الباعث الحثيث في توضيح أصول الفقه على منهج أهل الحديث
التصنيفات
- فقه >> أصول الفقه
المصادر
الوصف المفصل
- الباعث
الحثيث في توضيح أصول الفقه على منهج أهل الحديث
- مقدمة
- تمهيد
- الباب الأول: الدليل على أن أهل الحديث هم الطائفة المنصورة
- الباب
الثاني: قواعد في القواعد
- القاعدة لا تثبت إلا بدليل فيستدل لها من الكتاب والسُّنة، ولا يستدل بها إذا لم تثبت بالدليل
- عدم صحة التمثيل للقاعدة لا يعني عدم صحة القاعدة
- يجب مراعاة القواعد الكلية التي فيها اعتصام بالسُّنة والجماعة
- الدليل الخاص مقدم على القاعدة العامة
- اختلاف العلماء في بعض الفروع لا يعني اختلافهم في القاعدة
- كل قاعدة تذكر في أصول الفقه ولا ينبني عليها فروع فقهية أو لا يحصل من الخلاف فيها خلاف في فرع من فروع الفقه فهي غير داخلة في أصول الفقه
- الباب
الثالث: قواعد في أهل الحديث
- أصول أهل الحديث أصح من أصول غيرهم وطريقتهم أصح من طريقة غيرهم
- الأصل العام الذي يمشي عليه أهل الحديث اتباع الكتاب والحديث الصحيح على فهم السلف الصالح
- ليس كل من انتسب إلى أهل الحديث فهو منهم حتى يمشي على طريقتهم
- منهج أهل الحديث مبني على قواعد وأصول ومسائل
- من خالف أهل الحديث ولو في قاعدة واحدة فإنه لا يعتبر من أهل الحديث
- أهل الحديث يستعملون مع من خالفهم العدل والإنصاف
- الاختلاف يقع بين أهل الحديث ولا يفرق بينهم
- القول الخطأ مردود وإن كان قائله من أهل الحديث
- الحق لا يخرج عن أهل الحديث
- أهل الحديث يعملون بجميع مسائل الدين ويتمسكون بجميعها
- الباب
الرابع: قواعد في الدليل
- الدليل هو الأصل الذي تُبنى عليه القاعدة أو المسألة
- الأحكام الشرعية تؤخذ من الحديث الصحيح ولا يجوز أخذها من الحديث الضعيف
- لا فرق في عدم جواز العمل بالحديث الضعيف بين أن يكون في فضائل الأعمال أو في غير فضائل الأعمال
- يجب فهم الدليل على ما فهمه السلف الصالح
- يجب الأخذ بظاهر الدليل وعدم تأويله
- لا يصرف الدليل عن ظاهره بقول جمهور العلماء
- لا يسقط الاستدلال بالدليل بمجرد تطرق الاحتمال
- لا فرق بين الدليل المتواتر والآحاد في جميع القواعد والأحكام
- يجب العمل بالدليل وإن لم يعرف أن أحداً عمل به
- يجب العمل بالدليل ولو خالفه من خالفه من السلف الصالح رضي الله عليهم
- لا يشرع ترك الدليل وإن عمل الناس بخلافه
- الأدلة لا تعارض بالعقل بل يسلَّم للدليل تسليماً من غير اعتراض عليه
- الأحكام التي وردت في الأدلة مطلقة لا يجوز تحديدها
- الأعيان المذكورة في الدليل لا يلحق بها ما لم يذكر في الدليل
- لا احتياط فيما ورد به الدليل
- يجب تفسير الدليل وفهمه باعتدال من غير إفراط ولا تفريط
- الحكم الوارد في قصة ما لا يكون خاصاً بصاحب القصة بل يكون الاستدلال بذلك الحكم الوارد في تلك القصة داخلاً فيه غير صاحب القصة أيضاً
- يجب الأخذ بجميع الأدلة الواردة في الباب الواحد ولا يترك شيء منها بل يستعمل جميعها كل في موضعه والدليل الذي هو أصل في الباب إليه ترجع جميع أدلة الباب
- يجب الأخذ بجميع الروايات الصحيحة الواردة للحديث الواحد والقصة الواحدة
- لا يتم الاستدلال بالدليل إلا بعد التأمل في كيفية وروده والنظر في كيفية سياقه
- السُّنة يفسر بعضها بعضاً والرواية الصريحة موضحة للرواية المحتملة
- يجب في الاستدلال بالدليل أن يكون دالاً على المطلوب
- ما تعم به حاجة الناس ولم يأت فيه دليل علم أنه مباح
- الباب
الخامس: قواعد في الإجماع
- الإجماع حُجَّة من الحجج الشرعية
- الإجماع لا بد أن يكون له مستند من الكتاب أو السُّنة
- الإجماع لا يُقدَّم على الكتاب والسُّنة
- الإجماع لا ينسخ النص
- الإجماع الذي يغلب على الظن وقوعه هو الإجماع على ما هو معلوم من الدين بالضرورة
- إجماع الصحابة ممكن وقوعه وأما إجماع من بعدهم فمتعذر غالباً
- إذا اختلف عالمان في الإجماع على مسألة ما فإنه يقدم قول من نقل الخلاف في تلك المسألة لأنه مثبت
- عدم العلم بالمخالف لا يصح به دعوى الإجماع
- إجماع أهل المدينة لا يعتبر حُجَّة
- قول جمهور العلماء في مسألة من المسائل لا يعتبر حُجَّة
- الأخذ بأقل ما قيل في مسألة ما ليس تمسكاً بالإجماع
- إحداث التفصيل في مسألة ما ممنوع إذا كان خارقاً للإجماع
- خلاف الظاهرية معتد به
- الباب
السادس: قواعد في القياس
- القياس حُجَّة من الحجج الشرعية
- لا قياس في مقابل النص
- القياس لا يصار إليه إلا عند الضرورة
- يصح القياس على ما ثبت خلافاً للأصل
- القياس الصحيح مقدم على الحديث الضعيف
- قول الصحابي الذي لم يخالفه صحابي آخر مقدم على القياس
- الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً
- العلة لا تثبت إلا بدليل
- العلة إذا انتقصت فوجد الحكم بدونها دل على فسادها؛ لأن الحكم ثبت بدون تلك العلة
- تعقيب الحكم بالوصف دليل على أن الوصف علة
- لا يصح التعليل بمجرد الشبه في الصورة
- لا قياس في العبادات
- @ @ @
الباب السابع: قواعد في أفعال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -
- الخصوصية لا تثبت إلا بدليل
- لا يشرع المداومة على ما لم يداوم عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من العبادات
- ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - لسبب فلا يجعل سُنَّة دائمة إنما يفعل إذا وجد ذلك السبب
- إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - حُجَّة
- ما وقع في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتبر حُجَّة وإن لم يكن اطلع النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه
- الفعل المجرد لا يدل على الوجوب
- ما أصله مباح وتركه النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يدل تركه له على أنه واجب علينا تركه
- الأصل أن ما همَّ به النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعله فإنه لا يكون حُجَّة
- الفعل الجبَّلي المحض الذي ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتقرب المكلَّف بفعله إلى الله عز وجل
- ما استحب النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله من الأمور العادية فيستحب فعله لمحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - له
- ما يحتمل من الأفعال خروجه من الجبلية إلى التشريع بمواظبته على وجه مخصوص فيستحب التأسي به فيه
- العبادة الواحدة إذا فعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - بصفات متعددة دون الجمع بينهما مع إمكان الجمع فلا يشرع الجمع بين تلك الصفات
- فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقع به جميع أنواع البيان
- ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - لفعل ما مع وجود المقتضى له وانتفاء المانع يدل على أن ترك ذلك الفعل سُنَّة وفعله بدعة.
- لا تعارض بين أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم -
- إذا تعارض القول مع الفعل ولم يمكن الجمع بينهما فإن القول مقدم على الفعل
- الفعل الوارد بصيغة «كان» الأصل فيه أنه للتكرار
- الباب
الثامن: قواعد في آثار السلف
- قول الصحابي فيما لا نص فيه يكون حُجَّة إذا لم يخالف صحابياً غيره
- آثار الصحابة يشترط في الاحتجاج بها صحة إسنادها وأما آثار من بعد الصحابة فلا يشترط النظر في إسنادها إلا إذا كان فيها نكارة
- قول الصحابي إذا اشتهر ولم يخالفه أحد يكون إجماعاً وحُجَّة
- إذا اختلف الصحابة في مسألة ما رُجع إلى الأصل ولا يقدم قول بعضهم على بعض
- إذا اختلف الصحابة في مسألة ما على قولين فإن القول الذي فيه أحد الخلفاء الراشدين أرجح من القول الآخر
- إذا اختلف الصحابة في مسألة وليس فيها دليل ولا قول لأحد الخلفاء الراشدين فإنه يؤخذ بقول الأكثر منهم
- إذا قال الصحابي قولاً لا مجال للرأي فيه فقوله مقدم على قول من خالفه من الصحابة
- الصحابي أدرى بمرويه من غيره
- إذا خالف الصحابي ما رواه فالعبرة بما رواه لا بما رآه
- إذا اختلف قول الصحابي مع حديث مرفوع وأمكن الجمع فإن الجمع بينهما أولى
- يجب الرجوع إلى الصحابة في تفسير معاني الألفاظ
- ما أقره الصحابة ولم ينكروه أو كان مشهوراً في عهد السلف ولم ينكروه دل ذلك على مشروعيته
- قول الصحابي: كانوا يفعلون كذا وكذا أو كنَّا نفعل كذا فله حكم المرفوع
- كل ما ورد عن الصحابي من قول أو فعل مما لا مجال للرأي فيه فله حكم المرفوع فيكون حُجَّة وما ورد عن التابعين له حكم المرفوع فلا يكون حجة
- قول الصحابي من السُّنة كذا فله حكم المرفوع وقول التابعي من السُّنة كذا وكذا يكون في حكم المرسل فلا يكون حُجَّة
- قول الصحابي: «أُمرنا بكذا ونُهينا عن كذا» بصيغة البناء للمجهول فيعني به أمر ونهي صاحب الشريعة
- إذا جاء عن أحد من السلف في المسألة الواحدة قولان ولم يكن فيها دليل فإنه يجمع بين القولين فإن كان في المسألة دليل أخذ بالقول الذي يؤيده الدليل
- لا تنسب قاعدة إلى السلف بفعل أو قول يصدر من آحاد السلف
- الأخذ بفتاوى التابعين أولى من الأخذ بفتاوى اتباع التابعين
- إذا اختلفت أقوال السلف في مسألة وأمكن الجمع بينها فإن الجمع بينها أولى
- جمع عبارات السلف في المكان الواحد أدل على المقصود من عبارة أو عبارتين
- يجب حمل كلام السلف على مرادهم واصطلاحهم
- أقوال التابعين في مسألة ما ليست بحجة
- إذا ورد لأحد الأئمة في مسألة ما كلام محتمل وكلام آخر صريح فإن الكلام المحتمل يرجع إلى الكلام الصريح ويحمل عليه
- الباب التاسع: قواعد في الناسخ والمنسوخ
- الباب
العاشر: قواعد في الجمع والترجيح
- الأحاديث المتعارضة يجمع بينهما ولا تطرح
- لا يُجمع بين الدليلين إذا كان أحدهما لا يثبت
- لا يُجمع بين الدليلين المتعارضين بتأويل بعيد
- لا يصار إلى الترجيح مع إمكان الجمع
- لا يصح الترجيح إلا بالطرق المعتبرة في الشرع
- إذا تعارض حديثان في قضيتين متشابهتين تحت جنس واحد فإنهما يجعلان حكمين مختلفين ويستعمل كل واحد من الحديثين في موضعه
- إذا جاء حكم صريح في حديث من الأحاديث فلا يعارض ذلك الحديث الصريح بحكم مستنبط من حديث آخر لم يسق لذلك المعنى بالكلية
- رواية الراوي لحكم من الأحكام مقدمة على رواية من نفى ذلك الحكم
- الخاتمة
الباعث الحثيث في توضيح أصول الفقه على منهج أهل الحديث
إعداد: ناصر بن سعيد بن سيف السيف
مقدمة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد :
فمن المعلوم أن من أساس كل فن معرفة أصوله ومن أهم فنون الدِّين وطلب العلم فيه والتفقه هو فن الفقه بمعرفة الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية التي لا يستغني عنها طالب العلم إذا أراد أن يعبد الله على بصيرة فمن نعمة الله سبحانه وتعالى علينا بأن أخذنا كثيراً من علم الفقه وأصوله وقواعده من مؤلفات فضيلة شيخنا الشيخ وليد بن راشد السعيدان حفظه الله تعالى المشرف العام على موقع شبكة تيسير العلم الإسلامية وصاحب الصفحة المميزة في موقع صيد الفوائد، ومؤلفاته تمتاز بالتأصيل والتقعيد دائماً فمن هذا المنطلق شرح فضيلة شيخنا الأبواب العشرة الأولى من (كتاب توضيح أصول الفقه على منهج أهل الحديث) لفضيلة الشيخ زكريا بن غلام قادر الباكستاني حفظه الله تعالى وقد سميت هذه الورقات مجتهداً: «الباعث الحثيث في توضيح أصول الفقه على منهج أهل الحديث». نسأل الله العلي القدير أن يرزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال وأن يجعل قرارنا الفردوس الأعلى من الجنة وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين([1]).
كتبه الفقير إلى عفو ربه القدير
أبو خلاد ناصر بن سعيد بن سيف السيف
تمهيد
* الاستفادة من هذا الكتاب:
الأولى: معرفة القواعد المتفقة عند أهل السُّنة والجماعة.
الثانية: معرفة أقوال العلماء التي تؤيد هذه القواعد.
* الملاحظات على هذا الكتاب:
الأولى: قلة الاستدلال على القواعد.
الثانية: قلة الأمثلة على القواعد.
الثالثة: عدم توضيح القاعدة توضيحاً كاملاً.
* المعروف عند أهل السُّنة والجماعة:
قاعدة: من الإنصاف أن يغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه.
قاعدة: عمل البشر مناطه النقص.
قاعدة: ما يصدر من الناقص فهو ناقص.
* طريقة الشرح لهذا الكتاب:
الأولى: توضيح القاعدة.
الثانية: ذكر التفريع والأدلة.
الثالثة: الإيجاز.
* طالب العلم يهتم بأمرين:
الأول: تأليف الكتاب.
الثاني: تخريج الطلاب فكل ما خرجتَ طالباً فقد ألفتَ كتاباً.
الباب الأول: الدليل على أن أهل الحديث هم الطائفة المنصورة
أخرج البخاري ومسلم من حديث معاوية - رضي الله عنه -عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس».
وفي رواية للترمذي من حديث معاوية بن قرة عن أبيه مرفوعاً: «لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة».
وقد تتابعت كلمات الأئمة أن هذه الطائفة المنصورة والفرقة الناجية هم أهل الحديث.
@ @ @
الباب الثاني: قواعد في القواعد
القاعدة الأولى
القاعدة لا تثبت إلا بدليل فيستدل لها من الكتاب والسُّنة، ولا يستدل بها إذا لم تثبت بالدليل
هنا مسألتان هما:
الأولى: القاعدة المعتمدة عند أهل السُّنة والجماعة ما نص عليها الدليل.
الثانية: القاعدة التي لا نص عليها لا يجوز الاستدلال بها.
* ضابط القواعد عند أهل السُّنة والجماعة:
القواعد المعتمدة عند أهل السُّنة والجماعة هي القواعد التي تستمد من الكتاب والسُّنة.
- مثال: قاعدة: إنما الأعمال بالنيات.
هذه القاعدة مستمدة من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -في قوله - صلى الله عليه وسلم - : «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى... الحديث» متفق عليه.
- مثال: قاعدة: كل إحداث في الدين فهو رد.
هذه القاعدة مستمدة من حديث عائشة رضي الله عنها في قوله - صلى الله عليه وسلم - : «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» متفق عليه.
- مثال: قاعدة: الدين كامل في أصوله وفروعه وكلياته وجزئياته.
هذه القاعدة مستمدة من قوله تعالى: [اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] {المائدة:3}.
ملاحظة: أي قاعدة تخالف الدليل فإنها ليست قاعدة شرعية ولا يحتج بها.
ومن القواعد المخالفة للكتاب والسُّنة في مذهب المالكية: قولهم في القواعد: الأصل في الأشياء الحرمة إلا إذا ورد الدليل بحلها.
وهذه القاعدة غير صحيحة لأن الله سبحانه وتعالى قال: [وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا] {الجاثية:13} ومقتضى هذا التسخير أن يكون طاهراً وحلالاً لأن الحرام ليس مسخراً لنا.
ومن القواعد المخالفة للكتاب والسُّنة في مذهب الحنفية: قولهم في القواعد: خبر الآحاد غير معتمد فيما تعم به البلوى.
وهذه القاعدة غير صحيحة لأنها تتضمن رد ما صح من الأدلة فهي مخالفة للكتاب والسُّنة لأن الله تعالى يقول: [وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ] {الحشر:7} فأطلق هذا الأخذ مطلقاً مما تعم به البلوى أو مما لا تعم به البلوى وقد تقرر في القواعد: (الأصل بقاء المطلق على إطلاقه ولا يقيّد إلا بدليل).
وهنا فائدة طيبة وهي: أن النص إذا جاء بلفظ يجعل هو القاعدة لأن التعبير بألفاظ النصوص أفضل من التعبير بألفاظ أهل العلم لأن ألفاظ النصوص أبعد عن المداخلات وأبعد عن الإيرادات عن الإشكالات وعن اللوازم الباطلة. وقد تقرر عند أهل السُّنة والجماعة: «أن التعبير عن مسائل العقيدة والفقه بألفاظ النصوص أولى من التعبير بألفاظ الناس» ومثال ذلك قاعدة: «الأمور بمقاصدها» منتشرة بين أهل العلم ويدخل عليها من الاحتمالات ما لا يدخل على قوله - صلى الله عليه وسلم - : «إنما الأعمال بالنيات» ولو بحثت في أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لوجدت من القواعد المنصوصة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «فمن بنى الكلام في علم الأصول والفروع على الكتاب والسُّنة والآثار المأثورة عن السابقين فقد أصاب طريق النبوة».
القاعدة الثانية
عدم صحة التمثيل للقاعدة لا يعني عدم صحة القاعدة
من المعروف أن لكل قاعدة مستثنيات والطريقة الصحيحة في شرح القواعد أن يكثر الشارح الأمثلة لأن القارئ ربما يخالفك في بعض الأمثلة ويوافقك في بعضها ولذا فإن عدم صحة التمثيل للقاعدة قد يؤثر على القارئ في فهم صحة القاعدة.
احرصوا يا طلاب العلم إذا أردتم أن تقعِّدوا قاعدة أن تستثنوا لأن القاعدة المستثناة لا تكون مرفوضة دائماً ومثال على ذلك قاعدة: (الأصل في المياه الطهورية إلا بدليل) وكذلك: (الأصل في الأوامر الوجوب والفورية إلا بدليل) وكذلك: (الأصل في النواهي التحريم والفساد إلا بدليل) وكذلك: (الأصل في الحيوانات الحل والإباحة إلا بدليل).
* الخلاصة: القاعدة الصحيحة إذا لم تجد عليها مثالاً واضحاً فلا تتهم القاعدة بأنها غير صحيحة لأنها ما ذكرت إلا بدلالة الكتاب والسُّنة.
القاعدة الثالثة
يجب مراعاة القواعد الكلية التي فيها اعتصام بالسُّنة والجماعة
قال الله عز وجل: [وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ] {الأعراف: 170} فإن الله عز وجل مدح هذه الطائفة، وهناك بعض القواعد المهمة في الشريعة يؤدي الاضطراب في فهمها الاختلاف في مضمونها إلى تفرق الأمة وعدم الاعتصام بالكتاب والسُّنة.
- مثال على ذلك قاعدة: «أن الدين مبني على الهدى والاتباع لا على الهوى والابتداع» فهذه قاعدة مهمة يتعلق بها مصير الأمة ويحرص عليها طالب العلم على نشرها في المحافل والمناسبات ومثلها قواعد التوحيد وقواعد الأسماء والصفات وقواعد العقيدة وقواعد مذاهب الأئمة ولذا يقولون: «تعظم القاعدة بعظمة الخلاف في فروعها» فإذا كان الخلاف سائغاً في القاعدة فهذا دليل على يسر وسهولة القاعدة ولكن إذا اختلفنا في قاعدة من قواعد الأسماء والصفات فيكون الخلاف في فروعها لا يكون خلافاً سائغاً ومن المعروف أن الخلاف كله شر ولكن هناك خلاف سائغ شره يسير وهناك خلاف سائغ شره كبير ومستطير.
القاعدة الرابعة
الدليل الخاص مقدم على القاعدة العامة
إذا جاء في مسألة دليل خاص بهذه فلا يلتفت إلى القواعد العامة وإنما يُلتفت إلى القواعد العامة فيما لا نص فيه.
- مثال: لقد دل الدليل الشرعي الصريح الصحيح الخاص المتفق عليه على بطلان دين اليهود والنصارى بعد بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - . ومن القواعد المقررة: «الأخذ بالمصالح المرسلة» فلا يأتِ رجل جاهل فيقول عملاً بهذه القاعدة علينا أن نفتح الحوار مع اليهود والنصارى في معرفة الصواب والخطأ في دينهم ومن المنصوص عليه عندنا بالدليل الخاص ببطلان ما هم عليه وقاعدة المصالح المرسلة خالفت دليلاً خاصاً بقولهم: نبين أن هذا الدين دين واسع ودين سماحة ومثل ذلك.
القاعدة الخامسة
اختلاف العلماء في بعض الفروع لا يعني اختلافهم في القاعدة
المثال على هذه القاعدة: ذهب الجمهور من الفقهاء والأصوليين على أن الأمر يقتضي الوجوب والفورية إلا بقرينه ولكن اختلفوا في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلْيغسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء».
ذهب الظاهرية ورواية عند الإمام أحمد وهي المشهورة أن الأمر هنا للوجوب وذهب الشافعية والحنفية والمالكية أن الأمر هنا للاستحباب فهنا اختلفوا في فرع من قاعدة هم متفقون عليها فلا يدل اختلافهم في الفروع على اختلافهم في أصل القاعدة.
سبب اختلافهم: اختلاف الصوارف هل الأمر من باب العبادات أم من باب الآداب.
الظاهرية والحنابلة لا يفرقون بين الأمر من باب العبادات أو الآداب فالأمر هنا للوجوب لصيغة الأمر عند العرب ولم ينظروا إلى المأمور به.
الشافعية والحنفية والمالكية يقولون أن الأمر هنا من باب الآداب فلا يتعلق به شيئاً من العبادات.
والراجح في هذه المسألة: أن الأمر هنا للوجوب.
الدين كله آداب إما أدب مع الله جل وعلا وإما أدب مع النفس وإما أدب مع الناس فهذه هي الشريعة وأما التقسيم من باب العبادات ومن باب الآداب فقد تقرر في القواعد «أن التقسيم المنسوب للشرع توقيفي على الدليل».
القاعدة السادسة
كل قاعدة تذكر في أصول الفقه ولا ينبني عليها فروع فقهية أو لا يحصل من الخلاف فيها خلاف في فرع من فروع الفقه فهي غير داخلة في أصول الفقه
أول من صنّف في أصول الفقه هو الإمام الشافعي في كتابه الرسالة وهو من أنفع الكتب وأحسنها فقد بنى كتابه على الأدلة الشرعية والآثار السلفية ثم كثرت التصانيف بعد ذلك.
وكان أكثر أصحاب الكتب الأصولية من الأشاعرة أو من المعتزلة فأفسدوا علم أصول الفقه فأدخلوا فيه علم الكلام ومسائل لا ثمرة من ذكرها ومسائل لا تتعلق لها بأصول الفقه وعقَّدوا العبارات وجعلوا الفلسفة واللغة هي الأصل فقدموها على الكتاب والسُّنة وآثار السلف الصالح فانصرف الناس عن دراسة أصول الفقه بسبب هذه الأمور والتعقيدات التي دخلت في مسائل الأصول.
@ @ @
الباب الثالث: قواعد في أهل الحديث
القاعدة الأولى
أصول أهل الحديث أصح من أصول غيرهم وطريقتهم أصح من طريقة غيرهم
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «إن أحق الناس بأن تكون هذه الفرقة الناجية: أهل الحديث والسُّنة الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله وأعظمهم تمييزاً بين صحيحها وسقيمها وأئمتهم فقهاء فيها وأهل معرفة بمعانيها واتباعاً لها تصديقاً وعملاً وحباً وموالاةً لمن والاها ومعادةً لمن عاداها».
القاعدة الثانية
الأصل العام الذي يمشي عليه أهل الحديث اتباع الكتاب والحديث الصحيح على فهم السلف الصالح
قال الإمام أحمد رحمه الله: «أصول السُّنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ».
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ونحن لا نعني بأهل الحديث المقتصرين على سامعه أو كتابته أو روايته بل نعني بهم كل من كان أحق بحفظه ومعرفته وفهمه ظاهراً وباطناً اتباعه باطناً وظاهراً».
القاعدة الثالثة
ليس كل من انتسب إلى أهل الحديث فهو منهم حتى يمشي على طريقتهم
الانتساب إلى أهل الحديث من باب الدعوى اللسانية فهذا لا يكفي فلا بد من الدعوى العملية واللسانية لأن الدعاوى كثيرة فقد طلب النبي - صلى الله عليه وسلم - البيّنة على المدّعي فإذا كان الرجل يزعم أنه من أهل الحديث يجب أن يكون متبعاً لهم ظاهراً وباطناً ومعتمداً على قواعدهم ومناهجهم في التعامل مع الأحاديث ومن نادى بذلك ننظر إلى اعتقاده وعمله.
فكيف يدّعي الرافضة أنهم أهل الحديث وهم لا يأخذون بالصحيحين أو كيف يدَّعي الأشاعرة أنهم أهل الحديث وهم يحكّمون العقل ويعظّمونه ويقدّمونه على الحديث حتى قال بعضهم: «لا نقبل الحديث إلا إذا عرضناه على العقل فإن قبل أخذنا به وإلا لا نأخذ به». أو كيف يدَّعى المعتزلة أنهم أهل الحديث وهم ينكرون الأسماء والصفات ويخالفون الأحاديث المتواترة والآيات.
قال الخطيب البغدادي رحمه الله: «وكل مبتدع باعتقادهم يتظاهر وهو على الإفصاح بغير مذهبهم لا يتجاسر».
القاعدة الرابعة
منهج أهل الحديث مبني على قواعد وأصول ومسائل
العبرة بالأخذ من الأصول والقواعد ليس بالمسائل والفروع فقط. فالأشاعرة والمعتزلة والخوارج وغيرهم يوافقون أهل السُّنة في بعض المسائل. والفروع ويخالفونهم في الأصول فليس هؤلاء من أهل السُّنة.
مثال: الأشاعرة يعظّمون الصحابة ويؤمنون بمنازلهم ويسكتون عمّا شجر بينهم وهذا من مذهب أهل السُّنة والجماعة وهم ليس من أهل السُّنة والجماعة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «إن كل حق مع الفرق إنما استفاده عندما تشبّه بأهل الحديث».
الرد على من قال أن الأشاعرة من أهل السُّنة والجماعة:
الانتساب إلى أهل الحديث ليس مجرد كلام وإنما إقامة الدعوة على براهين تصدِّق ذلك فالأشاعرة يقولون نحن أهل السُّنة والجماعة، ولكن من هم أهل السُّنة والجماعة؟!.
السُّنة: الاعتصام بالسُّنة وجعلها المصدر الثاني من مصادر التشريع.
الجماعة: مأخوذة من الاجتماع ومصدره الإجماع وهو المصدر الثالث من مصادر التشريع.
فهل هؤلاء أخذوا بالسُّنة والإجماع فهذه دعوى خالية من الدليل والبرهان وأما أبو الحسن الأشعري فقد ثبت رجوعه إلى أهل السُّنة والجماعة في آخر حياته وأما اتباعه فما زالوا على مذهبه القديم وألف في ذلك كتابه «الإبانة عن أصول الديانة» فهذا الرجل تقلّب في ثلاثة مذاهب فبقي أربعين سنة معتزلياً ثم تحوَّل إلى مذهب الماتريدية فلم يعجبه فأخذ من هذا وهذا وأنشأ مذهب الأشاعرة ثم رجع إلى أهل السُّنة فالرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل فرحمه الله رحمة واسعة.
القاعدة الخامسة
من خالف أهل الحديث ولو في قاعدة واحدة فإنه لا يعتبر من أهل الحديث
إذا اتفق أهل الحديث على قاعدة وخالفها أي أحد فإنه يخرج من دائرة أهل الحديث وينسب إلى غيرهم.
ولذا فإن طالب العلم ينبغي عليه أن يحرص حرصاً كبيراً وينظر إلى القواعد التي يعتمدها ويكتبها ويفتي الناس بها هل هي متفقة مع أهل الحديث وهذا يكون بالبحث وسؤال أهل العلم الراسخين.
القاعدة السادسة
أهل الحديث يستعملون مع من خالفهم العدل والإنصاف
أهل السُّنة والجماعة أخذوا بالكتاب والسُّنة وبالعدل والإنصاف وإعطاء الناس حقوقهم قال الله تعالى: [وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ] {الشعراء:183}.
أهل السُّنة يعتمدون في مسيرهم إلى الله تعالى:
1- أنهم يتبعون الكتاب والسنة.
2- أنهم يرحمون الخلق.
3- أنهم يتبعون الحق.
فأهل السُّنة والجماعة أخذوا بالمناهج والعقائد الصحيحة فكلما اشتدت إساءة الفرق لأهل السُّنة والجماعة كلما ازداد تمسكهم بالكتاب والسنة ورحمتهم بالخلق واتباعهم للحق.
القاعدة السابعة
الاختلاف يقع بين أهل الحديث ولا يفرق بينهم
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «بعد ذلك اختلاف أهل الحديث وهم أقل الطوائف اختلافاً في أصولهم لأن ميراثهم من النبوة».
أهل الحديث لا يختلفون في الأصول والاعتقاد ولكن اختلفوا في بعض الجزئيات خلافاً سائغاً ولكن المختلف لا يكون له سبب في الفرقة أو اتخاذ مذهب خالص.
القاعدة الثامنة
القول الخطأ مردود وإن كان قائله من أهل الحديث
هذه من قواعد العدل والإنصاف عند أهل السُّنة والجماعة فالحق ما وافق الكتاب والسُّنة وإن جاء به أقل الناس منزلة، والباطل من خالف الكتاب والسُّنة وإن جاء به أعلى الناس منزلة، إذاً الأقوال لا تكتسب قوة من حيث قائلها وإنما قوتها بموافتها للكتاب والسُّنة.
القاعدة التاسعة
الحق لا يخرج عن أهل الحديث
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: لم يجتمع قط أهل الحديث على خلاف قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في كلمة واحدة والحق لا يخرج عنهم قط وكل ما اجتمعوا عليه مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - بل من خالف مذاهبهم في الشرائع العملية كان مخالفاً للسنة الثابتة.
القاعدة العاشرة
أهل الحديث يعملون بجميع مسائل الدين ويتمسكون بجميعها
اعلم رحمني الله وإياك ووفقنا إلى العلم النافع والعمل الصالح أن تقسيم الدين إلى أصول وفروع من الألفاظ المجملة التي تحتمل الحق والباطل ولذا فإن أهل السُّنة والجماعة قرروا قاعدة مفيدة في المنهج: (أن اللفظ إذا كان مجملاً يحتمل الحق والباطل فلا نقبله مطلقاً ولا نرده مطلقاً وإنما نوقفه على التفصيل فإذا تبين حقه قبلناه وإذا تبين باطله رددناه» فتكون بذلك المسائل المتفق عليها في كل الفنون والعلوم تسمى مسائل الأصول والمسائل المختلف فيها تسمى مسائل الفروع وهذا هو التفصيل الصحيح.
ويتنبه أن المقصود بهذا التقسيم: أن الأصول ما كان في أمور العقيدة وما كان في أمور الفقه من الفروع فهذا التقسيم محدث وبدعة داخل في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» فلم يعمله الصحابة والتابعون وسلف الأمة وردّ على ذلك أهل العلم ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى.
@ @ @
الباب الرابع: قواعد في الدليل
القاعدة الأولى
الدليل هو الأصل الذي تُبنى عليه القاعدة أو المسألة
السلف لا يبنون قواعدهم ولا يفرِّعون فروعهم إلا بما ثبث عندهم من الأدلة ولذلك لا تجد خلافاً بين علماء الحديث في التقعيد والتفريع وهذا هو الغالب والعبرة بالغالب الشائع لا بالقليل النادر.
والسبب في قلة الخلاف بين علماء الحديث أن قواعدهم وفروعهم مبنية على ما ثبت من الدليل.
القاعدة الثانية
الأحكام الشرعية تؤخذ من الحديث الصحيح ولا يجوز أخذها من الحديث الضعيف
اتفق العلماء على أن الأحكام الشرعية لا تثبت إلا بالأدلة الصحيحة الصريحة ولكن اختلفوا في فضائل الأعمال وخلافهم هذا على ثلاثة أقوال وهي:
القول الأول: منهم من فتح الباب مطلقاً يعني أن متى ثبت الحديث في فضائل الأعمال فلا بأس بالعمل به.
القول الثاني: منهم من منع الباب مطلقاً بأن لا يجوز الاستدلال بالحديث الضعيف بغض النظر عن درجة الضعف وهو مذهب غالب أهل الحديث.
القول الثالث: منهم الشافعي ومن تبعه توسطوا في ذلك وقالوا: إن الحديث الضعيف يجوز العمل به بشروط وهي:
1- أن لا يكون ضعفه شديداً.
2- أن تتلقاه الأمة بالقبول.
3- أن لا يخالف أصلاً منصوصاً عليه.
4- أن يثبت عمل بعض السلف به.
القول الصحيح: لا يجوز العمل بالحديث الضعيف مُطلقاً وفي الأحاديث الصحيحة غُنية عن الأحاديث الضعيفة. وهذا المذهب تبنَّاه في هذا الزمان شيخ المحدثين الإمام الألباني رحمه الله.
فائدة: الذين يعملون بالحديث الضعيف من السلف لا يقصدون الحديث الذي يثبت قولاً أو عملاً زائداً وإنما يقصدون الحديث الذي يثبت أجراً زائداً أو ترغيباً أو ترهيباً ومثال ذلك:
- اتفق العلماء على حرمة الغيبة وأنها من كبائر الذنوب ولكن هناك أحاديث ضعيفة فيها تشديد بحرمة الغيبة فلا بأس بإيرادها من باب الترهيب الزائد.
- أثبتت الأحاديث الصحيحة فضل الصلاة وأجرها على وجه الإجمال وهناك أحاديث ضعيفة فيها ترغيب بالأجر الزائد فلا بأس بإيرادها من باب الترغيب الزائد.
مسألة: اختلاف أهل الحديث في صحة وضعف أحاديث الأذكار:
لا يخلو الإنسان في هذه المسألة من حالتين هما:
الحالة الأولى: أن يكون مجتهداً فلا يجوز أن يتبع أحد القولين فيجب عليه البحث في الأسانيد والحكم على الحديث ويتعبَّد الله بذلك فإن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجرٌ واحدٌ.
الحالة الثانية: أن يكون مقلِّداً فلا يجوز أن يتبع إلا من كان من أهل العلم المعروفين بذلك.
القاعدة الثالثة
لا فرق في عدم جواز العمل بالحديث الضعيف بين أن يكون في فضائل الأعمال أو في غير فضائل الأعمال
الأدلة الشرعية شرط في إثبات الأحكام الشرعية ومن استدل بالحديث الضعيف في إثبات الأحكام الشرعية قلنا له من القواعد المقررة عندنا: «الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة».
القاعدة الرابعة
يجب فهم الدليل على ما فهمه السلف الصالح
دعوتنا مبنيّة على ثلاثة أركان وهي: كتاب الله عز وجل وسنَّة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وفهم سلف الأمة.
ولذا لا يمكن الانتفاع بالركنين الأوليين إلا بفهم سلف الأمة لأنهم أعمق الأمة علماً وأكثرها فهماً ومعرفةً بمواقع التنزيل ممن جاء بعدهم.
وهنا قاعدة مهمة: كل فهم يخالف فهم سلف الأمة في مسائل الاعتقاد فهو باطل وهذا قيد مهم جداً ينبّه عليه طلاب العلم لأن كل الفرق المخالفة لأهل السُّنة والجماعة يدّعون أنهم أهل السُّنة والجماعة مع ذلك تجد في اعتقادهم ومناهجهم ما يخالف اعتقاد ومناهج أهل السُّنة والجماعة.
القاعدة الخامسة
يجب الأخذ بظاهر الدليل وعدم تأويله
المتقرر عند سلف الأمة وأئمتها: أن الأصل هو البقاء على الظاهر فلا يجوز القول بالتأويل أو الانتقال عن الظاهر إلا بدليل
الظاهر: أول المعاني التي تتبادر إلى الذهن فلا بد أن نقول على مقتضى دلالات اللغة.
النص: لا يحتمل إلا معنى واحداً.
الدلالة النصية أقوى من دلالة الظاهر لأن دلالة الظاهر تحتمل وجهين أحدهما أرجح:
ويجب أن نأخذ بالظاهر فلا يجوز الانتقال منه إلى ما نسبته قليلة وهو ما يسمى بالمؤول.
مثال: اختلف أهل العلم في الوضوء من أكل لحم الإبل.
القول الصحيح: وجوب الوضوء من لحم الإبل.
القضية في هذه المسألة هي: فهم كلمة الوضوء لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «توضؤا من لحوم الإبل» وقد ورد في أحاديث الوضوء من لحم الإبل ثلاثة هي:
الحديث الأول: رواه جابر بن سمرة رضي الله عنه.
الحديث الثاني: رواه البراء بن عازب رضي الله عنه.
الحديث الثالث: رواه ذو الغُرة التميمي رضي الله عنه.
الشاهد من هذا بأن الذين يقولون أن الوضوء من لحم الإبل غير واجب يفسرون كلمة الوضوء هنا بـ «غسل اليدين» لأنه ورد في الشرع جملة من معاني الوضوء (غسل اليدين) وكذلك معنى (غسل الأعضاء الأربعة بصفة مخصوصة) وغالب الشرع يراد المعنى الثاني.
وأما حديث عمار بن ياسر - رضي الله عنه -«أن من بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده».
فإن هذا الحديث لا يصح سنداً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
إذاً الدلالات ثلاث وهي:
- النص: وهو اللفظ الذي لا يحتمل إلا معنى واحداً.
- الظاهر: وهو اللفظ الذي يحتمل معنيين ويجب أن تأخذ بأرجحهما.
- المؤول: ويسميه العلماء «الوهم» هو الأخذ بالمعنى المرجوح وترك الراجح.
مثال على دلالات المؤول: قوله تعالى: [الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى] {طه:5} ذهب جميع السلف أن الاستواء صفة حقيقية لله عز وجل وهي من صفات الأفعال وذهب المبتدعة أن الاستواء بمعنى الاستيلاء، فحمل الاستواء على الاستيلاء أخذٌ بالمؤول «الوهم» وهو الأخذ بدرجة الاحتمال الضعيفة وترك درجة الاحتمال القوية فالأخذ بالراجح أخذ بالظاهر والأخذ بالمرجوح أخذ بالمؤول «الوهم».
الخلاصة في هذه القاعدة: هناك قاعدتان وأصلان من أصول أهل السُّنة يجب حفظهما والعمل بهما وهما:
1- الأصل البقاء على الظاهر حتى يرد الناقل.
2- الأصل البقاء على الحقيقة حتى ترد قرينة المجاز.
القاعدة السادسة
لا يصرف الدليل عن ظاهره بقول جمهور العلماء
أهل العلم يفسرون قول الجمهور بتفسيرين وهما:
1- ثلاثة من الأئمة الأربعة «أصحاب المذاهب المعروفة».
2- أغلب العلماء سواءً من الأئمة الأربعة أو من غيرهم.
مذهب الجمهور لا يجوز أن يكون من القرائن التي تصرف الألفاظ عن ظواهرها بل أن الظاهر من الكتاب أو السُّنة لا يجوز صرفه إلا بدليل من الكتاب أو السُّنة.
وكذلك الأصل في الكلام الحقيقة فلا يجوز العدول عن الحقيقة إلا بدليل وقرينة من كتاب الله وسُنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
وكذلك أن الأصل في الأمر الوجوب والفورية ولا يجوز الانصراف عن هذا إلا بقرينة وصارف، وليس من الصوارف قول الجمهور أن الأمر يدل على الاستحباب.
وكذلك الأصل في النهي التحريم فلا يجوز الانصراف عن هذا النهي إلا بقرينة وصارف، وليس من الصوارف أن الجمهور قالوا أن هذا التحريم يدل على الكراهة لا على التحريم.
مثال ذلك: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث وفي رواية: فليغسل يديه».
وهذا أمر والأصل أن قول الأمر يدل على الوجوب والفورية ولكن مذهب الجمهور أن الأمر يدل على الاستحباب.
إذاً مذهب الجمهور لا يصلح أن يكون دليلاً ولا قرينةً تصرف الكلام عن ظاهره إلى مؤوله أو من حقيقته إلى مجازه أو من الأمر إلى الاستحباب أو من النهي إلى الكراهة وكلام العلماء يستدل له ولا يستدل به. والكثرة والقلة لا تعرف بها الصحة أو الفساد ولا يعرف القبول ولا الرد بل أن الأدلة ذمة الكثرة فقد قال تعالى: [وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ] {الأنعام:116} وقال تعالى: [وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ] {يوسف:103} ولكن القلة ممدوحة فقد قال تعالى [وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ] {سبأ:13} وقال تعالى: [وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ] {هود:40} وغيرها إذاً ميزان معرفة الحق من الباطل ليس هو كثرة القائلين به وإنما هو بحسب موافقة الكتاب والسُّنة.
القاعدة السابعة
لا يسقط الاستدلال بالدليل بمجرد تطرق الاحتمال
هناك قاعدة عند الأصوليين تقول: إذا تطرق الاحتمال للاستدلال سقط به الاستدلال فهذه القاعدة تقيد كلام الأصوليين فلا يجوز قبوله على إطلاقه أصلاً لأنه ليس دليل إلا وقد يتطرق إليه الاحتمال لأن غالب الأدلة إما تكون عامة فيدخلها التخصيص فهذا احتمال وإما تكون مطلقة فيدخلها التقييد فهذا احتمال فغالب الأدلة يدخلها شيء من الاحتمالات فلو جعلنا مجرد دخول الاحتمالات على الأدلة سبباً لسقوطها أكثر الأدلة.
إذاً قول الأصوليين هذا خطأ وتقييد ذكر هذا الاحتمال بأن يكون قوياً ومقبولاً، وليس قولنا هذا بأنه يسقط به الاستدلال بأننا نلغيه ونخرجه من أدلة الكتاب والسُّنة بل أننا نسقط الاستدلال على هذا الفرع فقط وإلا فقد يكون هذا الدليل يستدل به على كثيرٍ من المسائل.
القاعدة الثامنة
لا فرق بين الدليل المتواتر والآحاد في جميع القواعد والأحكام
اتفاق سلف الأمة أن خبر الآحاد حُجَّة مطلقة.
خبر الآحاد: (ما يرويه الواحد والاثنان أو الثلاثة ولا يصل إلى حد المتواتر).
اعلم رحمني الله وإياك: أن تقسيم السُّنة إلى أخبار آحاد وأخبار متواترة تقسيم مبتدع وتقسيم مجمل قد نقبله أحياناً ولا نقبله أحياناً.
فإذا كانوا يقصدون بالمتواتر والآحاد مجرد معرفة طريقة ما ثبتت به الأخبار فهذا لا بأس.
وأما إذا كان هذا التقسيم يؤثر في قضية العمل بإخبار الآحاد فهذا تقسيم مبتدع.
مثل قولهم بأن الأمور العقائدية لا نقبل فيها إلا الأخبار المتواترة وأما أخبار الآحاد فإننا نردها ويمثل بذلك: صفة الضحك وصفة الفرح وصفة العجب وصفة الأصابع لله عز وجل.
هذه وردت من أحاديث آحاد في أمور العقيدة فيردونها.
وكذلك من التقاسيم التي لا نقبلها قولهم: «أن حديث الآحاد لا يقبل فيما تعم به البلوى» وهذا ما عليه مذهب الحنفية وهذا التقسيم مبتدع لأن العبرة بصحة السند إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا صح السند ولم يُنسخ هذا الكلام فالواجب علينا اعتماده فقهياً أو عقائدياً سواء تعم به البلوى أم لا.
وكذلك من التقاسيم التي لا نقبلها قولهم: «إن خبر الآحاد إذا خالف القياس فإنه يقدم القياس على خبر الآحاد».
فكل تقسيم يخالف قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه يرد ويطرح ويشترط في أخبار الأحاد شرطان هما:
1- أن يصح سنده للنبي - صلى الله عليه وسلم - .
2- أن الخبر لم يُنسخ.
فإذا توفر الشرطان فإن خبر الآحاد حُجَّة مطلقة وثبت أن الصحابة وسلف الأمة عملوا بأخبار الآحاد.
القاعدة التاسعة
يجب العمل بالدليل وإن لم يعرف أن أحداً عمل به
من القواعد المقررة عندنا: «أن الحديث النبوي حُجَّة بذاته سواءً عمل به الناس أو لم يعملوا به». اعلم رحمني الله وإياك أنه: ليس هناك حديث ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا وعلى الأمة العمل به.
ذكر الترمذي رحمه الله في مقدمة كتاب العلل: (أن كل حديث في هذا الكتاب فإنه معمول به إلا حديث: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع بين صلاتي الظهر والعصر وصلاتي المغرب والعشاء من غير مطر ولا خوف.. الحديث» وحديث: «شارب الخمر في المرة الثالثة أن يقتل... الحديث) فإن هذا ليس بصحيح لأن ثبت عمل كثير من سلف الأمة بهذا وقد أثبتها الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان في كتابه: «ما يدّعي به إنه لم يعمل به السلف» ومن المعروف أن الأمة لا تجتمع على ضلالة وللألباني كتاب: «الحديث النبوي حُجَّة بذاته».
القاعدة العاشرة
يجب العمل بالدليل ولو خالفه من خالفه من السلف الصالح رضي الله عليهم
يجب ردُّ كل قول خالف الدليل على قائله كائناً من كان لأن الله عز وجل أمرنا باتباع السُّنة.
القاعدة الحادية عشرة
لا يشرع ترك الدليل وإن عمل الناس بخلافه
المقدم في العمل هو الدليل بغض النظر عن الناس عملوا به أو لم يعملوا به وصاحب الحق من كان معه الدليل حتى وإن خالفه أهل الأرض جميعاً.
القاعدة الثانية عشرة
الأدلة لا تعارض بالعقل بل يسلَّم للدليل تسليماً من غير اعتراض عليه
هناك قواعد مهمة اتفق عليها سلف الأمة وأئمتها:
1- أن النقل مقدم على العقل:
المراد بالنقل هو الكتاب والسُّنة وما وقعت البدعة في هذه الأمة إلا بعد معارضة العقل للنقل بل أن أول ذنب عُصي به الله عز وجل هو معارضة العقل للنقل فعندما أمر الله عز وجل ابليس أن يسجد لآدم وهو نصٌ صحيح صريح لا يحتمل المناقشة رد إبليس هذا النقل بقوله: [أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ] {ص:76} وتقديم العقل على النقل مدرسة إبليسية شيطانية فأهل البدع إذا عارضت عقولهم النص اتهموا النص وحرفوه وضعفوا سنده وأوَّلوه.
2- لا يمكن تعارض نقلٌ صحيح مع عقلٍ صريح:
هذه القاعدة تنفي المعارضة إذا ثبت صحة النص فلا تعارض بين النقل والعقل لأن الذي أنزل النص هو الذي خلق العقل وهو أعلم بما يصلح العقل وبما يوافقه قال تعالى: [أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ] {الملك:14}.
3- أن النصوص لا تأتي بما يعارض العقول وإنما تأتي بمحيرات العقول:
النص أوسع من العقل فإن الله تعالى قد يتكلم عن شيء من ملكوته في السماوات والأرض أو أمرٍ من الأجرام الكبيرة كالشمس والقمر والجبال والبحار والعقل مقابل هذا الأمر الغيبي أقصر بأن يُدرك هذا على وجه التفصيل فيكون العقل حائراً في دلالة النص والنقل يأتي بالشيء الذي لا يدخل تحت مدركات العقول فإن الله تعالى إذا تكلم عن أسمائه وصفاته فالعقل ليس له حظ إلا بمعرفة المعنى فقط وما ورى من أمور الغيب من الكيفيات والحقائق فإن العقل لم يخلق لإدراكها ومعرفتها.
وهناك أمثلة يدّعي فيها أنها معارضة للعقول ومنها:
- مثال: قال تعالى: [أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ] {الملك:16}.
«في» تفيد الظرفية فهذه الآية يفهمونها أن الله مظروف في السماء بمعنى أن بعض السماء تقله وبعض السماء تظله فهذه الآية مخالفة مع العقل لأن العقل يفهم بأن الله تعالى في العلو المطلق وجواب أهل السُّنة على هذا بجوابين هما:
1- لا يمكن تعارض هذه الآية مع العقل أبداً فلا بد أن يكون هذا العقل الناظر في النص سليماً من الآفات والشبهات الحمقى من الفلاسفة المتهوكين.
2- أن «في» في الآية بمعنى «على» وتقدير الآية [أأمِنتُمْ من على فِي السَّماءِ] وتأتي «في» في اللغة العربية بمعنى «على» قال تعالى: [فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ] {التوبة:2} بمعنى «فسيحوا على الأرض» وقال فرعون للسحرة بعد إيمانهم [وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ] {طه:71} بمعنى «لأصلبنكم على جذوع النخل» والمراد بالسماء هو مطلق العلو فكل ما علاك فهو سماء فالآية «أأمنتم من في العلو».
- مثال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث القدسي: «عبدي استطعمتك فلم تطعمني مرضتُ فلم تعدني استسقيتُ فلم تسقني».
فقالوا أن هذا الحديث يعارض العقل كل المعارضة وهذه صفات نقص والله منزه عن كل نقص فكيف يُنسب الجوع والمرض والعطش إلى الله وإثبات هذا الحديث ينفي الربوبية والألوهية والحل في هذا النص أن يُننسخ أو يُحرَّف أو يكون من أحاديث الآحاد لأن المسألة عقدية وجواب أهل السُّنة على هذا:
- لو أنكم نظرتم إلى هذا الحديث بعقل سليم من هذه الآفات والشبهات لتبين أن هذا الحديث موافق للعقل ولذلك قعّدنا قاعدة وهي «أن خير ما فُسِّر به كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - هو كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - » فلو أنكم تأملتم في الحديث إلى آخره لوجدتم أن الجوع والمرض والعطش المنسوب إلى الله بصفة مجاز لأن في الحديث: «ربي كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فقال: أما علمت أن عبدي فلان مرض فلم تعده ولو أنك عدته لوجدتني عنده... الحديث» فنسبة المرض إلى الله نسبة مجاز وهذا من باب تحفيز النفوس وحثّ الهمم والعزائم لهذه الأعمال وهذا الحديث يفيد أن الجوع والمرض والعطش للعبد فقط وتعالى الله عن هذه النقائض.
القاعدة الثالثة عشرة
الأحكام التي وردت في الأدلة مطلقة لا يجوز تحديدها
هذه قاعدة: «المطلق يجب بقاؤه على إطلاقه فلا يقيد إلا بدليل» والمطلقات في كتاب الله وسُنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز تقييدها إلا بكلام الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .
اختلف العلماء في هذه القاعدة ونحن نتفق على:
1- أن المطلق لا يجوز تقييده إلا بدليل.
2- أن المقيد لا يجوز إطلاقه إلا بدليل.
3- أن العام لا يجوز تخصيصه إلا بدليل.
4- أن الخاص لا يجوز تعميمه إلا بدليل.
فالمطلقات من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز إطلاقها بمجرد المذاهب والآراء وأقوال الرجال وفتاوى العلماء بل يكون بدليل.
- مثال: اشتراط أن يكون الخف غير مخرق:
أين الدليل على أن الخف المخرق لا يجوز المسح عليه بل استدلوا بالرأي بأن الخرق تظهر منه الرجل ولا يجتمع البدل والمبدل منه في مكان واحد وهذا كلام غير صحيح ولا دليل عليه وأحاديث المسح على الخفين متواترة نحو سبعين حديثاً ليس فيها عدم جواز المسح على الجوارب المخرقة.
والقول الصحيح والرأي الراجح المليح: أنه يجوز المسح على الخف المخرق ما دام يمكن المشي فيه حتى وإن خرجت أصابعه الخمسة كلها واختار ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية.
- مثال: وجوب الجمعة بعدد الأربعين:
إن الأدلة دلت على أن صلاة الجمعة فرض على المكلفين المقيمين في البلد ولكن اشتراط الاربعين من أين أتى هذا التقيد بل كل حديث يثبت اشتراط الأربعين فهو ضعيف لا تقوم به الحجة.
والقول الصحيح والرأي الراجح المليح: أن الجمعة تقام على من يطلق عليهم الجماعة في الشرع وهما اثنان وهو قول جمع من أهل العلم منهم الشوكاني وأما شيخ الإسلام ابن تيمية تطلق الجماعة في الشرع على الثلاثة.
«أقل الجمع باعتبار اللغة: ثلاثة» «أقل الجمع باعتبار الشرع: اثنان»
- قواعد الأصول الخمسة المهمة هي:
1- الأمر يقتضي الوجوب والفورية إلا بقرينة تفيد الاستحباب.
2- النهي يقتضي التحريم والفساد إلا بقرينة يفيد الكراهة.
3- العام يجب إبقاؤه على عمومه ولا يخص إلا بدليل.
4- المطلق يجب إبقاؤه على إطلاقه ولا يقيد إلا بدليل.
5- الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة.
وغالب خلاف أهل العلم يدور على هذه القواعد الخمس.
القاعدة الرابعة عشرة
الأعيان المذكورة في الدليل لا يلحق بها ما لم يذكر في الدليل
القول الصحيح في هذه القاعدة ليس ما ذكره المؤلف حفظه الله: «إذا نُصَّ الدليل على أعيان معينة فإن الأصل عدم الإلحاق بها إلا فيما اتفق معها في علتها المقررة في الشرع».
- مثال: لحوم الإبل تتوضأ منها والعلة تعبدية غير معروفة المعنى وبعض أهل العلم تكلم في حكمتها ولكن هي علة استنباطية.
العلل الاستنباطية إذا لم تكن مجمعاً عليها فلا تبنى عليها الأحكام بل تبنى الأحكام على العلل المنصوصة والعلل المتفق عليها.
والأمر بالوضوء من لحوم الإبل معين وغير معلل لأن شرط الإلحاق وجود العلة والعلة في الأمر بالوضوء من لحم الإبل غير معلومة فلا يلحق معها لعدم وجود العلة وهذا نوع القياس أربعة أركان مع ذكر المثال للتوضيح:
1- الأصل: لحم الإبل.
2- الفرع: لحم النعام.
3- العلة: غير معروفة.
4- الحكم: لا يقاس عليه لعدم معرفة العلة.
والأمور المعينة في الشرع إن كان لها علل معلومة أو مستنبطة استنباطاً مجمعاً عليه أو فيما يغلب على الظن أنها مجمع عليها فلا بأس أن نلحق بها غيرها لأن غلبة الظن كافية.
- مثال: ذهب جمهور العلماء على أن الربا غير مقصور على الأعيان الستة المذكورة في حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -والنبي - صلى الله عليه وسلم - نصّ هذه الأعيان وقد تكلم العلماء في عللها وإن كانوا مختلفين في العلة وغلبة الظن فيها أن علة التحريم في الذهب والفضة «مطلق الثمنية» ويلحق بها كل ما كان في هذه العلة كالأوراق النقدية في هذا الزمان لأنها ثمن للأشياء وهذه علة قياسية.
القاعدة الخامسة عشرة
لا احتياط فيما ورد به الدليل
الأمثلة على هذه القاعدة:
- بعض الناس يقولون الأحوط ترك جلود البهائم حتى وإن دبغت خروجاً من خلاف أهل العلم. وهذا القول مخالف للسُّنة لأنه ورد في السُّنة أكثر من عشرين حديثاً يفيد بأن الدباغة مطهرة للجلود واختلف العلماء بعد ذلك في أي جلد تُطهر به الدباغة ولا ينبغي للإنسان أن يقول: نخرج من هذه المسألة بترك الجلود سواءً دبغت أو لم تدبغ لأن هذا خروجاً عن السُّنة وعن حقيقة الأحوط والصحيح طهارة الجلد بعد الدباغة.
- بعض الناس يحرمون بعض المعاملات التي لم يرد الدليل بتحريمها فإذا اختلف العلماء في معاملة لم يرد دليل صريح صحيح في تحريمها فالأحوط ترك المعاملة والصحيح أن الأصل في المعاملات الحل والإباحة إلا بدليل.
- إذا ثبت خلاف العلماء في مسألة فالأحوط الخروج من خلافهم إذا لم تكن هناك ثمة دليل واضح في المسألة.
ما مقصود العلماء بقولهم «الخروج من الخلاف مستحب»؟
اعلموا رحمني الله وإياكم أن المسائل الخلافية قسمان وهما:
1- مسائل خلافية ليس فيها جزئية اتفق العلماء عليها:
مثال على ذلك: من دخل في الصلاة بالتيمم ثم وجد الماء أثناء الصلاة .
اختلف العلماء في ذلك بقولين:
القول الأول: يجب عليه الخروج من الصلاة « حرموا عليه البقاء في الصلاة».
القول الثاني: لا يجب عليه الخروج من الصلاة «أوجبوا عليه البقاء في الصلاة».
وهذا خلاف لم يتفق العلماء في جزئية منه.
2- مسائل خلافية وفيها ثمة جزئية اتفق العلماء عليها:
مثال ذلك: اختلف العلماء في طواف الوداع للعمرة على قولين:
القول الأول: أن طواف الوداع واجب في العمرة كالحج.
القول الثاني: أن طواف الوداع سنة.
وهذا الخلاف فيه جزئية يتفق فيها العلماء بين الوجوب والسنية بقول: «استحباب طواف الوداع للعمرة».
فالخروج من خلاف أهل العلم بقول: «جواز طواف الوداع للعمرة».
لأنك إن طفت لا ينكر عليك من قال بالوجوب ولا من قال بالسنية.
وهنا قاعدة وهي: «فعل ما اتفق عليه العلماء أولى من فعل ما انفرد أحدهم ما أمكن».
- إذاً هناك شرطان للخروج من الخلاف:
1- أن لا يكون في الخلاف دليلٌ واضح.
2- أن يكون في الخلاف ثمة جزئية متفق عليها بين العلماء.
وبهذا تكون المسائل الشرعية على ثلاثة أقسام:
1- مسائل اتفاقية: فينكر على المخالف فيها.
2- مسائل خلافية: فينكر على المخالف فيها لأن الدليل ناصر لأحد الطرفين.
3- مسائل اجتهادية: وهذا المراد بقولهم «لا إنكار في مسائل الخلاف» والخلاف هنا سائغ والخروج من هذا الخلاف مستحب فيما فيه جزئية متفق عليها بين العلماء.
القاعدة السادسة عشرة
يجب تفسير الدليل وفهمه باعتدال من غير إفراط ولا تفريط
هناك ثلاث محظورات في فهم الدليل فهماً صحيحاً:
1- أن يحمّل الدليل من المعاني والدلالات ما لا يحتمله الدليل.
2- أن يقصّر في فهم معنى الدليل.
3- أن يجعل في فهم الدليل قواعد وطرقاً غير الذي قرره سلف الأمة وأئمتها.
لو سبرت خلاف أهل العلم في كثير من المسائل والشركيات والبدعيات في هذه الأمة لتجدها داخلة في إحدى هذه المحظورات الثلاث.
القاعدة السابعة عشرة
الحكم الوارد في قصة ما لا يكون خاصاً بصاحب القصة بل يكون الاستدلال بذلك الحكم الوارد في تلك القصة داخلاً فيه غير صاحب القصة أيضاً
هذه القاعدة قريبة من قاعدة: (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب).
فإذا وردت قصة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أفرادها معروفون واحتاجت هذه القصة إلى بيان لحكم شرعي بذلك فهل يدخل مع صاحب القصة غيره؟
هنا جزئية اتفق عليها أهل العلم: وهي ما نزل على سبب خاص فإنه لا يخص على الأفراد التي نزلت فيهم بل يدخل معهم غيرهم وهذا بإجماع المسلمين.
وهنا جزئية اختلف عليها أهل العلم: أن دخول غير أصحاب القصة معهم هل بمقتضى عموم النص أم بمقتضى القياس والخلاف هنا: خلافٌ لفظي ليس فيه ثمرة والمراد أن غيرهم يدخل مع أصحاب القصة.
إذاً يدخل أصحاب القصة دخولاً أولياً ويدخل من وافقهم دخولاً تبعياً.
- مثال: لما حصل الظهار في قصة خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها نزل الدليل في هذه القضية لكل مظاهر إلى أن تقوم الساعة ودخول غيرهم في القصة بعموم اللفظ أو بالقياس قل ما شئت فلا يضر فالمهم غيرهم يدخل مع أصحاب القصة والعبرة واحدة. فإذا ورد دليلٌ شرعي يخص أصحاب الحادثة فلا يدخل معهم أحد بالتخصيص.
- مثال: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لخزيمة رضي الله عنه: «أن شهادة خزيمة بشهادة رجلين» وهذا خاصٌ بخزيمة رضي الله عنه. فلا يدخل أحد مع هذا الذي كان عدلاً ومصدقاً للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأميناً وفياً فلا يصح القياس به بل أن هناك من كبار الصحابة شهادتهم بشهادة رجل واحد.
القاعدة الثامنة عشرة
يجب الأخذ بجميع الأدلة الواردة في الباب الواحد ولا يترك شيء منها بل يستعمل جميعها كل في موضعه والدليل الذي هو أصل في الباب إليه ترجع جميع أدلة الباب
هذه القاعدة يعبر عنها بقاعدة: «العبادات الواردة على وجوه متنوعة تفعل على جميع وجوهها في أوقات مختلفة».
مثال: الأذان ورد في صفته عدة أحاديث فلا ينبغي للإنسان أن يقتصر على حديث دون حديث فمذهب أهل الحديث هو جمع كل الأحاديث الواردة في هذه العبادة المنصوصة ثم يعمل بما صح منها في وقت دون وقت.
والقول الصحيح أن أذان أبي محذورة - رضي الله عنه -سنة ثابتة وأذان بلال - رضي الله عنه -سنة ثابتة يؤذن هذا في وقت وهذا في وقت وهذا في مصر وهذا في مصر آخر.
مثال: سماع الأموات للأصوات:
هذه مسألة اختلف فيها أهل العلم ولكن ينبغي أن نردها إلى قواعدها الشرعية وهي:
القاعدة الأولى: «الأصل في الأمور الغيبية التوقيف على الدليل».
فقضية سماع الأموات لكلام الأحياء قضية غيبية لا تدرك بالسمع ولا تدرك بالعقل بل تحتاج إلى وحي وما كان الأمر مبناه على الوحي فهو أمرٌ غيبي والأمر الغيبي بحاجة إلى توقيف على الدليل.
القاعدة الثانية: « ما كان فيه الأصل التوقيف لا يدخل فيه القياس».
فهنا أثبت التوقيف «الدليل» أن الموتى يسمعون قرع النعال فلا يقاس على قرع النعال شيء غيره فيكون خاصاً لأن من شروط القياس: أن لا يكون في مسائل الغيب وما أُفسد العلم إلا بسبب دخول القياس في مسائل الغيب لا يجوز قياس الغيبيات بالشواهد.
- شيخ الإسلام ابن تيمية توسع في مسألة سماع الأموات للأصوات وقسَّمها إلى قسمين:
1- سماع امتثال وانتفاع.
2- سماع جارحة مجردة.
فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «أن الأدلة التي تنفي سماع الأموات محمولة على نفي السماع الذي بمعنى الامتثال والانتفاع والأدلة التي تثبت سماع الأموات فإنها محمولة على الأدلة التي تثبت سماع الجارحة المجردة».
والقول الصحيح: «أن الأموات يسمعون ولا يسمعون إلا ما ورد فيه النص فالأصل فيه التوقيف ومن أثبته فإنه مطالب بالنص ولا يجوز له أن يستدل له بالقياس لأن القضية غيبية ولا قياس في الغيبيات».
القاعدة التاسعة عشرة
يجب الأخذ بجميع الروايات الصحيحة الواردة للحديث الواحد والقصة الواحدة
أهل العلم إذا أرادوا أن يعرفوا حكم الله عز وجل في مسألة معينة فإنهم لا ينظرون إلى رواية واحدة من روايات الأحاديث بل يجمعون الروايات في المسألة ويميزون الصحيح والضعيف من هذه الروايات لأن الروايات تخصص بعضها وتفصّل بعضها وتقيّد بعضها وغير ذلك.
ولذا ينبغي للإنسان إذا أراد أن يتعرض للأحكام فعليه أن يجمع الروايات ليطمئن قلبه وهذه قضية يعرفها أهل الحديث بجمع الطرق للروايات.
والمؤلف غفر الله له ضرب عدة أمثلة ومنها حديث رافع بن خديج - رضي الله عنه -في نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كرى الأرض «تأجير الأرض». ومن وقف على هذا الحديث فقط فإنه لم يصل إلى حقيقة الحكم لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينهى عن كرى الذي لا تترتب عليه مفسدة وإنما نهى عن الكرى الذي تترتب عليه المفسدة وهي المزارعة «الإجارة» الظالمة الفاسدة لأن الإنسان إذا أجّر أرضاً فلا يخلو من حالتين:
1- إما أن يؤجرها بالدراهم: وهذه الحالة جائزة.
2- إما أن يؤجرها بجزء يخرج منها: وهذه الحالة فيها تفصيل:
أ - إما أن يكون جزءاً مشاعاً محدد المقدار وغير محدد العين وهذه الحالة جائزة.
ب- إما يكون الكرى للأرض بجزء معلوم معين وهذه الحالة لا تجوز.
إذاً تحقيق العدل وإزالة الظلم جاءت به الشريعة بجواز إيجارة الأرض في حالتين فقط إما أن يكون بالدراهم وإما يكون بجزء معين المقدار مشاع العين؛ فالذي يأخذ هذا الحديث فقط لا يحقق المسألة ولذلك اختلف أهل العلم على حسب الطرق والدلالات.
القاعدة العشرون
لا يتم الاستدلال بالدليل إلا بعد التأمل في كيفية وروده والنظر في كيفية سياقه
كثيراً ما يخطأ المتعجل في إصدار الحكم بالنظر في الدليل والفهم الأول له مع أنه لو نظر في الدليل أكثر من مرة تبيَّنت له أشياء أخرى لم ينظر فيها من أول نظرة له.
- مثال: قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب» البعض يفهم من هذا الحديث قوله «أخرجوا» بمعنى «اقتلوا» وهذا خطأ في الفهم وتخريجهم من جزيرة العرب حكم خاص بولاة الأمر من الأمراء والعلماء.
فإذا أراد الإنسان أن يفهم حديثاً فلا بد أن يتأنى في فهم الدليل حتى لا يخطأ في فهم دلالته والأفضل بأن يستعين بقراءة كلام أهل العلم في ذلك ولا شك بأن فهم السابقين أعظم وأوسع وأعمق من فهم المتأخرين.
- مثال: حِجَّة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
اختلف العلماء في حِجَّة النبي - صلى الله عليه وسلم - على أقوال ثلاثة:
القول الأول: أنه مفرد.
القول الثاني: أنه متمتع.
القول الثالث: أنه قارن.
القول الصحيح وما ذهب إليه الإمام أحمد وابن تيمية وابن القيم وجمع من المحققين والعلماء أنه - صلى الله عليه وسلم - حج قارناً.
وقد ذكر شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية أن اختلاف الصحابة في نقل وبيان نوع نسك النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس اختلاف تضاد ولكنه اختلاف تنوع ولذلك يكون:
1- أن من قال أنه - صلى الله عليه وسلم - حج قارناً هذا لا إشكال عليه.
2- أن من قال أنه - صلى الله عليه وسلم - حج متمتعاً ولم يقصد التمتع الخاص الذي هو عمرة ثم إحلال ثم إحرام وحج وإنما قصد التمتع العام الذي يدخل فيه القارن لأن القارن يجمع في نسكه في سفرة واحدة بعمرة وحجة في فعل واحد بثبوت الأجر لعمرة وحجة وكذلك المتمتع يعود بأجر عمرة وحج ولكن أفعال المتمتع أكثر من أفعال القارن وهو داخل في جملة من تمتع باللفظ العام.
3- أن من قال أنه - صلى الله عليه وسلم - حج مفرداً فإنهم لا يقصدون بأنه أفرد بمعنى هلّ مفرداً «لبيك حجاً» ويقصدون بقوله أفرد - صلى الله عليه وسلم - في حجته بأنه لم يأتِ بأعمال زائدة على أعمال المفرد وقد تقرر عندنا في ضوابط الحج: «أن أعمال القارن كالمفرد إلا في الهدي والإهلال» فالقارن يأتي بأعمال زائدة على أعمال المفرد ووصفوا فعله - صلى الله عليه وسلم - بأنه مفرد من حيث الصورة فقط ليس من حيث نوعية النسك.
- مثال: يروى عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أن الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه فكأنما صافح يمينه ومن قبَّله فكأنما قبَّل يمينه».
هذا الحديث في ظاهره إثبات لعقيدة الحلولية أن يد الله حالة في الحجر الأسود ولكن لم يقل بهذا أحد من أهل السُّنة أبداً وإنما قال هذا الكلام من لم ينظر في الدليل نظر تأمل.
والأصل أن هذا الحديث لا يصح مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بل يصح موقوفاً على عبدالله ابن عباس رضي الله عنهما لأنه لم يأخذ من أهل الكتاب وهذا الحديث لا يؤخذ بمجرد الرأي وقد تقرر عند الأصوليين: «أن الصحابي إذا قال قولاً لا مجال للرأي فيه لم يأخذ من أهل الكتاب فله حكم الرفع» إذاً لو تأملت في الحديث تجد أنه متفق مع العقل والشرع كل الاتفاق وقوله: «يمين الله في الأرض» تقييداً لهذه اليمين ولم يطلقها ويمين الله ملازمة لذاته وليست في الأرض وهذا دليلٌ على أنه لا يريد حقيقة يد الله اليمنى التي هي صفة ذاتية لله عز وجل ويوضح ذلك قوله: «فكأنما صافح» ومن المتقرر عند العلماء: «أن المشبه غير المشبه به» فلو أن هذا الحجر الأسود هو يمين الله حقيقة لما احتجنا إلى التشبيه ولقال فيه «قد صافح» ولماذا يقال هذا؟ لأن في السابق واللاحق أن من دخل في بيت الملك فإنه يقبِّل يده والحرم بيت الله ومن قبَّل الحجر فكأنما قبَّل يد الله عز وجل في الصورة لا في الحقيقة.
القاعدة الواحدة والعشرون
السُّنة يفسر بعضها بعضاً والرواية الصريحة موضحة للرواية المحتملة
وهذه القاعدة تبينها بعض الأمثلة وهي:
- قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «صلوا كما رأيتموني أصلي» لو أُخذ هذا النص لم نعرف كيفية صلاته - صلى الله عليه وسلم - ولكن جمعت الروايات التي تبين كيفية الصلاة.
- قول الله عز وجل: [وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ] {الأنعام:141} ما هو الحق في هذه الآية فيما يتعلق بزكاة الزرع قد بُيِّنت في قوله - صلى الله عليه وسلم - : «فيما سقت السماء العُشر وفيما سقي بالنضح نصف العُشر».
إذاً أدلة الشريعة يوضح بعضها البعض فالقرآن يوضحه القرآن والسُّنة، والسُّنة توضحها السُّنة والقرآن.
القاعدة الثانية والعشرون
يجب في الاستدلال بالدليل أن يكون دالاً على المطلوب
هذه القاعدة واضحة وفيها أن يكون الاستدلال صحيحاً صريحاً.
القاعدة الثالثة والعشرون
ما تعم به حاجة الناس ولم يأت فيه دليل علم أنه مباح
ما الفرق بين هذه القاعدة وقاعدة: «خبر الآحاد معتمد فيما تعم به البلوى».
الفرق أن قاعدة: «ما تعم به حاجة الناس ولم يأت فيه دليل على أنه مباح» لم يوجد أي دليلٍ مرفوعٍ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى وإن كان من طريق الآحاد.
وأما قاعدة: «خبر الآحاد معتمد فيما تعم به البلوى» فإنه يوجد خبر واحد منقول من طريق الآحاد في قضية عامة.
@ @ @
الباب الخامس: قواعد في الإجماع
القاعدة الأولى
الإجماع حُجَّة من الحجج الشرعية
الإجماع: هو اتفاق مجتهدي أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته في عصر من العصور على أمر من الأمور.
محترزات التعريف:
- اتفاق: يخرج خلافهم لأن المسائل الشرعية إما مجمع عليها وإما خلافية وإما اجتهادية.
- مجتهدي: يخرج اتفاق العوام لأنه ليس بإجماع.
- أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -: يخرج اتفاق الأمم السابقة ولا يكون الإجماع دليلاً في هذه الأمة إلا بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
- أمر من الأمور: يكون على الحكم الشرعي ويخرج الاتفاق على الأحكام العقلية والنحوية والحسيِّة فهي لا تسمى إجماعاً.
قال الله تعالى: [وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا] {النساء:115}.
الشاهد من هذه الآية أن الله توعَّد من اتبع سبيل غير المؤمنين بالويل ولا يتوعد إلا بفعل محرم وما أجمع عليه المؤمنون داخلٌ في جملة سبيله فإذا أجمع المؤمنون على قول من سبيلهم الذي يجب اتباعه والذي حذر الله سبحانه وتعالى من مخالفته.
القاعدة الثانية
الإجماع لا بد أن يكون له مستند من الكتاب أو السُّنة
الإجماع ينقسم إلى قسمين وهما:
إجماع قطعي: وهو الاستقراء المطلق التام لأقوال أهل العلم جميعاً ثم إصدار هذا الحكم الشرعي.
إجماع ظني: وهو مطلق الاستقراء أي استقراء بعض أقوال العلماء.
القاعدة الثالثة
الإجماع لا يُقدَّم على الكتاب والسُّنة
ما قُدم الإجماع على الكتاب والسُّنة إلا بعد ما تولى التأليف في علم أصول الفقه علماء الكلام والمعتزلة والأشاعرة.
وأما أهل السُّنة والجماعة يُقدِّمون الاستدلال من الكتاب والسُّنة فإذا لم يجدوا دليلاً في القرآن ولا في السُّنة يذكرون الإجماع ولا ينعقد الإجماع إلا إذا ورد له مستندٌ من الكتاب والسُّنة فالإجماع فرع فكيف يقدم على الأصل وهو الكتاب والسُّنة.
فالمعتزلة والأشاعرة يجعلون الإجماع نافياً لما أثبته الكتاب والسُّنة وبذلك يقولون: «وقد أجمع الناس -أي هم- على أن الله لا يتصف بالصفات التي تقتضي الحركة والحدوث» وقولهم هذا يعارض الكتاب والسُّنة ويمثل لذلك مثل قوله تعالى [وَجَاءَ رَبُّكَ] {الفجر:22} هذه الآية فيه صفة المجيء ويقولون: «هذه صفة المجيء فيها الحركة والحدوث ولا يجوز على الله وقد دل إجماع الناس على ذلك» فهم قدموا الإجماع على الكتاب والسُّنة.
القاعدة الرابعة
الإجماع لا ينسخ النص
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «الإجماع إذا خالفه نص فلا بد أن يكون مع الإجماع نص معروف به أن ذلك منسوخاً فأما أن يكون النص قد ضيعته الأمة وحفظت النص المنسوخ فهذا لا يوجد فقط وهو نسبة الأمة إلى حفظ ما نُهيت عنه اتباعه وإضاعة ما أمرت باتباعه وهي معصومة عن ذلك».
القاعدة الخامسة
الإجماع الذي يغلب على الظن وقوعه هو الإجماع على ما هو معلوم من الدين بالضرورة
الإجماع الذي ينضبط على قسمين:
1- المعلوم من الدين بالضرورة: وذلك مثل عدد الركعات والفرائض الخمس وسمي معلوماً من الدين بالضرورة لأنه لا يوجد له مخالف وهذا إجماع قطعي كوجود الله جل وعلا وأسمائه وصفاته الثابتة والصلاة والصيام وغيرها ومن خالف ذلك فهو كافر بعد توفر الشروط وانتفاء الموانع.
2- ما كان عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين: وهذا الإجماع بعض العلماء ما يخصه في وقت الصحابة لوجودهم في مكان واحد في المدينة وبعد ذلك توزع الرجال والعلم في البلاد فلا يُعرف أين أماكن المجتهدين من العلماء الذين يكون اتفاقهم إجماعاً للمسلمين وإجماع الصحابة ينبغي معرفة الخلاف في أقوالهم وبه يُعرف خلاف غيرهم ومن كان بعدهم وأما المجمع الفقهي الآن ليس قولهم إجماعاً لأنهم لم يجمع قول كل المجتهدين بل بعضهم.
القاعدة السادسة
إجماع الصحابة ممكن وقوعه وأما إجماع من بعدهم فمتعذر غالباً
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «الإجماع متفق عليه بين عامة المسلمين من الفقهاء والصوفية وأهل الحديث والكلام وغيرهم في الجملة وأنكره بعض أهل البدع من المعتزلة والشيعة لكن المعلوم منه هو ما كان عليه الصحابة وأما بعد ذلك فتعذر العلم به غالباً ولهذا اختلف أهل العلم فيما يذكر من الإجماعات الحادثة بعد الصحابة».
القاعدة السابعة
إذا اختلف عالمان في الإجماع على مسألة ما فإنه يقدم قول من نقل الخلاف في تلك المسألة لأنه مثبت
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ناقل الإجماع ناف الخلاف وهذا مثبت والمثبت مقدم على النافي».
القاعدة الثامنة
عدم العلم بالمخالف لا يصح به دعوى الإجماع
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وإذا ثبت إجماع الأمة على حكم من الأحكام لم يكن لأحد أن يخرج عن الإجماع فإن الأمة لا تجتمع على ضلالة ولكن كثيراً من المسائل يظن بعض الناس أن فيها إجماعاً ولا يكون الأمر كذلك».
القاعدة التاسعة
إجماع أهل المدينة لا يعتبر حُجَّة
ما ينقله أهل المدينة مما يُجرى به النقل مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا يعتبر حُجَّة. وما ينقلونه غير ذلك فلا يخلو من حالتين:
الحالة الأولى: إذا كان قبل مقتل عثمان بن عفان - رضي الله عنه -فهذا حُجَّة لاتفاق الصحابة عليه وقلة الخلاف فيه وهذا هو مذهب الجمهور.
الحالة الثانية: إذا كان بعد مقتل عثمان بن عفان - رضي الله عنه -فلا يعتبر حُجَّة لكثرة وقوع الخلاف.
القاعدة العاشرة
قول جمهور العلماء في مسألة من المسائل لا يعتبر حُجَّة
الحق لا يُعرف بالكثرة والقلة وإنما يُعرف الحق بالدليل من الكتاب والسُّنة والإجماع.
القاعدة الحادية عشرة
الأخذ بأقل ما قيل في مسألة ما ليس تمسكاً بالإجماع
قال الشنقيطي في كتابه مذكرة في أصول الفقه: «الأخذ بأقل ما قيل كالاختلاف في دية الكتابي فقيل: كدية المسلم وقيل: نصفها وقيل: ثلثها فالتمسك بالثلث ليس تمسكاً بالإجماع وأظهر دليل على ذلك جواز مخالفته».
القاعدة الثانية عشرة
إحداث التفصيل في مسألة ما ممنوع إذا كان خارقاً للإجماع
هذه القاعدة بمعنى إذا اختلف العلماء على قولين هل يجوز إحداث قول ثالث أم لا يجوز وكذلك في أقوال الصحابة والتابعين إن كان قولان أو أكثر من ذلك من الأقوال والصحيح في هذه المسألة: ما ذهب إليه الجمهور أنه يجوز إحداث قول لا يخرق الإجماع وإنما إحداث قول للجمع بين قولين أو أكثر.
القاعدة الثالثة عشرة
خلاف الظاهرية معتد به
وهذا هو الحق لأنهم من جملة العلماء والمجتهدين لأنه مذهب له قواعده وضوابطه وأصوله وأقواله ودلالته واجتهاده واختياراته فلا ينسف هذا المذهب فيكون بذلك خلاف الظاهرية معتد به ويخرق الإجماع.
الشنقيطي صاحب تفسير أضواء البيان عنده قاعدة في الإجماع ينقلها من مذهب المالكية يقول: «أن خلاف الواحد والاثنين لا يعتد به ولا يؤثر في انعقاد الإجماع إذا كان مستنداً إلى آية أو حديث متواتر».
وتعليل الشنقيطي في هذه القاعدة أن خلاف الواحد أو الاثنين شاذ غير معتبر لأنه تقرر عند العلماء «خلاف الشاذ غير معتبر» ولكن قول جمهور العلماء في الإجماع: «الاتفاق الكلي من مجتهدي الأمة».
@ @ @
الباب السادس: قواعد في القياس
القاعدة الأولى
القياس حُجَّة من الحجج الشرعية
عرّف العلماء القياس:
لغة: التقدير يقال: قست المسافة بمعنى قدّرتها ويطلق على المساواة.
اصطلاحاً: اختلف العلماء في تعريفه والقول الصحيح ما ذهب إليه جمهور أهل العلم وهو: «إلحاق فرع بأصل في حكمٍ لعلة جامعة».
والقياس لا يكون حُجَّة شرعية إلا إذا توفرت أركانه:
1- الأصل. 2- الفرع. 3- العلة. 4- الحكم.
وكل ركن من أركان القياس له شروط:
أجمع أهل السُّنة على أن القياس الصحيح من حجج الشرع.
القياس الصحيح: هو القياس المستوفي لأركانه وشروطه والذي خلا من الموانع.
الدليل على حجيّة القياس: الكتاب والسُّنة وإجماع الصحابة واتفاق سلف الأمة على ذلك.
كل آية في كتاب الله جل وعلا فيها ضرب أمثلة فهذا دليل على الاحتجاج بالقياس لأن الله يريد أن يقرِّب الصورة الغائبة بالصورة المشاهدة المحسوسة.
ومن السُّنة أدلة كثيرة على الاحتجاج بالقياس ومنها: «أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال يا رسول الله: إن امرأتي ولدت غلاماً أسودَ.
«فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعطه الحكم مباشرة وإنما أعطاه الحكم بصورة قياسية حتى يجتث من قلبه جذور الشك والوهم».
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألك أبل فقال الرجل: نعم.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما ألوانها فقال الرجل: حمر وبيض.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أفيها أورق يعني أسودَ فقال الرجل: نعم.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أين أتى له ذلك فقال الرجل: لعله نزعة عرقٍ من آبائه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وكذلك الولد لعله نزعة عرقٍ من آبائه».
فهذا هو القياس فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحكم به.
ولم ينكر القياس إلا طائفة من الظاهرية ولذا أجمع علماء أهل السُّنة على إثبات الاحتجاج بالقياس بشروطه.
وعلى الرغم من إنكار القياس من الطائفة الظاهرية إلا أنهم يقيسون وهم لا يعلمون وسبب إنكارهم للقياس أنه يُصدر من العلماء المجتهدين للاستنباط وليس هناك مشرّع مع الله عز وجل والأدلة قد أُكملت الدين وكل هذا مردود بل القياس من الدين.
القاعدة الثانية
لا قياس في مقابل النص
القياس للنص حُجَّة أثيمة وآفة قديمة وهي من أول الآفات التي عُصي بها الله عز وجل، ولا يجوز القياس إذا كان مخالف لدلالة الكتاب والسُّنة وإجماع مجتهدي الأمة ولذلك سُمى علماء الحنفية بأهل الآراء لكثرة الآراء والأقيسة التي خالفوا بها النصوص والمذهب الحنفي من أكبر المذاهب التي خالفت النصوص وهذا بالاستقراء.
والحجّة الأثيمة والآفة القديمة هي القياس المخالف للنص وأول من استدل به على الله عز وجل هو إبليس لأن الله سبحانه وتعالى قال له وللملائكة: [اسْجُدُوا لِآَدَمَ] وهو أمر صريح لا يقبل المناقشة وإبليس داخلٌ في هذا الأمر باعتباره أنه ملك بالصورة والظاهر لا باعتبار الأصل وعارض الأمر الصريح بالقياس بقول إبليس: [قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ] {ص:76} فلما نظر إلى عنصره وجد أنه مخلوق من النار ولما نظر إلى آدم وجد أنه مخلوق من الطين وجاءت النتيجة عنده أن النار خير من الطين والحق أن المفضول يسجد للفاضل وصارت نتيجته معارضة النص فكانت عقوبته مشهودة ومكتوبة في كتاب ربنا تبارك وتعالى.
مثال: الولي في النكاح.
ذهب جمهور أهل العلم على أن الولي شرط في النكاح ولا يصح النكاح إلا بالولي لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا نكاح إلا بولي» لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «كل امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فهو باطل» لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزوج المرأة المرأة ولا تزوج المرأة نفسها».
وخالف في هذا الحنفية وقالوا: بل يصح للمرأة أن تزوج نفسها بنفسها ودليلهم في هذا أن النكاح بذل منفعة البضع على بذل المال فلو كان للمرأة مال فيجوز لها أن تتصرف في مالها كيف تشاء بدون أذن وليها فكذلك يجوز لها أن تتصرف في بضعها كيف شاءت بلا إذن وليها.
القاعدة الثالثة
القياس لا يصار إليه إلا عند الضرورة
قسّم العلماء القياس إلى ثلاثة أقسام:
1- قياس التمثيل: وهو إلحاق فرع بأصل في حكم لعلة بينهما مثل: إلحاق النبيذ بالخمر لجامع علة الإسكار.
2- قياس الشبه: وهو إلحاق فرع بأصل في حكم لتعدد أوجه الشبه بينهما. ويلحق بأحد الفرعين الأكثر شبهاً مثل: تردد العبد المملوك بين البهيمة والحرُّ وذلك في الأحكام بأن العبد المملوك يتفق مع البهيمة في أحكام ويتفق مع الحُّر في أحكام والأكثر في الأحكام شبهاً واتفاقاً مع الحرُّ وقياس الشبه من أضعف أنواع القياس لأن مبناه ليس لعلة منصوصة من الشارع وإنما مبناه على اجتهاد العالم ويختلف في ذلك اختلافاً كثيراً.
3- قياس العكس: وهو إثبات نقيض حكم الأصل للفرع لوجود نقيض العلة مثل: إنفاق المال في الحلال يثاب عليه وكذلك الإنفاق في الحرام إذاً ضد أو نقيض الحلال هو الحرام ولما وجد نقيض العلة وجد نقيض الحكم ويسمى المفهوم المخالف.
القاعدة الرابعة
يصح القياس على ما ثبت خلافاً للأصل
هذه قاعدة فرضية لا ينظر إليها أصلاً لأنه ليس هناك أدلة بخلاف القياس فكل شيء ورد به النص فهو موافق للقياس فهذه القاعدة مرفوضة.
وقد جاء بها الشيخ غفر الله له رداً على بعض الطوائف ومنهم الحنفية الذين يقولون: لا يجوز القياس على ما ثبت خلاف القياس.
وليس لها مثال لأنها ليست بقاعدة صحيحة لأنها مبنية على الفرضية وليس هناك دليل يخالف القياس.
القاعدة الخامسة
القياس الصحيح مقدم على الحديث الضعيف
السلف يقسِّمون الحديث إلى صحيح وضعيف والحديث الحسن عندهم قسم من أقسام الضعيف.
وأول من قسَّم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف هو الإمام الترمذي صاحب السنن.
القاعدة السادسة
قول الصحابي الذي لم يخالفه صحابي آخر مقدم على القياس
القياس قول للمجتهد فإذا تعارض القياس وقول الصحابي فيقدم قول الصحابي لأن الصحابة متقدمون وهم أكمل الأمة علوماً وأعمقهم فهماً وأعلمهم بمسالك العلة والأدلة ومواقع التنزيل وأعلمهم بمقاصد الشريعة.
العلماء يقسمون الأدلة إلى قسمين:
1- أدلة متفق عليها: الكتاب والسُّنة والإجماع والقياس.
2-أدلة مختلف فيها: قول الصحابي وعمل أهل المدينة والمصالح المرسلة وغيرها.
القياس من جملة الأدلة المتفق عليها عند أهل السُّنة وأما قول الصحابي فهو مختلف فيه والعلماء يؤخرون البحث فيه لأنهم يبحثون أولاً في الأدلة المتفق عليها لأن بعض أقوال الصحابة تخالف الأدلة.
القاعدة السابعة
الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً
هذه القاعدة العظيمة لها فروع كثيرة ومنها:
مسألة الحجاب: إن الله جل وعلا أوجب الحجاب على المرأة وأن تغطي وجهها لما في كشف وجهها من الفتنة بالجمال فإذا كبرت وكانت شوهاء ولا ينظر الرجال إلى مثلها وكانت من القواعد لا يجامع مثلها فحينئذٍ يقولون: يجوز لها أن تكشف وجهها والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.
مسألة الهرة: قد حكم الشارع على الهرة أنها طاهرة لأنها من الطوافات ويدخل في ذلك كل طوّاف وطوافة بمعنى ما يشق منه التحرز من الحيوانات فإن سؤره طاهر لماذا؟! لأنه من مقاصد الشريعة رفع الحرج عن المكلفين فدخول الهرة في البيت يشق على أهل البيت تجنّبها عن الآنية والفرش والملابس فتكون طاهرة فكل ما يدخل علينا من الصراصير والنمل وغيرها فتكون من جملة الطوّافات لمشقة التحرز منها.
وأما قول الفقهاء: «الهرة وما دونها في الخلقة طاهر»: هذا تعليق في الحكم ما لم يدل عليه الدليل أصلاً ولا القياس فالأجرام والأحجام والصغر والكبر لا شأن لها في الطهارة والنجاسة فربما شيء كبير يكون طاهراً وشيء صغير يكون نجساً، فالأحجام والأجرام هذه أوصاف طردية لا تؤثر في الحكم الشرعي تذكر من باب البيان والتوضيح.
القاعدة الثامنة
العلة لا تثبت إلا بدليل
العلة لا تخلو من ثلاثة أقسام وهي:
1- علة منصوصة.
2- علة مستنبطة.
3- علة مجمع عليها.
والعلة التي تتعلق بها الأحكام هي العلة المنصوصة والعلة المجمع عليها.
ومن الأمثلة على العلل المنصوصة قوله - صلى الله عليه وسلم - في الهرة: «إنها ليست بنجس إنها من الطوافين والطوافات».
ومن الأمثلة على العلل المستنبطة يقول العلماء هل تلحق لحوم السباع بلحوم الإبل لجامع الوضوء لأن لحوم الإبل فيها الوضوء ولأن فيها تأثراً من الشياطين فيجب الوضوء منها ويلحق بها من أكل لحم السباع ومن أكل لحم الخنزير فهذه العلة مستنبطة مختلف فيها عند أهل العلم ولا يصلح إلحاق الأحكام بالعلل المستنبطة وإنما تلحق بالعلل المنصوصة والعلل المجمع عليها فقط.
ومن الأمثلة على العلل المجمع عليها قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ينبغي للقاضي أن يقضي بين اثنين وهو غضبان» فأجمع العلماء على أن النهي في القضاء وقت الغضب إنما هو لعلة تشويش الذهن وعدم التفكير في الحُجج لوجود مغطي على الذهن فكل مشوش للذهن يلحق بالغضب.
القاعدة التاسعة
العلة إذا انتقصت فوجد الحكم بدونها دل على فسادها؛ لأن الحكم ثبت بدون تلك العلة
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وكشف الغطاء عن هيئة النزاع أن لفظ العلة يراد بها العلة التامة وهو مجموع ما يستلزم الحكم بحيث إذا وجدت وجد الحكم ولا يتخلف عنه».
القاعدة العاشرة
تعقيب الحكم بالوصف دليل على أن الوصف علة
كل ما كان من أعمال الجاهلية من ضرب الخدود وشق الجيوب والطعن في الأنساب والتنابز بالألقاب والتفاخر بالأحساب والتبرج والسفور فهو ممنوع. وقد تقرر في القواعد: «كل ما كان من عمل الجاهلية فهو حرام».
القاعدة الحادية عشرة
لا يصح التعليل بمجرد الشبه في الصورة
هذا ما يسمى بقياس الشبه وأن مجرد الشبه بالصورة لا يجوز التعليل به كقول الفقهاء «والهرة وما دونها طاهر» لأنهم نظروا إلى الصورة فقط والمشابهة في الأوصاف لا توجب المشابهة في الأحكام فإن جميع المحرمات يشابه بعضها بعضاً في الأوصاف ويختلف في الأحكام ولأن المشابهة فيما لا يتعلق بالحكم لا توجب المشابهة في الحكم.
القاعدة الثانية عشرة
لا قياس في العبادات
هذه من القواعد المهمة عند أهل السُّنة والجماعة وهو أن العبادات التي ورد فيها الدليل لا يجوز قياس بعضها ببعض وإن كانت متفقة في الصورة.
مثال: لا يجوز قياس استحباب قراءة سورتي الكافرون والإخلاص في ركعتي صلاة الفجر بركعتي فريضة صلاة الفجر حتى وإن اتفقت في الصورة فلا يصح القياس.
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - بيَّن العبادات بصفتها وشروطها وأسبابها وأركانها وواجباتها فلا يجوز القياس عليها.
وما دخلت البدع في العبادات إلا عندما دخل القياس في العبادات وقد تقرر في القواعد: «شرعية الأصل لا تستلزم شرعية الوصف».
@ @ @ الباب السابع: قواعد في أفعال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
القاعدة الأولى
الخصوصية لا تثبت إلا بدليل
هذه القاعدة تعتبر ضابطاً للقاعدة الكبرى وهي: «أن الأصل في التشريع التعميم» فلا يجوز اقتصار التشريع على أحد من الناس كائناً من كان إلا بدليل والشريعة صالحة لكل الناس وتنبثق من هذه القاعدة خمس قواعد وهي:
1- كل حكم ثبت في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه يثبت في حق الأمة تبعاً إلا بدليل الاختصاص.
2- كل حكم ثبت في حق واحد من الأمة فإنه يثبت في حق الأمة تبعاً إلا بدليل الاختصاص.
3- كل حكم ثبت في حق الرجال فإنه يثبت في حق النساء تبعاً إلا بدليل الاختصاص.
4- كل حكم ثبت في حق الأحرار فإنه يثبت في حق الأرقاء تبعاً إلا بدليل الاختصاص.
5- كل حكم ثبت في حق صلاة الفريضة فإنه يثبت في حق صلاة النافلة تبعاً إلا بدليل الاختصاص.
وبسبب تقرير العلماء هذه القاعدة اختلفوا في فروع كثيرة ومنها:
- انتقاض الوضوء بالنوم:
القول الصحيح أن النوم ناقضٌ للوضوء إن كان مذهب الشعور والإحساس وإذا كان في بدايات النوم والسِّنة فإنه لا ينقض الوضوء للوضوء لحديث صفوان بن عسَّال رضي الله عنه: «إلا من غائطٍ وبول ونوم» ولحديث معاوية رضي الله عنه: « العين وكاء السَّهِ». ولحديث عائشة رضي الله عنها في قيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم نام قبل أن يوتر فقالت عائشة يا رسول الله أتنام قبل أن توتر فقال: «يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي» بمعنى أن الإحساس لا يُفقد بنومي فعلل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نومه وعدم وضوئه بأن الإحساس باقياً. وجاء فريقٌ من أهل العلم. وقالوا: أن هذا خاصاً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن نقول لهم: «الخصائص لا تثبت إلا بدليل». فتعليل النبي - صلى الله عليه وسلم - صادق عليه وعلى غيره.
وجاء في حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -أن الصحابة كانوا يغطون قبل صلاة العشاء وهذا محمول على النوم الذي لا يذهب الشعور والإحساس.
وهنا مسألة لطيفة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تنام عيناه ولا ينام قلبه ونومه غير ناقضٍ للوضوء وفي ذات يوم نام - صلى الله عليه وسلم - والصحابة عن صلاة الفجر فكيف يكون ذلك وقلبه - صلى الله عليه وسلم - لا ينام؟!!!
جمع شيخ الإسلام ابن تيمية بين الأقوال في هذه المسألة وقال: «إنَّ المدركات نوعان: مدركات منه ومدركات آفاقية بعيدة، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «تنام عيني ولا ينام قلبي»: أي لو صدر مني حدثاً لأحسست به وطلوع الفجر آية آفاقية غير صادرة من النبي - صلى الله عليه وسلم -.
القاعدة الثانية
لا يشرع المداومة على ما لم يداوم عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من العبادات
هذه القاعدة تُعبِّر عن قاعدة أخرى وهي: «أن السُّنة فعل السُّنة على الوجه التي شُرعت عليه». ومن أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - المداومة على العبادة كقيام الليل لم يتركه حتى في سفره - صلى الله عليه وسلم - وكذلك الوتر واختلف في ليلة مزدلفة في هذه الأفعال الخارجة عن هذه القاعدة.
وهناك بعض العبادات فعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - وتركها فحينئذٍ نقول: أن ليس من السُّنة المداومة على فعلها لأن السُّنة لا بد من أمرين فيها وهما:
1- أن تفعلها لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلها.
2- أن تتركها لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تركها.
ومن فروع هذه القاعدة:
- كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقوم مع الجماعة في قيام الليل أحياناً:
فقد ثبتت صلاة عبدالله بن عباس معه وكذلك جابر وكذلك حذيفة رضي الله عنهم أجمعين ولكن الفعل الدائم من النبي - صلى الله عليه وسلم - في قيام الليل وحده.
إذاً إن صُلِّيت صلاة الليل جماعة مع عدم المداومة فلا حرج والمداومة على الجماعة يصل إلى حد البدعة.
- كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الضحى لوحده:
وثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة الضحى مع بعض أصحابه كعتبان بن مالك - رضي الله عنه -عندما صلى في بيته فالشاهد أن هذا الفعل لم يداوم عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن فعله أحياناً والذي يستمر على صلاة الضحى جماعة فهذا الذي يُنكر عليه.
- وقوف النبي - صلى الله عليه وسلم - للجنازة:
ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرت عليه الجنازة وقام وثبت كذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرت عليه الجنازة وجلس فالسُّنة أن يقوم الإنسان أحياناً ويجلس أحياناً ومن داوم على الجلوس أو داوم على القيام فقد خالف السُّنة.
القاعدة الثالثة
ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - لسبب فلا يجعل سُنَّة دائمة إنما يفعل إذا وجد ذلك السبب
الأصل أن العبادة تُقرن بسببهما فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا فعل عبادة معينة بسبب فإنه لا يكون من السُّنة فعل هذه العبادة مطلقاً بدون هذا سبب بل لا تكون سنة ولا مشروعة إلا إذا فُعلت مقرونة بهذا السبب لأن السبب له تأثير في التشريع ومثال ذلك:
- قضاء النافلة في وقت النهي:
النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما جاءه وفد عبد قيس وأشغلوه عن نافلة الظهر ولم يتفرغ لها إلا بعد ما صلى العصر ومن هذا الفعل كان - صلى الله عليه وسلم - يصلي دائماً بعد العصر ركعتين.
فلننظر إلى الفعل من جهتين:
1- سبب الفعل: تأخير الصلاة.
2- أصل الفعل: القضاء.
واستمرار النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا من اختصاصه لأنه من عادته إذا صلى في وقت فإنه يثبت له الفعل في وقته.
- صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر:
صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر مرة واحدة في حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه -وعلل ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «إنما فعلت ذلك لتأتموا بي وتعلموا صلاتي» فإذا كان هناك جمع من المسلمين الجدد لا يعرفون كيفية الصلاة ويريدون أن يعرفوا كيف يصلي أمامهم فلا حرج أن يقوم الإمام على أصل المنبر ويصلي ويسجد بعدما يرجع إلى القهقرى إلى أسفل المنبر لأن السجود محل تواضع فلا يسجد على مكان عالٍ وإن صلى من غير عذر ولا سبب فلا يشرع له ذلك.
- جهر بدعاء الاستفتاح:
ثبت عن الصحابة كعمر بن الخطاب وعبدالله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين أنهم جهروا بدعاء الاستفتاح السبب في ذلك التعليم والثابت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يجهر بدعاء الاستفتاح فلا يؤخذ بذلك سُنَّة مطلقة وإنما يؤخذ منها أنها تشرع عند حلول أسبابها.
القاعدة الرابعة
إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - حُجَّة
القول الصحيح بعد دراسة هذه المسألة تبين أن إقراره - صلى الله عليه وسلم - على شيء حُجَّة مطلقة على الجواز من غير شرط بحال حضرته أو بغير حضرته.
اشترط بعض العلماء على جواز الإقرار أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قادراً على التغيير بحال حضرته وسكت عنه فهذا يكون حُجَّة وقالوا: ألم يكن المشركون يطوفون حول البيت وهم عُراة والنبي - صلى الله عليه وسلم - جالس وكذلك وجود الأصنام حول البيت فيكون ذلك إقراراً منه - صلى الله عليه وسلم - ويرد على هذا القول بمسألتين:
1- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسكت بل كان ينكر عليهم ويسفّه أحلامهم ويعيب آلهتهم فلماذا حاربوه؟ وسورة الأنعام مكية بالاتفاق فيها قوله تعالى: [يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ] {الأعراف:31} نزلت في الذين يطوفون عُراة.
2- الدعوة درجات فهؤلاء مشركون يطوفون عُراة فأيهم يُقدّم في الدعوة دعوتهم للتوحيد ونزعهم من الشرك أم دعوتهم إلى فروع الإسلام.
فمن الذي كسر الأصنام من حول البيت أليس النبي - صلى الله عليه وسلم - !!
ومن فروع هذه القاعدة:
- اختلف أهل العلم في قراءة سورتين في الركعة الواحدة:
منهم من منع ومنهم من أجاز والقول الصحيح الجواز وليست بسُنَّة ويدل على الجواز أن أحداً من الصحابة كان يقرأ سورة الإخلاص في كل ركعة فسأله النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: «إني أحبها وهي صفة الرحمن» فأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدل هذا على الجواز ولا ينكر عليه.
- صلاة الركعتين قبل المغرب:
استدل جابر - رضي الله عنه -بسكوت النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان يراهم يصلوها ولم يأمرهم ولم ينهاهم ويدل سكوت النبي - صلى الله عليه وسلم - على جوازها.
- جواز العزل:
قال جابر رضي الله عنه: «كنا نَعزل والقرآن ينزل» فاستفاد جابر - رضي الله عنه -بسكوت القرآن وسكوت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النهي عن العزل بجوازه.
- اختلف العلماء في خروج الدم من الإنسان هل ينقض الطهارة أم لا ؟
القول الصحيح أن خروج الدم لا ينقض الطهارة وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية ورواية عن الإمام أحمد ويفتي به ابن عثيمين يستدل بحادثة الصحابي الذي كان يصلي وأصابه سهم ونزعه والدم يخرج منه ولم يتوقف. فهذا الفعل لم يخف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يخف عن الله الذي يعلم السِّر وأخفى ويدل سكوت النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن خروج الدم لا ينقض الطهارة.
واستدل بمن يقول أن الدم ناقض بحديث: «إذا أرعف أحدكم فليأخذ بأنفه وليخرج من المسجد» والحديث حسن إلا أن خروجه من المسجد لا يدل على أن الرعاف ناقضٌ للطهارة بل هذا من باب صيانة المسجد والدليل إذا تطرق عليه الاحتمال فإنه يسقط الاستدلال به.
القاعدة الخامسة
ما وقع في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتبر حُجَّة وإن لم يكن اطلع النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه
العلة في ذلك أن الله سبحانه وتعالى أطلع عليه والمتقرر: «كل فعل يتعلق في التشريع إذا سكت عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو حُجَّة» وهذا يكون بإخبار الصحابة أو بإخبار الله عز وجل بالوحي إليه.
القاعدة السادسة
الفعل المجرد لا يدل على الوجوب
الأفعال الصادرة من النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تخلو من عدة أحوال:
1- أفعال جبليّة طبعية:
أي أفعال تقتضي جبليَّة وطبع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذه الأفعال تقتضيها الضرورة والجِّبلة والفطرة كالقيام والجلوس والنوم هذه ليست بعبادات بذاتها وإنما تكون عبادات بالصفات التي أوقعت عليها فمثلاً:
- النوم من طبيعة الإنسان وإن أراد أن يستنَّ ينام بصفة نوم النبي - صلى الله عليه وسلم -.
- الأكل من طبيعة الإنسان وإن أراد أن يستنَّ يأكل بصفة أكل النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فالأفعال الجبليَّة ليست بسنن ولا مشروعة بذاتها لأنها من مقتضى الطبيعة والجبليَّة ويشترك فيها الناس.
إذاً الأفعال الجبليّة ليست بسُنَّة بذاتها بل سُنة باعتبار صفتها.
2- أفعال من باب الخصوصية:
الأصل عدم الخصائص فإذا ثبت الدليل أن هذا الفعل من باب الخصوصية فيكون لنا المشروع التأسي به في تركه فنتعبد بترك الأفعال التي ثبتت الأدلة أنها من باب الخصوصية فمثلاً:
- إذا تزوج الإنسان أربعاً وترك ما زاد يتعبد الله بهذا الترك لأن الزيادة عن أربعة نساء من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -.
- إذا تزوجت المرأة وقدمت لها المهر تتعبد بذلك لأن الزواج بلا مهر من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فالأفعال الخصوصية لا يقتدى بها فالمشروع في حق الأمة تركها واعتقاد خصوصيتها وتقرر في القواعد: «كل حكم ثبت في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه يثبت في حق الأمة تبعاً إلا بدليل الاختصاص».
3- أفعال توافق فيها فعل قومه:
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتم بالعمامة كعادة قومه ويسكن ما يسكن قومه وهذه الأشياء فعلها كما يتوافق بها عادات قومه وأما تربية الشعر فهل يُقتدى به؟
اختلف العلماء على قولين وهما:
الأول: أنها من عادات قومه ولم تكن أفعالاً تشريعية.
الثاني: أنها داخلة في عموم قوله تعالى: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] {الأحزاب:21} .
وتربية الشعر جاءت بها بعض الأدلة مما يشعرنا أن المراد بها التشريع فكان شعر النبي - صلى الله عليه وسلم - فوق الوفرة ودون الجُمَّة وكان شعر النبي - صلى الله عليه وسلم - يبلغ منكبيه وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - شعره ليس بالجعد ولا بالسبط فحرص الصحابة على نقل هذه الصفات دليل على أنهم يرون أنها سُنَّة وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يدهن شعره ويرجله غِباً ولم يثبت أنه حلق شعره إلا في نسك.
4- أفعال يراد بها التشريع:
وهذا هو الأصل في أفعاله - صلى الله عليه وسلم - أنها يراد بها التشريع قال تعالى: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]. فيكون أسوة في فعله وقوله وتركه وإقراره مثل: أفعال الصلاة وأفعال الحج وأفعال الوضوء وأفعال صلاة الكسوف وأفعال صلاة العيد فالقاعدة: «أن كل فعل من أفعاله - صلى الله عليه وسلم - إذا اختلفنا فإنه يدخل في التشريع حتى تدل قرينة دالة على أنه جبلي أو خصوصي أو ما توافق قومه».
فتربية الشعر إذاً تكون للتشريع.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - ذهب إلى مصلى العيد من طريق ورجع من طريق آخر فالأصل أنه للتشريع.
5- أفعال لبيان القول:
ما فُعل لبيان قول فيكون تابعاً لحكم القول فإن كان القول يفيد الوجوب فالفعل هذا يفيد الوجوب فإن كان القول يفيد الاستحباب فالفعل يفيد الاستحباب.
6- أفعال موافقة لا للقصد:
مثاله أن يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدخل عليه وقت الصلاة في منطقة معينة من البرية ويصلي يتقصد ذلك ومن البدع تتبع المواضع التي كان يصلي يها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ أو يقضي حاجته في مكان معين فليس من السُّنة أن تُقصد هذه الأماكن فهذه الأفعال موافقة لا للقصد ولذلك اتفق أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - على الإنكار من تتبع آثار الأنبياء كعبدالله ابن عمر رضي الله عنهما فإنه لا ينام في الحج إلا في المكان الذي نام فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن أنكر عليه أبوه عمر - رضي الله عنه -وهو من جملة الذين أنكروا عليه.
إذاً تقرر في القواعد: « أن الفعل المجرد لا يدل على الوجوب»
فالأصل أن أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - يراد بها التشريع.
فإذا فعل الفعل فهل يفيد الاستحباب أو يفيد الوجوب؟
والقول الصحيح أنه يفيد الاستحباب إلا إذا كان الفعل لبيان قول واجب فإنه يفيد الوجوب.
وعلى هذا عِدة أمثلة ومنها:
- اختلف العلماء في القيء هل يوجب الوضوء أم لا؟
القول الصحيح أن القيء لا يوجب الوضوء بل يستحب له الوضوء وذلك لحديث أبي الدرداء - رضي الله عنه -أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاء فتوضأ.
فالحديث فيه حكاية فعل وحكايات الأفعال لا ترتقي إلى مرحلة الوجوب ولا يستدل بهذا الحديث على الوجوب بل يستدل على الاستحباب.
- اختلف العلماء في طهارة المني:
القول الصحيح أنه طاهر وثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - غسله ولكنه لم يأمر بغسله وهذا فعل يفيد الاستحباب لإزالة صورته فكانت عائشة رضي الله عنها تفركه أو تغسله.
هل هناك أمرٌ قوليٌ يفيد الاستحباب؟
يمثل له بعض الأصوليين بقول الله تعالى: [وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى] {البقرة:125} فهنا أمر بصلاة ركعتي الطواف. ولكن جماهير أهل العلم اتفقوا على أنها من المستحبات وليست من مناسك الحج والعمرة لعموم قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: «فإن هم أجابوك لذلك، فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة... » فما زاد على هذه الخمس فتكون من جملة المستحبات وخالف في ذلك الظاهرية ورواية للإمام أحمد على أنها من فروض الطواف.
إذاً هذا فعل مقرون بقول والقول يفيد الاستحباب.
القاعدة السابعة
ما أصله مباح وتركه النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يدل تركه له على أنه واجب علينا تركه
ترك المباحات للنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يدل وجوب تركه على أمته بل يفيد استحباب الترك. لأن ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - كفعله فإن كان تركه مجرداً عن النهي القولي فهو يفيد استحباب الترك ففيه كمال الاتباع ولا يجب تركه والأشياء التي تركها النبي - صلى الله عليه وسلم - ونهى عن فعلها مثل: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله عن بناء المساجد على القبور فثبت تحريمها بقوله - صلى الله عليه وسلم - وبتركه. وشيخ الإسلام ابن تيمية عدَّ من جملة البدع ترك المباحات تعبداً.
فمثلاً: ترك اللباس اللين من الثياب دائماً الإقبال على لُبس الصوف والخشونة فهذا من البدع لأن لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بل ثبت أنه عنده الحُلة الحمراء والثوب الأبيض والقميص والإزار والسراويلات والحبرة.
القاعدة الثامنة
الأصل أن ما همَّ به النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعله فإنه لا يكون حُجَّة
القول الصحيح واختاره جمع من الأصوليين: وهو أن ما همَّ به النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعله يدل على الجواز لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يهم بمحرم أبداً.
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - شرع لنا بقوله وفعله وبتقريره وبتركه وما همَّ به. ويمثَّل على هذا كما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لقد هممت أن أخالف إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم».
وهذا فيه دليل على الجواز ويسميه العلماء من باب التعزير بإتلاف المال وإلا فإن تحريق الذوات منهي عنه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يعذب بالنار إلا ربها» فإذا حرَّق بيته تعزيراً ولم يخرج منه فهو احترق تبعاً ولم يحترق قصداً فالنبي - صلى الله عليه وسلم - همَّ بتحريق بيوتهم لأنها سبب ليتخلفوا عن تطبيق شيء من شعائر الله عز وجل فغررهم بإتلافها ورأى النبي - صلى الله عليه وسلم - تضرر الذرية من النساء والأطفال فقدم المصلحة بترك تحريق بيوتهم.
القاعدة التاسعة
الفعل الجبَّلي المحض الذي ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتقرب المكلَّف بفعله إلى الله عز وجل
الأفعال الجبليَّة المحضة التي هي بمقتضى الفطرة لا يقتدى بها في ذواتها وإنما يقتدى بها في أوصافها وهنا سؤال وهو لماذا لا يتقرب إلى الله بالأفعال الجبليَّة؟
الأشياء التي يتقرب بها إلى الله عز وجل شيئان وهما:
- فعل الواجب ويدخل فيه ترك الحرام.
- فعل المندوب ويدخل فيه ترك المكروه.
والأشياء المباحة لا يتقرب بها إلى الله عز وجل والأفعال التي فعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - من باب العادة والجبليَّة والفطرة تدخل في باب المباحات ولا يتقرب بها إلى الله عز وجل لأنه لا يتقرب إلا بفعل ما شُرع وجوباً واستحباباً. وقد تقرر في القواعد: «المباحات تنقلب عبادات بالنيات الصالحات».
القاعدة العاشرة
ما استحب النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله من الأمور العادية فيستحب فعله لمحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - له
من كمال الاتباع والتأسي أننا ننظر للأمور العادية التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحبها فنحبها كما أحبها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب لبس الثياب البياض وغير ذلك.
القاعدة الحادية عشرة
ما يحتمل من الأفعال خروجه من الجبلية إلى التشريع بمواظبته على وجه مخصوص فيستحب التأسي به فيه
الأصل في أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - التشريع فكل فعل دار بين كونه تشريعاً أو جبلياً فإنه يغلَّب جانب التشريع حتى تأتي القرينة التي تُخرجه من التشريع إلى الجبليَّة.
فكل فعل يحتمل التشريع والخصوصية فيغلَّب جانب التشريع حتى تأتي القرينة التي تُخرجه من التشريع إلى الخصوصية إذاً الأصل في أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - التشريع إلا بقرينة تخرجها من التشريع إلى غير ذلك.
- اختلف العلماء في الضِّجعة التي يضطجعها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ركعتي الفجر هل هي لراحة جسده بعد قيام الليل أم هل هي من باب السُّنية والتشريع؟
القول الصحيح والرأي الراجح المليح: أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يفعلها إلا من باب التشريع وقد جاء في صحيح البخاري من فعله - صلى الله عليه وسلم -.
وقد جاء في سنن الترمذي من قوله - صلى الله عليه وسلم - ولكن الحديث في سنده مقال.
القاعدة الثانية عشرة
العبادة الواحدة إذا فعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - بصفات متعددة دون الجمع بينهما مع إمكان الجمع فلا يشرع الجمع بين تلك الصفات
تقرر في القواعد: «العبادات الواردة على وجوه متنوعة من السُّنة فعلها على جميع وجوهها في أوقات مختلفة».
وذكر العلماء أن هذه القاعدة لها عدة فضائل منها:
1- إحياء للسُّنة.
2- أن لا تُنكر السُّنة إذا تُركت ولم يُعمل بها.
3- أنها تجمع المصالح كلها لأن الشارع لا يشرع شيئاً إلا وفيه مصلحة.
من فروع هذه القاعدة باختصار:
1- أدعية الاستفتاح.
2- أذكار الركوع.
3- أذكار السجود.
4- الأذان.
5- صفة الوضوء.
6- صفة الوتر.
وفي هذه القاعدة لا يُشرع الجمع بين هذه الصفات في العبادة الواحدة فمذهب المحدثين على عدم الجمع والتفريق بين هذه الصفات في وقت واحد بأن لا يُجمع مثلاً أكثر من دعاء للاستفتاح في صلاة واحدة ولي وجهة نظر في هذه النقطة وهي: إذا كان الجمع بين الصفات يخرجها عن المألوف الشرعي فتُحرم وأما إذا جمعها ولا يخرجها عن المألوف الشرعي فلا بأس.
فالركوع يكون فيه التعظيم بأي ذكر من الأذكار الواردة وإن جمع بينها فإنه لا يخرجه عن المألوف الشرعي.
وأما الأذان لا يجمع بين الصفتين في وقت واحد لأن العادة المطَّردة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الآذان يكون في صفة واحدة ويُخرجها عن المألوف الشرعي إذا جُمعت في وقت واحد أكثر من صفة.
القاعدة الثالثة عشرة
فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقع به جميع أنواع البيان
والبيان عدة أنواع منها:
1- بيان قولي.
2- بيان فعلي.
3- بيان قولي وفعلي.
فتأتي آية من القرآن فيها أمر والأصل أن الأمر يقتضي الوجوب والفورية ويبين النبي - صلى الله عليه وسلم - من فعله فيصرف الوجوب إلى الاستحباب.
أو تأتي آية من القرآن فيها نهيٌ والأصل أن النهي يقتضي لتحريم والفساد ويبين النبي - صلى الله عليه وسلم - من فعله فيصرف النهي إلى الكراهة.
إذاً أنواع البيان يحصل بفعله - صلى الله عليه وسلم - وكل ذلك داخل تحت قوله تعالى: [وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ] {النحل:44} فالبيان حاصل من قوله وفعله وتركه وتقريراته ومن فروع هذه القاعدة:
- صفة الصلاة: فقد بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة بأقواله وأفعاله كما صلى على المنبر وقال: « صلوا كما رأيتموني أصلي».
- صفة الحج: فقد بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - الحج بأقواله وأفعاله كما يقول بعد كل منسك: «خذوا عني مناسككم».
- صفة الوضوء: فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ أمام الناس ليعرفوا صفة الوضوء.
القاعدة الرابعة عشرة
ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - لفعل ما مع وجود المقتضى له وانتفاء المانع يدل على أن ترك ذلك الفعل سُنَّة وفعله بدعة.
هذه القاعدة تنص كما هو متقرر في القواعد: «كل فعل توفر سببه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعله فالمشروع تركه».
واشترط العلماء في الاحتجاج على هذه القاعدة شرطين وهما:
1- وجود المقتضي للفعل: لأن هناك أفعال مستجدة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعلها أصحابه رضي الله عنهم أجمعين مثل: جمع القرآن لأن المقتضي لم يكن موجوداً في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك لانتشار الإسلام وكثرة الفتوحات احتاج الناس لجمع المصحف ولا يستطيع كثير من الناس حفظه.
2- انتفاء المانع: هناك بعض العبادات يريد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يفعلها ولكن يخشى أن تفرض على الأمة فهناك مانع لأن التشريع ما زال مستمراً واكتمل الدين واكتملت الشرائع قبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ويمثَّل على هذا ترك قيام رمضان من النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعة في المسجد لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله في اليوم الأول والثاني والثالث في اليوم الرابع لم يخرج وعلل ذلك بأنه يخشى أن يفرض عليهم. وهذه القاعدة تدخل تحت قاعدة أخرى وهي: «لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة».
ومثل ذلك الأذكار الجماعية في أدبار الصلوات فقد كان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلون جماعة ولكن كل واحد يذكر الله في نفسه ويرفعون الأصوات بالذكر ولكن لم يجتمعوا في ذكر واحد والإمام يسبِّح ويسبِّح الناس من بعده فالذكر الجماعي لو كان مشروعاً لفعله - صلى الله عليه وسلم - لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ولكن هو من جملة الأفعال التي توفر سببها واستمر في طيلة حياته على عدم فعلها وقد تقرر في القواعد: «كل فعل توفر سببه ولم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - فالمشروع تركه».
القاعدة الخامسة عشرة
لا تعارض بين أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم -
وهذه القاعدة تدخل تحت قاعدة: «الأفعال الواردة من وجوه متنوعة تُفعل على جميع وجوهها في أوقات مختلفة» فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل أحياناً العبادة على وجه وأحياناً يفعل العبادة على وجه آخر وهنا عبادة واحدة فيها فعلان فلا تعارض بينهما وأفرد المؤلف هذه القاعدة لأهميتها وفي هذه القاعدة عدة فروع ومنها:
1- انصراف النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الصلاة المفروضة أحياناً عن اليمين وأحياناً عن الشمال وهذا ليس فيه تعارض للأفعال وإنما فيه بيان لجواز الفعل.
2- صفات الوتر بأفعال مختلفة.
3- الأذكار بعد الصلوات المفروضة.
القاعدة السادسة عشرة
إذا تعارض القول مع الفعل ولم يمكن الجمع بينهما فإن القول مقدم على الفعل
اعلم رحمك الله تعالى أنه لا يمكن أن تتعارض أدلة الشريعة أبداً فلا يمكن أن يتعارض نصٌ صريحٌ ثبت صحته مع نص صريح ثبت صحته سواءً بين قولين أو بين فعلين أو بين قولٍ وفعلٍ.
كل فعل بيّن به قولاً لا يخلو من حالتين:
1- إما أن يكون القول متفق مع الفعل.
2- إما أن يكون القول مختلف عن الفعل.
فإن كان القول متفقاً مع الفعل: فيعطى الفعل حكم القول فإن كان القول يفيد الوجوب فإن الفعل يفيد الوجوب وإن كان القول يفيد الاستحباب فإن الفعل يفيد الاستحباب.
وإن كان القول مختلفاً عن الفعل: فيكون القول يفيد الوجوب وإن فُعل بخلافه فيكون الفعل بياناً لا معارضاً ويكون الأمر يفيد الاستحباب.
وإن كان القول يفيد النهي وهو للتحريم ثم فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بخلافه فيكون النهي لا يفيد التحريم بل يفيد الكراهة.
ويمثّل على هذا بعدة أمثلة ومنها:
1- قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «صلوا قبل المغرب وفي الثالثة قال: لمن شاء».
وهذا فيه أمرٌ ولم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - داوم عليه فالأمر لم يكن معارضاً للقول وإنما بياناً لا معارضاً ويفيد الفعل للاستحباب.
2- قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : « اجعلوا آخر صلاتكم من الليل وتراً».
هذا فيه أمر وثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوتر وصلى بعد الوتر ركعتين فالأمر انصرف من الوجوب إلى الاستحباب.
وإذا لم يُجمع بين القول والفعل فنحمله على التخصيص ويمثّل على هذا بيان النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الزواج بأربع وبيّن فعله بأنه تزوج بأكثر من أربع فيحمل هذا على أنه للتخصيص.
القاعدة السابعة عشرة
الفعل الوارد بصيغة «كان» الأصل فيه أنه للتكرار
لفظ «كان» يفيد الاستمرار إلا بقرينة.
فلو قال الصحابي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوتر بإحدى عشرة ركعة فإنه يفيد الاستمرار في كل الليالي. ولكن ورد أثار على أنه أوتر بثلاثة عشرة ركعة وغير ذلك.
@ @ @
الباب الثامن: قواعد في آثار السلف
القاعدة الأولى
قول الصحابي فيما لا نص فيه يكون حُجَّة إذا لم يخالف صحابياً غيره
هذه القاعدة فيها مسائل:
الأولى: اتفق العلماء رحمهم الله تعالى أن قول الصحابي ليس بحجة إذا لم خالف نصاً مرفوعاً.
الثانية: أجمع العلماء رحمهم الله تعالى أنه إذا اختلف الصحابة فليس قول بعضهم بحجة على بعض ويُرجَّح من أقوالهم ما يدل عليه الكتاب والسُّنة.
الثالثة: اتفق العلماء رحمهم الله تعالى على أن الصحابي إذا قال قولاً واشتهر به ولم يخالف نصاً مرفوعاً، ولم يخالف صحابياً غيره فيكون إجماعاً سكوتياً ولا يكون مذهباً للصحابي.
الرابعة: اتفق العلماء رحمهم الله تعالى على أن الصحابي إذا قال قولاً لا مجال للرأي فيه ولم يُعرف أنه يأخذ من أهل الكتاب فيكون قوله له حكم الرفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الخامسة: إذا قال الصحابي قولاً للرأي فيه مجال ويغلَّب على الظن عدم انتشاره بين الصحابة وهذا الذي يبحثه الأصوليون هل قول الصحابي حُجَّة أم لا؟ والقاعدة عند المحدثين واعتمدها المؤلف هنا على أن قول الصحابي حُجَّة وهو القول الصحيح وهو ظاهر مذهب الإمام أحمد والشافعي.
السادسة: الشرط في الاحتجاج بقول الصحابي صحة السند إليه لأن القاعدة المتقررة عندنا: «كل قولٍ يحتج به فلا بد من إثبات صحته» فالقرآن سنده صحيح والسُّنة يُحتج بها إذا ثبت صحة سندها وقول الصحابي يُحتج به إذا ثبت صحة السند إليه وقول التابعي لا يحتج به ويُحكى عنهم ولا تنظر إلى أسانيدها فإن زادت خيراً للأمة وإلا فلا يحتج بها.
هذه القاعدة فيها بعض الفروع ومنها:
- الفرع الأول: اختلف العلماء في رفع الأيدي في صلاة الجنازة وقد ثبت في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -رفع الأيدي في التكبيرة الأولى وقد اتفق العلماء على هذه التكبيرة وسكت أبو هريرة عن باقي التكبيرات.
فذهب الحنابلة والشافعية إلى مشروعية رفع الأيدي بالتكبيرات لصلاة الجنازة وذهب جمع من المحدثين وهو مذهب الحنفية أنه لا يرفع إلا في التكبيرة الأولى فقط.
فقول الصحابي أن ابن أبي شيبة روى بإسناد صحيح عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان يرفع يديه في كل تكبيرات الجنازة وقال الشافعي: «ويسن رفع اليدين في صلاة الجنازة للأثر والقياس» وإما قول الشافعي «القياس» فالصحيح لا قياس في العبادات فكيف تقاس بالتكبيرات الصلاة ويكفي من قول الشافعي «الأثر».
- الفرع الثاني: الجهر بدعاء الاستفتاح في الصلاة من السُّنة إن كان من باب التعليم لا سيما إن كانوا مسلمين جُدداً واستدلالهم بفعل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -ولا يُعرف له مخالف وهو من الخلفاء الأربعة الراشدين المهديين.
- الفرع الثالث: اختلف العلماء في أن الحائض إذا طَهُرت بعد العصر فهل تجب عليها صلاة الظهر اتفقوا على وجوب صلاة العصر عليها إن كان مقدار الوقت المتبقي لركعة واختلفوا في صلاة الظهر وكذلك لو طَهُرت في وقت العشاء هل يجب عليها صلاة المغرب؟.
فمذهب عبدالرحمن بن عوف وأبي هريرة على أنهما يوجبان أداء صلاة الظهر والعصر إذا طَهُرت بعد العصر ويوجبان أداء صلاة المغرب والعشاء إذا طَهُرت بعد العشاء.
وحكى جمع من أهل العلم إجماع أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا الحكم وقد سألتُ الشيخ عبد العزيز الطريفي حفظه الله وذكر أنه لا خلاف فيه عند الصحابة ولا عند التابعين.
إذاً فقول الصحابي لا يُحتج به إذا خالف قول صحابي آخر وإذا خالف قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل السُّنة يحترمون أقوال الصحابة لأنهم أعلم الناس بالتأويل وأعمق الأمة علماً وأزكاهم نظراً وإيماناً وأقلهم تكلفاً وأعلمهم بمقاصد الشرع بالحلال والحرام ولا يكون أحدٌ مثلهم.
القاعدة الثانية
آثار الصحابة يشترط في الاحتجاج بها صحة إسنادها وأما آثار من بعد الصحابة فلا يشترط النظر في إسنادها إلا إذا كان فيها نكارة
هذه القاعدة تدخل في قاعدة: «كل ما كان من شأنه الاحتجاج به فلا بد النظر في إسناده».
خلاصة القاعدة:
أن قول الصحابي لا يجوز الاحتجاج به إلا بعد النظر في إسناده وأما أقوال التابعين فتقال بلا إسناد إلا ما كان فيها نكارة فيجب النظر في إسنادها.
النكارة في أقوال التابعين:
النكارة تكون بمخالفة الكتاب والسُّنة أو بمخالفة إجماع الأمة أو بمخالفة العقل أو بمخالفة منهج السلف وإنما تذكر من باب الاستئناس لا من باب الاستدلال.
القاعدة الثالثة
قول الصحابي إذا اشتهر ولم يخالفه أحد يكون إجماعاً وحُجَّة
قول الصحابي إذا عُلم واشتهر بين الأمة والصحابة ولم ينكروه هو الذي يسمى إجماعاً وحجة ويسمى إجماعاً سكوتياً، وإما بعض أقوال الصحابة لا ندري أهي اشتهرت أم لم تشتهر فلا تصل إلى مرتبة الإجماع وإنما تُجعل مذهباً لصحابي.
مثال: الأذان الأول في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه:
يستدل على مشروعية الأذان الأول لصلاة الجمعة بدليلين:
1- أن الذي قرره عثمان وهو من الخلفاء الراشدين الذين يجب اتباعهم.
2- هذا الفعل لم ينكره أحدٌ من الصحابة ويسمى إجماعاً سكوتياً.
القاعدة الرابعة
إذا اختلف الصحابة في مسألة ما رُجع إلى الأصل ولا يقدم قول بعضهم على بعض
يقارن بين أقوال الصحابة الواردة في المسألة بالنظر إلى الكتاب والسُّنة والقرائن التي ترجّح أحد القولين على الآخر.
مثال: اختلف الصحابة في مشروعية غسل اليدين ثلاثاً بعد نوم الليل:
- من الصحابة من أنكر هذا الفعل ومنهم عائشة رضي الله عنها.
- من الصحابة من أخذ هذا الفعل ومنهم أبو هريرة وأكثر صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فعندما رجعنا إلى أصل هذه المسألة والترجيح بالكتاب والسُّنة فيكون القول الصحيح قول من أقر هذا الفعل لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلهما في الإناء ثلاثاً فإن أحدكم لا يدري أين باتت يدهُ» متفق عليه.
القاعدة الخامسة
إذا اختلف الصحابة في مسألة ما على قولين فإن القول الذي فيه أحد الخلفاء الراشدين أرجح من القول الآخر
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ولا يُعرف لأبي بكر الصديق قولاً انفرد به وخالف فيه الصحابة».
القاعدة السادسة
إذا اختلف الصحابة في مسألة وليس فيها دليل ولا قول لأحد الخلفاء الراشدين فإنه يؤخذ بقول الأكثر منهم
وفي هذه القاعدة بعض الفروع:
- اختلف الصحابة في الوضوء من لحم الإبل.
أكثر الصحابة على القول بالوضوء.
- اختلف الصحابة في تتبع آثار النبي - صلى الله عليه وسلم -.
أكثر الصحابة على المنع.
القاعدة السابعة
إذا قال الصحابي قولاً لا مجال للرأي فيه فقوله مقدم على قول من خالفه من الصحابة
السبب في ذلك أن قول الصحابي الذي لا مجال للرأي فيه فهو كحكم المرفوع حكماً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
القاعدة الثامنة
الصحابي أدرى بمرويه من غيره
هذه قاعدة كبيرة في الرجوع إلى تفسير الراوي فإذا روى الصحابي حديثاً واختلف الصحابة أو العلماء في تفسيره فتفسير الراوي مقدمٌ على غيره بشرط ما لم يخالف تفسير الراوي ظاهر الحديث.
وفي هذه القاعدة بعض الفروع ومنها:
- اختلف العلماء في القزع.
أصح التفاسير للقزع ما رواه نافع عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن القزع فقيل لنافع ما القزع؟ فقال: قال ابن عمر أن يحلق بعض رأس الصبي ويترك بعضه.
- اختلف العلماء في التخصّر في الصلاة:
أصح التفاسير للتخصّر في الصلاة ما رواه أبو هريرة وعائشة رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن التخصُّر في الصلاة. قالت عائشة في مرويها كما في البخاري: «أن يضع الرجل يديه على خاصرته فإن ذلك فعل اليهود في صلاتهم».
القاعدة التاسعة
إذا خالف الصحابي ما رواه فالعبرة بما رواه لا بما رآه
هذه قاعدة كبيرة وهو قول جمهور العلماء من الحنابلة والشافعية والمالكية وخالف في ذلك الحنفية بسوء فهم أن الراوي ما خالف مرويه إلا بناسخ لمرويه ولم يذكر الناسخ بقوله ولكن ذكر الناسخ بفعله والقول الصحيح هو قول الجمهور لأن الرواية صريحة غير محتملة وقد تقرر عند العلماء: «أن المحكم مقدم على المتشابه» والمتشابه هو المحتمل وعلى هذه القاعدة بعض الفروع ومنها:
- لا نكاح إلا بولي:
من جملة الذين رووا أحاديث «لا نكاح إلا بولي» عائشة رضي الله عنها وهي أحاديث حسنة بأن نكاح المرأة بلا ولي باطل وقد ثبت في موطأ مالك عنها رضي الله عنها أنها تزوج بنات أخيها بسبب غياب إخوانها أو موتهم.
فالحنفية قالوا لا يشترط الولي في النكاح عملاً بعمل عائشة.
والجمهور قالوا بشرط الولي في النكاح لأنه إذا خالف الصحابي ما رواه فالعبرة بما رواه لا بما رآه.
- قصر الصلاة في السفر:
روت عائشة رضي الله عنها: «فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فأُقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر».
وقد ثبت عنها في الصحيحين أنها كانت تسافر وتتم الصلاة وتأولت ذلك بقولها: «إني أم المؤمنين فحيث ما حللتُ فإنهم أبنائي فلا تقصر الأم في مكان أبنائها».
وهذا كان في وقت النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم تقصر الصلاة فهذا رأيها واجتهادها فإذا خالف الصحابي ما رواه فالعبرة بما رواه لا بما رآه.
القاعدة العاشرة
إذا اختلف قول الصحابي مع حديث مرفوع وأمكن الجمع فإن الجمع بينهما أولى
هذه القاعدة داخلة تحت قاعدة: «الجمع بين الأدلة واجبٌ ما أمكن».
فإذا تعارضت دلالة الكتاب والسُّنة وكان الجمع بينهما ممكناً فإننا نجمع بينهما وإذا تعارضت دلالة الكتاب مع الكتاب أو تعارضت دلالة السُّنة مع السُّنة وأمكن الجمع بينهما جمعنا بينهما وتقرر أن قول الصحابي حُجَّة وهو من جملة الأدلة فإذا تعارض قول الصحابي مع أحد الأدلة من الكتاب أو السُّنة مع إمكان الجمع بينهما فإنه يجمع إما بتخصيص العموم أو بتقيد الإطلاق أو بتفسير المجمل أو بانصراف الأمر من الوجوب للاستحباب أو النهي من التحريم إلى الكراهة فلا يجوز تخطئة الصحابي مع إمكان الجمع بين الأدلة.
القاعدة الحادية عشرة
يجب الرجوع إلى الصحابة في تفسير معاني الألفاظ
خلاصة هذه القاعدة: أن كل فهمٍ يخالف فهم سلف الأمة في مسائل العقيدة فهو باطل ومرفوض وكتبتُ في هذه القاعدة رسالة بعنوان: «تذكير الخلف بوجوب اعتماد فهم السلف».
القاعدة الثانية عشرة
ما أقره الصحابة ولم ينكروه أو كان مشهوراً في عهد السلف ولم ينكروه دل ذلك على مشروعيته
لو كان منكراً لما اتفقوا على السكوت عليه وتدخل هذه القاعدة تحت قاعدة: « إذا فعل في عهد الصحابة أو قيل بقول ولا يُعرف إنكاره فلا تسمى بدعة».
القاعدة الثالثة عشرة
قول الصحابي: كانوا يفعلون كذا وكذا أو كنَّا نفعل كذا فله حكم المرفوع
هذه القاعدة عليها بعض الفروع ومنها:
- قول جابر رضي الله عنه: «كنا نعزل والقرآن ينزل».
- قول الصحابة: «كنا نطعم الصدقة صاعاً من شعير».
- قول عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: «كنّا نتحين زوال الشمس فإذا زالت رمينا».
وهذا يكون له حكم المرفوع حكماً إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا كان صادراً من الصحابي.
القاعدة الرابعة عشرة
كل ما ورد عن الصحابي من قول أو فعل مما لا مجال للرأي فيه فله حكم المرفوع فيكون حُجَّة وما ورد عن التابعين له حكم المرفوع فلا يكون حجة
ويمثل على هذه القاعدة:
- قول الصحابي أبي هريرة رضي الله عنه: «ضرس الكافر في النار كجبل أحد» فهذا القول:
لا مجال للرأي فيه وله حكم الرفع.
- فمتى يعطى الصحابي حكم الرفع؟
يُعطى الصحابي حكم الرفع بشرطين:
1- أن يقول قولاً لا مجال للرأي فيه.
2- أن لا يكون ممن يأخذ من أهل الكتاب.
القاعدة الخامسة عشرة
قول الصحابي من السُّنة كذا فله حكم المرفوع وقول التابعي من السُّنة كذا وكذا يكون في حكم المرسل فلا يكون حُجَّة
ويمثّل على هذه القاعدة:
- قول أنس رضي الله عنه: من السُّنة في الصلاة وضع آليتيك على عقيبيك.
وهذا القول له حكم الرفع.
- قول أنس رضي الله عنه: من السُّنة دخول المسجد بالرجل اليمنى وإذا خرجت بالرجل اليسرى.
وهذا القول له حكم الرفع.
- قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من السُّنة أن يأتي إلى صلاة العيد ماشياً.
وهذا القول له حكم الرفع.
القاعدة السادسة عشرة
قول الصحابي: «أُمرنا بكذا ونُهينا عن كذا» بصيغة البناء للمجهول فيعني به أمر ونهي صاحب الشريعة
ويمثّل على هذه القاعدة:
- قول أم عطية رضي الله عنها: نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا.
وهذا النهي له حكم الرفع.
- قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أمرنا بأن نحتفي أحياناً.
وهذا الأمر له حكم الرفع.
- قول معاوية رضي الله عنه: أمرنا بأن لا نصل صلاةً بصلاة حتى نتكلم أو نخرج.
وهذا الأمر له حكم الرفع.
فإذا قال الصحابي أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا فيكون له حكم الرفع لأن الصحابي لا يقول هذا القول في مجال الاحتجاج إلا ويقصد أنه من قول من هو حُجَّة وهو النبي - صلى الله عليه وسلم -.
القاعدة السابعة عشرة
إذا جاء عن أحد من السلف في المسألة الواحدة قولان ولم يكن فيها دليل فإنه يجمع بين القولين فإن كان في المسألة دليل أخذ بالقول الذي يؤيده الدليل
وهذه القاعدة تنفع في أقوال المجتهدين والنظر في أقوالهم المتعددة مثل الإمام أحمد له أحياناً في المسألة الواحدة سبعة أقوال فيكون أن نجمع بين هذه الأقوال إن أمكن وإن لم يتمكن الجمع بينها نأخذ بالقول الأقرب إلى الدليل وإن لم يكن هذا فنأخذ آخر الأقوال للإمام في المسألة لأن غالباً الأقوال المتأخرة ناسخة وإن لم نعرف المتأخر منها نقول بالأقوال ولا نجزم بأحدها على الآخر.
القاعدة الثامنة عشرة
لا تنسب قاعدة إلى السلف بفعل أو قول يصدر من آحاد السلف
لا تكون قاعدة منهجاً من المناهج بأن تأخذ من واحد أو اثنين أو ثلاثة أو يكون منهجاً عاماً فيجب أن يكون السلف ساروا عليه ولم يخالفوه وأقروه ولم ينكروه.
وإذا روي عن أحد مقالة فلا نأخذ منها منهجاً عاماً ويمثّل على هذا:
- مقولة: «اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة».
وهذه منقولة عن خمسين من السلف.
- مقولة: «اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم».
وهذه منقولة عن عبدالله بن مسعود وعن حذيفة وعن كثير من الصحابة وكثير من التابعين.
القاعدة التاسعة عشرة
الأخذ بفتاوى التابعين أولى من الأخذ بفتاوى اتباع التابعين
وهذه القاعدة فيها نظر ويكون بذلك إذا كان في المسألة قول صحابي وليس هناك ثمة دليل يخالف هذا القول فنأخذ بقول هذا الصحابي.
وإذا تعارض قول صحابي وقول تابعي فإنه يقدم قول الصحابي على غيره لأنه قول حُجَّة ما لم يخالف الدليل أو يخالف إجماع الصحابة وإن كان مشهوراً.
وإذا تعارض قول التابعي وقول تابع التابعي فإنه يقدم قول ما اقتضى ووافق النص.
القاعدة العشرون
إذا اختلفت أقوال السلف في مسألة وأمكن الجمع بينها فإن الجمع بينها أولى
السلف يقولون: تُجرى آيات الصفات من غير تفسير.
ونقل عن بعضهم: تفسير آيات الصفات.
ولا خلاف بين القولين:
الذين نفوا التفسير يقصدون نفي تفسير الكيف.
الذين أثبتوا التفسير فإنما يقصدون إثبات تفسير المعنى.
فالسلف يفسرون معاني الصفات على مقتضى دلالة اللغة العربية ولكنهم لا يتكلمون في تفسير الكيفية.
القاعدة الحادية والعشرون
جمع عبارات السلف في المكان الواحد أدل على المقصود من عبارة أو عبارتين
هذه القاعدة مهمة جداً وخاصة في التفسير ويعبّر عنها بقولهم: «إذا احتمل اللفظ على معنيين ولا تنافي بينهما فإنه يحمل عليهما».
وكثير من خلاف المفسرين من اختلاف التنوع لا اختلاف تضاد وهذا بالاستقراء وهو كلام كثير من أهل العلم ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية والشنقيطي ويمثّل على هذه القاعدة، تفسير قوله تعالى: [اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ] {الفاتحة:6}:
اختلف السلف على خمسة أقوال ومنهم من قال الصراط المستقيم هو: «الإسلام- القرآن- طريق أبي بكر وعمر- طريق أهل السُّنة- الصراط الذي ينصب على متن جهنم» وهذه الأقوال من باب اختلاف التنوّع.
القاعدة الثانية والعشرون
يجب حمل كلام السلف على مرادهم واصطلاحهم
هذه القاعدة مهمة وتفيد إحسان الظن بالعلماء وليس من العدل ولا من الإنصاف أن ننسب إلى العالم قولاً مطلقاً على أنه قيده في مكان آخر أو أنه ينسب إليه قولٌ محتمل على أنه بينه وفسّره في مكان آخر فإذا أردت أن تنسب قولاً للعالم فلا يجوز لك ذلك إلا إذا جمعت أقوال العالم في هذه المسألة في كل مؤلفاته ودروسه والعالم ليس معصوماً.
القاعدة الثالثة والعشرون
أقوال التابعين في مسألة ما ليست بحجة
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «قال شعبة بن الحجاج وغيره: أقوال التابعين في الفروع ليست حُجَّة فكيف تكون حُجَّة في التفسير؟ يعني أنها ليست حُجَّة على غيرهم ممن خالفهم وهذا صحيح أما إذا أجمعوا على الشيء فلا يرتاب في كونه حُجَّة فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حُجَّة على بعض ولا على من بعدهم ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن أو السُّنة أو عموم لغة العرب أو أقوال الصحابة في ذلك».
القاعدة الرابعة والعشرون
إذا ورد لأحد الأئمة في مسألة ما كلام محتمل وكلام آخر صريح فإن الكلام المحتمل يرجع إلى الكلام الصريح ويحمل عليه
قال ابن رجب: «ومذهب أحمد أن ما بين المشرق والمغرب قبلة لم تختلف نصوصه في ذلك ولم يذكر المتقدمون من أصحابه خلافاً وإنما ذكره القاضي أبو يعلى ومن بعده وأخذوه من لفظ محتمل ليس بنص ولا ظاهر والمحتمل يعرض على كلامه الصريح ويحمل عليه ولا يُعد مخالفا له بمجرد احتمال بعيد ولكن الشافعي له قولان في المسألة وأما أحمد فلم يختلف قوله في ذلك».
@ @ @
الباب التاسع: قواعد في الناسخ والمنسوخ
القاعدة الأولى
مراد السلف بكلمة النسخ ليس هو المراد عند المتأخرين
تعريف النسخ في الشرع عند المتأخرين الأصوليين: رفع حكم شرعي بخطاب شرعي متأخر عنه.
تعريف السلف للنسخ أوسع من تعريف المتأخرين الأصوليين وهذه ميزة تعريف السلف مبني على التيسير وإرادة الفهم فالسلف يعرفون النسخ بقولهم:
بيان الإجمال وتخصيص العموم وتقييد الإطلاق وتبيين المجمع وهكذا يسمى عند السلف نسخاً وهو بيان المراد بغير ذلك اللفظ.
- قرر أهل العلم: «النسخ جائز عقلاً وواقع شرعاً»:
لم يخالف في هذه القاعدة إلا أهل البدع لأن هذه القاعدة تبين أن الأمر كله لله عز وجل فهو المقرر لها ابتداءً وانتهاءً وراجع للمصالح والمفاسد وقد ثبت النسخ في القرآن والسُّنة.
- قرر أهل العلم: «النسخ لا يكون بالإجماع»:
الإجماع لا ينسخ ولا يُنسخ به ويكون الحكم المستند عليه النسخ هو إجماع مجتهدي الأمة والإجماع لا يكون إلا بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
- قرر أهل العلم رحمهم الله: «لا نسخ بالقياس»:
القياس المعارض للنص أصله فاسد فكيف يكون ناسخاً للنص والواجب إذا تعارض النص والقياس فإنه يقدم النص على القياس وقد تقرر في القواعد «القياس المصادم للنص فاسد الاعتبار».
- قرر أهل العلم: « لا نسخ بالاحتمال»:
وهذا باتفاق أهل السُّنة أن النسخ لا يثبت إلا بالدليل فمن ادعى أن هذا النص منسوخاً فلا بد أن يأتي بالدليل الصحيح الصريح لأن الاحتمال هو شك واليقين مقدم عليه.
- قرر أهل العلم: « لا نسخ بالعقل»:
فالعقل لا ينسخ النص مطلقاً لعدة علل منها:
1- أن العقل أصلاً تابع للنص فكيف يكون التابع ناسخاً لمتبوعه.
2- المتقرر عند أهل السُّنة: «لا تعارض بين العقل الصريح مع نقل صحيح» ومن ادّعى غير ذلك فيكون قد تأثر بأهل البدع ووافقهم ولم يثبت هذا في منهج سلف الأمة.
- قرر أهل العلم: «شريعة الإسلام نسخت كل الشرائع»:
فلا يجوز لأحد أن يتدين بغير الإسلام ديناً أبداً.
شروط النسخ:
1- أن توجد حقيقة النسخ وهي النقل والإزالة على منهج الأصوليين
2- أن يكون النسخ وحياً فيخرج النسخ بالإجماع والقياس والعقل.
3- أن يتأخر الناسخ عن المنسوخ كما في تعريف النسخ عند الأصوليين.
4- امتناع الجمع بين الدليلين وقد تقرر عند أهل العلم: «إعمال الدليلين أولى من إهمالهما ما أمكن» وهذه القاعدة متفق عليها في جميع المذاهب.
5- أن يكون المنسوخ مما يدخله النسخ لأن في الشريعة أمرين لا يدخلها النسخ وهي:
أ - الأخبار المحضة وليست الأخبار في الأحكام لأن النسخ في الأخبار المحضة تكذيب له ولا ندخل في إخبار الله وإخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكذب أبداً.
ب- النسخ لا يدخل في الأحكام الشرعية التي تكون مصالحها مستمرة ومفاسدها مدفوعة فلا ترفع هذه الأحكام مثل تحريم الزنا لا يرفع وكذلك القتل بغير الحق وكذلك تحريم الكبر وغيرها لا يدخلها النسخ وأعظم الأحكام التوحيد والشرك فهذه لا تنسخ. وتسمى هذه عند بعض العلماء: «لا يدخل النسخ في أصول قواعد الملة».
6- يجب معرفة النسخ المتقدم عن النسخ المتأخر ويُعرف بأمرين وهما:
أ - بالنص مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «كنت نهيتكم عن زيارة المقابر».
ب- بتنصيص الصحابي ولا سيما إن كان أحد رواة الحديثين.
من حكم النسخ:
1- تحقيق المصالح ودرء المفاسد.
2- التدرج في التشريع.
3- ابتلاء المؤمنين.
4- مضاعفة الأجور للأمة.
5- الرحمة للأمة.
أقسام النسخ:
قُسِّم النسخ باعتبار ثقله وخفته على ثلاثة أقسام:
1- ينسخ الأخف بالأثقل مثل وجوب صيام عاشوراء بنسخه إلى صيام رمضان.
2- ينسخ الأثقل بالأخف مثل نسخ آية المصابرة في جهاد الطلب.
3- ينسخ المساوي بالمساوي مثل نسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة.
الحكمة من بقاء النص مع أن الحكم مرفوع:
1- تكثير أجور الأمة بالقراءة والحرف بعشر حسنات.
2- أن تتذكر الأمة نعمة التخفيف.
الحكمة من بقاء الحكم مع أن النص مرفوع:
هذا هو حقيقة الابتلاء برفع النص وبقاء الحكم وهو حقيقة التعبّد.
أقسام النسخ باعتبار الناسخ:
1- نسخ القرآن بالقرآن مثل آية المصابرة في جهاد الطلب.
2- نسخ السُّنة بالسُّنة مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها».
3- نسخ السُّنة بالقرآن مثل وجوب صيام عاشوراء نُسخ بصوم رمضان.
4- نسخ القرآن بالسُّنة المتواترة فهذا مذهب جمهور أهل السُّنة وهو الحق وأما نسخ القرآن بالسُّنة الآحادية فهو الذي توقف فيه العلماء وأكثر العلماء بالمنع ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية لأن من شروط النسخ أن يكون الناسخ وحياً والسُّنة الآحادية وحي وقد وقع شرعاً ويمثّل على هذا قوله تعالى: [كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ] {البقرة:181} - صلى الله عليه وسلم - فكان أول الإسلام يجوز للإنسان أن يوصي لوالديه وبعد قسمة المواريث قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث» فنسخ الحديث بخبر الآحاد. وكذلك الرضعات العشر في القرآن نسخت بحديث الآحاد عن عائشة رضي الله عنها بخمس رضعات.
القاعدة الثانية
النسخ يثبت بالدليل ولا يثبت بالاحتمال والأصل في الدليل أنه محكم غير منسوخ
ما ثبت بيقين فلا ينقض إلا بيقين فإذا ثبتت آية أو حديث فلا يجوز أحد أن يبطل الحديث إلا بيقين لأن هناك جملة من العلماء قد يظنون تعارضاً بين حديثين ثم يحكمون على أحدهما بالإبطال والنسخ ولا يُبينون وجهة النسخ وهذا يكون نسخاً بالاحتمال وهو لا يجوز مستنداً للنسخ بل يكون المطلوب مستنداً مقبولاً عن العلماء ويفرّع على هذا بعض الأمثلة:
- فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مستلقياً على ظهره وواضع إحدى رجليه على الأخرى.
ذهب الخطابي على أن هذا الحديث منسوخ بالأدلة الدالة على وجوب ستر العورة ويرد هذا الكلام بأنه نسخ بالاحتمال لأنه ممكن أن تقول تجوز هذه الحالة والهيئة إذا أمن من انكشاف العورة ويعمل بهذه الأدلة بستر العورة وأدلة استلقاء على الظهر ووضع الرجل على الأخرى بشرط أن يستر العورة وبهذا يكون كما تقرر في القواعد: «الأصل بقاء الأصل حتى يرد الناقل».
- أحاديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما في خيار المجلس:
ادّعى قومٌ من المالكية أن هذه الأحاديث منسوخة بإجماع أهل المدينة على عدم العمل به ولا يجمع أهل المدينة على شيء إلا وعندهم دليل ناسخ لها ولكن نقول هذا نسخ بالاحتمال وأخطأ أهل المدينة في هذا والصحيح العمل بأحاديث خيار المجلس.
- الأمر بإخراج الحيّض وذوات الخدور يوم العيد:
وقيل منسوخة بآيات بقاء المرأة في بيتها والأمر بذلك وهذا لا شك أنه نسخ بالاحتمال ولا يصح نسف الأدلة من أجل اجتهاد عالم والصحيح خروج النساء يوم العيد وعزلهم في المصلى.
القاعدة الثالثة
لا يدخل النسخ في الأخبار أو القواعد الكلية
النسخ لا يكون في الأخبار لأن النسخ فيه تكذيب له وأخبار الشريعة لا يدخلها الخُلف أبداً. والنسخ لا يكون في القواعد الكلية وهي الأحكام التي فيها عدم انقطاع مصالحها ومفاسدها فكل حكم لا تنقطع مصلحته فهو من القواعد الكلية وكل حكم لا تنتهي مفسدته فهو من القواعد الكلية ولا يدخلها النسخ وإنما يكون النسخ فقط في الأحكام الشرعية. والنسخ لا يكون في القواعد الكلية لأن المصلحة محققة والمفسدة مدفوعة فكيف يكون النسخ فيها.
القاعدة الرابعة
عدم جواز النسخ بالقياس
لا يجوز قول أن الدليل من الكتاب والسُّنة منسوخ بالقياس لعدة أمور:
1- القياس أصلاً خرج من النص والفرع لا ينسخ أصله والأصل هو الأقوى والفرع هو الأضعف.
2- إذا كان القياس مخالف للنص فإن القياس فاسد الاعتبار فكيف يكون ناسخاً للنص ورافعاً له.
3- فهم السلف حُجَّة ولا يُعرف عنهم أنهم نسخوا دليلاً من الكتاب أو السُّنة بالقياس.
4- المتقرر في قواعد: «أن القياس لا يصار إليه إلا بعد تعذر النص» والآن النص موجود فكيف يكون القياس وهو اجتهاد وتقرر في القواعد: «لا قياس مع النص ولا اجتهاد مع النص».
القاعدة الخامسة
قبول قول الصحابي في النسخ
دعوى الصحابي أن هذا النص منسوخ يعتبر مذهباً له ومذهب الصحابي مقبول إذا لم يخالفه صحابي آخر وإذا تعارض مع قول صحابي آخر فإنه يرجّح بينهما وينظر إلى الأدلة.
القاعدة السادسة
تأخر إسلام الصحابي لا يدل على النسخ
وهذا غير معتبر عند أهل العلم فتقدم الإسلام وتأخره فلا يكون نسخاً لأحدهما لأن المتأخر يروى عن أشياء حدّثها من هو عاصرها مثل عبدالله بن عباس رضي الله عنهما يروي أحاديث قبل الهجرة إلى المدينة وقد كان عمره حينئذ ثلاث سنوات. وهذا النسخ بالاحتمال لأن المتقدم ربما يروي عن المتأخر والمتأخر يروي عن المتقدم.
@ @ @
الباب العاشر: قواعد في الجمع والترجيح
القاعدة الأولى
الأحاديث المتعارضة يجمع بينهما ولا تطرح
اتفق العلماء على أنه لا يمكن تعارض بين دليلين صحيحين ثابتين والتعارض والإشكال بين الدليلين يرجع لقلة العلم وضعف الفهم أو وجود الإشكال في معتقده والصحيح لا تعارض ويتهم العقل ولا يتهم الدليل.
طرق الجمع بين الدليلين:
1- الجمع بين الدليلين من الأوجه المعتمدة بأن يكون أحد الدليلين عاماً والآخر خاصاً وأما أحد الدليلين مطلقاً والآخر مقيداً وإما أن يكون كلاهما وارده على وجوه متنوعة فلا تعارض بينهما.
2- الجمع بين الدليلين بالنسخ فأيهما ناسخ والآخر منسوخ ويبطل العمل بالمنسوخ ويعمل بالناسخ.
3- الجمع بين الدليلين بالترجيح وهو إبطال العمل بأحد الدليلين إبطالاً كاملاً فوجوده كعدمه ولا يكون تشريعاً.
4- التوقف في الجمع بين الدليلين ولا ينتقل إلى الطريقة إلا إذا عجز أن يجمع بينهما بالطريقة الأولى.
القاعدة الثانية
لا يُجمع بين الدليلين إذا كان أحدهما لا يثبت
هذه القاعدة شرطٌ في الجمع بين الأدلة فإذا كان أحد الأدلة ثابتاً والآخر ضعيفاً فلا تعارض لأن الحديث الضعيف لا ينسب إلى الشرع ولا يُعمل به.
القاعدة الثالثة
لا يُجمع بين الدليلين المتعارضين بتأويل بعيد
لا يجوز ترك التعارض والهرب منه حتى يحمل الجمع بين الأدلة بأوجه مناسبة ومقبولة عند أهل العلم تتناسب مع عظمة القرآن وفصاحة اللغة العربية وفصاحة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبلاغة أدلة الشرع.
القاعدة الرابعة
لا يصار إلى الترجيح مع إمكان الجمع
الجمع فيه إعمال للدليلين والترجيح فيه إبطال لأحد الدليلين والترجيح عند الفقهاء ليس كالترجيح عند أهل الحديث والمقصود ترجيح أهل الحديث بالنظر إلى الإسناد والنظر إلى المتن وقربه من قواعد الدين الكلية.
القاعدة الخامسة
لا يصح الترجيح إلا بالطرق المعتبرة في الشرع
الطرق المعتبرة أن الحديث الموافق لأصول الشرع مرجّح على الآخر وكذلك الحديث الذي له طرق كثيرة يرجح على الآخر وكذلك الحديث الموافق للثقة يقدم ويرجح على الآخر.
القاعدة السادسة
إذا تعارض حديثان في قضيتين متشابهتين تحت جنس واحد فإنهما يجعلان حكمين مختلفين ويستعمل كل واحد من الحديثين في موضعه
هذه قاعدة إذا ورد حديثان في قضيتين متشابهتين فيبدو للناظر تعارض الحديثين مع أن كل حديث ورد على حال ومن هذه الأمثلة.
- اختلفت الأدلة في التفضيل بين عائشة وخديجة رضي الله عنهما:
هناك أحاديث تثبت أن عائشة رضي الله عنها هي الأفضل.
وهناك أحاديث تثبت أن خديجة رضي الله عنها هي الأفضل.
فجاء شيخ الإسلام ابن تيمية قال وجمع بين هذه الأدلة «بالنظر إلى أول الإسلام فخديجة أفضل من عائشة وبالنظر إلى آخر الإسلام فعائشة أفضل من خديجة».
القاعدة السابعة
إذا جاء حكم صريح في حديث من الأحاديث فلا يعارض ذلك الحديث الصريح بحكم مستنبط من حديث آخر لم يسق لذلك المعنى بالكلية
أهل السُّنة اتفقوا على: «إذا تعارض متشابه ومحكم فإن المتشابه يُرد على المحكم» وهذه قاعدة من قواعد الرسوخ في العلم فمن ضبطها وتعبّد الله برد الفروع إليها فوالله بأنه من الراسخين في العلم.
القاعدة في الثامنة
رواية الراوي لحكم من الأحكام مقدمة على رواية من نفى ذلك الحكم
هذه القاعدة يقول فيها الأصوليون: «المثبت مقدم على النافي» فإذا روى راويان حديثين أحدهما ينفي والآخر يثبت فإن رواية المثبت مقدمة على رواية النافي لأن النافي يبقيك على الأصل وهو النفي والمثبت ينقلك عن الأصل ورواية الناقل عن الأصل مقدمة على رواية الثابت على الأصل لأن الناقل معه زيادة علم وقد تقرر في القواعد: «يقدم من حفظ الحجة على من لم يحفظ».
@ @ @
الخاتمة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني
اللهم اغفر لي جدِّي وهزلي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي
اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار
اللهم انفعني بما علَّمتني وعلِّمني ما ينفعُني وارزقني علماً ينفعُني وزدني علماً
والحمد لله على كل حال وأعوذ بالله من حال أهل النار
سبحانك اللهم وبحمدك أشهدُ أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
كتبه الفقير إلى عفو ربه القدير
أبو خلاد ناصر بن سعيد بن سيف السيف
غفر الله له و لوالديه وجميع المسلمين
16/3/1430هـ
(1) نشكر فضيلة شيخنا الشيخ وليد بن راشد السعيدان حفظه الله تعالى على مراجعة هذه الورقات، فجزاه الله خير الجزاء والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.