×
وشعرت بانهزام نفسي [ الهزيمة النفسية ]: هذه المادة تُبيِّن خطورة الهزيمة النفسية التي حلَّت بأمة الإسلام في الآونة المتأخرة؛ حيث كثُر التشبُّه بالمشركين والكفار، وعلَت الأصوات التي تُنادي بالسير على طريقهم وانتهاج نهجِهم في جميع مناحي حياتنا.

طلب العلم

صالح بن غانم السدلان


المقدمة

إن الحمد لله، نحمده، ونستغفره، ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين النبي الأمي الأمين محمد بن عبد الله القائل: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى»([1]) صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فهذا لقاء طيب مبارك مع فضيلة الشيخ صالح بن غانم السدلان عن طلب العلم وقد تحدث فيه فضيلته عن المواضع أو الموضوعات التالية:

1- المنهج الصحيح لطالب العلم المبتدئ.

2- الأمراض النفسية: الأسباب والعلاج.

3- السهر مصيبة كبيرة.

4- الفتور عن طلب العلم والدعوة.

5- معنى حديث: «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة».

6- موقف المسلم من اختلاف العلماء.

فإلى هذا اللقاء النافع غفر الله لنا ولكم.

المنهج الصحيح لطالب لعلم المبتدئ

السؤال الأول: بدايةً, نرجو إيضاح المنهج الصحيح لطالب العلم المبتدئ وبماذا توجهونه من قراءة الكتب التي يبدأ فيها؟

الجواب الأول: من المعلوم أن العلم له قواعد وله أسس، والعلم كغيره من الأشياء لابد أن تُسلك فيها الطرق الصحيحة لتأسيس العلم وبنائه على قواعد وعلى ضوابط ينبني بعضها على بعض، فمثلاً البناء.. بناء السكن، بناء العمارة، من المعلوم أنها تُبنى على قواعد وعلى أسس ثم بعد ذلك الأعمدة ثم السقف ثم الجدران وهكذا ثم تأتي بعد ذلك بعض الأمور أو الأشياء التي تُكمل هذا البناء من لياسة ودهانات ومن أشياء، وهكذا العلم لابد أن يُبنى ويؤصل الإنسان نفسه تأصيلاً صحيحًا.

ففي العقيدة مثلاً يؤصل نفسه في العقيدة، وفي الفقه يؤصِّل نفسه في الفقه، وفي الحديث... وهكذا كل علم يبني على أسس، وطالب العلم إذا لم يلتزم بهذه الضوابط تصبح المعلومات عنده غير مؤصلة، بمعنى أنه يأتي يبدأ بالفروع ويتعلم الفروع ويستطيع أن يتكلم في الفرع، لكن الأصل يجهله، أصل هذه المسألة وتعقيدها يجهله.

الثاني: المعلومات مثلاً مبني بعضها على بعض، فلنأخذ أي مادة من المواد التي تُدرس في الابتدائي، يؤخذ أصول هذه المعلومات، هذه العلوم، عبارة عن مصطلحات، عبارة عن جُمل مختصرة، هذه تتوسع فيما بعد في المرحلة المتوسطة، ثم تتوسع أكثر في المرحلة الثانوية، ثم تتوسع أكثر في المرحلة الجامعية.

ثم لا يزال في توسع، وهو بحاجة إلى التوسع، فكلما قرأ وتعلم عرف أنه يجهل شيئًا كثيرًا وأن هذا العلم بحر لا ساحل له، لكن عندما يكون طالب العلم مؤصلاً، يستطيع أن ينطلق من هذه الأصول ومن هذه الضوابط ومن هذه الجمل المختصرة ومن هذه القواعد، ينطلق منها إلى علوم أخرى.

إذًا, إذا عُرف هذا فنقول لطالب العلم: إنه لابد من الالتزام بهذا المنهج، وعلى طالب العلم أن يؤصل نفسه ويبنى علمه على أسس، كما أن صاحب البناء عليه أن يؤسس ويبني على أسس وعلى قواعد، وعلى... وعلى... الخ.

وهكذا في كل شيء، في المصنع عند تأسيس المصنع، عند صُنع أي شيء، لابد -أول شيء- من الأسس ثم بعد ذلك الأصباغ التي تأتي والطلاء والمكملات لهذه الأشياء.

والعلم الشرعي هو في الحقيقة أدق من أي شيء، إنه هو الذي إذا كان صاحبه غير مؤصل، يقع في الخطأ، ويقع في الغلط، ويتصور أنه أصبح طالب علم، وليس الأمر كذلك، ويتصور أنه أصبحت لديه معرفة وعلم، لكن تجهله جوانب كثيرة، بينما الإنسان المؤصَّل يستطيع أن ينطلق من هذه الأصول إلى الفروع، فالفروع لا حد لها، الأصول محصورة، فهذه نصيحتي لطالب العلم أن يؤصل نفسه، وأن ينهج المنهج الصحيح لطلب العلم، سواء كان علمًا شرعيًا أو غير شرعي، لابد من التأصيل وبنائه على قواعد وأسس.

الأمراض النفيسة الأسباب والعلاج

السؤال الثاني: كثُرت في هذه الأيام بعض الأمراض النفسية، يشكو الكثير من ضيق النفس والحرج, ما أسباب ذلك وما العلاج الشعري؟

الجواب الثاني: لا شك أننا نعلم أن الإنسان مركب من شيئين: من الجسد ومن الروح، كل واحد يرجع إلى شيئين:

أولاً: الجسد: الذي يمثل العظم والعصب واللحم والدم وغير ذلك.

ثانيًا: الروح: روح الإنسان حياته الروحية.

ولكل من هذين غذاء، فمن المعلوم أن غذاء الجسد هو الطعام والشراب والهواء، هذا غذاء الجسد وما يتبع ذلك من مكملات، لكن مدارها على ثلاثة أشياء: الطعام والشراب والهواء، هذا هو غذاء الجسد.

والروح لها غذاؤها الخاص بها، وهو الوحي، والدين الذي يتمثل بالقرآن والسنة. إن الروح على اختلاف حياة الإنسان من أول ما أهبط الله آدم إلى الأرض، بحاجة إلى غذائها الروحي ألا وهو الوحي والشرع وقد أوحى الله إلى آدم شرعًا يناسبه ثم جاء بعده الرُّسل؛ نوح ومن بعده إلى أن خُتموا بمحمد ﷺ‬. وكل الأنبياء والرسل يبلغون الوحي والشرع لغذاء الأرواح، فالأرواح عندما تفقد غذاءها تُصاب بأمراض روحية من ضيق التنفس، والتوهم والتخيلات، والأمراض النفسية... إلى غير ذلك.

فهذا الغذاء الروحي العظيم الذي هو القرآن والسنة، وذكر الله سبحانه وتعالى، والأوراد الشرعية والأذكار الشرعية، كلها غذاء وطمأنينة وراحة للنفس، فبقدر ما فقد الناس وجهلوا من الغذاء الروحي، حصل لهم من الأمراض النفسية والأوهام والتخيلات والشكوات والوساوس والأمراض العقلية وغير ذلك، وكلما يكون الإنسان مستقيمًا متمسكًا قريبًا من الكتاب والسنة مخلصًا العبادة لله يقرأ من القرآن ما يتيسر ويحفظ من السنة ما يحفظ ويطبق ذلك عمليًا، تتغذى روحه وينشرح صدره ويذهب عنه الهم والغم والحزن.

فبقدر ما يأخذ من هذا الغذاء يكون منشرح النفس مطمئن البال. فهذا جواب مجمل لهذا السؤال، ولكن الجواب التفصيلي الذي يزيد النفس طمأنينة هو أن يُكثر الإنسان من أنواع العبادات، عبادة الذكر، عبادة تلاوة القرآن، عبادة الصلاة، عبادة الإحسان، عبادة صلة الرحم، عبادة حُسن الخُلق، عبادة بر الوالدين، عبادة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عبادة الإحسان إلى الأيتام والمساكين والفقراء والمحوجين، عبادة تعليم العلم وغير ذلك، فكل ما يطرق الإنسان ويأخذ من هذه الأبواب ما يأخذ، تكون مطمئنة نفسه مُنشرٌ صدره، وبقدر ما يُخِل بها يكون لديه ضيق في النفس وربما يكون لديه أمراض نفيسة، وتوهمات، ووساوس، وغير ذلك؛ ذلك أن الإنسان إذا افتقد هذه الأشياء،

.يعني مثلاً أنه غير واصل لرحمه، فهو يُحس بذلك، هذه تضيِّق على القلب وتضيِّق التنفس.

مثلاً غير محسن لجيرانه، يحس أنه غير محسن.

مثلاً إنسان كثير العتاب كثير الجدال، هذا يضيِّق النفس.

مثلاً قليل العفو، لا يعفو، ولا يصفح، يتصيد أخطاء الآخرين، ويجمعها ويثقل نفسه بها، فهذه المشكلات هذه الأمور يدل ما هي بعيدة عنه تكون مشاكل يحملها على كتفيه والحقيقة أن القلب هو الذي يتحمل هذه الأشياء، فبذلك يحصل له من الضيق ومن الحرج ومن الوسوسة ومن الأمراض النفسية ومن التخيلات ومن تكبير الأمور، بقدر ما يُخل وبقدر ما يُخطئ يكون مُخلاً بهذه الأشياء، بينما الإنسان البار لوالديه، الواصل لرحمه المحسن لجيرانه كثير العفو، كثير الصفح، إنسان لا يهتم كثيرًا ولا ينزعج ويعفو ويصفح، فمثلاً لو سمع كلمة تُهينه يعفو، لو جهل عليه إنسان وغلط فإنه يعفو ويصفح، والله جل وعلا يقول: }وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ{([2]) والآيات كثيرة في هذا المجال، فأقول بأن الإنسان يجد الراحة النفسية بقدر ما يتعامل، مع دينه ومع ربه وبقدر ما يتعامل مع نفسه على ضوء القرآن والسنة فلا يضغط على نفسه ولا يؤذي نفسه بأن يُجمع عليها المشكلات ويحملها، فيطرح المشاكل ويطؤها تحت قدميه، وهناك مثل يقوله علماء النفس، يقولون: (اضحك للدنيا تضحك لك، وابك تبك وحدك) فإذا أنت أخذت الأمور بسهولة وبالعفو وبالصفح وبعدم الاهتمام والبعد عن الانزعاج. تجد أنك مرتاح النفس، مرتاح الضمير، بينما إذا كنت تتصيد وتلتقط الكلمات وتُعمقها وتقول: لا، المراد بالكلمة الفلانية كذا، وأراه كذا، ولم يُرد كذا... وقصدني... وأرداني... فتخلق من الحبة قبة فبذلك تكبر في نفسه هذه الأمور وتتنامى في نفسه وتتفاعل ويصبح لديه مشاكل تحتاج إلى حل في نظره فيتكون لديه الوسواس ويكثر عنده الاكتئاب وتتراكم عليه الهموم... الخ.

* * * *


السهر مصيبة كبيرة

السؤال الثالث: السهر – يا فضيلة الشيخ – إلى وقت متأخر من الليل آفة عمت معظم أفراد الناس، وترتب على ذلك -حفظكم الله- التخلف البين عن صلاة الفجر، بالإضافة إلى الإرهاق الذي يلازم بعض الموظفين والطلاب من جراء ذلك السهر، هل من توجيه؟

الجواب الثالث: إن السهر مصيبة عظيمة، أصيب بها العالم عمومًا، ولا شك أن السهر وعدم إعطاء النفس حقها من الراحة هذا ينعكس على النفس في أداء أعمالها ولو أردنا أن نتوسع في هذه النقطة ونقول: ليس الضرر محصورًا بأنه يتخلف عن صلاة الفجر وإنما السهر دائمًا مضر جدًا بالإنسان، مسلمًا كان أو كافرًا ولهذا تجد أن الناس الذين يُعنون بتنظيم حياتهم عندهم تنظيم للوقت، فنصيبهم من النوم لا يتركونه حتى تؤدي الأعمال على ما ينبغي، وهناك دراسة إقتصادية في قضية السهر في الدول النامية، فالدول النامية السهر فيها غريب جدًا، فالمحلات التجارية تفتح إلى آخر ساعة من الليل أو إلى ساعة متأخرة من الليل، بينما كثير من الدول المتطورة لا تجد هذه المحلات مفتوحة في الليل، هذا من أسباب السهر، فعلى سبيل المثال أنا جالس في بيتي فأخرج إلى الشارع أجد المحلات مفتوحة، أجد الشوارع مزدحمة، أجد كل شيء كأني في النهار، فوسائل السهر مهيأة للناس، الإعلام أيضًا ساهم في هذا الأمر فالمسلسلات والبرامج الجذابة مستمرة إلى آخر ساعة من الليل. وهذا له آثاره المحسوسة الملموسة على الإنتاج وإتقان العمل إلى جانب وهو الأهم ضياع الصلاة عند المسلمين أو أدائها في غير وقتها فتجد أن الناس فعلاً في المصانع أو في الأعمال الوظيفية وفي المكاتب الحكومية، معظم الموظفين تجد الواحد منهم عليه علامات الإعياء والتعب والسهر وهو يؤدي العمل؛ لأنه لا ينام من الليل إلا ساعات قليلة، هذا إن كان من المصلين، وإن كان من الذين يتساهلون في الصلاة فيتأخر عنها ويصليها في ليته أو ربما يصليها خارج الوقت. فأقول بأن السهر حقيقةٌ ظاهرةٌ سيئةٌ يجب أن يكون هناك عناية بأمرها من عدة جهات:

أولاً: التحذير من السهر عن طريق التعليم على اختلاف المراحل.

ثانيًا: التوعية الكاملة عن طريق وسائل الإعلام توعية الآباء والأمهات والمربين؛ توعيتهم وتحذيرهم من أضرار السهر.

ثالثًا: ألا تكون هناك برامج تدعو للسهر وتشجع عليه، وبالنسبة للمحلات التجارية ينبغي أن تغلق في ساعة مبكرة من الليل، وهذه المسألة ينبغي أن تلقى عناية ودراسة من الجهات ذات الاختصاص؛ نعم, دراسة اقتصادية ودراسة صحية ودراسة اجتماعية ودراسة نفسية، هذه الأمور كلها مؤثرة على الناس في صحتهم وفي اقتصادهم وفي حياتهم الاجتماعية ومن سلبيات هذه الظاهرة ما نلاحظه من كثرة الطلاق في أيامنا بسبب السهر، فمثلاً شخص يتزوج فتاة ويأتي بها من بيت أبيها ويجعلها بين جدران أربعة، لا يأتيها إلا بعد الساعة الثانية أو الثالثة صباحًا، وربما أنه يجدها نائمة أو يجدها تسهر تنتظره، فهذا الأمر يجعلها تتضايق ولا تحس بالسعادة ولا تحس بالحياة السعيدة مع زوجها وبالتالي يقع ما يقع من مجادلة، ولا تستقبله بنفسه طيبة، بنفس منشرحة وإنما على مضض؛ مجاملةً والصبر ينفد، فتجدها مثلاً لا تحقق له كل طلباته فيتنازعان ثم بعد ذلك يحصل الطلاق.

كذلك أيضًا المظاهر التي تحدثنا عنها في البداية من الأمراض النفسية والوساوس وغير ذلك، السهر له إسهام عظيم فيها، لأن الإنسان إذا ارتاح وأخذ قسطه من النوم اطمأنت نفسه وهدأ باله واستيقظ نشيطًا كما جاء في الحديث «إذا نام أحدكم عقد الشيطان عليه ثلاث عقد، فإذا استيقظ وذكر الله انحلت عقدة، فإذا توضأ انحلت عقدة، وإذا صلى انحلت عقدة، فيصبح طيب النفس منشرح الصدر»([3])، بينما الآخر الذي يستيقظ ولا يذكر الله ولا يتوضأ ولا يُصلي تجده خبيث النفس كسلان متعصبًا غضبان لا يحب أن يكرر أحد معه الكلام إلا بعد ساعتين أو ثلاث وبعد أن يشرب الشاهي وبعد أن يستيقظ ويمشي في الطريق ويقود السيارة ويتكلم، بعدها تنشرح نفسه ويطمئن باله، فهذا من أضرار السهر والتخلف عن صلاة الفجر، ومن أعظم الأسباب التي تجعل الناس يتخلفون عن هذه الفريضة التي تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار، أكثر الأسباب لذلك هو السهر.

فالسهر في الحقيقة ظاهرة سيئة ينبغي أن تُعالج من جميع الأطراف ومن جميع الجهات، من الجهات التعليمية ومن الجهات الحكومية ومن وسائل الإعلام وغير ذلك مما ذكرنا في هذا الكلام.


الفطور عن طلب العلم والدعوة

السؤال الرابع: الفتور عن طلب العلم والدعوة، متى يكون صحيًا ومتى يكون مرضًا؟

الجواب الرابع: الفتور لا يكون صحيًا أبدًا، لكن العمل هو الذي إما أن يكون صحيًا وإما أن يكون غير صحي، فالعمل الذي فيه تكلف وتشدد، يعني أن يحمِّل الإنسان نفسه ما لا يطيق، ويبالغ في مجال الدعوة ويتكلف حتى يضيق على نفسه وعلى عمله وعلى أعماله الدنيوية هذا يؤدي به يومًا إلى الفتور، والذي يعتدل في عمله الدعوي ويأخذ من العمل ما يناسبه، لا يضيق على عمله، ولا يضيق على عبادته فهذا يستمر في الدعوة بإذن الله، ولهذا قال النبي ﷺ‬: في الذي يجتهد في العبادة ويصلي: «ليصلي أحدكم نشاطه، فإذا تعس فليقعد»([4]) فهذا يبين أن الإنسان لا ينبغي أن يتكلف ويحمل نفسه ما لا يستطيع، قال ﷺ‬: «إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا»([5]) فبين ﷺ‬ بهذا أنه ينبغي للإنسان أن يرفق بنفسه، ولهذا نقول: إن الفتور هو خلاف الأصل، والاعتدال هو الأصل المطلوب للإنسان في كل أموره وهذا ينبغي أن يطبق على الدعوة وعلى العبادة وعلى كل شيء، فيجب على الإنسان الاعتدال في كل شيء سواء عبادة أو طلب الدنيا أو طلب الآخرة أو غير ذلك.

فمثلاً كراهية الإنسان لشخص ما اعتبره عدوًا وتكلم فيه بالكلام الذي لا يمكن أن يقبله أحد، وإذا أحب شخصًا بالغ في ذلك مبالغة عظيمة حتى أنه يرفعه فوق منزلته، وهذا كله من عدم الاعتدال والحديث يقول: «أحبب حبيبك هونًا ما عسى أن يكون بغيضك يومًا ما وأبغض بغيضك هونًا ما عسى أن يكون حبيبك يومًا ما» فالاعتدال مطلوب في كل الأمور، سواء في الدعوة أم في العبادة، وفي طلب العلم أيضًا، وفي كل شيء فيجب أن يَسْلُكَ الإنسان طريق الاعتدال في كل الأمور.

* * * *


معنى حديث «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة...» الحديث

السؤال الخامس: يشغل بال كثير من المسلمين حديث: «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها»([6]) هل هو على ظاهره، وما معنى «حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع»؟.

الجواب الخامس: معنى الحديث أن الإنسان قد يعمل بأعمال الصالحين وبطاعة الله سبحانه وتعالى ثم في آخر عمره يعمل بعمل أهل النار فيختم له بهذا العمل ويدركه الأجل وهو على هذا فيدخل النار؛ لأن ختام عمله عمل غير مشروع غير مُرْضٍ لله سبحانه وتعالى.

والآجر الذي يعمل ويرتكب من الأخطاء ومن الجرائم والمعاصي ما يرتكب ثم يوفقه الله جل وعلا للتوبة فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها. وليس الأمر هكذا، وإنما له أسباب، فلماذا يعمل بعمل أهل النار ثم يعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، ويعمل بعمل أهل الجنة ثم يعمل بعمل أهل النار فيدخلها؟ ما سبب ذلك؟ وهل معنى ذلك أن الله سبحانه وتعالى يُخيب المؤمنين الذين يعملون الصالحات؟ فنقول:

نعلم أن الله سبحانه وتعالى كريم وأنه رؤوف رحيم وأن قوله حق ووعده صدق وأنه لا يخيب عبدًا من عباده يعمل الصالحات قال تعالى: }وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا{([7] ولكن هذا الحديث يبين لنا ما جاء في قول الله جل وعلا: }أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ{([8]) إن كل واحد يقول: لا أَوَدُّ هذا، إن صاحب هذه الجنة لم يأخذ بالأسباب ولم يأخذ بالاحتياطات حتى إنه ضيع وقته وضيع نفسه ولم يجعل له مزرعة ولم يجعل لأولاده ما يعيشون فيه فيما بعد، فهذه المزرعة التي أعدها والتي ينتويها لأولاده أصابها في آخر حياته إعصار فيه نار فاحترقت، فهل يود الإنسان الذي يعمل الصالحات أن تحترق أعماله؟! كلُّ واحد لا يود هذا.

إذًا ما معنى: «يعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها أو يعمل بعمل أهل النار فيدخلها»؟ أجاب عنه العلماء بعدة أجوبة أذكر منها هنا جوابين:

الجواب الأول: أنه يعمل بعمل أهل الجنة لكن عنده ذنوب متساهل فيها مقيم عليها، فهو يعمل بعمل أهل الجنة فيعاقب لماذا يقيم على هذه المعصية لله، فيعاقب جزاءً وفاقًا، فيُقبل على المعاصي وعلى الظلم وعلى الأخطاء حتى تكون كل أعماله سيئة.

لأنه لم ينته عما كان عليه، ولعلنا نضرب لذلك مثالاً؛ مثلاً عقوق الوالدين، بعض الناس تجده يصوم ويصلي ويعمل ويعمل، لكن لا يبالي بعقوق والديه، فهذا الذي لا يبالي بعقوق والديه ربما أن صلاته وصيامه تحبط في آخر عمره جزاء ما أصر عليه.

وكذلك صلاة الجماعة مثلا قد لا يُبالي بها ولا يهتم بها ومهما يسمع من المواعظ لا تؤثر فيه ولا ينتفع بها، فيختم له بسوء الخاتمة عياذاً بالله بسبب ذلك.

أما الشخص الآخر الذي يعمل بعمل أهل النار، فتجده مثلاً عنده أخطاء وعنده ذنوب، لكن لديه عمل صالح يتعاهده ويلازمه، نفرض أنه بار بوالديه واصل لرحمه أو عمل عملاً صالحًا في آخر عمره فكان سببًا لمغفرة الله له. كقصة المرأة أو الرجل الذي رأى كلبًا يعض الثرى من العطش، وهذا الرجل نزل في البئر وشرب ثم خرج فوجد هذا الكلب يعض الثرى. فقال: والله لقد كان بهذا الكلب مثل ما كان بي فنزل وملأ موقه ماءً وسقى الكلب، فشكر الله له هذا العمل، ودخل الجنة بسبب ذلك([9]).

والمرأة التي حبست الهرة، لا هي تركتها تسعى وتأكل من خشاش الأرض ولا هي أطعمتها، فماتت الهرة فدخلت المرأة النار بسبب ذلك([10]).

فالإنسان قد يستهين بذنب من الذنوب ولا يبالي به وهو يعلم أنه لا يجوز، وهذا شرط أنه يستهين بالذنب وهو يعلم أنه لا يجوز، فإنه ربما يُعاقب؛ لأنه استهان بهذا الذنب.

الجواب الثاني: وهذا جواب ابن قيم الجوزية، يقول: يعمل بعمل أهل الجنة فيما يظهر للناس، أمام الناس يظهر أنه يعمل بعمل أهل الجنة، وفي الباطن يعمل عكس ذلك.

والآخر الذي يعمل بعمل أهل النار فيما يظهر للناس ولكن يعمل بعمل أهل الجنة فيما لا يُعلم.

فهذا يختم له بكذا وذاك يختم له بكذا والله أعلم.

* * * *


موقف المسلم من اختلاف العلماء

السؤال السادس: ما موقف المسلم من اختلاف العلماء، وما الذي يختاره الإنسان عندما تتباين الأقوال وتختلف؟

الجواب السادس: اختلاف العلماء في فروع المسائل: فروع مسائل الدين؛ هذا لا يضر. هذه أمور عادية بل من طبيعة هذا الدين أن يوجد بعض الاختلاف إما لعموم القواعد أو لإطلاقها أو لإجمالها.

ومن طبيعة البشر اختلافهم في فهمهم ومداركهم أو لوجود أسباب أخرى.

نعم, قد يكون هناك اختلاف في فروع الدين لا في أصوله وهذا أمر معلوم عند أهل الاختصاص فمثلاً:

* الصحابة اختلفوا في بعض المسائل فلم يضرهم ذلك. بل هذا الاختلاف أصَّل فيهم الاتفاق والاجتماع والتعاون والاعتصام والتآلف.

مثال ذلك: أن النبي ﷺ‬ قال: «لا يصلين العصر أحدٌ إلا في بني قريظة»([11]).

فبعضهم فهم أنه لا تصح الصلاة إلا على أرض بني قريظة وآخرون فهموا أن الرسول ﷺ‬ قد حثهم على التعجل والإسراع فصلوا الصلاة في وقتها ولم يعنف النبي ﷺ‬ أحدًا.

قال أهل العلم: «الذين لم يصلوا إلا في بني قريظة هؤلاء أهل الظاهر الذين يأخذون بظواهر النصوص».

فالمقصود إذن أن خلاف أهل العلم ليس بعيب ولكن الناس أمام خلاف أهل العلم على قسمين:

القسم الأول: عامِّيٌّ: يقلد من يتبع من أهل العلم كمن يقلد الإمام أحمد بن حنبل، أو يقلد أبا حنيفة النعمان رحمهما الله تعالى.

القسم الثاني: هم أهل الاجتهاد والنظر، سواء أكان اجتهادًا مطلقًا أم اجتهادًا مقيدًا؛ فهذا القسم لا يقلد أحدًا؛ لأن لديه القدرة والتمكن من الوقوف على الدليل والاطلاع عليه؛ لذا لا ينبغي أن يكون هذا الخلاف مصدرًا للاختلاف وتفرق الكلمة بل يكون معينًا على الاجتماع والائتلاف والتعاون على البر والتقوى؛ ذلك أن مرجع هذا التأصيل كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ‬، وهدي سلف الأمة، وما عدا ذلك من الخلاف الذي يسبب الاختلاف والتباغض والتدابر فليس من دين الإسلام في شيء وإنما هو من تلبيس الشيطان وتلاعبه بهذه الفئة من الناس نسأل الله السلامة والعافية كما نسأله تعالى أن يجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى وأن يجنبهم عوادي الفتنة والهوى وأن يبصرهم في دينهم وأن يوفقهم في أمور دنياهم، وما يصلحهم في معاشهم ومعادهم إنه ولي ذلك والقادر عليه وهو نعم المولى ونعم النصير.



([1]) البخاري (1)، مسلم (1907).

([2]) سورة الشورى الآية: (43).

([3]) البخاري (1142) (3269)، ومسلم (776).

([4]) البخاري (1150)، ومسلم (784).

([5]) البخاري (39).

([6]) البخاري (3332)، ومسلم (2643).

([7]) سورة طه، الآية: (112).

([8]) سورة البقرة، الآية: (266).

([9]) البخاري (174) (2363) (2466)، ومسلم (2244).

([10]) البخاري (2365) (3318) (3482)، ومسلم (2242).

([11]) البخاري (4119)، ومسلم (1770).