الفتاوى للشيخ محمد الأمين الشنقيطي
التصنيفات
الوصف المفصل
- الفتاوى
للشيخ محمد الأمين الشنقيطي
- المقَدِّمَة
- الفتوى الأولى هل العالم مخلوق ومرزوق من بركة النبي - صلى الله عليه وسلم - أو ذاك له أسباب أخرى؟
- الفتوى الثانية 1 - مسألة مقر العقل من الإنسان. 2 - هل يشمل لفظ المشركين أهل الكتاب. 3 - هل يجوز دخول الكافر مساجد الله غير المسجد الحرام.
- الفتوى الثالثة التعليل بالحكمة
- الفتوى الرابعة الإجابة الصادرة على صحة الصلاة في الطائرة
- الفتوى الخامسة وجهة نظر في حكم السعي فوق سقف المسعى
- الخلاصة
الفتاوى للشيخ محمد الأمين الشنقيطي
آثَارُ الشَّيْخِ العَلَّامَةِ مُحَمَّد الأَمِيْن الشِّنْقِيطِيِّ (10) الفَتَاوَى للشّيْخِ العَلَّامَةِ مُحمَّدِ الأَمِين بْن محمَّد المخْتار الجكني الشِّنْقِيطِيِّ (1325 هـ - 1393 هـ) تَحقيق سليمان بن عبد الله العمير إشْرَاف بَكر بن عَبدِ اللهِ أَبُو زَيد دَارُ عَطَاءَاتِ العِلمِ - دار ابن حزم __________ قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: نشر الشيخ أحمد بسيوني -حفظه الله- نسخة من الفتوى الثانية (وهي منشورة على المكتبة الشاملة باسم: «من فتاوى العلامة محمد الأمين الشنقيطي»)، وقد ذكر هناك أنه نقلها عن الأصل المكتوب بخط الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله، فذكرنا بعض التعليقات من هذه النسخة ورمزنا لها بـ: (أ).
(المقدمة/1)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقَدِّمَة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. أما بعد: فهذه خمس فتاوى للشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- طلب مني من لا يسعني رد طلبه، صاحبُ الفضيلة وحارسُها الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد -حفظه الله- التعليق عليها وخدمتها؛ لتأخذ مكانها ضمن مشروع "آثار الشيخ محمد الأمين الشنقيطي". فاستجبت لهذا الطلب الكريم، وبادرت بالعمل فيها فور وصولها إليَّ حسب ما تقتضيه أصول التحقيق العلمي وخدمة التراث، دون إيجاز مخل أو إطناب ممل، وهو على كل حال جهد مقل، فإن كان صوابًا فمن الله، وإن كان غير ذلك فمني ومن الشيطان وأستغفر الله منه. وإليك أيها القارئ تعريفًا بهذه الفتاوى ونُسَخِها: 1 - الفتوى الأولى: "هل العالم كله مخلوق ومرزوق من بركة النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو ذاك له أسباب أخرى". وهي جواب على سؤال وجه به المكرم الأمير عثمان بن عبد الرحمن، كما هو مثبت في بداية الفتوى. وتقع هذه الفتوى في إحدى عشرة لوحة ذات وجه واحد، بخط مغربي واضح. وهي نسخة متقنة نادرة الأخطاء. 2 - الفتوى الثانية: "مقر العقل، ومسائل أخرى". والمسائل الأخرى هما مسألتان: أولاهما: هل يشمل لفظ المشركين أهل الكتاب؟
(المقدمة/5)
والثانية: هل يجوز دخول الكافر مساجد الله غير المسجد الحرام؟ فتكون هذ الفتوى مشتملة على ثلاث مسائل. وصاحب الاستفتاء هنا هو الشيخ محمد الأمين بن الشيخ محمد الخضر، واستفتاؤه مؤرخ في 23/ 4 / 1389 هـ، وتاريخ وصول الاستفتاء إلى الشيخ في 27/ 4 / 1389 هـ، وهو مطبوع على الآلة الراقمة في ورقة رسمية كتب في الجانب الأيمن من أعلاها: "سفارة المملكة الأردنية الهاشمية -جدة" ولم تخلُ الطباعة من بعض الأخطاء المطبعية التي قمت بإصلاحها دون الإشارة إلى ذلك. وتقع هذه الفتوى في إحدى عشرة لوحة ذات وجه واحد باستثناء ورقتي السؤال والعنوان، وخطها واضح، وناسخها هو تلميذ الشيخ أحمد بن أحمد المختار، وأشار إلى أنه نقلها من خطه. وقد نشرت المسألة الأولى من هذه الفتوى وهي "مقر العقل" في مجلة "صحة القلب" عدد (12) ص: 16 - 19 دون أدنى تعليق، كما نقل المسألة الثانية وهي: "هل يشمل لفظ المشركين أهل الكتاب" فضيلة الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد في كتابه "معجم المناهي": 510. وبالنسبة لمسألة "مقر العقل" فقد ذكر الشيخ فيها القولين المشهورين في محل العقل مع استيفاء الأدلة والمناقشة، ورجح أنه في القلب، ثم أعقب ذلك بذكر قول ثالث يحصل به الجمع بين هذين القولين المتقابلين ويزيل التعارض القائم بينهما، وهو: أن العقل في الأصل محله القلب وله نوع اتصال بالدماغ، وبيَّن أن هذا القول جائز عقلًا، وليس فيه تكذيب للكتاب والسنة، لكنه -رحمه الله- علَّق القول به على قيام الدليل العقلي عليه، والاستقراء المحتج به.
(المقدمة/6)
وقد بحث نجم الدين الطوفي هذه المسألة أيضًا بشيء من التفصيل في كتابه "إبطال التحسين والتقبيح" -لا يزال مخطوطًا-، ورجَّح أن محل العقل هو الدماغ، وهو ما اختاره أيضًا في كتابه "شرح مختصر الروضة" كما سيأتي في التعليق على هذه الفتوى. وقد أجاب فيها أيضًا الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين -رحمه الله- في فتوى له ضمن كتاب "إزالة الستار عن الجواب المختار لهداية المحتار": (66 - 68) وقد انفصل في فتواه هذه عن نحو ما انفصل عنه الشيخ الأمين هنا، إلَّا أنه زاد وجهًا آخر في الجمع بين القولين المشهورين في محل العقل، وهو قوله: "على أنه يمكن أن يقال: إن المخ هو جهاز التصور والإدراك، فهو يتصور الأشياء ويدركها ثم يبعث بها إلى القلب، والقلب يتصرف ويتحكم، كما نقول في حاسة السمع والبصر، تدرك المسموع والمرئي وتبعث بها إلى القلب فيحكم ويتصرف. وهذا جمع آخر بين الوحي وما يقال من العلم الحديث، ويؤيده أن الله تعالى نفى العقل عن الكفار مع أن لهم تصورًا وإدراكًا، لكن لفساد تصرفهم صاروا كمفقودي العقل. فعلى هذا يكون محل تصور المعاني والمعقولات الدماغ، أما الذي يحكم البدن ويتصرف فيه فهو القلب، ومعلوم أنه إذا اختل محل التصور لم يمكن العقل؛ لأن محل التصور هو الجسر الذي يُعبر منه إلى القلب، فإذا اختل لم يصل إلى القلب شيء فيختل "العقل" (1). تنبيه: قد يتساءل بعض الناس هنا: ما جدوى بحث هذه المسألة؟ __________ (1) إزالة الستار: 68.
(المقدمة/7)
وما الفائدة المترتبة على كون العقل في القلب أو في الرأس؟ وهل هناك ثمرة عملية لهذا الاختلاف، أو أن الأمر لا يعدو كونه بحثًا نظريًّا ومن قبيل الترف الفكري، ليس إلَّا؟ وجوابًا على هذا التساؤل أقول: إن العلماء ذكروا ثمرة لهذا الاختلاف، وذلك فيما إذا شجه في رأسه موضحةً أو مأمومةً أو نحوهما فذهب عقله بسبب هذه الشجة. فعلى قول من يقول: هو في القلب، يلزمه دية العقل وأرش الشجة، إذ ليس العقل في محل الشجة عند هؤلاء، فيؤاخذ بكلتا الجنايتين، كما لو أذهب سمع رجل وفقأ عينه في ضربة واحدة. وعلى قول من يقول: هو في الرأس لا يلزمه إلَّا دية العقل؛ لأنه إنما أتلف منفعة في العضو المشجوج نفسه، فدخل أرش الشجة في الدية، كما لو أذهب بصر رجل وفقأ عينه في ضربة واحدة، أو أذهب سمع رجل وقطع أذنه في ضربة واحدة (1). والله أعلم. 3 - الفتوى الثالثة: "التعليل بالحكمة". وهي عبارة عن جواب على سؤال وجه به صاحب الفضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع عضو هيئة كبار العلماء عن حكم التعليل بالحكمة هل يجوز أو لا يجوز؟ وتقع هذه الفتوى في ست لوحات ذات وجه واحد، وهي بخط الرقعة وناسخها هو صاحب الفضيلة الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد عضو __________ (1) انظر: الحدود: 34 للباجي، والمقدمات: 3/ 334، 335 لابن رشد، والبحر المحيط: 1/ 90 للزركشي.
(المقدمة/8)
هيئة كبار العلماء، وأشار إلى أنه نقلها من قلم المؤلف ضحى اليوم الثاني والعشرين من شهر محرم عام 1390 هـ. فقد اجتمع على هذه الفتوى ثلاثة من كبار العلماء؛ السائل والمفتي والناسخ. 4 - الفتوى الرابعة: "الإجابة الصادرة على صحة الصلاة في الطائرة"، وعنوانها ينبي عن موضوعها، حيث يشير الشيخ في بداية الفتوى إلى أن بعض فضلاء إخوانه طلبوا منه أن يقيد لهم حروفًا تظهر بها صحة صلاة من صلى في الطائرة فأجابهم إلى طلبهم. وهذا الفاضل الذي أشار إليه الشيخ هو الذي وجه إليه ستة أسئلة أثناء رحلته إلى إفريقيا كان سادسها هذا الاستفتاء عن الصلاة في الطائرة، وطلب منه بعد عودته إلى البلاد المقدسة أن يجعلها تأليفًا مستقلًّا ويرسلها إليه، فأجابه الشيخ بقوله: إن شاء الله. انظر: الرحلة الإفريقية: 129. وقد أفتى بجواز الصلاة في الطائرة جمع من العلماء المعاصرين، منهم: الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ كما في فتاواه: (3/ 178 - 179)، والشيخ عبد العزيز بن باز كما في فتاوى مجلة الدعوة: (1/ 48)، والشيخ محمد بن صالح العثيمين كما في الشرح الممتع: (4/ 487)، وفتاوى أركان الإسلام: (516)، والشيخ محمد ناصر الدين الألباني كما في صفة الصلاة: (79)، واللجنة الدائمة كما في الفتاوى: (8/ 120). وبالنسبة لتسمية هذه الفتوى بهذا الاسم فقد ذكر الدكتور عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس في ترجمته للشيخ الأمين ص: (139) أن الذي سمّاها به هو ابنه الدكتور عبد الله. وتقع هذه الفتوى في خمس لوحات ذات وجه واحد، وخطها
(المقدمة/9)
حديث لا يخلو من بعض الأخطاء والسقط، وليس عليها اسم الناسخ، إلَّا أنه يمكن القطع بأنها ليست بخط الشيخ لقول الناسخ في آخرها: أملاه الشيخ محمد بن الأمين. . . إلخ. وقد طبعت أخيرًا بتحقيق الأستاذ الدكتور عبد الله بن محمد الطيار في دار المتعلم للنشر والتوزيع، دون الإشارة إلى أي نسخة معتمدة في التحقيق، لكن يبدو أنه اعتمد على نسخة أخرى بدليل وجود بعض الفروق والزيادات في طبعته، وقد أفدت منها بإثبات الفروق المؤثرة، أما الزيادات فقد وضعتها بين معقوفين، ولم أشر إلى ذلك في الهامش، على أن فيها أيضًا بعض الأخطاء والسقط وإقحام في المتن في موضع واحد. 5 - الفتوى الخامسة: "وجهة نظر في حكم السعي فوق سقف المسعى". وهي عبارة عن رأي خاص للشيخ في موضوع حكم السعي فوق سقف المسعى، الذي عرض على هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية في دورتها الرابعة المنعقدة ما بين 29/ 10 / 1393 و 12/ 11 / 1393 هـ. حيث رأى الشيخ عدم جواز ذلك مخالفًا بذلك بقية أعضاء الهيئة الذين ذهبوا إلى الجواز. وسيلحق بآخر الفتوى نص القرار الصادر عن الهيئة بهذا الشأن. وهذه الفتوى أو وجهة النظر مطبوعة على الآلة الراقمة في خمس أوراق رسمية ذات وجه واحد، مكتوب عليها في الأعلى من جهة اليمين: "المملكة العربية السعودية -رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد- الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء"، وفي آخرها كتب: "أملاه
(المقدمة/10)
الفقير إلى رحمة ربه وعفوه محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي. حرر في 12/ 11/ 1393 هـ". ثم توقيع الشيخ باسمه: محمد الأمين. هذا ولم تخل هذه الأوراق من بعض الأخطاء المطبعية، وقد تم تصويبها دون الإشارة إلى ذلك.
(المقدمة/11)
نماذج النسخ الخطية
(المقدمة/13)
صورة الورقة الأولى من الفتوى رقم (1)
(المقدمة/14)
صورة الورقة الأخيرة من الفتوى رقم (1)
(المقدمة/15)
صورة ورقة العنوان من الفتوى رقم (2)
(المقدمة/16)
صورة السؤال عن الفتوى رقم (2)
(المقدمة/17)
صورة الورقة الأولى من الفتوى رقم (2)
(المقدمة/18)
صورة الورقة الأخيرة من الفتوى رقم (2)
(المقدمة/19)
صورة الورقة الأولى من الفتوى رقم (3)
(المقدمة/20)
صورة الورقة الأخيرة من الفتوى رقم (3)
(المقدمة/21)
صورة العنوان من الفتوى رقم (4)
(المقدمة/22)
صورة الورقة الأولى من الفتوى رقم (4)
(المقدمة/23)
صورة الورقة الأخيرة من الفتوى رقم (4)
(المقدمة/24)
صورة الورقة الأولى من الفتوى رقم (5)
(المقدمة/25)
صورة الورقة الأخيرة من الفتوى رقم (5)
(المقدمة/26)
الفتوى الأولى هل العالم مخلوق ومرزوق من بركة النبي - صلى الله عليه وسلم - أو ذاك له أسباب أخرى؟
(الكتاب/1)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صورة سؤال المكرم الأمير عثمان بن عبد الرحمن هي: هل العالم كله مخلوق، ومرزوق من بركة النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو ذلك له أسباب أخرى؟ والجواب عن ذلك من القرآن العظيم، وهو أن الحِكَم التي خُلق من أجلها العالم ورُزق، كلها إلهية ربانية لا نبوية، وقد أوضح الله جلَّ وعلا أنها كلها راجعة إليه هو تعالى، لا إلى سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فبيَّن أن من حِكم خلقه للمخلوقات، هو أن يقيم بذلك البرهان القاطع على صحة معنى كلمة لا إله إلَّا الله، في آيات كثيرة جدًّا، كقوله تعالى في البقرة: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)} [الآية: 163]، ثم أقام البرهان القاطع على ذلك بقوله بعده: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَينَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الآية: 164]. ومن أعظم الاستدلال بخلق المخلوقات على معنى لا إله إلَّا الله، ما يتضح من النظر في ترتيب أول سورة البقرة؛ لأنه تعالى بدأها بحروف مقطعة هي: {الم (1)}؛ ثم أتبع ذلك بتعظيم شأن القرآن في قوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}، ثم بيَّن أن الناس بالشبة إلى الإيمان بالقرآن والكفر به ثلاث طوائف: الطائفة الأولى: هي التي آمنِت به ظاهرًا وباطنًا، وهم المذكورون في قوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيبِ} الآية [البقرة: 2 - 3].
(الكتاب/3)
والطائفة الثانية: هي التي كفرت به ظاهرًا وباطنًا، وهم المذكورون في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} الآية [البقرة: 6 - 7]. الطائفة الثالثة: هي التي آمنت به ظاهرًا وكفرت به باطنًا، وهم المنافقون المذكورون في قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} الآية [البقرة: 8 - 9] وأطال تعالى الكلام في هذه الطائفة الأخيرة؛ لأنها شر الطوائف، فضرب لها المثل بالنار في قوله تعالى: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} الآية [البقرة: 17]، وبالماء في قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} الآية [البقرة: 19]. ولا شك أن كل مسلم سمع هذا التقسيم إلى هذه الطوائف الثلاث، يتمنى أن يعلم الطريق التي توصله إلى أن يكون من الطائفة الطيبة، فبيَّن تعالى أن الطريق الوحيد لكونه منها هو تحقيق هاتين الكلمتين، أعني كلمة: "لا إله إلَّا الله"، وكلمة: "محمد رسول الله"، فجاء بكلمة: "لا إله إلَّا الله" أولًا موضحة إثباتها على حدة، ونفيها على حدة، ثم بين البرهان القاطع على صحتها، وهو خلقه تعالى للمخلوقات، ومن المعلوم أن كلمة: "لا إله إلَّا الله" مركبة من نفي وإثبات؛ لأن "لا إله" نفي، و"إلَّا الله" إثبات، ومعنى النفي منهما هو خلع جميع المعبودات غير الله في جميع أنواع العبادات، ومعنى الإثبات منها هو إفراده جل وعلا وحده بجميع أنواع العبادات على الوجه الشرعي خاصة مع الإخلاص له في ذلك على وجه الذل والخضوع والمحبة. فإذا عرفت ذلك فاعلم أن قوله جل وعلا بعد ذكر الطوائف
(الكتاب/4)
الثلاث: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21 - 22] كما وصفنا لك، فقوله جل وعلا: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} فيه معنى الإثبات من "لا إله إلَّا الله"، وهو أول أمر في المصحف الكريم. وقوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} يتضمن معنى النفي منها على أبلغ وجه وأكمله وأتمه، وهو أول نهي في المصحف الكريم. وقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} هو البرهان القاطع على صحة معنى "لا إله إلَّا الله"، ولذا جاء به بين طرفيها، وهو نص صريح سماوي في أن من حِكَم خلق الخلق من العقلاء وغيرهم إقامة البرهان بذلك، على أنه تعالى هو المعبود وحده، وهذا البرهان كثير في القرآن كثرة مستفيضة لا خفاء فيها (1)، كقوله تعالى في أول الروم: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} إلى قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الآيات: 20 - 22]، وقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ} [الشورى: 29]. وقوله في الجاثية: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ} إلى قوله {آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [3 - 5]. وكقوله في يونس: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي __________ (1) في الأصل زيادة: "بها" بعد "فيها" ولا معنى لها.
(الكتاب/5)
الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)}. وقوله في يوسف: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)}. وقوله في الأعراف: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ [الآية: 185]. وقوله في فصلت: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [الآية: 53]. وقوله تعالى في الذاريات: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)}. وقوله في آل عمران: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)}. وقوله في الغاشية: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21)}. فتأمل قوله بعد هذه البراهين القاطعة في سورة الغاشية هذه: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} تفهم نوع الحكمة في خلق المخلوقات. وكقوله في ق: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيفَ بَنَينَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَينَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)}. فتأمل قوله تعالى: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى} تفهم نوع الحكمة في خلق الخلق. والآيات بمثل هذا كثيرة جدًّا، ولأجل ذلك جرت العادة في القرآن بأن الله تعالى يجعل علامة استحقاق العبادة هو كون المعبود
(الكتاب/6)
خالقًا؛ لأن خلقه للخلق برهان على استحقاقه للعبادة، كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} الآية [البقرة: 21]، وقوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ} بعد قوله: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} (1) واضح في ذلك. وكقوله تعالى في الرعد: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ} الآية [الرعد: 16]، يعني وخالق كل شيء هو المعبود وحده. وكقوله تعالى في فاطر: {قُلْ أَرَأَيتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} الآية [40]، وهو صريح في أن من لا يخلق غيره لا يعبد، وأن من يخلق غيره هو الذي يعبد. وبه تعلم أن من حِكَم خلق الخلق الدليل على استحقاق العبادة. ونظير ذلك قوله تعالى في لقمان: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان: 10 - 11]. وقوله في الأحقاف: {قُلْ أَرَأَيتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} الآية [4]. وقوله تعالى في الأعراف: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الأعراف: 191]. وقوله تعالى في الحج: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَو اجْتَمَعُوا لَهُ} الآية __________ (1) هكذا في الأصل، بإثبات جملة "الذي خلقكم" في هذا الموضع، ولا معنى لها.
(الكتاب/7)
[73]، يعني أن من لم يكن خالقًا لا يصح أن يكون معبودًا، والمعبود لا بد أن يكون خالقًا. ولما بيَّن تعالى في سورة النحل تلك البراهين العظيمة على جلالته وعظمته، وأنه المعبود وحده في قوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} إلى قوله: {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)} أتبع ذلك بقوله: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)}. ولمَّا بيَّن في سورة الفرقان علامات من يستحق العبادة بقوله: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)} أتبع ذلك بصفات من لا يستحق أن يُعبد بقوله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الفرقان: 3] الآية [3]. والآيات بمثل هذا كثيرة جدًّا معروفة، وفيها الأدلة القاطعة الواضحة على أن حكمة خلق الخلائق إلهية ربانية، لا نبوية، كما رأيت، وكما سترى. وأما ما أشرنا إليه من برهان "محمد رسول الله"، فهو برهان الإعجاز المذكور بعد برهان "لا إله إلَّا الله" في آية البقرة الماضية، فبرهان "لا إله إلَّا الله" في قوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} الآية [البقرة: 21]. وبرهان "محمد رسول الله"، في قوله تعالى بعده: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} الآية [البقرة: 23]. وليس مقصودنا تقرير برهان الإعجاز، بل الجواب على السؤال المذكور. وقد بيَّن تعالى أن من حِكم خلقه للمخلوقات، هو أن يُعلِم خلقه بكمال قدرته وإحاطة علمه العظيم بكل شيء، كما قال تعالى في آخر سورة الطلاق: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَينَهُنَّ
(الكتاب/8)
لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيءٍ عِلْمًا (12)}، فاللام في قوله: {لِتَعْلَمُوا} متعلقة بقوله: {خَلَقَ}، أي: خلق ذلك الخلق كله لتعلموا أن الله على كل شيء قدير، وأنه محيط بكل شيء علمًا. وبه تعلم أن حكمة خلق الخلق إلهية ربانية لا نبوية. ومن الحكم العظام في خلقه تعالى للخلق، أن يأمرهم وينهاهم على ألسنة رسله، ثم يختبرهم، أي: يبتليهم أيهم أحسن عملًا، ثم يجازيهم على ذلك، وقد أوضح تعالى هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله تعالى في أول سورة هود: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [الآية: 7]، ثم بيَّن حكمة ذلك فقال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}، فاللام في قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ} متعلقة بقوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}. ونظيره في المعنى قوله تعالى في أول الكهف: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)}. وقوله تعالى في أول الملك: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الآية: 2]. وقوله تعالى في آخر الذاريات: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)}، فقوله: {لِيَعْبُدُونِ} التحقيق في معناه أن المراد: إلَّا لآمرهم بعبادتي (1)، وأنهاهم عن معصيتي، فأوفق من شئت منهم إلى عبادتي، كما دلت على __________ (1) انظر: تفسير ابن كثير: 7/ 401، وأضواء البيان: 7/ 673، ودفع إيهام الاضطراب: 159.
(الكتاب/9)
هذا المعنى الآيات المذكورة آنفًا في الملك وهود والكهف. والغرض الشرعي المراد من طاعة الله وعبادته والخضوع له وتعظيمه، يحصل بفعل السعداء دون الأشقياء، كما أشار تعالى إلى ذلك بقوله في الأنعام: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89)}. وقوله تعالى في فصلت: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)}. واختار ابن جرير الطبري رحمه الله -ومعلوم أنه من كبار المفسرين، وقال بعض العلماء: هو كبير المفسرين (1) - أن معنى الآية: {إلا لِيَعْبُدُونِ} أي: ليقروا لي بالعبودية، ويخضعوا ويذعنوا لذلك، فالمؤمنون يذعنون طوعًا، والكفار يذعنون كرهًا، وهو قول ابن عباس (2). وقد قال تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)}. وما يزعمه كثير من متأخري المفسرين (3) من أن اللام في {لِيَعْبُدُونِ} للصيرورة، لا أصل له؛ وهو مبنيٌّ على شيء مذكور في علم الكلام، لا يشك عالم بكتاب الله منصف في بطلانه، كما أوضحناه مرارًا (4)، وقد __________ (1) بل قال الدكتور محمد حسين الذهبي إنه يعتبر أبًا للتفسير. انظر كتابه: التفسير والمفسرون: 1/ 206. (2) وقول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، انظر: تفسير الطبري: 12، 27، وتفسير البغوي: 4/ 235. وانظر: أضواء البيان: 7/ 672. (3) كالشيخ سليمان الجمل، والصاوي في حاشيتهما على الجلالين. انظر: حاشية الجمل: 4/ 210، وحاشية الصاوي: 4/ 109. (4) لم يبين الشيخ شيئًا من ذلك في تفسيره الأضواء عند الكلام على هذه الآية، ولا في =
(الكتاب/10)
رأيت في الآيات الماضية أنت من حِكَم خلق الخلق أمرهم بعبادة الله، وابتلاؤهم أيهم أحسن عملًا، ومعلوم أن الأمر والنهي لا تتم الحكمة فيهما إلَّا بجزاء المحسنين بالإحسان، والمسيئين بالإساءة. ولذلك بيَّن تعالى في آيات كثيرة أن من حِكَم خلقه تعالى للخلائق جزاء المحسنين منهم بإحسانه، والمسيء منهم بإساءته، كقوله تعالى في النجم: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)}. فقوله تعالى في هذه الآية: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} أي: هو خالقهما وما فيهما، ثم بيَّن الحكمة فقال: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا} الآية. ويزيد ذلك إيضاحًا قوله تعالى في أول يونس: {إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)}، والكفار الذين ظنّوا أن خلق السموات والأرض وما فيهما لا لتكليف وحساب وجزاء، هدَّدهم بالويل من النار بسبب هذا الظن السيء المقتضي تجرد خلقه للخلائق عن حكمة التكليف والحساب والجزاء، وذلك في قوله في ص: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَينَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ}. وقد نزه نفسه تعالى عن أن يكون خلق الخلق إلا لبعث وجزاء، وأنكر على من ظن ذلك إنكارًا شديدًا في آخر سورة الفلاح (1)، قال منكرًا ذلك __________ = كتابه دفع إيهام الاضطراب عند كلامه على آية: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} من سورة هود. فلعل ذلك في كتب أو رسائل أخرى للشيخ. (1) هي سورة "المؤمنون". وانظر هذه التسمية في التحرير والتنوير: 9/ 5 لابن عاشور. وورد تسميتها أيضًا بـ "قد أفلح"، كما في كتاب الجامع من العتبية في=
(الكتاب/11)
بهمزة استفهام الإنكار: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَينَا لَا تُرْجَعُونَ (115)} ثم نزه نفسه عن ذلك الحسبان المقتضي تجرد خلقهم عن حكمة البعث والجزاء أكمل تنزيه وأتمه بقوله: {فَتَعَالى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)} [المؤمنون} أي: تعالى الله الملك الحق وتقدس وتعاظم وتنزه عن أن يكون خلقهم عبثًا لا لحكمة بعث وجزاء. وقال تعالى منكرًا ذلك أيضًا: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)} [القيامة: 36]. وهذا الذي نزه تعالى عنه نفسه من كونه خلقهم باطلًا لا لبعث وجزاء نزهه عنه أيضًا أولوا الألباب، أي أصحاب العقول السليمة، وذلك في قوله تعالى في آل عمران: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)} فقوله: {سُبْحَانَكَ} أي: تنزيهًا لك عن أن تكون خلقت هذا الخلق باطلًا لا لحكمة تكليف وبعث وحساب وجزاء، فتنزيههم له عن ذلك بقولهم: {سُبْحَانَكَ} كتنزيهه لنفسه عن ذلك بقوله: {فَتَعَالى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} الآية. وأما مسألة رزقه تعالى الخلق، فقد بيَّن تعالى في آيات كثيرة من كتابه أن من حِكَم ذلك كونه برهانًا قاطعًا على أنه لا إله إلَّا هو وحده، وأنه المعبود وحده، فكونه هو الرازق لخلقه من أعظم أدلة التوحيد الدالة على عظمته جل وعلا وجلاله وكمال قدرته، ولذا يأتي بصفة الرزق دائمًا في القرآن في إقامة البرهان على توحيده تعالى، كقوله __________ = سماع ابن القاسم. انظر: العتبية مع شرحها البيان والتحصيل: 17/ 33.
(الكتاب/12)
تعالى في الروم: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)} [الروم: 40]. وقوله تعالى في يونس: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31)}. وقوله تعالى في النمل: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} الآية [النمل: 64]. وقوله في غافر: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إلا مَنْ يُنِيبُ (13)}. وقوله تعالى في الجاثية: {وَاخْتِلَافِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)}. وقوله تعالى في البقرة: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)}. وقوله في غافر: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} الآية [64]. وقوله تعالى في الأنعام: {قُلْ أَغَيرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} [الآية: 14]. وقوله تعالى في العنكبوت: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيهِ تُرْجَعُونَ (17)}. ومن أصرح البراهين في ذلك قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)} إلى قوله: {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)} [عبس].
(الكتاب/13)
والآيات بمثل هذا كثيرة جدًّا. وصفة الرزق في جميع الآيات المذكورة إنما هي من براهين التوحيد، وبذلك تعلم أن من حِكَم رزقه تعالى لخلقه إقامة البرهان لهم بذلك على عظمته وكمال قدرته، وأنه المعبود وحده جل وعلا، وبه تعلم أن حكمة رزق الخلق إلهية ربانية لا نبوية، وقد بيَّن تعالى امتنانه على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - بأنه تعالى هو الذي رزقه كما رزق جميع الرسل وجميع الخلق، قال تعالى مخاطبًا له - صلى الله عليه وسلم - في سورة الضحى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)} أي: وجدك فقيرًا فأغناك برزقه الحلال الطيب. وقال تعالى مخاطبًا له أيضًا في طه: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)}. وقد بيَّن تعالى أن من حِكَم رزقه لخلقه إظهار شدة حاجتهم وفقرهم وفاقتهم إلى رحمته جل وعلا، وأنه لو أمسك عنهم الرزق أو أبعد عنهم الماء في داخل الأرض حتى لا يستطيعوا الوصول إليه، أو جعله ملحًا أُجاجًا لا يمكن أن يُشرب لهلكوا جميعًا، ولم يقدر أحد كائنًا من كان أن يطعمهم ولا أن يسقيهم، قال تعالى في الملك: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} [الآية: 21]، وقال فيها أيضًا: {قُلْ أَرَأَيتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)}. وقال في الواقعة: {أَفَرَأَيتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70)}. وقد بيَّن تعالى أن من حِكَم رزقه لخلقه عظمة رحمته وفضله وكرمه، كقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)} [هود: 6].
(الكتاب/14)
فقد رأيت في بالآيات القرآنية بعض حِكَم خلق الله تعالى لخلقه ورزقه لهم. ومعلوم أن من أسمائه "الخالق"، ومن أسمائه "الرزاق". ومعلوم أن أسماءه أزلية لا أول لها، وبالجملة فإيضاح هذا المبحث كله هو أن الله جل وعلا غني عن الخلائق كلهم، وقد اقتضت حكمته أن يخلق السموات والأرض ونحوهما ليقيم بذلك برهانًا قاطعًا على كمال قدرته وعظمته وأنه المعبود وحده، وخلق العقلاء كلهم لتلك الحكمة، ولحكم أخرى عظيمة، وهي أنه يأمرهم وينهاهم على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام، ثم يوفق فريقًا منهم، وهم أهل الجنة، ولم يفعل ذلك لغيرهم، وهم أهل النار، وقد أشار تعالى إلى أن اختلافهم إلى شقي وسعيد من الحكم التي خلقهم لأجلها في سورة هود في قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [الآيتان: 118 - 119]. والتحقيق أن الإشارة في قوله: {وَلِذَلِكَ} راجعة إلىِ اختلافهم إلى شعي وسعيد (1)، المذكور في ضمن قوله: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}، ولذا ذكر بعده مصير فريق الأشقياء بقوله: {خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} الآية [119]. والاختلاف المذكور في آية هود هذه، هو المذكور في التغابن في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [الآية: 2]. وفي الشورى (2) في قوله تعالى: {وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي __________ (1) انظر: تفسير الطبري: 12/ 144، ودفع إيهام الاضطراب: 158. (2) في الأصل: "شورى"، بالتنكير.
(الكتاب/15)
الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)}. وفي الأعراف في قوله تعالى {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيهِمُ الضَّلَالةُ} [الآية: 29 - 30]. والآيات بمثل ذلك كثيرة جدًّا. ومن الحكم الباهرة في إسعاد قوم، وإشقاء آخرين: أن كلًّا من الفريقين ينكشف فيه بعض أسرار أسمائه الحسنى، وصفاته العلا، فالذين وفقهم لفعل الخير، يظهر فيهم بعض أسرار أسمائه وصفاته، فالذين يرحمهم يظهر فيهم سرّ رحمته، التي اشتق لنفسه منه اسمه "الرحيم" و"الرحمن"، ورأفته التي منه اسمه "الرؤوف"، وكرمه الذي منه اسمه "الكريم"، وحكمه الذي منه اسم "الحكيم"، وهكذا. والذين أشقاهم الله يظهر فيهم أسرار بعض (1) أسمائه وصفاته، كانتقامه الذي منه اسمه المنتقم، وكبريائه وجبروته الذَيْن منهما اسماه "الجبار" و"المتكبر"، وهكذا أيضًا لأن بذلك يجتمع الخوف والمحبة (2). وعلى كل حال، فسيدنا وسيد الخلائق كلها محمد - صلى الله عليه وسلم - أعطاه الله جل وعلا من التشريف والتعظيم والتكريم وعلو الشأن في العالم العلوي والسفلي، مما هو ثابت في كتاب الله والسنة الصحيحة، ما هو أشد الغنى عن ادعاء تعظيمه بأمور لا أساس لها ولا مستند لها ألبتة، ولم يقل - صلى الله عليه وسلم - حرفًا منها. فعلى المسلم أن يتثبت ويتحفظ، وألَّا يقول على نبينا - صلى الله عليه وسلم - شيئًا إلَّا __________ (1) هكذا في الأصل: "أسرار بعض"، ولعل الصواب: "بعض أسرار" كما مر قريبًا. (2) بعد كلمة "المحبة" توجد في الأصل إشارة إلى لحق، ولم يكتب في الهامش شيء.
(الكتاب/16)
بعد ثبوت صحته، لأنه - صلى الله عليه وسلم - روى عنه سبعون (1) من أصحابه أنه قال: "من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" (2). وعلى كل حال فمن المعلوم الواضح أنه لا ينبغي لأحد أن يقول: إن فرعون وهامان وقارون وعاقر ناقة صالح وأبا جهل وأمية بن خلف ونحوهم من أئمة الكفر خلقوا من بركة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك سائر المشركين والكفار، لأنه - صلى الله عليه وسلم - خير كله، ولا ينشأ عنه إلَّا خير محض كما لا يخفى. __________ (1) منهم العشرة المبشرون بالجنة، وبلغ بهم بعضهم إلى اثنين ومائة من الصحابة. بل قال النووي: "إنه جاء عن مائتين من الصحابة، ولم يزل في ازدياد"، ورده السخاوي نقلًا عن شيخه ابن حجر بأنه سبق قلم من مائة. وهذا الحديث يمثل به علماء المصطلح للمتواتر، وفي كلام ابن الصلاح ما يشعر باختصاص هذا الحديث بكونه مثالًا للمتواتر، ورده ابن حجر أيضًا. وقد اعتنى بجمع طرقه جمع من الحفاظ؛ كالطبراني "وكتابه مطبوع"، ويوسف بن خليل الدمشقي (ت: 648 هـ)، وأبي علي البكري (ت: 656 هـ) وغيرهم. انظر: الموضوعات لابن الجوزي: 1/ 56 - 92، ومقدمة ابن الصلاح: 135، وشرح النووي على صحيح مسلم: 1/ 68، وفتح المغيث للسخاوي: 3/ 35 - 41، والأسرار المرفوعة للقاري: 39 - 70، وصحيح الجامع: 5/ 351، 352. (2) أخرجه البخاري "الصحيح مع الفتح": 1/ 199، ومسلم: 1/ 10 "مقدمة".
(الكتاب/17)
الفتوى الثانية 1 - مسألة مقر العقل من الإنسان. 2 - هل يشمل لفظ المشركين أهل الكتاب. 3 - هل يجوز دخول الكافر مساجد الله غير المسجد الحرام.
(الكتاب/19)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ نص السؤال: حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي المحترم بعد السلام عليكم: أبدي أنه أمامي الآن مسألتين، بحثت عن شخص يمكنه إيضاحهما بما يتفق والدين والواقع مؤيدًا بالأدلة الشرعية والعقلية، فرأيت أن ذلك الشخص هو فضيلتكم، ولهذا أرجوكم التفضل بذلك لما لها من الأهمية في هذه الأيام، وإشغالها مجالس كثير من الفكريين والعقلاء. 1 - تعلمون أن القرآن صرح بأن محل العقل القلب {لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} والحديث: "ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب". وتعلمون أن الإمام أبا حنيفة يرى أن محل العقل الدماغ وكذلك الحكماء، وأن البعض ذهب إلى أن الدماغ أداة من أدوات القلب، فما هو المخرج في ذلك. 2 - تعلمون أن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}، وتعلمون أن القرآن فرَّق بين المشركين وأهل الكتاب: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى}. وتعلمون أن سيدنا عمر بن عبد العزيز أمر بإلحاق أهل الكتاب بالمشركين في عدم دخول المسجد الحرام، وأن
(الكتاب/21)
عطاء رضي الله عنه جعل المسجد يشمل الكل، وعلى هذا درج المسلمون إلى الآن، فما هو سند سيدنا عمر وما هو النهج الديني في ذلك؟ ولكم من الله الأجر والثواب، ومني الشكر مع جزيل التحية.
(الكتاب/22)
هذه فتوى الشيخ محمد الأمين عما استفتاه عنه الشيخ محمد الأمين ابن الشيخ محمد الخضر عن مقر العقل ومسائل أخرى، نقلته من خطه. توقيع: أحمد بن أحمد المختار بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حضرة صاحب المعالي أخي المكرم الشيخ محمد الأمين بن الشيخ محمد الخضر حفظه الله ووفقه: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، فقد وصلنا خطابكم الكريم بتاريخ 27/ 4/ 1389 هـ[1] وفهمنا ما سألتم عنه. والجواب -حفظكم الله ووفقكم- عن المسألة الأولى التي هي محل العقل هو ما ستراه، ولا يخفى على معاليكم أن بحث العقل بحث فلسفي قديم، وللفلاسفة فيه مائة طريق باعتبارات كثيرة مختلفة، غالبها كله تخمين وكذب وتخبط في ظلام الجهل، وهم يسمون الملائكة عقولًا ويكثرون البحث في العقول العشرة المعروفة عندهم، ويزعمون أن المؤثر في العالم هو العقل الفياض، وإن نوره ينعكس على العالم كما (تنعكس الشمس) [2] على المرآة، فتحصل تأثيراته بذلك الانعكاس، ويبحثون في العقل البسيط الذي يمثل به المنطقيون للنوع البسيط، إلى غير ذلك من بحوثهم الباطلة المتعلقة بالعقل من نواح شتى (1)، ومن تلك البحوث قول عامتهم إلَّا القليل منهم، إن محل العقل الدماغ، وتبعهم في ذلك قليل من المسلمين، ويذكر عن الإمام أحمد أنه جاءت __________ (1) ينظر في هذا: المبين: 106 - 108 للآمدي. [1] قال معد الكتاب للشاملة: في (أ): 23/ 4/ 89، وذكر المعلق أنه نقلها عن الأصل بخط الشيخ محمد الأمين، وهو الموافق لتاريخ إرسال الرسالة من قبل الشيخ محمد الأمين بن الشيخ محمد الخضر (ص 17). [2] قال معد الكتاب للشاملة: في (أ): كما ينعكس نور الشمس.
(الكتاب/23)
عنه رواية بذلك (1) وعامة علماء المسلمين على أن محل العقل القلب (2)، وسنوضح -إن شاء الله تعالى- حجج الطرفين ونبين ما هو الصواب في ذلك. اعلم [أولا] [1]، وفقنا الله وإياك، أن العقل نور روحاني تدرك به النفس العلوم النظرية والضرورية (3)، وأن من خلقه وأبرزه من العدم إلى الوجود وزين به العقلاء وأكرمهم به، أعلمُ بمكانه الذي جعله فيه من جملة الفلاسفة الكفرة الخالية قلوبهم من نور سماوي وتعليم إلهي، وليس أحد بعد الله أعلم بمكان العقل من النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي قال في حقه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم]، وقال تعالى عن نفسه: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة: 140]. __________ (1) وهي رواية الفضل بن زياد عنه. كما في العدة: 1/ 89 - 90 لأبي يعلى، وذم الهوى: 24 لابن الجوزي. وانظر: مجموع الفتاوى: 9/ 303، وأقسام القرآن: 2/ 275 لابن القيم. ويُنسب هذا القول إلى ابن الماجشون من المالكية. كما في المقدمات لابن رشد: 3/ 334، والذخيرة للقرافي: 1/ 240. واختاره الطوفي من الحنابلة كما في كتابه شرح مختصر الروضة: 1/ 172. (2) انظر القولين في محل العقل -غير ما تقدم من المصادر- في: الحدود: 34 للباجي، وتفسير ابن عطية: 11/ 208، وقواطع الأدلة: 1/ 30 لابن السمعاني، وتهذيب الأسماء واللغات: 3/ 34، وتفسير القرطبي: 1/ 370، وشرح التلقين: 1/ 135 للمازري، والأمنية في إدراك النية: 17 للقرافي، والكليات: 619 للكفوي. (3) انظر هذا التعريف للعقل وتعريفات أخرى له في: التعريفات للجرجاني: 152، والعقل: 201 للحارث المحاسبي، والمستصفى: 1/ 70، وإحياء علوم الدين: 1/ 458، 459، وذم الهوى: 23، ومجموع الفتاوى: 9/ 271، 287، والمسودة: 2/ 981، والبحر المحيط: 1/ 85، 86 للزركشي، والكليات: 617، 618 للكفوي. [1] قال معد الكتاب للشاملة: زيادة من في (أ).
(الكتاب/24)
والآيات القرآنية والأحاديث النبوية في كل منهما التصريح بأن محل العقل القلب، وكثرة ذلك وتكراره في الوحيين لا يترك احتمالًا ولا شكًّا في ذلك، وكل نظر عقلي صحيح يستحيل أن يخالف الوحي الصريح، وسنذكر طرفًا من الآيات الكثيرة الدالة على ذلك، وطرفًا من الأحاديث النبوية، ثم نبين حجة من خالف الوحي من الفلاسفة ومن تبعهم، ونوضح الصواب في ذلك إن شاء الله تعالى. واعلم -أولًا- أنه يغلب في الكتاب والسنة إطلاق القلب وإرادة العقل، وذلك أسلوب عربي معروف؛ لأن من أساليب اللغة العربية إطلاق المحل وإرادة الحال فيه كعكسه، والقائلون بالمجاز يسمون ذلك الأسلوب العربي مجازًا مرسلًا، ومن علاقات المجاز المرسل عندهم المحلية والحالية، كإطلاق القلب وإرادة العقل؛ لأن القلب محل العقل، وكإطلاق النهر الذي هو الشق في الأرض على الماء الجاري فيه، كما هو معلوم في محله. (وهذه) [1] بعض نصوص الوحيين، قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا} الآية [الأعراف: 179]، فعابهم الله بأنهم لا يفقهون بقلوبهم، والفقه الذي هو الفهم لا يكون إلَّا بالعقل، فدلَّ ذلك على أن القلب محل العقل، ولو كان الأمر كما (زعمت) [2] الفلاسفة لقال: لهم أدمغة لا يفقهون بها. وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} [الحج: 46]، ولم يقل: فتكون لهم أدمغة يعقلون بها، ولم يقل: ولكن تعمى الأدمغة التي في الرؤوس كما ترى، فقد صرح في آية الحج هذه بأن __________ [1] قال معد الكتاب للشاملة: في (أ): وهذا. [2] قال معد الكتاب للشاملة: في (أ): زعم.
(الكتاب/25)
القلوب هي التي يعقل بها، وما ذلك إلَّا لأنها محل العقل كما ترى، ثم أكَّد ذلك تأكيدًا لا يترك شبهة ولا لبسًا فقال تعالى: {وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]، فتأمل قوله: {الَّتِي فِي الصُّدُورِ} تفهم ما فيه من التأكيد والإيضاح، ومعناه: أن القلوب التي في الصدور هي التي تعمى إذا سلب الله منها نور العقل، فلا تميز بعد عماها بين الحق والباطل، ولا بين الحسن والقبيح، ولا بين النافع والضار، وهو صريح (بأن) [1] الذي يميز به كل ذلك وهو (1) العقل ومحله القلب. وقال تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)} [الشعراء: 89]، ولم يقل: بدماغ سليم، وقال تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} الآية [البقرة: 7] ولم يقل: على أدمغتهم، وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} الآية [الكهف: 57]، ومفهوم مخالفة الآية أنه لو لم يجعل الأكنة على قلوبهم لفقهوه بقلوبهم؛ وذلك لأن محل العقل القلب كما ترى، ولم يقل: إنا جعلنا على أدمغتهم أكنة أن يفقهوه. وقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} الآية [ق: 37]، ولم يقل: لمن كان له دماغ. وقال تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} الآية [البقرة: 74]، ولم يقل: ثم قست أدمغتكم، وكون القلب إذا قسا لم يطع صاحبُه اللهَ، وإذا لان أطاع الله، دليلٌ على أن المميز الذي تراد به الطاعة والمعصية محله القلب كما ترى، وهو العقل. وقال تعالى: {فَوَيلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} الآية [الزمر: 22]، __________ (1) هكذا في الأصل: "وهو" ولعل الصواب: "هو". قال معد الكتاب للشاملة: في (أ): هو. [1] قال معد الكتاب للشاملة: في (أ): في أن.
(الكتاب/26)
وقال تعالى: {فَطَال عَلَيهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية [الحديد: 16]، ولم يقل: (فويل) [1] للقاسية أدمغتهم، ولم يقل: فطال عليهم الأمد فقست أدمغتهم. وقال تعالى: {أَفَرَأَيتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} الآية [الجاثية: 23]، ولم يقل: وختم على سمعه ودماغه. وقال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَينَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} الآية [الأنفال: 24]، ولم يقل: ودماغه. وقال تعالى: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيسَ فِي قُلُوبِهِمْ} الآية [الفتح: 11]، ولم يقل: ما ليس في أدمغتهم. وقال تعالى: {فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ} الآية [النحل: 22]، ولم يقل: أدمغتهم منكرة. وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} الآية [سبأ: 23]، ولم يقل: (إذا فزع) [2] عن أدمغتهم. وقال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} الآية [محمد: 24]، ولم يقل: (أم) [3] على أدمغة أقفالها. وانظر ما أصرح آية القتال هذه في أن التدبر وإدراك المعاني به إنما هو للقلب، ولو جعل على القلب قفل لم يحصل الإدراك، فتبين أن الدماغ ليس هو محل الإدراك كما ترى. وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، ولم يقل: أزاغ الله أدمغتهم. وقال تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} الآية [الرعد: 28] ولم يقل: تطمئن الأدمغة. وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} __________ [1] قال معد الكتاب للشاملة: غير موجودة في (أ). [2] قال معد الكتاب للشاملة: غير موجودة في (أ). [3] قال معد الكتاب للشاملة: غير موجودة في (أ).
(الكتاب/27)
[الأنفال: 2] ولم يقل: وجلت أدمغتهم، والطمأنينة والخوف عند ذكر الله كلاهما إنما يحصل بالفهم والإدراك، وقد صرحت الآيات المذكورة بأن محل ذلك القلب لا الدماغ، وبين في آيات كثيرة أن الذي يدرك الخطر فيخاف منه هو القلب الذي هو محل العقل لا الدماغ، كقوله تعالى: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} الآية [الأحزاب: 10]، (وقوله) [1] تعالى: {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8)} الآية [النازعات: 8]، وإن كان الخوف تظهر آثاره على الإنسان. وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [الأعراف: 100] ولم يقل: (ونطبع) [2] على أدمغتهم، وقال تعالى: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا} الآية [الكهف: 14]، وقال تعالى: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} [القصص: 10] والآيتان المذكورتان فيهما [من] [3] الدلالة على أن محل إدراك الخطر المسبب للخوف هو القلب كما ترى لا الدماغ. والآيات الواردة في الطبع على القلوب متعددة، كقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} الآية [المنافقون: 3]، ولم يقل: فطبع على أدمغتهم، (وكقوله) [4] تعالى: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} الآية [التوبة: 93]، ولم يقل: على أدمغتهم، وقال تعالى: {إلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} الآية [النحل: 106]، والطمأنينة بالإيمان إنما تحصل بإدراك فضل الإيمان وحسن نتائجه وعواقبه، وقد صرح في هذه الآية بإسناد ذلك الاطمئنان إلى القلب الذي هو محل العقل الذي هو أداة النفس في الإدراك، ولم يقل ودماغه مطمئن بالإيمان. وقال تعالى: {قَالتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] ولم يقل: في أدمغتكم، وقال __________ [1] قال معد الكتاب للشاملة: في (أ): وكقوله. [2] قال معد الكتاب للشاملة: غير موجودة في (أ). [3] قال معد الكتاب للشاملة: زيادة من (أ). [4] قال معد الكتاب للشاملة: في (أ): وقوله.
(الكتاب/28)
تعالى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22]، فقوله: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} وقوله: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ}، صريح في أن المحل الذي يدخله الإيمان في المؤمن وينتفي عنه دخوله في الكافر [إنما] [1] هو القلب لا الدماغ، وأساس الإيمان إيمان القلب؛ لأن الجوارح كلها تبع له، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" (1). فظهر (بذلك) [2] دلالة الآيتين المذكورتين على أن المصدر الأول للإيمان القلب، فإذا آمن القلب آمنت الجوارح بفعل المأمورات وترك المنهيات؛ لأن القلب أمير البدن، وذلك يدل دلالة واضحة على أن القلب ما كان كذلك إلَّا لأنه محل العقل الذي به الإدراك والفهم كما ترى. وقال تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283]، فأسند الإثم بكتم الشهادة للقلب ولم يسنده للدماغ، وذلك يدل على أن (كتمه) [3] الشهادة الذي هو سبب الإثم واقع عن عمد، وأن محل ذلك العمد القلب؛ وذلك لأنه محل العقل الذي يحصل به الإدراك، وقصد الطاعة وقصد المعصية كما ترى. وقال تعالى في حفصة وعائشة - رضي الله عنهما -: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] أي: مالت قلوبكما إلى أمر تعلمان أنه - صلى الله عليه وسلم - يكرهه، سواء قلنا إنه تحريم شرب العسل -الذي كانت تسقيه إياه إحدى نسائه -أو قلنا إنه تحريم جاريته مارية. فقوله: {صَغَتْ __________ (1) أخرجه البخاري (الصحيح مع الفتح: 1/ 126)، ومسلم: (1599). [1] قال معد الكتاب للشاملة: زيادة من (أ). [2] قال معد الكتاب للشاملة: في (أ): لك. [2] قال معد الكتاب للشاملة: في (أ): كتم.
(الكتاب/29)
قُلُوبُكُمَا} أي: مالت. يدل على أن الإدراك وقصد الميل المذكور محله القلب، ولو كان الدماغ لقال: فقد صغت أدمغتكما كما ترى. ولما ذكر كل من اليهود والمشركين أن محل عقولهم هو قلوبهم قررهم الله على ذلك؛ لأن كون القلب محل العقل حق، وأبطل دعواهم من جهة أخرى، وذلك يدل بإيضاح على أن محل العقل القلب. أما اليهود لعنهم الله، فقد ذكر الله ذلك عنهم في قوله تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} الآية [البقرة: 88] فقال: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155]. فقولهم: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} بسكون اللام يعنون أن عليها غلافًا، أي: غشاء يمنعها من فهم ما تقول، فقررهم الله على أن قلوبهم هي محل الفهم والإدراك، لأنها محل العقل، ولكن كذبهم في ادعائهم أن عليها غلافًا مانعًا من الفهم، فقال على سبيل الإضراب الإبطالي: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيهَا بِكُفْرِهِمْ} الآية، وأما على قراءة ابن عباس {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} بضمتين (1) يعنون أن قلوبهم كأنها غلاف محشو بالعلوم والمعارف، فلا حاجة لنا إلى ما (تدعوننا) [1] إليه، وذلك يدل على علمهم بأن محل العلم والفهم القلوب لا الأدمغة. وأما المشركون فقد ذكر الله ذلك عنهم في قوله تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ [وَمِنْ بَينِنَا وَبَينِكَ حِجَابٌ] [2]} الآية [فصلت: 5]، فكانوا عالمين بأن محل العقل القلب، ولذا قالوا: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيهِ}، ولم يقولوا: أدمغتنا في أكنة مما تدعونا إليه، والله لم يكذبهم في ذلك، ولكنه وبخهم على كفرهم بقوله: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَينِ} الآية [فصلت: 9]. __________ (1) انظر: تفسير القرطبي: 2/ 25، والبحر المحيط: 1/ 301. [1] قال معد الكتاب للشاملة: في (أ): تدعونا. [2] قال معد الكتاب للشاملة: غير موجودة في (أ).
(الكتاب/30)
وهذه الآيات التي أطلق فيها القلب مرادًا به العقل لأن القلب هو محله، أوضح الله [ذلك] [1] المراد منها بقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: 46] فصرح بأنهم يعقلون بالقلوب، وهو يدل على أن محل العقل القلب دلالة لا مطعن فيها كما ترى. وقال تعالى: {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى: 24] ولم يقل: يختم على دماغك، وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} الآية [الأنعام: 46]، ولم يقل: وختم على أدمغتكم. وقال تعالى في النحل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108)}. وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} الآية [الحجرات: 3] ولم يقل: امتحن أدمغتهم. وقال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} الآية [الحجرات: 7]. والآيات بمثل هذا كثيرة، ولنكتف منها بما ذكرنا خشية الإطالة المملة. وأما الأحاديث المطابقة للآيات التي ذكرنا الدالة على أن محل العقل القلب، فهي كثيرة جدًّا كالحديث الصحيح الذي (ذكر) [2] والذي فيه: "ألا وهي القلب" (1)، ولم يقل فيه: ألا وهي الدماغ، وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" (2)، ولم يقل: يا مقلب الأدمغة ثبت __________ (1) تقدم قريبًا. (2) أخرجه أحمد: 19/ 160، والترمذي: 2140، وابن ماجه: 3834، وغيرهم عن أنس - رضي الله عنه -. = [1] قال معد الكتاب للشاملة: زيادة من (أ). [2] قال معد الكتاب للشاملة: في (أ): ذكرتم.
(الكتاب/31)
دماغي على دينك، وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: "قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن" (1) [الحديث] [1]، وهو من أحاديث الصفات، ولم يقل: دماغ المؤمن إلخ. والأحاديث بمثل هذا كثيرة جدًّا فلا نطيل بها الكلام، وقد تبين مما ذكرنا أن خالق العقل وواهبه للإنسان بيَّن في آيات قرآنية كثيرة أن محل العقل القلب، وخالقه أعلم بمكانه من كفرة الفلاسفة، وكذلك رسوله - صلى الله عليه وسلم - كما رأيت. أما عامة الفلاسفة إلَّا القليل النادر منهم فإنهم يقولون: إن محل العقل الدماغ، وشذت طائفة من متأخريهم فزعموا أن العقل ليس له مركز مكاني في الإنسان أصلًا، وإنما هو زماني محض لا مكان له، وقول هؤلاء أظهر سقوطًا من أن نشتغل بالكلام عليه. ومن أشهر الأدلة التي يستدل بها القائلون إن محل العقل الدماغ هو أن كل شيء يؤثر في الدماغ يؤثر في العقل، ونحن لا ننكر أن العقل قد يتأثر بتأثر الدماغ، ولكن نقول بموجبه، فنقول: سلمنا أن العقل قد يتأثر بتأثر الدماغ، ولكن لا نسلم أن ذلك يستلزم أن محله الدماغ، وكم من عضو من أعضاء الإنسان خارج عن الدماغ بلا نزاع، وهو يتأثر بتأثر الدماغ كما هو معلوم، وكم من شلل في بعض أعضاء الإنسان ناشئ (عن اختلاف) [2] واقع في الدماغ، فالعقل خارج عن الدماغ، ولكن سلامته مشروطة بسلامة الدماغ، كالأعضاء __________ = وفي الباب عن غيره من الصحابة كعبد الله بن عمرو بن العاص وجابر -رضي الله عنهم-. وهو حديث ثابت صحيح. انظر: السنة لابن أبي عاصم مع تخريجه: 1/ 103، 104. (1) أخرجه مسلم: 3654. [1] قال معد الكتاب للشاملة: زيادة من (أ). [2] قال معد الكتاب للشاملة: في (أ): من اختلال.
(الكتاب/32)
التي تختل باختلال الدماغ فإنها خارجة عنه، مع أن سلامتها (مشروطة) [1] فيها سلامة الدماغ كما هو معروف. وإظهار حجة هؤلاء والرد عليها -على الوجه المعروف في آداب البحث والمناظرة-: أن حاصل دليلهم أنهم يستدلون بقياس منطقي (1) من الشرطي المتصل المركب من شرطية متصلة لزومية واستثنائية يستثنون فيه نقيض التالي فينتج لهم في زعمهم دعواهم المذكورة التي هي نقيض المقدم. وصورته أنهم يقولون: لو لم يكن العقل في الدماغ لما تأثر بكل مؤثر على الدماغ، لكنه يتأثر بكل مؤثر على الدماغ، ينتج العقل في الدماغ. وهذا الاستدلال مردود بالنقض التفصيلي الذي هو المنع، وذلك بمنع كبراه التي هي شرطيته، (فنقول: المانع منع قولك) [2] لو لم يكن العقل في الدماغ لما تأثر بكل مؤثر (في) [3] الدماغ، بل هو خارج عن الدماغ مع أنه (يتأثر بكل مؤثر على الدماغ) [4] كغيره من الأعضاء التي تتأئر بتأثر الدماغ، فالربط بين التالي والمقدم غير صحيح، والمحل الذي يتوارد عليه الصدق والكذب في الشرطية إنما هو الربط بين مقدمها وتاليها، فإن لم يكن الربط صحيحًا كانت كاذبة، والربط في قضيتهم المذكورة كاذب، فظهر بطلان دعواهم. __________ (1) انظر حول هذا القياس المنطقي: الإحكام للآمدي: 4/ 125، والإيضاح في الجدل: 78، 79 ليوسف بن الجوزي، وآداب البحث والمناظرة: 1/ 90 - 92 للشيخ، طبعة مكتبة ابن تيمية - القاهرة، وطرق الاستدلال ومقدماتها: 252، 256 ليعقوب الباحسين. [1] قال معد الكتاب للشاملة: في (أ): يشترط. [2] قال معد الكتاب للشاملة: في (أ): فبقول المانع: امنع قولك: ... [3] قال معد الكتاب للشاملة: في (أ): على. [4] قال معد الكتاب للشاملة: في (أ): يتأثر بتأثر الدماغ.
(الكتاب/33)
وهناك طائفة ثالثة أرادت أن تجمع بين القولين، فقالت: إن ما دل عليه الوحي من كون محل العقل هو القلب صحيح، وما يقوله الفلاسفة ومن وافقهم من أن محله الدماغ صحيح أيضًا، فلا منافاة بين القولين. قالوا: ووجه الجمع أن العقل في القلب كما في القرآن والسنة ولكن نوره يتصاعد من القلب فيتصل بالدماغ وبواسطة اتصاله بالدماغ يصدق عليه أنه في الدماغ من غير منافاة لكون محله هو القلب (1). قالوا: وبهذا يندفع التعارض بين النظر العقلي الذي زعمه الفلاسفة وبين الوحي. واستدل بعضهم لهذا الجمع بالاستقراء غير التام، وهو المعروف في الأصول بإلحاق الفرد بالغالب، وهو حجة ظنية عند (جماعة) [1] الأصوليين (2) وإليه أشار صاحب مراقي السعود في كتاب الاستدلال في الكلام على أقسام الاستقراء بقوله: وهو لدى (3) البعض إلى الظن انتسبْ ... يُسْمى لحوقَ الفرد بالذي غلبْ (4) __________ (1) ممن نحى هذا المنحى أبو الحسن التميمي من الحنابلة. كما في العدة: 1/ 89 لأبي يعلى، والمسودة: 2/ 982، واختاره ابن القيم في كتابه أقسام القرآن 2/ 275، ومفتاح دار السعادة: 1/ 195، ونسبه شيخ الإسلام ابن تيمية إلى طائفة من أصحاب أحمد. كما في مجموع الفتاوى: 9/ 303، وذكره الماوردي في الحاوي: 12/ 247 بدون نسبة، وانظر: البحر المحيط: 1/ 88. (2) انظر: البحر المحيط: 6/ 10، وشرح تنقيح الفصول: 448، وشرح الكوكب المنير: 4/ 419، وأضواء البيان: 2/ 5 و 5/ 329. (3) في متن المراقي: "في" بدل: "لدى". قال معد الكتاب للشاملة: في (أ): في. (4) مراقي السعود: 102، والمراقي أيضًا مع نشر البنود: 2/ 251، ومع مراقي السعود: 396، ومع نثر الورود: 567، ومع فتح الودود: 184. [1] قال معد الكتاب للشاملة: في (أ): جماعات.
(الكتاب/34)
ومعلوم أن الاستقراء هو تتبع الأفراد حتى يغلب على ظنه أن ذلك الحكم مطرد في جميع الأفراد، وإيضاح هذا أن القائلين بالجمع المذكور بين الوحي وأقوال أهل الفلسفة في محل العقل. قالت جماعة منهم: دليلنا على هذا الجمع الاستقراء غير التام، وذلك أنهم قالوا: تتبعنا أفراد الإنسان الطويل العنق طولًا مفردًا زائدًا على المعهود زيادة بينة، فوجدنا كل طويل العنق طولًا مفرطًا ناقص العقل، وذلك لأن طول العنق طولًا مفرطًا يلزمه بعد المسافة بين طريق نور العقل الكائن في القلب وبين المتصاعد منه إلى الدماغ، وبعد المسافة بين طرفيه يؤدي إلى عدم تماسكه واجتماعه فيظهر فيه النقص. وهذا الدليل كما ترى ليس فيه مقنع وإن كان يشاهد مثله في الخارج كثيرًا، فتحصل من هذا أن الذي يقول إن العقل في الدماغ وحده وليس في القلب منه شيء أن قوله في غاية البطلان، لأنه مكذب لآيات وأحاديث كثيرة كما ذكرنا بعضه. وهذا القول لا يتجرأ عليه مسلم إلَّا إن كان لا يؤمن بكتاب الله ولا بسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهو إن كان كذلك ليس بمسلم. ومن قال: إنه في القلب وحده، وليس في الدماغ منه شيء، فقوله هو ظاهر كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقم دليل جازم قاطع من نقل ولا عقل على خلافه. [*وادعاء بعض متأخريهم أنهم راقبوا المفكر وقت تفكيره، وتوصلوا ببعض الأجهزة لمحل الحركة الفكرية فوجدوه في الدماغ، وذلك يدل على أنه في الدماغ، فليس فيه مقنع، ولو كان لا يخالف الوحي، فكيف وهو يخالف كلام الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- ولا ملازمة بين الحركة والإدراك، ولا مانع من كون الحركة في الدماغ، والإدراك في القلب، ولو كانت الحركة تستلزم أن يكون محلها محل الإدراك، فإن القلب أكثر حركة من الدماغ، وإن قالوا: القلب يتحرك دائمًا، والحركة الدماغية تختص بوقت الفكر، فهي أخص بالإدراك من القلب، فالجواب بالمنع، بل الأنسب أن يكون الإدراك بما هو أكثر حركة؛ إذ لا مانع من أن حركته وقت التفكير هي التي بها الإدراك؛ ولأن الإنسان لا يخلو غالبًا من تفكير، وحركته وقت النوم الذي ليس فيه تفكير لا يمتنع عقلًا الإدراك بحركته وقت التفكير، والوحي يشهد له؛ لأن محل الإدراك في القلب، وعلى كل حال فالعقل السليم لا يجزم باستلزام الحركة محل الإدراك، والآيات القرآنية التي قدمنا تدل على أن محل العلم والفقه الذي هو الفهم بكثرة هو القلب، ومما يوضح ذلك ترتيبه نفي العلم والفقه بالفاء على الطبع على القلب، والفاء من حروف التعليل، كقولهم: سرق فقطعت يده، أي: لعلة سرقته، وسها فسجد، أي: لعلة سهوه. ومن الآيات التي قدمنا قوله تعالى في التوبة: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} [التوبة، الآية (87)]، فترتيبه: {فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} بـ "الفاء" على قوله: {وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} يدل على أن نفي الفقه الذي هو العلم عنهم، علته الطبع على القلب، ونظيره قوله في سورة المنافقين: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ ... } [المنافقون، الآية (3)]، فرتب عدم الفقه على الفقه بـ "الفاء" على الطبع، ونظيره قوله في التوبة أيضًا: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [التوبة، الآية (93)]، فرتَّب أيضًا نفيَ العلم بـ "الفاء" على الطبع على قلوبهم، فدلَّ على أن الطبعَ على القلب هو علةُ عدمِ الفهم، أي: فهم لا يفقهون؛ لعلة الطبع على قلوبهم، فهم لا يعلمون؛ لعلة الطبع على قلوبهم، والآيات القرآنية لم تجعل للدماغ أثرًا في العلم ولا في الفهم ألبتة كما ترى*] [1]. ومن جمع بين القولين، فقوله جائز عقلًا، ولا تكذيب فيه للكتاب ولا للسنة، [و] [2] لكنه يحتاج إلى دليل يجب الرجوع إليه، ولا دليل عليه من النقل، فإن قام عليه دليل من عقل، أو استقراء محتج به، فلا مانع من قبوله. والعلم عند الله تعالى. وهذا ما يتعلق بالمسألة الأولى. __________ [1] قال معد الكتاب للشاملة: ما بين المعقوفين من قوله -رحمه الله-: "وادعاء بعض متأخريهم ... "، إلى قوله: " ... كما ترى" ساقط من المطبوع، وزيادة من (أ). [2] قال معد الكتاب للشاملة: ما بين المعقوفين ساقط من المطبوع، وزيادة من (أ).
(الكتاب/35)
وأما الجواب عن المسألة الثانية، فهو أن ما ذكرتم من أن القرآن [العظيم] [1] فرَّق بين المشركين وبين أهل الكتاب، واستشهدتم لذلك بآية المائدة: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} الآية [المائدة: 82]، فهو كما ذكرتم؛ لأن العطف يقتضي بظاهره الفرق بين المعطوف والمعطوف عليه. وقد تكرر في القرآن عطف بعضهم على بعض، كالآية التي تفضلتم بذكرها، وكقوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ} الآية [البينة: 1]، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} الآية [البينة: 6]، وقوله تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيكُمْ مِنْ خَيرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} الآية [البقرة: 105]، وقوله تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} الآية [آل عمران: 186]، إلى غير ذلك من الآيات. وظاهر العطف يقتضي المغايرة بين المتعاطفين؛ لأن عطف الشيء على نفسه يحتاج إلى دليل خاص يجب الرجوع إليه مع بيان المسوغ لذلك، كما هو معلوم في محله. وما تفضلتم بذكره من أن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - أمر بإلحاق أهل الكتاب بالمشركين في عدم دخول المسجد الحرام (1)، __________ (1) أخرجه ابن جرير في تفسيره: 11/ 398، وأبو الشيخ كما في الدر المنثور: 4/ 165، وأبو نعيم في الحلية: 5/ 325، عن الأوزاعي قال: كتب عمر بن عبد العزيز أن يمنع أن يدخل اليهود والنصارى المساجد، وأتبع نهيه: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}. وأخرجه ابن أبي شيبة: 2/ 527، 6/ 512، 513، والبيهقي 10/ 103 بمعناه. وانظر: مسائل إسحاق بن منصور الكوسج: المسألة رقم (483)، وتفسير ابن كثير: 4/ 73. [1] قال معد الكتاب للشاملة: ما بين المعقوفين ساقط من المطبوع، وزيادة من (أ).
(الكتاب/36)
فمستنده المسوغ له أن الله جل وعلا صرَّح في سورة التوبة أن أهل الكتاب من يهود ونصارى من جملة المشركين، (وإذا) [1] جاء التصريح في القرآن العظيم بأنهم من المشركين، فدخولهم في عموم قوله تعالى [2]: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} الآية [التوبة: 28]، لا إشكال فيه، وآية التوبة التي بيَّن الله فيها أنهم من جملة المشركين، هي قوله (تعالى) [3]: {وَقَالتِ الْيَهُودُ عُزَيرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} فتأمل قوله (تعالى) [4] في اليهود والنصارى: {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} يظهر لك صدق اسم الشرك عليهم، فيتضح إدخالهم في عموم: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (1). ووجه الفرق بينهم بعطف بعضهم على بعض، هو أنهم جميعًا __________ (1) يقول ابن القيم في أحكام أهل الذمة: 1/ 189 بعد أن ذكر القولين في دخول أهل الكتاب في لفظ المشركين في الآية: قال شيخنا: والتحقيق أن أصل دينهم دين التوحيد، فليسوا من المشركين في الأصل، والشرك طارئ عليهم، فهم منهم باعتبار ما عرض لهم، لا باعتبار أصل الدين، فلو قدر أنهم لم يدخلوا في لفظ الآية، دخلوا في عمومها المعنوي، وهو كونهم نَجَسًا، والحكم يعم بعموم علته. اهـ. [1] قال معد الكتاب للشاملة: في (أ): وإذ. [2] قال معد الكتاب للشاملة: في (أ): آية. [3] قال معد الكتاب للشاملة: في (أ): جل وعلا. [4] قال معد الكتاب للشاملة: غير موجودة في (أ).
(الكتاب/37)
مشركون، والمغايرة التي سوغت عطف بعض المشركين على بعض، هي اختلافهم في نوع الشرك، فشرك المشركين غير أهل الكتاب، كان شركًا في العبادة، لأنهم يعبدون الأوثان، وأهل الكتاب لا يعبدون الأوثان، فلا يشركون هذا النوع من الشرك، ولكنهم يشركون شرك ربوبية، كما أشار له تعالى بقوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية، ومن اتخذ أربابًا من دون الله فهو مشرك به في ربوبيته، وادعاء أن عزيرًا ابن الله والمسيح ابن الله من الشرك في الربوبية، [ولما كان الشرك في الربوبية] [1] يستلزم الشرك في العبادة، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}. وما ذكرتم من أن عطاءً رحمه الله جعل المسجد يشمل (الكل) [2] (1)، وأن المسلمين درجوا على ذلك إلى الآن، فهي مسألة: هل يجوز دخول الكفار لمسجد من مساجد المسلمين غير المسجد الحرام المنصوص على منع دخولهم له بعد عام تسع من الهجرة في قوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28]. والعلماء مختلفون: هل يجوز دخول الكفار مسجدًا غير المسجد الحرام أو لا؟ فذهب مالك وأصحابه ومن وافقهم (2) إلى أنه لا يجوز أن يدخل __________ (1) أخرجه عنه عبد الرزاق في المصنف: 6/ 52، 53، وابن أبي حاتم: 6/ 1776، وابن جرير: 11/ 398، والنحاس في الناسخ والمنسوخ: 2/ 428. وانظر: تفسير القرطبي: 8/ 104، وفتح الباري: 3/ 64. (2) ممن ذهب إلى هذا من الصحابة عمر وأبو موسى الأشعري - رضي الله عنهما -. انظر: أحكام أهل الذمة: 1/ 191، والناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/ 429، والذخيرة للقرافي: 1/ 315، وتفسير القرطبي: 8/ 154، وفتح الباري لابن رجب: 3/ 563. [1] قال معد الكتاب للشاملة: ما بين المعقوفين ساقط من المطبوع، وزيادة من (أ). [2] قال معد الكتاب للشاملة: في (أ): الحل. وكتب المعلق على نسخة (أ) حاشية على هذا الموضع فقال: هكذا بالأصل، وفي (أ): (الكل)، وهي مذكورة في نص سؤال الشيخ محمد الأمين بن محمد الخضر رحمه الله: "الحل"، ويوهم رسمها كذلك: "الكل". ولعل الشيخ -رحمه الله- يريد (الحرم) بدليل أن الذي ورد عن عطاء حول هذا المعنى أخرجه عبد الرزاق (9980، 9981، 19356)، وابن جرير في تفسيره (11/ 398)، وابن أبي حاتم (6/ 1776)، والنحاس في ناسخه (ص 497)، من طريق ابن جريج، وفيه أنه قال: "الحرم كله قبلة ومسجد، قال: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} لم يعن المسجد وحده، إنما عنى مكة الحرم"، وقال عطاء في قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} "الحرم كله" كما في المصنف لعبد الرزاق (5/ 151)، وبنحو هذا جاء عن عمرو بن دينار؛ أخرجه عبد الرزاق (6/ 52)، والنحاس في ناسخه (ص 497)، وورد أيضًا عن ابن عباس، ومجاهد وغيرهما، راجع: أخبار مكة للأزرقي (2/ 106، 138، 139)، والفاكهي (3/ 365)، والدر المنثور (4/ 631) -رحم الله الجميع-.
(الكتاب/38)
الكافر مسجدًا من مساجد المسلمين مطلقًا، واستدلوا لذلك بأدلة منها آية التوبة (1)، وإن كانت خاصة بالمسجد الحرام، فعلة حكمها (يقتضي) [1] تعميمه في جميع المساجد، وقد تقرر في الأصول أن العلة قد تعمم معلولها تارة، وقد تخصصه (أخرى) [2] (2)، كما أشار إليه صاحب مراقي السعود، بقوله في الكلام على العلة (بقوله) [3]: وقد تُخَصِّصُ وقد تُعمِّمُ ... لأصلها لكنها لا تَخْرِمُ (3) وإذا علمت أن العلة تعمم معلولها الذي لفظه خاص، فاعلم أن مسلك العلة المعروف بمسلك الإيماء والتنبيه دلَّ على أن علة منع قربان المشركين المسجد الحرام بعد عام تسع، أنهم نجس، وذلك واضح من ترتيب الحكم بالنهي عن (قربان المسجد) [4] بالفاء، على كونهم نجسًا، في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}، ثم رتَّب على ذلك بالفاء قوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} الآية. ومعلوم أن جميع المساجد تجب صيانتها عن دخول النجس فيها، فكونهم نجسًا يقتضي تعميم الحكم في كل المساجد. واستدل مالك ومن وافقه أيضًا على منع دخول الكفار المساجد __________ (1) هي الآية (28) من سورة التوبة {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}. (2) انظر في هذا -خاصة في تعميمها لمعلولها-: نشر البنود: 3/ 143، ونثر الورود: 473، وأضواء البيان: 1/ 14، 13 و 2/ 139 و 6/ 584. (3) مراقي السعود: 85، والمراقي أيضًا مع نشر البنود: 2/ 142، ومع مراقي السعود: 333، ومع نثر الورود: 473، ومع فتح الودود: 147. [1] قال معد الكتاب للشاملة: في (أ): تقتضي. [2] قال معد الكتاب للشاملة: في (أ): تارة. [3] قال معد الكتاب للشاملة: غير موجودة في (أ). [4] قال معد الكتاب للشاملة: في (أ): قربانها.
(الكتاب/39)
مطلقًا بآية البقرة على بعض التفسيرات التي فسرت بها، وهي قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إلا خَائِفِينَ} [البقرة: 114] فقد فسر قوله تعالى: {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا (إلا خَائِفِينَ) [1]} أي: ليس لهم دخول المساجد إلَّا مسارقة خائفين من المسلمين أن يطلعوا عليهم فيخرجوهم منها، (وينكلوهم) [2] (1)، وفي تفسير الآية أقوال غير هذا (2). وسواء قلنا إن تخريب المساجد حسي، كما فعلت (الرومان) [3] وبختنصر بالمسجد الأقصى المشار إليه بقوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)} [الإسراء: 7]، أو قلنا إن تخريب المساجد المذكور في الآية تخريب معنوي، وهو منع المسلمين من التعبد فيها، كما فعل المشركون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عام الحديبية، كما قال تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الفتح: 25]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25]، وقوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} الآية [المائدة: 2]، وقال تعالى: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} الآية [البقرة: 217]. ومن الآيات التي تشير إلى أن عمارة المساجد هي طاعة الله فيها: __________ (1) تفسير القرطبي: 2/ 78. (2) انظر: المحرر الوجيز: 1/ 334، القرطبي: 2/ 78. [1] قال معد الكتاب للشاملة: غير موجودة في (أ). [2] قال معد الكتاب للشاملة: في (أ): وينكلوا بهم. [3] قال معد الكتاب للشاملة: في (أ): الروم.
(الكتاب/40)
قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} الآية [التوبة: 18]. وأما من قال من أهل العلم بجواز دخول الكفار جميع مساجد المسلمين غير المسجد الحرام (1)، فقد احتجوا بأن الله إنما نهى عن ذلك في خصوص المسجد الحرام في قوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} الآية [التوبة: 28]، وقالوا: ويُفهم من تخصيص المسجد الحرام بالذكر، أن غيره من المساجد ليس كذلك. واحتجوا لذلك بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ربط ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، لما جيء به أسيرًا في سارية من سواري المسجد، وهو مشرك قبل إسلامه (2). قالوا: وقد أنزل - صلى الله عليه وسلم - وفد (نصارى) [1] نجران بالمسجد في المدينة، وهم نصارى (3)، (وكان قدوم وفد نصارى نجران متأخرا) [2]؛ لأنهم أعطوا الجزية، لما خافوا من المباهلة، والجزية إنما نزلت في سورة براءة، ونزولها كان في رجوعه - صلى الله عليه وسلم - من غزوة تبوك، وغزوة تبوك (كانت في) [3] سنة تسع بلا خلاف. ومن قال من أهل العلم بأنه لا يجوز دخول الكافر مسجدًا من مساجد المسلمين إلَّا بأمان من مسلم (4)، فقد احتج لذلك بقوله تعالى: {وَمَنْ __________ (1) هذا مذهب الشافعي. انظر: الأحكام السلطانية للماوردي: 167، وإعلام الساجد للزركشي: 174. (2) أخرجه البخاري (الصحيح مع الفتح: 1/ 555)، ومسلم: حديث رقم (1764). (3) ينظر: طبقات ابن سعد: 1/ 357، والسيرة لابن هشام: 1/ 573. (4) هذا مذهب أحمد في الصحيح عنه. انظر: المغني: 13/ 246، وتحفة الراكع والساجد: 206. [1] قال معد الكتاب للشاملة: غير موجودة في (أ). [2] قال معد الكتاب للشاملة: في (أ): وقدوم وفد نجران متأخر. [3] قال معد الكتاب للشاملة: غير موجودة في (أ).
(الكتاب/41)
أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إلا خَائِفِينَ}، قالوا: قوله (تعالى) [1]: {مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إلا خَائِفِينَ} يدل على أن من دخلها بأمان مسلم، فقد دخلها خائفًا، بحيث لا يتمكن من دخولها إلا بأمان مسلم لخوفه لو دخلها بغير أمان. وأما من قال من أهل العلم (أن) [2] قوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ} الآية يشمل الحرم كله (1)، ولا يختص بالمسجد الحرام المنصوص عليه في الآية، فحجته هي ما علم منه إطلاق المسجد الحرام وإرادة الحرم كله، كقوله تعالى: {إلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [التوبة: 7]، ومعلوم أن المعاهدة كانت في طرف الحديبية الذي هو داخل في الحرم كما قاله غير واحد (2). وقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الآية [الإسراء: 1]، وكان الإسراء به من بيت أم هانئ (3) لا من __________ (1) وهو قول عطاء كما تقدم ص (38). (2) انظر: العذب النمير: 5/ 2143. (3) وهو قول أكثر المفسرين. كما ذكره ابن الجوزي في زاد المسير: 5/ 4، ويؤيد ذلك الروايات التي فيها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فُرِج سقف بيتي ... " كما في صحيح البخاري وغيره. انظر: الصحيح مع الفتح: 1/ 458. ورواية الإسراء به - صلى الله عليه وسلم - من بيت أم هانئ ذكرها ابن هشام في السيرة: 2/ 9 نقلًا عن ابن إسحاق فيما بلغه عن أم هانيء رضي الله عنها قالت: "ما أسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا وهو في بيتي ... " وذكرت بقية القصة. وهي عند أبي يعلى في مسنده -كما في تفسير ابن كثير: 5/ 39، ومجمع الزوائد: 1/ 75، وفي سندها أبو صالح باذام وهو ضعيف، وعند الطبراني في الكبير: 24/ 432 - 434 وفي سندها راو متروك، وعند ابن جرير في التفسير: 14/ 414، والبيهقي في دلائل النبوة: 2/ 404، 405 من طريق محمد بن إسحاق. والذي في الصحيحين وغيرهما أنه أسري به - صلى الله عليه وسلم - من المسجد الحرام كما رواه البخاري (الصحيح مع الفتح: 7/ 201) -واللفظ له- ومسلم: (164)، من حديث مالك بن صعصعة رضي الله عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "بينما أنا في الحطيم -وربما قال في الحجر- مضطجعًا إذ أتاني آت ... " الحديث. وانظر: البداية لابن كثير: 4/ 275، والتفسير له: 5/ 38، 39، وفتح الباري: 7/ 204، والخصائص الكبرى للسيوطي: 1/ 439. [1] قال معد الكتاب للشاملة: غير موجودة في (أ). [2] قال معد الكتاب للشاملة: كذا بالمطبوع، وصوابه: إن، وهي على الصواب في (أ).
(الكتاب/42)
نفس المسجد الحرام على القول بذلك. وكقوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} الآية [المائدة: 95]، والهدي ينحر في الحرم كله، وأكبر (منحره) [1] منى. وقوله تعالى: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ} الآية [البقرة: 217]، وهم مخرجون من مكة لا من نفس المسجد، ونحو ذلك من الآيات (1). والعلم عند الله تعالى. فتحصل أن محل العقل القلب، وأنه لا مانع من اتصال طرف نوره الريحاني (2) بالدماغ، وعليه لا تخالف بين القولين، و [أن] [2] هذا إن قام عليه دليل فلا مانع من (القول به) [3]، ونحن لا نعلم عليه دليلا مقنعًا. وأن عمر بن عبد العزيز ألحق أهل الكتاب بالمشركين لآية التوبة __________ (1) قال الزركشي: "ذكر الله المسجد الحرام في كتابه العزيز في خمسة عشر موضعًا ... " ثم سردها كلها. إعلام الساجد: 59، 60، ومثله في تحفة الراكع والساجد: 73، 74 للجراعي. وقال الماوردي: "كل موضع ذكر الله سبحانه في كتابه المسجد الحرام، فإنه أراد به الحرم إلا في قوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فإنه أراد به الكعبة. الحاوي: 4/ 50 و 14/ 335. وانظر: إعلام الساجد: 60، وتفسير القرطبي: 2/ 159، وقارن بمجموع الفتاوى: 22/ 206. (2) هكذا في الأصل: "الريحاني" ولعل الصواب: "الروحاني" كما تقدم. قال معد الكتاب للشاملة: في (أ): الروحاني. [1] قال معد الكتاب للشاملة: في (أ): منحر منه. [2] قال معد الكتاب للشاملة: ما بين المعقوفين ساقط من المطبوع، ومثبتة من (أ). [3] قال معد الكتاب للشاملة: في (أ): قبوله.
(الكتاب/43)
التي ذكرنا، وأن جعل حكم جميع الحرم المكي كحكم المسجد (الحرام) [1] (دليل) [2] استقراء الآيات التي جاءت بنحو ذلك، وقد رأيت حجج من منعهم دخول المساجد غير المسجد الحرام، ومن أجاز ذلك، ومن فرق. ولا يخفى أن الذين يجزمون بأن محل العقل الدماغ، ولا صلة له بالقلب أصلًا أنهم في جهلهم كما قالت الراجزة (لزوجها) [3]: شِنْظِيرَةٌ، زَوَّجنيه أهلي ... من جهله يحسب رأسي رجلي (1) اهـ. (والحمد لله) [4]. __________ (1) هذا الرجز أنشده ابن الأعرابي لامرأة من العرب وثالثهما: *كأنه لم يرَ أنثى قبلي * والشنظيرة والشنظير: السيء الخلق من الإبل والرجال. انظر: اللسان: 4/ 431. [1] قال معد الكتاب للشاملة: غير موجودة في (أ). [2] قال معد الكتاب للشاملة: في (أ): دليله. [3] قال معد الكتاب للشاملة: في (أ): في زوجها. [4] قال معد الكتاب للشاملة: غير موجودة في (أ).
(الكتاب/44)
الفتوى الثالثة التعليل بالحكمة
(الكتاب/45)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إلى حضرة الأخ المكرم الأستاذ عبد الله بن سليمان المنيع (1) سلمه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وهذا جواب سؤالكم: اعلم أولًا: أن الحكمة هي التي من أجلها صار الوصف المعلل به علة للحكم، وهي عبارة عن جلب مصلحة أو تكميلها أو دفع مفسدة أو تقليلها، فتحريم شرب المسكر مثلًا حكم، وعلته الإسكار، وحكمته حفظ العقل من الاختلاف، ووجوب الولاية على مال الصغير حكم، وعلته الصغر، والحكمة حفظ ماله، وهكذا (2). وعلماء الأصول مختلفون في جواز التعليل بالحكمة، فأجاز ذلك بعضهم ومنعه بعضهم (3)، وقال قوم إن كان الوصف منضبطًا علل به، وإن لم يكن منضبطًا جاز التعليل بحكمته (4)، وعلى هذا التعليل درج __________ (1) عضو هيئة كبار العلماء. (2) انظر في تعريف الحكمة وبيان معناها: تنبيه الرجل العاقل: 1/ 115، والمعيار المعرب: 1/ 349، وأضواء البيان: 5/ 340. (3) ممن أجازه الفخر الرازي والبيضاوي، وأما الذين منعوه فالأكثرون، كما عبَّر به الآمدي. انظر: المحصول للرازي: 2/ 389، ومنهاج الوصول للبيضاوي مع شرحه نهاية السول للأسنوي: 4/ 265، ومع شرحه الإبهاج للسبكي: 3/ 150، والإحكام للآمدي: 3/ 186. (4) وهذا اختيار الآمدي كما في الإحكام له: 3/ 186. وقد بحث هذه المسألة بشيء من التفصيل مع ذكر الأدلة والاعتراضات =
(الكتاب/47)
صاحب مراقي السعود بقوله: ومن شروط الوصف الانضباطُ ... إلَّا فحكمةٌ بها يناط وهي التي من أجلها الوصف جرى ... علةَ حكمٍ عند كل من درى (1) وقال القرافي في شرحه لتنقيحه مبينًا وجه جواز التعليل بالحكمة: حجة الجواز أن الوصف إذا جاز التعليل به فأولى بالحكمة لأنها أصله، وأصل الشيء لا يقصر عنه، ولأنها نفس المصلحة ودرء المفسدة، فالاعتماد عليها أولى من الاعتماد على فرعها (2). انتهى منه مع تصرف بحذف بعض الكلمات لا يخل بشيء من المعنى. واعلم: أن التحقيق في هذه المسألة هو التفصيل، ففي بعض الأحوال يجوز التعليل بالحكمة، وفي بعضها لا يجوز، وإيضاح ذلك أن له ثلاث حالات: الأولى: أن يوجد الوصف والحكمة معًا؛ كوجود الإسكار في شرب المسكر، ووجود الحكمة التي من أجلها صار الإسكار علة لتحريم شرب المسكر، وهي حفظ العقل من الاختلال. والأظهر في هذه الصورة أنه كما يجوز التعليل بالإسكار، يجوز التعليل بالحكمة، فلا مانع من أن نقول شرب المسكر حرام لأجل حفظ العقل من الاختلاف، والتعليل بالوصف أقرب. __________ = عليها: الدكتور أحمد محمود عبد الوهاب الشنقيطي في كتابه: الوصف المناسب لشرع الحكم ص 74 - 82، ورجَّح القول بمنع التعليل بالحكمة. والله أعلم. (1) مراقي السعود: 84، والمراقي أيضًا مع نشر البنود: 2/ 126، ومع مراقي السعود: 327، ومع نثر الورود: 463، ومع فتح الودود: 143، 144. (2) شرح التنقيح: 406.
(الكتاب/48)
الحالة الثانية: أن توجد الحكمة دون الوصف المعلل به. الحالة الثالثة: أن يوجد الوصف المعلل به دون الحكمة. وهاتان الحالتان كلتاهما من صور القادح المعروف في الأصول بالكسر (1)، والكسر شامل ثلاث صور: الأولى: وجود الحكمة دون الحكم، وهذه الصورة هي التي فسره ابن قدامة في الروضة بها (2)، وكذلك ابن الحاجب في مختصر الأصول (3). والثانية: وجود الوصف دون الحكمة. والثالثة: إبطال بعض أجزاء العلة إن كانت مركبة، ولم يأت المستدل ببدل صالح من الجزء الذي أبطله المعترض. وقد علمت من هذا أن الكسر ثلاث صور، وأن الوصف والحكمة لهما ثلاث صور أيضًا؛ اثنتان منهما داخلتان في الكسر، وهما: وجود الحكمة دون الحكم، أي الوصف، ووجود الوصف دون الحكمة. وبتحقيق هاتين الصورتين يتبين لك وجه القول بمنع التعليل بالحكمة. __________ (1) انظر حول هذا المصطلح، وفي الاختلاف في كونه قادحًا من قوادح القياس: المسودة: 2/ 798، وجمع الجوامع مع شرحه للجلال المحلى: 2/ 303، ومختصر ابن الحاجب مع شرحه للأصفهاني: 3/ 47، وإرشاد الفحول: 226، ونشر البنود: 2/ 209، ونثر الورود: 531، والمذكرة في أصول الفقه: 295، وآداب البحث والمناظرة "القسم الثاني"، وأضواء البيان: 5/ 429، 430. (2) روضة الناظر: 184. (3) المختصر مع شرحه للأصفهاني: 3/ 47.
(الكتاب/49)
أما الاعتراض على الدليل بالقادح المعروف بالكسر، بسبب وجود الحكمة دون الحكم: فكأن يقول الحنفي: المسافر العاصي بسفره يترخص بقصر الصلاة، والإفطار في رمضان في سفره الذي هو عاصٍ به، قياسًا على المسافر غير العاصي. فيقول المعترض مثلًا: ولم قلت إنه يترخص؟ فيقول: قلت ذلك للمناسبة؛ لأن السفر فيه مشقة، ووجود المشقة مناسب للتخفيف بالرخصة، ففيه انتفاع للمترخص وتسهيل عليه. فيقول المعترض: دليلك هذا يقدح فيه بالكسر، وهو وجود الحكمة دون الحكم؛ لأن المقيم بالحضر إن كان يزاول أعمالًا شاقة كحمل الأثقال العظيمة، وما يوجب القرب من النار الشديد حرها في شدة القيظ في الأقطار الحارة، تلحقه بذلك مشقة أعظم من مشقة السفر. فالحكمة موجودة وهي تخفيف المشقة بالترخيص له في القصر والإفطار، مع أن الحكم هنا معدوم، وهو جواز القصر والإفطار. ومن هنا تعلم أنه في هذه الصورة لا يجوز التعليل بالحكمة، ولو كان التعليل يجوز بها هنا لكان صاحب الصنعة الشاقة في الحضر يفطر في رمضان، ويقصر الصلاة. والقدح بهذا الكسر مردود في هذه الصورة؛ لأن الوصف المعلل به فيها -وهو السفر- معدوم من أصله كما ترى، فعدم وجود الحكم هنا لعدم وجود الوصف المعلل به؛ لأن صاحب الصنعة المذكورة في الحضر لا يوجد فيه الوصف المعلل به وهو في السفر. وأيضًا: إن الإفطار والقصر كلاهما حكم، وعلتهما السفر، والحكمة تخفيف المشقة.
(الكتاب/50)
ففي الصور المذكورة لم يوجد الوصف المعلل به الذي هو السفر، وقد وجدت الحكمة التي هي تخفيف المشقة، ولم يجز التعليل بها في الصورة المذكورة، فعدم الحكم، لذلك فلا يشرع القصر والإفطار لصاحب الصفة المذكورة. واعلم أن قياس الحنفي العاصي بسفره على غير العاصي في جواز الترخص مردود بغير الكسر المذكور، وهو أن تخفيف المشقة عليه إعانة له على ظلمه (1)، والله تعالى يقول: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} الآية [المائدة: 2]. فالسفر علة صحيحة للترخص، ولكنها هنا منع من تأثيرها في حكمها مانع، هو المعصية بالسفر، كما يفهم من قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} الآية [المائدة: 3]، على أظهر التفسيرات. وعلى كل حال فالعاصي في سفره متجانف لإثم، وإذا كان ذلك يمنعه من الترخص بأكل الميتة عند الاضطرار وخوف الموت، فالقصر والإفطار أولى. وأما وجود الوصف المعلل به دون الحكمة، فإنه يوجد في فروع كثيرة في مذاهب الأئمة رحمهم الله، وفي بعض الفروع يراعي بعضهم الوصف المعلل به، ولا يلتفت إلى الحكمة، وعلى قوله هذا فالتعليل بالحكمة ممنوع، وإنما هو بمطلق الوصف العاري عن الحكمة، وربما راعى بعضهم الحكمة، فمنع التعليل بالوصف المجرد عن الحكمة. وعلى هذا القول فهذا النوع من الكسر قادح، ودونك أمثلة عديدة لهذا لتعلم قول من منع التعليل بالحكمة ومن أجازه. __________ (1) ينظر: المجموع (3/ 223)، والمغني: 3/ 116.
(الكتاب/51)
فمن ذلك: من كان منزله على البحر، وركب في سفينة قطعت به مسافة القصر في لحظة، ولم يلحقه شيء قليل ولا كثير من المشقة، فالوصف المعلل به وهو السفر موجود، والحكمة التي هي تخفيف المشقة معدومة، إذ لم يلحقه مشقة أصلًا. فجمهور أهل العلم (1) أجازوا لهذا المسافر الذي قطع مسافة القصر بلا مشقة الترخص بقصر الصلاة والإفطار في رمضان. وعلى قولهم هذا فالتعليل بالحكمة ممنوع، وإنما هو بوصف السفر العاري عن حكمة هنا. ومن ذلك: استبراء الصغيرة. وإيضاحه: أن مبتاع جارية صغيرة لا تحمل لصغرها مع أنها مطيقة للوطء، كابنة تسع سنين، والمشتري يريد تسريها، فعلة وجوب الاستبراء التي هي تجرد (2) الملك موجودة، ولا حكمة هنا؛ لأن حكمة الاستبراء أن تعلم براءة الرحم من الحمل، والصغيرة محققة البراءة. فجماعة من المالكية ومن وافقهم قالوا: يجب استبراؤها (3)؛ لوجود الوصف المعلل به، وإن كانت الحكمة معروفة هنا. وعلى قولهم هذا فلا يجوز التعليل بالحكمة، بل بالوصف المعلل __________ (1) انظر: المغني: 3/ 109. (2) هكذا في المخطوط. ولعل الصواب: "تجدد". (3) القول باستبراء الصغيرة التي لا تحمل هو مذهب جمهور الأمة ومنهم الأئمة الأربعة، ولم ينقل ابن المنذر في الإشراف القول بعدم الاستبراء إلا عن عكرمة وإياس بن معاوية. انظر: الإشراف: 314، والمغني: 11/ 274، وزاد المعاد: 5/ 714، 717.
(الكتاب/52)
به العاري عن الحكمة. ومن فروع هذه المسألة: ما لو خرجت من قُبُل الإنسان أو دبره حصاة لا بلل معها بل هي نظيفة من القذر، فعلة مشروعية الاستنجاء بخروج الخارج من السبيلين موجودة، ولكن حكمة هذه العلة التي هي تنظيف المحل من أثر القذر معدومة هنا. والمالكية (1) في هذه الصورة يقولون: لا يستنجي وإن كان الوصف المعلل به موجود، إلَّا أن (2) العبرة في هذه الصورة بالحكمة، وهي معدومة، فلو وجدت الحكمة فيها لوجد الحكم، وعلى قولهم فالتعليل بالحكمة جائز في هذه الصورة. وكذلك: إذا وضعت النفساء ولدها جافًا من الدم لم يعلق به منه قليل ولا كثير، فإن علة الغسل التي هي الولادة موجودة، ولكن حكمته التي هي التنظيف بسبب دم النفاس الخارج من أجل خروج الولد معدومة، فمن قال لا يجب الغسل اعتبر الحكمة وأجاز التعليل بها، ومن قال يجب الغسل يقول لا يجوز التعليل بها. وكذلك: من لمس أمردًا بباطن كفه أو قبل الفم، ولم يجد لذة، فعلى مراعاة الحكمة لا وضوء عليه، والعكس بالعكس. ومن فروع هذه المسألة: ما لو قال لامرأته أنت طالق مع آخر جزء من الحيض، فعلة كون الطلاق بدعيًا، وهي كون الطلاق في الحيض موجودة، ولكن الحكمة معدومة هنا، لأن هذا الطلاق لا تطويل فيه؛ __________ (1) انظر: الاستذكار: 2/ 91، وبداية المجتهد: 1/ 292. (2) هكذا في الأصل: "إلا أن" ولعل الصواب: "لأن".
(الكتاب/53)
لأنها بانقضاء صفة الطلاق استقبلت طهر، والطهر معتبر، وإنما التطويل في الحيض. وأمثال هذا كثيرة. ومن موانع التعليل بالحكمة: عدم الانضباط في بعض الصور، وعدم الظهور في بعضها. فمن أمثلة عدم الانضباط: ما لو عللت رخصة القصر والإفطار بتخفيف المشقة، فإن المشقة لا تنضبط؛ لاختلاف الناس فيها بحسب القوة والضعف، والشباب والهرم، وغير ذلك من الأحوال والأزمان، فأنيط الحكم بمظنة المشقة وهو سفر مسافة القصر. ومن أمثلة عدم الظهور: قول من لا يجيز انعقاد البيع بالمعاطاة (1)، فالحكمة التي هي الرضا لا تظهر؛ لأن من لم يصرح بصيغة البيع لا يتحقق منه الرضا؛ لأن الرضا كامن في النفس، لا يتحقق إلَّا في الصيغة الدالة عليه، ولما كان كامنًا في النفس غير ظاهر امتنع التعليل به لعدم ظهوره فأنيط الحكم بالصيغة القولية الدالة عليه دلالة صريحة، دون المعاطاة التي لم تدل عليه صريحًا. والعلم عند الله. ولم نتمكن من الإطالة في الجواب لكثرة الشغل، وفيما ذكرنا للفاهم كفاية، وفي البعض تنبيه لطيف على الكل. انتهى نَقْلُهَا من قلم المؤلف الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي ضحوة اليوم الثاني والعشرين من شهر محرم عام 1390 هـ، على يد كاتبها الفقير إلى عفو الله/ بكر بن عبد الله أبو زيد. كان الله له، وصلى الله على نبينا وآله وسلم. __________ (1) وهم الشافعية. انظر: المهذب: 1/ 342، روضة الطالبين: 3/ 336.
(الكتاب/54)
الفتوى الرابعة الإجابة الصادرة على صحة الصلاة في الطائرة
(الكتاب/55)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ والسلامان [*] على النبي الكريم. أما بعد: فقد طلب مني بعض فضلاء إخواننا أن نقيد لهم حروفًا تظهر (1) بها صحة صلاة من صلى في الطائرة، فأجبناهم إلى ذلك، [ونذكر] إن شاء الله وجه استنباط صحتها من كتاب الله، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - من كلام العلماء على طريق المناظرة الشرعية الخالية من اللجاج والجدال: أما القرآن: فقد امتنَّ الله فيه على خلقه في سورة الامتنان (2) -التي هي سورة النحل- بهذه المراكب المستحدثة؛ لأنه [لما] بين أنواع الامتنان فيها، وذكر الامتنان بأنواع [من] المركوبات في قوله تعالى: {وَالْخَيلَ وَالْبِغَال وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} [النحل: 8]. أشار إلى امتنانه بمركوبات لم تُخلق بعد، ولم يعلمها الموجودون في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)} [النحل: 8]، فالإتيان بقوله: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} مقترنًا بجنس المركوبات، يدل على أنه من جنس ما يركب، ودلالة الاقتران (3)، __________ [*] قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: كذا بالمطبوع. (1) في المطبوعة: "نظهر" بالنون. (2) لم أجد هذه التسمية التي ذكرها الشيخ لسورة النحل، والذي يذكره المفسرون أنها تسمى: "سورة النِّعَم". فلعل ذلك اجتهاد منه رحمه الله، فهو أهلٌ لذلك، وقد قال الزركشي في البرهان: 1/ 270: "وينبغي البحث عن تعداد الأسامي هل هو توقيفي أو بما يظهر من المناسبات؟ فإن كان الثاني فلن يعدم الفَطِن أن يستخرج من كل سورة معاني كثيرة تقتضي اشتقاق أسماء لها". وقد استبعد الزركشي هذ الثاني. والله أعلم. (3) معنى هذه الدلالة: أن القِران بين جملتين مثلًا أو مفردين مثلًا في حكم، هل يوجب التسوية بينهما في غير ذلك الحكم؟ كقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}.=
(الكتاب/57)
وإن ضعفها بعض الأصوليين (1)، كما أشار إليه صاحب مراقي السعود بقوله: أما قران (2) اللفظ في المشهور ... فلا يساوي في سوى المذكور (3) فقد صححها جماعة من المحققين (4)، ولاسيما في هذا الموضع الذي دلَّت فيه قرائن المشاهدة على صحة دلالة الاقتران فيه، ونعني بدلالة الاقتران [هنا دلالة اقتران] {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)} بجنس ما يُركب، فإنه يدل على أنه من جنس ما يركب، فإذا حققت أن الله امتن في سورة الامتنان [على الخلق] بوجود هذه المراكب، التي من جملتها الطائرة، فاعلم أن ركوبها جائز؛ لأن الله لا يمتن بمحرم، وإذا كان جائزًا ودخل وقت الصلاة، فقد دل الكتاب والسنة والإجماع [على] أن الله لا يكلف الإنسان إلَّا طاقته بقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: __________ = فقد قرن بينهما في حكم وهو وجوب الإتمام بعد الشروع، فهل يلزم من ذلك مساواتهما في الحكم ابتداءً؟ خلاف بين الأصوليين كما ذكره المؤلف. (1) بل جُلُّهم على التضعيف، كما ذكره الشيخ في نثر الورود: 297، وقبله صاحب نشر البنود: 1/ 245. وانظر: أضواء البيان: 3/ 219، وإرشاد الفحول: 248، والبحر المحيط للزركشي: 6/ 99، وميزان الأصول للسمرقندي: 415. (2) في الأصل: "اقتران"، والمثبت من متن المراقي وشروحه. (3) مراقي السعود: 55، والمراقي أيضًا مع نشر البنود: 1/ 245، ومع مراقي السعود: 217، ومع نثر الورود: 297، ومع فتح الودود: 90. (4) هم أبو يوسف من الحنفية، والمزني وابن أبي هريرة والصيرفي من الشافعية، وبعض المالكية. كما في البحر المحيط للزركشي: 6/ 99.
(الكتاب/58)
"فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (1)، فإذا صلى فيها فقد فعل طاقته، ولم يؤمر إلَّا بطاقته. و [قد] أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى حدوث (2) هذه المركوبات، بقوله -كما ثبت في حديث مسلم-: "ولَتُتْرَكنَّ القِلاصُ (3) فلا يسعى عليها" (4). أما السنة: فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن الصلاة في السفينة، قال: "صلّ فيها قائمًا، إلَّا أن تخاف الغرق". أخرجه الدارقطني (5) والحاكم (6) على شرط الصحيحين. __________ (1) أخرجه البخاري: 96 - كتاب الاعتصام، 2 - باب الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 8/ 142، ومسلم: 43 - كتاب الفضائل: 37 - باب توقيره - صلى الله عليه وسلم -، حديث رقم 1337. (2) في الأصل: "حل" والتصويب من المطبوعة. (3) القِلاص: جمع قلوص، وهي: الشابة من الإبل، والجمع: قلائِص وقُلُص. القاموس المحيط: 628. (4) صحيح مسلم: (1 - كتاب الإيمان، 71 - باب نزول عيسى بن مريم، حديث رقم: 155). وأخرجه أيضًا: أحمد وابن حبان والطحاوي في مشكل الآثار، والآجري في الشريعة، وابن منده في الإيمان، والبغوي في شرح السنة كما في حاشية المسند: 16/ 255 طبعة مؤسسة الرسالة. (5) سنن الدارقطني: 1/ 395. (6) المستدرك: 1/ 275، وصححه ووافقه الذهبي. وقد أخرجه أيضًا: البزار في مسنده: 4/ 157، والدارقطني: 1/ 394، عن ابن عمر عن جعفر بن أبي طالب: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يصلي قائمًا، إلَّا أن يخشى الغرق". قال الدرقطني: -يعني في السفينة- فيه رجل مجهول. اهـ. قلت: أخرجه حرب الكرماني في مسائله عن أحمد وإسحاق (38 ق) =
(الكتاب/59)
مع أن القرآن دلَّ بدلالة الإشارة (1) على صحة الصلاة في السفينة، حيث امتنَّ بركوبها: {تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} [البقرة: 164]، ومعلوم أنه لا يتيسر النزول بالساحل عند كل صلاة، فالصلاة فيها صحيحة قطعًا. وإذا دلَّ الكتاب والسنة والإجماع على صحة الصلاة في سفينة البحر، فاعلم أنها لا يوجد بينها وبين الطائرة فرق له أثر في الحكم؛ لأن كلًّا منهما سفينة محركة ماشية، يصح عليها الإتيان بجميع أركان الصلاة، من قيام وركوع وسجود واعتدال وغير ذلك، بل هو في الطائرة أسهل؛ لأنها أخف حركة من السفينة. وكل منهما تمشي على جرم؛ لأن الهواء جرم بإجماع المحققين من نظار المسلمين والفلاسفة، وتتحقق صحة ذلك إذا نفخت قربة -مثلًا- فإن الرائي يظنها مملوءة من الماء، ولو كان الهواء غير جرم لما ملأ الفراغ بملء الأوعية المنفوخة، وبين الهواء والماء مناسبة كثيرة، حتى إن أحدهما ينتقل من عنصره إلى عنصر الآخر؛ ألا ترى الماء إذا __________ = بإسقاط الرجل المجهول، فانتفى الإعلال بالجهالة. والله أعلم. والحديث صحيح ثابت كما دكره المؤلف رحمه الله. وانظر: صحيح الجامع الصغير: 3/ 244، وصفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -: 79 للألباني، والتعليق المغني على سنن الدارقطني: 1/ 395. (1) دلالة الإشارة عند الأصوليين هي: دلالة اللفظ على معنى ليس مقصودًا باللفظ في الأصل، ولكنه الازم للمقصود، وهي من دلالة الالتزام، والحق فيها أنها من المفهوم لا من قبيل المنطوق وغير الصريح. انظر: إرشاد الفحول: 178، والمذكرة في أصول الفقه: 236، وأضواء البيان: 3/ 267 - 269.
(الكتاب/60)
بلغ مائة درجة من درجات الحرارة تبخر فصار هواءً، فانتقل من عنصر الماء إلى عنصر الهواء. فإذا لم يكن بينهما فرق له تأثير في الحكم، فاعلم أن عامة العلماء -ما عدا [قومًا من] أتباع داود الظاهري (1) - على أن المسألة المنطوق (2) بها و [المسألة] المسكوت عنها، إذا لم يكن بينهما فرق مؤثر في الحكم، فإن المسكوت عنها تدخل في حكم المنطوق بها، وهو الدليل المعروف عند الأصوليين بالإلحاق بنفي الفارق، وهو نوع من تنقيح المناط، وسماه الشافعي القياس في معنى الأصل (3)، قال في مراقي السعود: قياسَ معنى الأصل عنهم حقِّقِ ... لما دُعي الجمعَ بنفي الفارق (4) وقال أيضًا في مسالك العلة، في الكلام على تنقيح المناط: فمنه ما كان بإلغا الفارق ... وما بغيرٍ من دليل رائق (5) __________ (1) وعلى رأسهم ابن حزم، فإنهم يرون أن كل خطاب وكل قضية فإنما تعطيك ما فيها، ولا تعطيك حكمًا في غيرها، لا أن ما عداها موافق لها ولا أنه مخالف لها، لكن كل ما عداها موقوف على دليله. انظر: الإحكام لابن حزم: 7/ 1153، 1197، والبحر المحيط: 4/ 12. (2) في الأصل: "المنطوقة"، والتصويب من المطبوعة. (3) ويسميه أيضًا: القياس الجلي. انظر: اللمع للشيرازي: 25، والمحصول للرازي: 1/ 1 / 320، والبحر المحيط للزركشي: 4/ 9 و 5/ 255، وإرشاد الفحول: 178، 221، ومذكرة أصول الفقه: 251، ونثر الورود: 523، وأضواء البيان: 1/ 434. (4) مراقي السعود: 101، والمراقي أيضًا مع نشر البنود: 2/ 247، ومع مراقي السعود: 392، ومع نثر الورود: 360، ومع فتح الودود: 182. (5) مراقي السعود: 94، والمراقي أيضًا مع نشر البنود: 2/ 199، ومع مراقي =
(الكتاب/61)
فإلحاق ضرب الوالدين بالتأفيف في قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]، وإلحاق شهادة أربعة عدول بالعدلين في قوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، وإلحاق وزن الجبل بمثقال ذرة في قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَال ذَرَّةٍ خَيرًا يَرَهُ (7)} [الزلزلة]، وإلحاق إحراق مال اليتيم وإغراقه بأكله (1) في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَال الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10]، وإلحاق البول في إناء وصبّه في الماء الراكد، بالبول في الماء الراكد المنهي عنه، وإلحاق التضحية بالعمياء [بالتضحية] بالعوراء المنهي عن التضحية بها، وإلحاق الأمة بالعبد في سراية العتق في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أعتق شركًا (2) [له] في عبد" (3) الحديث، وإلحاق منع حكم القاضي في حالة الجوع والعطش [والحقن] والحَقَب (4) والسرور، والحزن ونحو ذلك من كل ما يشوش عليه بالغضب (5) المنصوص عليه في حديث أبي بكرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان" (6) ونحو ذلك مما هو كثير جدًّا، كله إلحاق بنفي الفارق. واعلم أن إلغاء الفارق يقول به من لا يقول بالقياس [وهو] في __________ = السعود: 366، ومع نثر الورود: 523، ومع فتح الودود: 166. (1) في الأصل: "بالكلية"، والصواب ما أثبت من المطبوعة. (2) في الأصل: "شريكًا"، والمثبت من مصادر تخريج الحديث، ومن المطبوعة. (3) أخرجه البخاري (الصحيح مع الفتح: 5/ 132، 137)، ومسلم حديث رقم (1503). (4) الحقن: احتباس البول، والحَقَب: احتباس الغائط. النهاية: 1/ 416. (5) في الأصل: "من الغضب"، والتصويب من المطبوعة. (6) أخرجه البخاري (الصحيح مع الفتح: 13/ 136)، ومسلم حديث رقم (1717).
(الكتاب/62)
حكم النص عند جماهير العلماء. مما يدلك على ذلك أن الإمام أبا حنيفة لا يقول بالقياس في الكفارات (1)، وقد قال فيها [بالإلحاق] بنفي الفارق، وذلك في الأعرابي الذي قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - يضرب صدره، وينتف شعره، ويقول: هلكت وأهلكت، واقعت أهلي في [نهار] رمضان، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أعتق رقبة" (2). والنبي - صلى الله عليه وسلم - نصَّ على كفارة صوم رمضان في خصوص الجماع، ولم يتكلم على الشرب والأكل عمدًا فيه، فحكمَ مالك (3) وأبو حنيفة (4) بإلغاء الفارق، وإلحاق الأكل والشرب المسكوت عنهما بالجماع المنصوص عليه في وجوب الكفارة، [فقالا] بوجوبها في الأكل والشرب عمدًا. أما ما وعدنا به من كلام الفقهاء على طريق المناظرة الشرعية، فإنا نقول: أولًا: من ادعى بطلان الصلاة بالطائرة، فهو الذي عليه البيان، ومدعي الصحة معه الأصل؛ لأنها صلاة لم يختل منها ركن ولا شرط، و (5) أركان الصلاة، وشروطها معروفة لا يختل بالطائرة منها شيء، ولا دليل على بطلانها فيها من كتاب ولا سنة ولا إجماع [ولا كلام عن أحد __________ (1) انظر: تيسير التحرير: 4/ 103، وإرشاد الفحول: 223. (2) أخرجه البخاري الصحيح مع الفتح: 4/ 163، ومسلم حديث رقم (1111). (3) انظر: المنتقى: 1/ 52، وعقد الجواهر الثمينة: 1/ 363، وحاشية الدسوقي: 1/ 527. (4) انظر: الأصل لمحمد بن الحسن: 2/ 193، ومختصر اختلاف العلماء للجصاص: 2/ 29، والمبسوط: 3/ 73، وفتح القدير: 2/ 338، 339. (5) في الأصل: "من" والتصويب من المطبوعة.
(الكتاب/63)
من أصحاب المذاهب، ونقول ثانيًا: إنا إذا أردنا] (1) تحقيق هذه المسألة المنطبق على جزئياتها (2) أفرغناها في قالب الدليل العظيم المعروف عند الأصوليين بالسبر والتقسيم (3)، وعند المنطقيين بالشرطي المنفصل (4)، وعند الجدليين بالترديد والتقسيم (5)، فنقول: أوصاف الراكب التي يتوهم أنها سبب لبطلان صلاته فيها، يحصرها التقسيم الصحيح في هذه الأقسام الخمسة. أولها: أنها غير متصلة بالأرض. الثاني: أنها غير ساكنة. الثالث: أنها ترفعه عن مسامتة القبلة: فيكون غير مستقبل، والقبلة شرط في الصلاة. الرابع: عدم القدرة على إكمال الأركان لحركتها واضطرابها. الخامس: عدم معرفة جهة القبلة. __________ (1) بياض في الأصل واستكمل من المطبوعة. (2) جاءت هذه العبارة في الأصل هكذا: "بتحقيق هذه المسألة المنطبق على جزئياتها يتضح إذن" وفيها قلق والسياق تام بدونها. وما أثبت من المطبوعة. (3) ينظر: شرح الكوكب المنير: 4/ 142، وإرشاد الفحول: 213، ومذكرة أصول الفقه: 257 - 260، والرحلة: 165، وأضواء البيان: 4/ 395 - 415، وفيه كلام نفيس على هذا الدليل وتوضيحه بالأمثلة من القرآن وغيره، وذكر بعض آثاره العقائدية والتاريخية. فرحم الله مؤلفه رحمة واسعة. (4) ينظر: الإيضاح في الجدل: 80 ليوسف بن الجوزي، والرد على المنطقيين: 205، والبحر المحيط للزركشي: 6/ 222، وآداب البحث والمناظرة: 54 للمؤلف، وتسهيل المنطق: 41، وطرق الاستدلال ومقاصدها: 191 ليعقوب الباحسين. (5) انظر: الجدل لابن عقيل: 19، والرد على المتطقيين: 205، والعذب النمير: 2/ 726.
(الكتاب/64)
ولا وصف غير هذه الأوصاف الخمسة إلَّا الأوصاف الطردية التي لا أثر لها في الأحكام. فإذا حققت هذا التقسيم فاعلم أن السبر الصحيح يدل [على] أن هذه الأقسام ليس فيها واحد يبطل الصلاة. أما كونها غير متصلة بالأرض، فليست شرطًا في صحة الصلاة؛ (1) لأن أرض المصلي هي موضع صلاته، إذا كان يمكنه الركوع والسجود وسائر الأركان. وقد أجمع جميع العلماء على صحة الصلاة فوق السقف، مع أن الموضع المسامت (2) لأعضائه منه غير متصل بالأرض. وفي الدسوقي عند قول خليل: "ورفع مأموم ما يسجد عليه" (3) [ما نصه]: وأما السجود على غير متصل بالأرض كسرير معلق، فلا خلاف في عدم صحته كما مر، أي والحال أنه غير واقف في ذلك السرير، وإلَّا صحت كالصلاة في المحمل (4). اهـ منه بلفظه. فترى هذا العالم المحقق صرح بأنه لو قام في سرير معلق بين السماء والأرض، فصلى فيه، فصلاته صحيحة، وأن المحظور إنما هو لو صلى في الأرض وسجد على السرير المعلق؛ لأنه يكون إيماء في __________ (1) في المطبوعة: "فلا يبطل الصلاة" بدل: "فليست شرطًا ... إلخ .. ". (2) في المطبوعة: "موضع المصلي المماس" ولعله الصواب. (3) مختصر خليل مع شرحه: نصيحة المرابط: 1/ 182 لمحمد الأمين بن أحمد زيدان الشنقيطي، وكذا مع شرحه: مواهب الجليل: 1/ 198 لأحمد بن أحمد المختار الجكني الشنقيطي. (4) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 1/ 253.
(الكتاب/65)
الصلاة بلا عذر، وهو مبطل لعدم السجود، وهو ركن. أما كونها غير ساكنة، فلا يبطل لإجماع (1) العلماء على صحة الصلاة في سفينة الماء وهي تضطرب في جبال الموج، فلو كانت الحركة مبطلة لبطلت في السفينة. أما كونها ترتفع عن مسامتة القبلة فلا يبطلها؛ لإجماع (2) العلماء على أن من صلى على جبل أبي قبيس، وهو مرتفع عن مسامتة القبلة ارتفاعًا كثيرًا بيِّنًا، فصلاته صحيحة. مع أن جماهير العلماء (3) على أن الغائب عن مكة يجعل وجهه إلى جهة القبلة، ولا يلزمه الاجتهاد في مسامتتها. كما دلَ عليه قوله تعالى: {وَمِنْ حَيثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 150]، والمراد بالشطر الجهة، ومنه قول الشاعر: أقول لأم زنباع أقيمي ... صدور العيس شطر بني تميم (4) أي: جهتهم. __________ (1) تقدم ص: 60. (2) انظر: المجموع: 3/ 199، وتبيين الحقائق للزيلعي: 1/ 264، والذخيرة: 2/ 116، وكشاف القناع: 2/ 224. (3) ولم يخالف في هذا إلَّا الشافعي في أصح قوليه عند أصحابه. انظر: المجموع: 3/ 203، والمغني: 2/ 101، وتبيين الحقائق للزيلعي: 1/ 264، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير: 1/ 223. (4) البيت لأبي زنباع الجذامي، كما في اللسان: 4/ 408.
(الكتاب/66)
قال في المختصر: "وإلَّا فالأظهر جهتها اجتهادًا" (1). وإذا كانت الجهة كافية فمن في الطائرة مستقبلٌ للجهة بلا شك. أما عدم القدرة على الإتيان بالأركان، فهو منتفٍ، بل أهلها قادرون على جميع أركان الصلاة، وقد صلينا فيها مرارًا، نسجد [و] نركع ونقوم ونجلس ونطمئن، وما تعسَّر علينا شيء من ذلك (2). أما معرفة القبلة فهي متيسرة لشدة علم أهلها بالخطوط الجوية. فظهر بالتقسيم الصحيح، والسبر الصحيح، عدم بطلان الصلاة فيها. وقد تقرر في علم الأصول، في مبحث السبر والتقسيم: أن السبر والتقسيم إذا كانا قطعيين، فالحكم قطعي، وإذا كانا ظنيين، فالحكم ظني، كما أشار له صاحب مراقي السعود بقوله: وهو قطعي إذا ما نُميا ... للقطع والظني سواه وُعِيا (3) ولا يمكن لأحد أن يزيد وصفًا غير الأوصاف التي بيَّنا، إلَّا وصفًا طرديًا لا أثر له في الحكم. وإبداء المعترض وصفًا زائدًا على أوصاف المستدل بالسبر لا __________ (1) مختصر خليل مع شرحه: نصيحة المرابط: 1/ 162، وكذا مع شرحه: مواهب الجليل: 1/ 55. (2) تحدث الشيخ عطية محمد سالم تلميذ الشيخ عن هذا الأمر حيث قال: "إنه ممن سافر مع الشيخ -رحمه الله- إلى بلد إفريقيا بالطائرة، وقد طلع الفجر وهم في الطريق فأذن بعضهم ثم تقدم الشيخ فصلى بهم فلما انتهى من صلاته سألته عن هذه الصلاة فقال: هذه أحسن صلاة صليتها، ثم قال: نحن كنا نعبد الله في الأرض والآن نحن نعبده في السماء" انتهى من حاشية المطبوعة: 17. (3) مراقي السعود: 87، والمراقي أيضًا مع نشر البنود: 2/ 160، 161، ومع مراقي السعود: 343، ومع نثر الورود: 486، ومع فتح الودود: 152.
(الكتاب/67)
يثبت به الاعتراض، بل إن أبدى المستدل أنه طردي، صح دليله وسقط الاعتراض؛ لعدم تأثير ذلك الوصف الزائد، كما هو مقرر في الأصول. [وأشار له صاحب مراقي السعود بقوله: إن يُبْد وصفًا زائدًا (1) معترضُ ... وفَى (2) به دون البيان الغرض (3) والشاهد منه في قوله: "دون البيان" أما مع البيان فلا يقدح الوصف الزائد في سبر المستدل]. هذا ما ظهر، والعلم عند الله تعالى. أملاه الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي، رحمة الله عليهما. __________ (1) في المطبوعة: "وصف زائد". (2) في المطبوعة: 38، ومراقي السعود: 343، 344: "وفي "، والمثبت من متن المراقي وباقي شروحه. (3) مراقي السعود: 88، والمراقي أيضًا مع نشر البنود: 2/ 168، ومع مراقي السعود: 343، ومع نثر الورود: 488، ومع فتح الودود: 153.
(الكتاب/68)
الفتوى الخامسة وجهة نظر في حكم السعي فوق سقف المسعى
(الكتاب/69)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وجهة نظر الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فإن لنا وجهة نظر مخالفة للقرار الصادر بالأغلبية من هيئة كبار العلماء في شأن جواز السعي فوق السقف، الكائن فوق المسعى والصفا والمروة. وحاصل وجهة نظرنا في ذلك هو: أنا لا نرى جواز تعدد المسعى وإباحة السعي في مسعيين، مسعى أسفل ومسعى أعلى؛ وذلك للأمور الآتية: الأول: أن الأمكنة المحددة من قبل الشرع لنوع من أنواع العبادات لا تجوز الزيادة فيها ولا النقص إلَّا بدليل يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة. الأمر الثاني: أن الأمكنة المحددة شرعًا لنوع من أنواع العبادات ليست محلًا للقياس؛ لأنه لا قياس ولا اجتهاد مع النص الصريح المقتضي تحديد المكان المعين للعبادة، ولأن تخصيص تلك الأماكن بتلك العبادات دون غيرها من سائر الأماكن ليست له علة معقولة المعنى، حتى يتحقق المناط بوجودها في فرع آخر حتى يلحق بالقياس، فالتعبدي المحض ليس من موارد القياس. الأمر الثالث: هو أنه لا نزاع بين أهل العلم في أن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -
(الكتاب/71)
الوارد لبيان إجمال نص القرآن العظيم له حكم ذلك النص القرآني الذي ورد لبيان إجماله. فإن دلَّت آية من القرآن العظيم على وجوب حكم من الأحكام وأوضح النبي - صلى الله عليه وسلم - المراد منها بفعله، فإن ذلك الفعل يكون واجبًا بعينه وجوب المعنى الذي دلت عليه الآية فلا يجوز العدول عنه لبدل آخر، ومعلوم أن ذلك منقسم إلى قسمين، كما هو مقرر في الأصول. الأول منها: أن تكون القرينة وحدها هي التي دلت على أن ذلك الفعل الصادر من النبي - صلى الله عليه وسلم - وارد لبيان نص من كتاب الله، كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، فإن الآية تحتمل القطع من الكوع ومن المرفق ومن المنكب؛ لأن لفظ اليد قد يستعمل في كل ما ذكر، وقد دلت القرينة على أن فعله - صلى الله عليه وسلم - الذي هو قطعه يد السارق من الكوع (1) وارد لبيان قوله تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا}، فلا يجوز العدول عن هذا الفعل النبوي الوارد لبيان نص من القرآن لبدل آخر إلَّا بدليل يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة. القسم الثاني: من قسمي الفعل المذكور: هو أن يرد قول من النبي - صلى الله عليه وسلم - يدل على أن ذلك الفعل الصادر منه - صلى الله عليه وسلم - بيان لنص من القرآن __________ (1) روى الدارقطني في سننه: 3/ 205 من طريق محمد بن عبيد الله العزرمي، في قصة سرقة رداء صفوان بن أمية: "ثم أمر بقطعه من المفصل". والعزرمي متروك، لكن قال الحافظ في التلخيص 4/ 71: "وفي كتاب الحدود لأبي الشيخ من طريق نافع عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يقطعون من المفصل". اهـ. قال الألباني: "قلت: وله شواهد .... " فذكرها. الإرواء: 8/ 81 - 83. وانظر: نصب الراية: 3/ 370، والإرواء أيضًا: 7/ 345.
(الكتاب/72)
كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (1)، فإنه يدل على أن أفعاله في الصلاة بيان لإجمال الآيات التي فيها الأمر بإقامة الصلاة، فلا يجوز العدول عن شيء من تلك الأفعال الصادرة منه - صلى الله عليه وسلم - لبيان تلك الآيات القرآنية إلَّا بدليل من كتاب أو سنة يجب الرجوع إليه، وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لتأخذوا عني مناسككم" (2) فإنه يدل على أن أفعاله في الحج بيان لإجمال آيات الحج فلا يجوز العدول عن شيء منها لبدل آخر إلّا لدليل يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة. وإذا علمت هذا فاعلم أن الله جل وعلا قال في كتابه العزيز: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] فصرح في هذه الآية بأن المكان الذي عَلمُهُ الصفا، والمكان الذي عَلَمُهُ المروة، من شعائر الله. ومعلوم أن الصفا والمروة كلاهما علم لمكان معين وهو علم شخص لا علم جنس بلا نزاع ولا خلاف بين أهل اللسان، في أن العلم يعين مسماه أي يشخصه، فإن كان علم شخص كما هنا شخَّص مسماه في الخارج بمعنى أنه لا يدخل في مسماه شيء آخر غير ذلك الشخص عاقلًا كان أو غير عاقل، وإن كان علم جنس شخص مسماه في الذهن، وليس البحث في ذلك من غرضنا. وبما ذكرنا تعلم أن ما ذكر الله في الآية أنه من شعائر الله هو شخص الصفا وشخص المروة، أي الحقيقة المعبر عنها بهذا العلم الشخصي ولا يدخل شيء آخر ألبتة في ذلك؛ لتعين المسمى بعلمه __________ (1) هذا قطعة من حديث مالك بن الحويرث، وقد أخرجه بهذا اللفظ البخاري: (الصحيح مع الفتح: 2/ 111)، وأحمد: 5/ 53، والدارمي: 1/ 230. (2) أخرجه مسلم: 1297.
(الكتاب/73)
الشخصي دون غيره كائنًا ما كان، سواء كان الفراغ الكائن فوق المسمى المشخص بعلمه أو غير ذلك من الأماكن الأخرى. وإذا علمت ذلك فاعلم أن الله تعالى رتَّب بالفاء قوله: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيتَ أَو اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}، على كونهما من شعائر الله، وفي قوله تعالى: {أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} إجمال يحتاج إلى بيان كيفية التطوف ومكانه ومبدئه ومنتهاه. وقد بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا النص القرآني بالسعي بين الصفا والمروة مبينًا أن فعله المذكور واقع لبيان القرآن العظيم المذكور، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني مناسككم" (1)، وقوله: "ابدؤا بما بدأ الله به" (2) يعني الصفا في قوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} الآية، ومن جملة البيان المذكور بيان جواز السعي حالة الركوب على الراحلة (3)، ففعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي هو سعيه بين الصفا والمروة مبينًا لذلك مراد الله في كتابه لا يجوز العدول عنه في كيفيته ولا عدده ولا مكانه ولا مبدئه ولا منتهاه إلَّا بدليل يجب __________ (1) تقدم تخريجه قريبًا. (2) أخرجه بهذا اللفظ: "ابدأوا" بصيغة الأمر: النسائي: (2962)، والدارقطني: 2/ 254، وابن حزم في المحلى: 2/ 92. قال الحافظ في التلخيص: 2/ 250: "وصححه ابن حزم، وله طرق عند الدارقطني". وأخرجه بلفظ: "أبدأ" بصيغة الخبر: مسلم: (1218). وأخرجه أصحاب السنن وغيرهم بلفظ: "نبدأ" بالنون. (3) ثبت ذلك في صحيح مسلم: (1273)، من حديث جابر رضي الله عنه قال: "طاف النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع على راحلته بالبيت وبالصفا والمروة ليراه الناس، وليشرف وليسألوه، فإن الناس قد غشوه". ومن حديث ابن عباس رضي الله عنهما في سياق طويل: (1264). وانظر: إرواء الغليل: 4/ 314 - 316.
(الكتاب/74)
الرجوع إليه من كتاب أو سنة. ولا شك أن المسعى الجديد الكائن فوق السقف المرتفع الذي فوق المسعى النبوي المبين بالسعي فيه معنى القرآن غير المسعى النبوي المذكور، ومغايرته له من الضروريات، لأنه مما لا نزاع فيه أن المتضايفين الذين تستلزمهما كل صفة إضافية متباينان تباين المقابلة لا تباين المخالفة، ومعلوم أن المتباينين تباين المقابلة بينهما غاية المنافاة لتنافيهما في حقيقتهما واستحالة اجتماعهما في محل آخر. ومعلوم أن المتباينات هذا التباين التقابلي التي بينها منتهى المنافاة أربعة أنواع، هي: التقابل بين النقيضين، والتقابل بين الضدين، والتقابل بين المتضايفين، والتقابل بين العدم والملكة. كما هو معلوم في محله (1). فكما أن الشيء الواحد يستحيل أن يتصف بالوجود والعدم في وقت واحد من جهة واحدة، وكما أن النقطة البسيطة من اللون يستحيل أن تكون بيضاء سوداء في وقت واحد، وأن العين الواحدة يستحيل أن تكون عمياء مبصرة في وقت واحد، فكذلك يستحيل أن يكون الشيء الواحد فوق هذا وتحته في وقت واحد. فالمسعى الذي فوق السقف يستحيل أن يكون هو المسعى الذي تحت السقف. فهو غيره قطعًا، كما هو الشأن في كل متضايفين وكل متباينين تباين تقابل أو مخالفة. وإذا حققت بهذا أن المسعى الذي فوق السقف مغاير في ذاته لحقيقة المسعى الذي تحت السقف، وعلمت أن السعي في المسعى الذي تحت السقف __________ (1) انظر: المبين في شرح معاني ألفاظ الحكماء والمتكلمين: 115، 116 للآمدي، وطرق الاستدلال ومقداماتها عند المناطقة والأصوليين: 215 للدكتور/ يعقوب الباحسين.
(الكتاب/75)
هو الذي فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - مبينًا بالسعي فيه مراد الله في كتابه قائلًا: "خذوا عني مناسككم" وأن أفعاله - صلى الله عليه وسلم - المبينة للقرآن لا يجوز العدول عنها لبدل آخر إلَّا لدليل يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة. علمت بذلك أن العدول بالسعي عن المسعى النبوي إلى المسعى الجديد الكائن فوق السقف الذي فوق الصفا والمروة يحتاج إلى دليل من كتاب الله أو سنة رسوله، ويحتاج -جدًّا- إلى معرفة من أخذ عنه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أمرنا بأخذ مناسكنا عنه هو وحده - صلى الله عليه وسلم -، ولم يأذن لنا في أخذها عن زيد ولا عمر. فعلينا أن نتحقق الجهة التي أخذنا عنها هذا المنسك الجديد؛ لأن المناسك مرهونة بأمكنتها وأزمنتها، ولا يجوز التحكم في مكان أو زمان غير الزمان والمكان المحدودين من قبل الشارع، ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بين الأمكنة التي أنيط بها النسك وعمم البيان في ذلك، وجعله شاملًا للأمكنة التي أقام فيها هو النسك وغيرها من الأمكنة الصالحة للنسك، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وقفت هنا، وعرفة كلها موقف" (1). ونظير ذلك في مزدلفة ومنى بالنسبة للنحر كما هو معلوم. الأمر الرابع: أن السعي في المسعى الجديد خارج عن مكان السعي الذي دلت عليه النصوص؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أن الظرف المكاني للسعي بالنسبة إلى الصفا والمروة هو ظرف المكان الذي يعبر عنه بلفظة "بين"، وأما المسعى الجديد فظرفه المكاني بالنسبة إلى الصفا والمروة هو لفظة "فوق"، ومعلوم أن لفظ "بين" ولفظ "فوق" وإن كانا ظرفي مكان فمعناهما مختلف، ولا يؤيد أحدهما معنى الآخر؛ لتباين __________ (1) أخرجه مسلم: (12181).
(الكتاب/76)
مدلوليهما، فالساعي في المسعى الأعلى الجديد لا يصدق عليه أنه ساع بين الصفا والمروة، وإنما هو ساعٍ فوقهما، والساعي فوق شيئين ليس ساعيًا بينهما؛ للمغايرة الضروية بين معنى "فوق" و"بين" كما ترى. ويزيد هذا إيضاحًا ما ثبت في الصحيح من حديث عائشة المرفوع -وإن ظن كثير من طلبة العلم أنه موقوف عليها - فقد روى البخاري عنها في جوابها لعروة بن الزبير في شأن السعي بين الصفا والمروة أنها قالت ما لفظه: "وقد سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما" (1). انتهى محل الغرض منه بلفظه. فتأمل قولها وهي هي: "وقد سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الطواف بينهما"، وقولها: "فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما". وتأمل معنى لفظة "بين" يظهر لك أن مفهوم كلامها أن من سعى فوقهما لم يأت بما سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن ذلك ليس له. وهذا المعنى ضروري للمغايرة الضرورية بين الظرفين أعني "فوق" و"بين". وفي لفظ عند مسلم عنها أنها قالت: "ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة" (2) انتهى محل الغرض منه، وهو يدل على أن من طاف فوقهما لا يتم الله حجه ولا عمرته؛ لأن الطائف فوقهما يصدق عليه لغة أنه لم يطف بينهما، وفي لفظ لمسلم عنها أنها قالت: "فلعمري ما أتمّ الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة" (3). وقد علمت أن الساعي فوقهما لم يطف بينهما. وقد أقسمت على أن من لم يطف بينهما لا يتم حجه كما ترى. __________ (1) الصحيح مع الفتح: 3/ 498، ومعناه في مسلم: (1277) اللفظ الثالث. (2) صحيح مسلم: (1277) اللفظ الأول. (3) صحيح مسلم: (1277) اللفظ الثاني.
(الكتاب/77)
واعلم أن ما يظنه بعض أهل العلم من أن حديث عائشة هذا الدال على أن السعي بين الصفا والمروة لا بد منه، وأنه لا يتم بدونه حج ولا عمرة أنه موقوف عليها غير صواب. بل هو مرفوع. ومن أصرح الأدلة في ذلك أنها رتبت بالفاء قولها: "فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما"، على قولها: "قد سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطواف بينهما"، وهو صريح في أن قولها: "ليس لأحد أن يترك الطواف بينهما" لأجل أنه - صلى الله عليه وسلم - سن الطواف بينهما. ودل هذا الترتيب بالفاء على أن مرادها بأنه سنة أنه فرضَه بسنته كما جزم به ابن حجر في الفتح (1) مقتصرًا عليه مستدلًا له بأنها قالت: "ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة"، فقولها: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سن الطواف بينهما" وترتيبها على ذلك بالفاء في قولها: "فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما" وجزمها بأنه لا يتم حج ولا عمرة إلَّا بذلك دليل واضح على أنها إنما أخذت ذلك مما سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا برأي منها كما ترى. الأمر الخامس: أن إقرار المسعى الأعلى الجديد لا يؤمن أن يكون ذريعة لعواقب غير محمودة، وذلك من جهتين: الأولى: أنه يخشى أن يكون سببًا لتغييرات وزيادات في أماكن النسك الأخرى، كالمرمى (2) وكمطاف مماثل فوق الكعبة. __________ (1) فتح الباري: 3/ 501. (2) رحم الله الشيخ لو كان حيًّا وشاهد أو سمع بما يحصل من الوفيات نتيجة الازدحام الشديد عند رمي الجمرات لكان له موقف آخر. على أنه قد أُحدث مرمى أعلى فوق المرمى الأرضي بناءً على فتوى العلماء. ينظر في هذا السياق: فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم: 5/ 155، والاختيارات =
(الكتاب/78)
الثانية: أنه لا يؤمن أن يكون ذريعة للقال والقيل، وقد شوهد شيء من ذلك عند البحث في تأخير المقام لتوسعة المطاف (1) فلا يؤمن أن يقال: إن الهيئة الفلانية أو الجهة الفلانية بدأت تغير مواضع النسك التي كان عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والمسلمون أربعة عشر قرنًا، والدعايات المغرضة كثيرة، فسد الذريعة إليها مما يستحسن، ولا يخفى أن إقرار هذا المسعى الأعلى الجديد يلزمه جواز إقرار مطاف أعلى جديد مماثل، فقد يقترح مقترح ويطلب طالب جعل سقف فوق الكعبة الشريفة على قدر مساحة المطاف الأرضي، ويجعل فوق السقف المذكور علامات واضحة تحدد مساحة الكعبة تحديدًا دقيقًا، مع تحقيق كون مساحة الكعبة المحددة فوق السقف مسامته للكعبة مسامتة دقيقة، ويبقى صحن ذلك المطاف الأعلى واضحًا متميزًا عن قدر مساحة الكعبة من الهواء الذي فوق السطح، فيطوف الناس حول ذلك الهواء المسامت للكعبة لتخف بذلك وطأة الزحام في المطاف الأرضي، ولا شك أن هذا المطاف الأعلى المفترض لو فرض جوازه فهو أقل مشقة على الطائفين من توسعة المطاف الأرضي؛ لأن المطاف الأرضي كلما اتسع كانت مسافة الشوط في أقصاه أكثر من مسافته فيما يقرب منه من الكعبة، وأما المطاف الأعلى فلا تزيد مسافة الشوط فيه عن مسافته في المطاف الأرضي؛ لاتحادهما في المساحة، فهو أخف على الطائف. ولا نعتقد __________ = الجلية: 1/ 435 للشيخ عبد الله البسام. وقد ظهرت في هذا العام 1425 هـ بعض الإصلاحات والتوسعات لأحواض الجمرات مما حمده الناس واختفت بسببه إحصائيات الوفيات الكثيرة التي كنا نسمعها أو نشاهدها كل عام. (1) انظر شيئًا مما أشار إليه الشيخ في فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم: 5/ 16، 132.
(الكتاب/79)
أن لهذا المطاف الأعلى المفترض مستندًا من الشرع، كما لا نعتقد أن بينه وبين المسعى الجديد فرقًا. وفي الختام فإن زيادة مكان نسك على ما كان عليه المسلمون من عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليوم تحتاج إلى تحر وتثبت ونظر في العواقب، ودليل يجب الرجوع إليه من كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، مع العلم بأن الزحام في أماكن النسك أمر لا بد منه ولا محيص عنه بحال من الأحوال. والله الذي شرع ذلك على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - عالم بما سيكون. والعلم عند الله تعالى. أملاه الفقير إلى رحمة ربه وعفوه/ محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي. حرر في 12/ 11/ 1393 هـ
(الكتاب/80)
ملحق قرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في موضوع حكم السعي فوق سقف المسعى
(الكتاب/81)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله وحده، وبعد: فبناء على خطاب سمو نائب وزير الداخلية للمملكة العربية السعودية رقم 26/ 10612، وتاريخ 21/ 3/ 1393 هـ المتضمن رغبة وزارة الداخلية في دراسة موضوع السعي فوق سقف المسعى من قبل هيئة كبار العلماء بالمملكة، وبناء على ما تقتضيه لائحة سير عمل الهيئة من قيام اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بإعداد بحث علمي فيما يحتاج إلى بحث من المواضيع التي تتجه الرغبة إلى دراستها في الهيئة. قامت اللجنة بإعداد بحث في حكم السعي فوق سقف المسعى. وفيما يلي ما تيسر إعداده من النصوص والنقول التي يمكن أن يستعان بها في هذا الموضوع: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد: فإنه قد عرض على هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية في دورتها الرابعة المنعقدة ما بين 29/ 10/ 1393 هـ و 12/ 11/ 1393 هـ موضوع: حكم السعي فوق سقف المسعى؛ ليكون وسيلة لعلاج ازدحام الناس في المسعى أيام موسم الحج، واطلعت الهيئة على البحث المقدم عنه من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء المعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، هذا نصه (1). __________ (1) يراجع بحث اللجنة في: أبحاث هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية: 1/ 8 - 23.
(الكتاب/83)
الخلاصة
وبعد اطلاع الهيئة على البحث المتقدم ودراستها للمسألة، واستعراض أقوال أهل العلم في حكم الطواف والسعي، والرمي راكبًا، والصلاة إلى هواء الكعبة أو قاعها، وكذا حكم الطواف فوق أسطحة الحرم وأروقته، وحكمهم بأن من ملك أرضًا ملك أسفلها وأعلاها، وبعد تداول الرأي والمناقشة انتهى المجلس بالأكثرية إلى الإفتاء بجواز السعي فوق سقف المسعى عند الحاجة، بشرط استيعاب ما بين الصفا والمروة، وأن لا يخرج عن مسامتة المسعى عرضًا لما يأتي: 1 - لأن حكم أعلى الأرض وأسفلها تابع لحكمها في التملك والاختصاص ونحوهما، فللسعي فوق سقف المسعى حكم السعي على أرضه. 2 - لما ذكره أهل العلم من أنه يجوز للحاج والمعتمر أن يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة راكبًا لعذر باتفاق ولغير عذر على خلاف من بعضهم، فمن يسعى فوق سقف المسعى يشبه من يسعى راكبًا بعيرًا ونحوه، إذ الكل غير مباشر للأرض في سعيه، وعلى رأي من لا يرى جواز السعي راكبًا لغير عذر فإن ازدحام السعاة في الحج يعتبر عذرًا يبرر الجواز. 3 - أجمع أهل العلم على أن استقبال ما فوق الكعبة من هواء في الصلاة كاستقبال بنائها؛ بناء على أن العبرة بالبقعة لا بالبناء، فالسعي فوق سقف المسعى كالسعي على أرضه.
(الكتاب/84)
4 - اتفق العلماء على أنه يجوز الرمي راكبًا وماشيًا، واختلفوا في الأفضل منهما، فإذا جاز رمي الجمرات راكبًا جاز السعي فوق سقف المسعى، فإن كلًّا منهما نسك أُدِّي من غير مباشرة مؤدية للأرض التي أداه عليها، بل السعي فوق السقف أقرب من أداء أي شعيرة من شعائر الحج أو العمرة فوق البعير ونحوه لما في البناء من الثبات الذي لا يوجد في المراكب. 5 - لأن السعي فوق سقف المسعى لا يخرج عن مسمى السعي بين الصفا والمروة، ولما في ذلك من التيسير على المسلمين والتخفيف مما هم فيه من الضيق والازدحام. وقد قال الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] مع عدم وجود ما ينافيه من كتاب أو سنة، بل إن فيما تقدم من المبررات ما يؤيد القول بالجواز عند الحاجة، وقد ذكر ابن حجر الهيثمي رحمه الله رأيه في المسألة فقال في حاشيته على الإيضاح لمحيي الدين النووي ص (131): ولو مشى أو مر في هواء السعي فقياس جعلهم هواء المسجد مسجدًا، صحة سعيه. اهـ.
(الكتاب/85)