من مقاصد الحج
ترجمات المادة
التصنيفات
الوصف المفصل
- من
مقاصد الحج
- مقدمـــــة
- إتمام الحج
- المقصد الأول : تحقيق المحبة لله سبحانه وتعالى
- المقصد الثاني: تحقيق التعظيم لله عز وجل
- المقصد الثالث: تحقيق الرجاء لله عز وجل
- المقصد الرابع: تحقيق الخوف من لله سبحانه
- المقصد الخامس: تحقيق التوكل على الله عز وجل
- المقصد السادس: تحقيق الإنابة لله عز وجل
- المقصد السابع: تحقيق الاخبات لله تعالى
- من خصائص مكة المكرمة
- الخاتمة
من مقاصد الحج
خالد بن صالح السلامة
خالد صالح عبدالله السلامة ، 1433هـ
رقم الإيداع: 9266/1433
ردمك: 7-1136-01-603-978
حقوق الطبع محفوظة
1434هـ - 2013م
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمـــــة
الحمد لله الذي أكرم أوليائه بالعلم النافع والعمل الصالح، فجعل من ثمرة علمهم خشيته ، والإنابة إليه، رفع بهذا العلم أقواما فجعلهم أعلى الناس منزلة، وملأ به قلوبا فأحبته ، واشتاقت للقائه ، وأشغل به جوارحاً فأطالت وقوفها بين يديه.
والصلاة والسلام على خير من عرف ربه، فانشغل بذكره عن ذكر غيره، وأخلص له عبوديته ، وصلاته ونسكه ومحياه ومماته، حتى اصطفاه ربه وأحبه، فرضي عنه وأرضى عنه الصالحين من خلقه.
ربنا إن العلم كله بيديك فارزقنا أحبه إليك، وارفع به مقامنا عندك، اللهم زد به أعمالنا، واغفر به ذنوبنا، واشرح به صدورنا، واجعله خالصا لوجهك الكريم ، اللهم إنا نسألك التوفيق والسداد لما تحبه وترضاه في نياتنا وأقوالنا وأعمالنا.
أما بعد: أخي المسلم.. أخي الحاج:
ما أجمل مقام التسليم لرب العالمين ، فهو علامة المؤمنين ، فإن زِيد للعبد مقام العلم على مقام التسليم ، إزداد قرباً من رب العالمين سبحانه وتعالى ، فاللهم ربنا زدنا تسليماً وعلماً وعملاً صالحاً، وتقبل منا برحمتك ياودود إنك أنت الغني الكريم.
أخي الحاج: جميل أن تفعل أعمال الحج ولو لم تعلم لماذا تفعلها، فيكفي علمك أنها عبادة لله عز وجل، وهذا مقتضى التسليم لرب العالمين، والعبودية له.
وأجمل من ذلك حينما تُلح على الله بأن يزيدك علما، فيستجيب لك ويفتح عليك، فتعرف الحكمة من بعض أعمال الحج ، ﭧ ﭨ ﭽ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﭼ العنكبوت فما أجمل أن نعرف لماذا كانت مكة بوادٍ غير ذي زرع ولم تكن بوادٍ ذي زرع ، وغابات وأنهار ، فيتنعم الحاج والمعتمر في أحب البقاع إلى الله .
ولماذا كان من خصائص النبي ﷺ أن قدميه وجسده لم تلامس أرض عرفة في حجة الوداع؟
ولماذا يختلط الرجال بالنساء على وجه التزاحم الشديد في المطاف ، وفي الجمرات عند شاخص صغير ، على غير عادة التشريع الحكيم في سائر العبادات , والله قادر على التوسيع عليهم؟
ولماذا حينما ننصرف من عرفة لا بد أن نبيت في مزدلفة ، مع أن منى قريبة منا ، وفرشنا وأمتعتنا فيها؟
وغيرها من الحكم العظيمة في أعمال الحج والعمرة .
فنحن لا نشك أن كل أعمال الحج لها حكم عظيمة ومقاصد دقيقة، علمها من علمها وجهلها من جهلها .
وهذا ما حاولت أن أثير الأذهان إليه، وألفت انتباه العباد إليه في هذه الأسطر القليلة مستعينا بالله عز وجل ومستمداً العون منه , عسى ربنا أن يغفر لنا ويرحمنا ويهدينا صراطه المستقيم.
مع ملاحظة أنني في هذه الأسطر لست معنياً بالحكم الفقهي , فهذا الأمر له مظانه التي سطَّرها العلماء في كتب الأحكام ، ولكني سأركز على بعض المقاصد العظيمة التي غفل عنها كثير من الحجاج بل وكثير ممن كتب عن الحج ، ممتثلاً قول النبي صلى الله عليه وسلم :
( رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ) رواه أبو داود برقم (3660) وصححه الألباني . مستثيراً غيري ممن هو أقدر مني على إبراز هذه المقاصد بشكل أكبر وأوضح وأشمل ، فما كان فيه من صواب فمن الله وحده، وما كان فيه من خطأ فمن نفسي والشيطان.
إتمام الحج
ﭧ ﭨ ﭽ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﭼ البقرة
والإتمام يكون على ثلاثة أقسام :
أولاً : إتمام الحج زماناً
ثانياً : إتمامه مكـــــاناً
ثالثاً : إتمامه صفـــــةً
ولبيان ذلك نقول :
أولاً : إتمامه زماناً: هو أن يقع الحج في الوقت الذي شرعه الله سبحانه وتعالى، فلا نتقدم عليه ولا نتأخر عنه.
فكل عبادة في الحج موقتة بوقت محدد فإن لهذا التوقيت مقاصده التي لا تتحقق إلا به فمن تساهل في زمانٍ وقّته الله تعالى فقد فرط في استكمال هذه المقاصد ﭧ ﭨ ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭼ البقرة وﭧ ﭨ ﭽ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭼ البقرة
ولذلك نقول على سبيل المثال :من أخذته العجلة ولم يبت في مزدلفة، أو خرج منها قبل منتصف الليل ، وكذلك من رمى قبل زوال شمس يوم الثاني عشرفإن هذا كله يـؤدي إلى مخالفة مقاصد الحج أو نقصانها.
ثانياً : إتمام الحج مكاناً: وهو أن تؤدى العبادات التي شرعها الله في الحج في أماكنها التي أرادها الله سبحانه وتعالى .
فكل مكان له مقاصده التي لا تتحقق إلا به , فمن تساهل في مكان عبادة فقد فرط في استكمال مقاصد هذه العبادة.
فمثلا: أراد الله سبحانه وتعالى أن نقف في عرفة ولها حدود فلا نتجاوز هذه الحدود، وأراد الله سبحانه أن نبيت بمزدلفة الليل كله أو أكثره فلا نخرج ليلة مزدلفة خارج حدود مزدلفة، وأراد سبحانه أن نبيت في منى في الليالي المخصصة لها فلا نتجاوز منى إلا إذا اضطررنا ــ كما يحصل الآن بسبب الزحام ــ فهذا إتمام الحج مكاناً .
وقد ضُيِّقت بعض العبادات زماناً ومكاناً مقارنة بأعداد الحجاج مثل رمي الجمار والطواف وتقبيل الحجر فلم يُجعل زمانها على مدى أشهر أو أسابيع ليخف الزحام ، ولم تجعل أماكنها واسعة أو كثيرة
متناسبة مع أعداد الحجاج على مر السنين ولم يقتصر فعلها على الرجال دون النساء فيقل العدد ولم تجعل على وجه الاستحباب بل مطلوب فعلها من عامة الحجاج رجالاً ونساءاً في مكان ضيق في وقت ضيق والله عليم حكيم لا يخفى عليه ما سينتج عن هذه الأحكام من تزاحم واختلاط شديد وهذا كله لحكم عظيمه أرادها الحكيم الخبير سبحانه وتعالى .
ثالثاً : إتمام الحج صفةً:
وذلك بأن نراعي ثلاثة أنواع من الأحكام:
الأول: مقاصد الحج
الثاني: أحكامه الفقهية
الثالث: المصالح المرسلة في الحج.
ولبيان ذلك نقول :
النوع الأول: «مقاصد الحج» وسيأتي بيانه بالتفصيل إن شاء الله.
النوع الثاني: وهو «الأحكام الفقهية»: مثل الواجب والمستحب والمباح والمكروه والمحرم ، فهذه الأحكام كثر حديث العلماء عنها وتوضيحها وأكثرَ الناسُ السؤال عنها بم يغني عن ذكرها هنا.
النوع الثالث : «المصالح المرسلة» التي تعين على إتمام الحج كأنظمة المرور والسير والنظافة والسكن ومتطلبات الرفقة وغيرها.
فلربما قصّر الناس في مراعاتها فتسببت في مشكلات أدّت إلى عدم وصول الناس إلى أماكن الشعائر في أوقاتها المناسبة، أو بعد إعياء شديد ربما أخل في عبادتهم.
ولو تعاون الناس في مراعاة المصالح المرسلة لتمكنوا من تحقيق العبادة بيسر وسهولة.
فالسؤال هنا: كيف نحقق إتمام هذه الأنواع الثلاثة كما أمر الله سبحانه وتعالى في قوله ﭽ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﭼ ؟
والجواب أن نقول :
أولاً: أن نجتهد في تعلم هذه الأنواع الثلاثة وندرك حقائقها، فالله سبحانه وتعالى وعدنا إذا بذلنا الجهد أن يهدينا إلى ما يحبه ويرضاه فيها، كما ﭧ ﭨ ﭽﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﭼ العنكبوت
ومن الاجتهاد دعاء الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا فهم هذه المقاصد وتحقيقها على الوجه الذي يرضيه عنا ﭽ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭼ طه
وكذلك تكرار التأمل وإطالته في نصوص الوحيين - الكتاب والسنة - المبينة لها.
وكذلك سؤال العلماء عنها، والقراءة في كتب العلم المعنيَّة بها، وحضور مجالس العلم المبينة لها.
ثانياً: أن نسعى في تحقيقها على الوجه الأكمل كما ﭧ ﭨ ﭽ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﭼ - الزمر- وهذا أمر في كل عبادة فلا نتعجل فيها بمطاوعة النفس في التقصير والتفريط وابتغاء الراحة والكسل فالدنيا دار عمل وممر، والجنة دار جزاء ومقر،
وهذا لا يتأتى إلا بتوفيق من الله سبحانه فلنلح على الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا في ذلك إلى ما يحبه ويرضاه.
ثالثاً: أن نحزن على ما عجزنا عن أدائه على الوجه الأكمل بسبب عذر شرعي كالجهل والنسيان وغيرها ، فنكثر من الاستغفار وسؤال الله القبول، لعله سبحانه أن يعوض ما نقص من هذا الإتمام بكرمه وجوده وإحسانه، فنرجع من الحج ونحن بين رجاء قبول العمل وإتمامه وبين الخوف من رد العمل أو نقصانه.
ونعود هنا إلى بيان النوع الأول من إتمام الحج صفةً، وهو: إدراك مقاصد الحج وتحقيقها، فنقول:
مقاصد الحج هي: الفوائد والحكم الكبرى التي شُرعت أعمال الحج من أجلها.
فالمقصد الأكبر للحج هو:((تحقيق العبودية لله عز وجل ))
وذلك بامتثال أمره في قوله ﭨ ﭽ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﭼ آل عمران
فهذا المقصد لا بد أن يدركه كل حاج، ولا يُعذر أحد بجهله.
وهذا المقصد الأكبر وهو تحقيق العبودية لله عز وجل لا يكتمل إلا بتحقيق مقاصد عظيمة مكونة له، كمحبة الله سبحانه، وتعظيمه، ورجائه، والخوف منه، والتوكل عليه، والإنابة إليه، وهذه بعض المقاصد التي شُرعت أعمال الحج من أجلها ،وشُرع للناس تعلمها وفهمها وبذل الجهد في إدراكها وتحقيقها وهم متفاوتون في ذلك.
ولا يجب على الحاج الإحاطة بتفاصيل هذه المقاصد ولكن على قدر تحقيقه لها يكون أجره ومنزلته عند الله سبحانه وتعالى .
وبهذا تتفاوت منازل الحجاج في الأجر بحسب إدراكهم لها، كما ﭧ ﭨ ﭽ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﭼالزمر
ونريد هنا أن نمر برحلة متأنية نطوف فيها على مقاصد الحج، نتأملها ونتدبرها عسى الله أن يزيدنا بها إيماناً وتسليماً وعملاً صالحاً ، كما نسأله الإخلاص والتوفيق والسداد لما يحبه ويرضاه. ﭽ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭼ طه .
لقد مر معنا أن المقصد الأكبر للحج هو تحقيق العبودية لله تعالى وأن هذا المقصد له مكونات عظيمة كل واحد منها هو مقصد من مقاصد الحج فما هذه المقاصد ؟
بل وثمت سؤال مهم وهو كيف تحقق أعمال الحج هذه المقاصد ؟
وهذا ما سنحاول تبيينه هنا مستعينين بالله عز وجل.
المقصد الأول : تحقيق المحبة لله سبحانه وتعالى
ﭧ ﭨ ﭽﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﭼ التوبة
أخي الحاج:
تأمل أنك لا تستطيع أن تحج حتى تتخلى عن كل محبوب في حياتك، فلا يحصل لك حجٌ حتى تترك الوطن الذي تحبه وتنتمي إليه وتترك الزوجة الحنون والأطفال الزهور والبيت الذي تسكنه والقرية التي نشأت فيها والوظيفة والمزرعة والسيارة والقبيلة التي تنتسب إليها.
وكل هذه محبوبات تتركها وتتخلى عنها وأنت لا تدري هل تعود إليها أم لا، وحينما تترك هذه المحبوبات لم تتجه إلى وادٍ ذي زرعٍ أو غاباتٍ خضراء وجوٍ معتدلٍ ومكان فسيح , بل اتجهت إلى وادٍ غيرِ ذي زرع، شديد الحر، كثير الزحام.
فإن وصلت إلى هناك ومعك محبوب فمطلوب أن تتركه لأجل
تحقيق وإخلاص المحبة العظمى الخالصة لله عز وجل.
فإن صحبتك الزوجة الودود والملابس الفاخرة والعطور الزكية فإن هذه المحبوبات تكون حراما عليك بمجرد الإحرام.
بل إن في مكة محبوبات أخرى عظيمة كالمسجد الحرام والكعبة المشرفة ، والحجر الأسود، ومقام إبراهيم، وبئر زمزم، وأرض الحرم نفسها ، هذه كلها محبوبة .
ولعل من المقاصد هنا – والله أعلم - اختبار وامتحان للعبد فإن كان الله أحب إليه من هذه المحبوبات كلها فليخرج عنها وعن أرض الحرم، تسليما لأمر الله وحكمه سبحانه وتعالى وذلك في أعظم أيام الحج إلى عرفة ــ وهي خارج حدود الحرم - هناك حيث تخلو أرضها من كل محبوب فلا يبقى محبوب إلا الله وحده سبحانه وتعالى، دليل أن الله سبحانه أحب إليه من هذه كلها وهذا من صدق وإخلاص المحبة لله عز وجل قولاً وعملاً .
سؤال : هل ثبت في المصادر الصحيحة أن قدما النبي صلى الله عليه وسلم الشريفتان أو جسده الطاهر قد لامس أرض عرفة ؟
لقد بحثت في كثير من المصادر الصحيحة التي استوعبت صفة حج النبي ﷺ بالتفصيل، ولم أجد أي دليل أو قرينة تدل على أن جسده الشريف صلى الله عليه وسلم قد لامس أرض عرفة ، بل القرائن دلت على أن عدم ملامسة جسده ﷺ ، أرض عرفة كان مقصوداً لذاته، وأنه حكم تعبدي خاص به دون أمته ، ومن هذه القرائن أمره سبحانه وتعالى لرسوله ﷺ أثناء مسيره إلى عرفة بأوامر تستحق الوقوف والتأمل عندها.
فقد أمر الله سبحانه وتعالى رسوله ﷺ أن يقف قبل بداية حد عرفة بأمتار قليلة، وذلك في وادي عرنة، فيأكل ويشرب ويستريح ويتوضأ خارج عرفة , ثم إذا زالت الشمس أمر الرسول ﷺ أصحابه رضوان الله عليهم أن يدخلوا داخل حد عرفة بمتر أو مترين، وهو يقف خارج الحد بمتر أو مترين، فيخطب ويصلي بهم وهو خارج حد عرفة وهم داخله، ثم إذا فرغ من خطبته وصلاته ركب ناقته وهو خارج عرفة ثم دخل إليها وهو راكب لا ينزل عن الناقة حتى تغيب الشمس، كما صرحت بذلك كثير من النصوص، فيخرج من عرفة ولم تلامس قدماه الشريفتان أرض عرفة قط في حجة الوداع، وهذا أمرٌ من الله سبحانه خاصٌ به ﷺ والله أعلم .
سؤال : لِمَ لَمْ تلامس قدما الرسول ﷺ الشريفتان أرض عرفة في حجة الوداع ؟
من المعلوم قطعاً أن رسول الله ﷺ محبوب عند كل مؤمن، وكذلك آثاره ﷺ محبوبة كذلك، بل وكثيرا مايبحث عنها الناس، وقد أراد الله في عرفة أن لا يكون فيها أثر لمحبوب غيره سبحانه حتى ولو كانت آثار رسول الله ﷺ.
فلعل الحكمة إذاً - والله أعلم - أنه لو كان لرسول الله ﷺ أثر في عرفة لربما تعلق البعض بها منشغلاً بها عن محبة الله تعالى في ذلك اليوم العظيم و لانصرفت القلوب إلى محبة العبد عن محبة الرب سبحانه .
ولِمَ لا !! ونحن نعلم أن أكثر سبب ضلت به البشرية هو الغلو في محبة الصالحين وآثارهم.
ألم يكن أول شرك على وجه الأرض في زمن نوح عليه السلام سببه الغلو في محبة الصالحين وآثارهم ؟!!
ألم تضل النصارى بالغلو في محبة عيسى عليه السلام؟
وكذلك الرافضة ألم تضل بالغلو بمحبة علي والحسين رضوان الله عليهم؟
وضلت بعض الصوفية في غلوهم في محبة الجيلاني وغيره ؟!!
أحبوهم حباً يضاهي حبهم لله عزوجل ، فهلكوا في ذلك.
فهكذا أريد للحجاج في عرفة أن لا يكون أمامهم أثر لمحبوب تنشغل به القلوب إلا الله وحده سبحانه وتعالى.
وقد يختبر الإنسان في محبته لربه بأن يعرض عليه محبوب في وقت تشتد حاجته إليه ، ولكن الله يمنعه منه ويحرمه عليه اختباراً وامتحاناً ، - آلله أحب إليك أم هذا المحبوب- فهاهم الصحابة رضوان الله عليهم يُحرمون بالحج في زمن جوع وفقر، وما أن يدخلوا بالإحرام حتى يأمر الله الصيد المحبوب أن يقترب منهم على غير عادته، فيكون بمتناول أيديهم ورماحهم ابتلاءً واختباراً، كما ﭧ ﭨ ﭽ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﭼ المائدة
فما أعظم تحقيق الصحابة – رضي الله عنهم – لتوحيد المحبة حينما تركوا هذا الصيد تعبداً لله سبحانه رغم حاجتهم الشديدة إليه ، من غير رقيب و لا حسيب إلا الله عز وجل.
ويشتد الاختبار في المحبة عند الطواف، ورمي الجمرات، فبعد أن تخلى الحاج عن المحبوبات التي هي حلال في الأصل كالزوجة والطيب والصيد ، يأت الاختبار في المحبوبات المحرمة أصلا، وهو ابتلاء الرجال بالنساء والنساء بالرجال غير المحارم.
فرغم أنه يمكن أن تكون الجمرات بعضها للنساء وبعضها للرجال، أو يكون الطواف ورمي الجمرات يوماً للرجال، ويوماً للنساء، أو تُعفى النساء من الطواف والرمي بسبب مزاحمة الرجال , أو يكون الرمي إلى جبلٍ كبير ، بدل شاخص صغير حتى لا يتزاحم الناس. ولكن الشرع والله أعلم جاء بأحكام الطواف والرمي على صورتها المعهودة ، وربما أدى الزحام إلى اقتراب النساء من الرجال في مكان ضيّق ، ليتم الاختبار والابتلاء .. آلله أحب إليكم أم النساء؟.
فتجد المؤمن الصادق الذي أشغل حب الله قلبه، رغم الزحام الشديد، وعدم الرقيب من البشر، يتورع ويحذر ويتقي قدر ما يستطيع، لا لشيء سوى أن الله أحب إليه مما سواه خصوصا وهو يتذكر أن إبراهيم عليه السلام لم يُعطَ درجة الخلة إلا وقد أُختبر في مكان الجمرات في ولده إسماعيل عليه السلام ، فبعد أن أُختبر بالعقم سنين طويلة ثم أُختبر بعد أن جاءه الولد بأن يتركه وأمه في وادٍ غير ذي زرع ويرحل إلى الشام ، ثم يُشدد عليه الاختبار ويؤمر بالرجوع إليهم، ثم بعد فرحته بلقاء ولده الوحيد يؤمر بذبحه، فيأتي إلى مكان هذه الجمرات لتنفيذ الأمر فيأتيه الشيطان ثلاث مرات يوسوس له ليرده عن تنفيذ أمر ربه فما يجد من إبراهيم إلا الرد الحاسم الرجم بالحجر والترديد أن الله أكبر من كل محبوب ... الله أكبر الله أكبر الله أكبر .
سؤال :لمَ كانت مكة بوادٍ غير ذي زرع ؟
لو كان الحج إلى وادٍ ذي زرع وخضرة وأنهار لربما اختلطت النيات عند بعض الحجاج والله أعلم ، هل قصدوا من الحج العبادة الخالصة؟ أم قصدوا الأنهار والخضرة وجمال الطبيعة ؟
وثمّت حكمة أخرى والله أعلم..فلو اجتمع لمكة المكرمة خاصيتان:
الأولى: أن الأفئدة تهوي إليها.
والثانية: أنها ذات خضرة وأنهار لربما تكدس الناس بها وتكاثروا، ولم يتركوا فرصة لغيرهم.
ولكن من رحمة الله أنها قلوب تهوي، ثم تأتي فتجد وادياً غير ذي زرع، لا يخلو من مشقة فتقضي عبادتها ، ثم ترحل وتُفسح المجال لغيرها.
وفي ختام الكلام عن تحقيق توحيد المحبة نقول :
«إن الله سبحانه وتعالى لا يقبل أن تتساوى محبته في قلب العبد مع أي محبوب قط فضلاً عن أن تزيد محبة المخلوق على محبته هو سبحانه».
.. وهذا هو توحيد المحبة..
فإذا أدركت هذا المقصد العظيم فليكثر دعاؤك في الحج في تحقيق هذا المقصد ولوازمه وزوال موانعه فإن استجيب لك فهنيئا لك..
المقصد الثاني: تحقيق التعظيم لله عز وجل
ﭧ ﭨ ﭽ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭼ الحج
والشعائر والمشعر: هو كل ما أشعر بعظمة الله وغناه وذل المخلوق وفقره، وقد تجلى هذا بوضوح في أرض مزدلفة، فسبحان من خضعت لعظمته الرقاب،
إن من يقارن بين وضع الحجاج في منى وعرفة من جهة، ووضعهم في مزدلفة من جهة أخرى، يلاحظ فرقا دقيقا بينهما، وهو أن الحجاج في منى وعرفة يظهر تفاوت طبقاتهم في الغنى والفقر بصورة واضحة ،في خيامهم وطعامهم ومراكبهم.
ففي منى وعرفة تجد الفقير الذي يمكث طاويا على قارعة الطريق ، وتجد الغني الملفت للانتباه في خيامه ومظهره ومتاعه.
حتى لربما انشغل الحجاج هناك بمظاهر غنى المخلوقين عن غنى الخالق سبحانه، وبتعاظم المخلوقين عن عظمة الخالق سبحانه،حتى توشك بعض القلوب الغافلة أن تنسى حينها من العظيم !!!..
وهنا والله أعلم شُرعت أحكام مزدلفة، لتزيل كل فوارق الغنى والعظمة بين الحجاج لكي لا يبقى في مزدلفة مظهر لأي عظمة وغنى قط إلا عظمة الله سبحانه وتعالى وغناه وحده . ﭧ ﭨ ﭽ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﭼ فاطر
إنك لو تأملت أحكام مزدلفة لوجدتها شُرعت بطريقة تحول بين الحجاج وبين مظاهر غناهم وتعاظمهم .
فالوقوف فيها ليلا فقط فلا يحتاجون إلى الخيام التي يتفاوتون في مظهرها، ومدة الوقوف ساعات متجردين فيها من ملابس الزينة فلا يحتاجون إلى أمتعتهم وحقائبهم المظهرة لغنى بعضهم وتعاظمه، وهذا أدى إلى أنهم ينامون في مزدلفة كلهم نومة الفقراء على الأرض العارية، وربما أكلوا أكل الفقراء.
بل تراهم قد اصطفوا في طوابير طويلة أمام دورات المياه، الفقير مع الغني، والأسود مع الأبيض، متلبسين بمظاهر الفقر والضعف بعيداً عن مظاهر الغِنى لكي يدرك الجميع وهم يرون هذه المناظر في مزدلفة .. أن لا عظيم عظمة مطلقة إلا الله وحده سبحانه !!.
المقصد الثالث: تحقيق الرجاء لله عز وجل
ﭧ ﭨ ﭽﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﭼ الأسراء
لقد أدت طريقة تشريع أعمال الحج إلى اختلاطٍ أو تقاربٍ في السكن خاصة في الخيام، بين أنواع من الراجين والمرجوين من الخلق، بين الأغنياء والفقراء، بين الوجهاء والضعفاء، بين الآمر والمأمور، بطريقة يندر حصول مثلها في الحياة العامة، ويتضح هذا التقارب أكثر في عرفة ومزدلفة.
ولكن المتأمل لحال الحجاج في هذين المشعرين يجد أن الجميع قد انشغلوا عن رجاء المخلوقين، واتجهوا كلهم إلى رجاء من لا تفنى خزائنه ولا تُحصى نِعمه، ولا يُعجزه شئ في الأرض ولا في السماء.
رافعين إليه أكف الضراعة بمظهر واحد وحالٍ واحدة، الغني والفقير ، الطبيب والمريض ، مظهرين له الذل والافتقار والانكسار بين يديه، ليعترف الجميع ألاّ مرجوّ إلا الله وحده سبحانه وتعالى.
.. وهذا من إخلاص توحيد الرجاء لرب العالمين ..
المقصد الرابع: تحقيق الخوف من لله سبحانه
ﭧ ﭨ ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭼ المؤمنون
إن من يتأمل النصوص وينظر في الواقع ويستقرئ التاريخ يجد أن هناك ارتباط وثيق بين شعيرة الحج ومظهر الخوف ، ارتباط يكاد يصل إلى حد التلازم .
يتبين هذا من خلال تأمل: 1- الكتاب 2 - السنة 3- الواقع
أولا: الكتاب:
أخي الحاج: اقرأ سورة الحج، ثم تأمل !!
ستجد أنها سورةٌ افتتحت بصورةِ خوف فظيعة، بل من أشد صور الخوف التي تمُر على البشرية ، كما ﭧ ﭨ ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭼ الحج فهذه افتتاحية السورة التي ستتكلم عن مقاصد الحج،
فيا ترى هل هناك علاقة بين الحج والخوف؟؟
ثم تأمل في السنة النبوية:
تجد أن النبي ﷺ سمّى الحج جهادا، في قوله ﷺ للنساء: «عليكن جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة» رواه أحمد وابن ماجه وإسناده صحيح
وهل الجهاد إلا قرين الخوف؟!
ثم تأمل كيف ارتبط الخوف بمحاولة الرسول الله ﷺ والصحابة الكرام في الوصول إلى أرض الحرم عام الحديبية.
فقد تصدت قريش للمسلمين ومنعتهم من العمرة، وتداعى الناس للحرب، وبايع المؤمنون على القتال تحت الشجرة، ثم وقع الصلح على عمرةٍ في العام القادم، واشترط المسلمون أن تكون السيوف مع الإحرام، خوفا من غدر قريش، فكانت عمرةً مع الخوف.
ومن الواقع:
من يتأمل الحج منذ زمن النبي ﷺ إلى اليوم، يجد أنه لم ينفك عن الخوف على مرّالسنين و القرون.
فبعد أن انتهى الخوف من قريش، ما لبثت الأمة قليلا حتى انتشر قطاع الطرق في أغلب الطرق المؤدية إلى مكة المكرمة مدة ثلاثة عشر قرناً، وكأن الذاهب إلى مكة مفقود والقادم منها مولود.
ولما تداعى الناس لحل مشكلة قطاع الطرق، وانحل هذا الخوف انفتح عليهم خوف حرائق الخيام، فصارت قرينة الحج سنين طويلة، وسعى الناس لحل مشكلة الحرائق.
فبدأ خوف المظاهرات، ثم التفجيرات، ثم الجمرات، ثم السيول، ثم انفلونزا الطيور، ولم يجتهد الناس إلى اليوم في غلق باب خوفٍ إلا انفتح باب خوف جديد.
حتى أنك إلى الآن لا تجد من عزم على الحج، إلا ويجد في قلبه شعور بالخوف من بداية نيته وحتى الرجوع إلى أهله.
فيا ترى إن كان هناك تلازما بين الحج والخوف فما الحكمة من هذا التلازم ؟؟
لعل المقصد من ذلك والله أعلم، الارتقاء بعبادة الخوف من الله سبحانه من الزعم باللسان إلى التحقيق بالجوارح والجنان.
فكيف ذلك يا ترى؟؟
إنك لو سألت حاجاً من الحجاج: أما سمعت عن الحوادث المخيفة في الحج في السنين الماضية ؟وقد هلك بسببها خلق كثير ؟
وأما سمعت عن احتمالات الخوف في حج هذا العام وتنوعها؟ لقال: بلى.
فإن قلت: ما الذي حملك على المجيء رغم هذه المخاوف؟ .
فستجد الجواب : أن خوفي من وعيد الله في حق من لم يحج وهو قادر ، أعظم من هذه المخاوف كلها.
وهذا مقصد من المقاصد العظيمة في الحج وهو:
تحقيق توحيد الخوف من الله رب العالمين .
المقصد الخامس: تحقيق التوكل على الله عز وجل
ﭧ ﭨ ﭽ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﭼ يونس
أخي المسلم:
إذا كنت في بلدك وبين أقاربك، وفي بيتك الآمن وربما تملك سيارة أو رصيداً في البنك يورث عندك الاطمئنان على المستقبل فما أسهل أن تزعم أنك متوكل على الله ولكن الحقيقة أنه لا يدرى: أأنت متوكل على الله حقا أم على هذه الأسباب؟؟!!
ولكن الحج يقدم دليلا واضحا على أن الحاج متوكل على الله وحده.
فكيف ذلك؟؟
إنك حينما تتأمل موقع منى وأنها في وادٍ , وتتأمل حال الحجاج وهم في خيام متزاحمين، وعلى جوانب الطرقات في هذا الوادي، ثم تسألهم : ألا يُحتمل حدوث المخاطر المتنوعة وأنتم على هذه الحالة ؟
فلو جرت السيول الشديدة لاقدر الله مثلا ، ألا يُحتمل أن تزيل هذه الخيام ومن فيها؟
ولو نزلت الصواعق والبَرَد الشديد فهل يكفي سقف الخيام للحماية منها؟
ولو تسارع انتشار مرضٍ معدٍ فهل الامكانات كافية لتدارك الوضع ؟
ولو أراد المفسدون الاضرار بالحجاج بطرقٍ مدروسة، فهل مع عامة الحجاج ما يكفي أن يدفعوا به عن أنفسهم؟
بل حينما تسأل الحاج عن طريق قدومه من بلده للحج وعودته إليه أما كان يُحتمل فيه من المخاطر المتنوعة كسقوط الطائرات وغرق السفن وحوادث السيارات كما يقع ذلك باستمرار؟
إنك حينما تسأل الحاج عن كل هذه الأسئلة فالجواب: نعم، كل هذه المخاطر والمخوفات محتملة بل ويظن أن إمكانات البشرالمحشودة لا تساوي شيئاً إذا أراد الله وقوع هذه المخاطر .
وحينما تسأله سؤالا ثانياً: إذاً توكلك على من؟ وعلى من يكون اعتمادك؟
فالجواب واحدٌ عند جميع الحجاج: نحن متوكلون على الله وحده سبحانه.
ولعل هذا والله أعلم من الصدق في توحيد التوكل على الله عز وجل قولاً وعملاً
المقصد السادس: تحقيق الإنابة لله عز وجل
ﭧ ﭨ ﭽ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﭼ الزمر
لما كان من شروط الحج القدرة والاستطاعة، أدى هذا إلى أن يكون أغلب الحجاج من الأقوياء في أموالهم وأبدانهم.
ومع توفر صفة القوة المالية والجسدية وغيرها من الصفات الموحية باستغناء صاحبها، مع ذلك كله تجد الحجاج في جميع مواطن الحج خصوصا في عرفة، والمطاف، وفوق الصفا والمروة، قد وقفوا وقوف الخائف الذليل المعترف بذنبه، المعلن لتقصيره، النادم على تفريطه المتبرئ من حوله وقوته إلى حول الله وقوته، الراجي عفو ربه وأن يصفح ويستر ما سلف وكان من الغفلة والتفريط والعصيان.
ولعل هذه هي حقيقة الإنابة إلى الله عز وجل والله أعلم
وهنا يبرز سؤال: لمن أنابت هذه القلوب؟
هل جاءها أمر من أقوياء البشر، أو وعدٍ من أغنيائهم حتى تلين القلوب بهذه الطريقة ، وتسكب دموعها خوفاً منهم وطمعاً لما في أيديهم؟ أبداً ..ولكن:
لعل هذا والله أعلم هو إخلاص توحيد الإنابة لرب العالمين
المقصد السابع: تحقيق الاخبات لله تعالى
ﭧ ﭨ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﭼ هود
الإخبات: هو التواضع لله عز وجل الذي يصل إلى حدّ التسليم المطلق له سبحانه وتعالى، عبوديةً له، وإقراراً بربوبيته وعظمته، واعترافا بضعف العبد وحاجته إلى ربه.
وقد ورد لفظ الإخبات في ثلاثة مواضع في القرآن الكريم.
واحدٌ في سورة هود وقد تقدم واثنان منها في سورة الحج، ﭧ ﭨ ﭽ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﭼ الحج
ﭧ ﭨ ﭽ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﭼ الحج
فلماذا كان اثنان من هذه المواضع الثلاثة في سورة الحج بالذات؟
ربما والله أعلم لأن شعائر الحج هي أكثر العبادات التي يظهر فيها إخبات العبد لربه، وتواضعه له، وتسليمه المطلق له سبحانه وتعالى.
فإنك مثلا لو سألت أكثر الحجاج عن الحكمة فيما يفعلونه من شعائر الحج، كالذهاب إلى عرفة، أو المبيت في مزدلفة، أو رمي الجمرات، أو غيرها من أعمال الحج التي يفعلونها بكل حرص ودقة لو سألتهم: لماذا شُرعت هذه الأعمال ؟وما المقصد منها؟ ولماذا تفعلها؟
لوجدت الجواب: إنه التعبد لله عز وجل وحسب.
وهذا من الإخبات لله سبحانه وتعالى والتسليم له، وهو أن يجتهد العبد في العمل، فقط لأن الله أمره به ، منشرحا به صدره، وهو لا يعرف تفاصيل الحكمة من ذلك ويكفيه أن هذا تعبد لله عز وجل يوصله إلى مرضاة ربه سبحانه وتعالى .
بينما لو أمره مخلوق لربما سأل وناقش: لماذا؟ أو: الأحسن كذا ! أو: لم أقتنع !
فسبحان من أخبتت له القلوب.
وما أجمل إخبات عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يخاطب الحجر الأسود فيقول : « أما والله، إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم استلمك ما استلمتك» صحيح البخاري رقم 1605
ومن الحجاج من يعيش في بلده، حياةً مترفة، مبتعداً عن الفقراء والمساكين والضعفاء، وربما عن العامة من الناس، يعيش في قصره حياةً ملؤها النعيم والهدوء.
ولكنه حينما يُدعى إلى الحج فإنه يأتي ويخالط الضعفاء والمساكين، وربما أكل أكلهم، ونام نومتهم، خصوصا في مزدلفة، ويقف معهم في زحام الطواف والسعي والرمي، صابراً على الروائح الكريهة والتدافع والزحام.
فتسأل نفسك: ما الذي حمله على فعل أشياء في الحج وهو لا يعرف حكمتها التفصيلية؟
وما الذي أنزله من ترفه ونعيمه وجعله يخالط الضعفة والمساكين؟
هل أجبره أحد من البشر على ذلك؟
الجواب: كلا. ولكنه الاخبات والتواضع لله رب العالمين.
ولعل هذا والله أعلم من إخلاص توحيد الاخبات لله رب العالمين
من خصائص مكة المكرمة
قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام ﭽ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﭼ إبراهيم
إن من يستقرئ تاريخ مكة المكرمة وما ورد في فضلها من النصوص، وما حدث فيها من حوادث وقصص، يخرج بنتيجة وهي أن هذه البلدة قد جعل الله لها من الخصائص ما ليس لغيرها من المدن والبلدان.
فقد جعل الله لها أحكاما فقهية ليست لغيرها، فهي حرم، يحرم صيدها وقطع شجرها، وأخذ لقطتها وغيرها من الأحكام الفقهية.
ومن خصائصها أن جعل أفئدة من الناس تهوي إليها، وبارك في مُدّها وصاعها استجابةً لدعوة إبراهيم عليه السلام.
ومن خصائصها أن من أراد فيها ظلما ، ولو مجرد إرادة، أن يذيقه الله من عذابٍ أليم ﭧ ﭨ ﭽ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭼ الحج .
وهذه الخصائص معروفة ومسطرة في كتب العلم.
ولكن من يتأمل في أمر مكة وهي أحب البقاع إلى الله، يجد أنه سبحانه ربما خصها أيضاً بخاصية فريدة وهي:
أن الله سبحانه وتعالى يعطي فيها من النعم الأصلية كنعمة الهداية، والعلم النافع، والعمل الصالح، والحكمة، ومن مراتب العبودية كرتبة الإيمان والإحسان، والشهادة،
و الصدّيقيّة، وغيرها، أكثر وأسرع مما يعطي في غيرها من البلدان الاخرى.
ويستجيب الله فيها لمن طلب منه هذه النعم والمراتب، أسرع مما يستجيب في غيرها من البلدان، فالله سبحانه وتعالى يعطي هذه النعم في كل بلد من الأرض، ولكنها في مكة أسرع وأكثر والله أعلم.
فها هو سبحانه وتعالى مثلا يُعطي نبيه إبراهيم عليه السلام - خارج مكة - رتبة الإسلام و الإيمان، و الإحسان، و النبوة والرسالة، ولكن حينما أراد أن يعطيه رتبة الخُلّة وهي أعلى الرُتب، دعاه إلى مكة، وهناك كان الابتلاء أشد وكان العطاء أكبر فأُعطي رتبة الخُلّة والله أعلم.
وهذا نبينا محمد ﷺ يُملأ قلبُه في مكة بكل النعم الأصلية بعد ابتلاءات عظيمة ، ثم ينعم عليه برتبة الخلة في مكة، ثم يؤذن له أن يهاجر إلى المدينة والله أعلم.
ولذلك لعل من مقاصد الحج أن يُدعى المسلم إلى هذا المكان، الذي يتجلى فيه كرم الله سبحانه وعطاؤه أكثر من غيره من الأماكن، فتُكثَّف عليه العبادة في أيام معدودات ليعطى من هذه النعم وغيرها أكثر مما يعطى في بلده الذي جاء منه.
فإذا تأمل الحاج هذه الخاصية لمكة ألح على الله سبحانه بالدعاء أن يُكثر له من النعم كلها الأصلية والفرعية، خاصة الأصلية، وأن يرفع مقامه في العبودية.
فربما استجاب الله له في هذه الرحلة القصيرة، وضاعف علمه أو حكمته أو تقواه أو عمله الصالح أو رفع درجته ، فجاء مسلماً ورجع مؤمناً، أو جاء مؤمناً ورجع محسناً، أو جاء محسناً ورجع صدّيقاً..
وسنة الله في النعم الأصلية ألا يعطيها عبداً من عباده حتى يبتليه ويختبره، ولذلك اشتد الابتلاء على إبراهيم عليه السلام في مكة أكثر من العراق والشام واشتد الابتلاء على محمد عليه الصلاة والسلام في مكة أكثر من المدينة وذلك ليصلا إلى مرتبة الخلة والله أعلم.
فلهذا يشتد الابتلاء والاختبار على الحاج في مكة تمهيداً لعطية عظيمة يرجوها من الله عز وجل إن هو صبر واتقى الله سبحانه.
ولهذا يقول عز وجل:ﭽﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭼ البقرة
فمعلوم أن من تعجل في يومين قد خفف الله عليه فلا اثم عليه، ولكن يظن القارئ أن يقال في حق المتأخر: ومن تأخر فله أجرٌ عظيم.
ولكن الله سبحانه وتعالى في هذه الآية زاد شرطا على المتأخر وهوتقوى الله عزوجل ﴿لمن اتقى﴾ على قول أن اشتراط التقوى في الآية يعود على المتأخر فقط وذلك والله أعلم لأنه سيزيد له في الابتلاء ليزيد له في العطاء.
فمن تأخر فسيجد عطاءً أكبر ولكن بعد ابتلاءً أكثر ،،، والله أعلم
ﭧ ﭨ ﭽ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭼ آل عمران
الخاتمة
ثم ماذا بعد الحج ؟
أخي الحاج .. والآن وبعد أن طفنا في هذه الرحلة السريعة على المقاصد الكبرى للحج فإنه جدير بنا أن نقف وقفات متأنية مستفيدين مما سبق .
فأقول وبالله التوفيق:
أخي الحاج .. تأمل معي أن الذي قرب الصيد من الصحابة والمرأة من الرجل في الحج هو الذي قرب الصورة المحرمة والسماع المحرم والشراب المحرم والمال المحرم من العبد في كل مكان في الدنيا والعلة واحدة ﭽ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﭼ المائدة
فيا ترى هل تستمر مجاهدتك لنفسك في توحيد المحبة والخوف والإنابة لله عز وجل بعد رجوعك من الحج ، بل وحتى تلقى ربك عز وجل ؟
أخي الحاج : لقد كنت تقول بلسانك وأنت في بلدك إنك تحب الله وتخشاه وتتوكل عليه ، ولكن هذا كله زعم منك يحتاج إلى دليل على صدقك، وقد جاء الحج ليكون هو الدليل على صدقك ، وذلك بعد أن صدّقت جوارحك لسانك ، فهنيئاً لك إن قبل الله منك ﭽ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭼ النحل فتجادل أنت عن نفسك بتحقيقك لهذه المقاصد العظيمة فتشهد لك جوارحك بذلك ، فأكثرمن سؤال الله القبول .
أخي الحاج .. لربما أوصلك كرم ربك سبحانه بسبب هذا الحج إلى رتبة ما كنت لتبلغها لو بقيت في بلدك تتعبد الله سنين طويلة ، فاحمد الله واشكره على ذلك فإن الشكر يزيد النعم الفرعية كالمال والبنين ومن باب أولى أن يزيد النعم الأصلية كالإيمان والإحسان فالله كريم ودود سبحانه فالله الله في كثرة الشكر.
وليكن منهج حياتك بعد الحج الحرص على المكانة العظيمة التي وهبها الله إياك وذلك بالتمسك بأسباب الثبات كالرفقة الصالحة وكثرة الدعاء وهجر أماكن الغفلة وأهلها والإنشغال بعمل صالح حتى تلقى ربك وقد رضي عنك ورضيت عنه . ﭽﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺﭼ آل عمران
والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد
وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا...