مسائل في علوم القرآن تهم الدعاة والمناظرين
التصنيفات
الوصف المفصل
- مسائل
في علوم القرآن تهم الدعاة والمناظرين
- مقدمة:
- المَبْحَث الأول نُزول القرآن
- المَبْحَث الثاني كتابة القرآن وحِفظه في زمن النبي (صلى الله عليه وسلم)
- المَبْحَث الثالث جمْع القرآن في عهد الصحابة (رضي الله عنهم)
- المَبْحَث الرابع عِناية الأمّة الإسلامية بالقرآن
- المَبْحَث الخامس النسخ في القرآن الكريم
- المَبْحَـث السادس الأسلوب القرآني
- المَبْحَث السابع آيات في مناظَرَة أهل الكتاب
- المَبْحَث الثامن أرقام وحقائق قرآنية
- المَبْحَث التاسع معجزاته (صلى الله عليه وسلم) سِوى القرآن الكريم
- المَبْحَث العاشر الفَرْق بين القُرآن والحديث والحديث القُدسي
مسائل في علوم القرآن تهم الدعاة والمناظرين
بسم الله الرحمن الرحيم
توطئة:
الحمـد لله رب العـالمين، والصـلاة والسـلام على المبعـوث رحمـة للعالمين، أما بعد:
فقد كان مما يلقيه أخي الشيخ عبدالرحمن أبو يعقوب -رحمه الله - على الدعاة في أفريقيا هذه المسائل من علوم القرآن، وقد حرص -رحمه الله - على أن تتناول المسائل التي لمس - من خلال تجرته في العمل بين الدعاة هناك- حاجتهم إليها، فأعدها وألقاها عليهم، وناقشهم وحاورهم بها، وتلقّى أسئلتهم حولها، وفي كل مرة يذهب لأفريقيا يضيف إليها بما يقتضيه المقام، وفي آخر زيارة له لدولة بروندي طلب منه الدعاة أن يقدم لهم نسخة منها، فطلب منهم أن يمهلوه إلى أن يعود إلى الرياض لينقحها ويصححها ثم يبعثها إليهم... ولما توفي -رحمه الله- حصل تواصل بيني وبين الإخوة في بروندي، وسألتهم عن المادة العلمية التي كان يلقيها في دورات الدعاة، فذكروا -مما ذكروا- هذا البحث، ففتشت عنه عند طلابه الأصفياء فأفادوني بأن لديهم النسخة النهائية منها بعد تصحيحها ومراجعتها من قبل الشيخ نفسه، وأنه كان عازما على أن يبعثها إليهم بعد ذلك، ولكنه لم يبعثها... ووفاءً للشيخ، وخدمة للدعاة هناك، وخدمة للعلم، ولعلها تكون مما أدخره ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، وتمهيداً لذلك فقد طلبت من اثنين من أعضاء هيئة التدريس في الجامعة من خواص طلبة العلم في تخصص القرآن وعلومه مراجعة هذا البحث تمهيداً لنشره، فراجعوه جزاهم الله خيراً وأحسن إليهم، وقدموا بعض الملاحظات التي لا يخلو منها عمل بشري، فما رأيته مناسباً منها ولا يثقل البحث؛ علقته في الحاشية مذيلا بـ(م) لتمييز الحواشي التي أضفتها من الحواشي التي علقها الشيخ رحمه الله، ولم أتدخل في متن البحث؛ ليبقى البحث كما كتبه؛ ولئلا أنسب إليه شيئاً لم يقله.
ومما ينبغي أن يلاحظ أن هذا البحث لم يلتزم به الشيخ -رحمه الله - الطابع الأكاديمي –وهو رجل أكاديمي– في التأليف والكتابة من حيث توالي النقول من عدمها، وما تعارفوا عليه بمصطلح (ظهور شخصية الباحث) فإن الشيخ كان يعد مادة علمية تكون زاداً للدعاة، وقد استحضر حاجتهم للتزود من الحجج والبراهين في مواجهة شبه المنصرين والنصارى المناظرين والمجادلين، كما لم يكن هدف الشيخ نشر هذا البحث النشر المتعارف عليه من خلال دار نشر، ولذا كان حبيــس مكتبتــه بعد الفراغ من مراجعته، ينتظر فيه أن تفتح أمام الناس فرص السفر؛ فيذهب إلى القارة التي عشق أرضها، وأحب أهلها، ووجد فيها أرضاً خصبــة للدعــوة إلى الله؛ فيلقيــه على الدعاة هناك، ويسلمه لهم.
أسـأل الله أن يثقــل بهذا العمل موازين أخي وقرة عيني وصفيي الشيخ عبدالرحمن، وأن ينفعنـا به، ويجعلـه خالصاً صـواباً متقبلاً شـافعا لنا يوم أن نلقاه، وأسـأل الله أن يغفر لأخي الشـيخ عبدالرحمن ووالدينـا وذرياتنا وزوجاتنا، ومن أحسن إلى الشيخ وأعانــه على ما قام به من أعمال علمية ودعوية وإغاثيـة، وأخص بالذكر والدعاء خواص طلابه الذين تواصلوا معي بعد وفاته -رحمه الله- وأخبروني بما لديهم من علم الشيخ، وأبدوا استعدادهم لتقديم كل ما لديهم، وقد وجدت منهم كل صدق وبر ووفاء، فجزاهم الله خير الجزاء على حفظهم لعلم الشيخ وإعانتهم له.
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أ.د. محمد بن عبدالله بن صالح السحيم
الرياض 15/5/1442هـ
مقدمة:
الحمد لله الذي بِنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على مَن تَرَك أُمّته على الْمَحَجّة البيضاء لَيْلُها كَنَهارِها؛ لا يَزيغ عنها إلاّ هالك. أما بعد:
فقد قال أبو ذَرّ رضي الله عنه: لَقَدْ تَرَكَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا يُقَلِّبُ طَائِرٌ جَنَاحَيْهِ فِي السَّمَاءِ إِلاّ ذَكّرنَا مِنْهُ عِلْمًا([1]).
وَلَمّا قيل لسَلْمَان رضي الله عنه: قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ؟! قَالَ: فَقَالَ: أَجَلْ لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ، أَوْ بَوْلٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ، أَوْ بِعَظْمٍ([2]).
ولَمّا كان القرآن أعظَم كِتاب، وهو آخر الكُتب وله صِفَة الدوام والاستمرار؛ فقد تكفّل الله بِحِفظِه، وقد اعتَنَت الأمّة جِيلاً بعد جِيل بِالقرآن العظيم.
ومِن هذا الباب: أحْبَبْتُ أن تكون هذه الدروس التي تُلقَى على الدُّعاة في عُلوم القرآن، ومَسائل تلتحق بها، مما يَهمّ الدُّعاة والْمُنَاظِرِين، مما لَمستُ مَسِيس الحاجة إليه في القارّة الأفريقية خاصة، وضَعْف كثير مِن الدعاة في هذا الجانب مِن العِلْم الشرعي الْمُتعلِّق بأشرف العُلوم، وهو أصلها وأساسها.
قال ابن عبدالبر: القرآن أصْل العِلْم.
وقال -رحمه الله-: طَلَب العِلم دَرَجات ومَنَاقِل ورُتَب، لا ينبغي تَعَدّيها، ومَن تَعَدّاها جُمْلة فقد تَعَدّى سَبِيل السَّلَف رحمهم الله، ومَن تَعَدّى سَبِيلهم عامِدًا ضَلّ، ومَن تَعَدّاه مُجْتَهِدا زَلّ؛ فأوّل العِلْم: حفظ كتاب الله عزّ وجَلّ وتَفَهّمه، وكُلّ مَا يُعين على فَهْمه فَوَاجِب طَلَبه معه، ولا أقول: إن حَفْظه كُلّه فَرْض، ولكني أقول: إن ذلك شَرْط لازِم على مَن أحَبّ أن يَكون عالِمًا فَقِيها نَاصِبًا نَفْسه للعِلْم، ليس مِن بَاب الفَرْض([3]).
المَبْحَث الأول نُزول القرآن
أول هذه المسائل: ما يَتعلّق بِنُزول القرآن:
كيف نَزَل القرآن الكريم؟
نَزَل جِبريلُ عليه الصلاة والسلام بِالقُرآن على قَلبِ محمد صلى الله عليه وسلم.
قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [(2) البقرة: 97]([4]).
وقال عَزّ وَجَلّ: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}[(26) الشعراء:192 - 195].
وقـال تبـارك وتعـالى: {قُــــلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [(16) النحل:102].
قال البَغَوِيّ: وَاخْتَلَفُوا فِي رُوحِ الْقُدُسِ([5])؛ قَالَ الرَّبِيعُ وَغَيْرُهُ: أَرَادَ بِالرُّوحِ الَّذِي نُفِخَ فِيهِ، وَالْقُدُسُ هُوَ اللَّهُ أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ تَكْرِيمًا وَتَخْصِيصًا، نَحْوَ بَيْتِ اللَّهِ، وَنَاقَةِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ: {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} [(66) التحريم:12]، {وَرُوحٌ مِنْهُ} [(4) النساء:171].
وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْقُدُسِ الطِّهَارَةَ، يَعْنِي: الرُّوحَ الطَّاهِرَةَ، سَمَّى رُوحَهُ قُدُسًا.
وَقِيلَ: سُمِّيَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ رُوحًا؛ لِلَطَافَتِهِ وَلِمَكَانَتِهِ مِنَ الْوَحْيِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ حَيَاةِ الْقُلُوبِ([6]).
قال ابن حَجر: وَلا يُعْــتَرَضُ بِقَــوْلِهِ تَعَــالَى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [(69) الحاقة:40]؛ لأَنَّ مَعْنَاهُ قَوْلٌ تَلَقَّاهُ عَنْ رَسُولٍ كَرِيمٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ}[(9) التوبة:6]([7]).
وقال الشيخ الشنقيطي: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} ظَاهِرُ هَذِهِ الآيَةِ يَتَوَهَّمُ مِنْهُ الْجَاهِلُ أَنَّ الْقُرْآن كَلامُ جِبْرِيلَ، مَعَ أَنَّ الآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ مُصَرِّحَةٌ بِكَثْرَةٍ بِأَنَّهُ كَلامُ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ}، وَكَقَوْلِهِ: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [(11) هود:1].
وَالْجَوَابُ وَاضِحٌ مِنْ نَفْسِ الآيَةِ؛ لأَنَّ الإِيهَامَ الْحَاصِلَ مِنْ قَوْلِهِ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ} يَدْفَعُهُ ذِكْرُ الرَّسُولِ، لأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَلامَ لِغَيْرِهِ، لَكِنَّهُ أُرْسِلَ بِتَبْلِيغِهِ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ: {لَقَوْلُ رَسُولٍ} أَيْ: تَبْلِيغُهُ عَمَّنْ أَرْسَلَهُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلا نَقْصٍ([8]).
وهكذا شأن الرُّسُل التي تَحمِل الرسائل مِن الملوك؛ إنما تُبلِّغ كلام الملوك، وإن نُسِب القول إلى الرسول؛ فيُقال: قال الرسول كذا، أو يَقول لك الرسول كذا.
ولا تُتْرَك الآيات البَيِّنَات الوَاضِحَات الْمُصَرِّحَة بأن القرآن كلام الله، وأنه مِن عِنْد الله لأجْل ما يَتَوهّمه الْجُهّال في أن القرآن قَول جِبريل!
ومما جـاء صريحا في أن القرآن مِن عِند ربّ العالمين، وأن جِبريل نَزَل به على محمد صلى الله عليه وسلم: قوله تبارك وتعالى {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}[(26) الشعراء:192- 195]، وقوله عَزّ وَجَلّ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلاً}[(76) الإنسان:23]، وغيرها من الآيات([9]).
وأما ما جاء في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}[(2) البقرة: 97]([10])، فليس فيه شُبْهَة أن مَن كان عَدُوّا لِجبريل: أنه هو الذي أنْزَل القرآن، كما يُلبّس به بعض النصارى.
والجواب عن ذلك:
أن سِيَاق الآيات في ذمّ اليهود، وفيها: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ}[(2) البقرة:94 - 96].
فكيف يُقال: إن عَدُوّ جِبريل نَزّله على قلبِك؟ وعَدوّ جبريل هُم: اليهود، فكيف يأتي الخِطاب في ذمّ اليهود ومَقْت طَرِيقَتهم، ثم يُقال: إنهم هُم الذين أنْزَلوا القرآن؟!
وبعد تلك الآية: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ}[(2) البقرة:98] يَأتي الْحُكم بِكُفْرِ مَن كان عَدُوّا لِجِبْرِيل!
وقد تكفّل الله عَزّ وَجَلّ بِجَمْع القرآن في قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فقال الله عَزّ وَجَلّ: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [(75) القيامة: 16 – 19].
قال ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} قَال: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا نَزَلَ جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ بِهِ لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ فَيَشْتَدُّ عَلَيْهِ، وَكَانَ يُعْرَفُ مِنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الآيَةَ الَّتِي فِي "لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ" ([11]): {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} قَالَ: عَلَيْنَا أَنْ نَجْمَعَهُ فِي صَدْرِكَ، وَقُرْآنَهُ فَتَقْرَؤُهُ، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} فَإِذَا أَنْزَلْنَاهُ فَاسْتَمِعْ {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَهُ بِلِسَانِكَ، قَالَ: فَكَانَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ أَطْرَقَ، فَإِذَا ذَهَبَ قَرَأَهُ كَمَا وَعَدَهُ اللَّهُ([12]).
وقــال تعـالى: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [(20) طه:114]، قال ابن عباس: يَعْنِي: لا تَعْجَلْ حَتَّى نُبَيِّنَهُ لَكَ([13]) .
قال الإمام القرطبي: عَلَّمَ نَبِيَّهُ كَيْفَ يَتَلَقَّى الْقُرْآنَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُبَادِرُ جِبْرِيلَ فَيَقْرَأُ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ جِبْرِيلُ مِنَ الْوَحْيِ حِرْصًا عَلَى الْحِفْظِ، وَشَفَقَةً عَلَى الْقُرْآنِ مَخَافَةَ النِّسْيَانِ، فَنَهَاهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَأَنْزَلَ: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ}، وهذا كَقَولِه تَعَالَى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}([14]).
وتَكَفّل الله عزّ وَجَلّ لِنَبِيِّه صلى الله عليه وسلم أن يُقْرِئه القرآن فلا يَنْسَى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى (6) إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ}[(87) الأعلى:6، 7].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: إلاّ ما شِئت أنا فأُنْسِيك ([15]) .
وَمَعْنَى الْكَلامِ: فَلا تَنْسَى إِلاّ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَنْسَاهُ وَلا تَذْكُرْهُ، قَالُوا: ذَلِكَ هُوَ مَا نَسَخَهُ اللَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ، فَرَفَعَ حُكْمَهُ وَتِلاوَتَهُ ([16]) .
ومثله ما جاء في قوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}[(10) يونس:94]، فليس فيه إثبات شكّ النبي صلى الله عليه وسلم فيما أُنْزِل عليه، فإن ما صُدِّرَت به الآية {فَإِنْ} شَرْطِيّة، ولا يَلْزَم منها ثًبوت الشك، ويدلّ عليه ما خُتِمَت به الآية {لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}، ففيه إثبات أن ما أُنْزِل إلى محمد صلى الله عليه وسلم هو الحقّ.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم على يَقِين مما أُوحِي إليه، ولذلك لم يَسأل.
قال سَعِيد بن جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} قَالَ: مَا شَكَّ، وَمَا سَأَلَ([17]).
وفي الآية قَول: أن الْمُخاطَب بها غير رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال القرطبي: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ، أَيْ لَسْتَ فِي شَكٍّ وَلَكِنْ غَيْرُكَ شَكَّ.
قَالَ أَبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الزَّاهِدُ: سَمِعْتُ الإِمَامَيْنِ ثَعْلَبًا وَالْمُبَرِّدَ يَقُولانِ: مَعْنَى {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} أَيْ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْكَافِرِ: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} أَيْ: يَا عَابِدَ الْوَثَنِ إِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِنَ الْقُرْآنِ فَاسْأَلْ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْيَهُودِ، يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلامٍ وَأَمْثَالَهُ؛ لأَنَّ عَبَدَةَ الأَوْثَانِ كَانُوا يُقِرُّونَ لِلْيَهُودِ أَنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْهُمْ مِنْ أَجْل أَنَّهُمْ أَصْحَابُ كِتَابٍ، فَدَعَاهُمُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَنْ يَسْأَلُوا مَنْ يُقِرُّونَ بِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْهُمْ، هَلْ يَبْعَثُ اللَّهُ بِرَسُولٍ مِنْ بَعْدِ مُوسَى. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: هَذَا خِطَابٌ لِمَنْ كَانَ لا يَقْطَعُ بِتَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ وَلا بِتَصْدِيقِهِ صلى الله عليه وسلم، بَلْ كَانَ فِي شَكٍّ ([18]).
وهذه الآية مثل قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} [(11) هود:17] قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ، وَالْقُرْآنُ يَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ أَيْضًا مِنَ اللَّهِ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ([19]).
متى بدأ نُزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال إبراهيم بن المنذر الْحِزَامِي: لا يَشك أحدٌ مِن عُلمائنا أنه عليه الصلاة والسلام وُلِد عام الفِيل، وبُعِث على رأس أربعين سَنَة مِن الفَيل([20]).
فإذا كان عام الفيل هو عام 570م([21])، فيكون ابتداء نُزُول الوَحْي في عام 610م.
تَنَزّلات القرآن:
قال د. فضل عباس: هل للقُرآن الكريم أكثر مِن تَنَزُّل؟
لكي يَتَبَيّن لنا هذا الأمر تبيّنًا تامًّا ينبغي أن نَقِف أمام هذه الآيات الكريمة:
1- قال تعالى {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ} [(2) البقرة:185].
2- قال سبحانه {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} [(44) الدخان: 1 -3].
3- قال سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [(97) القَدْر: 1].
هذه الآيات الكريمة تبيِّن أنَّ القرآن الكريم أُنْزِل في رمضان، وأنَه أُنزِل في ليلةٍ مباركَة، وأنَّ هذه الليلة المُباركَة هي ليلة القَدر.
ولكن ما معنى نزول القرآن في ليلة القَدر؟ اختلف العلماءُ في ذلك على أقوال:
القول الأول: ذَهَب بعض العلماء إلى أنَّ القرآن الكريم نزل كُلُّه دفعةً واحدة في ليلةِ القَدر مِن اللوحِ المحفوظ إلى بيتِ العِزَّةِ مِن السماءِ الدُّنيا.
ثُمَّ نزلَ مِن سماءِ الدُّنيا على قلبِ النبي صلى الله عليه وسلم مُنجَّمًا في بِضعٍ وعشرين سَنة. وقد استَدَلُّوا على ما ذهبوا إليه بآثار موقوفة عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما وبعض الأحاديثِ المرفوعةِ التي لم تَصِح.
القول الثاني: إنَّ هناك تَنَزُّلاً واحِدًا للقرآنِ الكريم، وهو نُزوله على النبي صلى الله عليه وسلم في ليةِ القَدر، في شهرِ رمضان، ولكن الذي نَزَل على النبي صلى الله عليه وسلم إنما هي الآياتُ الأولى مِن سُورة اقرأ، فكيف تُفسِّر قوله؟ قالوا: إن الأمور العظيمة والشؤون الخطيرة يؤرَّخ دائمًا بِبدْئها فمعنى قوله سبحانه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} أي: الذي اُبتُدِئ فيه نزول القرآن عليك أيها النَّبيُ.
وكذلِك يُقال في قوله سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} و{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} أي: ابْتَدَأنا إنْزَالَه.
القول الثالِث: يُجمِعُ العلماء على أنَّ القرآن الكريم كما يُطلَق على القرآنِ كُلّه فإنَّهُ يُطلَـق على الآية والآيتين؛ وعلى هذا فمَعنى قَوله سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} أي: أنزلنا الآيات الأولى، وهي الآيات الْخَمس مِن سُورةِ العَلَق (96)([22]).
ومثله: قَولك: قَرأتُ القرآن، وأنت تريد قرأت شيئا من القرآن.
ومِنه: قول النبي صلى الله عليه وسلم لابنِ مَسعود رضي الله عنه: اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ. قُلْتُ: أقْرَأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي، فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى بَلَغْتُ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} قَالَ: أَمْسِكْ، فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ([23]).
فَابْنُ مَسعود لَم يَقرأ على النبي صلى الله عليه وسلم كُلّ القرآن، وإنما قرأ عليه نحو (40) آية مِن سُورة النساء.
قال ابن حجر في شرح حديث ابن عباس: "وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ"([24]): وفي الحديث إطلاق القُرآن على بَعضه وعلى مُعْظَمِه؛ لأن أوّل رَمضان مِن بَعد البِعثة لم يَكن نَزَل مِن القرآن إلاّ بَعضه، ثم كذلك كُلّ رمضان بَعده إلى رمضان الأخير فكان قد نَزَل كُلّه... ومِن ثَم لا يَحنث مَن حَلف لَيَقْرَأن القُرآن، فَقَرأ بَعضه إلاّ إن قَصَد الجميع([25]).
الموازنة بين هذه الأقوال:
يَبْدُو لنا - والله أعلم بالصّواب - أن الراجح هو القَولان الأخِيران، فهُما مُتَقَارِبان بل يَكادان يَكونان قولاً واحِدًا؛ فإنَّ ابتداءَ الإنزالِ في الشَّهرِ الكريمِ والليلةِ الْمُبارَكةِ معناه أنْزَل بعض الآيات، وإنما اخترت هذا القول لِما يلي:
أولاً: لأنَّ القولَ بأنَّ القرآنَ الكريم أُنزِل مِن اللوحِ المحفوظ إلى سماءِ الدُّنيا في ليلةِ القَدرِ في رمضان، لم يَصِل إلينا مِن كتابٍ أو سُنَّةٍ صحيحة، وإنما وَردتْ آثار مَوقوفة عن ابن عباس رضي الله عنهما وهي تحتاج إلى تمحيصٍ مِن حيث أسانيدها. والقول بأنَّ مِثل هذا لا يمكِن أن يكونَ رأيًا لابن عباس غير مُسلَّم، فقد يكون ابن عباس فَهِم الآية هذا الفَهم إنْ صحَّت هذه الأقوال عنه.
ثانيًا: يَلزم على القولِ الأوَّل، وهو أنَّ القرآن الكريم أُنزِل في شهرِ رمضان دُفعة واحدة إلى السماءِ الدُّنيا، عدم نُزولِه على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في رمضان؛ لأنهم يَرَون أنَّ الذي ذَكَرتْه الآيات في حديثها عن نزولِ القرآن في رمضان هو نزوله دفعة واحِدة إلى السماء الدُّنيا.
وهذا غير مُسلَّم به؛ فإنَّ الذي أجمعتْ عليه الأُمَّة إجماعًا مُستنِدًا إلى السُّنَّةِ الصحيحة وإلى الكتابِ الكريم هو أنَّ القرآن نَزَل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في رمضان.
ثالثًا: إنَّ الْمُتَدَبِرَ للآيةِ الكريمةِ يَجزِم - بما لا َيَحتمِل شَكًّا - بأنها تَتحدّث عن نُزول القرآن على النبي عليه الصلاة والسلام، فَلْنَتَدَبّر هذه الآية الكريمة {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ}، فلو كان المقصود نُزُوله إلى سماء الدنيا لم يكُنْ هناك كبير فائدة في قوله تعالى: {هُدًى لِّلنَّاسِ}، إنما الأمر الذي يطمئن إليه القلبُ، وتستريح إليه النَّفسُ، هو أنَّ القرآن نَزَل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هُدى للناس([26]).
ويَبْدُو لي أنه لا تَعارض بين الأقوال الثلاثة، ويُمكن الْجَمْع بين الأقوال: بأن القَول الأول لا يَعني نَفْي القولين الأخيرين، وذلك بأن نُزول القرآن للسماء الدُّنيا إنما هو إعلام بِنُزول القرآن.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: أُنْزِل القرآن جملة واحدة على جبريل في ليلة القَدْر، فكان لا يَنْزِل منه إلاّ بأمْرٍ([27]).
وقال ابن جريج: كان يَنْزل مِن القرآن في ليلة القدر كل شيء يَنْزل مِن القرآن في تلك السَّنَة، فَنَزَل ذلك مِن السّماء السابِعة على جبريل في السماء الدّنيا، فلا يَنْزل جبريل مِن ذلك على محمد إلاّ ما أمَره به.
وهو مُتوافِق مع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مِن نُزول الأمر، وهو الوَحي وغيره.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِذَا قَضَى اللَّهُ الأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلاَئِكَةُ بِأَجْنِحَتِهِا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ، كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا لِلَّذِي قَالَ: الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ([28]).
وقال ابنُ مسعود رضي الله عنه: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: إذا تَكَلَّم الله بالوَحي سَمِع أهل السماء للسماء صَلْصَلة كَجَرّ السلسلة على الصَّفَا، فيُصعَقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل عليه السلام، حتى إذا جاءهم جبريل فُزِّع عن قلوبهم، قال: فيقولون: يا جبريل، ماذا قال ربك؟ فيقول: الحق، فيقولون: الحقّ، الحقّ([29]).
وهو مُتوافِق مع قوله تبارك وتعالى:{حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [(34) سبأ:23].
وأسانيد رِوايات القرآن الكريم مِن القارئ الذي يَقرأ القرآن اليوم بالإسناد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جبريل عن ربّ العالمين.
وسَواء تَلقّاه جِبريل مِن ربّ العالمين مُبَاشَرَة، أو أمَرَه الله تعالى أن يأخُذه مِن الكتاب الذي في السماء الدنيا؛ لا يَخرُج عن كونه كلام الله عَزّ وَجَلّ وَوَحْيه([30]).
والقرآن مَحفوظ في اللوح المحفوظ، كما قال ربّ العِزّة سبحانه وتعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [(85) البروج:21، 22].
وهو الكتاب الْمَكْنون: {إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [(56) الواقعة:77-80].
قال الإمام السَّمْعَاني: قوله: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} أي: مَصُون، وقد فُسِّر باللّوح المحفوظ، وفُسِّر أيضا بِكِتاب في السماء عند الملائكة فيه القرآن ([31]).
وما كان جبريل يَنْزِل بالوَحي إلاّ بأمْر ربّه تبارك وتعالى.
قال الله عَزّ وَجَلّ: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [(19) مريم:64].
قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِجِبْرِيلَ: مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَزُورَنَا أَكْثَرَ مِمَّا تَزُورُنَا؟ فَنَزَلَتْ: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا}([32]).
المَبْحَث الثاني كتابة القرآن وحِفظه في زمن النبي (صلى الله عليه وسلم)
كيف كان القُرآن يُحفَظ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
كان العَرَب أُمّة أُمّيّة، لا تَقرأ ولا تَكتُب إلاّ قليلا؛ فَكَان اعتمادهم على الحفظ أكثر مِن اعتمادهم على الكتابة، ومع ذلك فقد حُفِظ القرآن بِطريقتين: الْحِفظ في الصدور، والكِتابة في السُّطُور.
فَكان لِرسول الله صلى الله عليه وسلم كُتّاب يَكتُبون له الوَحي، فإذا نَزَل الوَحي دَعا أحد الكُتّاب، فَأمَره أن يَكتب له ما نَزَل عليه مِن القرآن، ثم حَفَظِه الصحابة، فإن لَم يَحفَظوه كُلّهم حَفِظَه الْحُفّاظ منهم؛ رِجالاً ونساء؛ فالْمُجتَمَع المسلم كلّه كان يَعيش مع القرآن.
قالتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: يَرْحَمُ اللهُ نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الأُوَلَ؛ لَمَّا أَنْزَلَ اللهُ: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [(24) النور: 31] شَقَّقْنَ مُرُوطَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهَا([33]).
وفي رواية: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ}: انْقَلَبَ رِجَالٌ مِنَ الأَنْصَارِ إِلَى نِسَائِهِمْ يِتْلُونَهَا عَلَيْهِنَّ([34]).
وفي رواية: لَقَدْ أُنْزِلَتْ سُورَةُ النُّورِ: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}: انْقَلَبَ رِجَالُهُنَّ إِلَيْهِنَّ يَتْلُونَ عَلَيْهِنَّ مَا أُنْزِلَ إليهن فيها، ويتلوا الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ وَابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ، وَعَلَى كُلِّ ذِي قَرَابَتِهِ([35]).
والشاهِد مِن هذا: أن المجتَمَع كلّه كان يَتَناقَل الوَحي مُشَافَهَة حتى يَصِل إلى النساء في البيوت، بالإضافة إلى أنه يُكتَب في الوَقْت نفسه.
متى كان يُكْتَب الوَحي بعد نُزوله؟
كان الوحي يُكتَب بعد نُزوله مُبَاشَرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يُؤجَّل إلى غَدٍ أو بعد غَد؛ فَكَان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَدْعو الكَاتِب ليَكتُب الوَحي بعد نُزُوله.
قَالَ الْبَرَاء رضي الله عنه: لَمَّا نَزَلَتْ {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ} قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ادْعُ لِي زَيْدًا، وَلْيَجِيء بِاللَّوْحِ وَالدَّوَاةِ وَالْكَتِفِ، أَوِ الْكَتِفِ وَالدَّوَاةِ، ثُمَّ قَالَ: اكْتُبْ {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ} وَخَلْفَ ظَهْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَمْرُو بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الأَعْمَى قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ فَمَا تَأْمُرُنِي؟ فَإِنِّي رَجُلٌ ضَرِيرُ الْبَصَرِ، فَنَزَلَتْ مَكَانَهَا: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [(4) النساء:95] ([36]).
وزيد هو: ابن ثابِت، وهو أحد كُتّاب الوَحي، وهو أحَد أذكياء الأُمّة الإسلامية، فقد تعلّم لُغة اليهود في خمسَة عشر يَومًا.
قـال زَيْد بن ثَابِت رضي الله عنه: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، ذُهِبَ بِي إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأُعْجِبَ بِي، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا غُلَامٌ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، مَعَهُ مِمَّا أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ بِضْعَ عَشْرَةَ سُورَةً، فَأَعْجَبَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: يَا زَيْدُ، تَعَلَّمْ لِي كِتَابَ يَهُودَ، فَإِنِّي وَاللهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابِي. قَالَ زَيْدٌ: فَتَعَلَّمْتُ لَهُ كِتَابَهُمْ([37])، مَا مَرَّتْ بِي خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً([38]) حَتَّى حَذَقْتُهُ، وَكُنْتُ أَقْرَأُ لَهُ كُتُبَهُمْ إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ، وَأُجِيبُ عَنْهُ إِذَا كَتَبَ([39]).
فإذا كان زَيْد بن ثَابِت رضي الله عنه قد تعلّم بِضعة عَشر سُورة قَبْل هِجرة النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يكون تعلّمه بعد الهجرة ومُلازَمته للنبي صلى الله عليه وسلم؟!
وقد اخْتَبَرَه النبي صلى الله عليه وسلم، ففي رواية البخاري في "التاريخ الكبير"([40]): فاسْتَقرَأَنِي، فَقَرَأتُ. أي: طَلَب مِنّي أن أقرأ.
كَم كان عَدَد كُـتَّاب الـْوَحْي؟
بَلَغ عَدد الذين كانوا يَكتُبون لِرَسول الله صلى الله عليه وسلم: (17) نَفْسًا.
قال ابن القيم في ذِكْر كُتّابِه صلى الله عليه وسلم:
أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والزبير، وعامِر بن فُهَيرة، وعَمرو بن العاص، وأُبَيّ بن كعب، وعبد الله بن الأرْقَم، وثابت بن قَيس بن شَمّاس، وحَنظلة بن الرَّبِيع الأُسَيْدِي([41])، والمغيرة بن شعبة، وعبدالله بن رَوَاحة، وخالد بن الوليد، وخالد بن سعيد بن العاص – وقيل: إنه أوّل مَن كتب له - ومعاوية بن أبي سفيان، وزَيد بن ثابت، وكان ألْزَمَهم لهذا الشأن وأخَصَّهم به([42]).
وفي صحيح مُسلِم([43]) أنّ أبا سفيان رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا – ومنها – قال: ومعاوية تَجْعَله كَاتِبًا بَيْن يَدَيك، قال: نعم.
فالذي يَطْعَن في معاوية رضي الله عنه يَطعَن في القرآن؛ لأن معاوية أحَد كُتّاب الوَحي بهذا الْخَبَر الثابِت.
مُراجَعَة القرآن:
كانت مُراجَعَة ما نَزَل مِن القرآن تَتِمّ كُلّ سَنَة، ففي حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ([44]).
وفي رواية لِمسلم: إِنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام كَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ فِي رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ، فَيَعْرِضُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنَ.
قال ابن حجر: "فَيُدَارِسُه القُرآن" ظاهِره إن كُلاًّ منهما كان يَقرأ على الآخَر، وهي مُوَافِقة لِقَوله: "يُعَارِضُه" فيَستَدعِي ذلك زَمانا زائدا على ما لو قَرأ الوَاحِد([45]).
وفائدة هذه المراجَعَة:
إثبَـات الْمُحْكَم، وتَرْك ما نُسِخَت تلاوته، وتَثْبِيت القرآن في قَلْب النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام عَامِر الشَّعْبِيّ: كَانَ اللَّهُ تَعَالَى يُنْزِلُ الْقُرْآنَ السَّنَةَ كُلَّهَا، فَإِذَا كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ عَارَضَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِالْقُرْآنِ، فَيَنْسَخُ مَا يَنْسَخُ، وَيُثْبِتُ مَا يُثَبِتُ وَيُحْكِمُ مَا يُحْكِمُ، وَيُنْسِئُ مَا يُنْسِئُ([46]).
فَلمّا اكْتَمَل نُزول القرآن تَمّت مُرَاجَعته مرّتين.
قَالَتْ فاطمة رضي الله عنها: أَسَرَّ إِلَيَّ([47]) إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي الْقُرْآنَ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ عَارَضَنِي الْعَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلا أُرَاهُ إِلاّ حَضَرَ أَجَلِي([48]).
و"لقد جاءت رواياتٌ كثيرة وأقوال عن العَرْضَة الأخيرة، وهي العَرْضَة الثانية مِن شهر رمضان الذي كان في السَّنة العاشرة مِن الهِجرة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عَرَض القرآنَ على جبريل مَرّتين..
والذي أطمئنُّ له وأَدِين به، وألْقَى الله عليه: أنَّ العَرْضَة الأخيرة كان الهـدف منها زيادة تَثْبِيت للقرآن الكـريم، وزيـادة التّثْبِيت للرّسـول عليه الصلاة والسـلام، وقد شَرُفتْ الحياة بالنبي عليه الصلاة والسلام بعد هـذه العَرْضة بما يزيد على سِتّة أشهُر، كانت كَافِية أن يَعلَم كثيرٌ مِن الصحابـة رضـوان الله عليهم ويَتَعَلّمُـوا الوَضْع الأخير للقرآنِ الكريم، كما هو عليه الآن في المصحف([49]).
وقد نَزَلت بعض الآيات في تلك السِّتّة أشهر، كما سيأتي.
المَبْحَث الثالث جمْع القرآن في عهد الصحابة (رضي الله عنهم)
متى كُتِب القُرآن وجُمِع في المصحف؟
أوّل جَمْع للقُرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه، ففي صحيح البخاري([50]) أنّ زَيْد بن ثَابِتٍ الأَنْصَارِيَّ رضي الله عنه - وَكَانَ مِمَّنْ يَكْتُبُ الْوَحْيَ - قَالَ: أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ وَعِنْدَهُ عُمَرُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ: إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ([51]) يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِالنَّاسِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ فِي الْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ إِلاَّ أَنْ تَجْمَعُوهُ، وَإِنِّي لأَرَى أَنْ تَجْمَعَ الْقُرْآنَ... فَقَالَ أَبُو بَكْر([52]): إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ، وَلا نَتَّهِمُكَ؛ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَتَتَبَّعِ الْقُـرْآنَ فَاجْمَعْهُ، فَوَ اللهِ لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُـرْآنِ، قُلْـتُ: كَيْفَ تَفْعَلانِ([53]) شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ وَاللهِ خَيْرٌ، فَلَمْ أَزَلْ أُرَاجِعُهُ حَتَّى شَرَحَ اللهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ اللهُ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقُمْتُ فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ الرِّقَاعِ وَالأَكْتَافِ وَالْعُسُبِ([54])، وَصُدُورِ الرِّجَالِ([55])، حَتَّى وَجَدْتُ مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَتَيْنِ مَعَ خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهُمَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} [(9) التوبة:128] إِلَى آخِرِهِمَا، وَكَانَتِ الصُّحُفُ الَّتِي جُمِعَ فِيهَا الْقُرْآنُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ([56]).
وهذا الجمع الأول، وهو جَمْع مُبكِّر لِحْفظ القرآن مِن الذهاب، إذْ كان هذا الْجَمْع بعد وَفَاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأقَلّ مِن سَنة، أو خِلال سَنَة مِن وَفَاتِه.
إذْ بُدئ بِجَمْعه عَقِب وَفَاة النبي صلى الله عليه وسلم بِوَقتٍ قصير، وذلك بعد مَقْتَل القُرّاء في اليمامة، وذلك بعد سَنَةِ إِحْدَى عَشْرَةَ من الهجرة النبوية([57])؛ وذلك في أول سَنة اثنتي عَشرة مِن الهجرة، أي: بعد أقلّ مِن سَنة مِن وَفاة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كانت وَفَاته صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول مِن سَنَةِ إحدَى عَشْرَة من الهجرة([58]).
قال ابن حجر: قَوْلُهُ: "مَقْتَلُ أَهْلِ الْيَمَامَةِ"، أَيْ: عَقِبَ قَتْلِ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، وَالْمُرَادُ بِأَهْلِ الْيَمَامَةِ هُنَا: مَنْ قُتِلَ بِهَا مِنَ الصَّحَابَةِ فِي الْوَقْعَةِ مَعَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ([59]).
وقال ابن كثير: قَالَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ وَخَلْقٌ مِنَ السَّلَفِ: كَانَتْ وَقْعَةُ الْيَمَامَةِ فِي سَنَةِ إِحْدَى عَشْرَةَ. وَقَالَ ابْنُ قَانِعٍ: فِي آخِرِهَا. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ وَآخَرُونَ: كَانَتْ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ. وَالْجَمْعُ بَيْنَهَا أَنَّ ابْتِدَاءَهَا فِي سِنَةِ إِحْدَى عَشْرَةَ، وَالْفَرَاغَ مِنْهَا فِي سَنَةِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ([60]).
وهنا يَرِد سؤال: كَم كان بين موسى عليه الصلاة والسلام وبَيْن كِتابة ما بأيدي اليهود؟
وكم كان بين عيسى عليه الصلاة والسلام وبين كِتابة الأناجيل؟
قال ابن حزم: كثير مِن نَقْل اليهود -بل هو أعلى ما عندهم - إلاّ أنهم لا يَقرَبون فيه مِن مُوسى كَقُرْبِنا فيه مِن محمد صلى الله عليه وسلم، بل يَقِفُون ولا بُدّ حيث بينهم وبين موسى عليه السلام أزيَد مِن ثلاثين عصراً في أزْيَد مِن ألْف وخمسمائة عام، وإنما يَبْلُغون بالنَّقْل إلى هلال وشماني ومَرْعقيما وأمثالهم... وأما النصارى فليس عندهم مِن صفة هذا النَّقْل إلاّ تحريم الطلاق وَحده فقط، على أن مَخْرَجه مِن كَذّاب قد صَحّ كَذِبه!([61]).
وقال ابن كثير: وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ الإِنْجِيلَ نَقَلَهُ عَنْهُ أَرْبَعَةٌ: لُوقَا، وَمَتَّى وَمُرْقُسُ، وَيُوحَنَّا([62]). وَبَيْنَ هَذِهِ الأَنَاجِيلِ الأَرْبَعَةِ تَفَاوُتٌ كَثِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ نُسْخَةٍ وَنُسْخَةٍ، وَزِيَادَاتٌ كَثِيرَةٌ وَنَقْصٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الأُخْرَى([63])، وَهَؤُلاءِ الأَرْبَعَةُ مِنْهُمُ اثْنَانِ مِمَّنْ أَدْرَكَ الْمَسِيحَ وَرَآهُ، وَهُمَا مَتَّى وَيُوحَنَّا، وَمِنْهُمُ اثْنَانِ مِنْ أَصْحَابِ أَصْحَابِهِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - وَهُمَا مُرْقُسُ وَلُوقَا([64]).
وجَمْع زيد للقرآن إنما كان جَمْعًا لِمَا هو مكتوب ومُوافِق لِمَا هو محفوظ، فَقَوْل زَيد رضي الله عنه: فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ الرِّقَاعِ وَالأَكْتَافِ وَالْعُسُبِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ. يَعني: أنه جَمَع ما كان مَكتُوبا مَحفُوظا عند الصحابة بِطَرِيقَين: الحفظ في الصّدُور والكِتابة.
قال القَسطلاّني: وغايَته جَمْع ما كان مَكتُوبًا([65]).
ويدلّ عليه قَوْل زيد رضي الله عنه: أَجْمَعُهُ مِنَ الرِّقَاعِ وَالأَكْتَافِ وَالْعُسُبِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ. ولَم يَعتَمِد زيد رضي الله عنه على حِفْظِه وَحْدَه، بل جَمَع القرآن المكتوب وقابَلَه على المحفوظ في صُدور الرِّجَال.
قال القسطلاّني: "وصُدور الرِّجال" حيث لا يَجد ذلك مكتوبًا، أو الواو بمعنى "مَع" أي: أكْتُبُه مِن المكتُوب الموافِق للمَحفُوظ في الصُّدُور([66]).
وأما قوله: حَتَّى وَجَدْتُ مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَتَيْنِ مَعَ خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهُمَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ؛ فإنما وَجدها مكتوبة معه، وليس معناه أنه لم يَكن يحفظها غيره؛ لأن حُفّــاظ القرآن يَحفظـونه كاملا، وهُم كُثُر، ومنهم كاتِب الوَحي زيد بن ثابت نَفْسه.
وكذلك قوله: لَمَّا نَسَخْنَا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ فَقَدْتُ آيَةً مِنْ سُورَةِ الأَحْزَابِ كُنْتُ كَثِيرًا أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَؤُهَا لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ إِلاّ مَعَ خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِيِّ الَّذِي جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَهَادَتَهُ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ: {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [(33)ا لأحزاب:23] ([67]).
قال الإمام البَغـوي: قَوْلُهُ: "لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ إِلا مَعَ خُزَيْمَةَ " لَيْسَ فِيهِ إِثْبَاتُ الْقُرْآنِ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ، لأَنَّ زَيْدًا كَانَ قَدْ سَمِعَهَا، وَعَلِمَ مَوْضِعَهَا مِن سُورة الأحزاب بِتَعليم النبي صلى الله عليه وسلم، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ نَسِيَهَا، فَلَمَّا سَمِعَ ذَكَرَ، وَتَتَبُّعُهُ الرِّجَالَ فِي جَمْعِهِ كَانَ لِلاسْتِظْهَارِ، لا لاسْـتِحْدَاثِ الْعِلْمِ، فَقَـــدْ صَحَّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ سُئِلَ: مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْـدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ مِنَ الأَنْصَارِ: أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو زَيْدٍ([68]).
وَقَدْ شَركَهُمْ غَيْرُهُمْ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ هَؤُلاءِ أَشَدَّ اشْتِهَارًا([69]).
حفّاظ القرآن من الصحابة:
ممن اشتَهر بِحِفظ القرآن وكِتابَته: عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خُذُوا القُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَسَالِمٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ([70]).
وهذا لا يُراد به الْحَصْر. "وتخصيص هؤلاء الأربَعة بالذِّكْر دون غيرهم ممن حَفِظ القرآن مِن الصحابة رضي الله عنهم وهُم عَدَد كثير؛ لأنَّ هؤلاء الأربعة هم الذين تَفَرّغوا لإقراء القرآن وتعليمه دون غيرهم ممن اشتغل بغير ذلك مِن العلوم، أو العبادات، أو الجهاد، وغير ذلك، ويحتمل أن يكون ذلك مِن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عَلِم أنهم هُم الذين يَنْتَصِبُون لِتَعْلِيم الناس القرآن بعده، وليُؤخَذ عنهم؛ فأحَال عليهم لِمَا عَلِم مِن مآل أمْرِهم، كما قد أظهر الموجود مِن حالهم؛ إذْ هُم أئمة القُرَّاء، وإليهم تَنْتَهِي في الغالب أسانيد الفُضَلاء"([71]).
"فالظَّـاهِرُ أَنَّهُ أَمَرَ بِالأَخْذِ عَنْهُمْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي صَدَرَ فِيهِ ذَلِكَ الْقَوْلُ، وَلا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لا يَكُونَ أَحَــدٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ شَارَكَهُمْ فِي حِفْظِ الْقُرْآنِ، بَلْ كَانَ الَّذِيـنَ يَحْفَظُونَ مِثْلَ الَّذِينَ حَفِظُـوهُ وَأَزْيَدُ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ"([72]).
قال القرطبي: قَالَ ابْنُ الطَّيِّبِ رضي الله عنه ([73]): لا تَدُلُّ هَذِهِ الآثَارُ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَحْفَظْهُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَجْمَعْهُ غَيْرُ أَرْبَعَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ، كَمَا قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، فَقَدْ ثَبَتَ بِالطُّرُقِ الْمُتَوَاتِرَةِ أَنَّهُ جَمَعَ الْقُرْآنَ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ، وَتَمِيمٌ الدَّارِيُّ، وَعُبَــادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنُ الْعَاصِ. فَقَوْلُ أَنَسٍ: "لَمْ يَجْمَعِ الْقُرْآنَ غَيْرُ أَرْبَعَــةٍ"، يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَجْمَعِ الْقُــرْآنَ وَأَخَــذَهُ تَلْقِينًا مِنْ رسول صلى الله عليه وسلم غَيْرَ تِلْكَ الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ أَخَذَ بَعْضُهُ عَنْهُ وَبَعْضُهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَقَدْ تَظَــاهَرَتِ الرِّوَايَاتُ بِأَنَّ الأَئِمَّـةَ الأَرْبَعَــةَ([74]) جَمَعُـوا الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لأَجْلِ سَبْقِهِمْ إِلَى الإِسْلامِ، وَإِعْظَامِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لَهُمْ. قُلْتُ: لَمْ يَذْكُرِ الْقَاضِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، وسَالِمًا مولى أبي حُذيفة رضي الله عنهم فِيمَا رَأَيْتُ، وَهُمَا مِمَّنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ([75]).
وقال ابن كثير: وَمَعْنَى قَوْلِ أَنَسٍ: "وَلَمْ يَجْمَعِ الْقُرْآنَ": يَعْنِي مِنَ الأَنْصَارِ سِوَى هَؤُلاءِ، وَإِلاّ فَمِنَ الْمُهَاجِرِينَ جَمَاعَةٌ كَانُوا يَجْمَعُونَ الْقُرْآنَ كالصِّدِّيق، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَغَيْرُهُمْ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الأَشْعَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَدْ عُلِمَ بِالاضْطِرَارِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدَّمَ أَبَا بَكْرٍ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ لِيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ([76])، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لِيَؤُمَّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ"([77])، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الصِّدِّيقُ أَقْرَأَ الْقَوْمِ لَمَا قَدَّمَهُ عَلَيْهِمْ([78]).
وكان ابن مسعود رضي الله عنه ممن يُمْلِي القُرآن مِن حِفظِه.
(قال قَيس بن مَروان أتَيتُ عُمرَ رضي الله عنه فقلتُ: جئت يا أمير المؤمنين مِن الكوفة، وتَرَكْت بها رَجُلا يُمْلِي المصاحف عن ظَهر قَلبِه، فغَضِب وانْتَفَخ([79]) حتى كاد يملأ ما بين شُعبَتيّ الرَّحْل، فقال: ومَن هو وَيحك؟ قال: عبدالله ابن مسعود، فمَا زال يُطْفَأ وَيُسَرَّى عنه الغضب حتى عاد إلى حَالِه التي كان عليها، ثم قال: ويحك ! والله ما أعلمه بَقِي مِن الناس أحَد هو أحَقّ بِذلك منه، وسأُحَدِّثك عن ذلك، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يَزال يَسْمُر عند أبي بكر رضي الله عنه الليلة كَذاك في الأمر مِن أمْر المسلمين، وإنه سَمَر عنده ذات ليلة وأنا معه، فَخَرَج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخَرَجْنَا معه، فإذا رَجلٌ قائم يُصَلِّي في المسجد، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يَستمع قراءته، فلما كِدْنا أن نعرفه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن سَرّه أن يقرأ القرآن رَطْبا كما أُنْزِل فليَقرَأه على قِراءة ابن أمّ عبد)([80]).
وفي هذه القصّة: شِدّة محافَظة الأمّة على القرآن؛ حتى يُبلَّغ خَلِيفة المسلمين بِحَال رَجُل في العراق يُمْلِي القرآن مِن حِفْظِه، ويَغضب الخلِيفَة لذلك، ثم يَسْكن لَمّا اُخْبِر بأنه مَن شَهِد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بِصِحّة قِرَاءته.
وكان ابن عمر رضي الله عنهما ممّن حَفِظَ الْقُرْآنَ:
قال ابن عبدالبَرّ: وَكَانَ ابن عُمَرَ فَاضِلا، وَقَدْ حَفِظَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ: عُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وابن مَسْعُودٍ، وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَغَيْرُهُمْ([81]).
وممن حَفِظ القرآن مِن الصحابة:
عبدالله بن السائب رضي الله عنه.
قال مجاهد: كُنّا نَفْخَر على الناس بِقَارِئنا عبدالله بن السائب([82]).
ومَسلَمَة بن مَخْلَد الأنصاري رضي الله عنه.
قال مجاهـــد: كنت أفخر الناس بالحفظ للقرآن حتى صَلَّيْتُ خَلْف مَسلَمة بن مَخلَد، فافْتَتَح "البَقرة" فمَا أخطأ فيها وَاوًا، ولا ألِفًا([83]).
وتميم الداري رضي الله عنه.
قال السائب بن يزيد رضي الله عنه: جَمَع عُمر الناس على أُبَيّ بن كعب وتميم الداري([84]).
وغيرهم كثير، كما في حال أهل الصُّفَّة، الذين لازَمُوا مَسجِد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن لهم أعمال تُلْهِيهم، وإنما تَفرّغوا للعبادة، ومنها: قِراءة القرآن وحِفظه.
قال البَاقِلاني: "ولقد كَثُر حفَّاظ القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وانْتَشَروا، وعُرِفُوا به حتى كانوا يُدْعَون أهلَ القرآن، وقُرّاءَ القرآن، والقَرَأةَ مِن الصحابة، ويُنادَوْن به في المغازي وعندَ المعترَك وشِدّة الحاجة إلى الجهاد والإذْكَار بالآخِرة، ويَتَنَادَون بأصحاب سُورة البقرة...
وأهل الصُّفَّة الذين كانوا مُتَبَتّلِين([85]) لِعِبَادة ربهم، ومُنْتَصِبين لِقِراءة القرآن ولِحِفْظِه، وأخذِ أنفسهم به، ولعل سائرَ أهل الصفة كانوا حُفّاظا لكتاب الله جلَّ وعزَّ على ما يُوجِبه ويَقتَضِيه ظاهرُ حالهم، لأنهم لم يكن لهم في زَمَن رسول الله صلى الله عليه وسلم عملٌ ولا معيشةٌ ولا حِرْفة غيرُ مُلازَمة المسجد والصلاة وتعلّم القرآن والتّشاغُل بِصالح الأعمال، لا يَتَشَاغَلُون بِشيء سِوى ذلك، وكان الناس قد عَرَفُوهم بذلك فكانوا لأجْل ما ذَكَرناه مِن أحوالهم يَحنُون عليهم، ويُؤثِرونهم على أنفسهم، ويُرَاعون أمُورهم، ويُشرِكونهم في أقْوَاتهم، ويَرَون تَفْضيلَهم على أنفسهم، وإجارتَهم عظيمَ الفضل بما انقطعوا إليه مِن التّشاغل بأمْر الآخرة والانتصابِ لحفظ القرآن وتدارسه والصلاةِ به.
والأشْبَهُ بمَن هو دون هؤلاء في الفَضل والدِّين وحُسن البصائر، وثاقب الأفهام، وصحة القَرائح والنحائر، وسُرعة الحفظ والاقتدار على الكلام، وحِفظ ما قَصُر وطال: أن لا يُبطئوا ويَتَخَلّفُوا عن حِفظ القرآن الذي هو أصلُ دينهم، وعِمادُ شريعتهم، وأفضلُ أعمالهم، وأعظمه ثوابا عند الله تعالى، فَوَضْعُ العادةِ يقتضي إحاطةَ جميع أهل الصفّةِ بِحفظ جميع ما كان يَنْزلُ مِن كتاب الله تعالى"([86]).
و"أَهْلُ الصُّفَّةِ كَانُوا نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ رَجُلٍ"([87]).
"ولقد اتّسَع حِفظُ القرآن في الناس في زَمن عمرَ بن الخطاب رِضوانُ الله عليه، وكَثُر حُفّاظه والقائمون به، والتّالُون له، حتى إنه كان لهم في ذلك هَيْعَةٌ وضَجّةٌ وأمرٌ عظيمٌ مشهور"([88]).
وأما الْجَمْع الثاني؛ فقد تضمّن:
جَمْع القرآن وترتيب الآيات كما أمَر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكمَا هو في عَرْض جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والاقتصار على ما كان في العَرضَة الأخيرة، التي عَارَض فيها جبريل النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في آخر رمضان صَامَه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والاقتصار على القرآن الْمُتعبّد بِتِلاوته، دون ما نُسِخَتْ تلاوته، ودون ما كان مِن قراءات تفسيرية؛ لأن مِن الصحابة مَن كان يَكتُب القراءات التفسيرية بِجوار الآيات القرآنية.
وكان جَمْع أبي بكر للقُرآن في نُسخة واحدة حِفظا له مِن الضياع، أما جَمْع عثمان فقد كان نَسخًا للمُصحف، وبَعَثه للأمصار مع قُرّاء يُقرِئون الناس.
وجَمْع أبي بكر كان خشية ذهاب القرآن بِذهاب أهله وحَفَظَته، وجَمْع عثمان كان حِفْظًا للقرآن ودَرْءًا للخِلاف والاختلاف.
ولا يَختَلف جَمْع عثمان رضي الله عنه عن جَمْع أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنه، فإن سَبب جَمْع عثمان رضي الله عنه الناس على مصحف واحِد هو وُقوع الاختلاف في الأحرف السبعة، ولم يَزِد على نَسْخ المصاحف، والاقتصار على ما يُزيل الخلاف؛ لأن ما في مُصحف عثمان مأخوذ مما في مصحف أبي بكر.
(قَدِمَ حُذَيْفَة بْنُ اليَمَانِ عَلَى عُثْمَانَ - وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّأْمِ فِي فَتْحِ أَرْمِينِيَةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ العِرَاقِ- فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلاَفُهُمْ فِي القِرَاءَةِ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ أَدْرِكْ هَذِهِ الأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الكِتَابِ اخْتِلاَفَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ: أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي المَصَاحِفِ، ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ، فَأَرْسَلَتْ بِهَا حَفْصَةُ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَبْدَاللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ العَاصِ وَعَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ الحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ([89]) فَنَسَخُوهَا فِي المَصَاحِفِ، وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ القُرَشِيِّينَ الثَّلاَثَةِ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنَ القُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ. فَفَعَلُوا، حَتَّى إِذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي المَصَاحِفِ، رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ، وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا، وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنَ القُرْآنِ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَنْ يُحْرَقَ)([90]).
قـال البَاقِلاني : (عُثمان لم يَقصد قَصْد أبي بكر في جَمْع نفس القرآن بَيْن لَوْحين، وإنما قَصَــد جمعهم على القراءات الثابتــة المعرُوضَــة على الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلْغَاء ما لم يَجْرِ مَجْرى ذلك، وأخْذهم بمصحف عثمان لا تقديم فيه ولا تأخير، ولا تأويل أُثْبِت مع تَنْزِيل([91])، ومَنسُوخ تِلاوته كُتب مع مُثبَت رَسْمه، ومَفْرُوض قراءته وحِفظه، وتسليم ما في أيدي الناس مِن ذلك، لِمَا فيه مِن التّخلِيط والفَسَاد، وخَشية دُخول الشُّبهة على مَن يأتي مِن بَعد، وأنه لم يُسقِط شيئا مِن القِراءات الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا مَنَع مِنها وحَظَرَها)([92]).
وطريقة كِتابة المصحف شاهِدَة بذلك؛ فإن الرَّسْم العثماني الذي كُتِبَت به المصاحِف يَحتَمِل أكثر مِن قراءة في مواضِع كثيرة.
وهذا هو الْجَمْع الأخير على عهد عثمان بن عفّان رضي الله عنه، والذي أجْمَعَت الأمّة على قبوله.
قال عَليّ رضي الله عنه عن الْجَمْع الثاني-جَ مْع عثمان رضي الله عنه-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ لا تَغْلُوا فِي عُثْمَانَ، وَلا تَقُولُوا لَهُ إِلاَّ خَيْرًا فِي الْمَصَاحِفِ وَإِحْرَاقِ الْمَصَاحِفِ، فَوَ اللَّهِ مَا فَعَلَ الَّذِي فَعَلَ فِي الْمَصَاحِفِ إِلاَّ عَنْ مَلأٍ مِنَّا جَمِيعًا)([93]).
وفِعْل عثمان رضي الله عنه اتَّفق عليه المسلمون، وتَلَقَّتْه الأّمّة بالقَبُول.
قــال القرطبي في تفسيره عن فِعــل عثمان رضي الله عنه: (وَكَانَ هَذَا مِنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه بَعْدَ أَنْ جَمَعَ الْمُهَــاجِرِينَ وَالأَنْصَــارَ وَجِلَّةَ أَهْــلِ الإِسْــلامِ وَشَــاوَرَهُمْ في ذلك؛ فاتّفَقُــوا على جَمْعِه بِما صحّ وَثَبَت في القراءات المشْهُورة عن النبي صلى الله عليه وسلم واطِّرَاح ما سِواها، وَاسْتَصْوَبُوا رَأْيَهُ وَكَانَ رَأْيًا سديدا مُوفّقًا، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ)([94]).
فإن قيل: لِمَ لَمْ يَأمُر رسول الله صلى الله عليه وسلم بِجَمْع القرآن في حال حياته؟
فالجواب: أنه صلى الله عليه وسلم كان يَتَرَقّب تَمَام تَنَزُّل القرآن، مع عِلْمه عليه الصلاة والسلام بأن أُمّتَه سَوف تَجْمَع القرآن، ولذلك حثّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على القراءة في المصحف، فقال: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُحِبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَلْيَقْرَأْ فِي الْمُصْحَفِ)([95]).
قال الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ: (يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا لَمْ يَجْمَعِ الْقُرْآنَ فِي الْمُصْحَفِ لِمَا كَانَ يَتَرَقَّبُهُ مِنْ وُرُودِ نَاسِخٍ لِبَعْضِ أَحْكَامِهِ أَوْ تِلاوَتِهِ، فَلَمَّا انْقَضَى نُزُولُهُ بِوَفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم أَلْهَمَ اللَّهُ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ ذَلِكَ وَفَاءً لِوَعْدِ الصَّادِقِ بِضَمَانِ حِفْظِهِ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ - زَادَهَا اللَّهُ شَرَفًا - فَكَانَ ابْتِدَاءُ ذَلِكَ عَلَى يَدِ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه بِمَشُورة عُمَر، وَيُؤَيِّدهُ مَا أخرجه ابن أَبِي دَاوُدَ فِي الْمَصَاحِفِ([96]) بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ قَالَ: (سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: أَعْظَمُ النَّاسِ فِي الْمَصَاحِفِ أَجْرًا أَبُو بَكْرٍ، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، هُوَ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ كِتَابَ اللَّهِ)([97]).
"وَقَدْ كَانَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ كُتِبَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَكِنْ غَيْرُ مَجْمُوعٍ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَلا مُرَتّب السُّور"([98]).
قال ابن حَجَر: "وَقَدْ أَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ مَجْمُوعٌ فِي الصُّحُف فِي قَوْله: {يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً} [(98) البينة:2] الآيَةَ، وَكَانَ الْقُرْآنُ مَكْتُوبًا فِي الصُّحُفِ لَكِنْ كَانَتْ مُفَرَّقَةً، فَجَمَعَهَا أَبُو بَكْرٍ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ كَانَتْ بَعْدَهُ مَحْفُوظَةً إِلَى أَنْ أَمَرَ عُثْمَانُ بِالنَّسْخِ مِنْهَا، فَنَسَخَ مِنْهَا عِدَّةَ مَصَاحِفَ، وَأَرْسَلَ بِهَا إِلَى الأَمْصَارِ"([99]).
وكان القرآن يَنْزل على النبي صلى الله عليه وسلم حتى توفّاه الله.
قال ابن حجر في شرح حديث ابن عباس: "وَكَانَ جِبريل يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ".
(وفي الحديث إطلاق القُرآن على بَعضه وعلى مُعْظَمِه؛ لأنّ أوّل رَمضان مِن بَعد البِعثة لم يَكن نَزَل مِن القُرآن إلاّ بَعضه، ثم كذلك كُلّ رمضان بَعده إلى رمضان الأخير فكان قد نَزَل كُلّه إلاّ ما تأخّر نُزُوله بعد رمضان المذكور، وكان في سَنَة عَشْر إلى أن مات النبي صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول سَنة إحدى عشرة، ومما نَزَل في تلك الْمُدّة قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [(5) المائدة:3]، فإنها نَزَلَت يَوم عرفة والنبي صلى الله عليه وسلم بها بِالاتِّفَاق)([100]).
ويَدلّ على ذلك حديث طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَؤُونَهَا، لَوْ عَلَيْنَا نَزَلَتْ مَعْشَرَ الْيَهُـودِ لاَتَّخَـذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيـدًا، قَـالَ: وَأَيُّ آيَةٍ؟ قَـالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [(5) المائدة:3]، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي لأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَاتٍ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ([101]).
وهذا – لا شَكّ – أنه يَدلّ على شِدّة عناية الأمّة بالقرآن، إذْ عَرَف عُمر رضي الله عنه: الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، والْحَال الذي نَزَلَتْ فيه: في يوم جُمُعة، وفي عَرَفة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم واقِفًا في عَرَفة في حَجّة الوَدَاع.
المَبْحَث الرابع عِناية الأمّة الإسلامية بالقرآن
اعْتَنَت الأمّة الإسلامية بالقرآن الكريم حِفْظًا ودراسة وتعلّما وتَعْلِيمًا، وقِراءة وإقراء، وكِتابة وصِيَانة، ونَفْيًا للتحريف، سَواء بالأحرف أو بالمعنى، وحِماية مِن الزيادة والنقصان، وتفسيراً، وبَيَان الْمُراد.
فالقرآن نَقْل الكافّة عن الكافّة، أي: نَقْل جِيل عن جِيْل.
وقد حَثّ النبي صلى الله عليه وسلم على تَعلّم القرآن وتَعلِيمه؛ فقال: (خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ)، وفي رواية: (إِنَّ أَفْضَلَكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ)([102]).
ومِن هُنا اعتَنى العُلَماء بِإقْرَاء القرآن، فلا يُكتَفَى في القُرآن بِمجرّد القِراءة، بل لا بدّ أن تُؤخَذ عن شيخ مُتقِن، يَتَلقّاها القارئ مُشافَهَة، ويَنطِق كل كَلَمة نُطقا صحيحا، يُحكِم ضَبْط كل كلمة، ويُتقِن أحكام التجويد، ويُخرِج الحروف العربية مِن مَخارِجها.
رَوَى أَبو عَبْدِالرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ "، قَالَ: وَأَقْرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي إِمْرَةِ عُثْمَانَ، حَتَّى كَانَ الحَجَّاجُ قَالَ: وَذَاكَ الَّذِي أَقْعَدَنِي مَقْعَدِي هَذَا ([103]).
واعْتَنَى العلماء بِضَبْط كلمات القرآن ورسْمِها وكيف تُكتب الكلمة، كما اعتنوا بإعراب القرآن حتى لا يُقرأ بِغير ما قَرَأه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقَرَأه عليه الصحابة الكرام رضي الله عنهم، وألا يُقْرَأ بِمَا يُغيِّر المعنى.
وكان الصحابة رضي الله عنهم يأخُذون القرآن مِن فَمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم مُباشرة.
قـال عَبْدُاللَّهِ بن مسـعود رضي الله عنه: (وَاللَّهِ الَّــذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلاَّ أَنَا أَعْلَمُ أَيْنَ أُنْزِلَتْ، وَلاَ أُنْزِلَتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلاَّ أَنَا أَعْلَمُ فِيمَ أُنْزِلَتْ، وَلَوْ أَعْلَمُ أَحَــدًا أَعْلَمَ مِنِّي بِكِتَابِ اللَّهِ، تُبَلِّغُــهُ الإِبِلُ لَرَكِبْتُ إِلَيْهِ)([104]).
وقال رضي الله عنه: (وَاللَّهِ لَقَدْ أَخَذْتُ مِنْ فِيِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِضْعًا وَسَبْعِينَ سُورَةً، وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنِّي مِنْ أَعْلَمِهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَمَا أَنَا بِخَيْرِهِمْ)([105]).
وهذا يدلّ على شِدّة عناية الأمّة بالقرآن.
كما تمّ الاعتناء بِعَلامَات الوَقْف والابْتِداء، ومَتى يَحسُن بالقارئ أن يَقِف، ومتى لا يَحسُن به أن يَقِف، والمواضع التي يجب أن يَقِف عندها القارئ للقرآن، والتي لا يجوز له أن يَقِف عندها. وأُلِّفَت الكُتُب في ذلك([106]).
واعْتَنَى العلماء بِمَعرِفة أسباب نُزول الآيات، وبِمعرفة أحوال وأوْقَات وأمَاكِن نُزول القرآن؛ فبيّنوا مِن ذلك:
"مَواطِن النّزُول وأوقاته ووقَائعه، وفي ذلك اثنا عشَر نَوعًا: المكّيّ والمدني، والسَّفَري والْحَضَري، والليليّ والنهاري، والصّيفيّ والشتائي، والفِرَاشِيّ والنومي([107])، وأسباب النّزُول، وأول ما نَزَل وآخِر ما نَزل"([108]).
السور المكية والمدنية:
قد ذَكَر العلماء فُرُوقا بين ما نَزَل في مكّة وما نَزَل في المدِينَة([109])، وقد "ذَكَر العُلَماء طَرِيقَين لِمَعرِفة الْمَكّيّ والْمَدَنِيّ:
أحدهما: سَمَاعِي، عُمدَته النَّقْل؛ كأن يَقول بعض الصحابة: نَزَلت سورة كذا في المدينة، أو نَزَلت سورة كذا قبْل الهِجرة.
والطريق الثاني: قِياسِيّ، وهو ضَوابِط وخصائص لِكلّ مِن الْمَكّيّ والْمَدَنِيّ"([110]) ([111]).
ضوابط مَعرِفة الْسُّوَر الْمَكّيّة:
ذَكَر العُلماء مِن ضوابط السُّوَر الْمَكّية:
1- كُلّ سُورة ذُكِر فيها كلمة (كَلاّ)، والتي ذُكِرَت (33) مرَّة في (15) سُورة، كُلّها مَكّيَّة، والسُّوَر الْمَكّية أكثر مِن هذا العدد.
2- كُلّ سُورة فيها سَجْدَة، فهي مَكّيَّة.
وهذان الضَّابِطَان مُطَّرِدَان؛ فالسُّوَر الْمَدَنِيّة ليس فيها كلمة (كَلاّ)، وليس فيها سَجْدَة.
3- كُلّ سُورة ذُكِر فيها قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، مِن حيث دَعْوَتهم لأقْوامِهم لِعِبادة الله وَحْده، وليس مُجرّد ذِكْر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
4- كُلّ سُورة ابتُدِئت بالحروف الْمُقطَّعَة؛ فهي مَكّيّة إلاّ الزهراوين: البقرة وآل عمران.
5- كُلّ سُورة ذُكِرتْ فيها قصّة آدم عليه الصلاة والسلام، إلاّ سُورة البقرة
6- كُلّ سُورة انْفَرَدَتْ بـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، وليس فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، مثل: سُورة يونس وسُورة الأعراف، أمّا إذا اجْتَمَع النِّدَاءان: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، و{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}؛ فالسُّورَة مَدَنِيَّة، وذلك مثل: سورة البقرة والنساء. على أن هذَيْن النِّدَاءين قد اجْتَمَعا في سُورة الحجّ كذلك([112]).
قـــال القرطبي: سُـــورَة الْحَجِّ وهي مكية، سوى ثلاث آيات: قوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ} [(22) الحَجّ:19] إِلَى تَمَامِ ثَلاثِ آيَاتٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ.
وَعَـنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: أَنَّهُنَّ أَرْبَعُ آيات، إلى قوله: {عَذَابَ الْحَرِيقِ} [(22) الحَجّ:19]، وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: هِيَ مَدَنِيَّةٌ، وَقَالَهُ قَتَادَةُ: إِلاّ أَرْبَعَ آيَاتٍ([113]).
وأما ضَوابِط معرفة السُّوَر التي نَزَلَتْ في المدينة النّبَويّة، فمنها:
1- كُلّ سُورَة فيها الْحُدُود والفَرَائض على التفصيل دون مُجرّد الإشارة إليها؛ فهي مَدَنِيّة.
2- كُلّ سُورَة فيها إذِن بِالجهاد وبيان لأحكام الجهاد؛ فهي مَدَنِيّة([114]).
3- كُلّ سُورَة فيها ذِكْر المنافقين؛ فهي مَدَنِيّة، ما عَدَا سورة العنكبوت.
والتحقيق أن سُورة العنكبوت مَكّيّة ما عدا الآيات الإحدى عَشْرَة الأولى منها، فإنها مَدَنِيّة. وهي التي ذُكِر فيها المنافِقُون([115]).
ومثال السَّفَرِيّ: سُورة الفَتْح، ففي حديث أَنَس بن مَالِك رضي الله عنه، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} [(48) الفتح:1، 2] إلَى قَوْلِهِ: {فَوْزًا عَظِيمًا} [(48) الفتح:5] مَرْجِعَهُ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَهُمْ يُخَالِطُهُمُ الْحُزْنُ وَالْكَآبَةُ، وَقَدْ نَحَرَ الْهَدْيَ بِالْحُدَيْبِيَةِ، فَقَالَ: (لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا)([116]).
والفِراشيّ يدلّ عليه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمّ سَلَمَة: (قال يا أم سلمة، لا تُؤذِيني في عائشة؛ فإنه والله ما نَزَل عليّ الوَحي وأنا في لِحِاف امْرأة مِنْكنّ غَيرها)([117]).
وأمّا الْحَضَري؛ فهو أكثر القرآن؛ لأن الغَالِب مِن حاله عليه الصلاة والسلام الاستقرار وعَدَم السَّفَر.
قَالَ أَنَس رضي الله عنه: بَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ بَيْنَ أَظْهُرِنَا إِذْ أَغْفَى إِغْفَاءَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا، فَقُلْنَا: مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ، فَقَرَأَ: بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ } [(108) الكوثر]، ثُمَّ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ؟ فَقُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّهُ نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، هُوَ حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ النُّجُومِ) ([118]).
ومِثال الليليّ والنهاري: ما نَقَلَه القُرطبي عن الْغَزْنَوِيّ في شأن سُورَةِ الْحَجِّ أنه قال: وَهِيَ مِنْ أَعَاجِيبِ السُّوَرِ؛ نَزَلَتْ لَيْلا وَنَهَارًا، سَفَرًا وَحَضَرًا، مَكِّيًّا وَمَدَنِيًّا، سِلْمِيًّا وَحَرْبِيًّا، نَاسِخًا وَمَنْسُوخًا، مُحْكَمًا وَمُتَشَابِهًا([119]).
ومِثال الصّيفيّ: آخر آية مِن سُورة النساء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لِعُمر رضي الله عنه: يا عُمر، ألاَ تَكْفِيك آية الصَّيف التي في آخِر سُورة النساء؟ ([120]).
قال القرطبي عن هذه الآية: هَذِهِ الآيَةُ تُسَمَّى بِآيَةِ الصَّيْفِ، لأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي زَمَنِ الصَّيْفِ([121]).
ومثال الشِّتَائي: آيات الْمَوَارِيث في أول سُورة النساء.
قال الخطّابي: أما قَوله "تُجْزِيك آية الصّيْف" فإن الله سبحانه أنْزَل في الكَلالَة آيَتَين: إحداهما في الشّتاء، وهي الآية التي نَزَلَت في سُورة النساء، وفيها إجْمَال وإبْهَام لا يَكاد يَتَبَيّن هذا المعنى مِن ظاهِرها، ثم أنزل الآية الأخرى في الصيف، وهي في آخِر سُورة النساء، وفيها مِن زيادة البَيَان ما ليس في آية الشتاء([122]).
ومِن قَبْل: اعْتَنَى الصحابة الِكرام رضي الله عنهم بِمعرفة عُلوم القُرآن ومَعَانِيه ومقاصِده، وسُؤال النبي صلى الله عليه وسلم عمّا يُشْكِل عليهم، وسؤال بعضهم لِبَعض مَن عنده عِلْم في الآية التي تُشكل عليه.
ومِن ذلك على سبيل المثال:
ما أشْكَل على المغِيرة بن شُعبة رضي الله عنه مما أوْرَده عليه نصارَى نَجْرَان.
قَالَ الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ: (لَمَّا قَدِمْتُ نَجْرَانَ سَأَلُونِي، فَقَالُوا: إِنَّكُمْ تَقْرَؤُونَ: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} [(19) مريم:28]، وَمُوسَى قَبْلَ عِيسَى بِكَذَا وَكَذَا، فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ:(إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِأَنْبِيَائِهِمْ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ)([123]).
ولَمّا نَزَل قوله تعالى: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [(6) الأنعام:82]، شَـقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْـلِمِينَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّنَا لا يَظْلِمُ نَفْسَــهُ؟ قَــالَ: لَيْــسَ ذَلِكَ، إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ، أَلَمْ تَسْمَعُوا مَا قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [(31) لقمان:13]؟([124]).
وتَقَدَّم قول عُمَر في آية المائدة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [(5) المائدة:3]: (إِنِّي لأَعْلَمُ الْيَــوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ؛ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَاتٍ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ)([125]).
وقول عَبْداللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه: (وَاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلاَّ أَنَا أَعْلَمُ أَيْنَ أُنْزِلَتْ، وَلاَ أُنْزِلَتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلاَّ أَنَا أَعْلَمُ فِيمَ أُنْزِلَتْ، وَلَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنِّي بِكِتَابِ اللَّهِ، تُبَلِّغُهُ الإِبِلُ لَرَكِبْتُ إِلَيْهِ)([126]).
وقوله رضي الله عنه: (وَاللَّهِ لَقَدْ أَخَذْتُ مِنْ فِيِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِضْعًا وَسَبْعِينَ سُورَةً، وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنِّي مِنْ أَعْلَمِهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَمَا أَنَا بِخَيْرِهِمْ)([127]).
وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وَهُوَ يَخْطُبُ: (سَلُونِي عَنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَوَاللَّهِ مَا مِنْهُ آيَةٌ إِلاّ وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّهَا بِلَيْلٍ نَزَلَتْ أَمْ بِنَهَارٍ، أَمْ بِسَهْلٍ نَزَلَتْ أَمْ بِجَبَلٍ)([128]).
وهذا كلّه يدلّ على شِدّة عناية الأمّة الإسلامية بالقرآن العظيم، مع أن ما ذُكِر هنا يُعتَبَر إشارات، وليست إحاطات([129]).
ترتيب وتَسْمِيَة سُّوَر القُرآن:
اخْتُلِف في ترتيب وتَسْمِيَة سُّوَر القُرآن: هل هو توقِيفيّ، أو اجتهادي؟
أمّا تَرْتِيب السُّوَر؛ فالّذي يَظهر أنه ليس تَوقِيفيًا([130])، وقد اتَّفَق عليه الصحابة رضي الله عنهم في كِتابة المصَاحِف، وأجْمَعت عليه الأمّة بعد ذلك؛ فلا تَجوز مُخالَفة الإجماع في كتابَة المصَاحِف بِتَغيير تَرتيب السُّوَر.
وأما ترتيب السُّوَر في القراءة في الصلاة وخارِجها؛ فلا يجب أن يكون بِنفس ترتيب الكِتابة.
ومما يدلّ على أن ترتيب السُّوَر ليس توقيفيًا في القِراءة وفي الصلاة: ما جَاء في حَديث حُذَيْفَة رضي الله عنه، قَالَ: (صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِئَةِ، ثُمَّ مَضَى، فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ، فَمَضَى، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ بِهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ، فَقَرَأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ، فَقَرَأَهَا)([131]).
فَالنّبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ بِسُورة النسَاء قبل سورة آل عمران.
وبَعَثَ النبي صلى الله عليه وسلم رَجُلا عَلَى سَرِيَّةٍ، وَكَانَ يَقْرَأُ لأَصْحَابِهِ فِي صَلاَتِهِمْ فَيَخْتِمُ بِـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (سَلُوهُ لأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ؟ فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ: لأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ) ([132]).
وأمّا تَسْمِيَات سُور القرآن؛ فالّذي يَظهَر: أن بعض التَّسْمِيَات لِبعض السُّوَر تَوقِيفي؛ لِوُرود التسمية في السُّنّة، وبعضها ليس تَوقِيفيًا، وإنما تَناقَله العلماء، وتَلقّوه بِالقَبول
فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (اقْرَؤُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ)([133]).
وفي حديث حذيفة السابق جاءت تَسمِية ثلاث سُور.
وقال ابن مَسْعُودٍ رضي الله عنه: (بَنِي إِسْرَائِيلَ([134]) وَالْكَهْفُ وَمَرْيَمُ وَطَهَ وَالأَنْبِيَاءُ، هُنَّ مِنَ الْعِتَاقِ الأُوَلِ، وَهُنَّ مِنْ تِلاَدِي)([135]).
قال ابن بطّال: (وهُنّ مِن تِلادي، يعنى: هُنّ مِمّا نَزَل مِن القرآن أوّلاً. قال صاحب العَيْن: العَتِيق: القَديم مِن كُلّ شيء. والتِّلاد: مَا كَسَب مِن المال قديمًا؛ فَيُرِيد أنّهنّ مِن أوّل مَا حَفِظه مِن القُرآن) ([136]).
وقال سعيد بن جبير: قلتُ لابن عباس: سورة الْحَشْر. قال: قُل سورة النَّضِير([137]).
وتُسمّى سورة المائدة بِسورة العُقُود؛ لِورود ذِكر العُقود في أوّلها.
وسورة النّمل تُسمّى بـ سورة سُليمان.
ونَقَل ابن عاشور في تفسيره عن ابن العربي:(أَنَّهَا تُسَمَّى "سُورَةَ الْهُدْهُدِ". قال: وَوَجْهُ الأَسْمَاءِ الثَّلاثَةِ أَنَّ لَفْظَ النَّمْلِ وَلَفْظَ الْهُدْهُدِ لَمْ يُذْكَرَا فِي سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ غَيْرِهَا، وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا " سُورَةَ سُلَيْمَانَ "؛ فَلأَنَّ مَا ذُكِرَ فِيهَا مِنْ مُلْكِ سُلَيْمَانَ مُفَصَّلا لَمْ يُذْكَرْ مِثْلُهُ فِي غَيْرِهَا) ([138]).
وتُســمّى سورة السَّجْدة بـ {ألم تَنْزِيل}، وتُسمّى سورة فُصّلت بـ {حم تَنْزِيل}.
وتُسمّى سورة فاطِر. بـ سورة الملائكة؛ لِوُرُود ذِكر الملائكة في أوّلها. وهكذا سَمّاها العلماء([139]).
"سُورَةُ غَافِرٍ، وَهِيَ سُورَةُ الْمُؤْمِنِ، وَتُسَمَّى سُورَةُ الطَّوْلِ"([140]).
وَتُسَمَّى سُورَة مُحَمَّد بـ (سُورَة الْقِتَال). قال ابن عاشور في تفسيره: (وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا سُورَة الْقِتَال فَلأَنَّهَا ذُكِرَتْ فِيهَا مَشْرُوعِيَّةُ الْقِتَالِ، وَلأَنَّهَا ذُكِرَ فِيهَا لَفْظُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ}) [(47) محمد:20]([141]).
وهذه أمثلة لاختِلاف أسماء السُّوَر، فإذا رأيت اسْمًا غير الذي تعرفه في كُتب أهل العِلْم، وبخاصّة كُتب التفسير، فلا تُبادِر بالإنكار، أو تغيير اسْم السورة، كما يَفعل بعض الْجُهّال!
ورَجّح السيوطي أن أسماء السُّوَر توقيفي، حيث قال: وَقَدْ ثَبَتَ جَمِيعُ أَسْمَاءِ السُّوَرِ بِالتَّوْقِيفِ مِنَ الأَحَادِيثِ وَالآثَارِ([142]).
ترتيب الآيات دَاخِل السّورة نفسها:
ترتيب الآيات داخل السُّورة مُتّفَق عليه، وهو مَحَلّ إجماع.
ومِن هنا: أفْتَى الصحابة رضي الله عنهم بأنه لا يجوز قِراءة القُرآن مُنكّسًا؛ كان يَقرأ مِن آخِر السورة إلى أوّلها، أو يَقرأ الآيات مع الإخْلال بِتَرْتيب الْمُصحَف.
سُئل ابن مسعود رضي الله عنه: (أَرَأَيْتَ رَجُلا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَنْكُوسًا؟ قَالَ: ذَلِكَ مَنْكُوسُ الْقَلْبِ)([143]).
قال ابن بَطّال: (إنما عَنَى بِذلك مَن يَقرأ السّورة مَنْكُوسَة، ويَبْتَدِئ مِن آخرها إلى أوّلها؛ لأن ذلك حَرَام مَحْظُور، ومِن الناس مَن يَتَعَاطَى هذا في القرآن والشعر ليُذَلِّل لِسَانه بِذلك، ويَقْتَدر على الحفْظ؛ وهذا مما حَظَره الله ومَنَعَه في قِرَاءة القرآن؛ لأنه إفسادٌ لِسُوُره، ومُخَالَفة لِمَا قُصِد بها) ([144]).
وقال النووي: (وأمّا قِراءة السُّور مِن آخرها إلى أوّلها؛ فمَمنوع مَنْعًا مُتَأكّدا، فإنه يُذْهِب بَعض ضُروب الإعجاز، ويُزِيل حِكْمة تَرتيب الآيات) ([145]).
وَلَمّا قال عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما لِعثمانَ بن عفّان رضي الله عنه: ({وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [(2) البقرة:234] قَدْ نَسَخَتْهَا الآيَةُ الأُخْرَى([146]) فَلِمَ تَكْتُبُهَا أَوْ تَدَعُهَا؟ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي لاَ أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْهُ مِنْ مَكَانِه)([147]).
لأن الآية المنسوخة تكون مُتقدِّمَة على الآية الناسِخة، وهذه ليست كذلك، واحتَجّ عثمان رضي الله عنه بأن الأمْر توقيفي.
قال الحافظ ابن كثير: (وَمَعْنَى هَذَا الإِشْكَالِ الَّذِي قَالَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ لِعُثْمَانَ: إِذَا كَانَ حُكْمُهَا قَدْ نُسِخَ بِالأَرْبَعَةِ الأَشْهَرِ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي إِبْقَاءِ رَسْمِهَا مَعَ زَوَالِ حُكْمِهَا، وَبَقَاءِ رَسْمِهَا بَعْدَ الَّتِي نَسَخَتْهَا يُوهِمُ بَقَاءَ حُكْمِهَا؟ فَأَجَابَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ تَوْقِيفِيٌّ، وَأَنَا وَجَدْتُهَا مُثَبَّتَةً فِي الْمُصْحَفِ كَذَلِكَ بَعْدَهَا، فَأُثْبِتُهَا حَيْثُ وَجَدْتُهَا)([148]).
وقال العيني: قوله: ("فَلِم تَكْتُبها" استفهام على سبيل الإنكار، بمعنى: لِمَ تَكتُب هذه الآية وقد نَسَخَتها الآية الأخرى)([149]).
وقال ابن حَزْم: (ولا يَضُرّ كَوْن الآيَة الْمَنْسُوخَة - في تَرتيب الْمُصْحَف في الْخَطّ والتِّلاوَة - مُتقدِّمَة في أوَّل السُّورَة، أوْ في سُورَة مُتقدِّمَة في التَّرْتِيب، وتَكُون النَّاسِخَة لَها في السُّورَة أوْ في سُورَة مُتأخِّرَة في التَّرْتِيب؛ لأنَّ القُرْآن لم تُرتّب آيَاته وسُوَره عَلى حَسَب نُزُول ذَلك، لَكِن كَمَا شاء ذُو الْجَلال والإكْرَام مُنَزِّلُه... ومُرتِّبُه الذي لم يَكِل تَرْتِيبه إلى أحَدٍ دُوْنه... فلا يَجَوز مُرَاعَاة رُتْبَة التَّألِيف في مَعْرِفَة النَّاسِخ والْمَنْسُوخ البتة)([150]).
ونَقَل الإجماع غير واحِد مِن أهل العِلْم على أن ترتيب الآيات تَوقِيفِيّ لا يجوز تغييره، ولا مُخالَفته في الكِتابة والقراءة.
قال البَاقِلاني: (اتّفَقَت الأمَّة على وُجُوب تَرْتِيب الآيات، وحَظْرِ تقديم بعضِها على بعض وتغييرها في الكتابة والتلاوة، وغيرُ ذلك) ([151]).
وقال البغوي: (تَرْتِيب النُّزُول غير تَرْتِيب التّلاوة)([152]).
وقَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ بَطَّالٍ: (رَوَى يُونـس عن ابن وَهْب قال: سَمِعت مَالِكًا يقــول: إنّما أُلِّـف القُرآن ([153]) على ما كـانوا يَسْـمَعونه مِن قِراءة رســول الله صلى الله عليه وسلم.
وَمَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ لا يَقُولُ إِنَّ تِلاوَةَ الْقُرْآنِ فِي الصَّلاةِ وَالدَّرْسِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُرَتَّبَةً عَلَى حَسَبِ الترتيب الْمُوقَف عَلَيْهِ فِي الْمُصْحَفِ، بَلْ إِنَّمَا يَجِبُ تَأْلِيفُ سُوَرِهِ فِي الرَّسْمِ وَالْخَطِّ خَاصَّةً، وَلا يُعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ قَالَ: إِنَّ تَرْتِيبَ ذَلِكَ وَاجِبٌ فِي الصَّلاةِ وَفِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَدَرْسِهِ، وَأَنَّهُ لا يَحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يَتَلَقَّنَ الْكَهْفَ قَبْلَ الْبَقَرَةِ وَلا الْحَجَّ قَبْلَ الْكَهْفِ، أَلا تَرَى قَوْلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِلَّذِي سَأَلَهَا أن تُرِيه مُصْحَفها لِيَكْتُب مُصحفًا على تألِيفه: لا يَضُرُّكَ أَيَّةَ قَرَأْتَ قَبْلُ)([154]).
قال القرطبي: (وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الصَّلاةِ السُّورَةَ فِي رَكْعَةٍ، ثُمَّ يَقْرَأُ فِي رَكْعَةٍ أُخْرَى بِغَيْرِ السُّورَةِ الَّتِي تَلِيهَا)([155]).
فالصَّحابة الكِرَام رضي الله عنهم أثْبَتُوا الآيات في المصحف على حَسَب قِراءة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مُوافِق للعَرْضَة الأخيرة.
قال أَبُو الْحَسَنِ بْنُ بَطَّالٍ: (وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لا يَجِبُ إثباته فِي الْمَصَاحِفِ عَلَى تَارِيخِ نُزُولِهِ؛ لأنهم لو فَعَلوا ذلك لَوَجَب أن يَجْعَلُوا بعض آية سُورة في سُورة أخرى، وأن ينقصوا ما وَقفوا عليه مِن سياقه تَرتيب السُّوَر ونِظَامها؛ لأنه قد صَحَّ وَثَبَتَ أَنَّ الآيَاتِ كَانَتْ تَنْزِلُ بِالْمَدِينَةِ فيُؤمَرُوا بإثْباتِها فِي السُّورَةِ الْمَكِّيَّةِ.
أَلاَ تَرَى قَوْلَ عَائِشَةَ رضي الله عنها: وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلاّ وَأَنَا عِنْــدَهُ([156]) تَعْنِي بِالْمَدِينَةِ. وَقَدْ قُدِّمَتَا فِي الْمُصْحَفِ عَلَى مَا نَزَلَ قَبْلَهُمَا مِنَ الْقُرْآنِ بِمَكَّةَ، وَلَوْ أَلَّفُوهُ عَلَى تَارِيخِ النُّزُولِ لَوَجَبَ أَنْ يَنْتَقِضَ تَرْتِيبُ آيَاتِ السُّوَرِ)([157]).
وقـال الحــافظ ابن كثـير: (تَرْتِيب الآيَاتِ في السُّــوَرِ أَمْرٌ تَوْقِيفِيٌّ مُتَلَقَّى عَــنِ الرَّسُــولِ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَّا تَرْتِيــبُ السُّــوَرِ فَمِنْ أَمِــيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه)([158]).
وقال السيوطي: (الإجماع والنُّصُوص الْمُتَرَادِفة على أن تَرتيب الآيات تَوقِيفي، لا شُبْهة في ذلك، وأما الإجماع فَنَقَله غير واحد، منهم: الزّرْكَشِي في "البُرْهَان" وأبو جعفر بن الزبير في مُنَاسَبَاته، وعِبَارَته: تَرْتِيب الآيات في سُورِها واقِع بِتَوقِيفه صلى الله عليه وسلم وأمْره مِن غير خلاف في هذا بين المسلمين)([159]).
وأمّا في القِراءة والتعليم فلا يَجب أن تكون قراءة السُّوَر حَسب ترتيب المصحف.
قال النووي: (وأمّا تعليم الصِّبْيَان مِن آخِر المصحَف إلى أوّله ([160])؛ فَحَسَن، ليس هذا مِن هذا الباب، فإن ذلك قراءة مُتَفَاضِلة في أيام مُتَعَدّدة مع ما فيه مِن تَسهيل الحفظ عليهم) ([161]).
وأما الإخلال بِتَرتيب السُّور في القراءة في الصلاة؛ كأن يَقرأ في الركعة الأولى سورة الناس، ثم يقرأ في الركعة الثانية سورة الإخلاص؛ فهذا جائز.
قال النووي: (ولو خالَف الترتيب فقَرأ سورة ثم قرأ التي قبلها أو خَالَف الْمُوَالاة فقَرأ قَبْلها ما لا يَلِيها جاز، وكان تَارِكًا للأفضل) ([162]).
وقال: (قَالَ أَصْحَابُنَا: السُّنَّةُ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى تَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ مُتَوَالِيًا، فَإِذَا قَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى سُورَةً قَرَأَ فِي الثَّانِيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا مُتَّصِلَةً بِهَا. قَالَ الْمَتُولِّي: حَتَّى لَوْ قَرَأَ فِي الأُولَى {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} يَقْرَأُ فِي الثَّانِيَةِ مِنْ أَوَّلِ الْبَقَرَةِ، وَلَوْ قَرَأَ سُورَةً ثُمَّ قَرَأَ فِي الثَّانِيَةِ التي قبلها، فقد خَالَف الأوْلَى، ولا شيء عَلَيْهِ)([163]).
وقال الحافظ ابن كثير: (وَإِنْ قَدَّمَ بَعْضَ السُّوَرِ عَلَى بَعْضٍ جَازَ)([164]).
المَبْحَث الخامس النسخ في القرآن الكريم
النَّسْخ في القرآن:
"الناسِخ: هو الْخِطَاب الدَّالّ على ارتفاع الْحُكْم الثابِت بِالْخِطَاب الْمُتقدِّم على وَجْه لَوْلاه لَكان ثَابِتا مع تَرَاخِيه عنه.
والْمَنْسُوخ: هو الْحُكْم الزّائل بعد ثَبَاته بِخِطاب مُتَقَدِّم بِخِطاب وَاقِع بَعدَه مُتَرَاخٍ عنه دالّ على ارتفاعه على وَجْه لَوْلاه لكان ثَابِتًا " ([165]).
والنَّسْخ ثابت في القرآن وفي الشرائع السابقة.
قال الله تبارك وتعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [(2)ا لبقرة:106].
وقال الله عزّ وَجَلّ: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [(16) النحل:101].
ونَقَل القرطبي عَن الْجُمْهُور في قَوله تَعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ}: (نَسَخْنَا آيَةً بِآيَةٍ أَشَدَّ مِنْهَا عَلَيْهِمْ. وَالنَّسْخُ وَالتَّبْدِيلُ: رَفْعُ الشَّيْءِ مع وَضْع غير مَكَانَهُ) ([166]).
قال البغوي: (يَعْنِي: وَإِذَا نَسَخْنَا حُكْمَ آيَةٍ فَأَبْدَلْنَا مَكَانَهُ حُكْمًا آخَرَ. {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} أَعْلَمُ بِمَا هُوَ أَصْلَحُ لِخَلِقِهِ فِيمَا يُغَيِّرُ وَيُبَدِّلُ مِنْ أَحْكَامِهِ. {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ} يَا مُحَمَّدُ. {مُفْتَرٍ} مُخْتَلِقٌ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا يَسْخَرُ بِأَصْحَابِهِ يَأْمُرُهُمُ الْيَوْمَ بِأَمْرٍ وَيَنْهَاهُمْ عَنْهُ غَدًا، مَا هُوَ إِلَّا مُفْتَرٍ يَتَقَوَّلُهُ مِنْ تلقاء نفسه، قال اللَّهِ: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} حَقِيقَةَ الْقُرْآنِ، وَبَيَانَ النَّاسِخِ مِنَ المنسوخ)([167]).
والنَّسْخ وَارِد في الشّرَائع السّابِقة.
قال ابن عبدالبر: (وقد أنكر قوم مِن الرّوافض والخوراج النَّسْخَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَضَاهَوْا فِي ذَلِكَ قَوْلَ الْيَهُودِ)([168]).
وقال القرطبي: (أَنْكَرَتْ طَوَائِفُ مِنَ الْمُنْتَمِينَ لِلإِسْلامِ الْمُتَأَخِّرِينَ جَوَازَهُ، وَهُمْ مَحْجُوجُونَ بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ السَّابِقِ عَلَى وُقُوعِهِ فِي الشَّرِيعَةِ.
وَأَنْكَرَتْهُ أَيْضًا طَوَائِفُ مِنَ الْيَهُودِ، وَهُمْ مَحْجُوجُونَ بِمَا جَاءَ فِي تَوْرَاتِهِمْ بِزَعْمِهِمْ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنَ السَّفِينَةِ: إِنِّي قَدْ جَعَلْتُ كُلَّ دَابَّةٍ مَأْكَلاً لَكَ وَلِذُرِّيَّتِكَ، وَأَطْلَقْتُ ذَلِكَ لَكُمْ كَنَبَاتِ الْعُشْبِ، ما خَلا الدّم فلا تَأكُلوه. ثم قد حَرَّمَ عَلَى مُوسَى وَعَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَثِيرًا مِنَ الْحَيَوَانِ، وَبِمَا كَانَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ يُزَوِّجُ الأَخَ مِنَ الأُخْتِ، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ وَعَلَى غَيْرِهِ، وَبِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ أُمِرَ بِذَبْحِ ابْنِهِ ثُمَّ قَالَ لَهُ: لا تَذْبَحْهُ، وَبِأَنَّ مُوسَى أَمَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَقْتُلُوا مَنْ عَبَدَ مِنْهُمُ الْعِجْلَ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِرَفْعِ السَّيْفِ عَنْهُمْ، وَبِأَنَّ نُبُوَّتَهُ غَيْرُ مُتَعَبَّدٍ بِهَا قَبْلَ بَعْثِهِ، ثُمَّ تُعُبِّدَ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ)([169]).
وقال ابن كثير: (وَالْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكَمِ الْبَالِغَةِ، وَكُلُّهُمْ قَالَ بِوُقُوعِهِ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الأَصْبَهَانِيُّ الْمُفَسِّرُ: لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ. وَقَوْلُهُ هَذَا ضَعِيفٌ مَرْدُودٌ مَرْذُولٌ)([170]).
والنَّسْخ خاص بالأحكَام؛ فالأخْبَار والعقائد لا يَدخلها النَّسْخ؛ لأنها لا تَتَغيَّر ولا تَتَبدَّل.
قال ابن عبدالبر عن النَّاسِخ وَالْمَنْسُوخ: (وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ فِي الأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَمَّا فِي الْخَبَرِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ عَنْ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَلا يَجُوزُ النَّسْخُ فِي الأَخْبَارِ الْبَتَّةَ)([171]).
قال ابن الجوزي: (النّسخ إنما يَقَع في الأمر والنهي دون الْخَبَر الْمَحْض)([172]).
وقال القرطبي: (النَّسْخ في الأخبار لا يَجُوز، لاسْتِحَالَةِ تَبَدُّل الوَاجِبَات العَقْلِيّة، ولاسْتِحَالَة الكَذِب على الله تَعالى)([173]).
وقال الشاطبي: (والأخْبار لا يَدخلها النَّسْخ)([174]).
ومما يُستَدَلّ به على النَّسْخ: مَا كان حَلالاً لِبني إسرائيل ثم حُرِّم عليهم لَمّا حَرَّمه يَعقوب عليه الصلاة والسلام على نفسه.
قال الله تبارك وتعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [(3) آل عمران:93]([175]).
أنواع النَّسْخ في القرآن:
1– ما نُسِـــخَت تِلاوتــه وبَقِي حُكْمه. مثاله ([176]): آية الرَّجْم. قال عُمر رضي الله عنه: (إِنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللهُ آيَةَ الرَّجْمِ فَقَرَأْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا؛ رَجَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: وَاللهِ مَا نَجِدُ آيَةَ الرَّجْمِ فِي كِتَابِ اللهِ! فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللهُ)([177]).
2- ما نُسِخَت تِلاوته وحُكْمه. مثاله: قول عائشة رضي الله عنها: (كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ: عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ، بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ)([178]).
3- ما نُسِخَ حُكْمه وبَقِيَت تِلاوته. مثاله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [(2)البقرة:219] نَسَخَتْها آية المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [(5) المائدة:90].
4- ما نُسِخَ حُكْمه إلى غير بَدَل. مثاله: قوله تعالى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآَتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [(60) الممتحنة:11].
قال ابن الجوزي: دلّ على أن الأحكام المذكورة في الآية مِنْ أَدَاءِ الْمَهْرِ وَأَخْذِهِ مِنَ الْكُفَّارِ وَتَعْوِيضِ الزَّوْجِ مِنَ الْغَنِيمَةِ أَوْ مِنْ صَدَاقٍ قَدْ وَجَب رَدّه على أهل الْحَرْب: مَنْسُوخ، وقد نص أحمد على هذا. قال مُقاتل: كُلّ هذه الآيات نُسِخَت بِآية السَّيْف([179]).
5- التخصيص؛ وهو ما يَعتَبِره بَعض العلماء نَسْخًا، ويَعتبِره البعض الآخَر تَخْصِيصًا.
ومثاله: آيات الصيام: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [(2) البقرة:184] نَسَخَتْها التي بعدها: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}. وابن عباس رضي الله عنهما يقول: لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ، هُوَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْمَرْأَةُ الْكَبِيرَةُ لَا يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَصُومَا فَيُطْعِمَانِ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا([180]).
قال ابن حَجَر: هذا مذهب ابن عباس، وَخَالَفَه الأكثر([181]).
ومِن حِكَم النَّسْخ:
1- التَّدَرّج في التّشْرِيع، كما في تَحريم الخَمْر.
2- التذكير بِنِعْمة الله تعالى في بعض أنواع النسخ، خاصة الذي يكون فيها النّسْخ مِن أثقل إلى أخَفّ، كما في نَسْخ قِتال الواحِد لِعَشَرة ([182]).
قال عَلَم الدِّين السَّخَاوي: (وحِكْمَة النّسْخ: اللطف بالعباد، وحَمْلُهم على ما فيه إصلاح لهم. ولم يزل الباري عز وجل عَالِمًا بالأمر الأول والثاني، وبِمُدّة الأول، وابْتِدَاء مُدّة الثاني قبل إيجاد خَلْقِه، وتَكْلِيفهم ذلك، ونَقْلهم عنه إلى غيره)([183]).
3- الدّلالة على سَعة عِلْم الله ورَحمته، فإن الله لَمّا نَسَخ قِتال الواحِد لِعشرة مِن الكفّار قال: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [(8) الأنفال:65، 66].
4- اخْتِبار إيمان مَن آمَن، وتَمْييز الخَبِيث مِن الطّيّب، قال الله عَزّ وَجَلّ: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [(3) آل عِمران:179].
وقال الله تبارك وتعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [(47) محمد:20، 21] .
فإن القِتال لم يُشْرَع ابتداء في مكّة، وإنما شُرِع في المدينة على مَرَاحِل.
5- بَقاء "ثواب التلاوة والامتثال"([184]) لأمْر الله عَزّ وَجَلّ.
كيف يَعرِف الصحابة رضي الله عنهم ما نُسِخ مِن الآيات، فلا يَكتُبونه في المصاحِف؟
الجواب: قد تَكَفّل الله عَزّ وَجَلّ بِحِفظ كِتابه، فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [(15) الحجر:9].
ومَعرِفة ما نُسِخَت تِلاوته وتَبيِينه للصَّحَابة مِن البَيَان الوارِد في قَوله عَزّ وَجَلّ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [(16) النحل:44] "أَرَادَ بِالذِّكْرِ الْوَحْيَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُبَيِّنًا لِلْوَحْيِ، وَبَيَانُ الْكِتَابِ يُطْلَبُ مِنَ السُّنَّةِ"([185]).
فلا بُدّ مِن بَيَان ما نُسِخَتْ تِلاوَته للصحابة رضي الله عنهم.
وما تُنسَخ تلاوته يُرفَع؛ فلا يبقى لا في الصّدُور ولا في السّطُور.
قال الله عَزّ وَجَلّ: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [(2) البقرة:106]. كَانَ يُنْسَخُ الْآيَةُ بِالْآيَةِ بَعْدَهَا، وَيَقْرَأُ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الآيَةَ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ تُنْسَى وَتُرْفَعُ ([186]).
ثمّ إن الأمّة أجْمَعَتْ على هذا القُرآن، وقد عَصَم الله الأمّة أن تَجْتَمِع على ضلالة؛ لِقوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ لا يَجْمَعُ أُمَّتِي -أَوْ قَالَ: أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم - عَلَى ضَلالَةٍ)([187]).
وكان الصحابة رضي الله عنهم يَعرِفون انقضاء السورة بِنُزول "بسم الله الرحمن الرحيم"، فهي التي تَفصِل بَيْن السُّوَر.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (كَانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لاَ يَعْرِفُ فَصْلَ السُّورَةِ حَتَّى تُنَزَّلَ عَلَيْهِ: بسم الله الرحمن الرحيم)([188]).
وفي روايـة: (كان المســلمون لا يَعلَمُــون انقِضاء السّـورة حــتى تَنْزِل "بسم الله الرحمن الرحيم"، فإذا أُنْزِلَت بسم الله الرحمن الرحيم عَلِمُوا أن السّورَة قد انْقَضَت)([189]).
المَبْحَـث السادس الأسلوب القرآني
لِماذا يُوجَد الْمتَشَابِه في القُرآن؟([190])
لِحِكَم عَظيمة، منها:
1– أن يَتَبيّن إيمان المؤمِن الذي يُؤمِن بالله وكِتابه، ويُسلِّم أمْره لله.
قالَتْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: (تَلاَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الآيَةَ {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ} [(3) آل عِمران:7] قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: فَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ)([191]).
2– أن يُعلَم أن الله عَالِم الغيب والشهادة، وأنه يَعلَم ما لا يَعلَمون.
قال الله تبارك وتعالى: {عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [(34) سبأ:3].
3– إحاطة الله بِكُلّ شيء.
قال الله عَزّ وَجَلّ: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [(65) الطلاق:12].
4– وُجُود ما يَستأثِر الله بِعِلمه، وحَجْب عِلْمه عن الْخَلْق فيه مَصالح للعباد، وتفَرّد ذي الجلال بِالكَمال والْجَمَال.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: تَفْسِير القُرآن على أرْبَعَة وُجُوه:
(تَفْسِيرٌ تَعْلَمه العُلَمَاء، وتَفْسِيرٌ تَعْرِفُه العَرَب، وتَفْسِيرٌ لا يُعْذَر أحَد بِجَهَالَته - يَقول: مِن الْحَلال والْحَرَام - وتَفْسِيرٌ لا يَعْلَم تَأويلَه إلاَّ الله، مَن ادّعَى عِلْمه فهو كَاذِب)([192]).
قال الزَّرْكَشِيّ: (وهذا تَقسْيِم صَحِيح. فأمَّا الذي تَعْرِفُه العَرَب فهو الذي يُرْجَع فيه إلى لِسَانِهم، وذلك شَأن اللغَة والإعْرَاب.
فأمَّا اللغَة فَعَلَى الْمُفَسِّر مَعْرِفَة مَعَانِيها ومُسَمَّيَات أسْمَائها.
وأما الإعْرَاب؛ فما كان اختلافه مُحِيلا للمَعنى وَجَب على الْمُفَسِّر والقَارئ تَعلّمه لِيَتَوصّل الْمُفَسِّر إلى مَعرفة الْحُكم، ولِيَسْلَم القَارئ مِن اللحن، وإن لم يكن مُحِيلا للمَعنى وَجَب تَعلّمه على القارئ لِيَسْلم مِن اللّحْن.
الثاني: ما لا يُعذَر أحَد بِجْهله، وهو ما تَتَبَادَر الأفْهَام إلى معرفة مَعناه مِن النُّصُوص الْمُتَضَمِّنة شَرَائع الأحكام ودَلائل التوحيد، وكل لفظ أفاد معنى واحدا جَلِيًّا لا سِواه يُعلَم أنه مُرَاد الله تعالى.
فهذا القِسْم لا يَختَلف حُكْمه ولا يَلْتَبِس تأويلُه، إذْ كُلّ أحَد يُدْرِك مَعنى التوحيد مِن قَولِه تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} [(47) محمد:19]، وأنه لا شَرِيك لَه في إلَهِيّتِه.
الثالث: ما لا يَعلَمه إلا الله تعالى؛ فهو مَا يَجْرى مَجْرى الغُيوب، نَحْو الآي الْمُتَضَمِّنَة قِيام الساعة، ونُزُول الغَيث، وما في الأرحام، وتَفْسير الرُّوح، والحروف الْمُقَطَّعة، وكُلّ مُتَشَابِه في القرآن عند أهل الحق فلا مَسَاغ للاجتهاد في تفسيره، ولا طريق إلى ذلك إلاّ بِالتَّوقِيف مِن أحد ثلاثة أوْجُه: إمّا نَصّ مِن التّنْزِيل، أو بَيان مِن النبي صلى الله عليه وسلم، أو إجْمَاع الأُمّة على تأويله، فإذا لَم يَرِد فيه تَوقِيف مِن هذه الجهات عَلِمْنا أنه مما اسْتَأثَر الله تعالى بِعِلْمِه.
والرابع: ما يَرْجِع إلى اجتهاد العلماء، وهو الذي يَغلِب عليه إطلاق التأويل، وهو صَرْف اللفظ إلى مَا يَؤول إليه، فَالْمُفَسِّر نَاقِل، والْمُؤوّل مُسْتَنْبِط، وذلك استنباط الأحكام، وبَيَان الْمُجْمَل، وتَخْصيص العُمُوم.
وكل لفظ احتَمَل مَعْنَيين فَصَاعدا، فهو الذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه وعلى العلماء اعتماد الشواهد والدلائل، وليس لهم أن يَعتَمِدوا مُجَرّد رَأيهم فيه)([193]).
ثمّ إن مَنْع العِبَاد بعض العِلْم مِن مَصالِحِهم.
قال ابن القيم -رحمه الله- وهو يُبيّن العِلم الْمَمْنُوح للعِباد والعِلْم الْمَمْنُوع:
(ثم مَنَعَهم سبحانه عِلْم ما سِوى ذلك [أي عِلم ما سِوى ما يَنفعهم] مما ليس في شأنهم، ولا فيه مصلحة لهم ولا نَشْأتهم قابِلة له، كَعِلْم الغَيب وعِلْم ما كان وكُلّ ما يكون، والعِلْم بِعَدد القَطْر وأمْوَاج البَحْر وذَرّات الرِّمال ومَسَاقِط الأوْراق وعدد الكَواكِب ومَقَادِيرها، وعِلْمِ ما فوق السموات وما تحت الثرى، وما في لْجَج البِحَار وأقطار العَالَم، وما يُكِنُّه الناس في صُدورهم، وما تَحمل كل أنثى وما تَغيض الأرحام وما تَزداد، إلى سائر ما عَزَب عنهم عِلْمه، فَمَن تَكَلّف مَعرِفة ذلك فقد ظَلَم نفسه وبَخَس مِن التوفيق حَظّه، ولم يحصل إلاّ على الْجَهل الْمُرَكَّب، والْخَيَال الفَاسِد في أكثر أمْرِه.
وقال أيضًا: ومِن حِكْمَته سبحانه ما مَنَعهم مِن العِلْم: عِلْم السَّاعة، ومَعرفة آجالهم، وفي ذلك مِن الْحِكمة البَالِغة مَا لا يَحتاج إلى نَظَر، فلو عَرَف الإنسان مِقْدار عُمُره فإن كان قصير العُمر لم يَتَهَنّأ بِالعَيش، وكيف يَتَهَنّأ به وهو يَتَرقّب الْمَوت في ذلك الوقت، فَلولا طُول الأمَل لَخَرِبت الدنيا، وإنما عِمَارتها بِالآمال، وإن كان طويل العُمر وقد تحقق ذلك، فهو واثِق بالبَقاء فلا يُبَالي بِالانْهِماك في الشَّهَوات والمعاصي وأنواع الفساد، ويقول: إذا قَرب الوَقت أحْدَثْتُ تَوبة، وهذا مذهب لا يَرْتَضيه الله تعالى عَزّ وجَلّ مِن عباده، ولا يَقْبله منهم، ولا تَصلح عليه أحْوال العَالَم، ولا يَصلح العَالَم إلاّ على هذا الذي اقتضته حكمته وسَبَق في عِلْمه...
إلى أن قال -رحمه الله-: فَبَانَ أن مِن حِكمة الله ونِعَمه على عباده أنْ سَتَر عنهم مقادير آجالهم ومَبْلغ أعْمَارِهم، فلا يزال الكيِّس يَتَرَقّب الموت وقد وَضَعه بَين عَينيه، فَيَنْكَفّ عَمّا يَضرّه في معاده، ويَجتهد فيما يَنْفعه ويُسرُّ به عند القُدُوم)([194]).
مِن حِكم إنْزَال القُرآن؟
قال الله تبارك وتعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [(16) النحل:44].
قال الشيخ الشنقيطي: (المراد بالذِّكر في هذه الآية: القرآن، كَقَوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [(15) الحجر:9].
وقد ذكر جلّ وعلا في هذه الآية حِكْمَتَين مِن حِكم إنْزَال القُرآن على النبي صلى الله عليه وسلم:
الأولى: أن يُبَيّن للناس ما نُزِّل إليهم في هذا الكتاب مِن الأوامِر والنّواهي، والوَعْد والوَعِيد، ونحو ذلك. وقد بَيَّن هذه الْحِكمة في غير هذا الموضع أيضا، كَقَوله: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [(16)النحل: 64]، وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ} الآية [(4) النساء: 105].
الثانية: هي التّفَكُّر في آياته والاتِّعَاظ بها، كما قال هنا: {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، وقد بَيَّن هذه الحكمة في غير هذا الموضع أيضا، كَقَوله: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ}[(38) ص: 29]، وقوله: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [(4) النســاء: 82]، وقــولــه: {أَفَــلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [(47) محمد:24]، إلى غير ذلك من الآيات)([195]).
وقال -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} [(38) ص:29].
وقد ذَكَر جَلّ وعَلا في هذه الآية الكريمة أنه أنْزَل هذا الكتاب، مُعَظِّمًا نَفْسه جلّ وعَلا بِصِيغة الْجَمْع، وأنه كتاب مُبارَك، وأن مِن حِكم إنْزاله: أن يَتدبّر الناس آياته، أي: يَتَفَهّموها ويَتَعَقّلوها ويُمْعِنُوا النَّظَر فيها، حتى يَفهَموا ما فيها مِن أنواع الْهُدَى، وأن يتذكّر أُولُوا الألباب أي: يَتّعِظ أصحاب العقول السّليمة مِن شوائب الاختلال.
وأمّا كَوْن تذكّر أُولِي الألباب مِن حِكم إنزاله؛ فقد ذَكره في غير هذا الموضع مُقتَرِنا ببعض الْحِكَم الأخرى التي لم تُذْكَر في آية (ص) هذه، كَقَوله تعالى في سورة إبراهيم: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} [(14) إبراهيم:52]، فقد بَيَّن في هذه الآية الكريم، أن تَذكُّر أولي الألباب مِن حِكم إنْزَاله مُبَيِّنا منها حِكمَتين أُخرَيين مِن حِكم إنزاله، وَهُمَا:
– إنذار الناس به، وتحقيق معنى لا إله إلا الله.
وكَون إنذار الناس وتذكُّر أولي الألباب مِن حِكم إنْزَاله، ذَكَره في قوله تعالى: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [(7)ا لأعراف: 2].
وذَكَر حِكْمة الإنذار في آيات كثيرة، كَقَوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [(25) الفرقان:1].
وقوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [(6)الأنعام:19]. وقولـه تعالى: {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ. لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ} الآيــة [(36) يس:5 - 6]. وقوله تعالى: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} الآية [(36) يس:70].
- ومِن حِكم إنْزَالِه: الإنذار والتبشير معًا، كَقَوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [(19)مريم:97]. وقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} الآية [(18) الكهف:1 - 2]([196]).
وكَقَولِه تبارك وتعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [(17) الإسراء:9، 10].
- ومِن حِكم إنْزَاله أن يُبَيِّن صلى الله عليه وسلم للناس ما أُنْزِل إليهم، ولأجْل أن يَتَفكّرُوا، وذلك قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [(16) النحل:44].
- وذَكَر حِكْمة التّبْيِين المذكُورة مع حِكمة الْهُدى والرَّحْمَة، في قوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [(16) النحل:64].
- ومِن حِكم إنْزَاله: تَثْبِيت المؤمنين، والْهُدَى والبُشْرى للمُسلِمين في قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [(16) النحل:102].
- ومِن حِكم إنْزَاله إلى النبي صلى الله عليه وسلم: أن يَحُكم بَيْن الناس بما أراه الله، وذلك في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [(4) النساء:105]([197]).
- ومِن حِكَم إنْزال القرآن: تَثْبِيت النبي صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تبارك وتعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [(25) الفُرقان:32،33]([198]).
والقُرآن هو المعجزة الباقية لِنبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم:
قَالَ الرازيُّ: (جَعَل اللهُ مُعْجِزَةَ كُلِّ نَبِيِّ مِنْ جِنْسِ مَا كَانَ غَالِبًا عَلَى أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ؛ فَلَمَّا كَانَ السِّحْرُ غَالِبًا عَلَى أَهْلِ زَمَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ كَانَتْ مُعْجِزَتُهُ شَبِيهَةً بِالسِّحْرِ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِلسِّحْرِ فِي الْحَقِيقَةِ. وَلَمَّا كَانَ الطِّبُّ غَالِبًا عَلَى أَهْلِ زَمَانِ عِيسَى عَلَيْه السَّلام، كَانَتْ مُعْجِزَتُهُ مِنْ جِنْسِ الطِّبِّ. وَلَمَّا كَانَتِ الْفَصَاحَةُ غَالِبَةً عَلَى أَهْلِ زَمَانِ مُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام لا جَرَمَ كَانَتْ مُعْجِزَتُهُ مِنْ جِنْسِ الْفَصَاحَةِ)([199]).
وقَالَ ابنُ كثيرٍ: (كَانَتْ مُعْجِزَةُ كُلِّ نَبِيٍّ فِي زَمَانِهِ بِمَا يُنَاسِبُ أَهْلَ ذَلِكَ الزَّمَان؛ ِفَذَكَرُوا أنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ كَانَتْ مُعْجِزَتُهُ مِمَّا يُنَاسِبُ أهل زمانه، وكانوا سَحَرَةً أَذْكِيَاءَ، فَبُعِثَ بِآيَاتٍ بَهَرَتِ الأَبْصَارَ وَخَضَعَتْ لَهَا الرِّقَابُ، وَلَمَّا كَانَ السَّحَرَةُ خَبِيرِينَ بِفُنُونِ السِّحْرِ وَمَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ وَعَايَنُوا مَا عَايَنُوا مِنَ الأَمْرِ الْبَاهِرِ الْهَائِلِ الَّذِي لا يُمْكِنُ صدوره إلاّ عَمّن أَيَّدَهُ اللَّهُ وَأَجْرَى الْخَارِقَ عَلَى يَدَيْهِ تَصْدِيقًا لَهُ؛ أَسْلَمُوا سِرَاعًا وَلَمْ يَتَلَعْثَمُوا، وَهَكَذَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ بُعِثَ فِي زَمَنِ الطَّبَائِعِيَّةِ الْحُكَمَاءِ، فَأُرْسِلَ بِمُعْجِزَاتٍ لا يَسْتَطِيعُونَهَا وَلا يَهْتَدُونَ إِلَيْهَا؛ وَأَنَّى لِحَكِيمٍ إِبْرَاءُ الأَكْمَهِ - الَّذِي هُوَ أَسْوَأُ حَالاً مِن أعمَى - وَالأَبْرَصِ وَالْمَجْذُومِ، وَمَنْ بِهِ مَرَضٌ مُزْمِنٌ؟ وَكَيْفَ يَتَوَصَّلُ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى أَنْ يُقِيمَ الْمَيِّتَ مِنْ قَبْرِهِ؟ هَذَا مِمَّا يَعْلَمُ كُلُّ أحد مُعْجِزَةٌ دَالَّةٌ عَلَى صِدْقِ مَنْ قَامَتْ بِهِ وعلى قُدْرَة مَن أرْسَله.
وَهَكَذَا مُحَمَّدٌ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلامُهُ عَلَيْه، بُعِثَ فِي زَمَنِ الْفُصَحَاءِ الْبُلَغَاء، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، الَّذِي لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، فَلَفْظُهُ مُعْجِزٌ تَحَدَّى بِهِ الإِنْسَ وَالْجِنَّ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ، أَوْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِنْ مَثَلِهِ أَوْ بِسُورَةٍ، وَقَطَعَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لا يَقْدِرُونَ، لا فِي الْحَالِ وَلا فِي الاسْتِقْبَالِ، [فَإِنَّهم] لَمْ يَفْعَلُوا وَلَنْ يَفْعَلُوا، وَمَا ذَاكَ إِلاَّ لأَنَّهُ كَلامُ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ، وَاللَّهُ تَعَالَى لا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ لا فِي ذَاتِهِ وَلا فِي صِفَاتِهِ وَلا فِي أَفْعَالِهِ)([200]).
ولِذَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ قَدْ اُعْطِيَ مِنَ الآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)([201]).
قَالَ ابنُ كثيرٍ: (مَعْنَاهُ: أَنَّ مُعْجِزَةَ كُلِّ نَبِيٍّ انْقَرَضَتْ بِمَوْتِهِ، وَهَذَا الْقُرْآنُ حُجَّةٌ بَاقِيَةٌ عَلَى الآبَادِ، لا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ. مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللهُ، وَمَنِ ابْتغَى الهُدَى مِن غيرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهِ)([202]).
وقال: (وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ قَدْ أُوتِيَ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ مَا يَقْتَضِي إِيمَانَ مَنْ رَأَى ذَلِكَ مِنْ أُولِي الْبَصَائِرِ وَالنُّهَى، لا مِنْ أَهْلِ الْعِنَادِ وَالشَّقَاءِ. "وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ "، أَيْ: جُلُّهُ وَأَعْظَمُهُ وَأَبْهَرُهُ: الْقُرْآنُ الَّذِي أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ لا يَبِيدُ وَلا يَذْهَبُ كَمَا ذَهَبَتْ مُعْجِزَاتُ الأَنْبِيَاءِ وَانْقَضَتْ بِانْقِضَاءِ أَيَّامِهِمْ فَلَا تُشَاهَدُ، بَلْ يُخْبَرُ عَنْهَا بِالتَّوَاتُرِ أَوِ الآحَادِ بِخِلافِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، فَإِنَّهُ مُعْجِزَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْهُ، مُسْتَمِرَّةٌ دَائِمَةُ الْبَقَاءِ بَعْدَهُ، مَسْمُوعَةٌ لِكُلٍّ مَنْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)([203]).
وَقَدْ تَحدَّى اللهُ العَرَبَ أنْ يَأتوا بِمثْلِ هَذَا القرآنِ، بَلْ تَحدّى الإنسَ والجنَّ، ولو اجْتَمَعُوا وَتَعَاضَدُوا وتَعَاونُوا، فقَالَ عزَّ وَجَلّ: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [(17) الإسراء:88].
وتَحَدَّاهُم أنْ يَأتوا بِعَشْرِ سُورٍ مِنْ مِثلِهِ ([204])، وَتَحدّاهُم أنْ يَأتوا بسورةٍ مِنْ مثْلِهِ.
قال ابن حجر: (وأشْهَر مُعْجِزات النبيّ صلى الله عليه وسلم القُرآن؛ لأنه صلى الله عليه وسلم تَحَدّى به العَرَب، وهُم أفْصَح الناس لِسَانا، وأشدهم اقْتِدَارًا على الكلام بِأن يأتُوا بِسُورة مِثله؛ فعَجَزوا مع شِدّة عداوتهم له وصَدِّهم عنه)([205]).
وَلَمّا تَحَدّى اللهُ العربَ تَحدّاهُمْ أنْ يَأتوا بسورةٍ مِثْلِهِ بِهَذَينِ القَيدَينِ:
1 - سورة.
2 - مِثْلِهُ.
مِثْل القرآنِ في فصاحَتِهِ وبلاغتِهِ ونَظْمِهِ وإعجازِه، وما تَضمَّنَتْهُ نصوصُ القرآنِ، واشتمال الكلام على مقاصِد القرآن الثلاثة: إثباتُ التوحيدِ، وإثباتُ المعادِ، وإثباتُ النبوّاتِ.
ولَمْ يَكُنْ يُعجِزُ فصحاء العَرَبِ أن يسْجَعُوا كسَجْعِ الكُهَّانِ!
بَلْ كَانَ فيهم قبْلَ النبوةِ فُصحاءُ وَبُلغاءُ وشُعراءُ، وكَانَ فيهم خُطباءُ نَطَقُوا بالْحِكْمَةِ، مِثْلُ: قُسِّ بنِ ساعِدَةَ، وغيرِهِ.
وَلَمْ يَكُنْ قولُ أولئك يَشْتَبِهُ بِما جَاءَ بِهِ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ القرآنِ، وَلَمْ يُعارِضُوه بِمثْلِ قولِ أولئكَ، مَعَ كونِهِم أربابَ الفصاحةِ وأهلَ اللغةِ.
لأنَّ التحدّي كانَ بسورةٍ مِنْ مثلِ القرآنِ، ولَمْ يَكُنْ التحدّي بكلامٍ مَسْجُوعٍ، فإن أسلوب القرآن العظيم أبْهَر العَرب، حتى قال قائلهم، وهو يَصِف القرآن الذي أتَى به محمد صلى الله عليه وسلم: (وَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهُ لَحَلاوَةً، وَإِنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَلا يُعْلَى)([206]).
ولذلك يَختَلِف أسلوب القرآن عن غيره مِن الأساليب مهما بَلَغَتْ مِن القُوّة والْجَزَالة والفَصَاحَة.
خصائص الأسلوب القرآني:
امتازَ الأسلوبُ القرآني بِخصائصَ ليْسَتْ لِغيرِهِ، فَمِنْ ذلِكَ:
أولاً- مَسْحَةُ القرآنِ اللفظيةُ فإنَّها مَسحةٌ خلابَةٌ عَجيبَةٌ، تتجلَّى في نِظامِهِ الصّوتي وجَمالِهِ اللغويِّ.
ثانياً- إرضَاؤه العامَّةَ والخاصَّةَ. ومعنى هذا أنَّ القرآنَ الكريمَ إذا قَرأتَهُ العامَّةِ أوْ قُرِئَ عليهم أحّسُّوا جَلالَهُ، وذَاقوا حَلاوتَهُ، وفَهِمُوا مِنه على قَدْرِ استعدادِهِم ما يُرضِي عقولَهُم وعواطِفَهُم، وكذلِكَ الخاصةٌ إذا قَرَؤوه أوْ قُرئَ عليهم أحّسُّوا جَلالَهُ، وذاقوا حلاوتَهُ، وفَهِمُوا مِنْهُ أكْثَرَ مِما يَفْهَمُ العامةُ، ورأوا أنَّهم بينَ يدي كلامٍ لَيْسَ كَمِثلِهِ كلامٌ لا في إشراقِ ديباجَتِهِ ولا في امتلائِهِ وثروتِهِ.
ثالثاً- إرضَاؤه العقلَ والعاطفَةَ. ومعنى هذا أنَّ أسلُوبَ القرآنِ يُخاطِبُ العقلَ والقلبَ مَعًا، وَيَجمَعُ الحقَّ والجمالَ معًا.
قارِن نُصوص القرآن بِما جاء في بعض الأناجيل !
"فقال لهم يَسُوع: الحق الحق أقول لكم: إن لم تأكلوا جَسْد ابن الإنسان وتَشْرَبوا دَمَه؛ فليس لكم حياة فيكم، مَن يأكل جَسَدي ويشرب دَمي فَلَه حياة أبَدَية وأنا أقِيمه في اليوم الأخير"([207]).
"هذا هو الخبز النازل مِن السّماء لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت"([208]).
رابعاً- جَودةُ سَبكِ القرآنِ وإحكامُ سَرْدِهِ. ومَعْنَى هذا أنَّ القرآنَ بَلَغَ مِنْ ترابطِ أجزائه، وتَمَاسُكِ كلماتِهِ وجُمَلِهِ وآياتِهِ وسُورِهِ مَبلغًا لا يُداينَهُ فيه أيُّ كلامٍ آخَرَ مَعَ طولِ نَفَسِهِ، وتنوعِ مقاصِدِهِ وافتنانِهِ وتلوينِهِ في الموضوعِ الواحِدِ. وأنه نَزَل في (23) سَنَة غير مُتناقِض ولا مُتنافِر.
وقد أُلِّفَت الكُتب في تناسق الآيات والسُّوَر، مثل:
كتاب "البرهان في تناسب سُور القرآن" تأليف: ابن الزبير الغرناطي.
وكتاب "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور" تأليف: إبراهيم بن عُمر البقاعي.
وكتاب "مَراصِد المطالِع في تناسب المقاطِع والمطالِع" تأليف: جلال الدين السيوطي.
خامساً- بَراعتُهُ في تصريفِ القولِ وثروتِهِ في أفَانِينِ الكلامِ. واستعمال كلّ لَفْظ في مَحلّه، بحيث لا يُمكن نَزْع لَفظَة واستبدالها بِلَفظة مُرادِفَة لها، مثل: {فَانْفَجَرَتْ} [(2) البَقَرة:60]، وفي [(7) الأعراف:160] {فَانْبَجَسَتْ}.
قال الكِرْماني: قَوْله {فَانْفَجَرَتْ}، وَفِي الأَعْرَاف {فَانْبَجَسَتْ}؛ لأَن الانفجار انْصِبَاب المَاء بِكَثْرَة، والانْبِجَاس ظُهُور الْمَاء. وَكَانَ فِي هَذِه السُّورَة([209]) {كُلُوا وَاشْرَبُوا} فَذُكِر بِلَفْظ بليغ، وَفِي الأَعْرَاف: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} وَلَيْسَ فِيهِ وَاشْرَبُوا، فَلم يُبَالغ فِيهِ([210]).
سادساً- جَمَعَ القرآنُ بينَ الإجمالِ والبَيانِ، مَعَ أنَّهما غايَتانِ مُتقابلتانِ لا يَجتمعانِ في كلامٍ واحد للناس، بل كلامهم إمّا مُجْمَل وإمّا مُبَيَّن؛ لأن الكلمة إما واضِحة المعنى لا تحتاج إلى بَيَان، وإما خَفِيّة المعنى تحتاج إلى بَيَان، وأمّا القُرآن فَتَسْمَع الْجُمْلــة منه وإذا هي بَيِّنَــة مُجْمَلــة في آن واحد؛ أمّا أنها بَيِّنَـة أو مُبَيَّنة - بتشديد الياء وفَتْحِها - فلأنها وَاضِحَة الْمَغْزَى وُضُوحا يُرِيح النَّفْس مِن عَناء التّنْقِيب والبَحث لأوّل وَهْلَة، فإذا أمْعَنْت النظر فيها؛ لاحَتْ منها مَعَانٍ جَديدة كُلّها صحيح أو مُحْتَمل لأنْ يكون صحيحا، وكلما أمْعَنْت فيها النّظر زادَتك مِن المعارِف والأسرار بِقَدْر مَا تُصِيب أنت مِن النَّظَر، وما تَحْمِل مِن الاستعداد.
سابعاً- قَصْدُ القرآنِ في اللفظِ مَعَ وَفائِهِ بِالْمَعْنَى([211])، ومعنى ذلك: الاختصار في اللفظ مع الوَفاء بالمعنى؛ فقد تأتي قصة بعض الأنبياء في بعض السُّوَر في سَطر أو في سَطْرَين، وهي وافِية فيما سِيقَت له ذلك الْمَسَاق في تلك السورة.
وعلى سبيل المثال: قصة نوح عليه الصلاة والسلام، وَرَدَتْ مُختَصَرَة في سورة الفرقان (25) في الآية (37)، ووَرَدَتْ مُطوّلة في سورة هود (11) الآيات (25-48) وفي سورة نوح (71).
ويُزادُ عَلَيْهَا:
8- تَضَمُّن القُرآنِ للأخبَارِ المستقبليَّةِ، سَواءً مِنْها مَا كَانَ في زَمَنِ نُزولِهِ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أَوْ كَانَ بَعْدَ ذلِكَ.
فَمِنْ ذَلِكَ: الْحديثُ عَنْ حَرْبِ فاَرِسَ والرُّومِ، وإخبارُهُ بِانتصارِ الرُّومِ في بِضْعِ سِنين، كَمَا في فواتِحِ سُورَةِ "الرُّومِ".
والإخبارُ عَنْ نُصْرَةِ الله لِرَسولِه صلى الله عليه وسلم ونُصرَةِ المؤمنين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وَأَمَّا الْفُتُوحُ الَّتِي فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ، وَالنُّصْرَةُ الَّتِي نُصِرُوا؛ فَقَدْ أَخْبَرَ بِهِ فِي أَوَائِلِ مَبْعَثِهِ، وَوَقَعَ مَا أَخْبَرَ بِهِ([212]).
وفي هذا تَصدِيق الله لِرسولِه صلى الله عليه وسلم، ويَظهر بذلك معنى مِن معاني قوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم (30):47].
وما تَضَمَّنَهُ القرآنُ مِنَ الأخبارِ المستقبليَّةِ مِمَّا يُعلَمُ خَبَرُهُ بَعْدَ حِين، ويدلّ على صِدْق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه جاء بالحَق واليقين: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم (53):3، 4].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وَأَمَّا مَا أَخْبَرَ بِهِ مِمَّا لَمْ يَقَعْ إِلَى الآنَ فَكَثِيرٌ، وَقَدْ أَخْبَرَ بِأَشْيَاءَ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ، وَوَقَعَتْ فِي زَمَانِهِ، وَوُجِدَتْ كَمَا أَخْبَرَ([213]).
9- الإخبارُ عنْ أَخْبَارِ الأُمَمِ الماضِيَةِ، وذِكْرُ الأنبياءِ، ومَا جَرَى لَهُم مِمَّا لَمْ يَكُنْ مَعلومًا لِقريش في أوْجَز عِبارَة، ولذلِكَ يَأتي التذكيرُ بِهذا عَقِبَ سياقِ القِصَصِ، كما قَالَ تَعَالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [(11) هُود:49].
وَلا يَزالُ العِلْمُ التَّجريبيُّ يَقِفُ مَوقِفَ المؤيِّدِ لَمَا جاءَ في القرآنِ مِنْ أخْبَارٍ وحقائِقَ، لا يُنْكِرُها إلاَّ جَاهِلٌ أو مُعانِدٌ ومكابِرٌ!
فإن قيل: لماذا تكون تلك الاكتشافات والوصول إليها على أيدي الكُفّار؟
فالجواب: أن هذا أبْلَغ في تأييد الدّين، ونُصْرَة الْحقّ مما لو جاء بها مُسلم؛ لأن المسلم قد يُتّهم بالمبالغة.
ثم إن توصّل الكافر إلى هذا الاكتشاف يَقوده إلى الإسلام إذا عَلِم أن ما توصّل إليه العِلْم التجريبي الحديث قد جاء به القرآن قبل أكثر من (1000) سَنة!
10- ما تَضَمَّنَهُ القرآنُ مِنْ إعجَازٍ وبيانٍ وفصاحَةٍ وبلاغَةٍ، في أفْصَحِ عبارةٍ وأرْقَى أسلوبٍ، مِمَّا أعْجَزَ العربَ عَنْ أنْ يَأتوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، مع الإحاطة بالْخَلق والأمْر.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: (وَجْهُ التَّحَدِّي فِي الْقُرْآنِ: إِنَّمَا هُوَ بِنَظْمِهِ وَصِحَّةِ مَعَانِيهِ، وَتَوَالِي فَصَاحَةِ أَلْفَاظِهِ.
وَوَجْهُ إِعْجَازِهِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْما، وَأَحَاطَ بِالْكَلامِ كُلِّهِ عِلْمًا، فَعَلِمَ بِإِحَاطَتِهِ أَيَّ لَفْظَةٍ تَصْلُحُ أَنْ تَلِيَ الأُولَى، وَتُبَيِّنَ الْمَعْنَى بَعْدَ الْمَعْنَى، ثُمَّ كَذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ الْقُرْآنِ إِلَى آخِرِهِ. وَالْبَشَرُ مَعَهُمُ الْجَهْلُ وَالنِّسْيَانُ وَالذُّهُولُ، وَمَعْلُومٌ ضَرُورَةً أَنَّ بَشَرًا لَمْ يَكُنْ قط مُحِيطًا؛ فَبِهَذا جَاءَ نَظْمُ الْقُرْآنِ فِي الْغَايَةِ الْقُصْوَى مِنَ الفصاحة)([214]).
وقَدْ ذَكَر السيوطيُّ -رَحِمَهُ اللهُ - ثلاثةً وثلاثينَ وَجْهًا مِنْ وُجوهِ إعجازِ القرآنِ، وذلِكَ في كِتابِهِ "مُعتَركِ الأقْرانِ في إعجازِ القرآنِ".
11– البَيَان لِكلّ ما يُحتَاج إليه.
قال الله تبارك وتعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}[(16) النحل:89].
وقد ذَكَر الشيخ الشنقيطيُّ -رَحِمَهُ اللهُ - في مقدمَةِ تفسيرِهِ "أضواءِ البيانِ" اثنينِ وعشرينَ نَوعا مِنْ أنواعِ البيانِ التي تضمّنها القرآنُ.
12– تَنَوّع القصص والعِبَر في كُلّ موضِع بِما يُناسِبه.
يُرْوَى أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ سُئِلَ: مَا مَعْنَى تَكْرِيرِ الْقَصَصِ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ كُلَّ النَّاسِ لا يَحْفَظُ الْقُرْآنَ، فَلَوْ لَمْ تَكُنِ الْقِصَّةُ مُكَرَّرَةً لَجَازَ أَنْ تَكُونَ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ وَلا تَكُونُ عِنْدَ بَعْضٍ، فَكُرِّرَتْ لِتَكُونَ عِنْدَ مَنْ حَفِظَ الْبَعْضَ([215]).
فهذا الأسلوب القرآني لا يُمكن لِبَشَر أن يَأتي بِمِثله، ولا أن يُدَانِيه؛ لأنه كَلام ربّ العالمين، و {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [(41) فُصّلت:42].
ولَوْ تأمّلْنَا أَقْصَرَ سورةٍ مِنْ سُورِ القرآنِ، وَهِيَ سورةُ الكوثرِ، لَوجَدَنَا أنَّها تضمّــنَتْ ما اتَّفَقَــتْ عَلَيْهِ الشرائعُ السماويَّــةُ، وَهِيَ مقاصِـدُ القرآنِ الثلاثةُ -كمَا بَيّنها العلماء -، وهي: إثباتُ التوحيــدِ، وإثباتُ المعادِ، وإثباتُ النبوّاتِ([216]).
فضميرُ التعظيمِ {إنَّا} إثباتٌ للتوحيدِ، وإثْبَاتُ العَطاءِ، وأنَّ اللهَ هُوَ المعطِي. وهذا مِن توحيد الربوبية.
وقولُه: {أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} إخبارٌ عَنْ غيبٍ، وهُوَ مُتضمّنٌ لإثباتِ الْمَعادِ.
وقولُه: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} إثباتُ صِدقِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، الْمُسْتَلْزِمِ إثْبَاتُ نُبوّتِهِ.
فكَانَ ما أخبَرَ بِهِ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هو حَقُّ وصِدْقُ، إذْ كَانَ مُبْغِضُهُ وشانِئُه هُوَ الأبترُ المقطوعُ الذي انقطَعَ ذِكْرُهُ، ولم يَنقَطِع ذِكْر النبي صلى الله عليه وسلم.
معَ ما في هذه السّورةِ القصيرة ِمِنْ أمْرٍ بالعبادةِ {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}؛ فالأمر بالصلاة والنَّحْر: مِن توحيد العبادة "الألوهية"، وقوله {لِرَبِّكَ} أمْر بإخلاص العبادة لله تبارك وتعالى.
قال القرطبي: سورة "الكوثر" ثلاث آيات قِصَار، وهي أقصر سورة في القرآن، وقد تضمّنت الإخبار عن مُغَيَّبَين:
أحدهما: الإخبار عن الكَوثر وعِظَمه وسَعَته وكَثرة أوَانِيه، وذلك يدلّ على أن الْمُصَدِّقين به صلى الله عليه وسلم أكثر مِن أتْباع سائر الرُّسُل.
وَالثَّانِي: الإِخْبَــارُ عَنِ الْوَلِيــدِ بن الْمُغِـيرَةِ، وَقَدْ كَــانَ عِنْــدَ نُزُولِ الآيَةِ ذَا مَــالٍ وَوَلَدٍ، عَلَى مَا يَقْتَضِيــهِ قَوْلُـهُ الْحَقُّ: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودًا (12)وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا} [(74) المدّثر: 11-14]([217]).
ونَقَل القرطبي قول مُقَاتِل: (كَانُوا سَبْعَةً كُلُّهُمْ رِجَالٌ، أَسْلَمَ مِنْهُمْ ثَلاثَةٌ: خَالِدٌ، وَهِشَامٌ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ. قَالَ: فَمَا زَالَ الْوَلِيدُ([218]) بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ فِي نُقْصَانٍ مِنْ مَالِهِ وَوَلَدِهِ حَتَّى هَلَكَ)([219]).
وسورة "الكوثر" رغْم كَونها أقصَر سُورة؛ إلاّ أنها تضمّنت:
1- تعظيم الله.
2- وإثبات توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية.
3- والأمْر بِعِبَادتين: الصلاة والنَّحْر، مع الأمْر بالإخلاص.
4- والإخبار بِمُغيّبَيْن: الإخبار عن الكوثر، وهو أمْر غَيبيّ، والإِخْبَارُ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وما آلَ إليه أمْره بعد ذلك مِن موته على الكُفر؛ وهذا يَدلّ على صِدْق مَن أخبَر به، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم.
قــال ابن كثير: (وَقَوْلُــهُ: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ} أَيْ: إِنَّ مُبْغِضَــكَ - يَا مُحَمَّدُ -وَمُبْغِضَ مَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْحَقِّ وَالْبُرْهَانِ السَّاطِعِ وَالنُّورِ الْمُبِينِ؛ هُوَ الأَبْتَرُ الأَقَلُّ الأَذَلُّ الْمُنْقَطِعُ ذكْرُه)([220]).
5– تَسْــلِيَة وتَثبِيــت المؤمنــين؛ فإذا ثَبَـت عنـدهم أن مُبغِـض النبي صلى الله عليه وسلم هو الأبْتَر المقطُوع؛ زَاد يَقينهم بِصِدْق النبي صلى الله عليه وسلم، وأنّ ما وُعِدُوا بِه مِن الوُرُود على الكَوثَر حَقّ.
وكانَ القرآنُ يتَنَزّلُ في مكّةَ، وكانَ يتضمّنُ أخبارا عن ْكُفّارِ قريشَ، ولم يَكُنْ بِمقدورِهِمْ تكذيبُهُ، ولا إثباتُ ضدِّ مَا قَالَه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
وعلى سبيلِ المثالِ: سورةُ الْمَسَدِ، وما فيها مِن إخبارٍ عنْ أبي لهبٍ وأنَّهُ هو وَزَوْجَتُهُ في النَّارِ.. ولم يكُنْ بِمقدورِ أبي لهبٍ إثبات ضدِّ ذلِكَ، ولا ادِّعاءَ الإيمانِ والإسلامِ!
ونَزَل القرآن بِوَصْف اليهود بالسَّفَاهة، وأخبر الله أنهم سَيَقُولُون قولاً؛ فقَالُوه.
قال الله عَزّ وَجَلّ: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [(2) البقرة:142].
قال ابن جرير: (أَعْلَمَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم مَا الْيَهُودُ وَالْمُنَافِقُونَ قَائِلُونَ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدَ تَحْوِيلِ قِبْلَتِهِ وَقِبْلَةِ أَصْحَابِهِ عَنِ الشَّامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَعَلَّمَهُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ رَدِّهِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْجَوَّابِ)([221]).
ولَمَّا تَحدّى اللهُ أقْحَاحَ العربِ وأربابَ الفصاحةِ أنْ يَأتوا بِسُورةٍ مِنْ مِثلِ القرآنِ، عجِزوا عنْ ذلِكَ لِعلْمِهِم ما تضَمَّنَهُ القرآنُ مِنْ فصَاحَةٍ وبَيانٍ.
المَبْحَث السابع آيات في مناظَرَة أهل الكتاب
يَحْتَجّ بعض النصارى على أُلُوهِيّة عيسى عليه الصلاة والسلام بأنه يُحيي الموتى:
وإن مما يُبطِل هذا الاحتجاج: أن يُبيَّن ما أجْرَاه الله عَزّ وَجَلّ مِن إحياء الموتى على أيدي الأنبياء قبل عيسى ابن مريم، وإثبات أن إحياء الموتى جَرَى قبل عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، ووَقَع بعد عيسى أعظَم مِن إحياء الموتى.
ومن ذلك:
أن إحياء الموتى ذُكِر ِستّ مرّات في سُورة البَقَرَة:
الموضع الأول: مَوْت بني إسرائيل بالصَّاعِقَة ثم إحياؤهم.
قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [(2) البقرة:55، 56].
قال قَتَادَة: أَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ، ثُمَّ بَعَثَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى لِيُكْمِلُوا بَقِيَّةَ آجَالِهِمْ([222]).
وقَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: جَاءَتْهُمْ صَاعِقَةٌ بَعْدَ التَّوْبَةِ، فَصَعَقَتْهُمْ، فَمَاتُوا أَجْمَعُونَ. قَالَ: ثُمَّ أَحْيَاهُمُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِمْ ([223]).
قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا احْتِجَاجٌ عَلَى مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالْبَعْثِ مِنْ قُرَيْشٍ، وَاحْتِجَاجٌ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ إِذْ خُبِّرُوا بِهَذَا ([224]).
الموضع الثاني: في قصة البَقَرَة والأمْر بِذَبحِها: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [(2) البقرة: 72، 73].
قال عِكْرِمَة: (فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا) قَالَ: بِفَخِذِهَا، فَلَمَّا ضُرِبَ بِهَا عَاشَ، وَقَالَ: قَتَلَنِي فُلانٌ؛ ثُمَّ عَادَ إِلَى حَالِهِ ([225]).
قال ابن جرير: وَمَعْنَى الْكَلامِ: فَقُلْنَا: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا لِيَحْيَا، فَضَرَبُوهُ فَحَيِيَ([226]).
الموضع الثالث: الذين فَرُّوا مِن الطّاعُون؛ فأماتَهم الله ثم أحياهُم.
قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [(2) البقرة: 243].
قال الْحَسَن فِي قَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} قَالَ: فَرُّوا مِنَ الطَّاعُونِ، فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ: مُوتُوا، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ لِيُكْمِلُوا بَقِيَّةَ آجَالِهِمْ([227]).
الموضع الرابع: الذي أماته الله (100) عام ثم بَعثَه.
قال الله تبارك وتعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [(2) البقرة: 259].
كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: هُو عُزَيْر([228]).
الموضع الخامِس: في نَفْس القِصّة: إحياء حِمَار عُزَيْر بعد مَوته: (وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ) قال عِكْرِمَة: لَمَّا قَامَ نَظَرَ إِلَى مَفَاصِلِهِ مُتَفَرِّقَةً، فَمَضَى كُلُّ مَفْصِلٍ إِلَى صَاحِبِهِ فَلَمَّا اتَّصَلَتِ الْمَفَاصِلُ كُسِيَتْ لَحْمًا ([229]).
قال ابنُ جَرِير: (نَظَرَ إِلَى حِمَارِهِ يَتَّصِلُ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ -وَقَدْ كان مَاتَ مَعَهَ- بِالْعُرُوقِ وَالْعَصَبِ، ثُمَّ كَيْفَ كُسِيَ ذَلِكَ مِنْهُ اللَّحْمَ، حَتَّى اسْتَوَى، ثُمَّ جَرَى فِيهِ الرُّوحُ، فَقَامَ يَنْهَقُ) ([230]) .
الموضع السّادِس: في قصة إبراهيم الخلِيل عليه الصلاة والسلام.
قال الله عَزّ وَجَلّ: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [(2) البقرة:260].
قال قَتَادَة فِي قَوْلِهِ: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} قَالَ: فَمَزِّقْهُنَّ، قَالَ: أُمِرَ أَنْ يَخْلِطَ الدِّمَاءَ بِالدِّمَاءِ، وَالرِّيشَ بِالرِّيشِ([231]).
وقال مُجَاهِد: {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا} قَالَ: ثُمَّ بَدِّدْهُنَّ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ يَأْتِينَكَ سَعْيًا، وَكَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى([232]).
وهناك ما هو أعجَب مِن هذه الوَقَائع، وهو أن تَتَحوّل العَصا اليَابِسَة إلى مَخْلُوق يَتَحَرّك ويَسْعَى، ثم تَعود عَصا، ثم تتكَرّر هذه الْمُعجِزة ثلاث مرّات.
ففي قصة موسى عليه الصلاة والسلام: تَحَوّلَت العَصا إلى حيّة، ثم عادت عَصا كما كانت، ثم تحوّلت العصا إلى حيّة في مجلس فِرعون، ثم عادت عَصا كما كانت، ثم تحوّلت العَصا إلى حيّة في يوم الزِّينَة، وابْتَلَعَتْ كل ما ألْقَاه السَّحَرَة، وهذا أعجَب مِن مُجرّد إحياء ميّت كان قبل ذلك حيّا، كما في مُعجِزة عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام.
قال الله جلّ جلاله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى} [(20) طه:17 – 21].
هذه المرّة الأولى عندما كَلّمه ربُّه في الوادي الْمُقدَّس.
والثانية في مجلس فرعون:
{قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [(26) الشعراء:30-32].
والثالثة يوم الزينة:
{قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَــةً مُوسَى (67) قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [(20) طه:65-69].
بل وأحيَا الله هارَون عليه الصلاة والسلام مِن أجْل إظهار بَراءة موسى عليه الصلاة والسلام مِن تُهمَة قَتْلِه.
(رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه فِي قَوْلِ اللَّهِ: {لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} [(33) الأحزاب: 69] الآيَةَ، قَالَ: صَعِدَ مُوسَى وَهَارُونُ الْجَبَلَ، فَمَاتَ هَارُونُ، فَقَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ: أَنْتَ قَتَلْتَهُ، وَكَانَ أَشَدَّ حُبًّا لَنَا مِنْكَ، وَأَلْيَنَ لَنَا مِنْكَ، فَآذَوهُ بِذَلِكَ، فَأَمَرَ اللَّهُ الْمَلائِكَةَ فَحَمَلَتْهُ حَتَّى مُرُّوا بِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَتَكَلَّمَتِ الْمَلائِكَةُ بِمَوْتِهِ، حَتَّى عَرَفَ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ فَانْطَلَقُوا بِهِ فَدَفَنُوهُ، فَلَمْ يَطّلِع عَلَى قَبْرِهِ أَحَدٌ مِنْ خَلَقِ اللَّهِ إِلاَّ الرَّخَمَ)([233]).
(وفي رواية عن عليّ رضي الله عنه: فَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالُوا لَهُ: أَيْنَ هَارُونُ؟ قَالَ: تَوَفَّاهُ اللَّهُ. قَالُوا: أَنْتَ قَتَلْتَهُ، حَسَدْتَنَا عَلَى خُلُقِهِ وَلِينِهِ، أَوْ كَلِمَةٌ نَحْوَهَا قَالَ: فَاخْتَارُوا مَنْ شِئْتُمْ قَالَ: فَاخْتَاروا سَبْعِينَ رَجُلا. قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا} [(7) الأعراف: 155] قَال: فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَيْهِ قَــالُوا: يَا هَــارُونُ مَنْ قَتَــلَكَ؟ قَالَ: مَا قَتَلَنِي أَحَدٌ، وَلَكِنَّنِي تَوَفَّانِي اللَّهُ)([234]).
وفي رواية: (فَلَمَّا أَتَوْا الْقَبْرَ، قَالَ مُوسَى: أَقُتِلْتَ أَوْ مُتَّ؟ قَالَ: مُتُّ).
وفي رواية: (فاخْتَارَ مِنْهُمْ سَبْعِينَ رَجُلا. قَالَ: فَلَمَّا أَتَوْا الْقَبْرَ، قَالَ مُوسَى: أَقُتِلْتَ أَوْ مُتَّ؟ قَالَ: مُتُّ. قَالَ: فَأُصْعِقُوا، فَقَالَ مُوسَى: رَبِّ مَا أَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِذَا رَجَعْتُ؟ يَقُولُونَ: أَنْتَ قَتَلْتَهُمْ، قَالَ: فَأُحْيُوا وَجُعِلُوا أَنْبِيَاءَ) ([235]).
وأجرَى اللهُ الْحَجَر كما يَجْرِي الأحياء؛ وليس مُجرّد تحرّك وتَدَحرُج، بل جَرْيًا على غير العادة؛ لإظهار براءة موسى عليه الصلاة والسلام.
قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلاً حَيِيًّا سِتِّيرًا، لاَ يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ، اسْتِحْيَاءً مِنْهُ، فَآذَاهُ مَنْ آذَاهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالُوا: مَا يَسْتَتِرُ هَذَا التَّسَتُّرَ إِلاَّ مِنْ عَيْبٍ بِجِلْدِهِ إِمَّا بَرَصٌ، وَإِمَّا أُدْرَةٌ ([236])، وَإِمَّا آفَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهُ مِمَّا قَالُوا لِمُوسَى، فَخَلاَ يَوْمًا وَحْدَهُ فَوَضَعَ ثيَابَهُ عَلَى الْحَجَرِ ثُمَّ اغْتَسَلَ، فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ إِلَى ثِيَابِهِ لِيَأْخُذَهَا، وَإِنَّ الْحَجَرَ عَدَا([237]) بِثَوْبِهِ، فَأَخَذَ مُوسَى عَصَاهُ وَطَلَبَ الْحَجَرَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: ثَوْبِيَ حَجَرُ، ثَوْبِيَ حَجَرُ([238])، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَلإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَرَأَوْهُ عُرْيَانًا أحْسَنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ، وَأَبْرَأَهُ مِمَّا يَقُولُونَ، وَقَامَ الْحَجَرُ، فَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَلَبِسَهُ، وَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا بِعَصَاهُ. فَوَاللَّهِ إِنَّ بِالْحَجَرِ لَنَدَبًا مِنْ أَثَرِ ضَرْبِهِ ثَلاَثًا، أَوْ أَرْبَعًا، أَوْ خَمْسًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [(33) الأحزاب: 69]([239]).
وكانت الآيات والمعجِزات التي أعطاها الله لِمُوسَى أكثر مِمّا أُعطِي عيسى ابن مريم عليهم السلام.
قـال القرطبي: (قَوْلُــهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [(17) الإسراء:101] وَهِيَ: الْعَصَا، وَالسُّنُونَ، وَالْيَدُ، وَالدَّمُ، وَالطُّوفَانُ، وَالْجَرَادُ وَالْقُمَّلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَفَلْقُ الْبَحْرِ. وَقِيلَ: الْبَيِّنَاتُ: التَّوْرَاةُ، وَمَا فِيهَا مِنَ الدَّلالاتِ)([240]).
فإن كانت مُعجِزة إحياء الموتى التي أعطاها لِعيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام سَبَبًا لاتّخاذِه (إلَهًا) أو (ابن إله) كما تَزعم النصارى؛ فإن موسى عليه الصــلاة والسلام أحقّ بذلك لِكثرة مُعجِزاته، وآدم عليه الصلاة والسلام خَلَقَه الله بِيدِه، وأسْجَد له ملائكتــه؛ فكان أحقّ أن يَكون (ابن إله)، لو كان الله مُتّخِــذًا وَلَدا – ســبحانه وتعــالى عمّا يقــولون عُلوّا كبيرا- {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِــذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [(39) الزمر:4].
وكذلك: ما جاء في قصة داود عليه الصلاة والسلام وأن الجِبال كانت تُسبِّح معه.
قال الله عَزّ وَجَلّ: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [(34) سبأ:10].
فأنْطَق الله الجِبال مُعجزة لِنَبِيّه داود عليه الصلاة والسلام.
فإذا أتَى عيسى ابن مَريم بِآيَة مثل بعض ما سَبق، فلَيْس بِدْعًا مِن الرُّسُل، ولم يَنفرِد بِالْمُعْجِزة، ولا تَفرّد بِمُعجِزة إحياء الموتى، بل أجْرَاها الله عَزّ وَجَلّ على أيدي مَن ذَكَرنا من الأنبياء مِن قَبْله.
وقد شَهِد بِنُبوّة نَبِيّنا محمد صلى الله عليه وسلم الشجر والْحَجَر.
(جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ وهو جالِس حَزِينًا، قد خُضِّبَ بالدماء، ضَرَبَهُ بعضُ أهل مكةَ قال: فقال له: ما لَكَ؟ فقال له: فَعَلَ بي هؤلاءِ وفَعَلُوا، قال: فقال له جبريل عليه السلام: أتُحِبّ أنْ أُرِيكَ آية؟ قال: نعم، قال: فنظرَ إلى شجرة من وراء الوادي، فقال: ادْعُ بِتلك الشّجرةِ، فَدَعَاها فجاءتْ تمشي حتى قامتْ بين يَديه، فقال: مُرْها فلتَرْجِعْ، فأمَرَها فَرَجَعَتْ إلى مَكانها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حَسْبِي، حَسْبِي)([241]).
ولَمّا دَعَا نَبِيّنا محمد صلى الله عليه وسلم شَجَرةً جاءتْ تَمْشِي إليه.
قال ابنُ عمرَ رضي الله عنهما:)كُنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سَفَر فأقبَلَ أعرابي، فلمّا دَنَا منه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين تُريد؟ قال: إلى أهْلِي، قال: هل لكَ في خَير؟ قال: وما هُو؟ قال: تَشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لَهُ، وأن محمدا عبدُه ورسولُه. فقال: ومَن يَشهَدُ على ما تَقُول؟ قال: هذه السَّلَمَةُ([242]). فَدَعَاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بِشَاطِئ الوادِي، فأقْبَلَتْ تَخُدُّ الأرضَ خَدّا حتى قامتْ بين يديه، فاسْتَشْهَدَها ثلاثا، فشَهِدت ثلاثا أنه كَمَا قال، ثم رَجعت إلى مَنْبَتِها، ورَجَع الأعرابي إلى قَومِه، وقال: إن اتّبَعوني أَتَيْتُك بِهِم، وإلاّ رَجَعتُ فكُنتُ مَعك)([243]).
وجاء أعرابي آخر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (بِمَ أعْرِف أنك نَبِيٌّ؟ قال: إن دَعَوتُ هذا العِذقَ([244]) مِن هذه النَّخْلةِ، أتَشهَد إني رسولُ الله؟ فَدَعَاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجَعل يَنْزِل مِن النّخلة حتى سَقَط إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ارجِع، فَعَاد، فأسْلَم الأعرابي)([245]).
وسَلَّم الْحَجَر - وهو جَمَاد - على نَبِيّنا محمد صلى الله عليه وسلم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني لأعرفُ حجرًا بمكةَ كان يُسَلِّم عليّ قبل أن أُبْعَثَ، إني لأعرفه الآن)([246]).
واسْتَجَابتْ له الْجِبَال.
فقد صَعِدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَبَل أُحُد وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ، فَرَجَفَ بِهِمْ، فَضَرَبَهُ بِرِجْلِهِ، فَقَالَ: (اثْبُتْ أُحُدُ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ)([247]).
وفي حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ عَلَى حِرَاءٍ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، فَتَحَرَّكَتِ الصَّخْرَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: اهْدَأْ، فَمَا عَلَيْكَ إِلاَّ نَبِيٌّ، أَوْ صِدِّيقٌ، أَوْ شَهِيدٌ)([248]).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جَبَل أُحُد: (هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ) ([249]).
وهذا أعجَب مِن إحياء ميّت كانت تَدبّ فيه الحياة.
وأوْرَد ابن كثير قولَ الإمام الشافعي: (ما أعْطَى الله نَبِيًّا ما أعْطَى محمدا صلى الله عليه وسلم. فقِيــل له: أعْطَى عيسى إحيـاءَ الْمَوْتَى. فقال: أعْطَى محمدًا صلى الله عليه وسلم الْجِذعَ الذي كان يَخطب إلى جَنبه حين هُيئ له المنبرُ: حَنّ الْجِذْعُ حتى سُمِع صَوتُه، فهذا أكبرُ مِن ذاك.
ثم قال ابن كثير: والمراد مِن إيراد ما نَذكره في هذا الباب التنبيهُ على شَرفِ ما أعطَى الله أنبياءه عليهم السلام مِن الآياتِ البيّنات، والخوارقِ القاطعاتِ، والحججِ الواضحاتِ، وأن الله تعالى جَمَع لِعَبده ورسولِه سَيّدِ الأنبياء وخاتَمِهِم مِن جميع أنواع الْمَحَاسِن والآيات، مع ما اختَصّه الله به مما لم يُؤتِ أحدًا قَبْله....
وإنما قال [يعني: الإمام الشافعي]: فهذا أكْبَر مِن ذلك؛ لأن الجذعَ ليس مَحَلاًّ للحَياة، ومع هذا حصل له شعورٌ وَوَجْدٌ ([250])، لَمّا تَحوّل عنه إلى المنبرِ فَأنَّ وحَنّ حَنينَ العِشَار([251]) حتى نَزَل إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فاحتَضَنَه وسَكَّنه حتى سَكَن([252]).
وأما عَودُ الحياة إلى جَسدٍ كانت فيه بإذنِ الله فَعَظيم، وهذا أعجبُ وأعظم مِن إيجاد حياة وشعور في مَحَلٍّ ليس مألُوفًا لذلك لم تكن فيه قَبْل بِالكُلّيّة) ([253]).
ومِن الآيات التي يُحتَّجّ بها على النصارى، وهي تُوافِق ما عندهم:
قوله تبارك وتعالى عن عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام: {هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ}[(43) الزخرف:59]. ثم قال الله عَزّ وَجَلّ عنه: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [(43) الزخرف:61].
ومَعْنَى الْكَلام: وَإِنَّ عِيسَى ظُهُورُهُ عِلْمٌ يُعْلَمُ بِهِ مَجِيءُ السَّاعَةِ، لأَنَّ ظُهُورَهُ مِنْ أَشْرَاطِهَا، وَنُزُولَهُ إِلَى الأَرْضِ دَلِيلٌ عَلَى فَنَاءِ الدُّنْيَا وَإِقْبَالِ الآخِرَةِ([254]).
كانَ ابْن عَبَّاسٍ يَقْرَأُ {وَإِنَّهُ لَعَلَمٌ لِلسَّاعَةِ} قَالَ: نُزُولُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ([255]).
قال البغوي: (وَإِنَّهُ) يَعْنِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ، {لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} يَعْنِي: نُزُولَهُ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ يُعْلَمُ بِهِ قُرْبُهَا. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَقَتَادَةُ: "وَإِنَّهُ لَعَلَمٌ لِلسَّاعَةِ" بِفَتْحِ اللاّمِ وَالْعَيْنِ، أَيْ: أَمَارَةٌ وَعَلامَةٌ([256]).
وهذا ما أخبَرنا بِه نَبِيّنا محمد صلى الله عليه وسلم.
قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضُ الْمَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ([257]).
وكَسْر عيسى ابن مريم للصَّلِيب وقَتْله للخِنْزِير؛ لأن النصارى اسْتَبَاحُوها، ولأنها نُسِبَت إلى شَرِيعَته كَذِبا وزُورا.
قال النووي: وقوله صلى الله عليه وسلم: "فيَكسِر الصَّلِيب" معناه يَكسِره حقيقة، ويُبْطِل ما يَزعُمه النصارى مِن تَعظِيمه.
وفيه دليل على تغيير المنكرات وآلات الباطل، وقتل الخنْزِير مِن هذا القَبِيل([258]).
وفي هــذا الحــديث: أن عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم سَــيَقوم بأعمال جليلة، منها:
كَسْر الصُّلْبَان، وقَتْل الخِنازير، ومَلء الأرض قِسطا وعَدْلا، ووَضْع الْجِزيَة؛ فلا يَقبَل مِن أحَدٍ إلاّ الإسلام، وتَكْثُر الخيرات في زَمان عيسى؛ حيث يَكثر المال حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَد.
وكَسْر الصُّلْبَان؛ لأن الذي زَعَمُوا أنه قُتِل وصُلِب هو مَن يَكسِر الصّلِيب!
وعيسى ابنُ مريم هو الذي سيَقتُل الدَّجال؛ فَمَسِيح الْحَقّ، سيَقتُل مَسِيح الضَّلاَلَة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُخبِر عن الدَّجَال: فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ([259])، بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ([260])، وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ، إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ قَطَرَ، وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَانٌ كَاللُّؤْلُؤِ([261])، فَلاَ يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلاَّ مَاتَ، وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ، فَيَطْلُبُهُ حَتَّى يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُـدٍّ([262])، فَيَقْتُلُهُ([263]).
فَعِيسى ابن مريم وُلِد في فلسطين، وسَيَقتُل الدَّجّال في فلسطين.
ونُزُول عيسى ابن مريم في آخر الزمان مُوافِق لِمَا عند أهل الكِتاب، وهو ما يَدلّ عليه قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [(4) النساء:159].
قَالَ ابن عباس رضي الله عنهما: قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى([264]).
وقَال الحَسَن البَصْري: قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى، وَاللَّهِ إِنَّهُ الآنَ لَحَيُّ عِنْدَ اللَّهِ، وَلَكِنْ إِذَا نَزَلَ آمَنُوا بِهِ أَجْمَعُونَ([265]).
و"في إنْجِيل مُرْقس في الفصل السادس عشر التَّصْرِيح بِرَفْع الْمَسِيح عليه السلام إلى السَّمَاء"([266]).
وهو مُوافِق لِمَا في القُرآن، فَفِي القرآن الكريم: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [(3) آل عمران:55].
قال ابن جرير الطبري: وَأَوْلَى هَذِهِ الأَقْوَالِ بِالصِّحَّةِ عِنْدَنَا قَوْلُ مَنْ قَال: مَعْنَى ذَلِكَ: إِنِّي قَابِضُكَ مِنَ الأَرْضِ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ؛ لِتَوَاتُرِ الأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَيُقْتَلُ الدَّجَّالَ" ثُمَّ يَمْكُثُ فِي الأَرْضِ مُدَّةٌ ذَكَرَهَا، اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِي مَبْلَغِهَا، ثُمَّ يَمُوتُ، فَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَيَدْفِنُونَهُ([267]).
قال القرطبي: والصَّحِيح أنَّ الله تعالى رَفَعَه إلى السَّمَاء مِن غير وَفَاة ولا نَوم، كما قال الْحَسَن وابن زَيد، وهو اخْتِيَار الطَّبري، وهو الصَّحِيح عن ابن عباس، وقَاله الضَّحَّاك"([268]).
ولذلك: فإن أوّل ما اتُّخِذ عِيد الصَّلِيب بعد رَفْع المسيح بنحو (200) سَنَة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وَعِيد الصَّلِيبِ الَّذِي جَعَلُوهُ فِي وَقْتِ ظُهُورِ الصَّلِيبِ، لَمَّا أَظْهَرَتْهُ هِيلانَةُ الْحَرَّانِيَّةُ الْفُنْدُقَانِيَّةُ أُمُّ قُسْطَنْطِينَ بَعْدَ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلامُ بِمِائَتَيْنِ مِنَ السِّنِينَ ([269]).
ويَستَحيل أن يُرسِل الله رسولاً يَدعو الناس إلى عبادة الله، فَيَأمُرهم بِعِبادة غير الله.
قال الله عزّ وَجَلّ: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [(3) آل عمران:79، 80].
قال ابن كثير: أَيْ: مَا يَنْبَغِي لِبَشَرٍ آتَاهُ اللَّهُ الْكِتَابَ والحُكْم وَالنُّبُوَّةَ أَنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ: اعْبُدُونِي مِنْ دُونِ اللَّهِ. أَيْ: مَعَ اللَّهِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا لا يَصْلُحُ لِنَبِيٍّ وَلا لِمُرْسَلٍ، فَلأَنْ لا يَصْلُحَ لأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ غَيْرَهُمْ بِطَرِيقِ الأَوْلَى وَالأَحْرَى...
ثُمَّ قَالَ: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا} أَيْ: وَلا يَأْمُرُكُمْ بِعِبَادَةِ أَحَدٍ غَيْرِ اللَّهِ، لا نَبِيٍّ مُرْسَلٍ وَلا مَلَكٍ مُقَرَّب {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أَيْ: لا يَفْعَل ذَلِكَ؛ لأنَّ مَنْ دَعَا إِلَى عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ دَعَا إِلَى الْكَفْرِ، وَالأَنْبِيَاءُ إِنَّمَا يَأْمُرُونَ بِالإِيمَانِ، وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [(21)الأَنْبِيَاء:25]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} الآيَةَ [(16) النَّحْل:36]([270]).
ومما أُنْزِل على نَبِيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم: دعوة أهل الكتاب ( اليهود والنصارى) إلى كلمة التوحيد.
قال الله عَزّ وَجَلّ: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [(3) آل عمران:64].
فَدِينُنا هو دِين الأنبياء كافّة.
قال الله تبارك وتعالى: {قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [(2) البقرة:136].
وقال عَزّ وَجَلّ: {قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [(3) آل عمران:84].
وقد جاء خِطاب أهل الكتاب في القرآن كثيرا، فمِن ذلك: قوله عَزّ وَجَلّ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [(5) المائدة:15-16].
آيات وضوابط في مُحاجّة النصارى:
قال الله عَزّ وَجَلّ: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [(29) العنكبوت:46].
قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ مُحْكَمَةٌ؛ فَيَجُوزُ مُجَادَلَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ عَلَى مَعْنَى الدُّعَاءِ لَهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى حُجَجِهِ وَآيَاتِهِ، رَجَاءَ إِجَابَتِهِمْ إِلَى الإِيمَانِ، لا عَلَى طَرِيقِ الإِغْلاظِ وَالْمُخَاشَنَةِ([271]).
ومِن الْحُجج التي تُلزِم النصارى: أن يُسألُوا عن اعتقادِهم في عيسى ابن مريم؛ فإنهم مُتفرِّقون مُختَلِفون في اعتقادِهم بِعيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام.
فإن زَعموا أنه إلَه أو ابن الله – تعالى الله –، فيُقال لهم: مَن خَلَق الْخَلْق؟ مَن خَلَق السماوات والأرض؟ فسيُجِيبون: الله. فيُسألون عندها: ماذا خَلَق وأوْجَد عيسى ابن مريم بِنفسه؟ هل خَلَق عيسى شيئا؟!
فــإن الابن يَفعل مثل ما يَفعل أبوه، فإن كان ابن الله – كما تَزعُمون – فأين صِفَــة الْخَلْــق والإيجاد؟! فإذا كان لَم يَخلُق شــيئا، فإننا نعلَم يقينا أنه ليس إله!
ويُسأل النصارى:
أرأيتم لو كان لي خمسة أبناء، أربعة يَعصُونني ويَعقّونني ويُؤذونني ولا يُطيعونني، والخامس هو البارّ الراشد المطيع. فإذا عاقَبْت الخامِس لأجل الأربعة، أكُون ظالِما أو عادِلاً؟! فسيُجِيبُون: تكون ظالِمًا!
فيُقال لهم عندها: هذا اعتقادِكم بإلَهِكُم! تعتقدون أن المسيح صُلِب مِن أجل ذنوب الْخَلْق، أو مِن أجل ذُنوب آدم، كما يعتقد بعضهم!
وسألتهم مرّة: لو أن امرأة معها وَلد تُحبّه، فهل تُمكنّي مِنه لأُؤذِيه وأعذّبه؟!
فأجابَت النساء: لا.
فقلت: أنتم تعتقدون أن الله مَكّن أعداء المسيح مِن صَلْبه وتَعذِيبه!
نحن خير مِنكم في الاعتقاد في المسيح، حيث نعتقد أن الله رَفَع المسيح، وعَصَمه مِن أعدائه.
قال الله عَزّ وَجَلّ رَدّا على مَزاعِم وافتراءات اليهود: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [(5) المائدة:156 - 158].
فالقَول بِصَلْب المسيح إنما كان مِن قَول اليهود ومِن افترائهم.
ماذا يترتّب على القَول بِصَلْب المسيح لأجْل ذُنُوب البَشَر؟
أولاً: نُقرِّر النصارى بأن الله على كل شيء قدير. وهذا يُقِرّون به.
ثم نُقرِّر تَبَعًا لذلك: أن مِن كَمال قُدرته مغفرة الذنوب. وأن الأنبياء جميعا دَعَوا أقوامهم إلى الاستغفار، وأخْبَرُوهُم أن الله غافِر الذِّنْب.
قال نَبِيّ الله نُوح عليه الصلاة والسلام لِقومِه: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [(71) نوح:10-12].
وقال نَبِيّ الله هُود عليه الصلاة والسلام لِقومِه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُــوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [(11) هود:52].
وقال نَبِيّ الله صالح عليه الصلاة والسلام لِقومه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [(11) هود:61].
وقال نَبِيّ الله محمد عليه الصلاة والسلام لِقومِه: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [(11) هود:3].
ثانياً: يَتَرَتّب على القَول بِصَلْب المسيح لأجل ذُنُوب البَشَر: أن الله لا يَقدِر على مَغفرة الذّنوب، إلاّ بِمُعاقَبَة مَن ليس له ذَنْب ! وهذا خِلاف ما قَرّرناه، وما اتّفقَتْ عليه الرُّسُل.
ثالثاً: يَترتّب على ذلك: تَمَادِي العُصاة في المعاصي، وعدم الكَفّ عنها، بل والتّمادِي في الجرائم إذا عَلِموا أنه مَغفور لهم!
رابعاً: نحن نَرى الكنائس تُبنى في كل مكان؛ فلماذا تُبْنَى الكنائس ويَرْتَادها النصارى إذا كان قد غُفِر لهم بِصَلْب المسيح؟؟!
خامساً: عند القَسَاوسة ما يُسمّى بالتّعميد في الماء أو رَشّ الماء، وهذا بِزعمِهم لأجل مَغفرِة الذّنوب. فلماذا يَتمّ التعميد في الماء إذا كانت الذّنوب مغفورة بِصَلْب المسيح؟؟!
أهل الكِتاب في الخطاب القُرآني:
قال العالم الرباني ابن قيم الجوزية - رحمه الله - عن أهل الكِتاب في الخطاب القُرآني:
الأقسام أربعة:
1- {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} وهذا لا يَذْكُره سبحانه إلاّ في مَعرِض الْمَدْح.
2- و{الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ} لا يَكون قطّ إلاّ في مَعرِض الذَّمّ.
3- و{الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} أعمّ منه، فإنه قد يَتَنَاوَلهما، ولكن لا يُفرَد به الْمَمْدُوحُون قط.
4- و{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} يَعُمّ الْجِنْس كُلّه، ويَتَناول الْمَمْدُوح منه والْمَذْمُوم كَقَولِه: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ} الآية [(3) آل عمران:113، 114].
وقال في الذَّمّ: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ} [(98) البَيِّنَة:1] ([272]).
ولَعل هذه الأمْثِلــة الأخــيرة مِن قَبِيل الوَصْف وليس مِن جِنْس الخطاب.
وإنما الذي يَصدق عليه أنه خِطَاب، قوله تعالى في الذم: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [(3)آل عمران:70، 71].
وكَقَولِه تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} [(5)المائدة:15].
ويُمكن إضافة نوع خامس، وهو:
5- الأمر والنهي في {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ}.
كقوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} الآية [(3) آل عمران:64].
وكَقَولِه تبارك وتعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ} الآية [(4) النساء:171].
وأهْل الكِتاب يَشمَل اليهود والنصارى، ويُقصد به أحيانا اليهود، وأحيانا أخرى النصارى، ويُفْهَم المقصُود مِن سِياق الكَلام.
ويَرِد وَصْف أهل الكِتاب بِالْمَدْح والذَّمّ
وقد يَرِد الْمَدْح والذَّمّ في آية واحِدة؛ كَقَوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [(3) آل عمران:75]، وهذا يُقصَد به اليهود.
وأخبَر الله تبارك وتعالى عن أقوال اليهود والنصارى، وألْزَمَهم بِالْحُجّة الظّاهِرة والدليل القاطِع بُطلان أقوالهم.
فقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [(5) المائدة:17-18].
ولَمّا سأل اللهُ عيسى ابن مريم – ورَبّك أعلَم -: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ}؟ كان جَوَاب عيسى عليه الصلاة والسلام: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [(5) المائدة:116، 117].
فَعِيسى ابن مريم تَبَرّأ مما نُسِب إليه مِن اتِّخاذِه إلَـهًا، بل هو عَبْدٌ وَنَبِيّ دَعا الناس إلى عِبادة الله وحده تبارك وتعالى.
ونَحن أُمِرنا أن نُصلِّي على المسيح عيسى ابن مريم كلّما ذَكَرناه، أو ذَكَرنا غيره من الأنبياء.
قال نَبِيّنا محمد صلى الله عليه وسلم: صَلُّوا عَلَى أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَهُمْ([273]).
ونَبِيّنا محمد صلى الله عليه وسلم أجَاب دَعْوة يهودي عندما دَعَاه، وأكَل مِن طَعَامه([274]).
وفي حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ يَهُودِيَّةً أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا، فَجِيءَ بِهَا فَقِيلَ أَلاَ نَقْتُلُهَا؟ قَالَ: لا([275]).
وفي رواية: فَجِيءَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَتْ: أَرَدْتُ لأَقْتُلَكَ! قَالَ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَى ذَاكِ. قَالَ: أَوْ قَالَ، عَلَيَّ.
المَبْحَث الثامن أرقام وحقائق قرآنية
ذُكِر عيسى عليه الصلاة والسلام في القرآن الكريم (25) مرّة، وذُكِر اسمه كاملا (عيسى ابن مريم) (16) مرة، وذُكِر بِاسْم (المسيح) (11) مرّة.
وذُكِرت مريم عليها السلام باسْمِها (11) مرّة، منها (6) مرّات في: سُورة آل عمران.
وفي القرآن سورة كاملة بِاسْم (مَريم)، ذُكِر فيها تفاصيل حَمْل مريم بِعيسى وولادته، وتكلّم عيسى في المهد، وإظهار الله براءة مريم.
وذُكِرت ولادة مريم عليها السلام في سورة بِاسْم (آل عمران)، وكيف كانت كفالة زكريا عليه الصلاة والسلام لهـا([276]).
وذُكِر "الحوارِيّون" في القرآن (5) مرّات.
وذُكِر إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام أكثر مِن (60) مرّة.
وذُكِر موسى عليه الصلاة والسلام أكثر مِن (130) مرّة.
بينما ذُكِر اسم محمد صلى الله عليه وسلم (4) مرّات، واحِدة منهن في موضع مَدْح، وهو قوله تبارك وتعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} الآية [(48) الفتح:29]، والمواضع الثلاثة الباقية في إثبَات بَشَرِيّته صلى الله عليه وسلم، وهي في سُور: [(3) آل عمران:144]، [(33) الأحزاب:40]، [(47) محمد:2].
ولم تُذكر واحدة مِن نساء النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولا أحد مِن أقارِبه، ولا ذُكِر أحدٌ مِن أصحابه باسْمِه إلاّ (زيد)؛ وذِكْره لِبَيَان حُكْم مِن الأحكام الشرعيّة، وذلك في قوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَـاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَـاكَهَا لِكَيْ لا يَكُـونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَـرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَـائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُـنَّ وَطَرًا وَكَـانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} [(33) الأحزاب:37].
فلو كان القرآن مِن عِند محمد نَفْسِه لَذَكَر نَفسَه وأهله أكثر مما ذَكَر الآخَرين.
وفائدة معرفة هذه الأرقام: أن يُعلَم أن القُرآن مِن عند الله، وأن دِين الأنبيــاء واحِد، وأنّنا نُؤمِن بِعيـــسى ابن مريم ونُحبّه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ، وَالأَنْبِيَاءُ أَوْلادُ عَلاّتٍ، لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ([277]).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاّتٍ؛ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ([278]).
ومعنى "إِخْوَة لِعَلاَّتٍ" أو "أَوْلاد عَلاَّتٍ": الَّذِينَ أمَّهاتُهم مُخْتَلفةٌ وَأَبُوهُمْ واحِدٌ.
أرادَ أنَّ إيمانَهم واحِدٌ، وشرائِعَهُم مُخْتَلِفة([279]).
أي: كأنّ الأنبياء إخوة لأب، تَجْمَعهم الأصول، وتَختَلِف شَرائعهم.
فَدِينُ الأنبياء مِن حيث الأصل واحِد، فالاعتقاد واحد، وإن اخْتَلَفَت الشّرَائع.
ويَتّفِق الأنبياء في إثبات ثَلاث: إثباتُ التوحيدِ، وإثباتُ المعادِ، وإثباتُ النبوّاتِ.
قال الشوكاني: وَأما مَقَاصِد الْقُرْآن الْكَرِيم الَّتِي يُكرِّرها ويُورِد الأدِلَّة الْحِسّية والعقلية عَلَيْهَا، وَيُشِير إِلَيْهَا فِي جَمِيع سُورِه، وَفِي غَالب قصصه وَأَمْثَاله؛ فَهِيَ ثَلَاثَة مَقَاصِد، يَعرف ذَلِك مَن لَهُ كَمَال فَهْم، وَحُسن تَدبّر، وجَودة تَصوّر، وَفَضْل تَفَكّر:
الْمَقْصد الأول: إِثْبَات التَّوْحِيد.
الْمَقْصد الثَّانِي: إِثْبَات الْمَعَاد.
الْمَقْصد الثَّالِث إِثْبَات النبوات([280]).
وأن القُرآن العَظِيم مُشتَمِل على أخبار الأنبياء والأمم الماضية، وأنه حَقّ، وقد تَكفّل الله بِحفظِه، كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [(15) الحجر:9].
وأما الكُتُب السَّابِقة فوُكِل حِفْظها إلى أهلها، فأضَاعُوها، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} [(5) المائدة:44].
قال يحيى بن أكْثَم: كان للمَأمون -وهو أمير إذّ ذاك- مجلس نَظَر، فَدَخل في جملة الناس رَجل يهودي، حَسَنَ الثَّوب، حَسَن الوَجْه، طَيِّب الرَّائحة، قال: فَتَكَلَّم فأحْسَن الكَلام والعِبارة، قال: فلما تَقَوَّض الْمَجْلِس دَعَاه المأمُون، فقال له: إسرائيلي؟ قال: نعم. قال له: أسْلِم حتى أفعل بِك وأصْنَع، ووَعَدَه، فقال: دِيني ودِين آبائي، وانصرف. قال: فلما كان بعد سنة جَاءَنا مُسْلِماً. قال: فَتَكَلَّم على الفِقْه فأحْسَن الكَلام، فَلَمَّا تَقَوَّض الْمَجْلِس دَعَاه الْمَأمون، وقال: ألَسْتَ صاحبنا بالأمس؟ قال له: بلى. قال: فما كان سَبب إسلامِك؟ قال انْصَرَفْتُ مِن حَضْرَتِك فأحْبَبْتُ أن أمتحن هذه الأديان، وأنت تَراني حَسَن الْخَطّ، فَعَمِدْتُ إلى التوراة فَكَتَبْتُ ثلاث نُسَخ فَزِدتُ فيها ونَقَصْتُ، وأدخلتها الكَنيسة([281]) فاشتُرِيَت مِنِّي، وعَمِدْتُ إلى الإنجيل فَكَتَبْتُ ثَلاث نُسخ، فزِدتُ فيها ونَقَصْتُ، وأدخلتها البِيْعَة فاشتُريت مِنِّي، وعَمِدْتُ إلى القرآن فَعَمِلْتُ ثلاث نُسخ، وزِدتُ فيها ونقصت وأدخلتها الورَّاقِين، فتَصَفّحُوها فلمّا أن وَجَدوا فيها الزيادة والنقصان رَمَوا بها، فَلَم يَشتَرُوها، فَعَلِمْتُ أنَّ هذا كِتَاب مَحْفُوظ، فَكان هذا سَبَب إسْلامي.
قال يحيى بن أكثم: فَحَجَجْتُ تلك السَّنَة فَلَقِيتُ سفيان ابن عيينة فَذَكَرْتُ له الْخَبَر، فقال لي: مِصْدَاق هذا في كتاب الله عزّ وَجلّ! قال: قلتُ: في أيّ مَوضِع؟ قــال: في قول الله تبارك وتعالى في التوراة والإنجيل: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} [(5) المائدة:44] فَجَعَل حِفْظه إليهم فَضَاع، وقال عزّ وَجلّ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [(15) الحجر:9]، فَحَفِظَه الله عز وجل عَلينا فَلَم يَضِع([282]).
المَبْحَث التاسع معجزاته (صلى الله عليه وسلم) سِوى القرآن الكريم
لَمّا كان القرآن أعظَم مُعجِزات النبي محمد صلى الله عليه وسلم، كما تقدَّم، فنُشير إلى أنواع مُعجِزاته صلى الله عليه وسلم الْمُتَعَلِّقَةُ بِالقُدْرَة والفِعْل والتّأثير.
أنواع مُعجزاته صلى الله عليه وسلم:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وآياته صلى الله عليه وسلم الْمُتَعَلِّقَةُ بِالقُدْرَة والفِعْل والتّأثير أنواع([283]).
الأول منها: ما هو في العالَم العُلويّ؛ كانْشقاقِ القَمَر، وحِرَاسةِ السماء بالشُّهبِ الحراسةَ التّامةَ لَمّا بُعِث، وكَمِعْرَاجه إلى السماء.
والنوع الثاني: آيات الْجَوّ؛ كَاسْتِسْقَائه صلى الله عليه وسلم، واستِصْحَائه([284])، وطاعةِ السَّحَابِ له، ونُزُولِ المطَرِ بِدُعائه صلى الله عليه وسلم، كما في حديث أنس رضي الله عنه ([285])، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم دَعَا وهو على المنبر يوم الجمعة فَنَزَل المطر أسبوعا كاملا، ثم دَعَا الجمعة التي تَلِيها، فتوقّف نُزول المطَر.
والنوع الثالث: تَصَرّفه في الحيوان: الإنس، والجن، والبهائم؛ وذَكَرَ شيخ الإسلام ابن تيمية مُخاطَبَته صلى الله عليه وسلم للحَيوانِ والطَّيْر والْجِنّ.
وذَكَر حديثَ سَفِينَةَ مَوْلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، قال: رَكِبتُ البَحر في سفينة، فانْكَسَرتْ، فَرَكِبت لَوْحًا مِنها فطَرَحَني في أَجَمَةٍ فيها أسَدٌ، فلم يَرُعْني إلاّ بِهِ، فقلت: يا أبا الحارِث، أنا مَولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطأطأ رأسه، وغمَز بِمَنْكِبه شِقِّي، فمَا زَال يَغْمِزني، ويَهْدِيني إلى الطريق، حتى وَضَعَني على الطريق فلمّا وَضَعَني هَمْهَم، فَظَنَنْتُ أنه يُوَدّعِنُي([286]).
وفي حديث عثمانَ بنِ أبي العاصِ رضي الله عنه قال: يا رسولَ الله عَرَض لي شيء في صَلَواتي حتى ما أدري ما أُصَلّي. قال: ذاك الشيطانُ، أدْنُه، فَدَنَوتُ منه، فجَلَسْتُ على صُدور قَدمَيّ، قال: فضَرب صَدْرِي بِيدِه، وتفَل في فَمِي، وقال: اخْرُج عدو الله - ففعل ذلك ثلاثَ مراتٍ - ثم قال: اِلْحَقْ بِعمَلك. فقال عثمان: فَلعَمْري ما أحسَبُه خالَطَني بَعد([287]).
ولَمّا دَخَل النبي صلى الله عليه وسلم حائطَ رَجلٍ مِن الأنصار فإِذا جَمَلٌ، فلمّا رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم حَنَّ وذرفتْ عَيْنَاه، فأتاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم فمَسَحَ ذِفْراه ([288])، فسَكَتَ، فقال: مَن رَبُّ هَذَا الجمَلِ؟ لِمَن هذا الجملُ؟ فجاء فتًى مِن الأنصار فقال: لي يارسولَ اللَّه، فقال: أفلا تَتّقِي اللهَ في هذه البَهِيمَة التي مَلَّكَكَ اللَّهُ إياها؟ فإنه شَكَا إلَيَّ أنك تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ ([289]).
وحَدَّث عبدُاللَّه بنُ مَسْعُود رضي الله عنه فقال: كُنّا مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في سَفَر، فانطلقَ لِحَاجَته، فَرَأينا حُمّرةً معها فَرْخَان، فأخذنا فَرْخَيها، فجاءت الْحُمَّرَةُ فَجَعَلَتْ تَفرُش([290])، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: مَن فَجَع هذه بِوَلدِها؟ رُدّوا وَلدَها إليها. ورأى قَرية نَمْل قد حَرَقناها، فقال: مَن حَرَق هذه؟ قلنا: نحن، قال: إنه لا يَنْبَغي أن يُعذِّبَ بالنارِ إلاّ ربُّ النار([291]).
وفي رواية: كُنّا مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في سَفر، فَدخل رَجُل غَيضةً فأخْرَج منها بَيضةَ حُمّرةٍ، فجاءت الحُمّرةُ تَرِفُّ على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال: أيكُّم فَجَعَ هذه؟ فقال رَجُل مِن القوم: أنا أخذتُ بَيضتَها، فقال: رُدّه رُدّه، رَحْمَةً لها([292]).
والنوعُ الرابع: آثارُهُ في الأشجارِ والخشَب؛ وذَكَر شيخ الإسلام ابن تيمية حديث حَنِين الْجِذع([293])، وتقدَّم أيضا اسْتِجَابَة الشَّجَر له صلى الله عليه وسلم([294]).
والنوعُ الخامس: آثاره في الماء والطعام والثمار، حيث كان يَكْثر بِبَرَكَته فَوق العادة. وذَكَر شيخ الإسلام ابن تيمية تكثِيره صلى الله عليه وسلم للطَّعام والشَّرَاب والثِّمَار.
فمن ذلك:
أنه صلى الله عليه وسلم دعا وبارَك في طعام قليل، فكَفَى أَلْفَ شخص، وذلك يومُ الخندق.
قال جابر: فأقْسِمُ بالله لقد أكَلوا حتى ترَكُوه وانْحَرَفُوا، وإن بُرْمَتِنَا لَتَغِطُّ كَمَا هِي، وإنّ عَجِينَتَنَا لَتُخْبَزُ كما هِي([295]).
قال النووي: وقد تضمن هذا الحديث عَلَمَين مِن أعلام النبوة:
أحدهما: تكثيرُ الطعام القليل.
والثاني: عِلمُه صلى الله عليه وسلم بأنّ هذا الطعام القليل الذي يَكفي في العادة خمسة أنفس أو نحوهم سيكثر فيَكفِي ألفًا وزيادة، فَدَعَا له ألفًا قَبْل أن يَصِل إليه وقد عَلِم أنه صَاعُ شَعِيرٍ وَبُهَيْمَة([296]).
وفي حديث أنس رضي الله عنه: أُتِيَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بِإنَاء وهو بالزَوراء، فوَضع يَده في الإناء، فَجَعَل الماءُ يَنبعُ مِن بين أصابِعه، فتَوضّأ القَوم. قال قتادةُ: قلت لأنس: كَم كُنتم؟ قال: ثلاثمائة أو زُهاءُ ثلاثمائة([297]).
وفي حديث جابر رضي الله عنه: رَأَيْتُنِي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ حَضَرَتِ العَصْرُ، وَلَيْسَ مَعَنَا مَاءٌ غَيْرَ فَضْلَةٍ، فَجُعِلَ فِي إِنَاءٍ فَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهِ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ وَفَرَّجَ أَصَابِعَهُ، ثُمَّ قَالَ: حَيَّ عَلَى أَهْلِ الوُضُوءِ، البَرَكَةُ مِنَ اللَّهِ. قال جابر: فَلَقَدْ رَأَيْتُ المَاءَ يَتَفَجَّرُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، فَتَوَضَّأَ النَّاسُ وَشَرِبُوا. قال سَالِمُ بْنُ أَبِي الجَعْدِ: قُلْتُ لِجَابِرٍ: كَمْ كُنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: أَلْفًا وَأَرْبَعَ مِائَةٍ([298]).
وفي قِصة دَيْن عبدالله بن حَرَام رضي الله عنه – والِد جابر بن عبدالله رضي الله عنهما- قَال رسول الله صلى الله عليه وسلم لِجَابر رضي الله عنه: اذْهَبْ فَبَيْدِرْ ([299]) كُلَّ تَمْرٍ عَلَى نَاحِيَةٍ، فَفَعَلْتُ ثُمَّ دَعَوْتُهُ، فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَيْهِ كَأَنَّهُمْ أُغْرُوا بِي تِلْكَ السَّاعَةَ فَلَمَّا رَأَى مَا يَصْنَعُونَ أَطَافَ حَوْلَ أَعْظَمِهَا بَيْدَرًا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ جَلَسَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لَكَ أَصْحَابَكَ. فَمَا زَالَ يَكِيلُ لَهُمْ حَتَّى أَدَّى اللَّهُ عَنْ وَالِدِي أَمَانَتَهُ، وَأَنَا أَرْضَى أَنْ يُؤَدِّيَ اللَّهُ أَمَانَةَ وَالِدِي، وَلاَ أَرْجِعَ إِلَى أَخَوَاتِي بِتَمْرَةٍ، فَسَلَّمَ اللَّهُ الْبَيَادِرَ كُلَّهَا وَحَتَّى إِنِّي أَنْظُرُ إِلَى الْبَيْدَرِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَأَنَّهَا لَمْ تَنْقُصْ تَمْرَةً وَاحِدَةً([300]).
وأما النوع السادس: فتَأثيرُه في الأحجارِ، وتصَرُّفُه فيها، وتسخيرُها له.
وتقدَّم تَسْلِيم الحَجَر عليه صلى الله عليه وسلم، ومُخاطَبَته صلى الله عليه وسلم لِجَبَل أُحُد([301]).
والنوع السابع: تأييدُ اللهِ له بملائكته.
قال الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [(8)الأنفال:9]، وقال تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آَلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [(3) آل عِمران:124، 125].
وفي الصحيحين - واللفظ لِمُسْلِم - عن ابن عباس عن عُمر بن الخطاب قال: لَمّا كان يوم بَدْر نَظَر رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلاَثُ مِئَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ لاَ تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ، مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ، فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [(8) الأنفال:9]، فَأَمَدَّهُ اللَّهُ بِالْمَلاَئِكَةِ.
قال ابْنُ عَبَّاسٍ: بَيْنَمَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَشْتَدُّ فِي أَثَرِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَمَامَهُ، إِذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ فَوْقَهُ وَصَوْتَ الْفَارِسِ يَقُولُ: أَقْدِمْ حَيْزُومُ، فَنَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِ أَمَامَهُ فَخَرَّ مُسْتَلْقِيًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ قَدْ خُطِمَ أَنْفُهُ، وَشُقَّ وَجْهُهُ، كَضَرْبَةِ السَّوْطِ فَاخْضَرَّ ذَلِكَ أَجْمَعُ، فَجَاءَ الأَنْصَارِيُّ، فَحَدَّثَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: صَدَقْتَ، ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ. فَقَتَلُوا يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ، وَأَسَرُوا سَبْعِينَ([302]).
والنوع الثامن: في كفايةِ اللهِ له أعداءَه، وعِصْمَتِه له مِن الناس.
فقد عَصَمَه الله مِن مَكْر اليهود، ففي حديث أَنَسٍ، أَنَّ امْرَأَةً يَهُودِيَّةً أَتَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا، فَجِيءَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَتْ: أَرَدْتُ لأَقْتُلَكَ، قَالَ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَى ذَاكِ، قَالَ: أَوْ قَالَ، عَلَيَّ([303]).
وحَفظه الله وحَرَسَه مِن كَيد المشرِكين وبَطْشِهم.
قال أَبُو جَهْلٍ: هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ فَقِيلَ: نَعَمْ، فَقَالَ: وَاللاَّتِ وَالْعُزَّى لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ، أَوْ لأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ، قَالَ: فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلِّي، زَعَمَ لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ، قَالَ: فَمَا فَجِئَهُمْ مِنْهُ إِلاَّ وَهُوَ يَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ، قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لَخَنْدَقًا مِنْ نَارٍ وَهَوْلاً وَأَجْنِحَةً.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لَوْ دَنَا مِنِّي لاَخْتَطَفَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا([304]).
وهذا فيه: كفايةِ اللهِ لِنَبِيّه صلى الله عليه وسلم أعداءَه، وعِصْمته له مِن الناس، وتأييده له بالملائكة.
وعَصَمَ الله رَسُوله مِن مُؤامَرات الْمُشْرِكِين.
ففي حديث ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْمَلأَ مِنْ قُرَيْشٍ اجْتَمَعُوا فِي الْحِجْرِ، فَتَعَاهَدُوا بِاللاّتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةِ الأُخْرَى: لَوْ قَدْ رَأَيْنَا مُحَمَّدًا، قُمْنَا إِلَيْهِ قِيَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَلَمْ نُفَارِقْهُ حَتَّى نَقْتُلَهُ، قَالَ: فَأَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ تَبْكِي حَتَّى دَخَلَتْ عَلَى أَبِيهَا، فَقَالَتْ: هَؤُلاءِ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِكَ فِي الْحِجْرِ، قَدْ تَعَاهَدُوا: أَنْ لَوْ قَدْ رَأَوْكَ قَامُوا إِلَيْكَ فَقَتَلُوكَ، فَلَيْسَ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلاَّ قَدْ عَرَفَ نَصِيبَهُ مِنْ دَمِكَ، قَالَ: "يَا بُنَيَّةُ أَدْنِي وَضُوءًا " فَتَوَضَّأَ ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِمُ الْمَسْجِدَ، فَلَمَّا رَأَوْهُ، قَالُوا: هُوَ هَذَا، هُوَ هَذَا. فَخَفَضُوا أَبْصَارَهُمْ، وَعُقِرُوا فِي مَجَالِسِهِمْ، فَلَمْ يَرْفَعُوا إِلَيْهِ أَبْصَارَهُمْ، وَلَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ رَجُلٌ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى قَامَ عَلَى رُءُوسِهِمْ، فَأَخَذَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ، فَحَصَبَهُمْ بِهَا، وَقَالَ: "شَاهَتِ الْوُجُوهُ" قَالَ: فَمَا أَصَابَتْ رَجُلا مِنْهُمْ حَصَاةٌ إِلاّ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا([305]).
والنوع التاسع مِن مُعجِزاته صلى الله عليه وسلم: إجابةِ دعوتِه.
تقدَّم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دَعَا ربَّه يوم بَدْر([306])، وأن الله استجاب دُعاءه، ودَعَا في طلب الْمَطَر ورَفعه، فاستجاب دعاءه([307]).
ودَعا على قريش فقال: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ([308])؛ فأجَاب الله دَعوته.
ودَعا على ابن أبي لهب، فاستجاب الله دُعاءه.
كَانَ لَهَبُ بْنُ أَبِي لَهَبٍ يَسُبُّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبَكَ "فَخَرَجَ فِي قَافِلَـةٍ يُرِيـدُ الشَّامَ، فَنَزَلَ مَنْزِلاً، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ دَعْوَةَ مُحَمَّـدٍ، قَـالُوا لَهُ: كَـلاّ، فَحَطُّـوا مَتَاعَهُمْ حَوْلَــهُ وَقَعَدُوا يَحْرُسُونَهُ، فَجَاءَ الأَسَدُ فَانْتَزَعَهُ، فَذَهَبَ بِهِ"([309]).
وإجابات دعواته صلى الله عليه وسلم وقَعَت كثيرا.
والنّوع العاشِر – مما لم يَذكره شيخ الإسلام ابن تيمية –: تحقق وَعْده، وتَصدِيق الله له في حال حياته وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك: أنه أخْبَر بِمَصَارِع أعدائه، وأشار إلى أماكِن قَتْلِهم؛ فكان كما أخبر عليه الصلاة والسلام.
قال أنس رضي الله عنه: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يوم بَدْر: هَذَا مَصْرَعُ فُلانٍ، قَالَ: وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى الأَرْضِ: هَـاهُنَا، هَاهُنَا، قَالَ: فَمَا مَاطَ أَحَدُهُمْ عَنْ مَوْضِعِ يَدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم([310]).
قال النووي: قوله: "فَمَا مَاطَ أَحَدُهُمْ" أَيْ: تَبَاعَدَ([311]) .
والمعنى: أنه ما تجاوز أحدٌ منهم الموضِع الذي حَدّده النبي صلى الله عليه وسلم لِمَقْتلِه فيه وتَوعَّد الْمُشرِك أن يَقْتُله؛ فَقَتَلَه
ولَمّا جَاءَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِعَظْمِ حَائِلٍ، فَقَالَ: اللَّهُ مُحْيِي هَذَا يَا مُحَمَّدُ وَهُوَ رَمِيمٌ؟ وَهُوَ يَفُتُّ الْعَظْمَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يُحْيِيهِ اللَّهُ، ثُمَّ يُمِيتُكَ، ثُمَّ يُدْخِلُكَ النَّارَ. قَالَ الزهري: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ قَالَ: وَاللَّهِ لأَقْتُلَنَّ مُحَمَّدًا إِذَا رَأَيْتُهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: بَلْ أَنَا أَقْتُلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ([312]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والنبي صلى الله عليه وسلم كان أكمَل الناس في هذه الشجاعة، التي هي المقصودة في أئمة الْحَرَب، ولم يَقتُل بِيدِه إلاّ أُبَيّ بن خَلَف، قَتَلَه يوم أُحُد، ولم يَقْتل بِيدِه أحدًا لا قَبْلها ولا بَعدها([313]).
وقال ابن القيم: وَأَقْبَلَ أُبَيّ بن خَلَف عَدُوُّ اللَّهِ، وَهُوَ مُقَنَّعٌ فِي الْحَدِيدِ، يَقُولُ: لا نَجَــوْتُ إِنْ نَجَا مُحَمَّدٌ، وَكَانَ حَلَفَ بِمَكَّةَ أَنْ يَقْتُلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَقْبَلَهُ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، فَقُتِلَ مصعب، وَأَبْصَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَرْقُوَةَ أُبَيّ بن خَلَف مِنْ فُرْجَةٍ بَيْنَ سَابِغَةِ الدِّرْعِ وَالْبَيْضَةِ، فَطَعَنَهُ بِحَرْبَتِهِ، فَوَقَعَ عَنْ فَرَسِهِ، فَاحْتَمَلَهُ أَصْحَابُهُ، وَهُوَ يَخُورُ خُوَارَ الثَّوْرِ، فَقَالُوا: مَا أَجْزَعَكَ؟ إِنَّمَا هُوَ خَدْشٌ، فَذَكَرَ لَهُمْ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: بَلْ أَنَا أَقْتُلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَمَاتَ بِرَابِغ([314]).
وأما ما بعد وفاته([315]) صلى الله عليه وسلم؛ فهو كثير، ومِنه: أنه صلى الله عليه وسلم أخْبَر بِخُروج نار مِن أرض الحجاز، فَوَقَع ما أخبر به بعد وفاته صلى الله عليه وسلم بأكثر مِن (600) سَنة.
وفي الحديث: لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَخْرُجَ نَارٌ مِنْ أَرْضِ الحِجَازِ تُضِيءُ أَعْنَاقَ الإِبِلِ بِبُصْرَى([316]).
المَبْحَث العاشر الفَرْق بين القُرآن والحديث والحديث القُدسي
في نهاية هذا البحث أشير إلى الفُرُوق بين القرآن والحديث القدسي، والفَرْق بين الحديث القدسي والحديث النَّبَوي.
الفَرْق بين القُرآن والحديث القُدسيّ:
- القُرآن: نَزَل به جبريل عليه الصلاة والسلام على نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، والوَحْي أنواع.
أما الحديث القدسي فلا يُشتَرط فيه أن يكون الواسِطة فيه جبريل، فقد يكون جبريل هو الواسطة فيه، أو يكون بالإلْهَام، أو يَكون بِغَير ذلك.
- القُرآن: قطعيّ الثّبوت، فهو مُتَواتِر كُلّه.
أما الحديث القدسي فمِنه الصحيح والضعيف والموضوع.
- القُرآن: مُتَعبّد بِتِلاوته، فمَن قَرأه فَلَه بِكُلّ حَرف حَسَنة، والحسنة بعشرة أمثالها.
وأما الحديث القدسي: فَغير مُتعَبّد بتلاوته.
- القُرآن: مُقَسّم إلى سُور وآيات وأحزاب وأجزاء.
وأما الحديث القدسي: فلا يُقسّم هذا التقسيم.
- القُرآن: مُعجِز بِلَفظه ومَعناه.
وأما الحديث القدسي: فليس كذلك.
- القُرآن: جاحِده يُكفُر، بل مَن يَجحَد حَرْفا واحدا منه يَكفُر.
وأما الحديث القدسي: فإن مَن جَحَد حديثا أو استنكره نظراً لحال بعض رُواته، فلا يكفر.
- القُرآن: لا تجوز رِوَايته أو تلاوته بالمعنى.
وأما الحديث القدسي: فتجوز روايته بالمعنى.
- القُرآن: كلام الله لفظًا ومعنى.
وأما الحديث القدسي: فمَعناه من عند الله ولَفظه مِن عند النبي صلى الله عليه وسلم.
- القُرآن: تَحدّى الله العَالَمِين أن يأتُوا بِمِثلِه لَفْظا ومَعنى.
وأما الحديث القدسي: فليس مَحلّ تَحَدٍّ.
- القُرآن: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمُر بِكِتابَتِه.
وأما الحديث القدسي: فَلَم يَكُن النبي صلى الله عليه وسلم يأمُر بِكِتابَتِه.
والفرق بين الحديث النبوي والحديث القدسي:
الحديث القدسي: يَنْسبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى رَبّه تبارك وتعالى.
وأما الحديث النبوي: فلا يَنسبه إلى ربه سبحانه.
الأحاديث القدسية: أغلبها يتعلق بموضوعات الخوف والرجاء، وكلام الربّ جلّ وعلا مع مخلوقاته، وقليل منها يَتعرّض للأحكام التكليفية.
وأما الأحاديث النبوية: فيتطرق إلى هذه الموضوعات بالإضافة إلى الأحكام.
الأحاديث القدسية: قليلة بالنسبة لمجموع الأحاديث.
وأما الأحاديث النبوية: فهي كثيرة جدا.
وعموما:
الأحاديث القدسية: قَوْلِيّة.
والأحاديث النبوية: قَوْلِيّة وفِعْلِيّة وتَقْرِيريّة([317]).
وأما كيف يَعرِف الصحابة ويُميِّزون بين القرآن وغيره؟
فالجواب: مِن عِدّة أوجه:
الوَجْه الأول: أن القُــرآن يُعرَف بِما يُتلَى مِنه في الصلاة وما يَقرأه النبي صلى الله عليه وسلم عليهم.
الوَجْه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمُر بِكِتابة القُرآن، ولا يأمُر بِكتابة ما عَداه إلاّ قليلا، كما أمَر بِكتابة خُطبَته لأبي شاهٍ ([318]).
الوَجْه الثالث: أن العَرب كانت تَعرِف الكلام وتُميِّز بين أنواعه، حتى مَن لم يُسلِم كان يُميِّز القرآن مِن غيره مِن الكَلام.
ولَمّا ذَكَر مُســيلِمة بعض ما ادَّعــاه مِن الوَحي، سأل عَمْرو بن العاص رضي الله عنه عن رأيه فيما قال، فقال عَمرو: فقلت: والله إنك لَتَعلم أنك مِن الكَاذِبين([319]).
ولَمَّا أجَار ابْنُ الدَّغِنَة أبا بكر الصِّدّيق رضي الله عنه قالت قريش لابن الدَّغِنَة: مُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، فَلْيُصَلِّ وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ، وَلاَ يُؤْذِينَا بِذَلِكَ، وَلاَ يَسْتَعْلِنْ بِهِ، فَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، قَالَ ذَلِكَ ابْنُ الدَّغِنَةِ لأَبِي بَكْرٍ، فَطَفِقَ أَبُو بَكْرٍ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، وَلاَ يَسْتَعْلِنُ بِالصَّلاَةِ وَلاَ الْقِرَاءَةِ فِي غَيْرِ دَارِهِ، ثُمَّ بَدَا لأَبِي بَكْرٍ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ وَبَرَزَ، فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَيَتَقَصَّفُ([320]) عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ يَعْجَبُونَ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلاً بَكَّاءً لاَ يَمْلِكُ دَمْعَهُ حِينَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ، فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، وَإِنَّهُ جَاوَزَ ذَلِكَ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ وَأَعْلَنَ الصَّلاَةَ وَالْقِرَاءَةَ، وَقَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا([321]).
الفراغ الذي بعده يزال.
والشاهِد مِن هذا: أن الْمُشْرِكِين يَسْتَمِعون إلى القُرآن، فيَعرِفون القرآن مِن غيره، وهُم لم يُؤمِنوا به، فالذي آمَن بالقرآن أوْلَى أن يَعرِف القرآن مِن غيره مِن سائر الكلام، ولو تُلِي بِنفس طريقة تلاوة القرآن.
والله تعالى أعلم.
كان الفراغ منه في شهر جمادى الآخرة 1439هـ - الرياض.
وتَمّت مُراجَعته في شوال 1439هـ. ثم المراجعة النهائية في محرّم 1441هـ.
وأسأل الله التوفيق والعَون والقَبول.
{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
([1]) رواه الإمام أحمد (ح 21439) وابن جرير في تفسيره (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) (9/236).
([2]) رواه مسلم (ح 527).
([3]) جامِع بيان العِلم وفَضله (2/1129).
([4]) الرقم الذي بين الأقواس هو رقم السورة، والذي بعده هو رقم الآية؛ فَتَنَبّه لهذا.
([5]) الروح في القرآن الكريم ترد ويراد بها تارة الروح المخلوقة كما في قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [سورة الإسراء:85]، وتارة يراد بها جبريل عليه السلام كما في قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ...} [سورة النحل:102]، وقولـه تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [سورة الشعراء:193]، وتارة يراد به القرآن الكريم كما في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[سورة الشورى:52]، وتارة يراد به ما يجعله الله في قلوب أنبيائه وأوليائه من الهدى والتأييد الذي يؤيد الله به رسله وأولياءه كما في قوله تعالى:{أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ...} [سورة المجادلة:22]، انظر كتاب الجواب الصحيح لشيخ الإسلام ابن تيمية 3/273.
([6]) معالِم التّنْزِيل (2/119، 120).
([7]) فتح الباري، لابن حجر (13/445).
([8]) دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب (ص 253).
([9]) وانظر ما تقدّم في الصفحة السابقة.
([10]) الأصل في لُغة العرب أنّ الضّمير في قوله تعالى: {فَإنَّهُ} : يعودُ على أقربِ مذكورٍ وهو جبريل عليه السلام (م).
([11]) أي في سورة القيامة (75)، وهذا هو رقم السورة حسب ترتيب المصحف.
([12]) رواه البخاري (ح 4929) ومسلم (ح 935)، ورمز (ح) يَرمز لِلحديث، وما بعده رقم الحديث في الكتاب.
([13]) رواه ابن جرير في تفسيره: جامع البيان عن تأويل آي القرآن (16/180).
([14]) الجامع لأحكام القرآن (11/250).
([15]) الدرّ المنثور، للسيوطي (8/483).
([16]) تفسير ابن جرير: : جامع البيان عن تأويل آي القرآن (24/315). وسيأتي ما يتعلّق بالنّسْخ وأنواعه. انظر: ص (68) وما بعدها من هذا البحث.
([17]) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره "جامع البيان عن تأويل آي القرآن" (12/287).
([18]) الجامع لأحكام القرآن (8/382).
([19]) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره "جامع البيان عن تأويل آي القرآن" (12/355).
([20]) السيرة النبوية، لابن كثير (1/201).
([21]) انظر: السيرة النبوية الصحيحة، للدكتور أكرم العُمري (1/97).
([22]) اتقان البرهان (1/204).
([23]) رواه البخاري (ح 4582) ومسلم (ح 1817).
([24]) رواه البخاري (ح 6) ومسلم (ح 6075).
([25]) فتح الباري (9/44). وانظر تتمة كلامه في ص (46) من هذا البحث. ومعنى: "لا يَحْنَث" أي: لا يأثَم ولا تَلْزَمه الكفّارة.
([26]) اتقان البرهان (1/204) بتصرّف يسير.
([27]) هذا القول والذي بعده: رواهما ابن جرير في تفسيره: جامع البيان عن تأويل آي القرآن (3/191).
([28]) رواه البخاري (ح 4800)، ورواه مسلم بِنحوه (ح 5877) مِن حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
([29]) رواه أبو داود (ح 4738)، وإسناده صحيح، وعلّقَه البخاري (9/172) موقوفا على ابن مسعود، إلاّ أن مثله لا يُقال مِن قَبِيل الرأي؛ فَلَه حُكم الحديث المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
([30]) الرأي المعتمد عند أهل السنة والجماعة أنّ جبريل عليه السلام سمع القرآن الكريم من الله تعالى مباشرة، أما القول بأن جبريل عليه السلام أخذه من اللوح المحفوظ فهو قول ضعيف جداً (م).
([31]) تفسير القرآن (5/359).
([32]) رواه البخاري (ح 4731).
([33]) رواه البخاري (ح 4758).
([34]) تفسير ابن أبي حاتِم (8/2575).
([35]) تفسير ابن أبي حاتِم (8/2575)، والحديث في سنن أبي داوود (ح/ 14406).
([36]) رواه البخاري (ح 4990).
([37]) قال ابن حجر في "فتح الباري" (13/186): وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْخَطّ.
([38]) وفي رواية لأحمد: فَتَعَلَّمْتُهَا فِي سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وفي رواية أبي داود: فلم يَمُرَّ بي إلاّ نِصفُ شَهرٍ حتَّى حَذِقْتُه. والجمع بين الروايتين: أن ذِكر (17) يوما على التحديد، وذِكر (15) على التقريب، ويكون طَرَح ما زاد عن نصف الشهر. والتذكير في " حذِقتُه" راجِع إلى كتابَ يهودَ، والتأنيث في "تَعَلَّمْتُهَا" راجِع إلى اللغة.
([39]) رواه الإمام أحمد (ح 21618) وأبو داود (ح 3645) والترمذي (ح 2715) وصححه الألباني والأرناؤوط. ورواه البخاري تَعلِيقًا (6/2631).
([40]) (3/380).
([41]) المعروف بِحَنْظِلَة الكاتِب [تهذيب الكَمَال، للمزِّي (7/438) ].
([42]) زاد المعاد (1/117).
([43]) (ح 6493).
([44]) رواه البخاري ومسلم. وسبق تخريجه – ص (18).
([45]) فتح الباري (9/45).
([46]) فضائل القرآن، لابنِ الضُّرَيس (ص 75).
([47]) يَعني: النبي صلى الله عليه وسلم.
([48]) رواه البخاري (ح 3623) ومسلم (ح 2540).
([49]) اتقان البرهان، للدكتور فضل حسن عباس (1/205).
([50]) (ح 4679).
([51]) قال البغوي في شرح السُّنّة (4/515): قوله: استحرّ القتل أي: كثُر واشتدّ.
([52]) يعني: قال لِزَيْد بن ثابت رضي الله عنه.
([53]) يُخاطِب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما.
([54]) قال القسطلاّني: "مِن الرِّقاع " بكسر الراء جمع رُقْعَة مِن أديم أو وَرَق أو نحوهما. "والأكْتَاف" بالمثناة الفوقية جمع كَتف: عَظم عَريض في أصل كَتف الحيوان، ينشف ويُكتب فيه. "والعُسب" بضم العين والسين المهملتين آخره موحدة جمع عَسِيب، وهو جَرِيد النّخل يَكشطون خُوصَه ويَكتبون في طَرَفَه العَرِيض.
([55]) وفي رواية للبخاري: فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ الْعُسُبِ وَاللِّخَافِ. قال البغوي في شرح السُّنّة (4/515): والعُسُب: جمع عَسِيب وهو سَعَف النخل. واللِّخاف قال أبو عبيد: واحدتها لَخْفَة، وهي حجارة بيض رِقاق.
([56]) انظر: فتح الباري، لابن حجر (9/19، 44، 45).
([57]) انظر: البداية والنهاية، ابن كثير (9/465 -472).
([58]) انظر: تاريخ الطبري، ابن جرير الطبري (3/203) والبداية والنهاية، ابن كثير (5/233)، وفتح الباري لابن حَجَر (9/44)، والرحيق المختوم (ص 619).
([59]) فتح الباري (9/12).
([60]) البداية والنهاية، ابن كثير (9/472).
([61]) الفصل في الملل والأهواء والنحل (2/69).
([62]) النصارى مجمعون على أن المسيح عليه السلام لم يترك إنجيلاً مكتوباً، والأناجيل الأربعة الموجودة اليوم في أيدي النصارى ليس شيء منها منسوباً؛ بل هي منسوبة لكتابها، وهؤلاء الأربعة لم تثبت صحبتهم للمسيح عليه السلام، ولا يُعرف بأي لغة كتبت هذه الكتب الأربعة، ولا تاريخ كتابتها، ولا أين كتبت؟. (م).
([63]) هذا يَقُوله الإمام الحافظ ابنُ كثير في زمانه، وقد تُوفي سَنَة 774 هـ. فَكَيْف بالاختلاف والتحريف والزيادات في زَماننا؟!
([64]) البداية والنهاية (2/528، 529).
([65]) إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (7/163).
([66]) إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (7/447).
([67]) صحيح البخاري (ح 4411).
([68]) رواه البخاري (ح 3810) ومسلم (ح 6422). وفي رواية: قال قتادة لأنَس: مَنْ أَبُو زَيْدٍ؟ قَالَ: أَحَدُ عُمُومَتِي.
([69]) شرح السنة (4/516).
([70]) رواه البخاري (ح 4999) ومسلم (ح 2464).
([71]) المفْهِم، للقرطبي (20/110).
([72]) فتح الباري، ابن حجر (9/48).
([73]) هو: محمد بن الطيب بن محمد، القاضي أبو بكر البَاقِلاني، وله كِتاب "الانتصار للقرآن".
([74]) يعني: الخلفاء الراشدين: أبو بكر وعُمر وعثمان وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم.
([75]) الجامع لأحكام القرآن (1/57)، ويُنظَر تفسير ابن كثير (1/24).
([76]) كما في صحيح البخاري (ح 664) ومسلم (ح 870).
([77]) رواه مسلم (ح 1477).
([78]) تفسير القرآن العظيم (1/24).
([79]) يعني: عمر رضي الله عنه.
([80]) رواه الإمام أحمد (ح 175).
([81]) الاستذكار (2 /502).
([82]) رواه ابن أبي شيبة (ح 30757).
([83]) رواه ابن أبي شيبة (ح 30758).
([84]) رواه عبد الرزاق (ح 7727).
([85]) التّبتّل هو الانقطاع للعبادة، ومنه قوله تعالى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} [(73) المزمل:8] أي: انقطع في العبادة وإخلاص النّية انقطاعا يَختصّ به. [المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني (ص 107) ].
([86]) الانتصار للقُرآن (1/152)، وقد ذَكَر الباقلاني عَددًا ممن حَفِظ القرآن مِن الصحابة.
([87]) تفسير القرطبي: الجامع لأحكام القرآن (3/340).
([88]) الانتصار للقُرآن، للباقلاني (1/153)، ومعنى " هَيْعَةٌ ": يَعْنِي الصياحَ والضجَّةَ. قال أبو عَمْرٍو: الهائِعة والواعِية الصَّوْتُ الشَّدِيدُ. [لسان العرب (8/378)]. والمعنى: أنهم صار لهم صوت وظهور مِن كثرتهم وشُهرتهم.
([89]) وهؤلاء مِن حُفّاظ القرآن، ولا شكّ أن جَمْع هؤلاء مِن الاحتياط للقرآن؛ لأن الجماعة أبْعَد عن الخطأ مِن الواحِد.
([90]) رواه البخاري (ح 4987)، وانظر: جامع البيان، ابن جرير (1/54).
([91]) لأنه ربما أَثْبَت بعض الصحابة قراءات تفسيرية في مُصحفه، أو ما نُسِخَت تلاوته؛ فأثبَت عثمان رضي الله عنهم ما في المصحف الذي جُمِع قَبلَه، وليس فيه قراءات تفسيرية، ولا ما نُسِخَت تلاوته.
([92]) الانتصار للقرآن ( 1/64).
([93]) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف (ص 96).
([94]) الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي) (1/88).
([95]) رواه ابن المقرئ في "المعجم" (ص 168) وابن شاهين في "الترغيب" (ص 67) وأبو نُعيم في "حِلْية الأولياء" (7/209) والبيهقي في "شعب الإيمان" (ح 2027)، وحسّنه الألباني في "الصحيحة" (ح 2342). وهذا بِخلاف ما ذهب إليه د. الرومي في: دراسات في علوم القرآن الكريم، (ص 83) حول تسمية المصحف.
([96]) (ص 49، 50)، وآخره بِلَفظ: وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ.
([97]) فتح الباري، ابن حجر (9/12).
([98]) فتح الباري، ابن حجر (9/12).
([99]) فتح الباري (9/13).
([100]) فتح الباري (9/44).
([101]) رواه البخاري (ح 45) ومسلم (ح 7630).
([102]) الروايتان: رواهما الإمام البخاري (ح 5027، 5028).
([103]) رواه البخاري (ح 5027).
([104]) رواه البخاري (ح 5002) ومسلم (ح 2463).
([105]) رواه البخاري (ح 5000) ومسلم (ح 2462).
([106]) انظر على سبيل المثال: الْمُكْتَفَى في الوَقْف والابْتِدَا، لأبي عمرو الداني، وجَمَال القُرّاء وكَمَال الإقراء، لِعَلَم الدِّين السّخاوي، والطّراز في شرح ضبط الْخَرّاز، للتّنَسِي.
وقد ذَكَر الدكتور أحمد شرشال في مقدمة تحقيقه لكتاب "الطراز في شرح ضبط الْخَرّاز" جُمْلة مِن المؤلَّفَات خاصة ما يتعلّق بالضبْط والشكل.
([107]) أي: في حالَ النَّوم.
([108]) الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي (1/17).
([109]) انظرها في: الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي (1/36 - 44)، ومناهل العرفان في علوم القرآن، للزَّرْقاني (1/162، 163)، وإتقان البرهان، للدكتور فضل حسن عباس (1/382 - 384).
([110]) إتقان البرهان، للدكتور فضل حسن عباس (1/382، 383) بتصرّف واختصار يسير.
([111]) والمشَهُور: "أنَّ المكي ما نزل قبل الهجرة، وإن كان بالمدينة، والمدنيّ ما نزل بعد الهجرة، وإن كان في مكة"، وقد اعتمده كثير من العلماء، واشْتُهِر بينهم . انظر: مناهل العرفان في علوم القرآن، للزرقاني (1/160). ( م ).
([112]) مناهل العرفان في علوم القرآن، للزَّرْقاني (1/162، 163)، وإتقان البرهان، للدكتور فضل حسن عباس (1/383، 384) بتصرّف واختصار يسير.
([113]) الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي) (12/5)، وانظر: جامع البيان (تفسير ابن جرير) (16/489 - 494).
([114]) إلّا سورة الحج، فهي مُختلف فيها (م).
([115]) مناهل العرفان في علوم القرآن، للزَّرْقاني (1/163)، وإتقان البرهان، للدكتور فضل حسن عباس (1/384) بتصرّف واختصار يسير.
([116]) رواه ومسلم (ح 4660). وروى البخاري (ح 4834) عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) قَالَ: الْحُدَيْبِيَة.
([117]) رواه البخاري (ح 3775).
([118]) رواه مسلم (ح 824).
([119]) الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي) (12/5).
([120]) رواه مسلم (ح 1195).
([121]) الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي) (6/29).
([122]) مَعَالِم السُّنَن، وهو شرح سنن أبي داود (4/94).
([123]) رواه مسلم (ح 5649).
([124]) رواه البخاري (ح 3429) ومسلم (ح 242).
([125]) انظر: ص (46-47) مِن هذا البحث.
([126]) رواه البخاري ومسلم. وقد تقدّم، انظر: ص (51).
([127]) رواه البخاري ومسلم. وقد تقدّم، انظر: ص (51).
([128]) رواه الأزرقي في "أخبار مكة" (1/50)، وابن عبدالبر في "جامع بيان العلم وفضله" (1/464)، وأوْرَده ابن حجر في "فتح الباري" (1/315) والسيوطي في "لإتقان في علوم القرآن" (4/233).
([129]) مَن أراد الاستزادة؛ فيُراجِع: "البرهان في علوم القرآن"، تأليف: بدر الدِّين الزّرْكَشِيّ، و"الإتقان في علوم القرآن" للسيوطي.
([130]) اختلف العلماء في ترتيب سور القرآن الكريم على ثلاثة أقوال:
الأول: إن ترتيب السور على ما هو عليه الآن في المصاحف كان باجتهاد الصحابة، ولم يكن بتوقيف من النبي - صلى الله عليه وسلم-. ينسب هذا القول إلى الإمام مالك، وجمهور غفير من العلماء.
الثاني: أن ترتيب جميع السور كان بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم كترتيب الآيات، ويعبِّر عن هذا الرأي الكرماني في البرهان، فيقول: ترتيب السور هكذا هو عند الله في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب، وعليه كان صلى الله عليه وسلم يعرض على جبريل كل ســنة ما كان يجتمع عنده منه، وعرضه عليه في السنة التي توفي فيها مرتين. أ. هـ.
القول الثالث: أنَّ سـور القرآن ترتيبها توقيفي إلّا قليلًا منها؛ فترتيبيه عن اجتهاد من الصحابة رضي الله عنهم. دراسات في علوم القرآن، لمحمد بكر إسماعيل، ص 60-63. (م).
([131]) رواه مسلم (ح 1764) وانظر: تفسير ابن كثير (1/30) وما بعدها.
([132]) رواه البخاري (ح 7375) ومسلم (ح 1842).
([133]) رواه مسلم (ح 1825). والأحاديث في تسمية بعض سُور القرآن كثيرة.
([134]) هي سورة الإسراء، وتُسمّى: سُورة سُبحان؛ لأنها مُفتتحة بـ (سبحان).
([135]) رواه البخاري (ح 4739).
([136]) شرح صحيح البخاري (10/240).
([137]) رواه البخاري (ح 4029)، ويُنظر: " الإتقان في علوم القرآن " السيوطي (1/186 – 199).
([138]) التحرير والتنوير (19/215).
([139]) انظر: صحيح البخاري (6/153) وجامع الترمذي (5/362) وتفسير القرطبي (14/81) وتفسير ابن كثير (7/515).
([140]) الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي) (15/288).
([141]) التحرير والتنوير (26/71).
([142]) الإتقان في علوم القرآن (1/186).
([143]) رواه عبدالرزاق في الْمُصَنَّف (ح 7947) وابن أبي شيبة في الْمُصَنَّف (ح 30307).
([144]) شرح صحيح البخاري (10/239).
([145]) التبيان في آداب حملة القرآن، النووي (ص 99).
([146]) يَعني: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [(2) البقرة:240].
([147]) رواه البخاري (ح 4530).
([148]) تفسير القرآن العظيم (1/658).
([149]) عُمدة القاري (8/473).
([150]) الإحكام في أصول الأحكام، ابن حزم (1/505).
([151]) الانتصار للقرآن (1/281).
([152]) شرح السنة (4/523)، ويُنظر: التبيان في آداب حملة القرآن، النووي (ص 49، 50). و "الإتقان في علوم القرآن" السيوطي (1/176 - 179).
([153]) قال ابن كثير في تفسيره (1/47): وَالْمُرَادُ مِنَ التَّأْلِيفِ هَاهُنَا: تَرْتِيبُ سُوَرِهِ.
([154]) شرح صحيح البخاري (10/239)، ونَقَلَه القرطبي في تفسيره: الجامع لأحكام القرآن (1/98).
([155]) الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي) (1/98).
([156]) رواه البخاري (ح 4609).
([157]) شرح صحيح البخاري (10/239، 240)، ونَقَلَه القرطبي في تفسيره: الجامع لأحكام القرآن (1/98).
([158]) تفسير القرآن العظيم (1/30).
([159]) الإتقان في علوم القرآن (1/211).
([160]) يعني: أن يَتمّ تعليم الصِّبيان وحديث العهد بالإسلام ونحوهم مِن سورة الناس إلى سورة النّبأ مثلا.
([161]) التبيان في آداب حملة القرآن، النووي (ص 99).
([162]) التبيان في آداب حملة القرآن، النووي (ص 99).
([163]) المجموع شرح الْمُهذَب (3/242).
([164]) تفسير القرآن العظيم (1/30).
([165]) جَمَال القُرّاء وكَمَال الإقراء، لِعَلَم الدِّين السّخاوي (ص 335). وقد ألَّف العلماء كُتُبا في معرفة النّاسخ والمنسوخ، منها: الناسخ والمنسوخ للإمام قتادة بن دعامة السدوسي، والناسخ والمنسوخ للإمام الزهري، والْمُصَفّى بأكُفّ أهل الرسوخ مِن عِلم الناسخ والمنسوخ، لابن الجوزي، وناسخ القرآن العزيز ومنسوخه، لابن البارِزي. وهي مطبوعة في كتاب واحد بتحقيق د. حاتم الضامن.
([166]) الجامع لأحكام القرآن (10/176).
([167]) معالِم التّنِزيل (3/96).
([168]) التمهيد (3/215).
([169]) الجامع لأحكام القرآن (2/63).
([170]) تفسير القرآن العظيم (1/379).
([171]) التمهيد (3/215).
([172]) الْمُصَفّى بأكُفّ أهل الرسوخ مِن عِلم الناسخ والمنسوخ (ص 12).
([173]) الجامع لأحكام القرآن (9/15).
([174]) الموافقات (3/345).
([175]) وانظر: تقسيم سُوَر القرآن بِحَسب ما دَخَله مِن النَّسْخ وما لم يَدخله، في كتاب "البرهان في علوم القرآن" للزَّركَشِيّ (2/33).
([176]) سأكتفي في كل نوع بِمثال واحد.
([177]) رواه البخاري (ح 6829) ومسلم (ح 4436).
([178]) رواه مسلم (ح 3587).
([179]) الْمُصَفّى بأكُفّ أهل الرسوخ مِن عِلم الناسخ والمنسوخ (ص 52).
([180]) رواه البخاري (ح 4505).
([181]) فتح الباري (8/180).
([182]) سورة الأنفال (8): الآيات (65، 66)، كما في رقم (3) ص: (71-72).
([183]) جَمَال القُرّاء وكَمَال الإقْراء (ص 335، 336).
([184]) مِن كلام الحافظ ابن حجر في فَتْح الباري (8/194).
([185]) قاله البغوي في تفسيره "معالِم التّنْزِيل" (5/21).
([186]) رواه ابن جرير في تفسيره (2/391) ورَوَى عن الربيع نحوه (2/393).
([187]) رواه الترمذي (ح 2167) مِن حديث ابن عمر، ورواه ابن ماجه (ح 3950) مِن حديث أنس. وصححه الألباني والأرناؤوط.
([188]) رواه أبو داود (ح 788). وصححه الألباني والأرناؤوط.
([189]) رواه البيهقي في السنن الكبرى (ح 2207). ورواه عبدالرزاق (ح 2617) مِن قول سعيد بن جبير.
([190]) أخبر الله في محكم تنزيله أن في القرآن محكما ومتشابهاً فقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} قال السيوطي:
وَقَدْ حَكَى ابْنُ حَبِيبٍ النَّيْسَابُورِيُّ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ أَقْوَال:
أَحَدُهَا أَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ مُحْكَمٌ لِقَوْلِهِ تعالى:{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ}.
الثَّانِي كُلُّهُ مُتَشَابِهٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ}.
الثَّالِثُ وَهُوَ الصَّحِيحُ انْقِسَامُهُ إِلَى مُحْكَمٍ وَمُتَشَابِهٍ لِلْآيَةِ الْمُصَدَّرِ بِهَا.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ عَلَى أَقْوَالٍ:
فَقِيلَ: الْمُحْكَمُ مَا عُرِفَ الْمُرَادُ مِنْهُ، وَالْمُتَشَابِهُ مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ كَقِيَامِ السَّاعَةِ وَخُرُوجِ الدَّجَّالِ وَالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ.
وَقِيلَ: الْمُحْكَمُ مَا وَضَحَ مَعْنَاهُ وَالْمُتَشَابِهُ نَقِيضُهُ.
وَقِيلَ: الْمُحْكَمُ مَا لَا يَحْتَمِلُ مِنَ التَّأْوِيلِ إِلَّا وَجْهًا وَاحِدًا، وَالْمُتَشَابِهُ مَا احْتَمَلَ أَوْجُهًا.
وقيل: الْمُحْكَمُ مَا كَانَ مَعْقُولَ الْمَعْنَى، وَالْمُتَشَابِهُ بِخِلَافِهِ كَأَعْدَادِ الصَّلَوَاتِ وَاخْتِصَاصِ الصِّيَامِ بِرَمَضَانَ دُونَ شَعْبَانَ قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ.
وَقِيلَ: الْمُحْكَمُ مَا اسْتَقَلَّ بِنَفْسِهِ، وَالْمُتَشَابِهُ مَا لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ إِلَّا بِرَدِّهِ إِلَى غَيْرِهِ.
وَقِيلَ: الْمُحْكَمُ مَا تَأْوِيلُهُ تَنْزِيلُهُ، والمتشابه ما لا يدري إِلَّا بِالتَّأْوِيلِ.
وَقِيلَ: الْمُحْكَمُ مَا لَمْ تَتَكَرَّرْ أَلْفَاظُهُ، وَمُقَابِلُهُ الْمُتَشَابِهُ.
وَقِيلَ: الْمُحْكَمُ الْفَرَائِضُ وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ، وَالْمُتَشَابِهُ الْقِصَصُ وَالْأَمْثَالُ.
الإتقان في علوم القرآن (3/3- 4) .
وينقسم المُتشابِه في القرآن الكريم إلى ثلاثة أقسام هي:
أولًا: المُتشابه من جِهة المَعْنى وحده، (مَعنوي/ حَقيقي): وهو ما لا يستطيع البشر جميعًا أن يصلوا إليه كالعلم بذاتِ الله، وحقائق صِفاته، وكالعلِم بيومِ القِيامة ونحوه من العُلوم الّتي استّأثر الله تعالى بها.
ثانيًا: المُتشابه من جِهة الّلفظِ وحده، (الّلفظي): وهو مَا يستطيع كلّ إنسانٍ معرفته عن طريقِ البَحْثِ والدّرس، كالمُتشابهات الّتي نَشأ التشابه فيها من الإجْمَالِ والبَسْطِ والإطْنَابِ، والتّرتيب، وغرابة اللفظ، ونحو ذلك.
ثالثًا: المُتشابه من جِهَة المعنى واللفظ مَعا،(مَعنوي ولَفظي): وهو ما يَعلمه خَواصّ العُلماء دون عامّتهم، انظر: مناهل العرفان في علوم القرآن، للزّرقاني (2/220 – 222) ،والذي أشار إليه الشيخ – رحمه الله – في بابه، هو النوع الأول من المتشابه، (م).
([191]) رواه البخاري (ح 4547) ومسلم (ح 6869).
([192]) رواه عبدالرزاق في تفسيره (1/253)، وابن جرير الطبري في تفسيره (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) (1/70).
([193]) البرهان في علوم القرآن (2/164 – 166).
([194]) مفتاح دار السعادة (1/281 – 284).
([195]) تفسير أضواء البيان (2/380).
([196]) أضواء البيان (6/346) باختصار.
([197]) أضواء البيان (6/346) باختصار.
([198]) وكذلك قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً (32)} [سورة الفرقان:32].
([199]) مفاتيح الغيب (التفسير الكبير) (14/333) بتصرّف يسير.
([200]) البداية والنهاية (2/99)، وانظر (9/305، 306)، وما بين المعكوفتين زيادة ليستقيم الكلام.
([201]) رواه البخاري (ح 4981) ومسلِم (ح 302).
([202]) تفسير القرآن العظيم (4/461). وقوله: "وَلا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ" أي: لا يَبلَى ولا يُملّ إذا كثُر ترداده وتكراره.
([203]) البداية والنهاية (9/305، 306).
([204]) يُنكِر بعضهم لفظ "التحدّي"، وقد جَرَى على ألسِنَة العلماء؛ كابن عطية في تفسيره، وسيأتي قوله، والقرطبي في تفسيره، وابن كثير في تفسيره، وقد مَضَى قوله، وابن حَجَر في فتح الباري، وسيأتي قوله.
([205]) فتح الباري (6/582).
([206]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن (تفسير ابن جرير) (23/429).
([207]) إنجيل يُوحنّا (6:53، 54). وانظر: إنجيل متّى (26).
([208]) إنجيل يُوحنّا (50:6).
([209]) يعني: سورة القرة.
([210]) البرهان في توجيه مُتَشَابِه القرآن لِمَا فيه مِن الْحُجّة والبيان (ص 74).
وتُراجَع في هذا الباب الكُتب التالية: "درّة التَّنْزِيل وغرّة التأويل"، تأليف: الخطيب الإسكافي. و"كَشْف الْمَعَاني في الْمُتَشَابِه والْمَثَاني"، تأليف: ابن جماعة. و"التعبير القرآني"، تأليف: د. فاضِل السَّامُرائي.
و"نظرات لغوية في القرآن الكريم"، تأليف: د. صالح العايد.
([211]) هَذِهِ ذَكَرَها الزَّرقانيّ -رَحِمَه اللهُ - في كتابِهِ النافِعِ "مناهِل العِرفانِ" (2/324)، ونَقَلتُها باختصار يسير، وزيادة في بعض المواضع.
([212]) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (4/150).
([213]) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (4/151).
([214]) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/52).
([215]) الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي) (2/168).
([216]) انظر كلام الشوكاني، (ص 130) مِن هذا البحث.
([217]) الجامع لأحكام القرآن، تفسير القرطبي (1/74).
([218]) يَعني: الْوَلِيدِ بن الْمُغِيرَة.
([219]) الجامع لأحكام القرآن، تفسير القرطبي (19/72).
([220]) تفسير القرآن العظيم (8/504).
([221]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن (تفسير ابن جرير) (2/618).
([222]) رواه ابن جرير في تفسيره: جامع البيان عن تأويل آي القرآن (1/696).
([223]) نَقَلَه ابن كثير في تفسيره (1/265).
([224]) نَقَلَه القرطبي في تفسيره "الجامع لأحكام القرآن" (1/404).
([225]) رواه ابن جرير في تفسيره: جامع البيان عن تأويل آي القرآن (2/125).
([226]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن (تفسير الطبري) (2/128).
([227]) رواه ابن جرير في تفسيره: جامع البيان عن تأويل آي القرآن (4/421)، والحسن هو البصري.
([228]) رواه ابن جرير في تفسيره: جامع البيان عن تأويل آي القرآن (4/579)، ورَوى ابن جرير أقوالاً أخرى في تعيين اسْم الذي أماته الله ثم أحيَاه.
([229]) تفسير ابن أبي حاتم (2/504).
([230]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن (4/587)، والنّهِيق هو صَوت الْحِمَار.
([231]) رواه ابن جرير في تفسيره: جامع البيان عن تأويل آي القرآن (4/641).
([232]) رواه ابن جرير في تفسيره: جامع البيان عن تأويل آي القرآن (4/647).
([233]) رواه ابن جرير في تفسيره (19/194) وابن أبي حاتم في تفسيره (10/3158). و"الرَّخَمَةُ طَائِرٌ يَأْكُلُ الْعَذِرَةَ، وَهُوَ مِنْ الْخَبَائِثِ، وَلَيْسَ مِنْ الصَّيْدِ" (المصباح المنير، للفَيّومِي 1/224).
([234]) رواه ابن جرير في تفسيره (10/470). وفي الصحيحين – وسيأتي –: ذُكِر سَبب آخَر في أذِيّة بني إسرائيل لموسى عليه الصلاة والسلام، وتَبرِئة الله له. ولا مانِـع مِن أن تكــون أذِيّة بني إسرائيل لموسى عليه الصلاة والسلام قد تكررت بأكثر مِن مَوقف، ويكون لِتبرئته أكثر مِن سبب.
([235]) رواه ابن جرير في تفسيره (10/471).
([236]) الأدْرَةُ بالضَّمِّ: نَفْخّةٌ في الخُصْيَة (النهاية في غريب الأثر، ابن الأثير (1/60).
([237]) أي جَرَى وأسْرَع.
([238]) أي: يُنادِي الحَجَر: هات ثوبي. قال ابن حجر: أي: أعطني ثوبي، أو رُدّ ثَوبي (فتح الباري 6/437).
([239]) رواه البخاري (ح 3404) ومسلم (ح 6222).
([240]) الجامِع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي) (2/30).
([241]) رواه ابــن أبي شــيبة (ح 31732) الإمام أحمد (ح 12112) والدارمي (ح 23) وابن ماجــه (ح 4028)، وهو حديث حَسَن.
([242]) واحِدَة السَّلَم، نَوْع مِن الشَّجَر. وقوله: "تَخُدُّ الأرضَ خَدّا" يعني: تَشُقّ الأرض شَقّا.
([243]) رواه الإمام الدارمي (ح 16).
([244]) العِذق: القَنو، وهو الذي يَكون فيه البَلَح.
([245]) رواه الإمام أحمد (ح 1954) والترمذي (ح 3628)، وهو حديث صحيح.
([246]) رواه مسلم (ح 6003).
([247]) رواه البخاري (ح 3675) مِن حديث أنس رضي الله عنه.
([248]) رواه مسلم (ح 6327). وقال ياقوت الْحَمَوي: حِرَاء بالكسر والتخفيف والْمَدّ: جَبَل مِن جِبَال مَكّة (معجم البُلْدَان 2/233).
([249]) رواه البخاري (ح 1481) ومسلم (ح 3350) مِن حديث أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيّ رضي الله عنه. ورواه البخاري (ح 7333) ومسلم (ح 3300) مِن حديث أنس رضي الله عنه.
([250]) الوَجْــد ما يُصادف القَلْب ويَرِد عليه بِلا تَكَلّف وتَصَنّع (التوقيف على مهمات التعاريف، للمُناوي – ص 718).
([251]) قوله: " فَأنَّ وحَنّ " الأُولى مِن الأَنِين، والثانية مِن الْحَنِين. والعِشَار: جَمْع ناقَة عُشَرَاء. قال الراغب: ناقة عُشَرَاء: مَرّت مِن حملها عَشَرَةُ أشهرٍ، وجمعها عِشَار. قال تعالى: {وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ} (المفردات في غريب القرآن – ص 567).
([252]) قصة حَنِين الْجذع: رواها البخاري (ح 3583، 3585).
([253]) البداية والنهاية (9/353). وانظر أنواع مُعجِزاته صلى الله عليه وسلم في كتاب "الجواب الصحيح لِمن بدّل دِين المسيح" لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/161 – 227)، وستأتي مُختَصَرَة.
([254]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن (تفسير الطبري) (20/631).
([255]) رواه ابن جرير في تفسيره: جامع البيان عن تأويل آي القرآن (20/632).
([256]) معالِم التّنْزيل (7/219).
([257]) رواه البخاري (ح 2222) ومسلم (ح 306).
([258]) المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (1/281).
([259]) قال النووي: وَهَذِهِ الْمَنَارَة مَوْجُودَة الْيَوْم شَرْقِيّ دِمَشْق (شرح صحيح مسلم 9/327).
([260]) قال النووي: مَعْنَاهُ: لابِس مَهْرُودَتَيْنِ، أَيْ: ثَوْبَيْنِ مَصْبُوغَيْنِ بِوَرْسٍ ثُمَّ بِزَعْفَرَانٍ (شرح صحيح مسلم 9/327).
([261]) قال النووي: الْجُمَان بِضَمِّ الْجِيم وَتَخْفِيف الْمِيم: هِيَ حَبَّات مِنْ الْفِضَّة تُصْنَع عَلَى هَيْئَة اللُّؤْلُؤ الْكِبَار، وَالْمُرَاد: يَتَحَدَّر مِنْهُ الْمَاء عَلَى هَيْئَة اللُّؤْلُؤ فِي صَفَائِهِ، فَسُمِّيَ الْمَاء جُمَانًا لِشَبَهِهِ بِهِ فِي الصَّفَاء (شرح صحيح مسلم 9/327).
([262]) قال النووي: هُوَ بِضَمِّ اللاّم وَتَشْدِيد الدَّال مَصْرُوف، وَهُوَ بَلْدَة قَرِيبَة مِنْ بَيْت الْمَقْدِس (شرح صحيح مسلم 9/327).
([263]) رواه مسلم (ح 4783).
([264]) رواه ابن جرير في تفسيره: جامع البيان عن تأويل آي القرآن (7/664).
([265]) رواه ابن جرير في تفسيره: جامع البيان عن تأويل آي القرآن (7/665).
([266]) نقلا عن: محاسن التأويل، للقاسمي (10/455).
([267]) تفسيره: جامع البيان عن تأويل آي القرآن (5/450).
([268]) الجامع لأحكام القرآن (4/100، 101).
([269]) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (1/366).
([270]) تفسير القرآن العظيم (2/66، 67).
([271]) تفسير القرطبي: الجامع لأحكام القرآن (13/350)
([272]) مفتاح دار السعادة (1/104).
([273]) رواه عبدالرزاق في الْمُصَنَّف (ح 3118) والبَيهقيّ في " شُعب الإيمان (ح 130)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة بِرقم (2963).
([274]) كما في مسند الإمام أحمد (ح 13201).
([275]) رواه البخاري (ح 2617) ومسلم (ح 5756).
([276]) سورة آل عمران (3)، الآيات مِن (35 - 37).
([277]) رواه البخاري (ح 3442) ومسلم (ح 6206).
([278]) رواه البخاري (ح 3443) ومسلم (ح 6208).
([279]) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (3/291).
([280]) إرشاد الثقات إلى اتّفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات (ص 3، 4).
([281]) هكذا في المصادِر، ولعل نُسخ التوراة أُدْخِلَت إلى البِيعَة؛ لأنها لليهود، والأناجيل أُدْخِلَت الكنيسة؛ لأنها للنصارى.
([282]) القصة رواها ابن الجوزي في "الْمُنْتَظَم في تاريخ الأمم والملوك" (10/51) والقرطبي في تفسيره (الجامع لأحكام القرآن) (10/6).
([283]) سأكتَفي بمثال واحد أو اثنين مِن باب الاختصار، ومَن أراد الاستزادة فلْيُراجِع كِتاب: الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح، لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/161 – 227).
([284]) الاستِسْقَاء: طَلَب سُقيا الْمَطَر، والاسْتِصْحَاء: طَلب الصّحْو إذا كثُر الْمَطَر.
([285]) رواه البخاري (ح 1013) ومسلم (ح 897).
([286]) رواه الحاكم (ح 4235)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يُخَرّجَاه. ووَافَقَه الذهبي. وقوله: يا أبا الحارِث، هي كُنْيَة الأسد. وقوله: "فَظَنَنْتُ أنه يُوَدّعِنُي" يَعني: ظَنّ أن الأسَد يُودِّعه.
([287]) رواه ابن ماجه (ح 35478) وصححه الألباني.
([288]) قال ابن الجوزي: الذِّفْرَى من البعير مُؤخِّرُ رأسه (غريب الحديث 1/361).
([289]) رواه الإمام أحمد (ح 1754) وأبو داود (ح 2551)، وصححه الألباني والأرناؤوط.
([290]) قال ابن الأثير: الحمَّرةُ - بضم الحاء وتشديد الميم - وقد تُخَفّف: طائرٌ صغير كَالْعُصْفُور. (النهاية في غريب الحديث 1/1044).
وقال ابن الجوزي: في الحديث: "فَجعلَت تَفرُش" وهو أن تقربَ مِن الأرض وتُرفْرِفُ بجناحيها (غريب الحديث 2/186).
([291]) رواه أبو داود (ح 2677) والحاكم (ح 7599) وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني والأرناؤوط.
([292]) رواها: أبو داودَ الطيالسيّ (ح 334) والإمـــام أحمد (ح 3835) والبخاري في "الأدب المفرَد" (ح 382) بِذِكْر بَيْضَةٍ بَدَلِ ذِكرِ فَرخ.
([293]) سبق تخريجه ص (112).
([294]) انظر ص (109-110) من هذا البحث.
([295]) رواه البخاري (ح 4102) ومسلم (ح 5365).
([296]) المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحَجّاج (7/92).
([297]) رواه البخاري (ح 3572) ومسلم (ح 6007). قال ابن الأثير: أَيْ قَدْرَ ثَلَاثِمَائَةٍ، مِنْ زَهَوْتُ القَوم إِذَا حَزَرْتَهم. (النهاية في غريب الحديث والأثر 2/323).
([298]) رواه البخاري (ح 5639) ومسلم (ح 1856).
([299]) أي: اجعل كل صِنف في بَيْدَر، أي: جَرِين يَخصّه (فتح الباري، لابن حجر 5/414).
([300]) رواه البخاري (ح 2781).
([301]) سبق ذْكر بعض الأحاديث، انظر - ص (111).
([302]) رواه مسلم (ح 4610)، ولَم أره في صحيح البخاري.
([303]) رواه البخاري (ح 2617) ومسلم (ح 5756).
([304]) رواه مسلم (ح 7167). ورواه البخاري (ح 4958) مُخْتَصرا مِن حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
([305]) رواه الإمام أحمد (ح 3485) وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده قوي على شرط مسلم.
قال ابن الأثير: العَقَر بفَتْحتين: أن تُسْلِمَ الرجُلَ قوائمُه من الخَوف. وقيل: هو أن يفْجَأه الرَّوعُ فَيدْهشَ ولا يستطيعَ أن يتقدَّمَ أو يتأخر (النهاية في غريب الحديث 3/529).
([306]) ص (139).
([307]) ص (134).
([308]) رواه البخاري (ح 4693) ومسلم (ح 7168).
([309]) رواه الحاكم (ح 3984) وقال: صَحِيحُ الإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، ووافقه الذهبي، وحسّنه ابن حَجَر في "فتح الباري" (4/39).
([310]) رواه مسلم (ح 1779).
([311]) المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (12/128).
([312]) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (11/87)، وهو مِن مَرَاسيل الزهري.
([313]) منهاج السنة النبوية (8/78).
([314]) زاد المعاد (3/188).
([315]) أي ومما تحقق من الأخبار المستقبلية التي أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم ... (م).
([316]) رواه البخاري (ح 7118) ومسلم (ح 2902).
([317]) يُنظر لذلك: "الصحيح الْمُسْنَد مِن الأحاديث القدسية" للشيخ مصطفى العدوي.
([318]) الحديث رواه البخاري (ح 2434) ومسلم (ح 3284).
([319]) انظر: الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجَر (5/439) وتفسير ابن كثير (4/356) والبداية والنهاية، لابن كثير (9/474).
([320]) قال القَسْطلاّني: أي: يَزْدَحِمُون عليه حتى يَسْقط بعضهم على بعض، فَيَكاد يَنْكَسِر، وأطْلق يَتَقَصّف مُبَالَغة (إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري 4/268).
([321]) رواه البخاري (ح 2297).