×
الإضاءة في أهمية الكتاب والقراءة: هذا كتابٌ يُلقي الضوء على موضوعٍ من الأهمية بمكانٍ في الوقت الحالي، وهو: القراءة وأهميتها، وفنها ومفهومها، وحال السلف مع الكتاب والقراءة، ومصادرها وأنواعها وفوائدها وعوائقها، وقد اهتمَّ بذِكر أصناف القرَاء، والأخطاء التي تقع للناس في القراءة، والطريقة الأفضل لقراءةٍ أمثل، ثم ذكرَ في الأخير: القراءة في القرن الحادي والعشرين.

 الإضاءة في أهمية الكتاب والقراءة

خالد بن عبد العزيز النصار

قال الله تعالى: }اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ{ [العلق:  ]

وقال رسول الله ﷺ‬: «قيدوا العلم بالكتابة». [رواه الحاكم، وصححه الألباني].

وقال الحافظ بن الجوزي: «إذا وجدتُ كتابًا جديدًا فكأني وقعت على كنز».

وقال أبو الطيب المتنبي:

أعز مكان في الدنى سرج سابح

وخير جليس في الزمان كتاب


 المقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد الهادي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ... أما بعد:

فإن الله جل وعلا يقول في محكم التنزيل: }وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ{ الآية، وإن من أعظم مصادر القوة: العلم والمعرفة، وأوسع مصادر العلم والمعرفة: القراءة، ولقد أدرك أبناء أمتنا الأوائل هذا الأمر، فكان نتاج ذلك: تاريخ حافل بالإنجازات الكبرى في شتى المجالات الدينية والعلمية والعسكرية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية وغيرها، حتى غدت بلاد الإسلام منارة للعلم والمعرفة، ينهل من معينها كل صادر ووارد من أمم الأرض الأخرى، والمتابع لتاريخ ازدهار الحضارة في الإسلام يلحظ بجلاء أنه كان في تواتره مقترنًا بالقراءة وحب العلم والشغف به.

ولو نظرنا إلى واقع الأمم الصاعدة والمتقدمة نجد أنها اعتمدت التعليم أساسًا لتقدمها الحضاري، فحرصت على إشاعة العلم وتيسير أسبابه، وجعلت مفتاح ذلك: التشجيع على القراءة، والتحريض عليها، وترويجها بين فئات المجتمع المختلفة، وانظر إلى ما حدث في واشنطن عاصمة الولايات المتحدة الأمريكية في آخر صيف عام 1951م حيث اجتمع نفر من الكتاب والناشرين، وأمناء المكتبات، ورؤساء أقسام الثقافة والإرشاد، وكان الذي يعنيهم ويسيطر على تفكيرهم أن يجيبوا على هذا السؤال: «لقد أصبحت (القراءة) في العصر الحديث أمرًا حيويًا، لا يستطيع مجتمع أن يحيا بدونه ... أصبحت اليوم حاجة وليست ترفًا، فما الذي يمكن أن نفعله لنشجع الناس على القراءة، ونرغبهم في الاستزادة منها؟»، ولقد نالوا جل ما أرادوا، والواقع يشهد بذلك.

وأما الشعوب التي تُنعت بالتخلف، وتوصف بالنامية، ومن ضمنها عالمنا الإسلامي – وللأسف الشديد – فإنها تشترك في أنها لا تملك بنية معرفية صحيحة، وما ذاك إلا نتيجة طبيعية لانحسار ممارسة القراءة والعناية بها، حيث استبد بأوقات ناشئة المسلمين وشبابهم، وشغل أفكارهم، واستمال قلوبهم- سيل جرار من وسائل الترفيه، من غناء وتمثيل، وممارسة اللعب بأنواعه، واستحوذت الشاشات الفضية والملونة  للتلفاز والفضائيات، وألعاب الكمبيوتر، والمحادثات الهابطة بالإنترنت- على حصة القراءة، حتى صار الداعون إليها والمشتغلون بها غرباء في مجتمعهم.

لقد كان للقراءة أهميتها التي لا تنازع عند المسلمين الأوائل، وكيف لا يكون ذلك كذلك وأول كلمة في الخطاب الإلهي الأخير الموجه للبشرية هي كلمة (اقرأ)، التي بدأت بها رسالة خاتم النبيين والمرسلين ﷺ‬؟ إنها أول ما أُمر به المصطفى ﷺ‬، ولعظيم أهميتها فقد ربط بها التعلم والقلم ولذة الاكتشاف، يقول الحق تبارك وتعالى: }اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ{، يقول ابن كثير في تفسيره لهذه الآيات:

(وهن أول رحمة رحم الله بها العباد، وأول نعمة أنعم الله بها عليهم، وفيها التنبيه على ابتداء الخلق من علقة، وأن من كرمه تعالى: أن علم الإنسان ما لم يعلم، فشرَّفه وكرَّمه بالعلم، وهو القدر الذي امتاز به أبو البرية آدم على الملائكة، والعلم تارة يكون في الأذهان، وتارة يكون في اللسان، وتارة يكون في الكتابة بالبنان، ذهني ولفظي ورسمي، والرسمي يستلزمهما، من غير العكس).

 ويقول ابن سعدي في «تيسير الكريم الرحمن»: }الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ{ فإنه تعالى أخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئًا، وجعل له السمع والبصر والفؤاد، ويسر له أسباب العلم، فعلمه القرآن، وعلمه الحكمة، وعلمه القلم الذي به تحفظ العلوم، وتضبط به الحقوق، وتكون رسلاً للناس، وتنوب مناب خطابهم، فلله الحمد والمنة، الذي أنعم على عباده بهذه النعم التي لا يقدرون لها على جزاء ولا شكور.

}اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ{ حث من القرآن العظيم لأتباعه على القراءة، إنه تحريك لوعي الإنسان قبل أربعة عشر قرنًا، وفتح لعقله على مكانه في الكون والحياة، وتعريف له بمعنى وجوده والهدف من ذلك.

}اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ{ أمر حكيم من رب حكيم لخليفته في الأرض بالقراءة، وعليه فليس من اللائق بخليفة الله في الأرض أن يكون أميًا، بل يجب عليه تعلم القراءة؛ حتى يتخلص من جهله وأُميته.

}اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ{ تشريف للقراءة، وأي تشريف؟ وهي تستحق ذلك بالفعل، فهي – كما يقول طه حسين -: «زاد الشعوب، يقبل عليها، ويشبع بها جوعه إلى العلم والمعرفة وألوان الحضارة»، إنها أهم وسائل نقل وكسب المعرفة، إنها الطريق الطبيعية الميسرة لرقي العقل والطبع والخُلُق والذوق، وبعد هذا كله: ألا تستحق القراءة منا كل عناية واهتمام؟ بلى والله.

وإنه – والله – لمن المؤسف حقًا، والمحزن صدقًا: أن تعاني أمة – كانت أول كلمة نزلت في كتابها ودستورها (اقرأ) – من مشكلة انحسار القراءة بين أبنائها، وأن تحتاج إلى من يحثها على القراءة، ويكشف لها عن أهمية القراءة في استعادة ذاتها وكيانها، ولكنه الواقع، ويجب علينا مواجهته، وألا نكتفي بالتغني بأمجاد الماضي فقط، بل علينا أن نعمل دأبًا؛ لتستعيد أمتنا الريادة، وذلك بالعودة إلى النبع الأصيل الذي استقى منه أولئك الرواد، أعني بذلك قراءة القرآن الكريم والسنة الصحيحة والعمل بمقتضاها، ثم الأخذ بأسباب القوة والتقدُّم، بمداومة القراءة والاطلاع، والعناية بذلك.

هذا وإن من العناية بالقراءة: العناية بمصادرها، والتي من أهمها: الكتاب فوجب على كل من يتعامل مع الكتاب: المحافظة عليه، ليس بإبعاده عما يُعرضه للتلف فحسب، بل بقراءته واستيعاب ما يحويه من علوم وأفكار نافعة، فالكتاب – كما يقول العقاد: (طعام الفكر)، وما ذاك إلا لأنه يحوي تجارب آلاف السنين في مختلف الأمم والعصور، إنّه أوفى صديق، وخير جليس، وقد صدق المتنبي في ذلك حين قال:

أعز مكان في الدنى سرج سابح

وخير جليس في الزمان كتاب

عن بيان أهمية الكتاب والقراءة حررت هذه الورقات، والتي يجد القارئ في ثناياها بيانًا لمنزلة الكتاب، وعناية السلف الصالح به وبالقراءة، كما يجد فيها بعض الفوائد والقواعد في موضوع القراءة ومطالعة الكتاب، والعناية بهما، وبيانًا عن أحوال الناس مع القراءة، وخطوات القراءة الصحيحة، ومباحث أخرى نافعة ([1]).

وختامًا فإني أزجي شكري الخالص للأخ الفاضل الأستاذ: عبد العزيز العقيل، من وحدة الخدمات المرجعية في مكتبة الملك فهد الوطنية، على ما بذله من جهد مشكور في تزويدي بغالب مراجع هذه الرسالة.

والله أسأل أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن يجعلنا من المنتفعين به، العاملين بما فيه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

خالد بن عبد العزيز النصار([2])

الرياض

في 17/4/1421هـ

 الفصل الأول: الكتاب

وفيه المباحث التالية:

المبحث الأول: وصف الكتاب.

المبحث الثاني: عناية السلف بالكتاب.

المبحث الثالث: آداب الكتاب.

المبحث الرابع: أنواع الكتاب.

المبحث الخامس: اقتناء الكتب وتأسيس المكتبة.

المبحث السادس: أخطار يتعرض لها الكتاب.


مع الكتاب

 لقد تنوعت في عصرنا الحديث مصادر المعرفة، فمنها المصادر المسموعة والمرئية والمقروءة، وبالرغم من هذا التنوع في المصادر، إلا أن المصادر المقروءة تظل في الطليعة، ويتصدرها الكتاب، فهو يتميز بالشمولية للموضوع، والاستقصاء لجميع أجزائه، وما حوله من آراء وملاحظات، وعلى قدر هذا الشمول والإحاطة والدقة وحسن العرض، يكون حظ الكتاب من الجودة، ويكفي للكتاب مفخرة وفضلاً أنه قيد العلم، كما قال النبي ﷺ‬: «قيدوا العلم بالكتابة» أخرجه الحاكم وصححه الألباني.


 المبحث الأول: وصف الكتاب

لقد تفنن الأدباء والكتاب والشعراء في وصف الكتاب، وأبدعوا في ذلك، فها هو أبو عمرو الجاحظ يصف لنا الكتاب فيقول: (الكتاب وعاء مُلئ علمًا، وظرفٌ حَسُنَ ظُرفًا، وروضة تقلب في حِجْر، ينطق عن الموتى، ويترجم كلام الأحياء، ولا أعلم جارًا أبر، ولا رفيقًا أطوع، ولا معلمًا أخضع، ولا صاحبًا أظهر كفاية وأقل إملالاً وإبرامًا ... ولا أقل غيبةً ... ولا أبعد من مراء، ولا أزهد في جدال، ولا شجرة أطول عمرًا، ولا أجمع أمرًا، ولا أطيب ثمرة، ولا أقرب مجتني، ولا أسرع إدراكًا في كل أوان- من كتاب، ولا أعلم نتاجًا في حداثة سنه، وقرب ميلاده، ورخص ثمنه، وإمكان وجوده، يجمع من التدابير الحسنة، والعلوم الغريبة، ومن آثار العقول الصحيحة، ومحمود الأخبار اللطيفة، ومن الحكم الرقيقة، ومن المذاهب القديمة، والتجارب الحكيمة، والأخبار عن القرون الماضية، والأمثال السائرة، والأمم البائدة- ما يجمع الكتاب).

وقيل لبعض العلماء: ما بلغ من سرورك بكتبك؟ فقال: (هي إن خلوت لذاتي، وإن اهتممت سلوتي، وإن قلت: إن زهر البستان، ونور الجنان، يجلوان الأبصار، ويمتعان بحسنهما الألحاظ، فإن بستان الكتب يجلو العقل، ويشحذ الذهن، ويحيي القلب، ويقوي القريحة، ويمتع في الخلوة، ويؤنس الوحشة، ويفيد ولا يستفيد، ويعطي ولا يأخذ، وتصل لذته إلى القلب من غير سآمة تدركك، ولا شُقة تعرض لك).

وقال أبو الطيب المتنبي:

أعز مكان في الدنى سرج سابح

وخير جليس في الزمان كتاب

وقال:

خير المحادث والجليس كتاب

تخلو به إن مَلَّكَ الأصحاب

لا مفشيًا سرًا إذا استودعته

وتنال منه حكمة وصواب

وقال الجرجاني:

ما تطعمت لذة العيش حتى

صرت في وحدتي للكتاب جليسًا

ليس عندي شيء أجل من

العلم فلا ابتغي سواه أنيسًا

وقال إبراهيم اليازجي:

وأفضل ما اشتغلت به كتاب

جليل نفعه حلو المذاق

وقال أحمد شوقي:

أنا من بدَّل بالكتب الصحابا

لم أجد لي وافيًا إلا الكتابا

وقيل لبعض الأدباء في عهد المأمون: سنعطيك ثمن هذا الكتاب ما يساوي وزنه ذهبًا، فقال:

هذا كتاب لو يباع بوزنه

ذهبًا لكان البائع المغبونا

أما من الخسران أنك آخذ

ذهبًا وتترك جوهرًا مكنونًا

ولم يكن الفكر الغربي بأقل من الشرقي اهتمامًا وتمجيدًا للكتاب، فها هو شيشرون (الخطيب الروماني) يصف الكتب – كضرورة من ضرورات الحياة – فيقول: (بيت من غير كتب كجسم من غير روح).

ويقول الفيلسوف الإنجليزي (باكون): (الكتب: أنس في الوحدة، ولذة في الخلوة، وزينة في المحفل، وشحذ للقريحة، تترك الرجل عليمًا بتصرف الأمور، وسياسة الشؤون، وإذا أردت صاحب مشورة وفكر وتدبير، فاطلبه في الكتب».


 المبحث الثاني: عناية السلف بالكتاب

كان السلف الصالح يتفانون في حب الكتب ومجالستها؛ لما فيها من العلم والفائدة، وقد وضعوا في كتب آداب طالب العلم فصولاً وأبوابًا في أدب طالب العلم مع كتابه، وكيفية النسخ، والحث على الجيد من الورق، وصفة القلم الذي يكتب به، والحبر ولونه، في هذا يقول ابن حجر العسقلاني: «وقد قيدت بالحمرة أولاً، ثم بالصفرة، ثم بصورة ما يخالطهما، وكل ذلك قبل كتابة فصل المبهم من الرجال والنساء»، وجعل الخطيب البغدادي رحمه الله في كتاب «تقييد العلم» فصلاً بعنوان: «من استوحش من الخليط والمعاشر فجعل أنسه: النظر في الدفاتر»، وهذا الإمام أبو داود يفصل ملابسه ولا ينسى الكتب، فيفصل كمًا واسعًا وآخر ضيقًا، فقيل له في ذلك، فقال: (الواسع للكتب، والآخر لا يحتاج إليه).

وها هو الإمام الحَبر ابن قيم الجوزية، يذكر من ترجم له: أنه تهيأ له من الكتب ما لم يتهيأ لغيره، كما أورد ذلك الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله.

وهذا أحد العلماء تلومه زوجته على كثرة ما ينفق على الكتب، فقال يحكي حاله معها:

وقائلةٍ أنفقت في الكتب ما حوت

يمينك من مال فقلت دعيني

لعلي أرى فيها كتابًا يدلني

لأخذ كتابي آمنًا بيميني

وكان ابن الجوزي يقول: (إذا وجدت كتابًا جديدًا فكأني وقعت على كنز).

وقالت زوجة الإمام الزهري تشتكي انشغال زوجها عنها بالكتب: (والله إن هذه الكتب أشد علي من ثلاث ضرائر).

وقال ابن المبارك، حين لامه أصحابه على عدم رؤيتهم له، من كثرة مجالسة الكتب والخلوة معها، فقال لهم:(إني إذا كنت في المنزل جالست أصحاب محمد ﷺ‬) يعني: النظر في الكتب.

وكان بعض السلف يستعين بالكتاب على الغربة ووحشتها، فقال مودعًا صديقًا له: (استعن على وحشة الغربة بقراءة الكتب، فإنها ألسنٌ ناطقة، وعيون رامقة).

وهكذا كانت الكتب عند سلفنا الصالح؛ أنيسهم في الوحدة والغربة، وزادهم في السفر، وجليسهم في الخلوات، حتى أخرجوا لنا حضارة يانعة مثمرة، جني ثمارها القاصي والداني، ولا زالت تفيض على العالم من ثمارها، رغم ما اعترى خلفهم من تفريط وكسل وضعف وهوان.


 المبحث الثالث: آداب الكتاب

قد علمنا أن الكتاب هو آلة العلم الرئيسية؛ لذا فإن لهذه الآلة آدابًا ينبغي على المرء مراعاتها والعناية بها، وقد رأيت كيف أدرك السلف الصالح هذا الأمر، فراعوا آداب الكتاب مراعاة تامة، ومن هذه الآداب:

1- تحصيل الكتاب المحتاج إليه ما أمكن، إما شراءً أو استعارة.

2- المحافظة على الكتاب من كل مفسد له، كالماء والنار والفئران وغير ذلك.

3- ينبغي وضع الكتاب في مكان لا تطاله يد الأطفال العابثين.

4- ينبغي صف الكتب في المكتبة بطريقة صحيحة، دون ميل لها، أو وضع الكتب الضخمة على الصغيرة، مما يعرض الثانية للتلف والتمزق.

5- مراعاة الطرق الصحيحة في فتح الكتاب، وتقليب صفحاته، ومناولته بين الأيدي.

6- توقير الكتاب والاهتمام بنظافته.

7- مراعاة آداب الإعارة والاستعارة بالكتاب، والتي منها:

أ- إعارة الكتاب لمن لا ضرر عليه منها، ومنه عليها.

ب- شكر المعير والدعوة له بالخير.

ج- المحافظة على نظافة الكتاب المستعار.

د- عدم إعادة الكتاب المستعار متمزقًا.

هـ- على المستعير التعجيل برد الكتب التي استعارها.

عن يونس بن زيد قال: قال لي الزهري: (يا أبا يونس، إياك وغلول الكتب، قال: قلت: وما غلول الكتب؟ قال: حبسها عن أصحابها).

و- على المستعير أن يتفقد الكتاب قبل أخذه وإعادته؛ حتى يتأكد من سلامته.

ز- عمل دفتر إعارة في المكتبة؛ لتسجيل أسماء الكتب المستعارة، وأسماء المستعيرين، وتاريخ الإعارة.

ويجدر بنا هنا أن نذكر شروطًا مهمة للإعارة، ذكرها الشيخ يوسف القرضاوي، وهي جديرة بالتأمل، وهذه الشروط هي:

1- أن يكون طالب الكتاب في حاجة حقيقية إليه.

2- ألا توجد مكتبات عامة يمكنه استعارة الكتاب منها.

3- ألا يكون المستعير معروفًا بالإهمال وإضاعة الكتب وتعريضها للتلف.

4- ألا يكون صاحب الكتاب في حاجة إليه.


 المبحث الرابع: أنواع الكتب

ذكر الأستاذ الدكتور عبد الكريم بكار في كتابه (القراءة المثمرة) أنواعًا خمسة للكتب، هي:

1- كتب لا تُقرأ دفعة واحدة، مثل أمهات المراجع والموسوعات والمعاجم، والشروح الكبرى لبعض المتون، وإنما يعود إليها طالب العلم عند الحاجة، ولهذا السبب فإنها تحتفظ بقيمتها قرونًا عديدة.

2- كتب لا يتطلب فهمها مهارات قرائية عالية، فهي تقرأ للتسلية أو للحصول على بعض المعلومات، وهي ممتعة ولكنها لا ترفع درجة الفهم لدى القارئ، ولا تعمق إدراكه، وهذه الكتب تقرأ مرة واحدة، ولا يشعر القارئ بأية حاجة إلى العودة إليها.

3- كتب يشعر القارئ بأنه بحاجة إلى قراءة بطيئة لها وتركيز جيد، ولكنه يشعر بعد قراءته لها أنه أخذ كل ما فيها، وقد يعود إليها القارئ فيما بعد من أجل استقصاء نقطة معينة، أو إنعاش الذاكرة ببعض أفكارها.

4- كتب أقل من السابقة، يشعر قارئها أنه لم يستنفد كل ما فيها مهما استخدم من مهارات القراءة، وأنها تستحق عودة ثانية، لكنه إذا عاد إليها لم يجد فيها ما كان يأمل؛ بسبب أن فهمه ارتقى بسبب قراءة هذه الكتب أو غيرها، وهذا النوع من الكتب يحتاج إلى حسن اختبار أولاً، ثم إلى اهتمام بالغ بها من القارئ.

5- كتب نادرة جدًا، لا ينضب محتواها، وكلما عاد إليها القارئ شعر أنها تنمَّيه، فيكتشف فيها أشياء جديدة، وأول هذه الكتب وأفضلها على الإطلاق كتاب الله، القرآن الكريم، فهو الكتاب الذي لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق مع كثرة الترداد، ولا تستنزف عطاءاته، ثم كتب السنة والحديث، وكتب أهل العلم والفضل من التابعين ومن تبعهم بإحسان.

وهذه الكتب هي التي يُطلب من الإنسان أن يقرأها على نحو مستمر؛ حتى يؤهل نفسه للارتقاء إلى مستواها، واستكناه مكنوناتها وذخائرها.


 المبحث الخامس: اقتناء الكتب وتأسيس المكتبة

قال الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد في سفره الماتع «حلية طالب العلم»: (شرف العلم معلوم؛ لعموم نفعه وشدة الحاجة إليه، كحاجة البدن إلى الأنفاس، وظهور النقص بقدر نقصه، وحصول اللذة والسرور بقدر تحصيله، ولهذا اشتد غرام الطلاب بالطلب، والغرام بجمع الكتب، مع الانتفاء، ولهم أخبار في هذا تطول).

وعليه: فإليك – أيها المقتني للكتب – هذه التوجيهات المهمة التي ينبغي عليك الحرص على معرفتها والاستفادة منها، وهي:

1- عليك معرفة الكتب الصالحة، إما بالحصول على قوائم الكتب الجديدة من المكتبة، أو سؤال أهل الخبرة واستشارتهم قبل الشراء.

2- الاستعداد المسبق والجيد لشراء الكتب، ومن ذلك: إعداد قائمة الكتب المرغوب شراؤها، وعمل قائمة بالكتب التي سبق شراؤها.

3- أحرز الأصول من الكتب، واعلم أنه لا يغني كتاب عن كتاب.

4- احرص على اقتناء كتب الذين عرفوا بفضلهم، وشهد الواقع بعلمهم وحسن بلائهم في دين الله، فهؤلاء هم أبعد الناس عن غش القراء.

5- لا تقتن الكتاب حتى تعرف اصطلاح مؤلفه، وكثيرًا ما تكون المقدمة كاشفة عن ذلك، فابدأ من الكتاب بقراءة مقدمته.

6- اقتن الكتب ذات التجليد القوي المتين، وتأكد من تماسك الغلاف.

7- تأكد من خلو الكتاب من الأوساخ، أو عيوب الطبع، كالقطع في الصفحات، أو طي بعضها، أو تمزق أجزاء من الصفحات، أو نقص فيها.

8- إياك والانخداع بالعناوين البراقة، والسعر الرخيص، بل ينبغي عليك التأكد من مضمون الكتاب أولاً.

9- اقرأ فهرس الكتاب والمراجع قبل شراء الكتاب؛ لمعرفة ما يتضمنه من موضوعات ومدى أهميتها.

ولمن أراد تأسيس مكتبة في بيته فعليه بهذه التوجيهات المهمة:

1- عليك باختيار المكان المناسب لمكتبتك الخاصة، ويفضل تخصيص غرفة خاصة بها.

2- عليك بترتيب الكتب في مكتبتك حسب موضوعاتها، فكتب علوم القرآن مع بعضها، وكذلك: كتب الحديث والفقه والتفسير والعقيدة والتراجم والأدب والعلوم الطبيعية، وما شابه ذلك، فإن ذلك يسهل الرجوع إليها.

3- عليك بمراجعة الكتب الموجودة في المكتبة دوريًا، ولو بالنظر السريع، والتأكد من صحة ترتيبها.

4- عليك بِرَصَّ الكتب في المكتبة بالصورة الصحيحة، وهي وضعها بشكل قائم.

5- لا تدخل إلى مكتبتك كتابًا إلا بعد أن تمر عليه جردًا أو قراءة لمقدمته وفهرسه ومواضع منه، أما إن جعلته مع فنه في المكتبة، فربما مر زمان وفات العمر دون النظر فيه.


 المبحث السادس: أخطار يتعرض لها الكتاب

يتعرض الكتاب إلى العديد من الأخطار التي تؤدي إلى إنقاص عمره، وعليه فيجب على المرء التنبه لهذه الأخطار وتلافيها، ومن هذه الأخطار:

1- إبقاء الكتاب مفتوحًا أو مقلوبًا لفترة طويلة، مما يعرضه للتمزق والاتساخ.

2- فتح الكتاب بقوة وتقليب صفحاته بسرعة.

3- وضع الكتاب بشكل مائل في المكتبة.

4- وضع الكتب الكبيرة الحجم فوق الأخرى الصغيرة الحجم، مما يجعل الأخرى عرضة للتلف.

5- تعريض الكتاب لما قد يتساقط عليه من الأطعمة والأشربة.

6- تعريض الكتاب للشمس وحرارتها مما يؤدي بها إلى التلف والتمزق.

7- تحويل الكتاب إلى صندوق يحوي الأقلام والأوراق.

8- رمي الكتاب أو إلقاؤه من أعلى.

9- وضع الكتاب على الأرض مباشرة، مما يعرضه للرطوبة، وبالتالي للتلف.

10- الكتابة عليه بأقلام غليظة أو بشكل قوي.

11- اتخاذ الكتاب متكئًا يُتكأ عليه.

12- وضع الكتب في كراتين لحفظها، والصحيح حفظها في صناديق أو خزائن حديدية، وقد جمع أحد الشعراء بعض هذه الأخطار فقال:

عليك بالحفظ دون الجمع في كتب

فإن للكتب آفات تفرقها

الماء يغرقها والنار تحرقها

والفأر تخرقها واللص يسرقها


 الفصل الثاني: فن القراءة

وفيه المباحث التالية:

المبحث الأول: مفهوم القراءة.

المبحث الثاني: حال السلف مع القراءة.

المبحث الثالث: خصائص القراءة.

المبحث الرابع: وظيفة القراءة.

المبحث الخامس: مصادر القراءة.

المبحث السادس: أنواع القراءة.

المبحث السابع: فوائد القراءة.

المبحث الثامن: عوائق القراءة (أسباب نفور الناس عن القراءة).

المبحث التاسع: الطرق المعينة على ممارسة القراءة.

المبحث العاشر: تنمية عادة القراءة لدى الأطفال.

المبحث الحادي عشر: قواعد القراءة وواجباتها.

المبحث الثاني عشر: أصناف القراء.

المبحث الثالث عشر: أخطاء في القراءة.

المبحث الرابع عشر: الطريق الأفضل لقراءة أمثل.

المبحث الخامس عشر: القراءة في القرن الحادي والعشرين.


 المبحث الأول: مفهوم القراءة

قال الرازي في «مختار الصحاح» عند مادة ق.ر.أ: (وقرأ الشيء (قراءناً) بالضم: جمعه وضمه، ومنه سمي القرآن؛ لأنه يجمع السور ويضمها، وقوله تعالى: }إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ{ أي: قراءته).

وقال الفيروزآبادي في «القاموس المحيط» عند مادة القرآن (وقارأه مقارأةً وقراءً: دارسه، والقَرَّاءُ: الحَسَنُ القراءة، وتقرأ، وقرأ عليه السلام: أبلغه).

قال محمد عدنان سالم في كتابه «القراءة أولاً»: (والقراءة تعني: الجمع، والضم، والتنويع، والإبلاغ، وقد تكون القراءة من الكتاب نظرًا، أو من الذاكرة المختزنة حفظًا، وقد تكون جهرًا أو سرًا، وقد تكون استماعًا، كما في حديث بدء الوحي).

وكذلك كما يحدث في حلقة تحفيظ القرآن للذين لا يقرأون، وكذلك عن طريق الأشرطة من محاضرات وقراءات لبعض القراء.

ومفهوم القراءة بمعناه البسيط يتمثل في: القدرة على التعرف على الحروف والكلمات، والنطق بها على الوجه الصحيح، ولكن هذا المفهوم تطور فيما بعد – وإن كان لا يزال يمثل فقط الجانب الآلي من القراءة – إلى العملية الفعلية المعقدة، التي تشمل الإدراك والتذكر والاستنتاج والربط، ثم التحليل والمناقشة، وهو ما يحتاج إلى إمعان النظر في المقروء، ومزيد من الأناة والدقة.

وقد حدد الباحثون القراءة بأنها «نطق الرموز وفهمها ونقدها وتحليلها، والتفاعل معها، وحدوث رد فعل بالنسبة لها ... وأن تؤدي بالقارئ إلى أن يستخلص ما يقرأه مما يساعده في مواجهة المشكلات».

وانطلاقًا من مفهوم القراءة هذا، فإننا نأمل أن لا تكون القراءة بعد ذلك عملاً سلبيًا يقتصر فقط على تنقل البصر بين السطور، وتقليب الصفحات، والتفاخر بإنهاء الكم الهائل من الكتب قراءة فقط، لا، بل هي عملية متكاملة يعطي فيها القارئ للمادة المقروءة بقدر ما يأخذ منها.


 المبحث الثاني: حال السلف مع القراءة

إن تاريخنا الوضّاء يحمل في طياته الكثير من الصفحات المشرفة عن حب سلفنا الصالح للقراءة، وولعهم بقراءة الكتب، وكان لهم في ذلك نوادر كثيرة، وإليك نتفًا يسيرة لأحوال بعضهم؛ لعلها توقظ هممنا إلى إدراك ما وصلوا إليه.

فهذا عبد الله بن المبارك رحمه الله – وهو من أتباع التابعين – يجيب على سؤال بعض أصحابه الذين افتقدوه في مجلسه، فيقولون له: ما لك لا تجالسنا؟ فيجيب عليهم: «أنا أذهب فأجالس الصحابة والتابعين» ويشير إلى كتبه، موضحًا أنه يقرأها.

وها هي زوجة الزهري تشتكي من كثرة مطالعة زوجها لكتبه، فتقول: «والله إن هذه الكتب أشد عليّ من ثلاث ضرائر»، وهذا دليل كبير على حب الإمام الزهري للقراءة وكثرة المطالعة؛ حتى أصبح أحد الفقهاء والأعلام المشهورين في المدينة النبوية.

ومصعب الزبيري يحدَّث عن حاله، وقد بالت الفأر على كتبه فيقول: «كنت أقرأ ما استبان منها وأدع ما لا أعرفه».

كما مر بنا ذكر حال أبي داود السجستاني عند خياطة ثيابه، حينما كان يضع أحد أكمام ثوبه واسعًا؛ ليضع فيه الكتب، فقد كان رحمه الله محبًا للقراءة، فلا يذهب إلى مكان لقضاء حاجة دنيوية أو أخروية، إلا ووضع الكتاب في كمه لقراءته أثناء فراغه.

وإليك ما صار من حال أبي بكر الأنباري، حيث دخل عليه الطبيب في مرض موته، فنظر إلى مائه فقال: قد كنت تفعل شيئًا لا يفعله أحد، ثم لما هم بالخروج قال له أبو بكر: ما يجيء منه شيء، فقال له: ما الذي كنت تفعل؟ فقال الأنباري: «كنت أعيد كل أسبوع عشرة آلاف ورقة» فيا لها – والله – من همة عالية في القراءة وطلب العلم.

وها هو الفتح بن خاقان كان يحضر في مجلس المتوكل، فإذا ما قام المتوكل لحاجة، أخرج ابن خاقان كتابًا من كمه وراح يقرأ فيه حتى يعود.

وإن عجبت فأعجب من حال الحافظ ابن الجوزي وهو يحدَّث عن حاله في سفره الماتع: صيد الخاطر، فيقول: «فسبيل طالب الكمال في طلب العلم: الإطلاع على الكتب التي قد تخلفت من المصنفات، فليكثر من المطالعة، فإنه يرى من علوم القوم وعلو هممهم ما يشحذ خاطره، ويحرك عزيمته للجد، وما يخلو كتاب من فائدة، وأعوذ بالله من سير هؤلاء الذين نعاشرهم، ولا نرى فيهم ذا همة عالية فيقتدي بها المبتدئ، ولا صاحب ورع فيستفيد منه الزاهد.

فالله الله، وعليكم بملاحظة سير السلف ومطالعة تصانيفهم وأخبارهم، فالاستكثار من مطالعة كتبهم رؤية لهم، كما قيل:

فاتني أن أرى الديار بطرفي

فلعلي أرى الديار بسمعي

وإني أخبر عن حالي: ما أشبع من مطالعة الكتب، وإذا رأيت كتابًا لم أره فكأني وقعت على كنز، ولقد نظرت في ثبت الكتب الموقوفة في المدرسة النظامية، فإذا به يحتوي على نحو ستة آلاف مجلد، وفي ثبت كتب أبي حنيفة، وكتب الحميدي، وكتب شيخنا عبد الوهاب بن ناصر، وكتب أبي محمد بن محمد الخشاب – وكانت أحمالاً، وغير ذلك من كل كتاب أقدر عليه، ولو قلت: إني طالعت عشرين ألف مجلد، كان أكثر، وأنا بعد في الطلب، فاستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سير القوم، وقدر هممهم وحفظهم وعباداتهم، وغرائب علومهم، ما لا يعرفه من لم يطالع، فصرت أستزري ما الناس فيه، وأحتقر همم الطلاب، ولله الحمد».

فلا عجب أن يقول عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في (الأجوبة المصرية): «كان الشيخ أبو الفرج بن الجوزي كثير التصنيف والتأليف، وله مصنفات في أمور كثيرة، حتى عددتها فرأيتها أكثر من ألف مصنف، ورأيت بعد ذلك ما لم أره».

وشيخ الإسلام نفسه يطالع في مسألة من المسائل فيقول في ذلك: «وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة، ووقفت على ذلك ما شاء الله تعالى من الكتب الكبار والصغار، أكثر من مائة تفسير، فلم أجد إلى ساعتي هذه عند أحد من الصحابة أنه أوّل شيئًا من آيات الصفات».

والإمام ابن القيم رجع في كتابه (اجتماع الجيوش الإسلامية) إلى ما يزيد عن المائة من الكتب التي ألفها بنفسها، فما أعظم الهمم وأعلاها!

والحافظ ابن حجر العسقلاني يقرأ صحيح البخاري في عشرة مجالس، من بعد صلاة الظهر حتى العصر، وصحيح مسلم في خمسة مجالس، في نحو يومين وشطر اليوم، والنسائي الكبير في خمسة مجالس، كل مجلس منها قريب من أربع ساعات، وقرأ في مدة إقامته بدمشق – وكانت شهرين وعشرين يومًا – ما يزيد عن المائة مجلد، مع التعليق، والأعمال الأخرى التي يقوم بها، فلله دره، ما أعلى همته وارتفاع درجته في العلم!

وهذا إمام الحديث في عصره المحدَّث العلامة محمد ناصر الدين الألباني، يحكي الشيخ الشيباني عنه فيقول: «ولعل الاهتمام بالحديث أصبح شغله الشاغل، حيث كان يغلق محله، ويذهب إلى المكتبة الظاهرية، ويبقى فيها اثنتي عشرة ساعة، لا يفتر عن المطالعة والتحقيق، إلا أثناء فترات الصلاة». وانظر إلى نتاج هذه القراءة والمطالعة: إنها درر ثمينة أخرجها الشيخ، وخدم فيها السنة، فرحمه الله وأجزل له المثوبة، ورفع درجته في المهديين.

ونختم بما حدث به الشيخ سلمان بن فهد العودة – حفظه الله – عن نفسه، حينما كان طالبًا في المرحلة المتوسطة أو الثانوية – الشك مني – يقول «وكنت أقضي يومي في الأجازة الصيفية في دكان أدبي، وأحمل معي كتبًا أقرأها، فما انتهت الإجازة إلا وقد طالعت ما يقرب من ستين كتابًا أو يزيد»، ولعل أكبر شاهد على ذلك ما تلاحظه في ثنايا مؤلفات الشيخ – حفظه الله – ومحاضراته، فإنك تجد فيها روح القارئ المطلع الشغوف بالقراءة، فهو يخرج لك زبدًا صافيًا من بطون أمهات الكتب – حفظ الله الشيخ ونفع بعلمه المسلمين .


 المبحث الثالث: خصائص القراءة

تتمتع القراءة بمزايا وخصائص عديدة، لا يمكن حصرها، ولكننا نلخص منها ما يلي:

1- القراءة هي نافذة الإنسان على الدنيا، يطل منها على كل شيء، ويرى منها الحياة والأحياء، ويطلع على الكون.

2- أنها ظاهرة إنسانية من خواص الإنسان وحده، ولازمة لرقيه، وما يبذله الإنسان فيها يعتبر جهدًا نافعًا وضروريًا؛ لكي يتمتع بإنسانيته، ويحقق غاية الخلق فيه.

3- أنها عملية حيوية كاملة، تشترك فيها قوى إنسانية متعددة، وتحتاج لجهود بدنية وعقلية ونفسية؛ لكي تصل إلى الدرجة المطلوبة.

4- أنها مع قرينتها (الكتابة) يعتبران حجر الأساس في التعليم، ولا يمكن لوسيلة أخرى أن تغني عنهما.

5- أنها لا تعترف بالفواصل الزمنية، والفوارق الاجتماعية، والحدود الجغرافية، فالقارئ يستطيع أن يعيش كل العصور، وفي كل الممالك والأقطار.

6- أنها لا تقيد الإنسان بزمان ولا مكان، فالقارئ يستطيع القراءة متى شاء وأين شاء.

7- أنها تسمح للكاتب أن يتحدث في كل الأوقات، وإلى كل الطبقات والهيئات- دون استثناء- فيزول بذلك كثير من الفوارق الفكرية بين طبقات المجتمع.

8- أنها تنقل القارئ من عالمه الضيق إلى عالم أوسع أفقًا، فهي من أهم الوسائل التي تعالج ضيق الأفق، إذ تجعل من الرجل محدود التفكير رجلاً واسع الأفق بعيد النظر.

9- أنها توجه البحث العلمي، وتربط الباحثين في شتى أنحاء العالم برباط قوي، وبذلك يسير موكب العلم والمعرفة نحو أهدافه السامية التي يبغيها بخطوات سريعة موفقة.

10- أنها تعطي القارئ أكثر من حياة واحدة في مدى عمر الإنسان الواحد؛ لأنها تزيد من هذه الحياة من ناحية العمق، وإن كانت لا تطيلها بمقادير الحساب.

11- أنها وسيلة للتنمية أو للهدم، فهي تؤثر في اتجاهات الإنسان ومستواه الخلقي ومعتقداته وتصرفاته، على حسب ما يقرأ يكون التأثر، إن صالحًا أو طالحًا.

12- تتميز بحرية الاختيار دون تقييد.

13- أنها متعة عظيمة بسعر رخيص، بالمقارنة مع تكاليف الهوايات الأخرى.

14- تتميز بالبقاء ودوام الاقتناء.

15- تتميز بسهولة المراجعة، وسلامة اللغة، وسهولة التثبيت في الذاكرة، وقد جاء في المثل الصيني: «أسمع فأنسى، أقرأ فأتذكّر».

16- أنها وسيلة أساسية للاتصال بين الأفراد والمجتمعات، والربط بين أفراد المجتمع.

17- أنها سبيل الفهم، وهي بداية التعامل مع النص، فالمرء لكي يعي النص يبدأ بقراءته، وحين يكون النص عميقًا في بنائه، يحتاج المرء إلى معالجة أخرى، هي في حد ذاتها قراءة ثانية أو ثالثة يستعين معها بالقلم والورق.


 المبحث الرابع: وظيفة القراءة وأهدافها

تؤدي القراءة على المستويين الفردي والاجتماعي أربع وظائف، تتجلى في:

1- المجال الديني: للمساعدة على عبادة الله على الوجه الصحيح، والإجابة على كثير من التساؤلات، وحل المشكلات الدينية.

2- المجال النفسي: للمساعدة على التكيف النفسي، ومواجهة حالات الإحباط والانفعالات.

3- المجال الاجتماعي: للمساعدة على التكيف الاجتماعي، والتبادل الثقافي بين الشعوب.

4- المجال المعرفي: لإشباع الحاجات المعرفية للفرد والمجتمع في سن التحصيل الدراسي وما بعدها.

وأما أهداف القراءة: فهي تختلف من شخص لآخر، كل بحسب حاله ووضعه، ومستواه الثقافي، وولعه بالثقافة، ولكن يمكن إجمالها فيما يلي:

1- لطلب العلم والمعرفة: وهذا هدف عام، ومصاحب للقراءة منذ تعلمها في البدء، وفي هذا تحقيق لرسالة الإنسان في الأرض، وهي المستفادة من قول الله عز وجل: }وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا{.

2- للاستذكار والمراجعة: فالدارس يحتاج إلى مراجعة معلوماته من آن لآخر؛ للتثبت منها، والتأكد من معناها، أو مقارنتها بمعلومات جديدة.

3- لمتابعة التخصص: وهذا مرتبط بالتعلم في مجال محدد، لا يتعلق بحاجة طارئة، ولا يتوقف على مناسبة، وهناك فرق بين المتخصص المتابع لما يصدر من جديد في تخصصه، وبين كل من يكتفي بما حصَّله في دراسته ويركن إليه.

4- لإعداد بحث: فالباحث – أو القارئ – هنا يقرأ بعقلية ناقدة أكثر، ويقارن بين الآراء المختلفة، ويستمد من ثقافته ومعلوماته ما يساعده على الرأي والحكم.

5- للتسلية والترويح: فهي قد تساعد المرء على الهدوء والاسترخاء، بما تحقق له من متعة وترويح، وذلك بقراءة الموضوعات الخفيفة، والقصص السهلة، أو مراجعة الصحف، ولكن ليعلم المرء أنه لو اكتفى بها فلن يحقق عن طريقها نموًا علميًا، أو إثراء في دراسته أو ثقافته، ولن تساعده على تحصيل العلم.

6- لأجل توسيع قاعدة الفهم: والذين يقرؤون من أجل هذا الهدف قلة قليلة من الناس، وذلك أن أكثر الناس يعتقدون أن ما يملكون من مبادئ وقدرات ذهنية وإدراكية كاف وجيد، ويكتسب القارئ من خلال ذلك عادات فكرية جديدة، كما أن القارئ لأجل توسيع قاعدة الفهم تزهر معلوماته وتثمر.

وهناك أهداف أخرى لخصها (جيري ورجرز) فيما يلي:

7- رضوخًا للعادة.

8- شعورًا بالواجب.

9- لمجرد ملء الفراغ.

10- للتعرف على الأحداث الجارية.

11- استجابة لحاجات عملية في الحياة اليومية.

12- استجابة لحاجات اجتماعية مدنية.

13- تلبية لمتطلبات فكرية بحتة.


 المبحث الخامس: مصادر القراءة

هناك أربعة مصادر للقراءة، هي على الترتيب من حيث الأولوية:

1- الكتب: ومنها الكتب المقررة في المدرسة أو الجامعة، والمراجع التي يحتاجها الإنسان في موضوع تخصصه واهتمامه، والكتب التي يختارها للقراءة الحرة، وتتميز الكتب عمومًا بشمولها للموضوع، واستقصائها لجميع أجزائه وما حواه من آراء وملاحظات، وعلى قدر هذا الشمول والإحاطة والدقة وحسن العرض، يكون حظ الكتاب من الجودة.

وتقدم الكتب للإنسان زادًا فكريًا غنيًا وضروريًا لحياته، وتتيح له الاستفادة من الوقت، وستظل دائمًا في مقدمة المراجع المهمة والمصادر الأساسية للمعرفة والمتعة، وقد سبق لنا الكلام عن الكتب بالتفصيل في فصل سابق.

2- الصحف والمجلات والدوريات: وهذه مادة يومية أو مناوبة، تكمل ثقافة الإنسان، وتتصل بحياته العامة بصورة مباشرة، وتطلعه على جوانب من المجتمع وأمور تجري من حوله، وترضي حاجته إلى الإحساس بأنه مع الحياة وجزء من العالم.

وتساعد الصحف والمجلات والدوريات على تكوين اتجاهات سياسية واجتماعية أو مذهبية معينة لدى القراء، وهنا تكمن خطورتها، والقارئ المستنير لا يتبع كل رأي، ولا يروق له كل مذهب، فليس عبدًا للمادة المقروءة، بقدر ما هو طالب للثقافة، متفهم واع وناقد، لا يضيع مع الاتجاهات السائدة في صحيفة أو مجلة، وإن لازمها ولازمته.

3- أقراص الحاسب المبرمجة: وهي مصدر حديث من مصادر القراءة، وهي في حقيقتها مجموعة من الكتب منسوخة في قرص واحد ذي سعة كبيرة، وهو يعتبر من أقل المصادر توافرًا، وهو في الغالب يحوي المعاجم والموسوعات والكتب ذات الأجزاء الكثيرة، كفتح الباري وما شاكله، وهي تمتاز عن المصدرين السابقين بسهولة وسرعة وصول القارئ إلى مبتغاه؛ بفضل التقنية العالية المستخدمة في الحاسب الآلي، وهي ليست في متناول الجميع، مثلما هو الحال في المصدرين السابقين، وهي مفيدة للباحثين الذين يستخدمون المعاجم والموسوعات والكتب الضخمة، بما توفره لهم من سرعة ويسر؛ للوصول إلى ما يريده الباحث.

4- الإنترنت: وهو من أحدث مصادر القراءة، وهو عالم مستقل بذاته، ويختلف عن المصدرين الأوليين في كونه متجدد المعلومات باستمرار، وكذلك فهو متنوع الفنون، وهو مع ذلك لا يمكن التحكم به كمصدر على الإطلاق، فقد تختفي فيه معلومات وموضوعات، وقد تتبدل بسرعة، ما لم يلجأ القارئ إلى وسائل الحفظ المعمول بها في الحاسب الآلي، وهو أشد خطورة من سابقيه؛ ذلك لإمكانية التواصل مع الكاتب، ولذا فهو يحتاج إلى قارئ متفهم واع مدرك، يستطيع التمييز بين الضار والنافع، والغث والسمين، لا يميل مع كل اتجاه، ولا يسير مع كل فكرة، وهذا المصدر ليس في متناول الجميع كما هو الحال في المصدر السابق.


 المبحث السادس: أنواع القراءة

الحديث عن أنواع القراءة حديث ذو شجون، والكلام عنها يطول، إذ إنَّ هناك تقسيمات عدة للقراءة، تختلف فيما بينها من حيث الغرض والهدف، والأداء والطريقة، ونوعية المقروء.

فمن حيث الهدف يمكن تقسيم القراءة إلى الأنواع التالية:

1- قراءة الدرس: وهي التي يقوم بها الإنسان لزيادة نصيبه في العلم، فهو يقوم بها في المدرسة؛ ليتمكن من النجاح والحصول على أعلى الدرجات، ويقوم بها في مناشط الحياة المختلفة، فهو يقرأ اللافتات ليؤمن حركة انتقاله، والوصول إلى هدفه، بأيسر السبل، ويقرأ كتب الإرشادات العملية (أو ما يسمى بالكاتلوج)؛ ليحسن استخدام الجهاز، أو تطوير مهنته، ويراجع المعاجم والقواميس، ويقرأ الكتب للمشاركة في ندوة أو إلقاء محاضرة، ويقرأ في كتب متخصصة؛ لتطوير نفسه وزيادة معلومات وتوثيقها، وما أشبه ذلك.

2- القراءة الاستمتاعية: وهذه مرتبطة بأوقات الفراغ، ويندرج تحتها نوعان من القراءة:

أ- قراءة تنبع من تطلُّع الإنسان لمعرفة النفس البشرية وما يحيط بها من ظروف الحياة، كمن يريد أن يعرف شيئًا عن الحيوان وطرق معيشته، وعن الأقطار الأخرى، والفضاء والكون.

ب- قراءة تنبع من رغبة الإنسان في الابتعاد عن الواقع، وهذه تبدو في رغبة المرء في القراءة عن التغيرات المفاجئة، وأحداث الساعة، والمواقف التي يعاني منها الآخرون، وأسرار النفس البشرية.

3- القراءة لأجل تقديم الكتاب للغير: وهي: القراءة التي يقوم بها المرء لتقديم كتاب معين للآخرين، وينبغي للمرء هنا أن يكون قد استوعب الكتاب، فيقرأ الكتاب، ويدون ملاحظاته أولاً بأول، ويتحقق مما يورده الكاتب من تواريخ وإحصاءات، ويرصد إبداعات المؤلف وما أضافه من أفكار جديدة، وما شاكل ذلك.

4- القراءة النقدية: وهي: القراءة التي يعمد القارئ من خلالها إلى نقد جملة من الأفكار التي طرحها الكاتب، ويراها غير صحيحة أو سليمة، وينبغي لممارس هذا النوع من القراءة: أن يراعي مجموعة من القواعد المهمة في العملية النقدية، ومنها:

أ- أن يتذكر دائمًا غرض الكلام الذي يقرأ، ويلاحظ كيف تنسجم النقاط الفرعية مع الغرض الرئيسي، وكيف تدعمه.

ب- أن يتأكد من أنه ينفذ إلى الفكرة الرئيسة وراء كل فقرة، فيقف عند كل فقرة، ويستحضر بقلبه الفكرة الأساسية في تلك الفقرات.

ج- أن يمكن عقله في مقدار الوقت الذي سيقفه على النقاط المختلفة من قراءته، ويقرأ بسرعة متفاوتة، وعليه أن يقرأ النقاط المهمة والعسيرة في أناة وروية، متأكدًا من أنه قد فهمهما.

د- عليه أن يفكر تفكيرًا انتقاديًا فيما يقرأ، ويستنتج استنتاجه الخاص، ويذهب إلى أبعد مما ورد في الكتاب من أفكار ومفاهيم.

هـ- أن يسجل الفكرة الرئيسة في كل جزء من قراءاته، ويميز النقاط الهامة كلما مرت به.

و- أن يضع هيكلاً ذهنيًا أو كتابيًا للكتاب الذي يقرأ، ثم يراجع الكتاب كله على ضوء هذا الهيكل، حيث يجب أن يربط ما بين أفكار القطع المقروءة، ويصنف الكتاب إلى نقاط رئيسة، ونقاط ثانوية.

وهناك من يقسم القراءة من حيث الهدف إلى قسمين، يندرج تحتهما أنواع أخرى، وهما:

1- القراءة الفضولية: وهي القراءة المتقطّعة، التي لا يقصد منها القارئ سوى تزجية الوقت وملء الفراغ.

2- القراءة العملية: وهي التي يرمي القارئ من ورائها إلى أهداف علمية واضحة، وهذه القراءة تنقسم إلى الأقسام التالية:

أ- القراءة مع التلخيص: وهذه القراءة يقصد منها الاطلاع على محتويات الكتاب، وتركيز أفكاره الأساسية بعد الفراغ من مطالعته، وجمعها في ملخص.

ب- القراءة مع الاقتباس: ويقصد بها جمع معلومات معينة عن موضوع ما، ويدخل تحت هذا القسم ثلاثة أنواع من القراءة، هي:

1- القراءة السريعة: وذلك بقراءة الفهرس قراءة فاحصة، ويختار القارئ ما يمس موضوعه من قريب أو بعيد.

2- القراءة العادية: وفيها يقرأ القارئ الموضوعات التي حددها للقراءة في بعض الكتب، ويختار منها الاقتباسات التي تتصل بموضوعه.

3- القراءة العميقة: وفيها يقرأ القارئ الأبحاث الممتازة المتصلة بموضوعه بعمق وتؤدة، وقد يعيد قراءتها، فيقتبس منها ما ينير له الطريق.

ج- القراءة مع الغير: وهذا النوع من القراءة كان شائعًا في المؤسسات العلمية الإسلامية، فالطلاب لم يكونوا يقرؤون المحفوظات (الكتب) على انفراد، بل يحرصون على قراءتها عند مؤلفيها إن كانوا أحياء، أو شيوخهم، وذلك من أجل ضبطها وفهم ما أشكل عليهم فيها، ولا تزال تستخدم هذه الطريقة في الوقت الحاضر، ولكنها بصورة أقل مما كان في الماضي.

د- القراءة المجردة: وهي التي لا يكون معها تلخيص أو اقتباس أو استيضاح، وتوجد كتب ومقالات تناسبها هذه الطريقة

وهناك تقسيمات أخرى للقراءة من حيث الأداء، وهما نوعان:

1- القراءة الصامتة: وهي القراءة التي تعمد إلى توفير القدرة على السرعة والفهم وتلخيص المقروء، إضافة إلى زيادة حصيلة القارئ اللغوية والفكرية، حيث إن القراءة الصامتة تتيح للقارئ تأمل العبارات والتراكيب، وعقد المقارنات بينها والتفكير فيها، كما أنها تنمي الرغبة القرائية.

2- القراءة الجهرية: وهي تقوم على الإلقاء المعبر والإنشاد، ولهذا النوع مزاياه، إذ يقوم على كشف عيوب النطق لمعالجتها، وهي وسيلة لإجادة النطق والإلقاء، والتعبير عن المعاني بلغة صوتية متميزة ومفهومة، وهي مهارة مطلوبة في مهن كثيرة، كالتدريس والمحاماة والوعظ والإصلاح.

وهناك تقسيمات أخرى للقراءة، من حيث نوع المقروء، والهدف من قراءته، وهما نوعان:

1- القراءة السريعة: وهي الطريقة التي تستخدم في مطالعة الصحف والمجلات، وبعض الكتب التي يشعر القارئ أنها لا تزيد من معارفه العلمية والثقافية والفكرية، كما أنها تستخدم كثيرًا قبل اقتناء الكتب، وهي تنقسم إلى الأقسام التالية:

أ- التحليق فوق النص: ويقصد به التصفح السريع للنص، بغية الحصول على هدف معين منه، أو معرفة مقصد الكاتب وتمييز أفكاره.

ب- القراءة الخاطفة: وهي التي تتيح للقارئ أن يلم بموضوع الكتاب واتجاهه ومنهجيته، وذلك بالنظر في مقدمة الكتاب وخاتمته وفهارسه.

ج- قراءة ما بين السطور: ويقصد بها تلمّس ما يوحي به النص في أسرع وقت ممكن.

والقراءة السريعة لا تعتمد على مقدرة القارئ على فهم النصوص فحسب، بل تمتد لتشمل هدف القارئ من قراءته، ومستوى ذكائه وخبرته، ومدى سيطرته على مهارات القراءة، وطريقة صوغ المادة المقروءة.

2- القراءة البطيئة: وهي التي تتيح للقارئ الدقة والعمق في فهم المادة المقروءة والنصوص في المعاني، واستشفاف المقاصد الكامنة وراء السطور، والتوقف عند بعض النصوص المستغلقة والتأمل فيها، ويستخدم القارئ هذا النوع من القراءة عندما يحقق نصًا تراثيًا مخطوطًا أو علميًا صعبًا.

وقد أورد الأستاذ الدكتور عبد الكريم بكار في كتابه (القراءة المثمرة) خمسة تقسيمات للقراءة، هي:

1- القراءة الاستكشافية: ويقصد بها: القراءة التي يلجأ إليها القارئ قبل شراء أي كتاب، حيث ينبغي على المرء أن لا يستعجل بشراء أي كتاب، مهما كان موضوعه أو ثمنه، وأيا كان كاتبه، ما لم يلق عليه نظرة استكشافية تصفحية؛ ليكشف عن مدى حاجته إليه، والطريقة التي عليه أن يتبعها في قراءته.

2- القراءة السريعة: وهي التي تأتي بعد القراءة الاستشكافية، حيث يحدد القارئ أي نوع من القراءة يستحقه الكتاب: هل هي قراءة دقيقة متناهية؟ أو قراءة سريعة؟ وفكرة القراءة السريعة تقوم على أن النظر يقفز من مساحة إلى أخرى، وعندما يستقر على مساحة معينة، فإنه يلتقط عددًا من الرموز والإشارات، ثم يقفز ليستقر ثانية ... وهكذا، وقد أقامت بعض الدول المتقدمة دورات للقراءة السريعة منذ أكثر من نصف قرن؛ بهدف تدريب القارئ على التقاط أكبر عدد من الكلمات أثناء الثانية التي تقف فيها العين.

3- القراءة الانتقالية: وهي التي يحتاج إليها القارئ حينما يتجه إلى التعمق في موضوع بعينه، حيث يكون بحاجة إلى تتبع العديد من المراجع والكتب المتنوعة؛ للعثور على مادة متجانسة تساعده على تكوين صورة جيدة عن الموضوع الذي يهتم به.

4- القراءة التحليلية: وهي أفضل أسلوب يمكن للقارئ أن يتبعه في استكناه مضمون كتاب ما في وقت غير محدد، فهي لا تعني الاطلاع والاستفادة فحسب، بقدر ما تعني نوعًا من الارتقاء بالقارئ إلى أفق الكاتب الذي يقرأ له، ومحاولة النفاذ إلى معرفة شيء من مصادره وخلفيته الثقافية، بل وحواره ونقده، والوقوف على جوانب القصور في الكتاب.

5- القراءة المحورية: وهي تلك القراءة التي تستهدف الوقوف على معلومات وأفكار ومفاهيم، تتعلق بموضوع معين، كما يفعل باحث أراد أن يكتب في موضوع ما، فإنه يحاول أن يطلع على مصادر المعلومات المختلفة التي تقدم له مادة أو خلفية أو رؤية تساعده في إنجاز عمله، وهذه القراءة تمر في ثلاث خطوات، هي:

الخطوة الأولى: تتلخص في أن يطلع القارئ على الكتب والمراجع التي تعرض الأدبيات العامة للعلم الذي ينتمي إليه الموضوع الذي يقرأ من أجله، ويستحسن إذا أنهى القارئ كتابًا في ذلك أن يقرأ كتابًا أو أكثر مما يعرض وجهات نظر معارضة لما قدمه الكتاب الأول.

الخطوة الثانية: وتتمثل في قراءة الفصول والمقاطع والنصوص، التي يرى أنها لصيقة بموضوعه، ويبدأ بصياغة مجموعة من الأسئلة حول موضوعه.

الخطوة الثالثة: وتتمثل في توزيع النصوص التي اختارها القارئ على الأسئلة التي استطاع بلورتها، وهنا تتضح قدرة القارئ الجيدة من الاستفادة مما بين يديه من كتب ومراجع، فقد لا يجد القارئ كل الأجوبة على أسئلته في كتب تنتمي إلى الاختصاص نفسه.


 المبحث السابع: فوائد القراءة

للقراءة فوائد عدة لا تخفى على كثير من الناس، ولا يمكننا حصرها كلها في هذه الرسالة القصيرة المختصرة، ولكننا سنذكر بعضًا منها ينبغي على الإنسان – خاصة المسلم – العلم بها؛ علّها أن تكون حافزًا له على القراءة، فمن فوائد القراءة:

1- أنها من أقوى الأسباب لمعرفة الله سبحانه وتعالى، وعبادته، وطاعته، وطاعة رسول الله ﷺ‬، على وجه صحيح وطريقة أصوب موصلة إلى مرضاة الله.

2- أنها طريق إلى معرفة سيرة الرسول ﷺ‬، وأخلاقه التي لنا فيها عظة وعبرة، ولنا فيها أسوة حسنة.

3- تحقيق فضيلة طلب العلم الشرعي، والتفقه في الدَّين، وإزالة الجهل عن النفس، مع نية العمل بما علم.

4- بها يعرف الفرق بين الحلال والحرام، والواجب والمستحب، والمباح والمكروه، وعن طريقها تعرف العبادات، من صلاة وزكاة وحج وصيام، وغيرها من الأحكام المهمة.

5- بها تعرف مكائد أعداء الإسلام من الكفرة والملحدين، والفرق الضالة ودحضها، والحذر والتحذير منها.

6- تحقيق الدعوة إلى الله على بصيرة.

7- يحصل للإنسان بسببها أجر عظيم وثواب كبير، لا سيما إذا كانت قراءته في كتاب الله، أو في الكتب النافعة التي تدله على الخير، وتنهاه عن الشر.

8- أنها سبب لمعرفة أحوال الأمم الماضية والاستفادة مما حدث لها.

9- أنها تُكسب الإنسان الأخلاق الحميدة، والصفات العالية، والسلوك القويم.

10- أنها سبب لرفعة الإنسان في هذه الحياة وفي الآخرة؛ لأنها من أسباب العلم، والله عز وجل يقول في محكم تنزيله: }يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ{ فالإنسان كلما زاد من قراءته واطّلاعه، فإنه سوف يكثر علمه ويزداد عمله.

11- أنها من أقوى الأسباب – إن لم تكن أقواها – لعمارة الأرض، والدخول إلى العلوم المؤدَّية لذلك.

12- أنها طريق الإنسان لمعرفة ما ينفعه وما يضره في هذه الحياة من العلوم.

13- أن من كثرت قراءته واطلاعه على الكتب المختلفة، ينظر إليه الناس نظرة إكبار وتقدير.

14- تعطي القارئ القدرة على التحليل وإبداء الرأي السليم، وإذا نقد فإنّه ينقد بعين بصيرة، كما تنمي قدرته على المناقشة وإثراء المجالس والمنتديات بكل ما هو نافع.

15- تنمي القدرة العقلية على التركيز والتخيل، والتمييز بين الواقع والخيال.

16- توسع دائرة معارف القارئ، وتغني خبراته، وتوسع أفق تفكيره.

17- تثري لغة القارئ بالعديد من المفردات، وتنمي ذوقه.

18- تعالج عيوبنا الذهنية، وتحل مشاكلنا النفسية.

19- تعلمنا الضبط والدقة في تقصَّي المعلومات والحكم على الأشياء.

20- أنها سبب من أسباب إتقان الحِرَف.


 المبحث الثامن: عوائق القراءة (أسباب نفور الناس من القراءة)

إن الناظر في أحوال المجتمع الإسلامي والعربي ليلحظ – وللأسف الشديد – نفورًا لدى كثير من الناس من القراءة؛ لذا فإنه لا عجب في أن يكون أحد أسباب تأخر الأمة هو: هجرها للقراءة، إذ القراءة مصدر الوعي في المجتمعات، ولقد رأينا فيما مضى عناية السلف وحرصهم على الكتاب والقراءة، فكان نتاج ذلك – بعد توفيق الله ثم تمسكها بدينها – أن سادت الأُمة الإسلامية العالم، وأفاضت على البشرية جمعاء من خير حضارتها الزاهرة.

ولو تأملنا في العوائق – أو الأسباب – التي أدت إلى نفور الناس من القراءة، لوجدنا أن غالبها أسباب وعوائق واهية، هي من صنع الناس أنفسهم، كنتاج طبيعي لضعف الأمة وانحطاطها، وسنحاول دحض كل سبب بعد ذكره مباشرة:

1- دنو الهمة: فبعض الناس – ولا حول ولا قوة إلا بالله – عنده دنو في همته، مقرون بضعف في عزيمته، وكأنه قد خُلق لأجل النوم والدعة والمرح واللعب، فهو لا يعرف الكتب إلا بأشكالها، ولا يعرف القراءة إلا بذكرها، ولهؤلاء نقول:

قد هيّأوك لأمر لو فطنت له

فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل

2- يدّعي بعضهم أن مشاغل الحياة وهموم العيش لم تدع لهم وقتًا للقراءة، ولا ذهنًا صافيًا للمطالعة، ولهؤلاء نقول: هذه حجة واهية، يتشبث بها كل ذي عزيمة ضعيفة، وهمة دنيئة، والدافع لها: حبكم للراحة على التعب وإيثاركم للسهل على الصعب، ولا أدل على ذلك من تفضيلكم لجلسة لهو على تصفح كتاب نافع، فعليكم بمطالعة تراجم السلف؛ لتنظروا كيف كانت أوقاتهم مشغولة بالدعوة والجهاد وطلب الرزق، ومع ذلك كانوا يقرؤون المجلدات العديدة طلبًا للرفعة والزيادة في العلم.

3- عدم معرفة قيمة القراءة وفوائدها، وقديمًا قيل: إن الإنسان عَدُوُّ ما يجهل. فينبغي على الإنسان أن ينظر إلى حال من يقرؤون؛ لينظر كيف أثرت فيهم القراءة، ورفعت مكانهم، وأكسبتهم الدقة وسعة الأُفق، وغير ذلك من فوائد القراءة التي ذكرناها سابقًا.

4- عدم وجود الأقران الذي يشجعون ويحثون غيرهم على القراءة، فالمرء بقرينه، وقد قال الأول:

عن المرء لا تسل وسل عن قرينه

فكل قرين بالمقارن يقتدي

لذا فإنه يحسن بالإنسان أن يتخير الرفقة الصالحة التي تعينه على القراءة، ويبتعد قدر المستطاع عن مصاحبة البطالين.

5- عدم التشجيع على القراءة في البيوت، وانكباب الطلاب على المقررات الدراسية فقط، والواجب على رب كل بيت: تشجيع أبنائه ومن يعول على القراءة، وأن يكون هو قدوة لهم في ذلك، ويسعى لتوفير كل دواعي القراءة، من مكتبة ومكان وجو هادئ وما شابه ذلك.

6- عدم الفهم، وهذه مشكلة الكثيرين، فهم يقولون: نحن نقرأ، ولكننا لا نفهم ما نقرأ، أو أن أسلوب الكاتب صعب، فلا نستطيع أن نفهم، وعلاج هذه المشكلة يسير لمن يسره الله عليه، إذ ينبغي للمرء أن يسأل أهل الخبرة والاختصاص عما يشكل عليه من كلمات ومفاهيم لم تتضح له بعد قراءتها قراءة متأنية، وكذلك الرجوع إلى ما يعين على الفهم من كتب اللغة والمراجع؛ لحل ما استعجم من كلمات أو شروح الحديث لفهم حديث معين، وغير ذلك من المراجع الأخرى المساعدة، وفي هذا خير للقارئ، فهو يعوده على تقليب الكتب والمراجعة فيها، كما أنه يزيد من ثروته العلمية.

7- استبدال السمين بالغث ، والانشغال عن قراءة الكتب المفيدة بقراءة القصص الهابطة، والروايات الساذجة، والمجلات التافهة، والصحف الرياضية والفنية، وغيرها.

8- عدم التركيز: وهذه مشكلة يشكو منها كثيرون فيقولون: نحن نقرأ، ولكننا نختم الصفحة دون استيعابها، وننهي الكتاب دون أن نخرج بفائدة، وننظر فيه وعقولنا شاردة، ولهؤلاء نقول: إن تركيز الذهن ليس بالشيء القليل الأهمية، وهو يتطلب مرانًا وصبرًا، كما يتطلب التغلب على المؤثرات المقلقة، والمتاعب البدنية، من تجنب للضوضاء والإجهاد، واتخاذ الوضع الصحيح للجسم أثناء القراءة، ومما يساعد أيضًا في تركيز الذهن: قراءة كل ما هو شيق ونافع من الموضوعات.

9- الاصطدام بأمور صعبة عند بدء القراءة، من قراءة الكتب الطويلة، والكتب صعبة الفهم، أو الافتقار إلى الخبرة في اختيار الأفضل من الكتب، وينبغي على المرء أن يبتدئ في قراءته بقراءة الكتب القصيرة ذات الأسلوب السلس والشيق، وأن يستعين بأهل الخبرة في اختيار النافع والمناسب من الكتب.

10- غلاء أسعار الكتب، ويمكن التغلب على هذه المشكلة بارتياد مكتبات المساجد، أو بيوت الأصدقاء، إن وجد فيها مكتبات، أو المكتبات العامة.


 المبحث التاسع: الطرق المعينة على ممارسة القراءة

يقول الأستاذ الدكتور عبد الكريم بكار في كتابه «القراءة المثمرة»: «إذا كانت القراءة أهم وسيلة لاكتساب المعرفة، وإذا كان اكتساب المعرفة أحد أهم شروط التقدم الحضاري، فإن علينا ألا نبخل بأي جهد يتطلب توطين القراءة في حياتنا الشخصية، وفي حياة الأمة عامة، فالمسألة ليست كمالية ولا ترفيهية، وإنما هي مسألة مصير».

إنه كلام رائع من رجل خبير، نعم، فإن أحد أسباب تخلف الأمة الإسلامية والعربية: أنها أمة لا تقرأ، كما أقر بذلك أعداؤها؛ لهذا، ومن أجل إيجاد جيل قارئ واع، فإنني أسوق مجموعة من السبل المعينة على ممارسة القراءة، وتحبيبها لدى الناس، ومنها:

1- الدعاء:

فهو أهم الوسائل المعينة للمرء المؤمن في حل كل مشاكله، المادية منها أو التحصيلية العلمية، فعلى المرء أن يدعو الله أن ييسر له طلب العلم وحب القراءة، ومن كان مع الله كان الله معه.

2- النظر بالقلب:

فيجب على القارئ حين يقرأ أن يركز فكره وناظريه على الصفحة التي يقرؤها، كما يجب عليه أن يفرغ قلبه ليتلقى العلم النافع، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى الكبرى: «وكذلك من نظر إلى الأشياء بغير قلب، أو استمع إلى كلمات أهل العلم بغير قلب، فإنه لا يعقل شيئًا، فمدار الأمر على القلب، وعند هذا تستبين الحكمة من قوله تعالى: }أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا{».

3- قراءة ما تميل إليه النفس مع التدرج:

وهذه تكون نقطة البداية، حيث إن القارئ يقرأ ما تميل إليه نفسه من تفسير أو عقيدة أو حديث أو سيرة أو فقه أو أدب أو تاريخ أو علوم؛ حتى يوطن نفسه على حب القراءة، ثم ينطلق بعد ذلك.

4- معرفة همة علماء السلف:

فحين يقرأ المرء في سِيَرِهم، وهمتهم في القراءة والطلب، وكيف كانوا يضحون من أجل الحصول على العلم، فإن المرء المؤمن العاقل يستصغر نفسه المقصرة، ويبدأ بالجد والاجتهاد في القراءة والاطلاع، وقد ذكرنا نتفًا من سيرهم في مبحث سابق.

5- تكوين عادة القراءة:

إن البدايات التربوية الجيدة – ومنها القراءة – تبدأ دائمًا من المنزل، والآباء هم المربون الطبيعيون، ولذا كان اهتمامهم بالعلم عاملاً حاسمًا في تطور الموقف النفسي لأطفالهم تجاه قضية التعليم، وتكون عادة القراءة لديهم، وسنفرد الحديث عن ذلك في مبحث مستقل.

وبعد الأهل يأتي دور المؤسسات التعليمية في رعاية ما بدأه الأهل في البيت، وتنميته، والتي عليها إبداع طريقة جديدة للتعامل مع المواد العلمية المقررة على الطلاب، بدلاً من طريقتها القديمة القائمة على تلقين المعلومات، وذلك باستخدام طريقة الاكتشاف – مثلاً - والتي تنمي العقل، وتوسع قاعدة الفهم، وبالتالي يشعر الطالب بشيء من المتعة عندما يقرأ، مما يحبب له القراءة.

6- توفير الكتاب:

إن الكتاب هو أهم مصدر من مصادر القراءة، وتوفيره للعامة أمر في غاية الأهمية، وها هنا بعض المقترحات لأجل ذلك:

أ- إيجاد تنظيمات تلزم الهيئات والجهات المختلفة بإيجاد مكتبات مناسبة لتثقيف منسوبيها.

ب- إيجاد رابطة لأصدقاء الكتاب، على غرار رابطة أصدقاء المرضى، يكون همها: العمل على توفير الكتاب، وتسهيل وصول أكبر عدد من الناس إليه، من خلال إقامة المعارض، وتأسيس صندوق لدعم الكتب القيمة، وتنشيط سوق الكتاب المستعمل، وحث الأثرياء على تخصيص مبانٍ ملحقة ببيوتهم، يجد فيها نُشّاد المعرفة الكتب والجو الذي يساعدهم على المطالعة.

ج- إيجاد نظام وطني لإعارة الكتاب وتبادله بين الهيئات والمؤسسات العلمية.

د- قيام الجامعات والهيئات العلمية المختلفة بتبسيط العلوم، عن طريق إصدار عدد من سلاسل (كتب الجيب) في التخصصات المختلفة؛ لمساعدة الناس على التّثقف والإطّلاع.

7- توفير الوقت للقراءة:

لقد أوضحنا سابقًا أن أكثر الذين لا يقرأون يعتذرون بأنه ليس لديهم وقت للقراءة، والحق أن السبب ليس هو الوقت، بل لأنهم لا يملكون أية أهداف أو أولويات يضغطون بها على حاضرهم، ويوجهون من خلالها جهودهم، إنه من المفيد ونحن نبحث عن وقت للقراءة أن نكتشف الساعة الذهبية في يومنا، وهي الساعة التي يكون فيها المرء في قمة نشاطه؛ لكي يستفيد منها في التفكير الإبداعي، أو قراءة الكتب الصعبة.

8- تهيئة جو القراءة:

إن هناك ارتباطًا وثيقًا بين إمكانية الفهم والاستيعاب وبين الأجواء والأوضاع التي تجري فيها عملية القراءة، وهناك شروط عدة ينبغي توفيرها، من أجل تهيئة الجو المناسب للقراءة، منها:

أ- أن يكون مكان القراءة منظمًا وجميلاً، يبعث على الارتياح والانشراح، وهذا يكون ميسورًا حين تكون هناك حجرة خاصة بالقراءة، أو جزء من حجرة.

ب- ينبغي أن تكون حجرة القراءة صحية، حسنة التهوية، جيدة الإضاءة.

ج- ينبغي أن تكون غرفة القراءة – أو مكان القراءة – بعيدًا عن الضوضاء داخل المنزل وخارجه، وإلا امتزجت القراءة بالتسلية، والعمل بالفراغ.

د- أن يكون الكرسي المستخدم مريحًا ومناسبًا لمكتب القراءة.

هـ- يجب أن يضع مريد القراءة على مكتبه الأدوات والمعاجم والمراجع التي يحتاج إليها أثناء القراءة.

و- يجب الحرص على الاحتفاظ بدرجة من الحيوية والارتياح أثناء القراءة، وهذا لا يمكن الحصول عليه إلا من خلال جعل أوقات للاستراحة.

9- مجالسة عشاق القراءة:

فالجلوس إلى محبي القراءة، وملاحظة أثرها عليهم، من خلال أحاديثهم الشيقة التي لا تُمل، تدفع بالمرء إلى مشابهتهم في ما هم عليه من حب للاطلاع والقراءة، وقد قال الأول: «قل لي من تصاحب، أَقُلْ لك من أنت».


 المبحث العاشر: تنمية عادة القراءة لدى الأطفال

تحدّثنا في المبحث السابق عن أهمية تكوين عادة القراءة لدى الأشخاص، وخصوصًا الأطفال، كدافع رئيس من دوافع حب القراءة وممارستها، ولأهمية غرس هذه الهواية الجيدة لدى الشخص منذ نعومة أظفاره، أفردنا الحديث عنها في مبحث مستقل، وبالرغم من أن القراءة تعتبر من المدركات اللفظية والقدرات اللغوية التي يملكها الطفل – كما يقول عبد الفتاح أبو معال – إلا أنه قد شاع بين الناس تصور خاطئ يقضي بأن الطفل لا حاجة به إلى الكتاب إلا بعد دخوله المدرسة وتعلمه القراءة فيها، ولقد نتج عن هذا الاعتقاد الخاطئ: أن درج الناس على إهمال تعليم أطفالهم القراءة قبل سن السادسة، ظنًا منهم أن الطفل في مرحلة (الحضانة) لا يحسن تلقي المعلومات عن طريق البصر كما يتلقّاها عن طريق السمع، فيكتفون بتلقينه اللغة الصائتة ([3])، ويحرمونه من متعة اكتساب المعرفة عن طريق البصر بواسطة القراءة للكلمة المكتوبة، قبل أن يجلس لتلقيها على مقاعد الدرس، وبالتالي مواجهته لصعوبات كثيرة في علاقته بالكتاب في المدرسة، فالأطفال عندما يولدون في بيئة تشجع على القراءة، فيجدون حولهم الكثير من الكتب الخاصة بهم، والتي تقترب من الألعاب، سيجدون عندما يذهبون إلى المدرسة – في فترة تعلم القراءة بالمعنى المدرسي – أن لديهم قائمة كبيرة من الأفكار والمدركات والاتجاهات النفسية التي كونوها نحو القراءة، فيقبلون في سعادة ورغبة على المطالعة، كما يكونون قد اكتسبوا كثيرًا من الخبرات التي تعينهم على فهم ما يقرأون.

يجب على الوالدين أن يدركا أن الأطفال يختلفون فيما بينهم في السن التي يتهيأون فيها للقراءة تمامًا، كما يختلفون في السن التي يستطيعون فيها أن يقفوا على أرجلهم، فتعليم الطفل القراءة قبل أن يتهيأ لها جسميًا وعقليًا وعاطفيًا ليس جهدًا ضائعًا فقط، بل من الجائز أن يترتب على هذه المحاولة كثير من الأمور التي تعوق نمو الطفل والتي يصعب تلافيها فيما بعد.

وإذا أردنا أن نغرس في الأطفال ميلاً دائمًا، ورغبة مستمرة، في قراءة ما هو جدير بالقراءة، فلا بد لنا أن نهتم بهدفين أساسيين لهما أهميتهما ومغزاهما، وهما:

الهدف الأول: أن يخلق برنامج القراءة رغبة لدى الأطفال في القراءة، وأن يساعد على أن يستمتعوا في قراءتهم.

الهدف الثاني: أن تحقق القراءة الرغبة في نمو الشخصية، وفي معرفة العالم، وفي فهم الناس والمجتمع.

وتستطيع الأسرة والمدرسة أن تنميا الميل إلى القراءة، عن طريق خلق المواقف التي ترغب فيها، ويمكن خلق الاستعداد أو القراءة في البيت بالوسائل الآتية:

1- أن يكون اتجاه الوالدين نحو القراءة اتجاهًا إيجابيًا.

2- تزويد الطفل بمعين من الخبرات، فندعه يلاحظ ويتعلم خلال الرحلات والأسفار والزيارات، وندعه يتحدّث عما شاهد، ثم نناقشه فيما يقول، وبهذا تنشأ الثروة اللغوية، وتتكون الأفكار.

3- أن يتحدث الآباء والإخوة الكبار عن الكتب والمجلات والقصص والحوادث التي ترد في الصحف، وأن يشركوا الطفل في هذا الحديث.

4- عندما يواجه الطفل أبويه بسيل لا ينتهي من الأسئلة فالواجب عليهما الصبر والإجابة على أسئلته بصورة تتناسب وعمره، وفي هذا شيء مهم للغاية للطفل، فهو يفتش عن المعلومات التي تساعده على إدراك سر العالم الذي يحيط به، وسر العالم كما يتمثل أمامه في الكتب.

5- على الوالدين – والإخوة الكبار – معاونة الطفل على التعبير بوضوح عما يجول بخاطره، وعلى استعمال الكلمات ونطقها بدقة، فنظهر الاهتمام بما يأتي به من محاولات للتعبير عما في خاطره، وننصت إليه عندما يتحدث عن نواحي نشاطه المختلفة، ونشجعه على الكلام في وضوح ودقة.

6- توفير الكتب والمجلات الصالحة والمناسبة للطفل والمتفقة مع ميوله.

7- حكاية القصص وقراءتها جهريًا، وكذلك الأناشيد النافعة، وأي معلومات أخرى جيدة.

وحتى تكون الوسائل السابقة فعالة، فإنها ينبغي أن تكون تلقائية، ولا يشعر الأطفال أنها تُرتب عن عمد وتخطيط للضغط عليهم لكي يقرأوا، كما ينبغي عدم دفع طفل ما قبل المدرسة إلى القراءة دفعًا.

وتستطيع المدرسة إذا ما أتاها الطفل أن توفر الظروف التي تشجع الأطفال على القراءة بوسائل مختلفة، منها:

1- مكتبة الفصل، على أن تحتوي على الكتب والمجلات المناسبة والمفيدة، من حيث المحتوى ومستوى الصعوبة، وأن تبلغ من التنوع والكثرة ما يتيح لكل طفل في الفصل أن يجد ما يميل إليه.

2- أن تخصص حصص للقراءة الحرة، حيث تتاح للأطفال حرية كاملة في أن يقرأوا بأنفسهم أي كتاب أو مجلة من اختيارهم، وأن يجد الطفل المساعدة في اختيار الكتاب أو المجلة إذا رغب في ذلك.

3- أن تكون هناك جماعات للقراءة، يتألف كل منها من مجموعة من الأطفال، تتنافس فيما بينها على الفوز بجائزة القراءة مثلاً.

4- عمل معارض للكتب، وإعلانات مشوقة، تعرف الأطفال بالإنتاج المتنوع الذي يتفق مع ميولهم.

5- إعداد لوحة حائطية جذابة، ويسجل عليها كل طفل الكتب التي قرأها.

وينبغي على البيت والمدرسة: جلب وتوفير الكتب التي تعتمد على الرسوم البسيطة الملونة الواضحة، التي تقوم بدور أساسي في جذب اهتمام الطفل، وكذلك اعتمادها على الأسلوب القصصي.


 المبحث الحادي عشر: قواعد القراءة وواجباتها

هناك جملة من القواعد والواجبات التي يحسن بالقارئ الأخذ بها قبل القراءة وأثناءها وبعدها، فمن القواعد التي يتعين على القارئ العمل بها قبل القراءة:

1- الإخلاص:

فإن القراءة النافعة متى ما أُخلصت النية فيها، كانت – ولا شك – عبادة عظيمة، فالمرء المسلم لا يقرأ الكتاب ليقال له: عالم، أو واسع الاطلاع، أو مثقف، لا، بل يقرأه للاستفادة مما فيه من علم نافع ينفع به إخوانه المسلمين ويرشدهم به، أو يحذرهم من بعض الكتب المضللة، وذلك بفضحها لهم، ويتأكد إخلاص النية في قراءة كتب العلم الشرعي، فقد أخرج الإمام مسلم في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ‬ يقول: «إن أول الناس يقضي يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت ليقال: فلان جريء، فقد قيل، ثم أُمر به فسحب على وجهه في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به، فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت: ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت ليقال: قارئ، فقد قيل، ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى أُلقي في النار...» الحديث.

2- وجود الغاية:

فالقارئ المسلم يقرأ لأهداف وغايات عظيمة، فهو يقرأ لرفع الجهل عنه وعن غيره من المسلمين، أو الدعوة أو التعليم، أو الدفاع عن دين الله، أو لأجل خدمة أمته في مجال من مجالات العلم والقوة، فالمسلمون يواجهون أعداء شرسين من يهود ونصارى، وملحدين ومنافقين، وأصحاب مذاهب هدامة مضللة، ولا سبيل للرد على هؤلاء إلا بالفهم السليم للكتاب والسنة أولاً، وقراءة ما به نفع للأُمة ثانيًا.

3- الاستشارة والسؤال:

الاستشارة مطلب شرعي، وأدب عظيم، وخلق نبيل، فينبغي للقارئ أن يسأل أهل الخبرة والاختصاص والعلم قبل اقتناء أي كتاب يرتاب في أمره، أو لا يعرف سبيل مؤلفه، وكذلك يسأل عما يشكل عليه من أمور تعترضه أثناء قراءته.

4- ليس كل ما في الكتب صوابًا:

فالقارئ لا يتعجّل في تقبُّل كل ما يقرأه مما هو عرضة للنقاش، فقد يأتي المؤلف بفكرة أو مبدأ غير صحيح أو مخالف للسنة، إما عن حسن قصد أو سوء نية، فيجب على القارئ أن يمحص كل ما يقرأه، فما كان صوابًا يقبل به، وما كان خطأ يرفضه ويحذر منه، ولا يعني كلامنا هذا إساءة الظن بالمؤلفين بقدر ما هو دعوة إلى التثبت.

5- القراءة للاستفادة:

الناس فيما يقرؤون مذاهب وأصناف – سيكون لنا حديث في مبحث آخر عن أصناف الناس في القراءة – وخيرهم من يقرأ ليستفيد، فالقراءة للاستفادة لا مجرد المطالعة العابرة، فليست العبرة بعدة صفحات ينهيها القارئ من كتاب، بل العبرة بما استفاد من هذا الكتاب.

6- التدرج في القراءة:

وهذا أدب مهجور لدى كثير من القراء، فتجد القارئ أول ما يبدأ في قراءته بالكتب الطويلة وذات المستوى الصعب، مما قد يصده عن القراءة: وينفر منها، حيث يجد نفسه لم يفهم هذه الكتب أو يستفد منها، وقد يكون الداعي له على ذلك الحماسة والمبالغة في الثقة في النفس، وهذان الأمران وإن كانا مطلوبين، ولكن يجب أن يكونا بقدر، دون إفراط أو تفريط، فينبغي على القارئ أن يتدرج في قراءته من الكتب المختصرة والسلسة، إلى الكتب الطويلة والصعبة، حتى تعتاد نفسه الصبر، ويرقى بفهمه إلى مستوى أعلى، ويتأكد هذا الأمر في حق طلبة العلم الشرعي.

وهناك واجبات على القارئ تجاه القراءة، ينبغي عليه معرفتها، وأنْ يعمل بها ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ومن هذه الواجبات:

1- الفهم:

وهو أول واجبات القارئ، إذ القراءة ليست معرفة كلمات وجمل فحسب، ولكن ما وراءها من معان، ولا نقصد بالفهم هنا: الفهم السطحي الذي لا يتجاوز الإدراك المحدود، وإنما نقصد الفهم العميق الذي يشعر معه الإنسان أنه اكتسب شيئًا جديدًا، ويكون من السهل عليه أن يحفظه.

2- الحفظ:

وهي المرحلة التي تلي الفهم، والتي يطمئن فيها القارئ على ثبات واستقرار الأفكار المكتسبة، وتصبح جزءًا من عالمه وتكوينه، بحيث لا يصعب عليه بعد ذلك أن يستعيدها متى شاء.

والفهم الصحيح والحفظ ضروريان للقارئ الذي يريد أن يحقق الأهداف من قراءته، وهما بالإصرار والتدريب الذاتي يصبحان من المهارات الثابتة في الإنسان، والتي لا يكاد يشعر بجهد كبير في ممارستها.

3- تركيز الانتباه:

وهي قدرة خطيرة في حياة الإنسان، وإليها يرجع الفضل – بعد الله – فيما يحققه من آمال، وما يتوصل إليه من اختراعات، والتقدُّم العلمي والإنساني مدين لهذه الجوهرة الغالية في العقل الإنساني، وهي عدة الباحث والعالم وصاحب المهنة والجراح والكاتب والمهندس والمعلم، وكل من يعمل عملاً ذا شأن.

والقراءة من الأعمال العظيمة في حياة البشر، ومن غير التركيز فيها يتشتت الفكر ولا يعمل على الإحاطة، وكأنه يعمل ببعض قواه دون البعض الآخر.

وتركيز الانتباه يعني: توجيهه إلى الموضوع، وثباته عليه وعلى التفصيلات الجزئية المتفرعة منه، وهو في القراءة يعني: تأمل المادة المقروءة، والانشغال بها، وربط جزئياتها بعضها ببعض، وبدون ذلك لا يتم الفهم الجيد، ولا ما يترتب على الفهم من حفظ وتذكر، ومما يساعد على التركيز في القراءة: التدريب على ذلك بالتوقف بعد كل فقرة بضع لحظات؛ لضبط الفكر، وملاحظة تسلسل المعلومات، ومنع الاسترسال والاستطراد والتداعي.

على أن هناك جملة من العوامل السلبية التي تؤثر على التركيز، منها: عوامل نفسية، كالحزن والقلق، وبعض العوامل النفسية الأخرى، ومنها: عوامل جسمية، كالأمراض العضوية، والتعب والإرهاق، وضعف البصر والسمع، ومنها: عوامل مادية، كفساد الهواء أو الضوضاء الشديدة أو ضعف الإضاءة.

4- التذكُّر:

الفهم الصحيح والحفظ وتركيز الانتباه توصل إلى التذكُّر، وهو: القدرة على استعادة المعلومات من الذهن في الحياة العملية، وهو قدرة عقلية ترتبط بالذكاء، وهو أيضًا واجب إنساني يعززه الاهتمام الشخصي بالموضوع وإخلاص النية في ذلك، وكذلك التحرر من الخوف، والصحة الحسنة.

والقراءة ومراجعة ما يقرأ من آن لآخر تدريب للإرادة والذاكرة ولقوى الإدراك والفهم.


5- التحصيل:

إن لكل إنسان طاقته الخاصة في التحصيل، والتحصيل هو: القدرة على الاحتفاظ بكم معين من المادة العلمية التي يقرأ فيها، وكلما كان الإنسان ذا مهارة عالية في القراءة، كلما كانت كمية معلوماته التي يحتفظ بها أكثر.

6- ربط المعلومات:

فلا بد للقارئ من تنظيم معلوماته؛ لأن كثرة المعلومات يطغى بعضها على بعض، ويطمس بعضها بعضًا، وقد يصل بها ذلك إلى حد الضياع في ركام المعلومات، وإذا تمت القراءة بالعناية المطلوبة والاهتمام وتركيز الانتباه، أمكن ربط المعلومات الجديدة بالسابقة.

7- التعاطف والنقد:

وهما مهارتان ظاهرهما التناقض، ولكنهما في حقيقة الأمر متكاملتان، فالتعاطف يعني: القراءة بروح المودة، والثقة في المؤلف، والتجاوب مع أفكاره، وألا يكون القارئ مشبعًا منذ البدء بأفكار خاصة ضد المؤلف.

والنقد هو: تقويم المادة، والحكم عليها شكلاً وموضوعًا.

ولا يعني التعاطف أن ينسى القارئ ما قرأه من قبل، وما آمن به من أفكار، وما اقتنع به من نظريات وقوانين، ولا يعارض التعاطف أن يحتفظ القارئ لنفسه بحق الرفض لما يراه مخالفًا لما يعرف تمامًا أنه حق، أو لما لا يتفق مع معتقداته.


 المبحث الثاني عشر: أصناف القُرّاء

يتفاوت الناس في درجة الإقبال على القراءة أولاً، ثم الانتفاع منها ثانيًا، وهم في ذلك أصناف شتى، منها:

1- العاجزون عن القراءة:

وذلك بسبب أُمَّيتهم، وهم يشكلون نسبة ليست قليلة في العالم الإسلامي والعربي، وهي – ولله الحمد – آخذة في التناقص؛ لما تسنه الدول والحكومات من قوانين التعليم الإلزامي من جهة، وجهود محو الأُمية من جهة أخرى.

2- القارئ الصدئ:

وهو الذي يحسن القراءة، ولكنه لا يقرأ، متعللاً بأعذار كثيرة لتبرير إحجامه عن القراءة، من كثرة العمل، وضيق الوقت، وضعف البصر، وشد برامج التلفاز له، وحين النظر والتحقيق في هذه الأعذار نجدها واهية، يكشف كذبها شريحة من القراء الذين يعمل أحدهم في تخصصه المهني، الذي يستغرق جل وقته اليومي، ويقوم بواجباته العائلية والاجتماعية، ويقضي وقتًا مع التلفاز والإذاعة، ويقوم بنشاطات أخرى كثيرة، ومع ذلك فهو يجد متسعًا من الوقت للقراءة والتأمل، بل والنقد، وما ذاك إلا لأنه أحسن التعامل مع وقته وتنظيمه.

ومعظم هؤلاء القراء الصدئين يبدؤون الابتعاد عن القراءة عند مغادرتهم لمقاعد الدراسة، وبعضهم – وهم الأسوأ – يبتدئون العزوف عن القراءة نتيجة فشلهم الدراسي.

3- قارئ الديكور:

وهو الذي لفت نظره تصميم لمنزل أو مكتب، تحتل فيه المكتبة ركنًا بارزًا، يعطي الزائر انطباعا بأن صاحبه مثقف مهتم بالثقافة والكتاب، وبعد أن يجهز هذه الأرفف ويرضى عن تصميمها، يبدأ بملئها بالكتب، وأكثر ما يهمه في هذه الكتب تناسق مقاييسها وأحجامها وألوان كعوبها، وقراء الديكور حقيقة لا خيال، يشهد عليها الواقع.

4- القارئ المتعالم:

وهو الذي لا يكتفي بجمع الكتب والتفنن برصها في مكتبته، بل يتعدى ذلك إلى الإدلاء بدلوه في مجالس العلم والثقافة، فهو يتحدّث عن الكتاب الفلاني ومؤلفه وما يتضمنه كتابه، بل ويتعدى ذلك إلى حد الحكم على الكتاب والكاتب بالجودة والرداءة، ويصبح الأمر أكثر بلاءً إن وصل الحال به إلى التعدَّي على كتب الشريعة ومؤلفيها من أئمة السلف والخلف، فيشيَّخ نفسه قبل النضوج، ويفتي للناس، وبضاعته في ذلك: قراءة من كل كتاب لمقدمته وقائمة محتوياته، وبعضًا من فصوله، وهي – والله – بضاعة مزجاة، قال العلامة الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد – حفظه الله – في سِفْرِه القيم «التعالم وأثره على الفكر والكتاب»: «فكم رأينا نزالاً في حلائب العلم، من رائم للبروز قبل أن ينضج، فراش قبل أن يبري، وتزبب قبل أن يتحصرم، وقد قيل: البداية مزلة، وقيل: من البَليَّة تَشَيُّخُ الصحفية».

ويقول في موضع آخر: «فهذا القطيع حقًا هم غول العلم، بل دودة لزجة، متلبدة أسرابها في سماء العلم، قاصرة من سمو أهله، وامتداد ظله، معثرة دواليب حركته، حتى ينطوي الحق، ويمتد ظل الباطل، وضلاله، فما هو إلا فجر كاذب وسهم كاب حسير:

هو الوزير ولا أزر يشد به

مثل العرضوي له بحر بلا ماء

إنه لزادهم الهابط: التعالم، عتبة الدخول الفاجرة إلى خطة السوء الجائرة: «القول على الله بلا علم»».

والنصيحة لهؤلاء: ترك ما هم عليه من البلاء، وليتهم يقرؤون كتاب الشيخ بكر أبو زيد (التعالم وأثره على الفكر والكتاب) ليعلموا أي بضاعة مزجاة يحملون.

5- القارئ الناضج:

وهو القارئ الذي يمتاز بصفات حسنة، منها:

أ- حماسه الصادق للقراءة.

ب- معرفته لأساليب البحث والتنقيب في مصادر المعلومات، وحُسْنُ استخدامه للمعاجم والموسوعات ودوائر المعارف وأمهات الكتب.

ج- قراءته موضوعات تتميز بالتنوع والاختلاف.

د- امتلاكه لثروة لغوية واسعة، فسرعان ما يتعرف الكلمات المألوفة لديه، ويتعلم الكلمات الجديدة بأيسر الجهد.

هـ- قدرته على فهم الأفكار الجديدة المكتسبة مع الخبرة الماضية، مما يسمح له برؤية الأشياء من زاوية جديدة.

و- يمتلك مهارات القراءة الميكانيكية والفسيولوجية، من حيث إدراك الحروف والكلمات والتعرف عليها، والتطبيق الصحيح لها.

ز- يمتلك المهارات العقلية التي تساعده على إدراك المعنى القريب والبعيد، وهدف الكاتب، والمغزى الذي يرمي إليه، ودمج المعلومات الجديدة التي يحصل عليها في أنساقه المعرفية المستقرة.

ح- قدرته على تكييف سرعته في القراءة مع الحاجة، والوقت المتاح، ومتطلبات الفهم والإدراك.

ط- قدرته على استعمال كل المعلومات التي تساعده على فهم الأفكار المطروحة، كما أرادها المؤلف.

ي- القدرة على الاستجابة لنبض العصر الثقافي، وهذا لا يعني الانفتاح المطلق، وقراءة كل ما هب ودب، لكنها تعني: الوعي بالمعرفة التي يحتاجها مسلم اليوم؛ ليعيش زمانه بكفاءة وفعالية، والوعي بما يرفع من قدرته على مواجهة التحديّات المختلفة.

ك- معرفته لكيفية التعامل مع الكتب التي عزم على قراءتها، والكتب الجيدة التي ينتفع بها.

ل- امتلاكه لملكة نقدية تؤهله للتمييز بين نقاط الضعف والقوة، والكشف عن التحيز والادَّعاء، وتمحيص الخطأ والصواب من الأفكار، وهذا يتطلب مجموعة من القواعد، منها:

1- تحديد أهداف الكاتب، ومدى تحقيقه لها.

2- فهم النص، وربط الأفكار بعضها ببعض.

3- تقويم المقروء، ومدى كفاية المعلومات وفائدتها، وصدقها وموضوعيتها.

4- اكتشاف أوجه التشابه والاختلاف في الأفكار بين الكاتب وغيره.

5- الكشف عن تناقضات الكاتب ومبالغاته وادعاءاته.


 المبحث الثالث عشر: أخطاء في القراءة

هناك العديد من الأخطاء التي يقع فيها بعض القراء، سنوضحها لاحقًا، ومن هذه الأخطاء:

1- القراءة لتمضية الوقت، دون أن يكون هناك هدف أو غاية، والصواب: أن يكون للقارئ هدف وغاية يسعى إلى تحقيقها.

2- التقليد الأعمى لكل شيء مكتوب، وقبوله دون تمحيص أو نقد، وعلى القارئ بناء ثقافة عالية له تؤهله لإدراك ما حوله، ومناقشة ما هو مكتوب مناقشة فكرية.

3- التضخيم والدعاية لبعض الكتب أكبر من قيمتها الحقيقية، وإعطاؤها منزلة فوق حجمها، وقد يكون الدافع إلى ذلك محبة المؤلف والارتياح له، أو تضمنها فكرة تروق للقارئ بغض النظر عن صحتها أو خطئها.

4- تغير القناعة الفكرية لأدنى شيء يقرأه، والواجب على القارئ: عدم التسليم بالصحة لأي شيء يقرأه، فلا يخضع للكاتب خضوعًا تامًا، إنما يجب أن يكون رائده في القراءة: وزن الحقائق، وتقدير الأمور، تقديرًا يدفع إلى إظهار الحق وإبطال الباطل.

5- القراءة بغرض كشف أخطاء المؤلف وعيوبه – على حد زعمه – فهو يقرأ للنقد دون طلب للفائدة.

6- استعجال الثمرة والنتائج، وعدم الصبر على القراءة والاطلاع.

7- سرعة القراءة في غير محلها، وإنهاء الكتاب في فترة زمنية محدودة، وإن لم يستفد من الكتاب، وينبغي أن يعلم القارئ أن العبرة بالفهم والاستيعاب، لا بكثرة الصفحات المقروءة وإنهاء المجلدات.

8- الامتناع عن قراءة كتب بعض الكُتّاب، إما لوجود خلفية سابقة عن الكاتب أقنعته بأن كتاباته سيئة، أو لبعض كتابات سابقة له.

9- الثقة بكل شيء مطبوع من غير تثبُّت ولا مراجعة، حتى لو كان مصادمًا للشريعة، فينبغي على القارئ الاستعانة بأهل الخبرة في هذا الشأن.

10- عدم الانتباه لبعض الكتاب المضلين الذين ينشرون السم في العسل، أو يأخذون ما يناسب أهواءهم ويتركون ما لا يوافق أهواءهم.

11- عدم الانتباه لبعض التناقضات التي يقع فيها بعض الكُتّاب، فقد يقول الكاتب في بداية مؤلفه فكرة ثم يناقضها في آخر الكتاب.

12- اعتقاد أن القراءة مجرد هواية وتسلية، تمارس في أي وقت ومكان، والصحيح أن للقراءة قواعد وشروطًا قد ذكرناها سابقًا، كما أنها ليست مجرد هواية، بل هي غذاء للروح، فعلى القارئ أن يعطيها حقها من التقدير.

ولهذه الأخطاء وغيرها أسباب عدة، تؤدَّي بالقارئ الغافل عنها إلى الوقوع بها، ومن هذه الأسباب:

1- الجهل: وهو ما يقابل العلم، فغير المتعلم يكون عُرضة للوقوع في مثل هذه الأخطاء.

2- السرعة في القراءة: وهي وإن كانت من الأخطاء في حد ذاتها، إلا أنها أيضًا تكون سببًا للوقوع في أخطاء أخرى.

3- عدم فهم القارئ لما يقرأ:

وهذا وإن كان داخلاً ضمنًا في الجهل، لكننا نقصد هنا: القارئ المتعلم، ولكن حينما يقرأ بعض الكتب فإنه لا يفهم ما يقرأ، أو يفهم على نحو مغاير لما يرمي إليه الكاتب، فيقع في حمأة الخطأ.

4- قلة البضاعة اللغوية: وهي جزء من الجهل، ولكنه يتعلق بضعف المفردات، والجهل بمعاني بعض الكلمات.

5- الضعف اللغوي العام في وسائل الإعلام وبعض مقررات التعليم: مما أدى إلى أن أُدخل في اللغة ما ليس فيها، وخلطت العامية بالفصحى، مما أفسد الذوق لدى الكثير من الناس.

إلى غير ذلك من الأسباب التي قد ذكرنا بعضها في ثنايا عرضنا للأخطاء التي يقع فيها بعض القراء.


 المبحث الرابع عشر: الطريق الأفضل لقراءة أمثل

إن القراءة الصحيحة المثلى تُكسب القارئ مكاسب عدة، وإضافة إلى الفوائد والمكاسب التي ذكرناها آنفًا، فإن هناك مكاسب ثلاثة إضافية هي: الاستذكار بفاعلية، والكتابة بوضوح، والإنصات بدقة، كما أنها تقدم لمستخدمها وسائل أربع؛ حتى يكون قارئًا مثاليًا، وهذه الوسائل هي:

1- أنها تُمكنّه من أن يسبح في بحور القراءات المهمة.

2- أنها تُمكّنه من أن ينفي ويزيل الغبار عن الكتابات القيمة القليلة.

3- أنها تُمكّنه من أن يفهم بالتحديد، ويستخدم – ويحتفظ – بمعلومات، تكون مرجعًا دائمًا في متناول يده.

4- أنها تُمكّنه من أن يطبق ما يقرأ؛ ليحرز تقدمًا في مجال عمله، من خلال الارتقاء بمهاراته المنطقية.

5- إضافة إلى أنها تمكنه من التحلي بصفات القارئ الناضج، التي أوضحناها فيما سبق.

وللقراءة الصحيحة استراتيجية خاصة تقوم على أربعة عناصر، هي:

1- المسح: ونقصد به البحث عن العناوين الرئيسة، وجداول المحتويات والفهارس، أو أي شيء أمامك بحثًا عن الكلمات الرئيسة الدالة، والتي ترى أنها تتطلب نظرة متأنية، ككلمة (الزقوم) مثلاً، التي تدل على طعام أهل النار، لمن أراد أن يقرأ عن أحوال أهل النار، أو يكتب بحثًا عن ذلك، فالكلمات الدالة تختلف من مجال لآخر، وكذلك من فرد لآخر، فالكتاب الواحد قد يستفيد منه أكثر من شخص في أكثر من مجال.

2- التصفح: للتصفح السريع وسائل مساعدة، هي:

أ- المؤلف: أهل الخبرة يختارون بعض الكتب من مؤلفيها، إذ أن جودة أي كتاب تعتمد بصورة أكبر على مؤلفه أكثر من مادة الكتاب نفسها، فاسأل عن المؤلف للكتاب أو حتى المقال، فهي الخطوة الأولى نحو ضمان أن قراءتك تستحق منك بذل الوقت والمال، وهناك مؤلفون معاصرون اشتهروا بجودة مؤلفاتهم، وتحريهم الدقة والضبط والصحة فيما يكتبون، بخلاف آخرين همهم الربح التجاري في المقام الأول دون النظر إلى جودة ما يكتبون.

ب- العنوان: العناوين مهمة، رغم أنها لا تعد مؤشرًا على قيمة الكتاب كالمؤلف، ومع ذلك فقد تكون العناوين مفيدة عند الاختيار للتصفح.

ج- تاريخ النشر: في بعض التخصصات يكون تاريخ النشر من الأمور المهمة والحاسمة، من حيث تصفح الكتاب أو عدم تصفحه، مثل كتب الحاسب الآلي، وتقنية الطلب الحديثة، والتي تتطور فيها المعلومات والتقنيات سريعًا، فطبعة عام 1410هـ - مثلاً – تصبح قليلة الفائدة إن لم تكن عديمتها، ومع ذلك فهناك بعض الكتب التي تستحق القراءة بغض النظر عن تاريخ النشر، ككتب الشريعة والأدب وغيرها.

د- قائمة المحتويات: فهي تميط اللثام عن مدى أهمية ما يحتويه الكتاب، سواء كان المحتوي النوعي هو ما تبحث عنه أم لا، فمثلاً قد تبحث عن معلومات خاصة بصفات القارئ الجيد، فتبين لك قائمة المحتويات أن فصلاً واحدًا من بين عشرة فصول هو ما يخص القراءة.

هـ- المراجع: وهي تفيد القارئ في تحديد ما إن كان المؤلف يعتمد على مصادر أصلية أم ثانوية، والتي هي عبارة عن تلخيص للمصدر الأصلي، كما أنها تدل على عناية المؤلف بكتابه من حيث جودة المراجع.

و- الفهرس: وأقصد به: قائمة الكلمات والمصطلحات المهمة التي وردت في الكتاب، وهو يوجد في آخر الكتاب، فالكتاب الذي يحوي فهرسًا يساعد القارئ على انتقاء ما يريد بطريقة سريعة، فمثلاً عندما نأخذ كتابًا من المكتبة، ونختار عنوانًا، نبحث عنه في الفهرس، ثم نلقي نظرة على الصفحات التي تتناول هذا العنوان، وبهذه الطريقة ندرك سريعًا فيما إذا كان الكتاب يحتوي على معلومات جيدة عن هذا العنوان أم لا.

3- القراءة التمهيدية: وهي جوهر القراءة الصحيحة، وهي تقوم على قراءة أجزاء مختارة قراءة متأنية، وذلك على مراحل متتالية، حينما تجد ذلك ضروريًا، والهدف من القراءة التمهيدية هو: فهم فكرة الفقرة المكتوبة، ومعرفة الموضوعات التي تناقشها، وسرعان ما يتمخض عن القراءة التمهيدية قدر كبير من الفهم والحفظ، كما أنها تمنح القارئ معلومات كافية للحكم فيما إذا كان سينتقل إلى الخطوة النهائية – القراءة المتعمقة – أم لا؟ وللقراءة التمهيدية فوائدة عدة، منها:

أ- تساعد على فهم ما يقوله المؤلف فهمًا دقيقًا، وبكلمات المؤلف نفسه.

ب- تساعد على الإبحار في كتب بأكملها خلال زمن يسير جدًا، نصف ساعة أو أقل لكل كتاب.

ج- تساعد على التغلب على العقبات التي تعوق التركيز.

د- تساعد على فهم الفكرة الرئيسة.

هـ- تساعد على رؤية العلاقة بين الكل والأجزاء.

و- تساعد على اختيار جزء من موضوع – أو الموضوع كله – لقراءته قراءة متعمقة.

ز- تساعد على الاحتفاظ بالنقاط الرئيسة المهمة للكتاب.

ح- تقضي على الشعور بالذنب عندما تقرر عدم قراءة كتاب معين.

ط- تساعد على إصدار قرار حكيم بشأن ما إذا كان القارئ سيستثمر رأس ماله الإنساني في القراءة المتعمقة.

هذا وإن للقراءة التمهيدية مبادئ ينبغي على القارئ المثالي الأخذ بها، وهي:

المبدأ الأول: القراءة بالعقل:

فالعقل هو الذي يقرأ وليست العينان، وتؤكد الأبحاث الحديثة أن الكبار يقرؤون بعقولهم، وأن القراءة في جوهرها تعد طريقة للتفكير، تقول فيليس مندل في كتابها (القراءة الصحيحة): «والقراءة الصحيحة تؤكد على القراءة المرنة القوية ذات الكفاءة، وهي نوع من القراءة لا يقوم به سوى العقل، وفي حين أن المناهج الأخرى ترى القراءة على أنها حركة العين، أو حركة اليد، أو البحث عن الكلمة الرئيسة، فإن القراءة التمهيدية تعتبر بمثابة التفكير، وبمثابة البحث عن الفهم والحفظ، فهي تضفي الفعالية على قراءتك، من خلال تدريب عقلك وليس مقلتيك».

إن القارئ المثالي يستخدم قدرته النقدية مع كل كلمة يقرأها، وحينما يتعامل مع القراءة كعمل عقلي فإنه يتمكن من إصدار الحكم الصحيح، قبولاً أو رفضًا لأي كتاب، أو جزء من كتاب، أو فكرة في كتاب أو رسالة، وما شاكل ذلك.

المبدأ الثاني: الدقة في القراءة:

إن الدقة تعني التدقيق والضبط، والقارئ المثالي حين يدقق في قراءته فإنه يسعى إلى فهم ما تقوله الفقرة أو المبحث، بنفس الكلمات المستخدمة من قبل الكاتب، لا بترجمته لهذه الكلمات.

والدقة في القراءة تقوم على قراءة كل كلمة، واستنباط ما يبدو للقارئ من أفكار وكلمات دالة رئيسة، ثم التساؤل عما يريده الكاتب بالضبط، ثم الإجابة عن السؤال باستخدام أكبر قدر ممكن من كلمات الكاتب.

والدقة في القراءة تفيد القارئ فوائد عدة، منها:

1- القراءة بدقة.

2- توفير الوقت: إذ إن القراءة باعتناء من أول مرة تعني أنه لن يلزم القارئ إعادة قراءة النص من أجل استخلاص المعلومات لاحقًا.

3- التركيز التام: فالقارئ حينما يقرأ بدقة فإنه لا يمكنه التفكير في شيء آخر، وبالتالي يركز انتباهه على الجزء المقروء فقط.

4- توسيع مفردات القارئ.

5- تحديد الاختلافات بين الأجزاء المكتوبة أو حتى الكُتَّاب الذين يكتبون عن نفس الموضوع.

6- تحسين القدرة الانتقادية: فالقراءة المدققة تعد مطلبًا سابقًا للقراءة النقدية.

7- تدفع بحياة القارئ المهنية قدمًا.

المبدأ الثالث: ضبط القراءة لتتناسب مع:

أ- المواهب: وتشمل الدرجة العلمية للقارئ، والذاكرة والقدرات، أو الخلفية الخاصة بالموضوع، والاهتمامات والخبرة القرائية السابقة، وغير ذلك.

ب- الأهداف: وتشمل الحصول على معلومة معينة، جمع المعلومات العامة، القراءة بطريقة أكثر سرعة، استيعاب المزيد، تعلم إحدى المهارات، وغير ذلك.

ج- متطلبات العمل: وتشمل الحصول على خلفية عن القضايا، التوسع في أحد المجالات، تعلم مجال جديد، وأشياء أخرى.

خطوات القراءة التمهيدية:

الخطوة الأولى: النظر إلى التركيب:

والتركيبات المقصودة هنا هي: العناوين الرئيسة والفرعية، والترويسات، والمقدمة، والمقتطفات، والملخصات، والقصص المذكورة في البداية والنهاية، والخاتمة.

الخطوة الثانية: البحث عن الفكرة الرئيسية:

وذلك في العناوين الرئيسة والفرعية، والمقدمة، والفقرات الأولى والأخيرة.

الخطوة الثالثة: البحث عن الموضوع: وذلك بالنظر في مطلع الفقرات الطويلة ونهايتها، والتمعن بقراءة الجمل التي تحتوي على موضوعات الفقرات وتصفح التفاصيل.

الخطوة الرابعة: التعمق في القراءة حينما تكون هناك أهمية لذلك، فالقارئ يقرأ بتعمق عندما تتفق القطعة مع الفكرة الرئيسة، أو يظن القارئ أنه قد يتعلم شيئًا ما، أو أنه يحتاج إلى ذلك في مجاله المهني، أو تساعده على أداء مهمة موكلة إليه، في حين ينبغي على القارئ أن لا يتعمق في القراءة حينما لا تحتوي القطعة على شيء جديد يتعلمه، أو لا تكون مفيدة له، أو رديئة الطباعة.

4- القراءة المتعمقة:

والقراءة المتعمقة تستلزم الانتباه الكامل من القارئ، وكذلك ثقافته ومهاراته مجتمعة، وسوف يستخدم القارئ مهارات متعددة في أوقات مختلفة.

وحتى يكون القارئ مستعدًا للقيام بالقراءة المتعمقة، يجب عليه تجنب ثلاثة أمور غير صحيحة، هي:

أ- عدم تحريك الشفتين عند القراءة، وذلك لما لتحريك الشفتين أثناء القراءة من فوائد، فهو يساعد على التركيز في مكان به ضوضاء، وحل الجُمَل المعقدة والطويلة، وفهم الموضوعات الصعبة، وكذلك الحفظ والتذكر لمدة أطول حين تقييد المعلومة.

ب- عدم الكتابة في هوامش الكتاب، أو في قصاصات خارجية توضع داخل الكتاب وهذا مناقض للقراءة الواعية التي تتطلب الكتابة على الكتاب، أو في الهوامش، أو على قصاصات الورق، وهي الأفضل؛ لما فيها من فوائد عدة، منها: نزعها دون إتلاف الكتاب، أن القارئ يجد الصفحات التي بها القصاصات بسهولة، إمكانية ترتيب هذه القصاصات في مكان آخر للمراجعة والدروس، ونزعها وتنظيمها للاستخدام مستقبلاً في إعداد دروس أو خطابات.

ج- الحصول على زبد ما يقرأ القارئ فقط، فزبدة القراءة أو الفكرة العامة، وإن كانت تساعد على القيام بعمل تصفية للكتاب، إلا أنها لا تؤدي إلى الفهم، وهو المطلب الرئيسي من القراءة المتعمقة.

وحتى نتمكن من القراءة المتعمقة علينا عمل الآتي:

1- الإبطاء من سرعة القراءة.

2- قراءة كل كلمة: ونعني بذلك عمل الآتي:

أ- التحليل حتى نرى الأجزاء.

ب- بناء علاقات بين ما نقرأ وعملنا إذا ما كان الموضوع يتعلق بعملنا.

ج- التفكير فيما وراء الصفحة، والتمييز بين الجودة والصحة، وطرح الأسئلة النقدية المحددة.

3- أن نجعل الورقة والقلم والمعاجم بين أيدينا: ونقصد بذلك استخدام الملاحظات الهامشية، إذ في ذلك فوائد جمة، منها:

أ- تساعد في استخدام القراءة في أعمالنا.

ب- تركيز الانتباه.

ج- إنعاش الذاكرة لشهور وسنوات قادمة.

د- التفاعل مع الكتاب.

هـ- تسهيل عملية التحليل والتركيب.

ز- التفكير في كيفية استخدام موضوع القراءة.


 المبحث الخامس عشر: القراءة في القرن الحادي والعشرين

   تقول فيليس مندل في كتابها: «القراءة الصحيحة»: «في عالم الاتصالات بالفيديو والهواتف المحمولة وماكينات الفاكس وشبكات الحاسب الآلي، وخاصة عبر الشبكات المرقمة بالحاسوب، سوف نسمع دائمًا أن المطبوعات باتت تقنية قديمة عفا عليها الزمن إلى الأبد، وستظل حبيسة للمتاحف التي نطلق عليها الآن اسم المكتبات».

ونحن الآن نشاهد ما توقعته فيليس من القراءة والكتابة على الحاسوب بواسطة ما يسمى بالإنترنت، وأفضل طريقة للتعامل مع القراءة في الحاسوب هو استخدام تقنية القراءة الصحيحة التي ذكرناها آنفًا.

ولنأتي الآن إلى عناصر القراءة الصحيحة ونطبقها على الحاسوب:

1- المسح: مما يميز الحاسوب: أنه يقوم بالمسح بصورة أسرع كثيرًا وأدق مما يفعله القارئ، وكل ما يفعله المرء هو استخدم وظيفة البحث لتحديد مواقع الكلمات الدالة الرئيسة.

2- التصفح: ويستخدم فيه نفس الطريقة السابقة.

3- القراءة التمهيدية: إن الكثير من برامج الحاسوب تسمح لنا بإبراز مضمون القطعة، ومواضيع الفقرات على الشاشة مباشرة، وطبعها، أو وضع علامات لتمييز القطعة.

4- القراءة المتعمقة: ويفضل فيها استخدام النسخة المطبوعة؛ وذلك لثلاثة أسباب:

أ- الرغبة في عدم فقدان التمييز بين البداية والنهاية لما نقرأ.

ب- اهتزاز صورة الحاسوب، مما يعطي تباينًا رديئًا بين الكتابة والخلفية على الشاشة.

ج- تأثير الإشعاعات التي تصدر عن الحاسوب على العين من الناحية الصحية.


 الخاتمـــة

وبعد هذه الإيضاحات النافعة – بإذن الله – في بيان أهمية الكتاب والقراءة، والعناية بهما، أرجو من الله أن أكون قد وُفَّقت بهذه الرسالة المختصرة في المساهمة في إبراز القراءة، كمصدر مهم من مصادر العلم والمعرفة، واللذان يُعدَّان من الوسائل الرئيسة في تقدم الأمم ورقيها؛ حتى ننهض بأمتنا الإسلامية، ونصل بها إلى مصاف الأمم المتقدمة كخطوة أولى، ثم تسنُّم موقع الصدارة بين باقي الأمم، والإمساك بزمام الأمور كخطوة أخيرة.

إن الهدف من هذه الرسالة هو الإسهام في نقل أفراد أمتنا من حمأة الجمود الفكري، والخمول الذهني، وضيق الأفق، إلى تحرر الفكر، وتفتق الذهن، وسعة الأفق، تحت مظلة الشريعة الغراء؛ ليُعتقوا أمتهم من ربقة العبودية للأمم الضالة، والتقوت من فتات موائدها، ولتكون لها شخصيتها المستقلة فتكون متبوعة لا تابعة.

وأخيرًا – وليس آخرًا – فإنه لا فائدة ترجى لقارئ هذه الرسالة ما لم يعمل بما فيها، وقد قال الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «هتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل».

جعلنا الله ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، والله أسأل أن يجعل هذا العمل حجة لي لا علي.

وختامًا: فإن ما ورد في هذه الرسالة من صواب فمن الله، وما ورد فيها من خطأ فمني ومن الشيطان، واستغفر الله منه.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.


 ثبت المراجع

1- تفسير القرآن العظيم، الإمام ابن كثير، دار الفكر، بيروت 1408هـ.

2- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن السعدي، ط2، عالم الكتب، بيروت 1414هـ.

3- صحيح الترغيب والترهيب، ج1، ناصر الدين الألباني، ط3، مكتبة المعارف، الرياض 1409هـ.

4- مختار الصحاح، محمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة لبنان، بيروت 1986م.

5- القاموس المحيط، الفيروزآبادي،ط5، مؤسسة الرسالة، بيروت 1416هـ.

6- حلية طالب العلم، بكر أبو زيد، ط2، دار ابن الجوزي، الدمام (بدون تاريخ).

7- التعالم وأثره على الفكر والكتاب، بكر أبو زيد، ط3، دار الراية، الرياض 1412هـ.

8- جواهر الأدب، السيد أحمد الهاشمي، مؤسسة المعارف، بيروت (بدون تاريخ).

9- أهمية القراءة وفوائدها، عبد الله آل جار الله، ط1، دار الصميعي، الرياض 1413هـ.

10- قيمة الزمن عند المسلمين، عبد الفتاح أبو غدة، ط2، دار القلم، الكويت 1406هـ.

11- الثقافة الإسلامية والقراءة المبرمجة، أكرم العمري، دار إشبيليا، الرياض 1417هـ.

12- النص الإبداعي التربوي، حسن الهويمل، ط1، وزارة المعارف، الرياض 1418هـ.

13- القراءة المثمرة، عبد الكريم بكار، ط2، دار القلم، دمشق 1420هـ.

14- فن القراءة، عز الدين فراج، دار الفكر العربي، القاهرة 1415هـ.

15- الطفل والقراءة الجيدة، بول ويتي، ترجمة سامي ناشد، ط2، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة 1965م.

16- كيف تختار الكتاب الإسلامي وتقرأه، محمد توفيق، دار القلم، الكويت 1415هـ.

17- القراءة أولاً، محمد سالم، ط1، دار الفكر المعاصر، بيروت 1414هـ.

18- الطفل والقراءة، فهيم مصطفى، ط2، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة 1418هـ.

19- تنمية عادة القراءة عند الأطفال، يعقوب الشاروني، دار المعارف (بدون تاريخ نشر).

20- لماذا نقرأ؟ لطائفة من المفكرين، ط2، دار المعارف (بدون تاريخ نشر).

21- فن القراءة والتلخيص، حامد الهول، وآخر، ط1، مكتبة الفلاح، الكويت 1401هـ.

22- تسريع القراءة وتنمية الاستيعاب، أنس الرفاعي وآخر، ط2، دار الفكر المعاصر، بيروت 1420هـ.

23- تنمية الاستعداد اللغوي عند الأطفال، عبد الفتاح أبو معال، ط1، دار الشروق، عمان 1988م.

24- الوقت: عمار أم دمار؟ جاسم المطوع، ط1، مكتبة المنار الإسلامية، الكويت 1420هـ.

25- القراءة: البدء والاستمرار، يوسف العتيق، ط1، دار الصميعي، الرياض 1412هـ.

26- فن القراءة، محمد الغازي الطيب، ط2، دار الأندلس الخضراء، جدة 1419هـ.

27- أخطاء في القراءة، عبد العزيز بن صالح العسكر، ط1 (بدون دار نشر) 1415هـ.

28- الموسوعة النفسية، آرثر كورنهاوزر وآخرون، ط3، دار إحياء العلوم، بيروت 1415هـ.

29- القراءة الصحيحة، فيليس مندل، ط1، مكتبة جرير، الرياض 2000م.



([1]) «أشكر الأخ الفاضل خالد بن محمد عبد اللطيف، من قسم التصحيح بالدار، على ما قام به من عناية فائقة بهذه الرسالة تصحيحًا وإفادة، سائلاً المولى عز وجل أن يجزل له الأجر والمثوبة».

([2]) عنوان المؤلف: ص.ب 87342 الرياض 111642 بريد إليكتروني

[email protected]

([3]) اللغة الصائتة: هي اللغة المؤلفة من أصوات تخرج من الأفواه، وتتمايز حسب تفاوت مخارجها بين الحلق والشفتين، وتشكل رموزًا تعبر – حين تتركب مع بعضها – عن معانٍ ومدلولات، وتختلف هذه الرموز من بيئة إلى أخرى.