاصم معنا وكثيرًا ما ينعتنا بالأبناء العاقِّين، وأنه لن يرضى عنّا إلا إذا رضيت عنا زوجته وأبناؤه كما أطلق علينا النعوت السيئة، وكان الجميع بالمنزل ينادوننا بها، كدنا ننسى أسماءنا الحقيقية وكنا محرومين من كل شيء؛ حتى المناسبات التي تدعى إليها الأسرة كنا نحرم منها ولا نذهب معهم ونبقى وحدنا بالدار نبكي سوء حظنا.
وهناك حادث لا أنساه حدث في الشتاء الماضي؛ فقد أحسست بتعب شديد في بطني وطَلَبَتْ مني خالتي (زوجة أبي) أن أخرج لشراء خبز العشاء، وكانت البرودة شديدة فقلت لها: إنني مريض، ولا أستطيع الخروج الآن؛ بل إن قدمي لم تستطع أن تحملاني، فقالت لأبي بأنني أتمارض حتى لا أقوم بما هو مطلوب مني، فانهال أبي عليَّ ضربًا وصفعًا ورَكْلاً حتى سقطتُ من المرض في إعياءٍ شديدٍ اضطرَّه لنَقْلِي للمستشفى عندما ساءت حالتي، مكثت فيها خمسة أيام، وبرغم الألم والتعب فقد استبشرت بهذه الحادثة خيرًا، وقلت: لعلها توقظ ضميرَ أبي، وتجعلُه يراجع نفسه؛ إلا أنه للأسف استمرَّ على ما هو عليه، بدأت بعد ذلك أعرف طريق الهروب من المنزل، فالتقطني بعض الشباب الأكبر مني سنًّا، وأظهروا لي بعض العطف الذي كنت في حاجة شديدة إليه، ومن خلال هذه المشاعر المزيَّفَة استطاعوا خداعي فانْزَلَقْتُ معهم في الانحراف الأخلاقي ولم أكن أدرك بشاعة ذلك؛ لصِغَرِ سِنِّي وعَدَمِ إدراكي؛ ثم قُبِضَ عَلَيَّ في قضية سرقة، وأدخلت الدار وعرفت فيها حجم الخطأ الذي اقترفتُه، وأحمد الله على توبتي وبرغم ما في داركم من قواعد تنظيمية تحد من تحركي الاختياري، وقد تكون مبالغًا فيها بحجة المصلحة العامة، إلا أنها أرحم لي بكثير من دار أبي، وأخشى أن أعود للدار ليكون مصيري إلى الشارع مرة أخرى، وأسقط كما سقطت أول مرة.
فهل أنا على حق في بكائي وحزني وتمسكي بداركم أم لا؟ وسَكَتُّ بعدَ أنْ أُثْقِلَ ضميري بالحمل الذي يحمله وينوء به الرجال؛ فكيف بطفل لم يبلغ مرحلة الشباب وتحيرت في الرد عليه ... من الذي جنى على هذا الابن؟ من المسؤول عن هذه المأساة؟ هل هي زوجة الأب التي لم تَرْعَ اللهَ في أبناء زوجها، ولا تخشى أن يكون ذلك مصير أبنائها، تلك التي استغلت دهاءها وخبثها وقدرتها على الكذب والتنكيل بأطفال أبرياء كل ذنبهم أنهم ليسوا من رحمها؟! أمِ المسؤول هو ذلك الأب الذي أَنْسَتْهُ زوجتُه الجديدةُ عاطفةَ الأُبُوَّةِ وأبعدتْه عن العدل وجعلت منه دِمْيَةً تُحَرِّكُها بخيوط أكاذيبها وألاعيبها؟!
وَشَرَدَ خيالي بعيدًا وأنا أتَخَيَّلُ وجودَ سوقٍ يَخْتارُ فيه الأبناءُ الآباءَ الجيِّدين والجديرين بهم؛ لِدَفْعِ هذا الحَدَث كلَّ شيء حتى حياته نفسها ثمنًا لأب جيد، ولكن كم يساوي رجل مثل أبيه الحقيقيّ في مثل هذا السوق؟
يكلم نفسه ما ذنبي ..؟
أنا من قرية بعيدة ... ولكن ما ذنبي؟ أنا مجهول الأبوين؟؟
يكلم نفسه، وأنا أتبعه وأتساءل: أهو مجنون؟ هذا الصبي يكلم نفسه ويناقشها وكأنه في حوار مع رفيق دربه ... لحقت به سريعًا واستوقفتُه وأخذتُ أسألُه ... ما بالك؟ ارتبك ... ارتجف قليلاً ... ساورني اعتقاد أنه ولدٌ منحرفٌ أو ارتكب جُرْمًا ما ... أخذتُ أَزْجُرُه ... أَنْهَرُه بكلماتٍ عنيفةٍ ... هددتُه بتسليمه إلى رجال الأمن إن لم يعترف، ثم دفعتُ نفسي نحوه بجرأة وأخذت أفتشه على أن أجد معه أي دليل يرشد عن جريمته ... وقف الصبيُّ مرعوبًا خائفًا يهذي بكلمات مبهمة لم أتبينها ... وأخذت عيناه تفيضان بالدمع الذي يتساقط حتى عانق الأرض ... ووجدت لهجتي تتحول من النقيض إلى النقيض؛ هَدَّأْتُه وأَخَذْتُ أَتَفَحَّصُ فيما معه من أشياء، وكلها أوراق تحمل بعض أرقام الهواتف، وسبع ريالات، وأثناء تَفَحُّصي لمحْتُ نفسي أنني تعجلت الحكم عليه، وبَدَأَتْ لَهْجَتِي تَلينُ، فدعوته إلى منزلي الذي لم يكن يبعد كثيرًا عن مكان اللقاء؛ ولكن الولدَ يوسفَ تَشَبَّثَ ورَفَضَ، وبعد إلحاحٍ مِنِّي متكررٍ وتَمَنُّعٍ مِنْه وافق أخيرًا أن يَصْحَبني إلى البيت.
وفي البيت فَتَحْتُ له غرفةَ الجلوس وفتحتُ له قلبي ووعدتُه بالمساعدة تكفيرًا لتصرُّفي السلبيِّ معه، كما أكدت له بأنِّي لن أُسلِّمَه لرجالِ الأَمْنِ، وسوف أَسْتُرُ عليه، وأثناء تناولِ الطَّعامِ كُنْتُ أَسْتَحِثُّه على الحديث عن نفسه بعددٍ من القصص التي ادَّعَيْتُ أنني عملتها عندما كنت صغيرًا لكوني لا أعرف الحياة وأرغبه قائلاً بأن الاعتراف بالخطأ دليل أكيد على التوبة، ويقود إلى معرفة الصواب، وعدم الانزلاق في المخاطر، ثم أَرْدَفْتُ قائلاً له: يا يوسف، ثِقْ أَنِّي بمقامِ والدِكَ ولن أَبْخَلَ عَلَيْكَ بالنُّصْحِ والمساعدة.
تَرَدَّدَ في الكلام أَوَّلًا، وكأنه ما زال يَشُكُّ بي، ثم أخذ يتكلم ببطء وكأنه يسحب كلامه من عُمْقٍ سحيقٍ وقال: كم تمنيت أنَّني ظللت طفلاً؛ بل كنت أتمنى أن أكون الآن تَحْتَ الثَّرَى مدفونًا لا أعبأ بأحد ولا يعبأ بي أحد، ولست أخاف غيرَ الله، ولكني تَأَلَّمْتُ مِنْ ظُلْمٍ مُرَكَّبٍ..
توقف عن الحديث فجأة ثم أخذ يجمع نفسه ويصلح جلسته وكأنه لا يدري من أين يبدأ: لقدِ اسْتَثَارَ فضولي ورغبتي في معرفة ما يجيش في نفس هذا الولد وما يعذبه إلى هذا الحد ... لذلك شَجَّعْتُه على الاستمرار في الحديث وقَرَّبْتُ له الشَّاي ولمس مني لين الجانب ... فأنس إليَّ واستطرد قائلاً: أنا صَبِيٌّ مُعَذَّبٌ؛ لأني مجهولُ الأَبَوَيْن، عمري الآن خمسة عشر عامًا.
بالأمس عرفت الحقيقة المُرَّةَ، ويقولون: لا يعرف وحشةَ الظلام مَنْ وُلِدَ أَعْمَى. ولكن يعرفها حقيقةً مَنْ أُنْعِمَ عليه بنعمة البصر ثم فقدها، وها أنا ذا أتجرع هذه الوحشة منذ أن عرفت هذا الواقع المر بالأمس من أحد الجيران.
وقبل أن أعرف هذه الحقيقة كنت أَحُسُّها في بعض معاملات الجيران؛ كانوا يهينونني ويطلقون عليَّ بعضَ الألفاظ البذيئة؛ كانوا ينادونني بشيء منها مثل السَّفَلَة ([2])؛ هذا اللفظ الذي لا أعرف معناه حتى الآن، ولا أرغب معرفته فتزيد جروحي؛ ماذا جنيت ليعاملوني هكذا!!
ما هذا الذنب الذي اقترفتُهُ؟ وما هي الجريمة التي ارتكبتُها؟ إنني متألمٌ أشدَّ الألم، وتنازعني نفسي بأن أقتلَ نَفْسِي أو أُدَمِّرَها؛ ولكنِّي كما رأيت؛ لا أستطيع أن أفعل بعد أن حَطَّمَ هذا الخبرُ نفسيَّتي من الداخل، وأشعر أنني مهزوم ... مهزوم.
اعتصرت كلماتُه قلبي وراعَني ما يَشْعُرُ به مِنْ آلامٍ صَهَرَتْهُ؛ فأصبح طفلاً واعيًا أديبًا تخرج الكلمات من فمه سليمة مهذبة رغم ما فيها من ألم ومرارة ... نزلت محبته في قلبي وشعرت أنه واحد منّا ولم أدري إلا وأنا أحتضنه ودمعي يلامس رأسه وأقول له: يا بني كلنا مفتونون ومعرضون للامتحان، ألم تقرأ قول الله تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ{! تَذَكَّرْ يا بُنَيَّ متاعبَ الأنبياء وكيف حوربوا وعُذِّبوا واتُّهِموا بالجنون والسِّحْرِ وهم قدوتنا؛ وكلما كانت المصيبةُ كبيرةً وصَبَرَ عليها المؤمن كلما كان أجرُه عليها عظيمًا، وكلُّ مَنْ يَنْظر إليه نظرة احتقار أو ازدراء هو في الحقيقة أقلُّ منك شأنًا؛ لأنهم لا يُدْركون ذلك، ولم يستوعبوا كلام الله أو أنهم نسُوه.
لقد شعرت بالسعادة وهو ينصت إليَّ بخشوع؛ ولكنه قاطعني وقال: يا عمي، ولكن ما ذنبي أنا وما هي خطيئتي، هل حياتي هي الخطأ أم يَتَحَتَّمُ عَلَيَّ أن أتحملَ وِزْرَ غيري في الصِّغَرِ والكِبَرِ؟ مع أن الله يقول: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى{، ويقول في آية أخرى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ{، وأنا والله يا عمُّ مؤمنٌ وسَوِيٌّ وأعرف الحلالَ والحرامَ وأداومُ على الصلاة في جماعة وأقرأ القرآن وأتعامل مع الجميع بآداب الدين، ولا أنسى أن أذكر فضل تلك العائلة التي احتضنتني وربتني أحسن تربية وغرست في نفسي كل الفضائل التي أعتبرها خير غرس في الدنيا والآخرة، فجزاهم الله عني خير الجزاء ... لكن حزَّ في نفسي أنني مجهولُ الأبوين.. ويستطرد قائلاً: ولله الحمد؛ مؤمن ومستقيم وأعرف نفسي وأُقَدِّرُ مسؤوليَّتي.
أيها القارئ الكريم؛ دَعْنَا نسيرُ معًا لنَغُوصَ في نفسية هذا الإنسان المحطَّم، ونضع أيدينا معًا وندعو الجميع ألَّا يأخذوا الناس بجرائر غيرهم؛ حتى لا يحطموا نفسيةً سَمَتْ وعَلَتْ وتَعَلَّمَتْ ما يعينُها على الحياةِ وحتى لا نضطرها وسط هذا المجتمع المؤلم لتقول: أنا مجهولُ الأبوين ولكن ما ذنبي ...؟
الجار قبل الدار
لم أحسُّ ذات يوم بقيمة الجار، ولم أعرفْ سِرَّ المعْنَى للمَقُولة الشائعةِ: (الجار قبل الدَّار)؛ حتى وَقَعَ الفأس على الرأس؛ فمع حركة النمو السريعة تحركتْ معها تطلعات الأولاد بقيادة أمهم هيلة التي كانت تستقبلني كل يوم بكلماتها المكررة، البيت أصبح صغيرًا، وغرفةً محصورة، ولا يوجد بالحارة غيرُنا، الحارة قديمة، الأولاد كبروا ويحتاجون إلى غرف منفصلة.
وأخذت أم الأولاد زوجتي تسعى إلى تصيد الكلمات التي تؤثر عليَّ، وكم كنت أتمنى أن أنفذ رغبتها ورغبة أولادي؛ لأنها رغبتي أيضًا؛ فأنا لست أقلَّ من عديلي أبي صالح، ولا من زوج أختي أبي عثمان وغيرهم ممن انتقلوا إلى بيوت جديدة، ولكن كما يقول المثل: «العين بصيرة واليد قصيرة».
فأقول مع الشاعر:
ما كُلُّ ما يَتَمَنَّى المرءُ يُدْرِكُهُ | تَجْرِي الرِّيَاحُ بما لا تَشْتَهي السّفن |
ما أصعب أن تختنق في هموم كثيرة ولا تجد لها مخرجًا، أنا أحس بالمشكلة التي أكبر مما ذكرت لي زوجتي؛ وهي الشعور أمام الناس بأن وضعنا لا يسمح لنا بالانتقال إلى بيت جديد مثل غيرنا، أخذتُ أفكر بعُمْقٍ في مشكلتي، وخاصَّةً بعد زيارةِ صديقٍ لي مع أهله عندما وَدَّعُونا وسط الشارع يشاهد صورة قصرنا من الخارج، قال لي: متى تخرج من هذه الخرابة؟ قالها ولم يَحُسَّ بها؛ ولكنه بهذه الكلمة البسيطة أخرج سهمه من كنانته فَصَوَّبَه نَحْوَ قلبي دون أن يدري.
ما أسهل هذا النوع من الكلمات على قائلها، وما أصعبها على سامعها؛ لقد زادت الحمولة الفكرية وجلست أَجْتَرُّ ظروفي الصعبة، أريد بيتًا مناسبًا كغيري، ولكني لا أملك الوسيلة والمال؛ ولكي أُنَفِّسَ عن نفسي تَخَيَّلْتُ أنَّ العصافيرَ عَجِبَتْ لي فساعدتني؛ ولكن سرعان ما تَنَبَّهْتُ إلى واقعي.
نعم المشكلة تحتاج إلى مالٍ لشراء الأرض، ثم إلى عمار الأرض، فكم سأحتاج من السنوات لتجميع المال من راتبي المتواضع ثم الانتظار حتى يأتي دوري في البنك العقاري.
جلست ذات يوم أستمع لنفسي بصوت عال فقلت: إذا أردت أن أبني منزلاً: من أين لي قيمة الأرض، ثم كم أحتاج من السنوات حتى أعمرها عن طريق البنك العقاري، وأخيرًا وجدت بأن خير وسيلة لنسيان تلك الهواجس المرة التحدث عن النعم التي أعيشها فحمدت الله ثم وجدت بأني أملك نعم كثيرة وكبيرة، ولكني مع الأسف لا أحس بها، فكم رصيدي في بنك الصحة، وكم رصيدي في مصرف الأمن والأمان، ثم نعمة الزوجة والأولاد، وهكذا؛ فكم تساوي عيني مالاً، وكم يساوي أحد أولادي، وهكذا؛ نِعَمٌ يَصْعُبُ حَصْرُها، فحَمَدْتُ اللهَ، وأحسستُ بأَنِّي أحسنُ حالاً من ملايين البشر الذين لا يجدون قوتَهم أو غرفةً تُظِلُّهم، أو خَطَفَهم المرضُ أو هادمُ اللَّذَّات.
وبعد ذلك غطيت في نوم عميق رأيت الأحلام الوردية التي تمنيت ألا أبارحها وصحوتُ وفكرة توقظني وتُلِحُّ عَلَيَّ: لماذا يا عبد العزيز لا تشتري سيارة ذات قيمة كبيرة بالقسط الشهري ثم تبيعها وتشتري بقيمتها أرض وبعد ذلك يأتيك الفرج.
شاورت الأولاد على تلك الفكرة، فلم يصدقوا خبرًا وافقوا كلهم دون تمحيص، وقالوا بصوت واحد: المهم نخرج من هذه الحارة القديمة، وجدت التشجيع منهم والدعم، وعدوني بأنهم سيتحملون معي تقليل النفقات لكي نوفر المال المناسب لتسديد الأقساط الشهرية؛ لأنه ليس هناك من مخرج سوى ما عملت؛ فهو المخرج الوحيد والأمل الباقي لخروجنا من الحارة مثل غيرنا.
بعد أيام وأثناء ترتيب أمري لتنفيذ فكرتي حضر لي زوج أختي والابتسامة تعلو وجهه: أبشر يا أبا عبد العزيز، لقد وجدت لك منزلاً مناسبًا، ومعروض للبيع بسعر زهيد لأن صاحبه انتقل إلى مدينة أخرى، ومن الممكن أن تبيع منزلك مع قيمة سيارتك مع سُلْفَةٍ نجمعها لك وتشتري هذا البيت، لم أُصَدِّق خَبَرَه فأسرعت أُبَشِّرُ الأولاد، وبنفس السرعة جمعتُ نفسي وجندتُ مَنْ حَوْلي لمساعدتي ونفَّذْتُ فكرة نسيبي.
وفعلاً سكنت أسرتي البيت الجديد، والفرحة تعانقنا لم نستمتع بالأكل بل فرحة البيت الجديد أشبعتنا وأخذنا نتجول فيه، وكل واحد منا يتغنى بمزاياه، فالفرحة تدغدنا من كل جانب والكل سعيد ومبتسم، الجميع أخذوا يقارنون بين الحارة القديمة وبين حارتنا في بيتنا الجديد، والكل يحاول أن يقول قصيدة من الكلمات.
صوت الجرس يسبقه ضرب الباب بعنف شديد إنه لا يستخدم الجرس بل يضرب بحجر كبير على الباب ذهبت مسرعًا لفتح الباب والقلق ينتابني.
فتحت الباب فوجدت رجلًا واقفًا بالباب يهدر؛ لم أستوعب كلماته وصراخه؛ فالمفاجئة أكبر، ثم سأل بنَبَرَاتٍ غاضبةٍ: هل أنت صاحب البيت؟ قلت له: نعم، وسلمته يدي للمصافحة؛ لكنه رفض وقال: لماذا توقفون سيارتكم أمام منزلي؟ أنت جار سيئ كسابقك. لم تكتمل فرحتي برحيله حتى جاء من هو أسوء منه، قلت له: تفضل جارنا حَيَّاكَ الله. قال: لا تُحَيِّني ولكن لا تؤذيني.
قلت في نفسي: صحيح معه حق، لا يجب أن نوقف سيارتنا أمام بابه؛ ولكن السيارة ليست سيارتنا، ثم إن الموضوع لا يستحق كل هذا التصرف والعتب؛ ناهيك عن الوقت وجيران جدد يتطلب استقبالهم أولاً.
لقد قادني استقبالُه السيئ ذكريات الأمس عندما نزلت الحارة أول مرة التي تركتها؛ كيف تسابق الجيران على تنزيل عفشي واستضافتي؛ لقد كِدْتُ أَنْسَى نفسي من التِّرْحابِ ثم قالوا لي: بأن أمامك وقتًا طويلًا لتنظيف العفش وتهيئة البيت، وجلست قرابة شهر وهم يستضيفوننا؛ في أول الوقت نذهب معهم إلى بيوتهم وآخر الوقت أخذوا يرسلون الأكل لأننا أخذنا نخجل ونعتذر.
تلطفت مع الجار وتأسَّفْتُ له مرة أخرى وقلتُ: أنا جارُك الجديد. رَدَّ عَلَيَّ بكلمة قاسية، ثم ماذا؟ الجار الذي قبلكم أزعجنا بتصرفاته وأولاده يضربون أولادي ويضعون الزبالة أمام بابي وأخذ يختار الكلمات السيئة ليرسلها للجار السابق، وأنا أستمع وأتساءل بالفعل له الحق أن يغضب إذا كان جاره فعل به كل هذا، ولكني أنا؛ ما ذنبي؟ هل كان في نفسه على جارِهِ الأَوَّلِ أشياء كثيرة لم يستطع أن ينال منه شيء فجيرها لي لأني الجدارُ القصيرُ في نظره؟!
كرهت البيت وقلت في نفسي: كيف سنعيش مع جار مثل هذا الجار؟! وبينما أنا غارق في الألم والحسرة، رفع صوته أمامي، وقال: أبعد سيارتك، وأمامك حَلَّيْن؛ إما أن تبعدها، وإلا فسوف نذهب سويًّا للشرطة. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ما هذه البلوى؟
ربما تكون ضريبة الفرحة، وتحت إلحاحه المصحوب بالتهديد وافقت على الذهاب معه للشرطة، ثم سألت نفسي كيف سأنام مع أولادي بجوار جار يتقاطر شرًا؟! وتذكرت حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: عن أبي شريح رضي الله عنه قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جارُه بوائِقَه». [رواه البخاري].
استأذنتُ منه لكي ألبس ملابسي، ثم أخبرت أولادي بالواقعة بإيجاز وربما سبقني أحد أولادي – الذي كان يشاركني الاستماع للجار – فنقل لهم نشرة الأخبار كاملة قال الأولاد: بصوت واحد يا فرحة ما تمت، يا ليتنا بقينا في بيتنا القديم، لا تنفع الحيطان ولا الشوارع إذا غابت الأحاسيس الصادقة والمشاعر الطيبة.
قرر الأولاد أن نستبدل البيت ببيت آخر، أو نعود إلى بيتنا بالحرة وكأني قادر أن أحقق لهم كل ما يريدون بكل بساطة، ذهبت مع جاري إلى الشرطة، وفي الطريق استوقفني واستأذن مني لكي يحضر مفتاح سيارته ثم دخل منزله ورحت أفكر كيف سأركب مع جارٍ هذه أخلاقه ومبادئه؟! ثم خرج إليَّ شخصٌ مِنْ بيتِهِ يُصَوِّتُ لي بترحاب شديد: أبو عبد العزيز، يا هلا والله وألف هلا. لم أستسغ تلك الكلمات ولم أتميز ذلك الشخص الذي أخذ يعانقني؛ بسبب ضعف إضاءة الشارع، ولأن قدراتي مشغولة بالموقف حتى أنني شككت أنه خرج من نفس البيت الذي دخل به الجار السيئ، عرّفني على نفسه، عانقته مرة أخرى، وأردت أن أشرح له سبب عدم معرفتي له، فقال: أنا أعذرك، ولو كنت في موقفك لحصل مني نفس الشيء. ثم أخذ بيدي وأراد أن يدخلني لبيت الجار، اعتذرت منه وأردت أن أشرح له الموقف، قال: لا تشرح؛ فالقصة كلها نعرفها، ولكني أحببتُ أن أعمل لك مفاجئة لا تنسها طيلة عمرك. دخلت معه وما زالت أعصابي مشدودة.
قام الجار الذي أدى الموقف التمثيلي، وتأسف لي ثم كاد أن يقبل رأسي طالبًا الاعتذار، وقال لي بالحرف الواحد: على الرغم من أني أعرفهم قبلك، ولهم من نفسي مكانة كبيرة؛ فأنت أعزّ منهم عندي؛ لأن الله قدمك عليهم، قال الله تعالى: ﴿وَالْجَارِ الْجُنُبِ{ ثم سيكون بيننا من المواقف الطيبة التي تفرضها الحياة الكثير إن شاء الله ما ينسيك هذا الموقف الهزيل، والأسف لا يكفي، لك حق عندي غير حق الجيرة، ثم إن رفيقك هو الذي دفعني لعمل ذلك الفصل.
كل الحاضرين أخذوا يرحبون به ويدعونه للغداء أو للعشاء، وافق على شرط أن تكون الدعوة متواضعة، ولأسرته فقط، وقال: لا داعي للإسراف والمجاملات، وقد أراد جاره الجنب أن يبدأ السبق، ولكنه وجد معارضة من البعض، وخاصة من صديقه، فقال لجاره الجديد: على راحتك؛ إن لم توافق عليَّ أولاً فسأقودك للشرطة هذه المرة بطريقة جدية.
ضحك الجميع ثم أكملوا السهرة بعد أن اطْمَأَنَّ أولادُه على الموقف، وعمل جدول استضافة للجار الجديد، ولكن صدَّقوني فلم أدعى لها.
الأعور يدرس أستاذه
لا أحد ينسى ذكريات الطفولة؛ فما أجملها من أيام نلهو فيها ونلعب ونتبادل التعليقات وتصادفنا بعض الخصومات، وإن كنت أنسى بعض تفاصيلها فلا أنسى أنني كنت سيئَ الطِّباع، والمعاشرة، وخاصة عند دخولي المدرسة؛ إلا أن عددًا من المدرسين رعاهم الله وحفظهم قوَّموني إلى السُّلوكِ السَّوِيِّ.
ولا أنسى لهم هذا الفضل؛ فصورتُهم الجميلة أمامي، ولكن إلى جانب ذلك كان يوجد مدرسٌ اسمه سعيد، وأرجو أن يكون سعيدًا؛ كما أني لست بحاجة لذكر بقية اسمه؛ كان يناديني - سامحه الله - بالأعور، سواء كنت بالفصل بين زملائي، أو خارجه مع أصدقائي، ولم أكن لي حيلة في عيني، فهذا عطاء الله.
وكم تألمت ذات يوم عندما كان يتندر بي أمام زملائي ويريهم كراستي قائلاً: الأعور كراسته عوراء مثله؛ مما جعل الطلاب يبكون مِنَ الضَّحِك، وأنا أبكي الألم في صدري، تكاد الحشرجة تخرج من صدري، فلا أستطيع أبكي وأنتحب في داخلي؛ إنها لحظات مرة.
دقائق كالسنين؛ كلما سئمت الحياة تذكرتها؛ وهو أني تجاوزت تلك اللحظات القاسية فأحسست بسعادة غامرة تنقلني إلى آفاق السماء في ظل الهواء الطلق لأجد نفسي حُرًّا طليقًا.
شكوتُ الأمرَ إلى والدتي حيث أُحْرَجُ مِنْ ذِكْرِ ذلك لوالدي حيث يشاركني نفس العيب، فقالت لي: يابني من سب الباب سب صانعه، من سب الأعور فقد سب خالقه ... فقلت لها: ثم ماذا؟ ليتكِ أنت أستاذنا، وما يدري الأستاذ بذلك؟
ابتسمت والدتي وقالت: سيعرف ذلك قريبًا؛ فربنا يمهل ولا يهمل، وربما عوقب بها أو بمثلها، ونعت ذلك فأحس بذلك بمرارة أكثر مما تشعر به.
لقد مر على كلام والدتي مر الرياح ولم يطفئ نار ألمي لكوني أتجرع الأسى كل يوم، وأنا أذهب فيه إلى المدرسة كأني أساق إلى حتفي، فلولا شدة أبي لتركت المدرسة لكنها رعاية الله وحكمته؛ حيث دارت الأيام دورتها وكانت رعاية الله وعنايته بي كبيرة تخرجت طبيبًا بدرجة عالية، ولعل آلام الأمس أصبحت حوافز دفعتني لتحقيق طموحي، وأصبحتْ وَقودًا يحركني إلى الأمام؛ لأثبت للذين سخروا مني بالأمس بأن الميدان هو الحكم وأنه كفيل بصنع الرجال.
لقد مارست وظيفتي وذات يوم وأثناء تأدية عملي تصادفت مع أستاذي سعيد منومًا على السرير الأبيض ورجله اليمنى مبتورة، وهو في حالة إغماء شديد، تألمت كثيرًا لواقعه وبذلت قصارى جهدي في مساعدته وعندما طاب من آلامه وخرج لبيته داعبته قائلاً: الأعور يقود الأعرج، قال لي: يا أخي لم أقصد والله أن أسيء إليك، وأن أحرجك، ولكني قصدت أن أحفزك إلى الاهتمام بواجباتك، وربما أخطأت في استخدام الحافز الأمثل، وربما رأى الأعور من الصواب ما لم ير الأعرج، ثم ابتسمنا وضحكنا وتعانقنا، وقلت له منهيًا حديثي معه، تعالوا نغطي سلبيات الماضي بهذه المجاملات الجميلة؛ لنمسح من خلالها دموعنا وتنسينا حضور مناسبة دسمة عندك في البيت بمناسبة شفائك أولاً ثم حقي ثانيًا.