البراهين العقلية علي وحدانية الرب ووجوه كماله
التصنيفات
الوصف المفصل
- البراهين
العقلية علي وحدانية الرب ووجوه كماله
- مقدمة
- مقدمة التحقيق
- [حدوث الأشياء له ثلاثة أقسام عقلية]
- [من الأدلة: التفكر في خلق الإنسان والأكوان]
- [من الأدلة: رحمة الله العامة]
- [من الأدلة: النظر في أحوال المضطرين]
- [من الأدلة: إجابة الله للدعوات]
- [من الأدلة: آيات الأنبياء]
- [من الأدلة: الكتب السماوية والسنّة النبوية وما فيها من الشرائع]
- [من الأدلة: الفطرة السوية مضطرةُ إلى الاعتراف بالله]
- [من الأدلة: الثواب المعجَّل للمحسنين، والعقاب المعجَّل للظالمين]
- فصلٌ تابع لما قبله [طرق معرفة الله واسعة غير منحصرة]
- [أمثلة وحكايات في الاستدلال على الله]
- [من الأدلة: أن وجود الرب أظهر من كلِّ شيء]
- [من الأدلة: أيام الله ووقائعه]
- [من الأدلة: ما عليه الأنبياء من الكمالات وما لهم من الآيات]
- [من الأدلة: اجتماع كلمة الرسل على توحيد الله]
- [من الأدلة: شهادة الله وشهادة الملائكة وأولي العلم والمهتدين]
- [من الأدلة: العواقب الحميدة للمؤمنين، والذميمة للكافرين]
- [من الأدلة: إخبار الله ورسوله (ص) عن أمور من الغيب]
- [من الأدلة: الآثار الجليلة المترتبة على رسالة محمد (صلى الله عليه وسلم) ]
- [من الأدلة: إحكام الشريعة وصدق أخبارها واتفاق أحكامها]
- [من الأدلة: صدق الرسل ووجوب توقيرهم وتقديم أقوالهم]
- [كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية في آيات الأنبياء]
- [من الأدلة: أن ما جاء به الرسل فهو الحق النافع، فما خالفه فهو باطل]
- [من الأدلة: الفطرة في قلوب العباد، وخصوصاً الأنبياء]
- [من الأدلة: الإجماع من المسلمين وممَّن عرف حال النبي (صلى الله عليه وسلم) ]
- [ الخاتمة ]
البراهين العقلية علي وحدانية الرب ووجوه كماله
للشيخ العلامة
عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي رحمه الله
1307 ـ 1376هـ
قرأها وقدم لها
الشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل
حفظه الله
تحقيق
باسل بن سعود الرشود
دار ابن الجوزي
بسـم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل
بسـم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين.
فطر القلوبَ على توحيدِه، ودعاها إلى تمجيدِه، ونصب الأدلة وأوضح فيما أنزل من البراهين العقلية ما يقتضي إلزام من سمعها بالرضوخ لها وتصديقها، والإيمان بها طوعاً وكرهاً، ولا ينكرها إلا مكابر خارج عن مقتضى ما تمليه عقول البشر.
وصلَّى الله وسلَّم وبارك على رسوله محمد؛ الذي قرر قواعد العقيدة السليمة، وأرساها على ملة إبراهيم.
أما بعد:
فهذه المحاضرة التي بين يديَّ؛ كلمة مضيئة لشيخنا العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله، تحدث فيها عن البراهين العقلية الدالة على وجود الله جلّ جلاله، ووجوه
كماله في أقواله وأفعاله، والأدلة على ذلك لا يحصرها كتاب، ولا يمكن عدُّ أجناسها فضلاً عن أفرادها، فهي خلاصة دعوة جميع الرسل وما تضمنته كتبهم.
ولما كان بعض الناس لا يؤمنون بإرسال الرسل ولا بإنزال الكتب، ولا يقتنعون بغير ما تملي عليهم عقولهم؛ أنزل الله من البراهين العقلية ما ينقاد له كل عاقل منصف، وهي ـ وإن جاءت أصولها في الكتاب والسنّة ـ إلا أنها في ذاتها أدلة عقلية، بيِّنة البرهان، قاطعة الحجج.
وقد أسهب شيخنا رحمه الله في هذا الباب، وأجرى قلمه السيَّال بسلاسة أسلوب وتدفق عبارة، مستشهداً ممثلاً، باذلاً من النصح والبيان ما يشرح صدور أولي الألباب.
وكانت هذه المحاضرة رسالة مخطوطة محفوظة عند أبناء الشيخ، وقد بعث إليَّ بصورة منها سبط المؤلف الأستاذ: مساعد بن عبد الله السعدي ـ وفقه الله ـ.
ولكنها لا تخلو من أغلاط وسقط في بعض المواضع، ولا سيما أطراف الأسطر، فعرضتها على فضيلة الشيخ: باسل بن سعود الرشود، فانتسخها، وقام بتقسيم جملها وتكميل ما سقط منها، ثم قرأها عليَّ، وأكملنا ما فيها من نقص أو سقط، مع التعليق على بعض المواضع؛ حتى أصبحت جاهزة فنياً؛ فللّه الحمد على ذلك.
وإني لأشكر الأستاذ مساعد على إخراجه هذه المحاضرة، كما أشكر الشيخ باسل الرشود على ما قام به من تحقيقها.
وأسأل الله تعالى أن يجزي شيخنا عبد الرحمن بن ناصر السعدي على ما أفاد به حياً أو ميتاً، وأن تكون هذه المحاضرة من العلم النافع الذي يجري له أجره بعد موته، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا وللمسلمين.
والحمد لله رب العالمين.
وكتبه الفقير إلى الله: عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل رئيس الهيئة الدائمة بمجلس القضاء الأعلى سابقاً.
حامداً لله مصلياً مسلماً على عبده ورسوله نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
****
مقدمة التحقيق
بسـم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، الرحمنِ الرحيم، مالكِ يوم الدين، اللهم صلَّ على محمد وآله وصحبه، وبعد:
فهذه محاضرة في البراهين العقلية على وحدانية الرب ووجوه كماله، للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى.
كتبها قبل وفاته بست سنين، يظهر من نَفَس المؤلف ومن حال العصر أنه أنشأها في موجةٍ من هبوب الأنفاس الإلحادية، وانتفاش الأفكار المادية، في جماعات وشخصيات تتبنى الإلحاد، ولعله أيضاً حاضَرَ بها قوماً تواردت عليهم الشبُهات أو خشي عليهم من ذلك.
اتجه فيها لبيان الأدلة العقلية على وجود الرب من جهة، وعلى وحدانيته من جهة، وعلى كماله من جهة ثالثة.
واستعمل فيها كثيراً من الأدلة العقلية المنصوص عليها في القرآن والسنّة، أو المشار إليها فيهما؛ بألفاظهما أو قريباً منها، واستعمل فيها أفراد الأدلة التي ينتفع بها العقل السليم؛ وإن لم ينصَّ عليها في القرآن والسنّة.
وامتازت بسلاسة الألفاظ، ووضوح المعنى، وعمقه، وتفصيله، والعناية بالأمثلة، وتنويعها، وهو وإن كرر عدداً من الألفاظ أو المعاني فلم يجر ذلك على وجه الإثقال.
وامتازت ببسط العبارة، ومدِّها، وربما باعد ما بين المبتدأ وخبره، والشرط وجوابه، ونحو ذلك؛ على وجهٍ لا يُشْكِل إن شاء الله. فهذه دراسة إجمالية عن المحاضرة.
اعتمدت في تحقيقها على نسخة مصوَّرة لدى الشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل، وهي مطابقة لأصلها الموجود لدى الأستاذ الكريم المفضال سبط الشيخ: مساعد بن عبد الله السعدي؛ حسب ما بيّن لي ـ أخي مساعد ـ في رسالة منه.
وكان الأخ الأستاذ: مساعد قدَّم النسخة المصورة للشيخ عبد الله بن عقيل؛ لما قَدِم الشيخ منزله بالدمام، وطلب منه النظر إليها، وإبداء رأيه فيها، مع رسالة أخرى موسومة بـ(أصول عظيمة من قواعد دين الإسلام)؛ لمراجعتها وإكمال نقصها، فأحالها الشيخ عليَّ.
وهذه النسخة هي بخط عبد الله السلمان، كُتبت في عهد المؤلف بتاريخ 20 جمادى الآخر 1370، ويلحقها إقرار السعدي بخطه: (قال ذلك الفقير إلى الله عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي، غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين).
ولم يظهر للمحاضرة اسم؛ وإنما كتب في أولها بعد البسملة والحمد: (هذه محاضرة عظيمة؛ محتوية على التنبيه الواضح إلى البراهين العقلية على وحدانية الرب ووجوه كماله) فاقتبست منها العنوان المذكور؛ وهو وإن لم يكن عنواناً صريحاً أو جارياً على نسق العناوين؛ لكنه من أقرب ما يصلح في تسمية تلك المحاضرة به.
ويظهر في الصفحة الأولى منها رقم الصفحة هكذا ( ـ 1 ـ ) وكتب بجانبه (لم يطبع)، وهي بخط الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، لأنه كانت عارية عنده قبل مآلها إلى الأخ الكريم: مساعد.
وبجانبه كتب (صفحاته 26) ثم تبدأ المحاضرة مباشرة بالبسملة، وأضيف إلى جانبها الحمدلة والصلعمة بخط مغاير لعله خط السعدي.
تقع المحاضرة في 26 صفحة، في كل صفحة 25 سطراً تقريباً، وفي السطر 11 كلمة تقريباً، مكتوبة بخط واضح؛ إلا من بعض الكلمات، ومن سقط في بعض الهامش الأيمن لبعض الصفحات كصفحة 11، أو الأيسر كصفحة 12.
ويتمثل عملي في المحاضرة بما يلي:
1 ـ نسخ المحاضرة إلى النص الحاسوبي؛ وشاركني في ذلك بعض الزملاء.
2 ـ العناية بعلامات الترقيم، وشكل الكلمات، فما كان منها مشكولاً في الأصل وله فائدة؛ نبَّهت عليه في الحاشية.
3 ـ العناية بتقسيم الجمل والفِقْرات، والاستفادة من تقسيم النسخة الأصل؛ سواء ما كان منها ما جعل في سطر جديد أو أشير إليها بخط ونحوه.
4 ـ كتابة بعض الكلمات على الرسم الإملائي المستقر دون الإشارة إلى ذلك؛ كقوله: (الإعتراف) إلى (الاعتراف)، (للإبدان) إلى (للأبدان)، (وبقائها) في حال الرفع إلى (وبقاؤها)، (حاظر) إلى (حاضر)، وكذلك في رسم التاء المربوطة بنقطتين (ثلاثه) إلى (ثلاثة) وهو كثير جداً..
5 ـ تصحيح بعض الأخطاء الظاهرة؛ فما كان منها غير مؤثر في المعنى لم أشر إليه؛ من مثل تكرر لفظ (قد) في الأصل لوجوده آخر السطر وأول السطر التالي، وما كان منها
مؤثراً ذكرته؛ كما جرى من سقط لبعض الألفاظ في الآيات.
6 ـ إذا تشابهت الكلمتان في الرسم أُثبت ما يقتضيه السياق، فإن كان ذلك ظاهراً لم أشر إليه في الحاشية، وإن كان السياق يحتملهما أثبته ونبهت على اللفظ الآخر في الحاشية؛ من مثل قوله في أول المحاضرة: ووجود كماله = ووجوه كماله.
7 ـ الكلمات المطموسة أو المصحَّحة أو الملحقة في الدرج لم أنبه عليها إلا إذا كان فيها فائدة كاحتوائها على معنى جديد؛ كطمسه لفظة (المسألة) إلى (المحاضرة).
8 ـ قدرت الكلمات الناقصة أو الساقطة من الهوامش أو المطموسة، ووضعتها بين معكوفتين، مستعيناً بالله تعالى على فهمها من السياق، أو من نَفَس المؤلف وعباراته في هذه المحاضرة أو غيرها من كتبه.
9 ـ ترقيم الآيات وكتبها بالرسم العثماني، وتخريج الأحاديث.
10 ـ أضفت بعض العناوين كالأبواب بين كُتَل الفقرات، وجعلتها بين معكوفتين، وقد ترددت في ذلك، ثم عزمت عليها؛ تقريباً للفهم، وتسهيلاً إلى دَرَك المعلومة من الفهرس.
وقد قرأتُ المحاضرة على فضيلة شيخنا الفقيه المعمر المسند، تلميذ المصنف، الشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل حفظه الله، واستفدت من تدقيقه وتعليقه، وعلقت أبرز ما قال.
وبعد حمد الله.. أشكر فضيلة شيخنا: عبد الله بن عقيل؛ إذ هو الذي دفع إليّ بمحاضرة شيخه عبد الرحمن السعدي رحمه الله، ودعاني لتقدير السقط في كلماتها، فاستأذنته في تحقيقها كاملة فأذن لي، وقرأتها عليه.
وأشكر الأخ الكريم؛ سبط الشيخ: مساعد بن عبد الله السعدي، على جِدِّه في حفظ تراث جَدِّه، وحرصه على إخراج هذه المحاضرة بوجه أكمل.
وأشكر الإخوة الشباب الذين شاركوني في نسخ المحاضرة إلى الحاسوب.
وأسأل الله أن ينفع بها، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا وللمسلمين، وبالله التوفيق.
باسل بن سعود الرشود
الرياض رجب 1428
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وصلَّى الله على محمد وسلَّم
هذه محاضرة عظيمة
محتوية على التنبيه الواضح إلى البراهين العقلية على وحدانية الرب ووجوه كماله ([1]).
اعلم أن هذه المسألةَ أعظمُ المسائل على الإطلاق، وأكبرُها وأوجبُها وأنفعُها وأوضحُها، وعليها اتفقت جميعُ الكتب المنزلة من الله على رسله، وجميعُ الرسل.
وهي أهمُّ ما دعا إليه الرسل أممَهم، فكلُّ رسول يقول لقومه: {{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}} [الأعراف: 59] ، ويذكرون لأممِهم من أسماء الرب وأوصافه ونعمه وآلائه وألطافه ما به يعرفون ربهم ويخضعون له ويعبدونه.
والقرآنُ العظيم من أوله إلى آخره يبين هذه المسألة ويذكر لها البراهينَ المتنوعة، ويصرِّف لها الآيات، والسنّةُ كذلك.
وليس القصد في هذه المحاضرة ([2]) ذكر الأدلة النقلية عليها؛ فإن الكتاب والسنّة فيهما من البراهين والأدلة على ذلك ما لا يعد ولا يحصى، ولا يمكن استيفاء بعضه، وهي واضحة جلية؛ يعرفها الخواص والعوام، وبعض ذلك كافٍ وافٍ بالمقصود.
ولكننا نريد في هذه المحاضرة، أن نشير إشارةً يسيرةً إلى براهينها العقلية التي يشترك في معرفتها والخضوعِ لها جميعُ العقلاء من البشر، ولا ينكرها إلا كلُّ مكابر مستكبر، منابذٍ للعقل والدين.
وهذه المسألة أوضحُ وأظهر من أن يحتجَّ لها وتذكر براهينها، ولكن كلما عرف المؤمنُ براهينَها قوي إيمانه، وازداد يقينهُ، وحمد الله على هذه النعمة التي هي أكبر النعم وأجلها.
ولهذا قالت الرسل لأممهم: {{أَفِي اللَّهِ شَكٌّ}} [إبراهيم: 10] ، فاستفهموهم استفهامَ تقرير ([3])، فإنه متقررٌ في قلوب جميع العقلاء الاعترافُ بربوبيته ووحدانيته.
فنقول وبالله التوفيق:
[حدوث الأشياء له ثلاثة أقسام عقلية]
اعلم رحمك الله أنك إذا نظرتَ إلى العالم العلوي والسفلي وما أودع فيه من المخلوقات المتنوعة الكثيرة جداً، والحوادث المتجددة في كل وقت، وتأملتَه تأملاً صحيحاً، عرفت أن الأمورَ ـ الممكنُ تقسيمُها ـ في العقل ثلاثةٌ:
* 1 ـ أحدُها: أن توجدَ هذه المخلوقات والحوادثُ بنفسها من غير محدِث ولا خالِق، فهذا محالٌ ممتنعٌ؛ يجزم العقل ضرورة ببطلانه، ويعلم يقيناً أن من ظن ذلك فهو إلى الجنون أقرب منه إلى العقل، لأن كل من له عقل يعرف أنه لا يمكن أن يوجَد شيء من غير موجِد، ولا محدِث.
* 2 ـ الثاني: أن تكون هذه المخلوقات محدِثةً وخالقةً نفسَها، فهذا أيضاً محالٌ ممتنعٌ؛ يجزم العقل ضرورة ببطلانه وامتناعه، فكل من له أدنى عقل يجزم أن الشيء لا يحدِث نفسه، كما أنه لا يحدُث بلا محدِث، وإذا بطل هذان القسمان عقلاً وفطرة تعيَّن القسم:
* 3 ـ الثالث: وهو أن هذه المخلوقات والحوادث لها خالِقٌ خلقها، ومحدِثٌ أحدثها، وهو الله الرب العظيم، الخالق لكل شيء، المتصرف في كل شيء، المدبر للأمور كلها.
ولهذا نبَّه الله على هذا التقسيم العقلي الواضح لكل عاقل فقال: {{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لاَ يُوقِنُونَ}} [الطور: 35، 36] ([4]).
فالمخلوق لا بد له من خالِق، والأثر لا بد له من مؤثِّر، والمحدَث لا بد له من محدِث، والموجَد لا بد له من موجِد، والمصنوع لا بد له من صانع، والمفعول لا بد له من فاعِل.
هذه قضايا بديهية عقلية، يشترك في العلم بها جميعُ العقلاء، وهي من أعظم القضايا العقلية، فمن ارتاب فيها أو شكَّ في دلالتها فقد برهن على اختلالِ عقله وضلاله.
[من الأدلة: التفكر في خلق الإنسان والأكوان]
تفكَّرْ رحمك الله في نفسك، وانظر في مبدأ خلقك؛ من نطفة إلى علقة إلى مُضغة، حتى صرتَ بشراً كامل الخَلْق، مكتمل الأعضاء الظاهرة والباطنة؛ أما يضطرك هذا النظرُ ويُلجئك إلى الاعتراف بالربِّ القادرِ على كل شيء، الذي أحاط علمه بكل شيء، الحكيمِ في كلِّ ما خلقه وصنعه؟
فلو اجتمع الخلقُ كلهم على هذه النطفةِ ـ التي جعلها الله مبدأَ خلقك ـ على أن ينقِّلوها في تلك الأطوار المتنوِّعة، ويحفظوها في ذلك القرار المكين، ويجعلوا لها أعضاء ظاهرة وقوى باطنة، وسمعاً وبصراً وعقلاً، وينموها هذه التنمية العجيبة، ويركِّبوها هذا التركيب المنظم، ويرتبوا الأعضاء على هذا الترتيب المحكم بحيث يكون كلُّ عضوٍ في محلِّه اللائق به؛ لو اجتمعوا على ذلك؛ فهل في علومهم وهل في اقتدارهم واستطاعتهم الوصولُ إلى ذلك؟
فهذا النظرُ السديدُ يوصلك إلى الاعتراف بقدرة الله وعظمته ووحدانيته، والخضوع له، والتصديق بكتبه، ورسله، ومعرفته، والإيمان باليوم الآخر.
تأمل في حفظِ الله للسمواتِ والأرض ، وما فيهما من العوالم التي لا يعلمها إلا هو، وفي إبقائها وإمدادها بكل ما تحتاج إليه في بقائها، من الأسباب المتنوعة، والنظاماتِ العجيبة، أما يدلك ذلك على كمال الرب وربوبيته ووحدانيته وسعةِ علمه وشمولِ حكمته؟
وقد نبه الله على هذا الدليل الواضح العقلي بقوله:
{{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ}} [الروم: 25] ، {{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} ([5])} [فاطر: 41] .
تدبر يا أخي في هذا الفلك الدوَّار، وما ترتب عليه من تعاقب الليل والنهار؛ وفي تصريفِ الأوقات بفصولها وكمال انتظامها لمصالح العباد ومنافعهم التي لا يمكن إحصاؤها.
هل حصل ذلك صدفةً واتفاقاً من غير محدِث وفاعِل؟ أم الذي خلق ذلك ودبَّره هذا التدبير المتقن هو الذي أحسنَ كل شيء خلقه؟ كما نبّه على ذلك البرهان العقلي بقوله: {{صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}} [النمل: 88] .
وانظر هداك الله إلى أنه أعطى كل شيء خلقَه اللائق به؛ ثم هدى كلَّ مخلوق إلى مصالحه ومنافعه وضروراته التي لا بد فيها من بقائه؛ حتى البهائمَ العُجمَ صغيرَها وكبيرَها، قد ألهمها وهداها لكل أمر فيه نفعها وبقاؤها، ويسَّر لها أرزاقها وأقواتها، وهداها لتناولها.
فمن نظر في هـذه الهدايـة العامة، وبثِّها في جميــع
المخلوقات، وإلهامها ([6]) هذا الإلهام العجيب ـ الذي تهتدي به إلى مصالحها ـ: عَلِم بذلك عنايةَ المولى العظيمة، وعلم أنه الربُّ لكل مربوب، الخالقُ لكل مخلوق، الرازقُ لكل مرزوق، الذي علَّم المخلوقاتِ وأعطاها من الأذهان ما يصلحها ويدفع عنها المضار، وذلك برهانٌ عقليٌّ واضحٌ عظيمٌ على وحدانية الله وكماله.
وقد نبَّه الله ذلك بقوله: {{قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}} [طه: 50] .
فهل في طبيعة الحيوانات المتنوعة هذه الهداية، وهذا الإلهام؛ إلى تحصيل منافعها ودفع مضارها، والحنو على أولادها، وقيامها بهم، حتى يَدرجوا ويستقلوا بأنفسهم؟
وهل هذا الحنانُ والرحمةُ الموضوعة في الحيوانات على أولادها؛ إلا من أكبر الأدلة على سعة رحمة الله وشمول علمه وحكمته؟
[من الأدلة: رحمة الله العامة]
ثم انظر رحمك الله إلى سعة رحمة الله التي ملأت أقطارَ العالم، وشملتَ كلَّ مخلوق في كل أحواله وأوقاته.
فبرحمته أوجد المخلوقات، وبرحمته أبقاها وحفظها، وبرحمته أمدها بكل ما تحتاج إليه، وأسبغ عليها النِّعم الظاهرة والباطنة، التي لا يمكن أن يخلوَ مخلوقٌ منها طرفة عين، وهي متنوعة عليه من كل وجه:
نِعَمُ التعليمِ لأمور الدين والدنيا، ونِعم العافية للأبدان عموماً، ولكلِّ عضوٍ وقوةٍ على وجه الخصوص، ونِعم الأولادِ والأهلِ والأتباعِ، ونِعم الأرزاقِ الواسعة، ونِعم الحروث والزروع والثمار، ونِعم المواشي وأصناف الأمتعة، ونِعم الدور والقصور، ونِعم اللذات والحبور.
النِّعمُ التي فيها جلب المنافع كلها، والنِّعمُ التي فيها دفع المضار.
كلُّ ذلك يدل أكبر دلالة على وحدانية موليها ومسديها والمتفضل بها، وعلى سعةِ كرمه، ووجوبِ شكره والخضوع له، وإخلاص العمل له؛ {{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَ يَخْلُقُ}} [النحل: 17] ، {{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ}} [النحل: 53] .
[من الأدلة: النظر في أحوال المضطرين]
ثم انظر أحوال المضطرين الواقعين في المهالك، والمشرفين على الأخطار، والبائسين من فقرهـم المدقـع، أو
مرضِهم الموجع؛ وكيف تضطرهم الضروراتُ وتلجئهم الحاجاتُ إلى ربهم وإلـههم؛ داعين مفتقرين وسائلين له مستعطين، فيجيب دعواتِهم ويكشف كرباتِهم، ويرفع ضروراتِهم.
أليس في هذا أكبرُ برهانٍ على وحدانيته، وسعة علمه ورحمته، ودقيق لطفه، وأنه ملجأ الخليقة كلها؟، وقد نبّه الله على هذا البرهان العقلي بقوله: {{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ}}، {{تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}} ([7])، {{لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}{فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} ...} الآية ([8]).
وهذا النوع ـ وهو تخليص المضطرين ـ قد شاهدته الخليقةُ بأعينهم؛ ورأوا من الوقائع ما لا يعد ولا يحصى، وهذا يضطرهم إلى الاعترافِ بالله وبوحدانيته.
فانظر إلى حالة المضطرين إذا كَرَبَتهم الشدائد وأزعجتهم النوائبُ، كيف تجد قلوبَهم متعلقةً بالله، وألسنتَهم ملحةً في سؤاله، وأفئدتَهم متشرفةً لنواله؟؛ لا تلتفت عن الله يَمنةً ولا يَسرةً؛ لعلمها الضروريِّ أنه وحده كاشفُ الشدائد، فارج الكروب؛ لا ملجأَ للخليقة إلا إليه؛ ولا معوَّل لهم إلا عليه؟
فهل هذه الأمور إلا لأن الخليقةَ مفطورةٌ على الاعترافِ بوحدانية ربها، وأنه النافع الضارُّ، وأن ملكوتَ كلِّ شيء بيديه؟، وهل ينكرُ ذلك إلا من فَسَدت فطرتُه بالعقائدِ الفاسدة والإراداتِ السيئة؟
وانظر إلى فقرِ الخلائق إلى ربهم في كل شيء؛ فهم فقراءُ إليه في الخلق والإيجاد، وفقراءُ إليه في البقاء والرزق والإمداد، وفقراءُ إليه في جَلْب جميع المنافع، وفقراءُ إليه في دفع المضار.
فهم يسألونه بلسانِ المقال ولسانِ الحال، فيعطيهم مطالبَهم، ويسعفُهم في كلِّ مآربهم؛ إن رغبوا لم يرغبوا إلا إليه، وإن مستهم الضراءُ لم يلجأوا إلا إليه.
فكم كشف الضرَّ والكروب، وكم جبر الكسيرَ ويسَّرَ المطلوب، وكم أغاث ملهوفاً، وكم أنقذ هالكاً، ففقرهم إليه في جميع الأحوال ظاهر مشاهد، وغناه عنهم لا ينكره إلا كلُّ مكابِر وجاحد.
[من الأدلة: إجابة الله للدعوات]
ومن براهينِ رُبوبيته ووحدانيته : إجابتُه للدعواتِ في كلِّ الأوقات، فلا يحصي الخلقُ ما يعطيه السائلين، وما يجيبُ به أدعيةَ الداعين، من بَرٍّ وفاجر، ومسلمٍ وكافر.
تحصلُ للعباد المطالبُ الكثيرة ولا يعرفون لها شيئاً من الأسباب سوى الدعاء، والطمع في فضل الله والرجاء لرحمته.
هذا برهانٌ مشاهدٌ في كلِّ الأوقات، لا ينكره إلا مباهت جاحد.
يدعونه في مطالب دينهم فيجيبهم، وفي مطالب دنياهم
فيجيبهم: {{فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ}{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}{أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا}} [البقرة: 200 ـ 202] .
[من الأدلة: آيات الأنبياء]
ومن براهين وجود الله ووحدانيته : ما يجريه الله على أيدي أنبيائه من خوارق الآيات والمعجزات والبراهين القاطعات، وما يكرمهم به في الدنيا وينصرهم، ويجعل لهم العواقب الحميدة، ويخذل أعداءَهم ويعذبهم بأصناف العذاب.
وهذا متواترٌ معروفٌ بين الخواص والعوام، وقد نقلتها الأمم والقرون والأجيال، وصارت أعظمَ من برهانِ الشمس والقمر، وهي كلها براهينُ على ربوبية من أرسلهم، ووحدانيته، وعظمة سلطانه، وكمال قدرته، وسعة علمه وحكمته، وما ينكرها إلا كل متكبر جبار.
[من الأدلة: الكتب السماوية والسنّة النبوية وما فيها من الشرائع]
ومن أعظم براهين وحدانيته : ما أنزله الله على أنبيائه عموماً؛ من الكتب والشرائع، وما أنزله على محمد صلّى الله عليه وسلّم خصوصاً؛ من الكتاب العظيم والسنّة والشريعة الكاملة التي بها صلاح الخلق، وبها قوام دينهم ودنياهم.
وفيها من الآيات والبراهين ما لا يعبر عنه المعبرون، ولا يقدِرُ أن يصفه الواصفون، وآياته قائمة في جميع الأوقات، متحدية للخلق كلِّهم؛ على اختلاف مللهم ونحلهم، وقد تبين عجزُهم ووضح عليهم: {{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}} [فصلت: 53] ، {{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}} [النحل: 89] .
فمن نظر فيما احتوى عليه القرآن العظيم من الأخبار الصادقة، والأحكام العادلة، والشرائع المحكمة، والصلاح العام، وجلب المنافع الدينية والدنيوية، ودفع مضارهما، والخير العظيم والهداية، والصلاح المطلق الكامل: اضطر إلى الاعتراف بأنه تنزيل من حكيمٍ حميدٍ، وربٍّ كريمٍ.
وكذلك من نظر إلى ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم من السنّة والشرع الكامل، والدين القويم والصراط المستقيم في كل شؤونه؛ اضطره بعضُ ذلك ـ فكيف بكله ـ إلى الاعتراف بوحدانية الله، وأن الذي شرعه هو الربُّ العظيم الحكيم في شرعه ودينه؛ كما هو حكيم في خلقه وتقديره.
[من الأدلة: الفطرة السوية مضطرةُ إلى الاعتراف بالله]
ومن براهين وحدانية الله : أن العقولَ والفطرَ مضطرةٌ إلى الاعتراف بباريها، وكمالِ قدرته ونفوذ مشيئته، وذلك أن الخلقَ محتاجون ومضطرون إلى جلب المنافع ودفع المضار.
ومن المعلوم لكلِّ عاقلٍ أن حاجة النفوس إلى خالقها وإلـهها أعظمُ من جميعِ الحاجات والضرورات، فهي مضطرةٌ إلى علمها بأنه خالقُها وحده، ومالكُها وحده، ومبقيها وحده، وممدها بمنافعها وحده؛ {{فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}}، {{ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}} ([9]).
ولم يخرج عن هذي الفطرة إلا من اجتالتهم الشياطين([10])، وحوَّلتَ فِطَرَهم، وغيّرتها بالعقائدِ الفاسدة،
والخيالاتِ الضالة، والآراءِ الخبيثة، والنظرياتِ الخاطئة.
فلو خُلُّوا وفطرَهم؛ لم يميلوا لغير ربهم، منيبين إليه في جلب المنافع ودفع المضار، ومنيبين إليه في التألُّه والتعبُّد والخضوع والانكسار.
[من الأدلة: الثواب المعجَّل للمحسنين، والعقاب المعجَّل للظالمين]
ومن براهين وحدانية الله تعالى وكرمه : ما يكرم الله به الواصلين لأرحامهم، المحسنين إلى المضطرين والمحتاجين، وخَلَفُه العاجل لهم نفقاتِهم، وتعويضُه لهم من جوده وكرمه، وفتحُه لهم أسباباً وأبواباً من الرزقِ بسبب ذلك الإحسان؛ الذي له الموقع الطيب.
وقد علم الخلقُ المتأملون أن سببَ ذلك ([11]): تلك الأعمالُ الصالحة والصلةُ والإحسانُ والمقدماتُ الحسنة؛ ألا يدلنا ذلك أن الله قائمٌ على كل نفس بما كسبت؟ وأن هذا جزاء معجل وثواب حاضر؛ نموذجٌ لثواب الآخرة؟
وأنواعُ ذلك وأفرادُه لا تدخل تحت الحصر، وقد رأى الناسُ من ذلك عجائب؛ مصداقاً لقوله تعالى: {{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ}} [سبأ: 39] ، و{{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأََزِيدَنَّكُمْ}} [إبراهيم: 7] ، ولقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من أحب أن يُبسط له في رزقه، ويُنسأ له في أجله، فليصل رحمه» متفق عليه ([12]).
فكم أحسن الله على المحسنين، وكم أخلفَ نفقاتِ المنفقين، وكم جبر قلوبَ الواصلين لأرحامهم المشفقين.
ونظيرُ هذا البرهانِ : العقوباتُ التي يعجِّلها الله للباغين والقاطعين والظالمين والمجرمين بحسَبِ جرائمهم؛ عقوباتٌ يشاهدها الناسُ رأيَ العين، ويتيقنون أن ذلك جزاءٌ وعقوبةٌ لتلك الجرائم.
فمن تأمل وسمع الوقائعَ، وأيامَ الله في الخلق، وعَلِم ارتباطها بأسبابها الحسنة والسيئة: عَلِم بذلك وحدانيةَ الله وربوبيتَه وكمالَ عدلِه وسعةَ فضلِه؛ فضلاً عن الاستدلال بها على وجوده، ووجوبِ وجوده.
فإن كل ما دلَّ على شيء من أوصافه وأفعاله؛ فإنه يتضمن إثباتَ ذاتِه ووجوبَ وجوده.
وعَلِم استنادَ العوالم العلويةِ والسفليةِ إليه في إيجادها وبقائها وحفظها وإمدادها بكل ما تحتاج إليه.
* * *
فصلٌ تابع لما قبله [طرق معرفة الله واسعة غير منحصرة]
واعلم أن طرقَ معرفةِ الله واسعةٌ جداً؛ وذلك بحسَبِ حاجةِ الخلق وضروراتِهم إليها، وكلٌّ يعبّر عنها بعباراتٍ؛ إما كلية وإما جزئية؛ بحسب الحال التي تحضره، وبحسَبِ الأمورِ التي تغلب عليه.
وإلا فكلُّ ما خَطَر في القلوب، وشاهدته الأبصار، وأدركته الحواس والمشاعر، وكلُّ متحركٍ وساكنٍ، وكلُّ حيوانٍ وجماد: أدلةٌ وبراهينُ على وحدانية الله، وآيات عليه.
وفي كلِّ شيء له آيةٌ
تدل على أنه واحدُ
ولكن الجزئيات تسبق إلى الأذهان، وتفهمها القلوبُ تفصيلياً، ويحصلُ بها النفعُ والفائدةُ العاجلة؛ لسهولتها وبساطتها، وكونها تدرك بالبديهة ، فلنذكر لها أمثلةً وحكاياتٍ عن المتقدمين والعصريين، وكلٌّ يفهم منها ما يناسبه ويليق بفهمه:
[أمثلة وحكايات في الاستدلال على الله]
* سئل بعضهم: بم عرفت ربك؟ فقال: إن البَعْرةَ تدل على البعير، وآثارَ السيرِ تدل على المسير؛ فسماءٌ ذات أبراج، وأرض ذات فِجَاجٍ، وبحارٌ ذات أمواج؛ ألا تدل على اللطيف الخبير؟
* واجتمع طائفةٌ من الملاحدة ببعض أهل العلم ـ أظنه أبا حنيفة ـ فقالوا: ما الدلالةُ على وجودِ الصانع؟ فقال لهم: دعوني فخاطري مشغولٌ بأمر غريب، قالوا: ما هو؟ قال: بلغني أن في دجلةَ سفينةً عظيمةً، مملوءة من أصناف الأمتعة العجيبة، وهي ذاهبة وراجعة من غير أحدٍ يحركها، ولا رُبَّانٍ يقوم عليها.
فقالوا له: مجنونٌ أنت؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: هذا يصدقه عاقل؟ فقال لهم: فكيف صدقت عقولُكم أن هذا العالمَ؛ بما فيه من الأصناف والأنواع والحوادثِ العجيبة، وهذا الفَلَكَ الدوارَ السيَّارَ: يجري وتجري هذه الحوادثُ بغير محدِث، وتتحرك هذه المتحركاتُ بغير محرِّك، فرجعوا على أنفسهم بالملام.
* وقيل لبعضهم: بم عرفت ربك؟ فقال: هذه النطفةُ التي يلقيها الفحل في رحم الأنثى، فيطوِّرها الله من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى آخر أطوارها، فيكون
بشراً سوياً كاملَ الأعضاء الظاهرة والباطنة.
له سمعٌ يسمع به الأصوات، وبصرٌ يبصر به المشاهدات، وعقلٌ يهتدي به إلى مصالحه، ويدان يبطش بهما، ويعمل بهما الأعمال الدقيقة، ورجلان يمشي بهما، وأعضاءُ كثيرة خلقت لمنافع أخرَ معروفة، وله منافذُ يدخل منها ما يغذي البدنَ، ومنافذُ أخرُ يخرج منها ما يضره.
وقد رُكِّب هذا التركيبَ العجيبَ الذي لو اجتمعت الخلق على إيجاد شخصٍ واحد على هذا الخلق المحكم العجيب؛ لعجزت معارفهم وقُدَرُهم ([13]) عن ذلك، أليس ذلك دليلاً وبرهاناً على وجودِ الخالق وعظمتِه ووحدانيتِه؟
قلت: وقد ذكر الله هذا البرهانَ في كتابه في أساليب متنوعة.
* وقيل لبعضهم: بم عرفتَ ربك؟ قال: بنقضِ العزائم والهمم.
ومعنى ذلك: أن العبد يعزم في كثير من أموره عزماً جازماً مصمماً لا تردد فيه، ثم بعد ذلك تنتقض همته، وينحلُّ عزمه إلى تركه، وإلى أمرٍ آخر يرى فيه مصلحته.
وما ذلك إلا لأن اللهَ على كل شي قدير، يصرف القلوبَ كما يدبرُ الأبدانَ، وقد يصرفه عن بعض ما يعزم عليه لطفاً به، وإبقاءً على إيمانه ودينه، فيتلطَّف به من حيث لا يشعر؛ فنسأله اللطفَ في الأمور كلها، والتيسير لليسرى .
* وسئل بعضهم: بم عرفت ربك؟ فقال: كم كنتُ مكروباً ففرج كربتي، وكنتُ مريضاً فدعوته فشفاني، وكنتُ فقيراً فأغناني، وكنتُ ضالاًّ عن الهدى فتلطف بي وهداني، وليس هذا الأمر لي وحدي؛ فكم له على عباده من هذه النعم وغيرها مما لا حصرَ له ولا عدَّ، وهذا يضطرني إلى الاعتراف بوحدانيته وقدرته ورحمته.
* وقيل لبعضهم: بم عرفتَ الله؟ فقال: قد رأينا ورأى الناسُ في الدنيا مصارعَ البغاةِ المجرمين وعواقبهم الوخيمة، كما رأينا ورأوا في المحسنين عواقبهم الحميدة، فعجَّل للعبادِ نموذجاً من الثواب والعقاب، ليعرفوه، ويخضعوا له وحده، ويعبدوه وحده.
* وقيل لآخر: بم عرفتَ الله؟ فقال: بإيصاله النعمَ إلى خلقه وقت الحاجة والضرورة إليها.
هذا الغيثُ ينزله وقتَ الحاجة، ويرفعه إذا خِيف منه الضرر، وهذا الفرج يأتي إذا اشتدت الأزمات، وهذه المطالبُ تأتي منه وقت الحاجة إليها، وهذه أعضاءُ الآدمي
وقواه؛ يعطيها الله إياها شيئاً فشيئاً بحسب حاجته إليها.
فهل يمكن أن تكون هذا الأمورُ صدفةً؟ أم يُعلم بذلك علمَ اليقين أن الذي أعطاهم إياها وقتَ الحاجة والضرورة هو الربُّ المعبود، الملك المحمود؟
قلتُ: ومن هذا الباب ما نتكلم فيه من معرفة الله ؛ فإنه لما كانت حاجةُ العبادِ إلى معرفة الله فوق جميع الحاجات، والضرورةُ إليها تفوق جميع الضرورات؛ يسَّرها الله لعبادِه ونهج لهم طرقَها، وفتح لهم أبوابَها ومسالَكها، وأوضحَ أدلتها، وذلك لشدة الحاجة إليها، وسعة رحمةِ الله وإحسانه.
* وقيل لبعضهم: بم يُعرَف الله؟ فقال: يُعرَف بأنه علَّم الإنسانَ ما لم يعلم، خرج من بطن أمه لا يعلم شيئاً، فأعطاه آلاتِ العلم، ويسَّر له أسبابه، فلم يزل يتعلم أمور دينه حتى صارَ عالماً ربانياً، ولم يزل يتعلم أمور دنياه حتى صار ماهراً مخترعاً للعجائب، ويسَّر له كلَّ سبب ينال به ذلك.
ومن عجيبَ الأمر أن اللوحَ إذا كتب فيه، وشُغِل بشيء من الأشياء؛ لم يسع غيرها، ولم يمكن أن يكتب فيه شيء آخر قبل مَحْيِ ([14]) ما كُتِب فيه، وقلبُ الإنسانِ لا
يزال يحفظ ويعقل الأمورَ والمعارفَ المتنوعة.
وكلما توسعت معارفُه وغزر علمُه: قويت حافظته، واشتدَّت ذاكرته، وتوسعت أفكارُه، فهل هذه الأمورُ في طوق البشر وقدرتهم؟ أم هذا من أكبر البراهينِ على عظمةِ الله ووحدانيته وكماله وسعة رحمته؟
* وقيل لبعضهم: بم يعرف الله؟ فقال: هذه النواةُ يغرسها الناسُ؛ فيأتي منها النخيلُ والأشجارُ المتنوعة، وتخرج الثمارُ اللذيذةُ النافعة، وهذه الحبوبُ تلقى في الأرضِ فتخرج أصنافُ الزروعِ التي هي مادَّةُ أقواتِ الآدميين وبهائمهم، ثم لا تزال تعاد وتُغَلُّ كلَّ عام ما يكفي العبادَ ويزيد عن حاجتِهم.
أليس هذا برهاناً ودليلاً على وجود الله وقدرته، وعنايته بعباده ورحمته؟
وقد نبَّه الله على هذا الدليل والبرهان العقلي المشاهد في قوله تعالى: {{فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى}} [الأنعام: 95] ، وقوله: {{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}} [الواقعة: 63، 64] .
* وقيل لمن بادر إلى الإيمانِ بالرسول صلّى الله عليه وسلّم: ما الذي دعاك إلى ذلك؟ فقال: رأيتُه ما أمر بشيء فقال العقل: ليته
لم يأمر به، ولا نهى عن شيء فقال العقل: ليته أمر به.
فاستدلَّ بنور عقلِه وقوة بصيرته على صدق الرسول باشتمال ما جاء به على الصلاح ودفع الفساد، وأن ذلك موافق للعقول السليمة.
* وقيل لبعض العارفين: بأي شي يعرف الله؟ فقال: بذوق حلاوة الطاعاتِ، وتجرُّعِ مرارة المخالفات.
وهذا استدلال برهانيٌّ وجدانيٌّ، لمن وُفِّق لهذه الحال، يضطرُّ العبدَ إلى كمالِ الإيمان وزيادة اليقين؛ فإن من وجد حلاوة الطاعات والإيمان، وذاق لذة اليقين، وتألم إذا غلبته النفسُ الأمارةُ بالسوءِ على اقتحام بعض المعاصي، اضطره الأمرُ إلى معرفه الله ووحدانيته.
* وقيل لبعضهم: بأي شيء يُعرَفُ الله؟ فقال: بانتظام الأسباب على وتيرة واحدة، ثم بتحويله لبعضها ومنع سببيته، وبإيجادِه أشياءَ بغير أسبابٍ تعرف.
وهذا صحيح، فإنه تعالى أجرى الأمورَ على أسبابها ومسبَّباتها قدراً وشرعاً؛ ليُعرف بذلك حكمتُه البالغة، ولينشط العاملون على أعمالهم التي ربطها الله بمسبِّباتها، وأجراها على سنته، ثم إنه مع ذلك منع بعضَ الأسبابِ عن ترتب آثارها عليها، كما في معجزات الأنبياء الخارقة للعادة،
وكرامات الأولياء ([15]).
وكذلك يوجد كثيراً من الأشياء بغير الأسباب المعهودة، كما أوجدَ عيسى من أمٍّ بلا أب، ويحيى بين أبوين لا يولد لمثلهما.
وأشياءَ كثيرة من هذا النوع؛ ليعرِف العبادُ أنه المتصرِّفُ التصريفَ المطلقَ، وأنه كما يتصرَّف بالأشياء بأسبابها المعلومة المرتبطة بها؛ كذلك يتصرف فيها بغير المعهودة.
ولهذا كان جمهورُ هذا النوعِ من معجزات الأنبياء والكرامات للأولياء، وقد تكون لغيرهم، وهي كلها براهينُ على وحدانية الله وإلاهيَّتِه وربوبيته.
* وقيل لبعضهم: بم يُعرَف الله؟ فقال: من نظر في موادِّ الرزق، وتأمل حالة من لهم موجوداتُ كثيرة، وعقارات وغلاَّت كثيرة، ولكنهم قد اتكلوا عليها، فضاقت عليهم الأمور، وركبتهم الديون، وجاءت الأمور على خلاف ما يأملون.
ثم نظر إلى أناسٍ كثيرين؛ ليس لهم عقارات ولا
غلاَّت ولا موجودات، وإنما يسرت لهم أسباب بسيطة، لا تخطر على بال أحدٍ أن تكفيهم، ولكن الله بارك فيها، وبسط لهم الرزقَ، فكانوا أبسط قلوباً، وأريح نفوساً، وأرغد عيشاً من الأولين.
والسبب في ذلك أنهم قاموا بالأسباب؛ متوكلين على مسبِّبها، فقلوبُهم على الدوام متطلعةٌ إلى ما عند الله، راجيةٌ منه تسهيلَ الرزق، والأولون بالعكس: قلوبُهم متعلقةٌ بأملاكِهم وموجوداتِهم، فبذلك يُعرَف اللهُ، ويعرف أن الأمرَ كلَّه للهِ.
لذلك إذا نظرنا لكثير من الأقوياء الأذكياء العاملين ليلاً ونهاراً؛ تجد رزقهم مقتَّراً، وأسبابَهم مخفقةً، ونجد كثيراً من الضعفاء البُلَداء الذين ليس عندهم من القوة والذكاء ما عند الأولين، والله قد بسط لهم الرزقَ، ويسَّر لهم أمرهم، وهذا كله مشاهدٌ يضطرُّ العاقلَ أن يشهد لله بالتصرف المطلق، وأن الأمر كلَّه لله.
* وقيل لآخر: بم يُعرف الله؟ فقال: بمداولته الأيامَ بين العباد في العزِّ والذلِّ، والغنى والفقر، بأسباب وبغير أسباب.
* وقيل لآخر: بأي شيء يُعرَف الله؟ فقال: بمشاهدةِ مصداق قوله تعالى: {{وَمَا مِنْ دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ
رِزْقُهَا}} [هود: 6] ، فتنظر مصداقها شاملاً للخليقة، وأن كلَّ أحد قد يسَّر الله له من أسباب الرزق ما به يعتاش:
هذا بتجارته، وهذا بصناعته، وهذا بحراثته، وهذا بعمله وخدمته، وهذا بمخلَّفات من قبله، وهذا بتنميةِ المواشي، وهذا بإحسانِ غيره عليه؛ بسؤالٍ وغير سؤال، وهذا بكدِّ غيره عليه، إلى غير ذلك من الأسباب المعروفة، التي قدرها العزيز الحكيم رزقاً للعباد، فسبحان من وصل رزقه إلى أصغر الذرات، ومَهَامِه البراري، وقعور البحور والظلمات.
* وقيل لبعضهم: بم يُعرَف الله؟ فقال: إن لمعرفة الله أبواباً وطرقاً كثيرة جداً، ومن جملتها ما هدى الله له العباد في هذه الأوقات، من المخترعات الكثيرة، وأعمالِ الكهرباء، وإيصالِ الأصوات والأنوار ونحوها إلى مسافات شاسعة، وأمكنة متباعدة.
وهو الذي علَّم الإنسان، وهو الذي أقدره على ذلك، وهو الذي خلق له المواد والمعادن التي تُسْتَخرَج بها هذه الأشياء، وهداه إلى تأليفها.
ومعلومٌ أنه خرج من بطن أمه لا يعلم شيئاً، ولا يقدر على شيء، فعَلِم جميع هذه الأمور، وكانت هذه من جملة منن الله عليه، فخالق السبب هو خالق المسبَّب تبارك وتعالى.
فهذا أكبر برهانٍ على كمال قدرة الله الذي أقدر العبدَ الضعيفَ على هذه الأمور؛ التي تعد سابقاً من الأمور المحالة الممتنعة.
قلتُ: وهذه الأجوبة كلها عن الكليات والجزئيات صحيحة، تضطرُّ العقولَ إلى الاعتراف بربها ووحدانيته، ويمكن مضاعفتُها إلى أضعاف كثيرة.
فإنك إذا نظرتَ نظرةً عمومية إلى العالم العلوي والسفلي وعظم هذه المخلوقات، وانتظامها العجيب، وتركيبها المحكم وترتيبها، وما ينتج عن ذلك من مصالح العالم والمخلوقات: عَلِمتَ أن لهذا العالَمِ ربّاً عظيماً، ومَلِكاً كبيراً، وقادراً مقتدراً، قد خضعت له الأكوانُ، ودانت له الخليقةُ، وأخذ بنواصي العباد، وعلمتَ أن كلَّ ما في السمواتِ والأرض عبيدٌ ومماليك لربهم؛ ليس لهم من الأمر شيء.
ثم إذا نظرتَ إلى كلِّ مخلوق على حِدَته، وتأملت ما اشتمل عليه من الخلق العجيب والحِكَم الباهرة، ثم نظرتَ على وجه الخصوص إلى نفسِك وصفاتك، وما أُودِع فيها من الخلق العجيب والحِكَم الباهرة: عرفتَ أن الله هو الربُّ الخالق الرازق، المدبِّر لكل شيء، الحكيم في كل شيء، قال تعالى: {{وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ}} [الذاريات: 20] .
فجميعُ مخلوقات الله وجميعُ الحوادث التي يحدثها الله: آياتٌ وبراهينُ على أنه واحدٌ عظيم، ورب كريم، وملك جواد.
وكذلك إذا تأملت الشرعَ الكامل، وأن أخبارَه كلَّها صدقٌ، وقد قامت البراهينُ على صدقها، وأحكامَها ([16]) كلَّها عدل، تأمر بالخير والصلاح، وتنهى عن الشر والفساد، وتجري أحكامُها المحكَمةُ وحقوقها العادلة مع الأزمان؛ مهما تطورت الأحوالُ، واختلفت العوائد؛ لا يختلُّ صلاحها، ولا ينتقض هداها.
بل لا يكون هديٌ وصلاحٌ وخير إلا بها، ولا تأتي بأمرٍ تحيله العقول، وتكذبه الحواس الصحيحة، بل تشهد العقول الكاملة أنَّ أحكامَها أحسنُ الأحكام، وأعدلُها وأقومها وأهداها.
أليس هذا أكبرَ برهانٍ على عظمة الله وقدرته، وسعةِ علمه وشمولِ حكمته ورحمته؟ وأنه المحمودُ في كلِّ حال؛ على خَلْقه للمخلوقات وعلى شرعه الشرائع؟
أحسنَ ما صنعه، وأحكمَ ما شرعه؛ ليس في ذلك عيبٌ وعبث، وليس فيها ما ينافي الحكمة بوجه من الوجوه: {{صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}} [النمل: 88] ، {{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}} [المائدة: 50] .
* * *
فصل
[من الأدلة: أن وجود الرب أظهر من كلِّ شيء]
ومن أعظم البراهينِ على وحدانيةِ الله ووجوبِ وجوده:
ما دعت إليه الرسلُ ـ صلواتُ الله وسلامه عليهم ـ أُمَمهم، ونبَّهتهُم على البراهينِ العقلية على ذلك، وأخبروهم خبراً معلنين به ومتفقين عليه: أن وجود الرب أظهرُ من كل شيء، وأجلى وأوضحُ من كل شيء، وأعلى من كل شيء، وأنه لا يمكن أن يعترض ذلك شكٌّ ولا ريب بوجه من الوجوه، ولهذا قالت رسلهم جميعاً: {{أَفِي اللَّهِ شَكٌّ}} [إبراهيم: 10] .
وهذا استفهامٌ وإنكارٌ عظيم على من يشك أو يمتري بالله، وبيان أنه متقرر في عقول الخلق وفطرهم: أن وجودَ الله ووحدانيتَه أظهرُ الأشياء وأجلاها، وأن من شكَّ في ذلك فهو مباهِتٌ مكابِرٌ، غيرُ مبالٍ بمخالفة العقل والدين.
فإن جميعَ الأشياء ـ وجودَها وبقاءَها وحفظَها وحصولَ
جميع كمالاتها ـ بالله تعالى؛ فهو الأولُ الذي ليس قبله شيء، وهو الذي أوجد كلَّ شيء، ولهذا قالوا: {{أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}} [إبراهيم: 10] .
فالذي خلق السمواتِ والأرض ـ العالمَ العلوي والعالم السفلي ـ، بما فيها من المخلوقات، أوجدها من العدم، وأبدعها وأتقن صنعها؛ لا ينكره إلا من جُنَّت عقولهم، وانقلبت قلوبهم، وفسدت فطرهم، واختلفت آراؤهم.
وأكثرُ أعداء الرسل: مشركون معترفون بالرب وتفرده بالخلق، وذلك كقوم نوح وهود وصالح وغيرهم، ومنهم ملاحدةٌ معطلون كفرعون؛ إذ قال: {{وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ}} [الشعراء: 23] ، على وجه الإنكار، وقال: {{يَاأَيُّهَا الْمَلأَُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}} [القصص: 38] .
وجميع الرسل ذكَّروا أممهم المكذِّبين، واحتجوا عليهم بخلق الربِّ للمخلوقات كلِّها، وأنه ربُّ العالمين، وربُّ الأولين والآخرين، وذكّروهم بكثرة النعم من الله عليهم، وكل رسول يقول لقومه: {{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}} [المؤمنون: 23] .
فاحتجوا عليهم وبرهنوا على ذلك بأنه الربُّ الخالق المدبر، المنعم بالنعم كلِّها، وأن من كان هذا وصفَه فهو المستحق لإخلاص العبادة له، ولكثرة ذكره وشكره وحمده والثناء عليه.
وهذه كلُّها براهينُ عقلية لا ينكرها إلا من نبذ العقل والدين.
[من الأدلة: أيام الله ووقائعه]
وكذلك ذكَّروهم بأيامِ الله ووقائعه في الأمم الطاغية، وذكروهم أن هذه العقوبات ثمرةُ الكفرِ والتكذيب، وأنها نموذج من عقوبات الآخرة.
وهي عقوباتٌ ومَثُلات شاهدها الناسُ بأبصارهم، ومن لم يشاهدها فقد تناقلتها الأمم والقرون، وتواترت أخبارها.
ولهذا يجعل الله هذا النوعَ من الآياتِ العقليةِ الحسية؛ قال الله تعالى: {{وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ}} [إبراهيم: 45] ، {{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}} [الروم: 9] ، {{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}} ([17]) [الأحقاف: 27] .
[من الأدلة: ما عليه الأنبياء من الكمالات وما لهم من الآيات]
وكذلك ذكَّرتهم الرسل بما هم عليه من النصحِ الكامل، والعلمِ الواسع، والصدقِ، وأن جميعَ الرسل صلوات الله وسلامه عليهم: أعلم الخلق، وأصدق الخلق، وأنصح الخلق للخلق، وأنهم معصومون محفوظون عن كلِّ وصف ذميم.
وذَكَروا من معجزاتهم وبراهين صدقهم ما يضطر العبادَ إلى الاعتراف بأنهم أصدق الخلق، وأن كلَّ ما جاؤوا به فهو حقٌّ.
وأعظمُ ما دعوا إليه: توحيدُ الله ومعرفته ، فجميع آيات الأنبياء ومعجزاتهم وبراهين صدقهم: من جملة الأدلة على وحدانية ربهم، وأنه الملك الحق المبين.
[من الأدلة: اجتماع كلمة الرسل على توحيد الله]
ثم إن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ـ الذين هم أعلى الخلق في كل علمٍ، وصدقٍ، وبيانٍ، وفضلٍ وكمالٍ ـ؛ قد اتفقت كلمتهم، واجتمعت دعوتهم على الأمر بتوحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، والاعتراف لله بوجوب الوجود والكمال المطلق.
وهذا أعظمُ الحقائقِ كلها، وهو التوحيد، قد أجمع عليه أكملُ الخلائق عقولاً وأدياناً وفضائل: {{فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ}{وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍيَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}} [الجاثية: 6 ـ 8] .
[من الأدلة: شهادة الله وشهادة الملائكة وأولي العلم والمهتدين]
ومن ذلك أنه شهد لنفسه ـ ومن أكبر منه شهادةً ـ أن {{لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}} [آل عمران: 18] .
فالملائكةُ كلُّهم، وأهل العلم الصحيح الذين أئمتُهم وسادتهم الرسلُ، ثم العلماءُ الربَّانيون، والهداةُ المهتدون؛ شهدوا لله بالوحدانية، لم يتخلَّف منهم أحدٌ.
ومن زَعم أن عنده علماً، ولم يشهد لله بهذه الشهادةِ؛ فإنه ليس بعلمٍ نافع، بل علم ضارٌّ، أثَّر في قلب صاحبه العلو والاستكبار، وهو العلم المورث عن أعداء الرسل الذين قال الله عنهم: {{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}} [غافر: 83] .
فأخبر تعالى أن عند أعداء الرسل علوماً قاوموا بها علوم الرسل، ورضوا بها، واطمأنوا لها، واستهزؤوا بما جاءتهم بـه
الرسل، حتى نزل بهم العذاب المحيط، والخزي الفاضح.
وهذا نظيرُ ردِّ الملاحدة والماديين لما جاءت به الرسلُ من التوحيد والإيمان، والسخريةِ بها وبأتباعها بأنهم رجعيُّون مقلدون، أتباعُ كل ناعق، وأنهم متخلفون عن ركب الإنسانية! وما أشبه ذلك مما ينعق به سفهاء الأحلام ضعفاء العقول، الذين قلدوا الملاحدة في كلِّ ما يقولون ويفعلون، واغتروا بعلوم مادية دنيوية لا تغني عن أهلها شيئاً حين فقدت الروح الدين ([18])، بل صار ضررُها عليهم أكثر من نفعها، وشرها عليهم أكثر من خيرها.
من أعظم أضرارها وشرورها عليهم: أنهم بها تكبروا على الحق وعلى الخلق، واحتقروا بها علومَ الرسل وأتباعهم؛ التي هي النافعة المزكية للقلوب، المطهرة للأخلاق، المصلحة للأمور كلها، الجالبة للخير والهدى، الدافعة للشرور كلها ([19]).
فهؤلاء الملاحدةُ ـ ومن قلَّدهم ـ: علومُهم نفخت فيهم روحَ الكبرياء، وصيَّرتهم بطورٍ غير طورهم، ورأوا بها العبادَ أخسَّ من الحيوان البهيم، وهم في الحقيقة الأرذلون.
ومن أضرارها عليهم: أنها ـ وإن رقَّت حضارتَهم ومدنيتهم ـ ولكنها حضارة ومدنية مادية محضة، مهددة كل وقت بالهلاك والتدمير.
فأي مدنيَّة وحضارةٍ روحُها الظلمُ والجشع واستعباد الضعفاء، والاستعداد بالأسلحة الفتاكة، المهلكة للحرث والنسل ونتائجها وثمرتها التطاحن بين أهلها؛ يصبُّ بعضهم على بعض العذابَ الفظيع؟
فهل هذا إلا أكبرُ دليلٍ وبرهان على كمال قدرة الله وعدله وحكمته؟
وهذه الأمورُ من أيامه ووقائعه وعذابِه الأليم بين الناس، ولم تزدهم هذه المواعظُ والعبرُ إلا عتوّاً ونفوراً، فهم ينتقلون من عذاب شديد إلى أشد منه، وهم في طغيانهم يعمهون، وبمدنيتهم الشنيعةِ وآثارُها يتمدحون، {{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}} [الروم: 7] .
ما أعظمها من عِبَرٍ لو أن القلوبَ واعيـة! وما أدلهـا
على كمال عدل الله وحكمته لو أنَّ الفهومَ صالحة! ولكنَّ القلوبَ غطيت بأغشيةِ الغفلةِ والكبرياء والاغترار، والنفوس أقبلت على الأمور الضارة، قد خلبتها المناظرُ البراقةُ وسحرت الأبصار: {{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً}} [فاطر: 8] ، {{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}} [الأنعام: 43] ، {{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}} [الأنعام: 44] ([20]).
وأما شهادته تعالى لنفسه بالوحدانية فقد نطقت بذلك جميعُ الكتب التي أنزلها على رسله، وأنطق بها رسلَه، واتفقت على ذلك دعوتُهم، وتبعهم على ذلك جميعُ أتباعهم من العلماء الربَّانيين والهداة، وجميع طبقات أهل العلم والإيمان.
وكذلك أقام على ذلك الشواهد النفسية والأفقية: {{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ}} [فصلت: 37] .
والعالم العلوي والعالم السفلي كلها آياتٌ بيناتٌ،
وبراهينُ قاطعاتٌ؛ على وحدانية خالقِها، ومدبرها، ومتقنِ صنعها، ومبدعِها بالخلقِ العجيب، والنظامِ الباهر، والحِكَم التي يعجز الفصحاءُ والبلغاء عن التعبير والإحاطة ببعض آياتها وبراهينها.
[من الأدلة: العواقب الحميدة للمؤمنين، والذميمة للكافرين]
ومن شهادته تعالى لنفسه بالوحدانية والتفرد بالعظمة والكمال: ما عجَّله لأنبيائه وأتباعهم من الآياتِ والمعجزاتِ، والنصر العظيم، والكرامات المتنوعة، والعواقب الحميدة، وما عجَّله لأعدائهم من الهلاك الخاص والعام، والمَثُلاتِ والأخَذاتِ الصوارم، والعواقبِ الوخيمة.
وكذلك ما تركه لأنبيائه وأصفيائه من لسان الصدق، والثناء العام المنتشر، والمحبة في قلوب الخلق، وما لأعدائِه من البُغضِ والذم، واللعنِ المتتابع.
كلُّ ذلك آياتٌ بينات على وحدانية الله وصدق رسله.
قال تعالى: {{سَلاَمٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ}} [الصافات: 79] ، {{سَلاَمٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ}} [الصافات: 109] ، {{سَلاَمٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ}{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}} [الصافات: 120، 121] ، {{ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا
بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ}} [الروم: 10] .
[من الأدلة: إخبار الله ورسوله (ص) عن أمور من الغيب]
ومن أعظم البراهين ـ الجامعةِ بين كونها نقليةً وعقليةً حسيةً ـ: إخبارُ الله في كتابِه، وفي سنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم عن أمورٍ من الغيب كثيرةٍ جداً.
أمورٍ ماضية سابقة لوقت التنزيل، وأمورٍ حاضرة وقعت أيامَ الرسالة، وأمور مستقبَلةٍ لا تزال تحدث شيئاً فشيئاً؛ موافقةٍ مطابقةٍ لما أخبر اللهُ به ورسولُه على الوجه الذي أخبر، وهي غير محصورة في أنواعها فضلاً عن أفرادها؛ تَستحقُّ أن يصرف لها تصنيفٌ مستقل .
فكل واحدٌ منها برهان، ثم هو مع الثاني ومع الثالث والرابع وما بعده؛ براهين متعددة، وكلها تضطرُّ الناظرَ فيها إلى الاعتراف لله بالوحدانية ولنبيِّه بالرسالة، وأن جميعَ ما أخبر الله به وأخبر رسوله فهو حق لا ريب فيه.
[من الأدلة: تحدّي الله لجميع الإنس والجن أن يأتوا بمثل القرآن]
ومن ذلك تحدي الله لجميعِ الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وإخبارُه أنهم لم يستطيعوا ولن يستطيعوا أن يأتوا بمثله، والتحدي قائمٌ في كل وقت ([21])، والعجز من الخلق ظاهرٌ، مع توفر دواعي الأعداء، وحرصهم الشديد على ردِّ ما جاء به الرسول، والقدح في رسالته.
وهذا برهان عظيم يضطرُّ كلَّ عاقلٍ معه إنصافٌ؛ أن يعترفَ بالحق الذي قامت البيناتُ الظاهرة والدلالات الباهرة على صدقه من كل وجه؛ ولله الحمد.
[من الأدلة: الآثار الجليلة المترتبة على رسالة محمد (صلى الله عليه وسلم) ]
ومن براهين وحدانية الله وصدق ما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم: الآثارُ الجليلة التي نشأت وترتبت على رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم.
فإنه بعث في أمة أمية، والأرض مملوءة من الجهل والشرك والشرور المتفاقمة، فهداهم الله به من الضلالة، وعلَّمهم به بعد الجهالة، واستقامت أخلاقهم وصلحت أعمالهم، وامتلأت الأرض من الخير والهدى والصلاح، وانتشرت الرحمة والعدل، وتم به الفلاح والنجاح.
وفتحت القلوبُ بالعلوم النافعة والمعارف الصحيحة والإيمان، وأظهر الله دينه على سائر الأديان، وانتشر وقبلته القلوب المستقيمة في جميع الأقطار، وزهق به كل باطل ومحال.
ولم يزل أهلُه ظاهرين على غيرهم حين كانوا مستمسكين به، وقائمين حق القيام به، حتى حصل الانحراف من أهله في العقائد والأخلاق، والأعمال الدينية والدنيوية، فزالت عنهم بذلك آثارُه الجليلة وتبدلوا بأضدادها.
أفليس في هذا أكبرُ برهانٍ على أن هذه الشريعة شَرَعها العزيز الحكيم، ونصرها الرب العظيم؟ وأن الخيرَ كلَّه ملازمٌ لها وتابع لتعاليمها وأخلاقها؟ وأنها تنزيلٌ من حكيم حميد؟ وأن أخبارها كلها صادقة تشهد العقول بصدقها؟
ولم يأتِ منها خبرٌ واحد صحيح يناقض الواقعَ ويخالف المحسوسَ؛ فإنها لا تأتي بما تحيله العقولُ، وربما أتت بما تحارُ فيه العقولُ ولا تهتدي إليه، لأن في الشريعة من التفاصيلِ العظيمةِ الخبريةِ والحُكميةِ ما لا تصل إليه عقول العقلاء، ولا تهتدي إليه فطنة الفطناء.
ولم يأت علم صحيح أو نظرية صادقة متفق عليها بين العقلاء تناقض ما جاء به الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهل في البراهين اليقينية أعظم من هذا البرهان وأوضح من هذا البيان؟ {{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ ([22]) رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً}} [الأنعام: 115]
، صدقاً في إخبارها، وعدلاً في أحكامها وشرائعها.
[من الأدلة: إحكام الشريعة وصدق أخبارها واتفاق أحكامها]
ومن البراهين على وحدانية الله وصدق رسوله وحقيقة ما جاء به: أن الشريعةَ كلَّها محكمةٌ في غاية الحسن والانتظام، متصادقة أخبارها، متفقة حقائقها، متعادلة أحكامها؛ لا يمكن البَشَرَ أن يقترحوا مثلها في الحسنِ، وموافقتِها لكل زمان ومكان، ومجاراتِها لجميع الأحوال، وجريانِها على الهدى والرشد والسدادِ والصلاح، لا تناقضَ فيها ولا اختلاف، ولا عبث ولا نقص ولا اختلال.
وكلما أمعن فيها العالِمُ البصيرُ عَلِم أنها أصدقُ الأخبار وأنفعها للقلوب، وأنها أحسنُ الأحكامِ وأصلحها في عباداتها ومعاملاتها، وتفصيلها للحقوق الخاصة والعامة، قال تعالى: {{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا}} ([23]) [النساء: 82] .
فنبّه الله أولي الألباب والعقولِ على هذا البرهانِ العظيم، الذي هو من أعظم البراهين وأوضحها وأجلاها على أنه من عنده، وأنه حقٌّ كله، وأن ما ناقضه فهو الباطل، قال تعالى: {{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِيَ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}} [سبأ: 6] .
أما جاء هذا الدين بكل صدقٍ وصدَّق الصادقين؟ أما زجر عن الكذب وأبعد الكاذبين؟
أما حثَّ على العدل الكامل في حقوق الله وحقوق العباد؟ أما نهى عن الظلم والجور والشرور كلها والفساد؟
أما تأسس على الإيمان والإخلاص والتوحيد؟ ونهى عما ينافي ذلك من الشرك والتنديد؟
أما أمر ببرِّ الوالدين وصلة الأقارب، والإحسان إلى الجيران والمساكين، والإحسان إلى عموم الخلق؛ حتى
البهائم العجم، وأخبر أنه يحب المحسنين؟
أما أمر بوفاء العهود والعقود والوعد والأيمان؟ ونهى عن الغدر والنكث والعدوان؟
أما حث على فعل الأسباب النافعة في الدنيا والدين؟ وأمرنا ألا نعتمدَ عليها بل نعتمدَ على مسبِّبها ونرجوَ فضل رب العالمين؟
أما أحل لنا جميعَ الطيبات وحرَّم علينا كلَّ خبيث؟ وحثنا على كل أمر نافع وحذرنا عن المضار؟
أما أمر بالصبر على المكاره والشكر عند المحابِّ والمسار؟
أما نهانا عن الهلع والجزع والجبن والخور والأخلاق الرذيلة؟ أما حثنا على القوة والشجاعة والعفة وجميع الأخلاق الجميلة؟
أما أمر بكل معروف شرعاً وعقلاً وفطرةً؟ ونهانا عن كل منكر شرعاً وعقلاً وفطرةً؟
فما أمر بشيء إلا رآه أهل العقول السليمة أحسنَ الأمورِ وأعدلَها، ولا نهى عن شيء إلا عن أقبحِ الخصال وأرذلِها.
وضَّح العقائدَ الصحيحةَ النافعةَ التي لا تصلح القلوب
إلا بها، وأوجبها وجعلها أساساً تنبني عليه الأقوالُ والأفعالُ، وأمورُ الدين والدنيا، وجاء بالأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة التي تُصْلِح الأفرادَ والجماعات، وتستقيم بها العباداتُ والمعاملات.
فأيُّ خيرٍ وهدى وصلاح عاجل وآجل لم يبينه ويدعُ إليه؟ وأيُّ شرٍّ وفساد وضرر عاجل وآجل لم يحذِّر عن طرقه ومسالكه؟
وأيُّ أصلٍ من أصوله، وقاعدةٍ من قواعده، وخبرٍ من أخباره، وحكمٍ من أحكامه ناقضته العلومُ الصحيحة أو خالفته العقولُ والنظم المستقيمة؟
بل قامت البراهينُ التي لا تنقض؛ على أن كل شيء أُسِّس على غيره فهو ضرر وخراب، وكل بناء بني على غير تعاليمه وأحكامه فآخره الانهيارُ والتباب، وكلُّ نظام استمد من غيره فعواقبه وخيمة.
لأن الذي شرعه عالمُ الغيب والشهادة العزيز الحكيم، الذي أحاط بكل شيء علماً، ووسع كل شيء رحمة وبراً، وتكفّل لمن قام به واستقام عليه بالسعادة والفلاح، وضمن لمن تعبّد به ودان لله به الثواب والنجاح.
فهو أكبرُ البراهينِ على عظمة الله ووحدانيته وسلطانه،
وأعظمُ الآيات الدالة على حكمته وحمده وجوده ([24]) وامتنانه، فهو الهدى والرحمة والشفاء والنور، وهو الرشاد والصلاح لكلِّ الأمور: {{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي} [{يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ}] {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطِّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}} [الأعراف: 157] ، {{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}} [النحل: 90] ، {{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [{مِنْ رَبِّكَ}] {هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِيَ إِلَى صِرَاطِ} [{الْعَزِيزُ}] {الْحَمِيدُ}} [سبأ: 6] ، {{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً}} ([25]) [الأنعام: 115] .
فلهذا القرآنِ وهذه الشريعةِ: أكملُ الصفات وأجلُّ النعوت، ومَخْبَرُها ـ في جميع مواردها ومصادرها ـ يفسِّر هذه الأوصافَ الجليلةَ التي لا سعادة للبشر إلا بعلمها وسلوكها والاهتداء بأنوارِها، والتحقق بحقائقها وأسرارِها.
فصل
[من الأدلة: صدق الرسل ووجوب توقيرهم وتقديم أقوالهم]
ومن براهين وحدانيته وكماله وتوحده بالعظمة والكمال:
أنه قد ثبت بالبراهين والآيات المتنوعة ـ التي لا يمكن إحصاؤها؛ لا إحصاء أنواعها، ولا أفرادها ـ صدقُ الرسل، وأن ما جاؤوا به هو الحق، وخصوصاً إمامُهم وسيدهم محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وأنه يجب على الخلق أن يعرفوا قَدْر الأنبياءِ، وتميزَهم عن أصناف الخلق بكل أوصاف الفضائل، وأن الإيمان بهم ومحبتهم وتوقيرهم وتبجيلهم من أفرض الفرائض وأوجب الواجبات.
وأنه يجب أن يكون لهم في قلوب العباد من العظمة والخضوع لما جاؤوا به ما يضمحِلُّ معه جميعُ المقالات، وأن لا تعارض أقوالهم بمعقولاتٍ أو قياساتٍ أو ذوقياتٍ، أو غيرها مما ينتمي إليه أهل الباطل، بل أقوال الرسل لا يتم للعبد إيمانٌ ولا إسلام حتى يجعلها هي الأصلَ الأصيلَ، والأساسَ الذي يُردُّ إليه كل شيء.
وقد عُلِم أن زبدةَ دعوتِهم وأساسها: الدعوة إلى توحيد الله ومعرفته، وإلى عبوديته وإخلاص العمل له، وقد قامت البراهينُ التي لا تعارض ولا تمانع على صدقهم، وصحة ما جاؤوا به.
فتعيَّن على كل مكلَّف ـ له دين أو عقل ـ أن يعترفَ بما جاؤوا به بغير قيد ولا شرط، لأن الأصلَ صحيحٌ، والأساسَ ثابتٌ ثبوتاً يقينياً، والمعارضات كلها باطلة؛ لأن ما عارض الحق فهو باطل، {{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ}} [يونس: 32] .
فمن خَضَع لمعقولاتِ المتحذلقين، أو نظريات المبطلين، وقدمها على ما جاءت به الرسل؛ فقد برهن على نقصان عقله، بل فقده لدينه.
هذا كلُّه مع التنزُّل على فرض وجود معقولاتٍ تناقض ما جاءت به الرسل!؛ فكيف والمعقولاتُ الصحيحة تؤيد ما جاءت به الرسل، وهي من أكبر الشواهد على صدقهم، وإنما تقع المعارضة بين معقولات أناس سفهاء الأحلام، متكبرين بمعلوماتهم وآرائهم الضئيلة، والله المستعان.
[كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية في آيات الأنبياء]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (آياتُ الأنبياء مما يعلم العقلاء أنها مختصة بهم؛ ليست مما تكون لغيرهم، فيعلمون أن الله لم يخلق مثلها لغير الأنبياء، وسواء في آياتهم التي كانت في حياة قومهم، وآياتهم التي فرَّق الله بها بين أتباعهم وبين مكذبيهم؛ بنجاة هؤلاء وهلاك هؤلاء؛ ليست من جنس ما يوجد في العادات المختلفة لغيرهم.
وذلك مثل تغريق الله لجميع أهل الأرض إلا لنوح ومن ركب معه في السفينة، فهذا لم يكن قط في العالم نظيره.
وكذلك إهلاك قوم عاد إرم ذات العماد، التي لم يُخلق مثلها في البلاد، مع كثرتهم وقوتهم وعظم عمارتهم التي لم يخلق مثلها في البلاد، ثم أهلكوا بريحٍ صرصرٍ عاتية؛ مسخرةٍ عليهم سبعَ ليالٍ وثمانيةَ أيام حسوماً، حتى صاروا كأنهم أعجازُ نخلٍ خاوية، ونجا هودُ ومن اتبعه، فهذا لم يكن له نظير في العالم.
وكذلك قومُ صالح؛ أصحاب مدائن ومساكن في السهل والجبل وبساتين، أهُلكوا كلهم بصيحة واحدة، فهذا لم يوجد نظيره في العالم.
وكذلك قومُ لوطٍ أصحابُ مدائن متعددة؛ رفعت إلى السماء ثم قلبت عليهم، وأُتبعوا بحجارة من السماء تتبع شاذَّهم، ونجا لوط وأهله إلا امرأته أصابها ما أصابهم، فهذا لم يوجد نظيره في العالم.
وكذلك قوم فرعون وموسى، جمعانِ عظيمان ينفرق لهم البحر؛ كلُّ فِرْق كالطَّود العظيم، فيسلك هؤلاء ويخرجون سالمين، فإذا سلك الآخَرون انطبق عليهم الماء، فهذا لم يوجد نظيره في العالم.
فهذه الآياتُ تعرِف العقلاءُ عموماً أنها ليست من جنس ما يموت به بنو آدم، وقد يحصل لبعض الناس طاعونٌ ولبعضهم جربٌ ونحو ذلك، وهذا مما اعتاده الناس وهو من آيات الله من وجه آخر، بل كلُّ حادث من آيات الله، ولكن هذه الآيات ليست من جنس ما اعتيد.
وكذلك الكعبةُ؛ فإنها بيتٌ من حجارة بوادٍ غير ذي زرع، ليس عندها أحد يحفظها من عدو، ولا عندها بساتينُ وأمورٌ يرغب الناس فيها، فليس عندها رغبة ولا رهبة، ومع هذا فقد حفظها بالهيبة والعظمة، فكل من يأتيها: يأتيها خاضعاً ذليلاً متواضعاً في غاية التواضع، وجعل فيها من الرغبة ما يأتيها الناس من أقطار الأرض؛ محبةً وشوقاً من غير باعث دنيوي، وهي على هذه الحال من ألوف من السنين، وهذا مما لا يعرف في العالم لبِنْية غيرها، وهذا مما حيَّر الفلاسفةَ ونحوهم..
وكذلك ما فعل اللهُ بأصحابِ الفيل لما قصدوا تخريبها، قصدها جيشٌ عظيم ومعهم الفيل، فهرب أهلها منها، فبرك الفيل وامتنع عن المسير إلى جهاتها، وإذا وجَّهوه إلى غيرها توجَّه، ثم جاءهم من البحر {{طَيْرًا أَبَابِيلَ}}، أي جماعات في تفرقةٍ؛ فوجاً بعد فوج، رَموا عليهم حصى هُلكوا بها كلُّهم، فهذا مما لم يوجد نظيره في العالم، فآيات الأنبياء هي آيات وأدلة على صدقهم.
ومن هذا سنة الله في الفرق بين الأنبياء وأتباعهم وبين مكذبيهم..).
ثم ذكر الآياتِ في إهلاك المكذبين للرسل ونجاة الرسل، قال:
(..وهذه الأخبار كانت منتشرة ومتواترة في العالم، وقد علم الناس أنها آيات للأنبياء وعقوبة لمكذبيهم، ولهذا يذكرونها عند نظائرها للاعتبار، والقرآن آيته باقية على طول الزمان؛ من حين جاء به الرسول، تتلى آيات التحدي فيه ويتلى قوله: {{قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} ...} الآية [الإسراء: 88] .
فنفسُ إخبارِ الرسول بهذا في أول الأمر، وقطعُه بذلك، مع علمه بكثرة الخلق: دليلٌ على أنه كان خارقاً يُعجِز الثقلين عن معارضته، وهذا لا يكون لغير الأنبياء، ثم مع طول الزمان قد سمعه الموافقُ والمخالف، والعربُ والعجم، وليس في الأمم من أظهر كتاباً يقرأه الناس وقال إنه مثله.
وهذا يعرفه كلُّ واحد، وما من كلامٍ تكلَّم به الناس ـ وإن كان في أعلى طبقات الكلام لفظاً ومعنى ـ إلا وقد قال الناسُ نظيره وما يشبهه ويقاربه، سواء كان شعراً أو خطابةً أو كلاماً في العلوم، والحكمة، والاستدلال، والوعظ، والرسائل، وغير ذلك، وما وجد من ذلك شيء إلا وُجد ما يشبهه ويقاربه.
والقرآنُ مما يعلم الناسُ عربُهم وعجمُهم أنه لم يوجد له نظير؛ مع حرص العرب وغير العرب على معارضته.
فلفظه آية، ونظمه آية، وإخباره بالغيوب آية، وأمره ونهيه آية، ووعده ووعيده آية، وجلالته وعظمته وسلطانه على القلوب آية، وإذا ترجم بغير العربي كانت معانيه آية؛ كل ذلك لا يوجد له نظير في العالم...) إلى ما قال رحمه الله ([26]).
فصل
[من الأدلة: أن ما جاء به الرسل فهو الحق النافع، فما خالفه فهو باطل]
ومن البراهين العقلية على وحدانية الله وصدق رسله:
أن الرسلَ كلهم ـ وخصوصاً إمامهم خاتمُهم محمدٌ صلّى الله عليه وسلّم ـ قد جاؤوا بالحق النافع، فأخبارهم كلُّها حق وصدق، وأحكامهم كلُّها حق وعدل وحكمة، فلم يبق حق إلا جاؤوا به وبيَّنوه وحثُّوا الخلق عليه، ولا باطل إلا وضَّحوه وحذَّروا الخلق عنه.
وهذا الأصل متفَقٌ عليه بين جميع المعترفين بالنبواتِ اعترافاً صحيحاً؛ فمن ادعى عقلاً ومعقولاً يناقض هذا الأصلَ الذي جاءت به الرسلُ عرفنا يقيناً أن معقوله فاسد، وأن دعواه باطلة؛ فإن العقل الصحيح لا يخالف الحق الصريح.
ومما يوضح هذا ويؤيده: أن الحق الذي جاءت به الرسلُ ـ خبراً وحكماً ـ حقٌّ واضحٌ معلومٌ معصومٌ؛ لا
ينقسم إلى محمودٍ ومذمومٍ؛ بل كلُّه حقٌّ محمود، وأما ما ادَّعاه المخالفون للرسل من المعقولات؛ فإنهم يعتمدون على المعقولات التي تنقسم إلى حق وباطل، ومحمود ومذموم باتفاق العقلاء.
وأهلها مع ذلك متباينون تبايناً عظيماً؛ كلُّ طائفة لها معقولات تنصرها وتقدح في معقولات غيرهم، وهم في خبطٍ وخلطٍ، وخلاف لا ينضبط، قال تعالى: {{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ}} [ق: 5] .
فهل اتباع هؤلاء الضالين الجاهلين المتخبطين؛ أولى من اتباع رسل الله الذين هم أعلم الخلق، وأهدى الخلق، وأصدق الخلق، وأفضل الخلق، وأعلاهم في كل صفة كمال؟
وقد سلموا من كل نقص وعيب وعثرة، وقد عصموا في أقوالهم وأفعالهم، وقد أنزلت عليهم الكتب العظيمة من الرب العظيم؛ التي هي مادة الهدى ومنبع الرحمة والخير والرشد والنور، وأصل السعادة والفلاح؟
وقد نوَّع الله البراهين الدالة على صدقهم، وصحة ما جاؤوا به، وأنه الحق وما سواه ضلال، وأنه نور ورحمة وخير، وما سواه ظلمات وشرور وفساد: {{فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ}{وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ *يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}} [الجاثية: 6 ـ 8] .
أما والله لقد وضحت السبل للسالكين، وظهرت براهينُ الحق وآياتُه للموقنين، وبان الهدى والنور اليقين للمستبصرين، وقامت الحجة على المعاندين.
ولهذا كان جميع الأشقياء المخالفون للرسل يعترفون بأنهم خالفوا الرسل وخالفوا العقل، فقالوا: {{لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}{فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأَِصْحَابِ السَّعِيرِ}} [الملك: 10، 11] .
[من الأدلة: الفطرة في قلوب العباد، وخصوصاً الأنبياء]
ومن البراهين العقلية على وحدانية الله وغناه، وافتقار الخليقة كلها إليه: ما فطر الله عليه عباده، وخصوصاً خواصَّ الخلقِ؛ من الأنبياء والرسل؛ أئمةِ الهدى ومصابيحِ الدُّجى، وأهلِ العقول الوافية والألبابِ الرزينة، الذين هم الطبقة العليا من الخلق.
فإنهم فُطروا على الاعتراف الكامل بوحدانية الله، وأنه المقصود المعبود في كل الأحوال، وصار هذا الأمرُ في قلوبهم أعظمَ الحقائق كلِّها، وأوضحَها وأجلاها، وهي علوم بديهية ضرورية لا يمكن أحداً دفعُها.
وليس عند المنكِر لذلك مـا يدفع هـذا العلـمَ اليقينيَّ
والطريقَ البرهانيَّ، إلا عدمُ علمه بذلك؛ لفساد إدراكه، واشتغاله بالعقائد الفاسدة، وإعراضه عن طلب الهدى.
ومن المعلوم المتفق عليه بين العقلاء: أن عدمَ العلم بالشيء ليس من الشُّبَه في شيء، فضلاً عن أن يكون برهاناً يدفع أقوى البراهين وأجلها وأصدقها من العالِمين الموقنين؛ الذين هم أعظم الخلق علوماً، وأبلغهم يقيناً، وأصدقهم وأبرَّهم عقولاً وأصفاهم أفئدة.
فهذا اليقين في قلوب هؤلاء ـ الذين هم سادات الأولين والآخرين ـ لا يساويه ولا يقاربه شيء، ولهذا قالت الرسل لأممهم: {{أَفِي اللَّهِ شَكٌّ}} [إبراهيم: 10] ، وقال تعالى: {{فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ}{وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيم * ٍيَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}} [الجاثية: 6 ـ 8] .
فهذا العلم اليقيني البديهي الضروري المتفقُ عليه بين أهل العلم واليقين، وأعلى الخلق في كل صفة كمال، وهو أكمل علم عندهم وأوضحه وأجلاه: محالٌ وممتنع أن يقاربه علمٌ بشيء من الحقائق اليقينية أصلاً؛ فمن شك فيه أو تردد فقد برهن على نفسه بالجهل والضلال والحمق، وهو مكابرة واضحة، والله الموفق.
[من الأدلة: الإجماع من المسلمين وممَّن عرف حال النبي (صلى الله عليه وسلم) ]
ومن أعظم البراهين على أن الحق هو ما جاء به الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم، في جميع الحقائق الصحيحة النافعة: الإجماعُ من جميع المسلمين ومن جميع من عرف حال النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه أعلمُ الخلق على الإطلاق بالله وبالحقائق النافعة، وأعظمُهم بياناً، وأوضحُهم عبارةً، وأفصحُهم وأنصحُهم للخلق.
وهذه الأمور إذا كمُلت ـ وقد كمُلت ـ على وجه الكمال التامِّ في محمد صلّى الله عليه وسلّم؛ بحيث لا يدانيه ولا يقاربه أحدٌ في العلم والبلاغة والنصح؛ عُلِم يقيناً ضرورياً أن جميع ما جاء به هو الحق الذي لا ريب فيه.
لا سيَّما في باب التوحيد، وبيانه العظيم في أن لله الأسماء الحسنى والصفات الكاملة العليا؛ التي تفرد بها وتوحد، ولم يشاركه فيها مشارك، وهذا وحده برهان كافٍ شافٍ لمن له أدنى عقل أو ألقى السمع وهو شهيد.
فيا عجباً! لمن يعارض ما جاء به هذا النبيُّ العظيم؛ الذي جاء بشريعة ما طَرَق العالمَ أعظمُ منها ولا أكملُ ولا أصحُّ؛ بأقوال الماديين الذين سَفُهت أحلامهم وفَسَدت عقولهم، واتضح أن جميع ما عارضوا به الأديان جهل وضلال ومكابرة صريحةٌ، وذلك معروف بالتتبع لجميع المسائل التي عارضوا فيها الرسل.
قال تعالى في حقِّهم وحق أمثالهم: {{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}} [غافر: 83] .
والحاصل
أن جميعَ الموجودات، وجميعَ الحوادث والمعارف والحركات، أدلةٌ وبراهين على وحدانية ربِّ الأرض والسموات:
من الذي أنشأ المخلوقاتِ من العدم؟
من الذي دبَّر الأمورَ وصرَّفها؟
من الذي خلق السمواتِ والأرض وحفظها بقدرته وأمسكها؟
من الذي خلق الآدميَّ من نطفة فإذا هو خصيم مبين؟
من الذي أمات وأحيا وأسعد وأشقى، وأهلك الأمم الطاغية بأنواع المَثُلات، ونجَّا الرسل وأتباعهم؟
إن في ذلك لعبراً وبراهينَ واضحات.
من الذي خلق الحبَّ والنوى وفجَّر الأرض بالأنهار والعيون؟ أليس ذلك من آثار من يقول للشيء: كن، فيكون؟
من الذي أعطى كلَّ شيء خلقَه اللائقَ به؛ ثم هدى كلَّ مخلوق إلى مصالحه التي لا يصلح له سواها؟
من الذي علَّم العلوم المتنوعة والفنون؟
من الذي أخرج الثمارَ الرَّطْبة من يابس الغصون؟
من الذي أحكم الأشياءَ بغاية الحكمة وكمال الانتظام وأتقنها؟
من الذي أحسن كل شيء صنعه؟ وشرع الشرائع وجعلها في غاية الهدى والصلاح وأتقنها؟
من الذي سيَّر السحابَ الموقَرَةَ بالمياه العظيمة، فأصاب بها البلاد والعباد؟ أليس ذلك الذي يعيد الخلقَ بعد موتهِم إلى يوم الحشرِ والتناد؟
يا عجباً؛ لنفوس تنكر الربُّ والبعثَ؛ ما أضلَّها وأعماها! كيف لا تعترف بهذه القضية التي هي أعظم القضايا وأوضحها وأجلاها؟!
إلـهٌ عظيم لم يزل إلهاً، ومَلِكٌ كبيرٌ مُلْكه لا يتناهى، شَمِل العالمين برحمته ورزقه فلا يترك ذرةً ولا ينساها.
يسمع أنين المُدْنِفين ([27])، ويجيب أسئلة السائلين، ويجود بمغفرته ورحمته على التائبين.
[ الخاتمة ]
فنسألك يا الله! بأسمائك الحسنى وأوصافك العليا، أن ترزقنا إيماناً كاملاً، ويقيناً صادقاً، وتنفعنا بآياتك المسموعة، وآياتك المشهودة، وآياتك الأفقية، وآياتك النفسية؛ فإنها براهين للموقنين، وآيات للمستبصرين، وحجة على المعاندين والمكابرين، ورحمة منك وإحسان على الخلق أجمعين.
اللهم صلّ وسلّم وبارك على محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميِّتين. آمين.
بخط: عبد الله السليمان السلمان
20 جمادى الآخرة 1370
قال ذلك الفقير إلى الله عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي، غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين ([28]).
[1] - يحتمل الرسم: ووجود كماله، ولكن السياق لا يحتمله.
[2] - في الأصل: (المسألة) ثم كتب فوقها (المحاضرة)، ثم كتب بعدها: المحاضرة.
[3] - هو استفهام تقرير من جهة النتيجة، واستفهام إنكار من جهة الصيغة.. نبه على ذلك الشيخ عبد الله بن عقيل، ويدل عليه ما يأتي من قول المؤلف رحمه الله في كونه استفهاماً إنكارياً ص45.
[4] - قال الشيخ عبد الله بن عقيل: والعرب تعرف هذا؛ ثم أشار إلى حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: {{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَأَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لاَ يُوقِنُونَأَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسْيطِرُونَ}} قال: كاد قلبي أن يطير، رواه البخاري (4854).
[5] - في الأصل: (حليماً قديراً)، ولعله من غلط بعض النسَّاخ، كما سيأتي في بعض القرائن الدالة عليه.
[6] - صورتها في الأصل: (وألهمها)، ولعل المراد الأقرب للسياق: وإلهامها.
[7] - هاتان الآيتان كتبت في الأصل على سياق واحد؛ وتمام الآيتين هو: {{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَأَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}} [النمل: 62، 63].
[8] - هذه الآيات كتبت في الأصل على سياق واحد؛ وهي كذلك في سورتين مختلفتين، وتمام الآيات للمقطع الأول: {{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}} [العنكبوت: 65]، وللمقطع الثاني: {{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ
= وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَفَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}} [يونس: 22، 23].
[9] - تمام الآية: {{فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}} [الروم: 30].
[10] - اجتالتهم: أي ذهبوا بهم وجالوا.. [شرح النووي]، وفي هذه الجملة إشارة لحديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال ذات يوم في خطبته: «ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا: كل مال نحلته عبداً حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً...»، الحديث الطويل في صحيح مسلم ح(2956).
[11] - في الأصل: (ذلك سبب) أي بتقديم وتأخير، وما أثبت يستقيم به الكلام على المراد، ويمكن أن يجعل أيضاً: (ذلك سببه) بالضمير، ولكن ما أثبت يلتئم به اللسان، ومال إليه شيخنا عبد الله بن عقيل.
[12] - من حديث أنس؛ رواه البخاري (5986)، ومسلم (2557).
[13] - التشكيل في أصل النسخة.
[14] - المحي: من قولهم: محاه يمحوه أو يمحيه؛ محواً أو محياً: أي أذهب أثره؛ على ما في القاموس المحيط.
[15] - مثّل الشيخ ابن عقيل هنا: بإبراهيم عليه السلام ما أحرقته النار، وإسماعيل عليه السلام ما قطع السكين حلقه ـ على ما روي ـ.
[16] - لعل المراد: وأحكامه، ليعود الضمير على الشرع.
[17] - كتبت في الأصل: (لعلهم يذكرون).
[18] - في الأصل: (الروح) ثم طرأ على الألف طمس أو حك، فكأنها (لروح) فإما أن تضاف الألف لتكون (الروح الدين)، أو تحذف اللام لتكون (روح الدين)؛ لأن (فقدت) فعل متعدٍّ بنفسه فلا يحتاج إلى تعديته باللام.
[19] - قال الشيخ عبد الله بن عقيل هنا وفي مواضع مشابهة: كأنه يشير إلى الصعيدي؛ أي: عبد الله القصيمي.
[20] - آخر الآية في الأصل: {{وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}}، وهي في موضع آخر من القرآن وهو قوله تعالى: {{ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}} [الأعراف: 95].
[21] - قال الشيخ ابن عقيل هنا: إلى الآن..
[22] - في الأصل في غير موضع: كتبت برسم {كلمات}، وهي قراءة
=غير الكوفيين، والمثبت قراءة حفص؛ وهي المعروفة في نجد في ذلك الوقت، قال الشيخ ابن عقيل: لا نعرف في نجد غير حفص.
[23] - تتمتها: {{كَثِيرًا}} وليست في الأصل، وقلتُ للشيخ عبد الله بن عقيل في هذا الموضع: لعل في تركه تتمة الآية قرينةً على أن
=ما وقع من غلط في بعض خواتيم الآيات ليس من المؤلِّف، فأيد الشيخ ذلك، وقال: صحيح وإلا ما يضره كلمة، وهي من تمام المعنى؟ ومن القرائن أيضاً أن الآية الآتية بعد قليل من سورة سبأ، جاءت هنا على التمام، ولكنها جاءت بعد صفحة تقريباً بسقط كلمتين.. ويبعد أن يكون ذلك من المؤلف.
[24] - في الأصل: ووجوده، ولعل إحدى الواوين زائدة.
[25] - وقد سقط من الآيات في الأصل بعض الألفاظ فألحقتها وجعلتها بين معكوفتين، كما تم كتابة {{كَلِمَاتُ}} على رسم المصحف بقراءة حفص، وهي في الأصل {كلمات}.
[26] - النص في النبوات لابن تيمية ص117 ـ 121، وقد اختصر المؤلف بعض المواضع من النقل ـ كاستطراد ابن تيمية في كلام الفلاسفة ـ ليتسلسل الكلام بما لا يُخل بالمقصود..
[27] - الدنف: المرض الملازم؛ على ما في القاموس المحيط.
[28] - قوله: (بخط عبد الله..) إلى آخر الرسالة؛ كتبت بخط دقيق مغاير لما قبله، وهو خطُّ الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله.
وتمَّت بحمد الله قراءتها على الشيخ عبد الله بن عقيل في مجالس متفرقة آخرها يوم الجمعة 15/5/1428، ثم تم تصحيحها بعد ذلك ومقابلتها على نسخة مصورة أوضح من الأولى في مجالس متفرقة من شهر رجب 1428.