العفاف أريد [ قصص وأحداث للعفيفين والعفيفات ]
التصنيفات
- فقه >> الأسرة >> شؤون النساء >> نصائح وتوجيهات للمرأة
- التاريخ >> قصص وعبر
المصادر
الوصف المفصل
العفاف أريد [ قصص وأحداث للعفيفين والعفيفات ]
أبو الحسن بن محمد الفقيه
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول اللهِ وعلى آله وصحبه ومن والاه.. وبعد: فإن من أجل مقاصد الشريعة الإسلامية – حفظ عرض الإنسان – لأن حفظه هو الطريق إلى حفظ الأنساب والمجتمعات من الأمراض والأدواء!
ومن أجل حفظ العرض اتخذت الشريعة اتجاهين:
الأول: اتجاه علاجي عن طريق فتح أبواب التعفف والحصانة على مصراعيها وشق الطرق المعبدة الموصلة إلى ما أحله الله.([1])
ومن أهم الوسائل التي نهجها الإسلام للحفاظ على الأعراض: الزجر عن الوقوع في الفاحشة، والطرق الموقعة فيها، والترغيب في الاستعفاف لوجه الله تعالى.
فلقد ورد في القرآن الكريم نصوص كثيرة تأمر بالعفة وتبين فضائلها في الدنيا والآخرة، وما قصة يوسف إلا آية باهرة تدعو المؤمن الصادق إلى سلوك طريق العفاف.. وتصبره على ما يلاقيه من عنت وتعب وفتنة في هذه الحياة الدنيا.
ولقد أمر الله جل وعلا الرجال بالعفة فقال: ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [النور: 33].
وأمر النساء بالعفة أيضا فقال: ﴿وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ﴾ [النور: 60].
وأثنى الله جل وعلا على أهل العفاف بقوله: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الفرقان: 68-70].
وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾ [المؤمنون: 5-7].
وأما السنة النبوية فطافحة بالأحاديث التي تنص على فضيلة العفة وتزكية أهلها، فعن سهل بن سعيد الساعدي رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من يضمن لي ما بين رجليه وما بين لحييه، أضمن له الجنة» [رواه البخاري].
والعفة من أجل الأخلاق وأسماها، وأفضل الخصال وأعلاها، ثمرها باسق، وجمالها متناسق، لا يتناهى ثوابها ولا يضاهي فضلها، ففي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه» [رواه البخاري ومسلمٍ].
فالعفيف يوم القيامة في ظل الرحمن، آمن من فتن ذلك اليوم العظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين، لأنه خاف الله جل وعلا حينما دعاه داعي الشهوة فخشيه وعف عن الحرام، فأحسن الله إليه يوم الفزع الأكبر، قال تعالى في الحديث القدسي: «وعزتي وجلالي لا أجمع لعبدي أمنين ولا خوفين، إن هو أمنني في الدنيا أخفته يوم أجمع عبادي، وإن هو خافني في الدنيا أمنته يوم أجمع عبادي»([2]).
فطوبى لأهل العفاف!
مستوفدين على رحل كأنهم | ||
ركب يريدون أن يمضوا وينتقلوا | ||
عفت جوارحهم عن كل فاحشة | ||
فالصدق مذهبهم والخوف والوجل | ||
وإليك أخي الكريم المجموعة الأولى من قصص العفيفين والعفيفات تروى أخبارهم الرفيعة وأحداثهم المثيرة.
عواقب الشهوة
عواقب الشهوة:
يقول ابن القيم رحمه الله: الصبر على الشهوة أسهل من الصبر على ما توجبه الشهوة؛ فإنها إما أن توجب ألما وعقوبة، وإما أن تقطع لذة أكمل منها وإما أن تضيع وقتا إضاعته حسرة وندامة، وإما أن تثلم عرضا توفيره أنفع للعبد، وإما أن تذهب مالا بقاؤه خير له من ذهابه، وإما أن تضع قدرا وجاها قيامه خير من وضعه، وإما أن تسلب نعمة بقاؤها ألذ من قضاء الشهوة، وإما أن تطرق لوضيع إليك طريقا لم يكن يجدها قبل ذلك، وإما أن تجلب هما وغما وحزنا لا يقارب لذة الشهوة، وإما أن تُنسي علما ذكره ألذ من نيل الشهوة، وإما أن تشمت عدوا وتحزن وليا، وإما أن تقطع الطريق على نعمة مقبلة، وإما أن تحدث عيبا يبقى صفة لا تزول؛ فإن الأعمال تورث الصفات والأخلاق.([3])
وهذه العواقب كلها من سلبيات الفواحش وعلى رأسها الزنا، فإنها أعظم ما يثلم الأعراض ويهلك الدين والإيمان، ولذا ورد وعيد شديد على هذه الكبيرة العظيمة التي أطبقت الشرائع السماوية والعقول والفطر النقية على تشنيعها وتحريمها لما فيها من المفاسد العظيمة والأضرار الوخيمة على الفرد والمجتمع.
فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته في صلاة الكسوف: «يا أمة محمد، والله إنه لا أحد أغير من الله أن يزني عبد أو تزني أمته، يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا»([4]).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله»([5]).
يقول ابن القيم رحمه الله: ومفسدة الزنا مناقضة لصلاح العالم، فإن المرأة إذا زنت أدخلت العار على أهلها وزوجها وأقاربها، ونكست رؤوسهم بين الناس، وإن حملت من الزنا، فإن قتلت ولدها جمعت بين الزنا والقتل، وإن أبقته حملته على الزوج فأدخلت على أهلها وأهله أجنبيا ليس منهم، فورثهم وليس منهم، وخلا بهم، وانتسب إليهم، وليس منهم، وأما زنا الرجل فإنه يوجب اختلاط الأنساب أيضا، وإفساد المرأة المصونة وتعرضها للتلف والفساد، ففي هذه الكبيرة خراب الدنيا والدين)([6]).
* * *
ثمرات العفة
للعفة ثمرات زكية، وآثار مرضية، تعود على صاحبها بالخير في الدنيا والآخرة، فمنها:
1- نيل وعد المتقين:
فالعفة من أجلى مظاهر التقوى، وأنصح صورها، لأن العفيف حينما يصد عن الفواحش وأسبابها إنما يتقي بعفته سوء الحساب.
ولقد وعد الله جل وعلا المتقين وعدا حسنا، وبشرهم ببشارات عظيمة كريمة، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا﴾ [الطلاق: 5].
وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل: 128]، وقال سبحانه: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: 2، 3]، وقال تعالى: ﴿وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ﴾ [الزمر: 61]، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ [الطلاق: 4]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ﴾ [الدخان: 51]، وقال تعالى: ﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف: 90]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ [التوبة: 4] وغيرها من البشارات في القرآن والسنة، فأين شهوة ساعة من هذه الكرامات الرفيعة؟!
وأين خسارة صبوة الهوى من هذا الجزاء الأوفى؟!
فيا مفاز المتقي | ورح عبد قد وقي | |
سوء الحساب الموبق | وهول يوم الفزع | |
ويا خسار من بغى | ومن تعدى وطغى | |
وشب نيران الوغى | لمطعم أو مطمع |
2- النجاة من عواقب الفواحش:
فالعفيف في مأمن من عواقب الشهوات، وما تورثه من أضرار وعقوبات على النفوس والذوات.
فعقوبة الزنا فظيعة، وأضراره شنيعة، ومفاسده أشد فتكا بالزاني من السموم، وأعظم بطشا بعرضه ونفسه وماله وجسده من عدو ظلوم!
فما هو إلى لذة فانية، وشهوة منقضية، تذهب لذاتها، تبقى تبعاتها، فرح ساعة لا شهر، وغم سنة بل دهر، طعام مسموم أوله لذة وآخره هلاك، فالعامل عليها والساعي لها كدودة القز يسد على نفسه المذاهب بما نسج عليها من المعاطب، فيندم حين لا ينفع الندامة، ويستقيل حين لا تقبل الاستقامة.
فطوبى لمن أقبل على الله بكليته وعكف عليه بإرادته ومحبته، فإن الله يقبل عليه بتوليته ومحبته وعطفه ورحمته، وإن الله إذا أقبل على العبد استنارة جهاته وأشرقت ساحاته وتنورت ظلماته وظهرت عليه آثار إقباله من بهجة الجلال وآثار الجمال، وتوجه إليه أهل الملأ الأعلى بالمحبة والموالاة؛ لأنهم تبع لمولاهم فإذا أحب عبدا أحبوه، وإذا والى وليا والوه)([7]).
ولو تأمل المسلم في عقوبات الزنا وأضراره في الدنيا والآخرة لأدرك ما يفوته طائع شهوته على نفسه من الخير والفضل وما يحنيه من مر الثمار وشنيع الأضرار، فالزنا يسبب الأمراض والأوجاع التي يحار فيه الطبيب، ويصرع بها اللبيب، وأغلبها أمراض شاذة، لا يعلم لها دواء، ولا يرجى لها شفاء ([8]).
فمن تلك الأدواء:
1- مرض الزهري: وسببه جرثومة خبيثة تدعى: (تريبوينماباليديم) وتتولد بسبب الزنا والعلاقات الجنسية المحرمة، ولا يمكن أن تحدث مطلقا في الوطء الحلال، وتتجلى أعراضه في تقرح الأعضاء التناسلية، والكبد والأمعاء، والمعدة والبلعوم والرئتين، ويترك هذا الداء آثارا خطيرة على المريض كالشلل، وتصلب الشرايين – مما يزيد من احتمالات السكتة القلبية – والعمى والذبحة الصدرية وسرطان اللسان والسل أحيانا([9]).
2- مرض السيلان: ويسمى في بعض البلدان العربية (الرَّدَّة) أو (التعقيبة) وهو أيضا يحدث بسبب الزنا والعلاقات المحرمة دون الوطء الحلال.
وله آثار وأخطار جسيمة، منها: الالتهابات في الأعضاء التناسلية، والتهاب الكبد والقلب، والتهاب القولون، مع ما يصحبه من صديد ذي رائحة كريهة.. ويعد من أهم أسباب العقم ([10]).
3- مرض الهربس: وهذا المرض من أكثر الأمراض شيوعا في العالم لا سيما البلدان التي تهتز بالدعارة والانحلال مثل أمريكا وبريطانيا، وهو أخطر من مرض السرطان، وله مضاعفات خطيرة على الأعضاء التناسلية،كما أنه يؤدي إلى تلف الدماغ، وارتفاع نسبة وقوع موته، ويسبب مضاعفات نفسية خطيرة في صفوف الشباب المنحل، وتظهر أعراضه على شكل تقرحات شديدة الحمرة في الفم وفي جوانب الفخذين والأعضاء التناسلية، نسأل الله العافية([11]).
4- مرض الإيدز: ومعناه (انهيار أو نقص حاد في المناعة المكتسبة)، وهذا المرض يجعل الإنسان عرضة للموت في أي لحظة, لأنه لا يستطيع مقاومة أقل الأمراض خطورة كالجروح والحمى وغيرها لأن جسم المصاب بـ(الإيدز) لا يتوفر على مناعة تمنع أضرار المرض وتدفعه، ولقد بث هذا المرض رعبا شديدا في قلوب المنحلين والإباحيين في الغرب، ويذكر أن سببه العلاقات الجنسية المحرمة عامة واللواط والمخدرات خاصة، نسأل الله السلامة والعافية([12]).
ولو تتبعنا الأمراض التي يورثها الزنا لوجدناها أكثر بكثير من الذي ذكر، وإنما أردنا بذكر هذا القليل التنبيه على خطورة الشهوات وعواقبها في الدنيا.
وأما أضرارها على صاحب الشهوة في ماله ونفسه وعرضه فإنها ممحقة للرزق هاتكة للشرف والعرض، سالبة لصفات الجمال والكمال والسيادة، فلا يرى صاحبها إلا منبوذا بين الناس وإن مدحوه، محروما وإن منحوه، فإنه لما ضيع طاعة الله بارتكاب الفواحش، ضيع الله عليه أسباب سعادته بتنفير الناس عنه وهتك عرضه!
مع ما يورثه هذا الذنب العظيم من ضيق الصدر، وقلة ذات اليد، وقسوة القلب وذهاب ماء الوجه ونوره ووضاءته ونضارته.
فطوبى لمن عف لله، واجتنب محارم الله، فعاش في مأمن من مغبر هذه الأدواء والتمس بعفته وطهارته الطمأنينة والسعادة والهناء.
وأما عواقب الشهوة في الآخرة فهي أشد وأنكى، وأكبر وأعتى.
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾ [الفرقان: 68-70].
قال ابن القيم رحمه الله: فقرنه الله بالشرك وقتل النفس، وجعل جزاء ذلك الخلود في العذاب المضاعف، وما لم يرفع العبد موجب ذلك بالتوبة والإيمان الصلاح ([13]).
أخي الكريم..
فكيف يزهد عاقل في عفته.. وهو ينظر إلى أهل الشهوات يسقطون صرعى في براثن الأمراض.. وهتك الأعراض..؟!
فلو لم يكن من ثمرات العفة إلا ثمرة النجاة من عواقب الزنا وأسبابه في الدنيا والآخرة لكان حقيق بالمسلم اللبيب أن يعف عن المحارم، ويطمع في المكارم!
* * *
يوسف عليه السلام وامرأة العزيز
بعدما قذفه إخوته في قعر بئر مظلم، وتركوه وانقلبوا إلى أبيهم يعقوب عليه السلام يتباكون فقده، ويندبون ضياعه!! لبث يوسف في البئر حزينا صامتا محتسبا، حتى مرت بالبئر قافلة من ركب كثير، فتوقفت عنده لتستزيد من الماء وتستريح من عناء الطريق.
قذف أحدهم دلوه في البئر فاستمسك به يوسف، فصار الدلو أثقل على الساقي من المعتاد، فجرَّه إليه بصعوبة بالغة، ولما اقترب منه لاحظ فيه غلاما جميلا قد كان في قعر البئر ثاويا، فصرخ! ﴿يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ﴾ [يوسف: 19].
حمل يوسف إلى مصر، وباعه الركب إلى رجل جعله ملك مصر على خزائنها، وكان اسمه (أطفير بن روحيب) ويعرف بعزيز مصر.
كان العزيز رجلا شريفا محبوبا عند أهل مصر، وكان لا يولد له، فكان فرحه بيوسف عظيما، فأدخله قصره وأمر زوجته (زليخا) بإكرامه قائلا: ﴿أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا﴾ [يوسف: 21].
ترعرع يوسف في قصر العزيز، وكان بخلقه الرفيع واستقامته الخيرة يملأ على العزيز قصره، ويبهج صدره، ويقر عينه.
1- بداية الفتنة وبراءة يوسف:
لكن امرأة العزيز أُشْرِبَتْ في قلبها حبه، فسكن هواه في سويدائه، وهيامه في غلافه، فأصبحت تتحين الفرصة بين الفينة والأخرى، لتمكن نفسها من ذاته، فقد كانت مصروعة بجماله وصفاء سريرته وفعاله!
بعدما نفذت حيلها في الإيقاع به في أحضان الرذيلة، ولم ينفعها معه أسلوب الإغراء والإغواء، دبرت له مكيدة ماكرة ظنتها تبلغها المارد، فماذا فعلت؟
لقد غلقت الأبواب وانفردت به ودعته إلى الفاحشة النكراء بصريح العبارة: ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ﴾ [يوسف: 23].
وهنا يرسم يوسف عليه السلام معالم العفة الحياء، ويعلن موقفه الرفض للوقوع في الفحشاء فلم يبالِ بزينة امرأة العزيز وسفورها، ولم يلتفت إلى منصبها وجمالها، إنما استحضر مراقبة الله واطلاعه، فرد عليها ﴿مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ [يوسف: 23].
وبعد أن رآها مصرة على غيها وشهوتها، تتقدم إليه ، وتثيره انقلب يوسف اتجاه الباب هاربا من فتنتها بجسده، بعدما أعلن براءته وعفته، ولشدة حرص امرأة العزيز على الفاحشة، تبعت يوسف وأمسكت بقميصه بقوة فتمزق، وفي اللحظة نفسها دخل العزيز عليهما في تلك الصورة الغامضة، فانتابته الدهشة، تملكته الحيرة، وتحركت في باطنه الغيرة.
فلم يدر.. ما حقيقة الذي يجري!
هل زوجته وشريكة حياته تخونه؟!
أم ذاك الشاب الحيي الشهم الكريم؟!
وقبل أن يسأل أو يستفسر، سبقته امرأته بمكر ودهاء.. فادعت أن يوسف راودها عن نفسها وطلب منها الفاحشة، وظهرت لزوجها بمظهر العفيفة المظلومة المخلصة لزوجها في غيابه! وطالبت العزيز بسجن يوسف، ﴿وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [يوسف: 25].
لم يكن ليوسف وَقْتَئِذٍ إلا أن يكشف حقيقة الأمر دفعا للظلم عن نفسه فقال: ﴿قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي﴾ [يوسف: 26].
ومن عظيم قدر الله أن كان أحد أقارب امرأة العزيز برفقة العزيز، فما عاين ذلك المشهد المريب خطر بباله أمر قد يظهر به الحق من الباطل.
فطرحه على العزيز لعله يهتدي إلى حقيقة الحدث!
قال: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [يوسف: 26-27].
وحينما تفقد العزيز قميص يوسف وجده ممزقا من خلفه، فأيقن ببراءة يوسف وعفته، وعلم ما دبرته زوجته (زليخا) من المكر والخديعة والقذف .. فصوب إصبع الاتهام إليها وقال: ﴿إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾ [يوسف: 28].
وحتى لا يفتضح الأمر، ويهتك بيت العزيز، أمر يوسف بالإعراض عن هذه القضية وكتمانها، ثم أمر زوجته بالتوبة والرجوع عن الخطأ.. ﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ﴾ [يوسف: 29].
2- فتنة جديدة:
لم تنتهِ رحلة عفة يوسف عليه السلام بِطَيِّ هذا الحدث العجيب، بل كانت بداية لابتلاء جديد يتعرض له يوسف من قبل نسوة أخريات!
فقد انتشر في أوساط الناس ما وقع ليوسف من فتنة، وأصبح الحديث عن عشق امرأة العزيز له على ألسنة كثير من النسوة,
فواحدة تذمها، وأخرى توبخها، وثالثة تضللها.. ورابعة تعيب عليها حبها لفتى من فتيان القصر وخدمه!
﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [يوسف: 30].
لم يكن أمام (زليخا) إلا أن تبحث عن مخرج يخفف من وطأة فضيحتها، ويسد منافذ ملامة النسوة لها، فدبرت مكيدة جديدة تضع بها حدا لانتقادها، لقد كانت تدرك أكثر من غيرها جمال يوسف وتأثيره على أولئك النسوة.. ولذلك: ﴿أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ [يوسف: 31].
فوقع أن نجحت خطتها، فلقد وقفن علي حقيقة جمال يوسف وانبهرن به فأصابهن ما أصاب (زليخا) من العشق والغرام! فأعذرنها.
لكن الذي لم يقف على حقيقته النسوة، هو جمال آخر زاد من تعلق امرأة العزيز بيوسف، فالنسوة لم يرين من يوسف إلا جمال ظاهره..
أما هي فقد رأت جمال باطنه، وصفاء سريرته، وعظيم عفته، ولذلك سارعت إلى إخبارهن بذلك فقالت: ﴿فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ﴾ [يوسف: 32].
فلامتهن عن لومهن لها، وأخبرتهن أنه مع جماله الظاهر جميل الباطن، فقد استعصم وأبى الخيانة والفاحشة، وأن كمال جماله هذا، هو الذي يزيدها شغفا وحبا وتعلقا به، فلا تقوى على تركه!
ثم قالت: ﴿وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾ [يوسف: 32].
وهنا يقف يوسف عليه السلام شاهدا بعفته على إيمانه، وثابتا على حيائه ويقينه، يرسم للتاريخ معالم العفة وآفاقها .. وطرقها وأسبابها.
فقد عايش بتحريش النسوة وكيدهن، وتهديد امرأة العزيز ووعيدها، فلجأ بقلبه خاشعا متضرعا: ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [يوسف: 33].
فاعترف لبارئه بضعف الحيلة، والخوف من سوء المنقلب، وتضرع يسأله الثبات والفرج، ولو أدى ذلك إلى سجنه وحبسه، فحبس الذات عن الذوات.. أهون عليه من حبس الفؤاد بالفاحشة عن رب الأرض والسماوات.
3- عفة يوسف تدخله السجن:
وكثر كلام الناس من جديد على ما يدور في خاطر امرأة العزيز نحو يوسف، فما كان من العزيز إلا أن أدخل يوسف السجن ظلما وعدوانا، ليعلم الناس عفاف زوجته، وخيانة يوسف كما زعم! فكان السجن آية عفته وطهارته!
وعاش يوسف سعيا في سجنه.. فقد كان ضيق الأركان.. لكنه فسيح برعاية الرحمن، عاش فيه عابدا ساجدا، شاكرا حامدا، يدعو إلى الله على نور وبصيرة! ﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف: 36].
انتهز يوسف عليه السلام اعتراف رفيقيه في السجن بإحسانه وصحة دعوته وجميل استقامته وحاجتهما إلى تأويل ما رأياه في المنام، فبادر إلى دعوتهما إلى التوحيد ومعاني الإسلام، وسعة علمه الذي علمه الله إياه ﴿قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾ [يوسف: 37-38].
وبعد أن قدر لهما دعوة التوحيد، أَوَّلَ رؤياهما فقال: ﴿أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ﴾ [يوسف: 41].
وفعلا، أفرج عن السجين الأول فصار ساقيا للملك، وأما الآخر فصلب وأكلت الطير من رأسه.
ومرت السنين ويوسف في سجنه لم يبارحه ولم ينظر في أمره.. وكان عليه السلام قد طلب من السقاء الذي كان معه في السجن، أن يذكره عند الملك، ولكن السقاء نسي الطلب وتشاغل عنه.
4- انتصار العفة:
ويشاء الله جل وعلا أن ينصر يوسف العفيف، وأن يعزه ويرفع شأنه، ويذل من اتبع شهوته هواه..
فلقد رأى الملك فيما يرى النائم رؤيا قضت منامه وبعثت فيه من القلق والفزع ما دفعه إلى إحضار العلماء والكهنة والعرافين يستفتيهم في شأنها!
فعرض عليهم حُلمه كما رآه.. ولكنهم أخفقوا في تأويله.. وقالوا: ﴿أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ﴾ [يوسف: 44].
وفي تلك اللحظة تذكر السقاء شأن يوسف وسعة علمه في التأويل وما عايشه من صدق تأويله، وتذكر طلب ذكره عن الملك.. فذكره بما يعلمه عنه من الخير والإحسان والصدق والعلم.
فأرسل الملك ساقيه إلى السجن ليستفتي في شأن الرؤيا من يوسف.. فذهب السقاء على الفور.
كان الملك قد رأى في منامه سبع بقرات ضخمة عظيمة، ثم رأى بعدها سبع بقرات هزيلة تأكل تلك البقرات السمينة، حتى استقرت كل بقرة سمينة في بطن بقرة هزيلة، وكان مشهد الافتراس مفزعا.
ثم رأى أيضا سبع سنبلات ناضجات ممتلئات بالحب، زاهيات بالخضرة، وما كاد يراها حتى اختفت وظهرت مكانها سبع سنبلات يابسات، فزاد فزعه، فما أقبل السقاء على يوسف أخبره بأمره، فشرع يوسف في تأويلها على الفور ﴿قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ [يوسف: 47-49].
رجع السقاء إلى ديوان الملك وأخبره بما تلقاه من يوسف من التأويل، فلما سمع الملك كلامه عجب لذلك عجبا عظيما، وانتابه ذهول من علم يوسف الخرق، فقد كان تأويله هو ضالة الملك التي تقض مضجعه، وتهز فزعه!
ومما زاد من دهشته، أن سمع إضافة ليست من تأويل الرؤيا في شيء، وهو إضافة مبشرة للملك ومصر كلها.
فقد أخبر يوسف أن بعد السبع الشداد يأتي عام خصيب كثير خيره وماله ورخاؤه. بعث الملك إلى يوسف بالمجيء إلى قصره، لكن وزيره رجع يخبره خبرا غريبا.
فقد أبى يوسف الخروج من السجن إلا إذا نظر الملك في مسألة النسوة اللاتي قطعن أيديهن، وما حدث مع امرأة العزيز، ولماذا أدخله إلى السجن العزيز؟
فقال للوزير: ﴿ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: 50].
وهنا سوف تتجلى آثار العفة والطهارة، ويفتضح أمر اتباع الشهوة والهوى، فقد استدعى الملك امرأة العزيز ومعها النسوة، وحقق في الأمر معهن ، ويوسف لا يزال في سجنه.
فاعترفت امرأة العزيز على نفسها أمام الملأ، وشهدت ليوسف بالصدق والطهارة والاستقامة قال: ﴿الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [يوسف: 51]، فقال الملك: ﴿ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ﴾ [يوسف: 54].
إنه انتصار العفة، واستعلاء الإيمان.
فمهما تكبد العفيف من البلاء والمحن في طريقه، فلا بد أن يحالفه النصر، فها هو يوسف السجين، يرفعه الله من السجن والحصر، إلى رحاب القصر، بل ويهبه فيه القوة والتمكين ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف: 22].
5- حقيقة هم يوسف عليه السلام:
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ [يوسف: 24].
ولقد اختلق بعضهم من الروايات والأخبار الكاذبة ما يفسر بزعمهم حقيقة هذا الهم، فقالوا: إن يوسف عليه السلام قد لبى رغبة امرأة العزيز وجلس منها مجلس الرجل من المرأة، وأنه رأى صورة يعقوب عاضا على يده، ونحو ذلك من الأقاويل وهذه النقول لا يصح منها شيء، ولم يثبت منها حرف واحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قرره شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى حيث قال رحمه الله: وأما يوسف الصديق فلم يذكر الله عنه ذنبا، فلهذا لم يذكر الله عنه ما يناسب الذنب من الاستغفار، بل قال: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ [يوسف: 24]، فأخبر أنه صرف عنه السوء والفحشاء، وهذا يدل على أنه لم يصدر منه سوء ولا فحشاء.
وأما قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ [يوسف: 24].
فالهم: اسم جنس تحته نوعان كما قال الإمام أحمد: الهم همان:
-هم خطرات ([14]).
-وهم إصرار ([15]).
وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن العبد إذا هم بسيئة لم تكتب عليه، وإذا تركها لله كتبت حسنة وإن عملها كتبت له سيئة واحدة» [رواه البخاري ومسلم].
ويوسف عليه السلام همَّ همًّا تركه لله، ولذلك صرف الله عنه السوء والفحشاء لإخلاصه، وذلك إنما يكون إذا قام المقتضي للذنب وهو الهم، وعارضه الإخلاص، الموجب لانصراف القلب عن الذنب لله.
فيوسف عليه السلام لم يصدر منه إلا حسنة يثاب عليها، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: 201]([16]).
قد كان يوسف في العفاف إماما | ||
ونبي وحي ينشر الإسلاما | ||
فلقد دعته وراودته عليلة | ||
في قصرها فأبى لها استسلاما | ||
واختار ضيق السجن يذكر ربه | ||
عفا يريد بضيقه استعصاما | ||
فعليه من باري الوجود سلامة | ||
فعفافه يستوجب الإعظاما | ||
قال ابن القيم رحمه الله: فتأمل كيف جزاه الله سبحانه وتعالى على ضيف السجن أن مكنه في الأرض ينزل منها حيث يشاء، وأذل له العزيز وامرأته، وأقرت النسوة ببراءته وهذه سنة الله في عباده قديما وحديثا إلى يوم القيامة ([17]).
* * *
عطاء بن يسار على درب يوسف عليه السلام
ومن المتعففين من أثر صدق عفافه فيمن راودته من النساء، وعرضت عليه جسمها، فعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: خرج عطاء بن يسار وسليمان بن يسار حاجين من المدينة ومعهم أصحاب لهم حتى إذا كانوا بالأبواء، نزلوا منزلا، فانطلق سليمان وأصحابه لبعض حاجتهم، وبقي عطاء بن يسار قائما في المنزل يصلي، فدخلت عليه امرأة من الأعراب جميلة، فلما رآها ظن أن لها حاجة، فأوجز في صلاته ثم قال: ألك حاجة؟ قالت: نعم، قال: ما هي؟ قالت: قم فأصب مني فإني قد ودقت ولا بعل لي!
فقال: إليك عني، لا تحرقيني ونفسك بالنار!
فجعلت تراوده عن نفسه، وتأبى إلا ما تريد!
فجعل عطاء يبكي ويقول: ويحك إليك عني، إليك عني..
قال: واشتد بكاؤه، فلما نظرت إليه وما دخله من البكاء والجزع، بكت المرأة لبكائه، فجعل يبكي، والمرأة بين يديه تبكي.
فبينما هو كذلك، إذ جاء سليمان من حاجته، فلما نظر إلى عطاء يبكي، والمرأة بين يديه تبكي، جلس في ناحية البيت لبكائهما، لا يدري ما أبكاهما!!
وجعل أصحابهما يأتون رجلا رجلا، كلما أتى رجل فرآهم يبكون، جلس يبكي لبكائهم، لا يسألون عن أمرهم، حتى كثر البكاء وعلا الصوت، فلما رأت الأعرابية ذلك، قامت فخرجت.
قال: وقام القوم فدخلوا.
فلبث سليمان بعد ذلك وهو لا يسأل أخاه عن قصة المرأة إجلالا له وهيبة، قال: وكان أسن منه.
قال: ثم إنهما قدما مصرا لبعض حاجتهما، فلبثا بها ما شاء الله، فبينا عطاء ذات ليلة نائم، إذ استيقظ وهو يبكي!
فقال له سليمان: ما يبكيك أي أخي؟!
قال: فاشتد بكاؤه.
قال: ما يبكيك أي أخي؟!
قال: رؤيا رأيتها الليلة.
قال: وما هي؟
قال: لا تخبر بها أحدا ما دمت حيا، قال: وذلك.
قال: رأيت يوسف النبي عليه السلام، فجئت أنظر إليه فيمن ينظر، فلما رأيت حسنه بكيت، فنظر إلي في الناس.
فقال: ما يبكيك أيها الرجل؟ قلت: بأبي أنت وأمي.. ذكرتك وامرأة العزيز وما ابتليت به من أمرها وما لقيت من السجن وفرقة الشيخ يعقوب عليه السلام، فبكيت من ذلك، وجعلت أتعب منه، فقال عليه السلام: فهلا تعجبت من صاحب المرأة بالأبواء؟ فعرفت الذي أراد، فبكيت، واستيقظت باكيا.
قال سليمان: أي أخي! وما كان حال تلك المرأة؟
قال: فقص عليه عطاء القصة.
فما أخبر سليمان بها أجدا حتى مات عطاء، وحدث بها بعده امرأة من أهله.
قال: وما شاع هذا الحديث بالمدينة إلا بعد موت سليمان بن يسار!([18])
ففي هذه القصة بيان عاجل بشرى المؤمن العفيف.. وتسليته بالرؤيا الصالحة، تثبيتا لإيمانه ويقينه، وإكراما له على عظيم إنجازه وعمله.
وهذه الطائفة لعفتهم أسباب، أقواها: إجلال الجبار ثم: الرغبة في الحور الحسان في دار القرار.
ومنهم من يحمله على العفة الإبقاء على محبة الله خشية ذهابها بالوصال، ومنهم من يحمله عليها عفة محبوبه ونزاهته، ومنهم من بحمله عليها الحياء منه والاحتشام له وعظمته في صدره، ومنهم من يحمله عليها الرغبة في ميل الذكر وحسن الأحدوثة ومنهم من يحمله عليها الإبقاء على جاهه ومروءته وقدره عند محبوبه بين الناس، ومنهم من بحمله عليها كرم طبعه وشرف نفسه وعلو همته، ومنهم من يحمله عليها لذة الظفر بالعفة, فإن للعفة لذة أعظم من لذة قضاء الوطر، لكنها لذة يتقدمها ألم حبس النفس ثم تعقبها اللذة، وأما قضاء الوطر، فبالضد من ذلك، ومنهم من يحمله عليها علمه بما تعقبه اللذة المحرمة من المضار والمفاسد ([19]).
* * *
العفاف طريق الفرج
بشارات الله جل وعلا للمتقين في كتابه عديدة، فلقد بشرهم بالعون والنصرة، وبالعلم والحكمة، وبالتوفيق والعصمة، وبالوصال والقربة، والمغفرة والمحبة..
قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى﴾ [يونس: 63-64]، وقال سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل: 128]، فقال سبحانه: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: 2-3]، وقال سبحانه: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ [الطلاق: 4].
وأهل العفاف هم أهل التقوى والورع، ولقد ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عجائب بشاراتهم ما يسلي نفوس المستعففين عن الفواحش والمنكرات ويثبت عزائمهم، ويقوي صبرهم ويعلي هممهم في طريق العفة والطهارة.
ففي الصحيح من حديث أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بينما ثلاثة يمشون إذ أخذتهم السماء فأوَوْا إلى غار في الجبل فانحطت عليهم صخرة من الجبل فأطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالا صالحة عملتموها فادعوا الله بها، فقال بعضهم: اللهم إنك تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران وامرأة وصبيان، وكنت أرعى عليهم فإذا رحت عليهم حلبت فبدأت بوالدي أسقيهما قبل بني وأنه نأى بي الشجر, فلم آت حتى أمسيت فوجدتهما قد ناما فحلبت كما كنت أحلب، فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما من نومهما، وأن أبدأ بالصبية قبلهما والصبية يتظاغون عند قدمي، فلم أزل كذلك حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا فرجة نرى منها السماء! ففرج الله لهم فرجة!
وقال الآخر: اللهم إنه كانت لي ابنة عم فأحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء فطلبت إليها نفسها فأبت حتى أتيها بمائة دينار، فسعيت حتى جمعت مائة دينار فجئتها بها, فلما قعدت بين رجليها قالت: يا عبد الله، اتَّقِ الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه فقمت عنها وتركت المائة دينار، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا من هذه الصخرة! ففرج الله لهم فرجة!
وقال الآخر: اللهم إني كنت استأجرت أجيرا بفرق من أرز, فلما قضى عمله قال: أعطني حقي فأعطيته فأبى أن يأخذه فزرعته ونميته حتى اشتريت له بقرا ورعاءها فجاءني بعد حين فقال: يا هذا اتق الله ولا تظلمني وأعطني حقي، فقلت: اذهب على تلك البقر ورعائها فهو، فقال: اتق الله ولا تهزأ بي، فقلت: لا استهزئ بك فخذ ذلك، فأخذها وذهب فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما بقي من الصخرة ففرج الله عنهم وخرجوا يمشون» [رواه البخاري ومسلم].
فتأمل – أخي الكريم – في فضيلة العفة كيف يزحزح الله بها الصخور، ويفرج بها الكرب في أحلك اللحظات غما وهما، فلقد توسل ذلك العفيف، بعفته عن الفاحشة وقيامه من بين يدي ابنة عمه..لما لامست كلمة التقوى نخوة إيمانه، ونزلت بردا وسلاما على نار شهوته فأخمدتها ودحرتها.. فإذا به يقوم خشية من الله..ورغبة في تقواه.. وحفظا لحقه ومحارمه.. لأجل موعظة بليغة من ابنة عمه: «يا عبد الله اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه!».
فاتق الله أخي الكريم، واستعفف عن المحارم صغيرها وكبيرها، يكن لك ذلك فرجا من الهموم في الدنيا وذخرا في الآخرة.. ولا عجب فالعفة تفتت الحجر!!
* * *
عفة الصحابي مرثد بن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: كان رجل يقال له مرثد بن أبي مرثد الغنوي وكان رجلا يحمل الأسارى في مكة يأتي بهم المدينة، قال: وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها: عناق، وكانت صديقة له في الجاهلية، وأنهه واعد رجلا من أسارى مكة يحمله.
قال: فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة.
قال: فجاءت عناق، فأبصرت سوادا تحت ظل الحائط، فلما انتهت إلي عرفتني فقالت: مرثد.
فقلت: مرثد.
فقالت: مرحبا وأهلا هلم فبت عندنا لليلة.
قال: فقلت: يا عناق ، حرم الله الزنا.
فقالت: يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراكم.
قال: فتبعني ثمانية ودخلت الحديقة فانتهيت إلى غار أو كهف، فدخلت فيه، فجاؤوا حتى قاموا على رأسي، فبالوا فظل بولهم على رأسي فأعماهم الله عني، ثم رجعوا، فرجعت إلى صاحبي فحملته، وكان رجلا ثقيلا، حتى أتيت به المدينة، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله أنكح عناقا؟ مرتين، فأمسك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يرد علي شيئا حتى نزلت: ﴿الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً﴾ [النور: 3]، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا مرثد الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة»([20]).
فرضي الله عن مرثد ، فقد كان لا يزال في قلبه حب (عناق) وراودته عن نفسه في ظلمة ليل كان أحوج ما يكون فيه نصير يبلغه حاجته فعف لله سبحانه، ورد عليها بما يقطع طمعه فيه، وهو يعلم أن رفضه قد يجر عليه مفاسد قد تؤدي بحياته في مكة.
ولما علم الله منه إخلاصه، صرف عنه سوءها ، وأحبط كيدها، ونجاه كما نجا يوسف عليه السلام من قبل، وأوصله إلى المدينة آمنا مطمئنا.
* * *
عفة عثمان بن أبي طلحة رضي الله عنه
تروي أم سلمة رضي الله عنها قصة هجرتها فتقول:
... ففرقوا بيني وبين زوجي، إذ واصل هو سيره على المدينة، وبين وبين ولدي إذ أخذه رهط زوجي، فكنت أخرج كل غداة إلى الأبطح فأجلس أبكين حتى مر بي رجل من بني عمتي أحد بني المغيرة، فرأى ما بي فرحمني، فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون هذه المسكينة، فرقتم بينها وبين زوجها، و بين ولدها.
قال: فقالوا لي: الحقي بزوجك إن شئت.
قالت ورد بنوا عبد الأسد إلي غلام ذلك ابني، فارتحلت بعيري، ثم أخذت ابني فوضعته في حجري، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة، وما معي أحد من خلق الله.
فقلت: أبلغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجي، حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن أبي طلحة أخا بني عبد الدار، فقال لي: إلى أين بنت أبي أمية؟
قلت: أريد زوجي بالمدينة.
قال: أوما معك أحد؟
قلت: لا ولله، إلا الله وبني هذا.
قال: والله ما لك من مترك، فأخذ بخطام البعير، فانطلق معي يهوي بي ، فوالله ما صحبت رجلا من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي، ثم تأخر عني حتى إذا نزلت استأخر ببعيري فحط، ثم قيده في الشجرة، ثم تنحى عنى إلى شجرة أخرى، فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري، فقدمه فرحله، ثم استأخر عني، وقال:اركبي، فإذا ركبت واستويت على بعيري أبى وأخذ بخطامه فقاده، حتى ينزل بي ، فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال: زوجك في هذه القرية -وكان أبو سلمة نازلا بها- فادخليها على بركة الله ثم انصرف راجعا إلى مكة، وهو يومئذ على الشرك، وما أسلم إلا في هدنة الحديبية، والله ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة، وما رأيت صاحبا قط أكرم من عثمان بن طلحة.
قال الشيخ أبو بكر الجزائري حفظه المولى: حقا ما قالته: ما أعلم أهل بيت أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة هذه واحدة، وأخرى في كمال عثمان بن طلحة الذي يضرب الرقم القياسي في الكرم النفسي، إنه يجد امرأة على بعيرها تريد السفر مسافة عشرة أيام في صحراء لا خضراء فيه ولا ماء، فيقول وقد سألها عن حالها: والله مالك من مترك ويقود بعيرها، ويحسن إليها في ركوبها ونزولها، ويريها من العفة والكرم ما لم تره امرأة مثلها قط.
آه!! أين هؤلاء الرجال الأعفاء الكرماء ذوو النجدة؟ لقد أقفرت منهم الحياة، وأجدبت منهم ساحة الوجود، ولا خير في دنيا يفقد فيها أمثال هؤلاء([21]).
* * *
نساء يدهشهن شموخ العفة
1- قصة الربيع:
كان الربيع من العباد الزهَّاد الخاشعين لله، شريفا عفيفا يُشار إلى نبله بالبنان..
ولقد تملك الحسد قلوب شباب من عصره، فأرادوا أن يختبروه فأرصدوا له امرأة جميلة على باب المسجد وكان ذلك والربيع في عنفوان شبابه، فلما خرج من المسجد أسفرت عن وجه كأنه دارة قمر، متظاهرة بأنها ستسأله ولشدة ما كانت دهشتها إذ رأته يبكي حين رأى وجهها فقالت له: ما يبكيك؟
فقال: أبكي لهذا الجمال ، يسلك به سبيل الضلال فيرى في جهنم هذا الوجه وهو جمجمة متفحمة ([22]).
ولقد شوهدت تلك المرأة وهي من ملازمات الصلاة، قلبها معلق بالمساجد ([23]).
2- قصة فتى من أهل الكوفة:
وعن إبراهيم النخعي قال: كان بالكوفة فتى جميل الوجه شديد التعبد والاجتهاد فنزل في جوار قوم من النخع، فنظر إلى جارية منهم جميلة، فهويها وهام بها عقله ونزل بالجارية ما نزل بالفتى،فأرسل يخطبها من أبيها، فأخبره أبوها أنها مسماة لابن عم لها، فلما اشتد عليهما ما يقاسيانه من ألم الهوى أرسلت إليه الجارية: (قد بلغني شدة محبتك لي وقد اشتد بلائي بك، فإن شئت زرتك وإن شئت سهلت لك أن تأتيني على بيتي، فقال للرسول: ولا واحدة من هاتين الخلتين ﴿قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الأنعام: 15] أخاف نارا لا يخبو سعيرها، ولا يخمد لهيبها، فلما أبلغها الرسول قالت: وأراه مع هذا يخاف الله، والله ما أحد أحق بهذا من أحد وإن العباد فيه لمشتركون، ثم انخلعت من الدنيا، وألقت علائقها خلف ظهرها، وجعلت تتعبد.([24])
3- قصة عابدة من البصرة:
قال مخرمة بن عثمان: نبئت أن فتى من العباد هوى جارية من أهل البصرة فبعث إليها يخطبها، فامتنعت، وقالت: إن أردت غير ذلك فعلت.
فأرسل إليها: سبحان الله! أدعوك إلى ما لا إثم فيه وتدعينني إلى ما لا يصلح؟
فقالت: قد أخبرتك بالذي عندي فإن شئت فتقدم، وإن شئت فتأخر، فأنشأ يقول:
وأسألها الحلال وتدع قلبي | إلى ما لا أريد من الحرام | |
كداعي آل فرعون إليه | وهم يدعونه نحو الآثام | |
فظل منعما في الخلد يسعى | وظلوا في الحميم وفي السقام |
فلما علمت أنه امتنع من الفاحشة أرسلت إليه، أنا بين يديك على الذي تحب.
فأرسل إليها: لا حاجة لنا فيمن دعوناه إلى الطاعة ودعانا إلى المعصية ثم أنشد:
لا خير فيمن لا يرقب ربه | ||
عند الهوى ويخافه إيمانا | ||
حجب التقي سبل الهوى فأخر التقي | ||
يخشى إذا وافى المعاد هوانا ([25]) | ||
4- قصة السري بن دينار:
فقد قال محمد بن إسحاق: نزل السري بن دينار في درب بمصر، وكانت فيه امرأة جميلة، فتنت الناس بجمالها، فعلمت به المرأة فقالت: لأفتننه.
فلما خلت من باب الدار تكشفت وأظهرت نفسها، فقال: مالك؟ فقالت: هل لك في فراش وطي وعيش رضي؟ فأقبل عليها وهو يقول:
وكم من معاصي نال منهن لذة | ||
ومات فخلاها وذاق الدواهيا | ||
تصرم لذات المعاصي وتنقضي | ||
وتبقى تباعات المعاصي كما هيا | ||
فيا سوءنا والله راء وسامع | ||
لعبد بعين الله يغشى المعاصيا ([26]) | ||
أخي الكريم:
هذه المواقف البطولية، والنسمات الإيمانية هي نتيجة إخلاص ساكن في قلوب أولئك الأخيار، فإنهم لما حفظوا الله جل وعلا بالطاعة والعبادة، وسلكوا سبيل الطهارة الحسية، حفظهم الله من مضلات الفتن وطهرهم في ظواهرهم، وثبت منطقهم في أحرج اللحظات وأشدها ظلمة وفتنة، حتى صارت مواقفهم تلك قصصا مليئة بالدروس والعبر.
* * *
قتيل العفة
وأحيانا يغلب العفيف على أمره، فتصرعه الشهوة، وتصيب من نفسه، حتى يكون قاب قوسين أو أدنى من الوقوع في الفاحشة ،ولكن سرعان ما يحفظه الله جل وعلا لحكمة يريدها، فيذكر العفيف عفافه، وينتابه الخوف من الله، فيرجع مستغفرا، وربما أودى به عمله على الموت خوفا ورهبة.
فلقد روي أن في بني إسرائيل كانت امرأة بغي، وكانت مفتنة للناس بجمالها، وكان باب دارها أبدا مفتوحا، فكل من مر ببابها رآها قاعدة في دارها على السرير بحذاء الباب، فكل من نظر إليها فافتتن بها، فإذا أراد الدخول، احتاج إلى إحضار عشرة دنانير، أو أقل ، أو أكثر حتى تأذن له بالدخول إليها.
فمر ببابها ذات يوم عابد من العباد، فوقع بصره في الدار، وهي قاعدة على السرير فافتتن بها، فجعل يجاهد نفسه، ويدعو الله تعالى ليزيل ذلك من قلبه، فلم يزل ذلك عنه وكان يكابد بنفسه المكابدة الشديدة، حتى باع قماشا كان له، وجمع من الدنانير ما يحتاج إليه فجاء إلى بابها، وأمرت أن يسلم ذلك إلى وكيل لها، وواعدته وقتا لمجيئه، فجاء إليها في ذلك الوقت، وقد تزينت، وجلست في بيتها على سريرها، فدخل عليها العابد، وجلس معها على السرير، فلما مد يده إليها، وانبسط إليها تداركه الله برحمته، وبركة عبادته المتقدمة فوقع في قلبه أن الله تعالى يراني في هذه الحالة، فوق عرشه، وأنا في الحرام، وقد أحبط عملي كله، ...([27]).
فوقعت الهيبة في قلبه، وارتعدت فرائصه، وتغير لونه، فنظرت المرأة إليه، فرأته متغير اللون فقال: أي شيء أصابك؟
قال: إني أخاف ربي، فأذني لي بالخروج.
فقالت له: ويحك إن كثيرا من الناس يتمنون الذي وجدته، فأي شيء هذا الذي أنت فيه.
فقال لها: إني أخاف الله . وإن المال الذي دفعته إليك هو حلال لك، فأذني لي بالخروج.
فقالت له: كأنك لم تعمل هذا العمل قط؟
قال: لا.
فقالت: من أين أنت؟ وما اسمك؟
فأخبرها أنه من قرية كذا، واسمه كذا.
فقالت: اخرج، فخرج من عندها، وهو يدعو بالويل والثبور، ويبكي على نفسه، ويحثو التراب على رأسه، فوقعت الهيبة في قلب المرأة.
فقالت في نفسها: إن هذا الرجل أول ذنب أذنبه وقد دخل عليه من الخوف ما دخل، وإني قد أذنبت منذ كذا وكذا سنة، وإن ربه الذي يخاف منه هو ربي، فخوفي منه ينبغي أن يكون أشد.
فتابت إلى الله، وأغلقت بابها عن الناس، وأقبلت على العبادة، وكانت في عبادتها ما شاء الله، فقالت في نفسها: لو أني انتهيت إلى ذلك الرجل، فلعله يتزوجني فأكون عنده، فأتعلم منه أمر ديني، ويكون عونا على عبادة الله تعالى، فتجهزت وحملت معها من الأموال والخدم ما شاء الله، فانتهت إلى تلك القرية، وسألت عنه، فأخبر العابد أن امرأة تسأل عنه، فخرج إليها، فلما رأته المرأة كشفت عن وجهها ليعرفها، فلما رآها عرف وجهها، وتذكر الأمر الذي كان بينه وبينها، فصاح صحية، وخرجت روحه رحمه الله تعالى.([28])
لقد بلغ الإيمان بهذا الرجل الصالح، أن صرعه خوفه من الله، واشتد عليه أن يتذكر ذنبا كان قد قضاه، فمات عفيفا طاهرا، فطوبى له قتلته عفته!
* * *
عفة عبيد بن عمير تصنع الراهبات
وهناك من أهل العفاف من صير الفاتنات عابدات، واستطاع بوعظه ومخافته من الله أن يؤثر فيمن أردن الإيقاع به في أحضان الرذيلة فعدن تائبات راهبات بعد أن كن في الفحشاء راغبات.
فلقد ذكر أبو الفرج وغيره أن امرأة جميلة كانت بمكة وكان لها زوج، فنظرت يوما إلى وجهها في المرآة فقالت لزوجها: أترى أحد يرى ها لوجه ولا يفتتن به؟!
قال: نعم، قالت: من؟ قال: عبيد بن عمير، قالت: فأذن لي في فلأفتننه.
قال: قد أذنت لك ([29])، قال: فأتته كالمستفتية، فخلا معها في ناحية من المسجد الحرام، فأسفرت عن وجهها مثل فلقة القمر، فقال لها: يا أمة الله استتري، فقالت: إني قد فتنت بك.
قال: إني سائلك عن شيء فإن أنت صدقتني نظرة في أمرك.
قالت: لا تسأليني عن شيء إلا صدقتك.
قال: أخبريني لو أن ملك الموت أتاك ليقبض روحك. كان يسرك أن أقضي لك هذه الحاجة؟!
قالت: اللهم لا.
قال: صدقت.
قال: فلو دخلت قبرك وأجلست للمسالة أكان يسرك أني قضيتها لك؟
قال: اللهم لا.
قال: صدقت.
قال: فلو أن الناس أعطوا كتبهم ولا تدرين أتأخذين كتابك بيمينك أم بشمالك، أكان يسرك أني قضيتها لك؟!
قالت: اللهم لا.
قال: صدقت.
قال: فلو أردت الممر على الصراط ولا تدرين هل تنجين أو لا تنجين، أكان يسرك أني قضيتها لك؟! قالت: اللهم لا.
قال: صدقت.
قال: فلو جيء بالميزان وجيء بك فلا تدرين أيخف ميزانك أم يقل أكان يسرك أني قضيتها لك؟!
قالت: اللهم لا.
قال: صدقت.
قال: فلو وقفت بين يدي الله للمسألة أكان يسرك أني قضيتها لك؟!
قالت: اللهم لا.
قال: صدقت.
قال: اتقي الله فقد أنعم الله عليك وأحسن إليك.
قال: فرجعت على زوجها، فقال: ما صنعت؟ قال: أنت بطال ونحن بطالون!
فأقبلت على الصلاة والصوم والعبادة، فكان زوجها يقول: مال لي ولعبيد بن عمير أفسد علي امرأتي، كانت في كل ليلة عروسا فصيرها راهبة.([30])
ومثل هذا التأثير في الحقيقة لا يصدر إلا ممن وهبه الله قوة الإيمان، وصدق اللهجة في اللسان، والحكمة في عرض الآيات بالبيان، فيكون وعظه على السامع بليغا مؤثرا، كما جرى لهذا الرجل الصلاح. وبالله التوفيق.
* * *
ذكر بالله.. فعف..
فتنة النساء من أعظم الفتن وأشدها على النفس، فمشقة دفعها ثقيلة مستعصية لا يقوى عليها إلا من ثبته وأيده من عباده المؤمنين.
ولأن الأجر على قدر المشقة فإن ثواب أهل العفاف عند الله عظيم، وأجرهم وافر كريم،فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كان فيمن كان قبلكم رجل اسمه الكفل، وكان لا ينزع عن شيء، وفي رواية: كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله، فأتى امرأة علم بها حاجة، فأعطاها عطاء كثيرا – وفي رواية: ستين دينارا – فلما أرادها على نفسها ارتعدت، وبكت، فقال:ما يبكيك؟ قالت: لأن هذا عمل ما عملته قط، وما حملني عليه إلا الحاجة، فقال: تفعلين أنت هذا من مخافة الله؟ فأنا أحرى، اذهبي فلك ما أعطيتك ووالله لا أعصيه أبدا، فمات من ليلته فأصبح مكتوب على بابه: إن الله تعالى قد غفر للكفل، فعجب الناس من ذلك، حتى أوحى الله تعالى إلى نبي زمانهم بشأنه»([31]).
فتأمل أخي الكريم في عاقبة الكفل كيف ختم الله له بمزيتين عظيمتين وهما:
1- مغفرة ذنبه كله وقد كان جريئا على محارم الله.
2- إكرامه بذكرى الدار حيث كتب على بابه بعد موته ما يخلد ذكراه عند الناس بالخير.
ولم يكرمه الله بتلك الكرامات إلا لعفته وحياءه من الله، وعزمه على التوبة والإقلاع عن جميع الذنوب!
لله رجال قد صبروا | وبسعدهم سبق القدر | |
قاموا لله بأمر الله | ولولا الله لما قدروا | |
كسروا بالذل نفوسهم | جبروا والله وما كسروا | |
ناحوا أسفا صاحوا لهفا | باحوا وبحبهم اشتهروا | |
رفعوا قصصا وشكوا غصصا | ورسول القوم بها السحر |
وعن عبد الله بن أحمد بن داسه، المقري البصري، قال: سمعت أن بعض الجند اغتصب امرأة، من الطريق، فعرض له الجيران يمنعونه منها، فقاتلهم هو وغلمانه حتى تفرقوا، وأدخل المرأة إلى داره، وغلق الأبواب، ثم راودها عن نفسها، فامتنعت، فأكرهها ولحقها منه شدة، حتى جلس منها مجلس الرجل من المرأة.
فقالت له:يا هذا، اصبر حتى تغلق الباب الذي بقي عليك أن تغلقه.
قال: أي باب هو؟
قالت: الباب الذي بينك وبين الله.
فقام عنها وقال: اخرجي قد فرج الله عنك
فخرجت ولم يتعرض لها.
* * *
رائحة المسك تنبعث من عفيف
وقد يتعرض المسلم العفيف في طريق العفة لألوان من البلاء والامتحان، وقد تتطلب منه العفة خدش كرامته، أو ذهاب مهنته، أو ضياع حريته كم وقع ليوسف عليه السلام، وكل ذلك يبتلي الله به العفيف ليختبر إيمانه وصدقه، ويقينه وعفته فإن هو صدق مع الله وعف وصبر على ما يلاقيه من بهتان وامتحان.. عوض الله له خيرا وأحسن له العاقبة، ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [القصص: 83].
وإليك أخي الكريم قصة تنبئ عن عاقبة المتعففين:
قيل لأبي بكر المسكي: إنا نشم منك رائحة المسك مع الدوام فما سببها؟
فقال: ولله لي سنين عديدة لم أستعمل المسك، ولكن سبب ذلك أن امرأة احتالت علي حتى أدخلتني دارها وأغلقت دوني الأبواب، وراودتني عن نفسي فتحيرت في أمري فضاقت بي الحيل، فقلت لها: إن لي حاجة على الطهارة، فأمرت جارية لها أن تمضي بي إلى بيت الراحة، ففعلت، فلما دخلت بيت الراحة، أخذت العذرة وألقيتها على جميع جسمي ثم رجعت إليها وأنا على تلك الحلة، فما رأتني دهشت، ثم أمرت بإخراجي، فمضيت واغتسلت، فلما كانت تلك الليلة رأيت في المنام قائلا يقول لي: فعلت ما لم يفعله أحد غيرك، لأطيبن ريحك في الدنيا والآخرة، فأصبحت والمسك يفوح مني، واستمر ذلك إلى الآن!!([32])
وصدق الله جل وعلا: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾ [الرحمن: 60].
فلقد جعل هذا الرجل الصالح من تلطيخ نفسه بقاذورات جسمه مخرجا من فتنة مراودة ذلك البغي، فجزاه الله جل وعلا بأن جعل ريحه مسكا بين الناس، والله تعالى أعلم.
أيها الإنسان صبرا | إن بعد العسر يسرا | |
اشرب الصبر وإن كا | ن من الصبر مرا |
* * *
الجزاء من جنس العمل
اقتضت حكمة الله جل وعلا أن يوجد من بين خلقه من ينال جزاءه في الدنيا من جنس أعماله ومخالفاته وذنوبه.
ومن بين الذنوب التي يكون فيها الجزاء من جنس العمل غالبا: هتك الأعراض.
ولقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكيما في تقرير هذا المبدأ، حينما أتاه شاب قد غلبته نفسه وضاقت عليه عفته، فاستأذنه في الزنا، فما كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن أجاب عليه بقوله: «يا فتى افترضاه لأمك؟» قال: لا يا رسول الله، جعلني الله فداك. ثم قال: «افترضاه لأختك؟ افترضاه لعمتك؟ افترضاه لخالتك؟» وفي كل مرة يقول الشاب: لا يا رسول الله، ثم قال الشاب: ادع لي يا رسول الله، فوضع يده - صلى الله عليه وسلم - على قلب الشاب وقال: «اللهم حصن فرجه، وطهر قلبه واغفر ذنبه» [رواه أحمد].
وينذر أن ينجو الزاني من أداء دين الزنا، فإن وقائع الأزمان شاهدة على أن الزناة يتجرعون مرارة هتك أعراضهم سواء بناتهم أو أخواتهم أو غيرهن من الأقارب، وإليك قصة حديثة شاهدة على ذلك:
(ففي أيامنا هذه، قبض أحد رجال الحسبة على شاب مع فتاة قد غرر بها وهددها، حتى خرجت معه، وفعل بها الفاحشة،
وتم الإجراء المناسب بحقهم، وبعد مدة تزيد عن ستة أشهر قبض على شاب مع فتاة وتم استدعاء ولي أمرها، فإذا ولي أمرها هو الشاب الذي قبض عليه قبل ستة أشهر!)([33]).
وصدق والله الشاعر حين قال:
عفوا تعف نساؤكم في المحرم | ||
وتجنبوا ما لا يليق بمسلم | ||
يا هاتكا سبل الرجال وقاطعا | ||
سبل المودة عشت غير مكرم | ||
لو كنت حرا من سلالة ماجد | ||
ما كنت هتاكا لحرمة مسلم | ||
من يزن يزن به ولو بجداره | ||
إن كنت يا هذا لبيبا فافهم | ||
من يزن في بيت بألفي درهم | ||
في بيته يزني بغير الدرهم | ||
إن الزنا دين إذا استقرضته | ||
كان الوفا من أهل بيتك فاعلم | ||
وكما أن الهاتك لأعراض الناس بالمنكر والفاحشة يكون سببا في تنغيص حياتهم، وتروع قلبهم، وتشتيت مجتمعهم، فإنه كذلك يجازي من جنس فعله، فيعيش بعد قضاء وطره، في غم وهم ونكد.
يقول أحد التائبين بعدما اقترف ألوان الفحشاء والمنكر:
أنا وسيم جدا كنت أطارد النساء أينما حللن وكانت لي مغامرات لا يعلم بها إلا الله، .. هذه المغامرات التي فتحت لي اليوم أبواب المشاكل وعصفت بنفسيتي وجعلتني أستعيد كل لحظة عشتها مع إحداهن فحياتي الزوجية مهددة بسبب تلك العلاقات وعندما قلت سابقا: إنني أستعيد كل لحظة مع أحداهن، فإنني أقولها حقيقة، وأقولها بمرارة كبيرة لأنني أتصور أن زوجتي الآن تمارس نفس الدور، وأن حركة يدها في السوق مثلا تعني شيئا لواحد ينتظرها أو أن لفتتها، حتى لو كانت عفوية في السيارة تعني شيئا بل أكثر ما يطحن في نفسي هو أنها إذا أمسكت بسماعة الهاتف وتحدثت لإحدى أخواتها أو صديقاتها، إلخ، أظل ساكنا متابعا لكل كلمة تنطقها، وكثيرا ما جلست أحلل كلماتها ومعانيها، إذ إنها ربما تعلم مثل صاحباتي السابقات اللائي كن يتحدثن معي على أنني إحدى زميلاتهن، أو صديقاتهن، ودوما يكون حديثهن مؤنثا.. مثلا(ما تدرين يا فلانة) كل هذا وغيره كثير مما أواجهه مع نفسي.. ولا أدري ماذا أصنع حيال هذا وغيره كثير مما أواجهه مع نفسي... ولا أدري ماذا أصنع حيال هذا الموقف العجيب الذي أعيشه، إن بي رغبة في أن أريح نفسي من هذا العناء إلى درجة أنني فكرت في تطليق زوجتي وهو الحل الأسلم الذي أراه أمامي، وفكرت بعد طلاقها أن لا أتزوج بعدها.. ([34]) والجزاء من جنس العمل.
* * *
([1]) عودة الحجاب لمحمد أحمد إسماعيل المقدم (3/26).
([2]) رواه ابن حبان في صحيحه والبيهقي في شعب الإيمان.
([3]) الفوائد لابن القيم (ص 204).
([4]) رواه البخاري ومسلم.
([5]) رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.
([6]) روض المحبين ونزهة المشتاقين لابن القيم (ص 352-363).
([7]) طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن القيم (ص 284).
([8]) هذا هو الغالب كما هو حال المرضى بهذه الأدواء، وإلا فإن لكل داء دواء كما جاء في الحديث الصحيح.
([9]) انظر: الأمراض الجنسية د/ نبيل الطويل (ص 38-77).
([10]) وانظر: المرجع السابق مع كتاب الثقافة الجنسية د/ هاني عرموش (ص 115/124).
([11]) انظر: الأمراض الجنسية عقوبة إلهية، د/ عبد الحميد القضاة (ص 90).
([12]) الجنس وأمراضه، د/عبد الناصر نور الله، (ص 23-29).
([13]) الجواب الكافي لابن القيم (361)، وللفائدة انظر: كتاب الجواب الكافي(ص 390)، وما بعدها, فقد بين فيه مفاسد الزنا وأضراره وأدلته من الكتاب والسنة.
([14]) وهو المعنى في قوله تعالى: }وَهَمَّ بِهَا{ أي يوسف.
([15]) وهو المعنى في قوله تعالى: }وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ{ أي: امرأة العزيز.
([16]) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (10/296-298).
([17]) روضة المحبين (ص 445).
([18]) الرقة والبكاء لابن أبي الدنيا (217-219).
([19]) روض المحبين لابن قيم الجوزية (ص 348).
([20]) رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ورواه النسائي وهو حديث حسن.
([21]) انظر هذا الحبيب يا محب لأبي بكر الجزائري (ص 151-152).
([22]) وهذا لعله من قبيل الوعظ بالتلميح، فهو ربما أرك من خلال حركاتها ما تريد، فجعل يذكرها بمآلها إن هي سلكت سبيل الضلال.
([23]) انظر أبطال ومواقف، لأحمد فرح عقيلان (176-177).
([24]) العفة ومنهج الاستعفاف ليحيى سليمان العقيلي ص 112.
([25]) روضة المحبين ص 231.
([26]) روضة المحبين 339.
([27]) وصدق عليه قول الله جل وعلا: }إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ{ [الأعراف: 201] وهذا من عجائب ثمار التقوى.
([28]) تنبيه الغافلين للفقيه نصر السمرقندي (ص 121-122).
([29]) وإذنه هذا دليل على أنه: ديوث فتان لأنه يرضى الفاحشة في أهله رجاء فتنة الصالحين.
([30]) روضة المحبين (ص 345-346).
([31]) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي، ورواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن.
([32]) الجزاء من جنس العلم، لسيد بن حسن العفاني (2/128).
([33]) الهاربات إلى الأسواق، عبد الملك القاسم (ص 82).
([34]) جريدة البلاد العدد(15287).