×
مجموع الفوائد واقتناص الأوابد : كتاب للعلامة السعدي - رحمه الله - اشتمل على فوائد متنوعة في أصول الشريعة وفروعها، وأحكامها، وآدابها، وفوائدها، وقد كتبها بأسلوب واضح، وبعبارة سهلة ميسرة تقرب المعنى بأيسر سبيل.

 مجموع الفوائد واقتناص الأوابد

لجامعها فضيلة المرحوم شيخنا

عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي

تغمّده الله برحمته ورضوانه بمنّه وكرمه

 تقديم فضيلة الشيخ

عبد الله بن عبد الرحمن البسَّام

دار ابن الجوزي


جميع الحقوق محفوظة

1424هـ  2003م

دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع

 المملكة العربية السعودية الدمام ـ ابن خلدون ـ ت: 8428146 ـ 8467589 ـ 8467593 ص ب: 2982 ـ الرمز البريدي: 31461 ـ فاكس: 8412100 الإحساء ـ الهفوف ـ شارع الجامعة ـ ت: 5883122 جدة: ت: 6516549 ـ 6813706/02 الرياض: ت: 4266339/01


مجموع الفوائد واقتناص الأوابد

لجامعها فضيلة المرحوم شيخنا

عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي

تغمّده الله برحمته ورضوانه بمنّه وكرمه

 تقديم فضيلة الشيخ

عبد الله بن عبد الرحمن البسَّام

دار ابن الجوزي


بسم الله الرحمن الرحيم


كلمـة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد؛ فهذا كتاب «مجموع الفوائد واقتناص الأوابد» دبجته يراع علامة القصيم الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله يطبع لأول مرة.

والكتاب أخي القارىء الكريم قد حوى فوائد نفيسة، وقرر المؤلف فيه مسائل علمية عديدة في موضوعات مختلفة لا تقتصر على باب بعينه؛ بل هي فوائد متنوعة بحسب ما يعرض للمؤلف «من معنى آية أو حديث أو مسألة أصولية أو فائدة فروعية أو نكتة  أدبية»([1]).

وهذا الكتاب الذي نضعه بين يديك أخي القارىء قد منَّ الله عليَّ بفضله وكرمه الحصول على نسخته الأصلية من أبناء المؤلف


رحمه الله بخط أحد تلاميذ المؤلف؛ فنحمد الله تعالى ونشكره على أن يسر ذلك، كما نحمده ونشكره أيضاً على أن يسر لي الاعتناء بضبط نصه وتخريج ما تيسر من أحاديثه، كما وضعت عنواناً لفوائد الكتاب وجعلها بين معكوفتين []، نسأل الله تعالى أن ينفع بالكتاب وأن يغفر لمؤلفه ويجزيه خير الجزاء؛ إنه سميع مجيب([2]).

سعد بن فواز الصميل

الخبر 12/7/1418هـ

* * *


 مقدمـة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد؛ فشيخنا العلاّمة الفهّامة المفسر المحدث الأصولي المتقن المتفنن الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى غني عن التعريف والتنويه؛ فقد تناوله العلماء وتناولوا كتبه واتجاهاته العلمية بالدراسات والبحوث، وصنفوا في حياته ومؤلفاته وبحوثه العلمية والعقدية الرسائل الكبار والبحوث الطوال، وترجم له في صدر غالب ما طبع من مؤلفاته حتى صار علماً بارزاً لا تخفى حياته وأحواله الطيبة على أحد من قراء العربية.

وشيخنا العلاّمة ضرب في كل علم من العلوم الشرعية وفي كل فن من الفنون العربية بسهم صائب وحظ وافر؛ فقد فسر القرآن الكريم وبين أصول التفسير، وقد خصص بعض كتبه لشرح الأحاديث الشريفة وجوامع الكلم الطيب من السنّة المطهرة، وأتى بشرح كل


حديث من جديد معاني الكلم النبوي الشريف، وصنف في التوحيد بأقسامه الثلاثة، ورد على أصحاب المقالات المنحرفة والعقائد الفاسدة ووضح عقيدة أهل السنّة والجماعة وقررها بما لا مزيد عليه من البيان والتوضيح، وثبت معانيها ومنهجها بالحجج القوية والبراهين القاطعة، وتتبع الأحكام الشرعية الفرعية؛ فقرب بعيدها، ويسر عسيرها، وفصل أقسامها، وميز متشابهها، وجمع أطرافها وأنواعها بعبارة واضحة وأسلوب سهل ميسر يستفيد منه كل قارىء، ثم إنه أيد من تلك الأحكام ما يعضده الدليل ويرتضيه التعليل، وبين ضعيف الروايات المخالفة لتلك الأقوال الصحيحة والأدلة القوية.

وهكذا؛ فجميع مؤلفات شيخنا رحمه الله تعالى مستقاة من النصوص الشريفة ومواردها الصافية العذبة.

وقد تأملت (مجموعة الفوائد) هذه؛ فوجدتها كما قال المؤلف رحمه الله: «تشتمل على فوائد متنوعة وأصول وفروع وأخلاق وأعمال ومسائل ودلائل ومقاصد ووسائل مما يصلح للخاصة والعامة وأهل الدين والدنيا والعلماء وغيرهم».

فقد تناول في هذه الفوائد رحمه الله تعالى جملة من أصول الشريعة وفروعها وأحكامها وآدابها وفوائدها، وقد كتبها بأسلوب واضح وبعبارة سهلة ميسرة تقرب المعنى بأيسر سبيل حتى في المسائل المعقدة؛ كالقضاء والقدر؛ فننصح بقراءتها أو سماعها بتأمل وتفهم لما فيها من المعاني الغزيرة والفوائد، العزيزة، كما ننصح بقراءة كتبه كلها؛ قد كتبها بنية صالحة، ورغبة في إيصال العلم إلى أكبر عدد من القراء، لذا جاء عبارته واضحة ومعاني كلامه ميسرة سهلة، وأشتات مسائل العلم في كتبه مجموعة؛ فالمتعلم يحصل في زمن قليل وجهد يسير على ما يكد نفسه فيه في معاناة طويلة ومشاق كبيرة وأزمنة طويلة.

فالمؤلف رحمه الله تعالى هضم المعلومات حتى صارت جزءاً من لحمه ودمه، فصار يتكلم بها ويكتبها كأنه يتنفسها؛ فكانت عباراته وأسلوبه في أداء المعلومات أمراً خاصاً به، ليس فيها أثر للتقليد والمحاكاة والتكثر بالنقل والتضمين، وإنما هي مصوغة مما نضج في ذهنه وفكره وفتقته عبقريته وإبداعه؛ فهذا هو السبب فيما ملكه من المعاني المبتكرة فأخرجه بأسلوب جديد وثوب متشبب.

فنسأل الله تعالى له المغفرة والرضوان والفوز بأعالي الجنان على ما بذله في سبيل دينه وعاناه في نشر عقيدته السلفية النقية، وأن يرحمنا وإياه ووالدينا وأقاربنا ومشايخنا وجميع أخواننا المسلمين. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتبه أحد تلامذته

عبد الله بن عبد الرحمن البسام

رئيس محكمة التمييز بالمنطقة الغربية

وعضو مجلس كبار العلماء

مكة المكرّمة /5/1417هـ


صور المخطوطات


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وسلّم تسليماً كثيراً أبداً.

أما بعد؛ فهذا مجموع يشتمل على فوائد متنوعة من أصول وفروع وأخلاق وأعمال، ومن مسائل ودلائل ومقاصد ووسائل من أي نوع يكون، يصلح للخاصة والعامة وأهل الدين وأهل الدنيا والعلماء والجهال، ولم يكن ما فيه من الفوائد مرتباً؛ لأنه بحسب ما يعرض للإنسان من معنى آية أو حديث أو مسألة أصولية أو فائدة فروعية أو نكتة أدبية([3]) أو تنبيه لمجمل أو جمع لمفصل أو حديث ديني أو حديث دنيوي جعلت عنوانه فائدة أو فوائد أو تنبيه أو نحوه من الإشارة، قد تقل الفائدة وقد تطول.


 (1) فائـدة أصوليـة

إذا قيل لك: أخبرني عما تعتقده في باب التوحيد وتوابعه والرسالة والإيمان باليوم الآخر.

فقل: أعتقد اعتقاداً جازماً لا تردد فيه بأن الله ربي الذي خلقني، ورزقني، ودبرني، وأنعم عليَّ بالنعم الظاهرة والباطنة.

وأنه إلـهي الذي لا إله إلا هو ولا معبود سواه؛ فهو الذي أقصده في عباداتي، وأخلص له أقوالي وأفعالي، {{قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ *}} [الأنعام: 162ـ 163]، إليه أرغب في رغباتي وأقصد في جميع حاجاتي، لا أدعو غيره ولا أستعين بسواه؛ فهو ملجئي ومفزعي، وإليه رجوعي وانتهائي كما منه ابتدائي، عليه توكلت وإليه أنيب.

وأشهد أنه الله {{اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ}} إلى قوله: {{الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}} [البقرة: 255] ، وأنه {{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ}} [الحشر: 23] إلى آخر السورة، وأنه على كل شيء قدير، وبكل شيء محيط، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، وهو الرحيم الغفور، وأنه الأول الآخر، والظاهر والباطن، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد.

وأنه الظاهر العليُّ الأعلى فوق عباده بجميع معاني الفوقية والعلو، علو الذات وعلو القهر وعلو القدر، وأنه الغني الحي القيوم الذي قام بنفسه وقام بجميع الموجودات خلقاً وحفظاً وتدبيراً، وأنه الحميد الحكيم في كل شيء، في جميع مخلوقاته، وفي جميع مشروعاته؛ فما خلق شيئاً عبثاً، ولا حكم إلا بأحسن الأحكام، وأنّه العظيم الذي له جميع معاني العظمة، عظمته في ذاته وأوصافه وأفعاله، وعظمته في قلوب أنبيائه وأصفيائه ومخلوقاته؛ فله الكبرياء والعظمة والمجد والجلال، كما أن له الرحمة والبر والكرم والجمال وجميع أوصاف الكمال.

ونشهد أنه الجواد المطلق بجميع أنواع الجود والكرم، رحمته وسعت كل شيء، ولم يخل مخلوق منها مهما كان، وفي كل حال من أحواله، ولكنه خصَّ أولياءه والمؤمنين به بالرحمة المطلقة التي أسعدتهم في دينهم ودنياهم وأخراهم، وبها غفر زلاتهم، وستر عوراتهم، وأمّن روعاتهم، وقَبِلَ عباداتهم ودعاءهم، وبها لطف بهم، ويسرهم لليسرى، وجنَّبهم العسرى.

وأنه لا أصدق من الله قيلاً وحديثاً، ولا أنفع للعبد من طاعته؛ فالسعادة كلُّها في طاعته، والشقاء في معصيته.

ونشهد أنه التواب للتائبين، الذي لا يتعاظمه ذنب أن يغفره، {{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ

اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ *}} [الزمر: 53] .

ونشهد أنه الحقُّ، وقوله حقٌّ، وفعله وحكمه حقٌّ، ووعده ووعيده حقٌّ، وأن ما يدعون من دونه الباطل، وأنه هو العليُّ الكبير، وأنه الملك المالك، وما سواه مملوك، له الأسماء الحسنى والصفات الكاملة العظيمة العليا، والأفعال الجميلة الرشيدة، وأنه على صراط مستقيم في تدبيره وخلقه وعطائه ومنعه.

ونشهد أن جميعَ أعمالِ الخلقِ وأقوالهم وصفاتهم وأعيانهم قد أحاط اللّهُ بها علماً، وجرى بها قلمُه، ونفذ فيها قدرُه ومشيئتُه، وأن حجته قامت على الخلق بما أعطاهم من القدرة والمشيئة والاختيار لأفعالهم، وأنه لم يجبرهم عليها، بل هم الفاعلون لها باختيارهم، مع أنها داخلةٌ في قدره.

ونشهد بجميع ما أنزله من كتاب وأرسله من رسول، منهم من قَصَّ علينا، نؤمن به على وجه التعيين والتفصيل لشخصه ولأوصافه التي وُصِفوا بها في الكتاب والسنّة، ومنهم [من] لم يقصصهم علينا، نؤمن بهم على وجه الإجمال، وأنهم أنبياؤه وأمناؤه على وحيه، وأنهم صادقون مصدقون.

ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله رحمة للعالمين، ونعمة عظيمة على المؤمنين، وجمع فيه من الأوصاف الجليلة


والأخلاق الجميلة والأعمال الصالحة ما كان لجميع الرسل، وأنه أكمل الخلق في كل معنى وصفة حميدة. وأشهد أن ما جاء به من القرآن والحكمة حق وصدق، لا ريب فيه بوجه من الوجوه، وأنه خاتم الرسل وإمام الخلق، وأن شريعتَه أكملُ الشرائعِ لا يستغني العباد عنها في أمور دينهم ودنياهم، وأنه بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة وهداهم إلى كل خير وهدى، وحذرهم من كلِّ شرٍّ وردى.

وأشهد أن ما أخبر الله به ورسوله من أمور الجزاء والثواب والعقاب والحساب من أمور البرزخ والقيامة والجنة والنار وصفات ذلك كله حق وصدق لا ريب فيه، وأقول على وجه العموم والشمول: صدق الله وصدقت رسله في جميع ما أخبر به وأخبرت به الرسل، كله حق على حقيقته، وتمَّت كلمات ربك صدقاً في الأخبار وعدلاً في الأحكام القدرية والدينية وأمور الجزاء.

 فائدة (2) [صلاح القلب]

صلاح القلب بكمال الإنابة إلى الله وقوة التوكل عليه، وتمام الإخلاص له، ومحبة الخير لكافة الخلق، وفساده ونقصه بضدِّ ذلك، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»(1) ، وحقيقة ذلك أن يحبب الله للعبد الإيمان ويزينه في قلبه، ويكرِّه إليه الكفر والفسوق والعصيان، ويجعله من الراشدين؛ فهذا صلاح الباطن والظاهر، وضده بضده.

 فائدة (3) [الدين والإيمان]

الدين والإيمان يشمل القيام بأصول الإيمان الستة، وشرائع الإسلام الخمس، وحقائق الإحسان التي هي أعمال القلوب التي أصلها الإحسان: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه؛ فإنه يراك»، كما هو مذكور في حديث جبريل المشهور(1).

ويترتب على هذا أن المؤمنين ثلاثة أقسام:

ـ سابقون بالخيرات، وهم الذين حققوا هذه الأمور ظاهراً وباطناً [و] قاموا بواجبها ومستحبها.

ـ ومقتصدون، وهم الذين اقتصروا على فعل الواجبات وترك المحرمات.

ـ وظالمون لأنفسهم، وهم الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً.

ويترتب على هذا أن الإيمان يزيد بزيادة هذه الأمور كثرة وجودة، وينقص بنقص شيء منها، ويترتب على هذا أيضاً أن العبد يكون فيه خير وشر وأسباب ثواب وأسباب عقاب بل وخصال كفر ونفاق وخصال إيمان.

ويتفرع على هذا أنه يستحق من المدح والذم ومن الثواب والعقاب بمقدار ما قام به من هذه الأمور المقتضية لآثارها من ثواب وعقاب ومدح وقدح، وهذا مقتضى حكمة الله وعدله وفضله.

 فائدة (4) [الإخلاص لله والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم]

العبادات كلها؛ سواء كانت باطنة كمحبة الله وخوفه ورجائه والتوكل عليه ومحبة ما يحبه الله من الأعمال والأشخاص وتعظيم ما عظمه، أو كانت ظاهرة؛ كالقيام بالشرائع الظاهرة من الصلاة والزكاة والصوم والحج، وسواء تعلقت بحقوق الله المحضة أو تعلقت بحقوق الخلق؛ كبرِّ الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الجيران والأصحاب ونحوهم، وسواء كانت بدنية أو مالية أو مركّبة منهما؛ كل ذلك لا بد فيه من الإخلاص لله والمتابعة لرسول الله؛ فمن جمع الله له الأصلين أفلح وسعد، ومن فاته الأمران أو أحدهما خسر خسراناً مبيناً، ومن كان تارة وتارة استحق من الخير والثواب والمدح بقدر إخلاصه ومتابعته قلة وكثرة وقوة وضعفاً؛ فلا أنفع للعبد من جعل الإخلاص والمتابعة نصب عينيه في كل ما يأتي وما يذر وفي كل ما يقول ويفعل؛ حتى يكون الإخلاص له نعتاً والمتابعة له وصفاً، وتضمحل عن قلبه جميع المقاصد والأغراض المنافية للإخلاص، ويدع البدع الاعتقادية والبدع الفعلية إيثاراً للمتابعة، فإن من صدق الرسول في كل ما يقول؛ فقد برىء من بدع العقائد، ومن اقتصر على ما أمر به الرسول من العبادات، ولم يحرم ما أحل الله من الطيبات؛ فقد سلم من بدع الأعمال.

 (5) فائدة في عَدِّ شعب الإيمان الباطنة والظاهرة

[وهي] الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام، وأن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه؛ فإنه يراك، [و] حب الله ورسوله، وتعظيم الله ورسوله، وخوف الله ورجاؤه، والإنابة إليه، والتوكل عليه، والصبر على طاعته وعن معصيته وعلى أقداره المؤلمة، والرضى عن الله والشكر لله بالقلب اعترافاً، وباللسان ذكراً وثناءً وتحدثاً، وبالجوارح عملاً بطاعة الله، [و] العلم واليقين، [و] الطمأنينة بالله وبذكره، والحياء من الله ومن خلقه، وذكر الله، والثناء عليه، وتلاوة كتابه، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والنصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، والسعي في حوائج الناس، ودفع الأذى عن مساجدهم ومجالسهم وطرقهم، وجميع ما يتصل بهم، وحسن الخلق، وإطعام الطعام، وإفشاء السلام، والثقة بوعد الله، والسكون إلى ما بيده،


والتعلق بالله في كل شيء، وأن لا يسأل إلا الله، ولا يستعيذ ويستعين إلا بالله، وتنقية القلب من الشك والشرك والشقاق والنفاق والرياء والسمعة والغل والحقد والحسد وغيرها من الصفات القبيحة، والاتصاف بأضدادها، ومحبة أولياء الله وبغض أعدائه، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، والتحقق بما دل عليه قوله: {{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ *}} إلى قوله: {{الْوَارِثُونَ}} [المؤمنون: 1 ـ 10] ، وبما دل عليه قوله: {{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ}} إلى قوله: {{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}} [الأحزاب: 35] ، وبما دل عليه قوله: {{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ *وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ *}} [الأعراف: 199 ـ 200] ، وبقوله: {{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}} [فصلت: 34] ، وبقوله: {{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقُوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ *}} [النحل: 128] .

 (6) فوائد في ضوابط من آيات القرآن

جمع الله في هذه الآية على اختصارها توحيد الربوبية وتوحيد العبادة وتوحيد الأسماء والصفات، وهي قوله:


{{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا *}} [مريم: 65] .

وقوله: {{هُوَ الْحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ}} [غافر: 65] الآية.

وفي هذه الآية الجزاء على كل خير وكل شر، {{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ *}} [الزلزلة: 7 ـ 8] ، وتتضمن الترغيب في الخير، والتحذير من ضده.

وفي هذه الآية بين الأمر بكل أصول الخير والنهي عن أصول الشر.

{{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *}} [النحل: 90] .

وجمع في هذه الآية بين أصول الطب، {{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}}.

وجمع في هذه الآية بين الأمر بكل خلق جميل، {{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ *}} [الأعراف: 199] .

وجمع في هذه الآية بين الإخلاص لله والمتابعة للرسول والصدق وتدارك التقصير والتوحيد ولزوم الصراط المستقيم والبشارة بحصول المحبوبات والسلامة من المكروهات، وهي قوله: {{إِنَّ


الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ *}} [فصلت: 30] .

وجمع في هذه الآية بين الحقوق الثلاثة: حق الله الخاص، وحق رسوله الخاص، والحق المشترك، وهي قوله: {{لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً *}} [الفتح: 9] .

وذكر في هذه الآية أوقات الصلاة الخمسة: {{أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا *}} [الإسراء: 78] .

وجمع الله أصول الحكمة في قوله تعالى: {{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} ...} إلى قوله: {{ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ}} [الإسراء: 23 ـ 39] الآية، وفي قوله: {...{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}} [النساء: 36] الآية.

وجمع أوصاف الكمل على وجه التفصيل في قوله: {{وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً}} [الفرقان: 63 ـ 77] إلى آخر السورة.

وجمع الله أصول التوحيد، وهي إثبات جميع المحامد


والكمالات لله وتنزيهه عما ينقصها أو يضادها بوجه من الوجوه في سورة: {{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *}}.

وجمع الله الاستعاذة من أصول الشر وأنواعها وأوقاتها وأحوالها في سورتي: {{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ *}{{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ *}} إلى آخرهنَّ.

وجمع الله بين صفات المفلحين الرابحين وبين صفات الخاسرين في سورة: {{وَالْعَصْرِ *إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ *إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ *}}.

وجمع الله بين كمال القرآن لفظاً ومعنًى ومناسبةً وحكمةً في قوله: {{وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا *}} [الفرقان: 33] .

وذكر الله أصول العلم الصحيح، وهي الدلائل والمسائل في قوله تعالى: {{وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}} [الأحزاب: 4] .

وذكر الله الزاد الحسي والمعنوي واللباس الحسي والمعنوي في قوله تعالى: {{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}} [البقرة: 197] ، {{يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ}} [الأعراف: 26] .


وبين الله أصناف الرحمة وأصولها وفروعها في سورة الرحمن إلى آخرها؛ فكلها تفاصيل لمضمون قوله: {{الرَّحْمَانِ}} وأصناف رحمته.

وحثّنا الله على ما يعين على جميع الأمور في قوله: {{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ}} [البقرة: 45] ، وعلى ما يدفع شرور الشياطين في قوله: {{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ *}} [النحل: 99] .

وذكر الله الأسباب التي تحصل فيها الهداية، وهي الاجتهاد مع حسن القصد في قوله: {{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ *}} [العنكبوت: 69] ، وفي قوله: {{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ}} [المائدة: 16] .

والأسباب التي تسد على العبد الهداية وتوجب له الضلال والغواية في قوله: {{فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}} [الأعراف: 30] ، وفي قوله: {{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا *}} [النساء: 115] .


وقد جمع الله أصول الإيمان والإسلام في قوله تعالى: {{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيْسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ *}} [البقرة: 136] .

وقد جمع الله أصول الشرائع الواجبة في كل شريعة والمحرمات في كل شريعة في قوله تعالى: {{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}} [الأعراف: 29] الآية، وفي قوله: {{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ *}}  [الأعراف: 33] .

وجمع الله بين العبادة والاستعانة في قوله: {{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ *}} [الفاتحة: 5] ، {{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}} [هود: 123] .

ولها نظائر في القرآن. وفي السنّة قوله صلى الله عليه وسلم: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله»([4]).


ذكر الله أن أحكامه في غاية الحسن والإحكام، وكذلك مخلوقاته في قوله: {{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}} [المائدة: 50] ، وفي قوله: {{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ}} [السجدة: 7] ، {{صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ}} [النمل: 88] .

وجمع الله بين إثبات عموم القضاء والقدر وشموله لأفعال المكلفين كما شمل ذواتهم وصفاتهم، وبين إثبات مشيئة العبد، وأنه مختار في أفعاله كلها غير مجبور في قوله: {{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ *وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ *}} [التكوير: 28 ـ 29] ، وفيها رد على طائفتي الجبرية والقدرية.

وذكر الله نفي التمثيل وأنه ليس له مثيل في جميع صفاته وإثبات صفاته في قوله: {{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}} [الشورى: 11] ، وفيها رد على طائفتي التشبيه والتعطيل.

وجمع الله بين تميز الرسول عن البشر بالرسالة والوحي


المتضمنين كمال أوصافه صلى الله عليه وسلم، وبين مشاركته للبشر في الصفات البشرية في قوله تعالى: {{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}} [الكهف: 110] ؛ ففيها رد على الغالين بالرسول، الذين جعلوا له من أوصاف الله أو من حقوقه ما ليس له، وبين الجافين في حقه بالتكذيب أو التنقيص.

وجمع الله بين الاستدلال بالآيات الأفقية والنفسية على أنه حق ورسوله حق ووعده ووعيده حق في قوله: {{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}} [فصلت: 53] .

وبين الاستدلال بالمخلوقات المذكورة على توحيد الخالق وصدق رسله، والاستدلال بصفات الخالق على ما يفعله ويشرعه ويحكم، ولهذا قال: {{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ *أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ *}} [فصلت: 53 ـ 54] .

ذكر الله أن جميع الكفار الذين دخلوا النار قد خالفوا العقل كما خالفوا السمع، وأنهم سيعترفون بذلك في قوله: {{كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا}} إلى قوله: {{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ *}{فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ}} [الملك: 8 ـ 11] .

ويُستدَلُّ على يسر الشريعة بقوله تعالى: {{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ}} [البقرة: 286] {{إِلاَّ مَا آتَاهَا}} [الطلاق: 7] ، {{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}} [البقرة: 185] ، {{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}} [الحج: 78] .

فهي في ذاتها في غاية اليسر والسهولة، ومتى عرض[(12)] للعبد في بعض الشرائع عجز أو نحوه حصل له من التخفيف ما يناسبه فإن المشقة تجلب التيسير.

 فائدة (7) [فـي الميـاه]

عموم قوله تعالى وقوله صلى الله عليه وسلم يدل على أن جميع المياه يتطهر بها، سواء بقيت على أصل خلقتها أو تغيرت بمقرها أو ممرها أو بشيء طاهر آخر، وأنها لا تخرج عن هذا الوصف إلا إذا تغير أحد أوصاف الماء بالنجاسة؛ فحينئذٍ يكون نجساً، بدلالة الكتاب والسنّة والإجماع وكذلك عموم قوله تعالى: {{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}} [المائدة: 6] . يدل على أنه لا يعدل إلى التيمم حتى يعدم مُسمّى الماء على أي وصف يكون إلا ما تغير بالنجاسة.


 فائدة أخرى (8) [في أن التيمم يقوم مقام الماء في أحواله]

إخبار الله ورسوله أن التيمم عند عدم الماء أو التضرر باستعماله يكون طهوراً دليل واضح على أنّه يقوم مقام الماء في كل أحواله وأنه يستباح به ما يستباح بطهارة الماء وأنّه لا يشترط فيه إلا تعذر استعمال الماء إما للعدم أو للتضرر بالاستعمال وبهذا الأصل البسيط تتضح لك جميع مسائل التيمم، وفي كثير من مسائله خلاف معروف ليس لمن خالف هذا الأصل دليل صحيح، والله أعلم.

 فائدة أخرى (9) [في الحيض وأن أحكامه تتعلق بوجود الدم وتنتفي بفقده]

إخبار الله ورسوله عن الحيض، والحكم عليه بالأحكام الكثيرة المذكورة في الكتاب والسنّة، وعدم تحديده بزمن أو سن أو قلة أو كثرة يدل دلالة بينة على أن هذه الأحكام تتعلق بوجود الدم وتنتفي بفقده، إلا أن يعلم أنه خلاف العادة، وأنه استحاضة فحينئذٍ يشتبه الدم الذي هو حيض بدم الاستحاضة، فينظر إلى القرائن المميزة وهي: الرجوع إلى العادة الخاصة للأنثى، ثم إلى التمييز لصفات الدم، ثم إلى العادة العامة، وبهذا تستريح من التعب والمشقة في الفهم وفي العمل عن التفاصيل التي ذكرها الأصحاب رحمهم الله.

 فائدة (10) [الأصل في الأشياء الطهارة والإباحة]

في قوله تعالى: {{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطِّيِّبَاتِ}} [الأعراف: 157] ، {{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا}} [البقرة: 29] ، {{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ}} [الأنعام: 119] .

يدل على أن الأصل في الأشياء الطهارة والإباحة من مآكل ومشارب وملابس وأوانٍ وغير ذلك فلا يحرم شيء من ذلك إلا إذا دلَّ الدليل الشرعي على حرمته.

 فائدة (11) [في إزالة النجاسة]

إزالة النبي صلّى الله عليه وسلّم النجاسة والإرشاد إلى إزالتها: تارة بالماء، وتارة بالأحجار، وتارة بالتراب، وتارة بزوال أوصافها، يدل على أن النجاسة لا يشترط لها عدد، إلا نجاسة الكلب، وأنها تزال بكل شيء يزيلها، وأيضاً فإن النجاسة حسية لا معنوية، فمتى كانت موجودة فحكم النجاسة باقٍ معها ومتى زالت لم يبقَ لها حكم. والله أعلم.

 فائدة (12) [النية في إزالة النجاسة]

لا بد في النية من أمرين: نية العمل وتمييز مراتبه. ونية المعمول له، وهو الإخلاص لله. والله أعلم.

وأما النية في إزالة النجاسة، ففائدة ذلك حصول الأجر بالتقرب إلى الله بإزالتها، وإلا فهي تزول بلا نية.

 فائدة (13) [الواجبات على الصغير والمجنون]

الصغير والمجنون لا يجب عليهما صلاة ولا صيام ولا حج؛ لعدم التكليف، وإنما تجب في مالهما الزكاة؛ لتعلقها بالمال في قول جمهور العلماء، كما تجب عليهما النفقات لأنفسهما ولمن عليهما نفقته؛ من زوجة، ومملوك، ونحوه.

 فائدة (14) [العلم بالشيء غير وجوده]

العلم بالشيء غير وجوده والاتصاف به؛ فكم من إنسان يعلم ويعرف المحبة وأحكامها وجميع لوازمها، ولكن قلبه خالٍ منها؟! وكم من عبد يعرف ويعترف بقضاء الله وقدره وحسن كفايته، ولكن إذا وقع المقدور بخلاف ما يحب رأيته مضطرباً لا طمأنينة عنده ولا ثقة ولا سكون؟! وإلا فمن وصلت إلى قلبه معرفة الله حقيقة اطمأن إلى كفاية الله، واستسلم لحكمه حيثما تنقلت به الأحوال، وكم من إنسان يعرف أحكام التجارة وتفاصيلها، ولكنه وقت العمل ومباشرة البيع والشراء لا يحسن ما يحسنه غيره؟!

وهكذا كثير من الأمور على هذا النسق؛ فلا تغتر إذا عرفت الشيء بأنك متصف به، ولهذا شرع للعبد أن يسأل الله علماً نافعاً، وهو العلم المثمر للعمل. والله أعلم.

 فائدة (15) [الحـازم]

الحازم هو الذي ينازع ويدافع الأقدار المؤلمة بما يدفعها قبل نزولها، أو يرفعها بعد نزولها، أو يخففها بالطرق المباحة أو المأمور بها، فإن أعياه ذلك استسلم للقدر، ورضي بقضاء الله، وسلم لأمره، ولهذا قال عمر رضي الله عنه([5]): «نَفِرُّ من قدر الله إلى قدر الله»[(13)]، كذلك يفر العبد مما يكرهه الله باطناً وظاهراً إلى ما يحبه الله ظاهراً وباطناً؛ {{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ *}} [الذاريات: 50] ، ويفر من أسباب الهلاك والعطب والضرر إلى أسباب النجاة والسلامة وحصول النفع، ولكن الشأن في معرفة الأسباب النافعة والضارة، ثم في سلوك خير الأمرين ومدافعة أشد الضررين. والله الموفق وحده.


 فائدة (16) [الدعاء لمن أخبر عنه الله ورسوله باستحقاق الجنة والنجاة من النار]

إخبار الله ورسوله باستحقاق من يستحق الجنة وينجو من النار أو بالمنازل العالية لا ينافي أنه مطلوب منا أن ندعو له بحصول ذلك، كما ندعو لنبينا صلّى الله عليه وسلّم بالوسيلة والفضيلة والمقام المحمود ونحوها، مع العلم أنه لا بد أن ينال ذلك، ومثل الدعاء لأطفال المؤمنين بالمغفرة والنجاة من النار، مع العلم أن الله سيفعل ذلك، وكالدعاء بالرحمة والرضوان والجنة لمن علمنا أنه مشهود لهم بالجنة، بل والصلاة والسلام على جميع الرسل صلوات الله وسلامه عليهم. كل ذلك لا ينافي الدعاء؛ فإن الله أوجب ذلك وقدره بأسباب متعددة، من جملتها الدعاء بذلك؛ فتتم النعمة في حق الداعي والمدعو له، وليعلم عظم ذلك المقام وعلو شأنه حيث كان لا ينال إلا بأسباب متعددة من العامل ومن غيره.

 فائدة (17) [التثبت في سماع الأخبار]

التثبت في سماع الأخبار وتمحيصها ونقلها وإذاعتها والبناء عليها أصل كبير نافع أمر الله به ورسوله، قال تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ *}} [الحجرات: 6] ؛ فأمر بالتثبت، وأخبر بالأضرار المترتبة


على عدم التثبت، وأن من تثبت لم يندم، وأشار إلى الميزان في ذلك في قوله: {{أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ}}، وأنه العلم والتحقق في الإصابة أو عدمه، فن تحقق وعلم كيف يسمع، وكيف ينقل، وكيف يعمل، فهو الحازم المصيب، ومن كان بضد ذلك فو الأحمق الطائش الذي مآله الندامة، وأحوج الناس إلى هذا الأمر الولاة على اختلاف مراتبهم وطبقاتهم، وأهل العلم على تفاوت درجاتهم، وذلك يحتاج إلى اجتهاد وتمرين للنفس وتوطين لها على ملازمة التثبت مع الاستعانة بالله. والله الموفق المعين.

 فائدة (18) [أحكـام الظـن]

قوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}} [الحجرات: 12] : نهى تعالى عن كثير من الظن، وأخبر أن بعضه إثم؛ فيدل على أن بعضه غير إثم وغير منهي عنه، وهذا تحويل على ما بينه الله ورسوله، وأمر بتطبيق الظنون على الأصول الشرعية، فالظن المستند على القرائن والأحوال قد يجب، وقد يسن، وقد يباح، وقد يعذر فيه العبد، والظن الذي لا يستند على شيء من ذلك لا يغني من الحق شيئاً، والظن بمسلم ظاهره العدل من باب ظن الإثم.

وظن السوء بأهل الريب والمتظاهرين بالشر والاحتياط في  أمرهم مأمور به، والتحرز من الأضرار التي يخشى من وقوعها يعد


من الحزم والحذر. والله أعلم.

 فائدة (19) [معنى قول السلف بلا كيف]

قال ابن القيم قدس الله روحه في «مدارج السالكين»([6]): «معنى قول السلف بلا كيف؛ أي: بلا كيف يعقله البشر، فإن من لا يعلم حقيقة ذاته وماهيته كيف يعرف كيفية نعوته وصفاته ولا يقدح ذلك في الإيمان بها ومعرفة معانيها؟! فالكيفية وراء ذلك، كما أننا نعرف معاني ما أخبر الله به من حقائق ما في اليوم الآخر، ولا نعرف حقيقة كيفيته مع قرب ما بين المخلوق والمخلوق، فَعجْزُنا عن معرفة كيفية الخالق، وصفاته أعظم وأعظم. فكيف يطمع العقل المخلوق المحصور المحدود في معرفة كيفية من له الكمال كله والجمال كله والعلم كله والقدرة كلها والعظمة كلها والكبرياء كلها. مَنْ لو كشف الحجاب عن وجهه لأحرقت سبحاته السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما وما وراء ذلك([7])، الذي يقبض سماواته بيده، فتغيب كما تغيب الخردلة في كف أحدنا، الذي


نسبة علوم الخلائق كلها إلى علمه أقل من نسبة نقرة عصفور من بحار العالَم. الذي لو أن البحر يمده من بعده سبعة أبحر مداد وأشجار الأرض من حين خُلقت إلى قيام الساعة أقلام؛ فني المداد وفنيت الأقلام ولم تنفد كلماته الذي لو أن الخلق من أول الدنيا إلى آخرها إنسهم وجنهم وناطقهم وأعجمهم جعلوا صفاً واحداً ما أحاطوا به سبحانه الذي يضع السماوات على إصبع من أصابعه والأرض على إصبع [والجبال على إصبع]([8]) والأشجار على إصبع، ثم يهزهنَّ، ثم يقول: أنا الملك([9])؟!

فقاتل الله الجهمية والمعطلة؛ أين التشبيه هـهنا وأين التمثيل؟!

لقد اضمحل هـهنا كل موجود سواه، فضلاً عن أن يكون له ما يماثله في ذلك الكمال ويشابهه فيه». انتهى.

 فائدة (20) [لا بد للقلب من نظر وتفكير وعلم وإرادة وقصد]

لا بد للقلب من نظر وتفكير وعلم وإرادة وقصد؛ فاجتهد أن تكون هذه الأمور في أوجب الأشياء وأفضلها وأنفعها لتفوز بالسعادتين، اجتهد أن يكون تفكيرك في العلوم النافعة والآراء


الصائبة، وأن توجه وجهة نظرك إلى مصدر الهدى والرحمة وينبوع العلوم والمعارف، وهو كتاب الله وسنة رسوله، وكذلك في أمور الكون؛ كالسماوات والأرض وما فيهما من الموجودات الدالة بحسن الاستدلال على ما له من صفات الكمال، وتفرده بالعظمة والكبرياء والجلال والجمال، وكذلك تفكر في نعم الله عليك وعلى غيرك لتشاهد من ذلك ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؛ فتعرفها وتعترف بها وتتحدث بها جملة وتفصيلاً وتستعين بها على طاعة المنعم، وكذلك تفكر فيما عليك من الحقوق الواجبة والمستحبة، وما عليك أن تتجنبه من المنهيات، وهل أنت قائم فيها، ممتثل للأمر مجتنب للنهي؟ وما الطريق إلى الوصول إلى ما لم تصل إليه، والقيام بما لم تقم به، ودفع ما يجب دفعه؟ ولتكن إرادتك وقصدك متعلقاً بما يحبه الله منك، قاصداً بذلك رضاه وثوابه، وليكن هذا القصد ملازماً في عباداتك وعاداتك وفي كل أحوالك.

وإياك أن تكون أفكارك دائرة حول الشَّهوات الضارة، والمرادات التي لا حاصل لك منها، ولا منفعة لك منها، لا عاجلاً ولا آجلاً، بل هي عذاب معجل قبل عذاب الآخرة. وإنما الواجب على كل مكلف أن يعرف الله ويتعرف أوصافه وحقوقه، ويقوم بحقوق الله وحقوق خلقه، راجياً من الله أن يكملها وأن يتقبلها، وخائفاً من تقصيره أن ترد عليه، وأن يكون في كل وقت تائباً مستغفراً، وأن يقوم بالأسباب الدنيوية لقصد القيام بالواجبات عليه، وقصد الاستعانة بها على طاعة الله، ويكون مع قيامه به راجياً من ربه التوفق في تيسيرها وحصول بركتها.

 فائدة لطيفة (21) [ما ينبغي سلوكه في مسائل الخلاف]

ينبغي للمفتي والعامل في مسائل الخلاف أن يتحرز غاية التحرز في الخروج من الخلاف، وأن يسلك طريق الاحتياط في فتواه وعمله، إلا إذا كان الخلاف ضعيفاً جدًّا لا ينظر إليه، ولا له حظٌّ من النظر، هذا في ابتداء الأمر وفي الأمر الذي يمكن تلافيه، فأما إذا مضى الأمر وحصل العمل بقول مفتٍ والمسألة خلافية والخلاف فيها قوي له حظٌّ من النظر والدليل؛ فينبغي عدم الحكم بنقضه وإبطاله لأن الأمور لها أحوال وقت الابتداء، وإمكان التدارك وأحوال إذا تعذر ذلك. والله أعلم.

 فائدة (22) [بركة الطاعات وشؤم المعاصي]

اعلم أن بعض الطاعات من بركتها يترتب عليها طاعات أخر، وكذلك من شؤم المعاصي أن بعضها قد يترتب عليه مفاسد غير مفسدة المعصية بخصوصها.

مثال الأول: الصدقة أو الهدية على القريب، أو من بينك وبينه شحناء، تكون صدقة وصلة، وقالعة للشحناء، وكذلك الطاعة التي تسبب فيها لمشاركة غيرك فيها أو للاقتداء أو لغير ذلك من


المصالح.

ومثال الثاني: الزنا من أفظع المحرمات، وكونه بحليلة الجار أو بذي الرحم أو بمن تعظم حرمته يكون أشنع وأشنع، والقتل من أكبر الكبائر، وقتل الولد خشية أن يطعم معك فيه مفسدة الإساءة إلى من جبلت النفوس على محبته والدفع عنه بكل ممكن، وفيه سوء الظن برب العالمين.

ومن تأمل كثيراً من الطاعات والمعاصي رآها مشتملة على ما ذكرنا، فيتأكد فعل الطاعة المذكورة والحذر والتحذير من المعاصي التي فيها شرٌّ متكرر. والله أعلم.

 فائدة (23) [معنـى التوكـل]

سأل سائل: كيف صورة التوكل وتوضيحه؛ فإني لا أكاد أتصور معناه فضلاً عن كوني متصفاً به؟

فأجيب: معلوم أن الحاجة والضرورة هي التي تدعو إلى التوكل، وأنت محتاج لإصلاح دينك في القيام بالواجبات وترك المنهيات، وإلى إصلاح دنياك في تحصيل الكفاية في المعاش، فإذا علمت أن الله بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير، وأنه المتفرد بالعطاء والمنع وجلب المنافع ودفع المضار، وهو مع ذلك كامل الحكمة واسع الرحمة أرحم بك من نفسك ومن كل أحد، ومع


ذلك أيضاً؛ فقد أمرك بالتوكل عليه، ووعدك بالكفاية؛ فمتى تحققت ذلك تحققاً قلبيًّا يقينيًّا؛ فقم بجد واجتهاد في امتثال الأمر واجتناب النهي بحسب مقدورك، وأنت في ذلك معتمدٌ غاية الاعتماد بقلبك على الله في حصول ما سعيت فيه وتكميله، وواثق به وطامع في فضله في تيسيره لك ما سعيت فيه، ومتبرىء من حولك وقوتك، عالم أنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وأنك وجميع الخلق أضعف وأعجز من أن تقوموا بأمر من الأمور بغير معونة الله وتيسيره؛ فمتى دمت على هذا العمل والاعتماد والتفويض وحسن الظن؛ فقد حققت مقام التوكل، وكذلك فاصنع في أمور معاشك، اعمل كل ما يناسبك من الأسباب النافعة متوكلاً على الله، راجياً لفضله، مطمئناً لكفايته، معتمداً عليه غاية الاعتماد، راضياً بما قدره ودبره لك من مُسرٍّ ومحزن، والتوكل على هذا الوجه نصف الإيمان، والله تعالى قد ضمن الكفاية للمتوكلين، ومما يقوي التوكل الدعاء بقلب حاضرٍ ورجاء قوي. والله أعلم.

 فائدة (24) [في تفسير بعض اصطلاحات الفقهاء]

للفقهاء رحمهم الله عدة اصطلاحات في بعض الأشياء:

إطلاقهم لفظ «الأجنبي» يفسر في كل باب ومقام بما يناسبه، وهي كثيرة جدًّا، معروفة لمن تتبع كتب الفقه. ومنها «العيوب» في باب الأضاحي والهدايا ونحوها لها إطلاق، وفي باب البيع والمعاملات لها إطلاق وتفسير آخر، وفي باب عيوب النكاح لها تفسير، وفي باب عيوب العبد المعتق في الكفارات لها تفسير.

«النصاب» : يختلف نصاب زكاة الأموال الزكوية له تفسير، ونصاب زكاة الفطر له تفسير، ونصاب من تجب عليه الكفارات المالية له تفسير، وكذلك الحج.

و «الرشد» في باب الْحَجْرِ له تفسير، وفي باب النكاح له تفسير.

 فائدة (25) [طريقة الفقهاء في التأليف]

طريقة الفقهاء رحمهم الله يذكرون كتاب([10]) الصلاة وكتاب الزكاة، ويذكرون فيه الأحكام الكلية التي يشترك فيها جميع أنواع تلك العبادة، ثم بعد هذا يذكرون التفاصيل الخاصة لكل نوع منها، ومثله: الصيام والبيع، تذكر شروط الصحة، ثم بعد ذلك يفصلون الأنواع والأفراد مستصحبين فيها ما قدموه من الأحكام الكلية، وهذه طريق من التعليم حسنة؛ فلتكن الأحكام الكلية منك على بالٍ إذا شرعت في الأبواب التفصيلية.

 فائدة (26) [حكم الرضى بقضاء الله وقدره]

سئلت عن حكم الرضى بقضاء الله وقدره؛ فأجبت بأن ذلك نوعان:

أحدهما: فعل الرب وتقديره وحكمه.

الثاني: فعل العبد.

ويختلف الحكم فيها، أما فعل الرب تعالى؛ فهو أنواع:

أحدها: قضاؤه الديني، وحكمه الشرعي؛ فهذا الرضى به واجب، من أفرض الفروض، بل لا يتم الإيمان إلا به، قال تعالى: {{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}} [الأحزاب: 36] ، {{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}} [النساء: 65] إلى آخر الآية؛ فيجب على كل مؤمن أن يرضى بأحكام الله الشرعية ويتلقاها بالقبول والسمع والطاعة، ولهذا قال المؤمنون ملتزمين لها: سمعنا وأطعنا.

الثاني: قضاؤه على عبده فيما يحب العبد من صحة بدنه وسعة رزقه وحصول منافعه واندفاع مضاره، فهذا لا بد له فيه من الرضى طبعاً لأنه من مطالب النفوس، ولكن يجب في هذا النوع الشكر لله والثناء عليه بما أولى، والحذر من الأشر والبطر والطغيان.

الثالث: قضاؤه على عبده المكاره والمصائب؛ فبعض العلماء يرى وجوب الرضى بها، وأكثر العلماء ـ وهو الصحيح ـ أن الرضى مستحب.


والرضى فيها غير الصبر؛ فإن الصبر واجب بالاتفاق؛ فالصبر أن لا يتسخطها بقلبه ولا بلسانه ولا بجوارحه، فإذا صبر نفسه عن هذا التسخط؛ فهو صابر، ولو كان قلبه يحب أن لا تكون المصيبة.

وأما الرضى؛ فهو مع ذلك قلبه راضٍ بها، وبما قسم الله غير مختار على ربه، وهذا أعلى؛ لأنه متضمن الصبر وزيادة طمأنينة القلب، وأن لا يكون له إرادة تخالف ما قضاه الله عليه.وأما فعل العبد وهي الطاعات والمعاصي؛ فيجب الرضى بالطاعات الواقعة منه ومن غيره ومحبتها، وكراهة المعاصي الواقعة منه ومن غيره؛ فالرضى والكراهة في هذين النوعين يرجعان إلى فعل العبد، وذلك راجع إلى موافقة الرب في محبته للطاعات وكراهته للمعاصي، وحكمه بالتفريق بينهما في أحكام الدنيا والآخرة؛ فعلينا أن نوافق الله في ذلك، وأما من جهة تقدير الله لها وفعل الرب التي نشأت عنه؛ فعلينا أن نرضى بها من هذه الجهة موافقين لربنا في ذلك، فإنه قضى الخير والشر، وأحب الخير وكره الشر الواقع بالعباد، فبهذا التفصيل يزول الإشكال في هذه المسألة العظيمة التي تحتاج إلى فرقان علمي وفرقان عملي، ومن لم يفرق هذا التفريق وقع في أنواع من الخطأ والجهالات. والله أعلم.

 فائدة (27) [قصة طريفة لبعض أهل العلم]

يعجبني ما وقع لبعض أهل العلم، وهو أنه كتب له آخر من أهل العلم والدين ينتقده انتقاداً شديداً في بعض المسائل، ويزعم أنه مخطىء فيها، حتى إنه قدح في قصده ونيته، وقال مع ذلك أنه يَدينُ الله ببغضه بناءً على ما توهم من خطئه، فأجاب المكتوب له:

اعلم يا أخي أنك إذا تركت ما يجب عليك من المودة الدينية والأخوة الإسلامية، وسلكت ما يحرم عليك من اتهام أخيك بالقصد السيىء على فرض أنه أخطأ، وتجنبت الدعوة بالحكمة في مثل هذه الأمور؛ فإني أخبرك قبل الشروع في جوابي لك عما انتقدته عليَّ أني لا أترك ما يجب عليَّ من الإقامة على مودتك والاستمرار على محبتك المبنية على ما أعرفه من دينك انتصاراً لنفسي، بل أزيد على ذلك بإقامة العذر لك بقدحك في أخيك أني أعرف أن الدافع لك على ذلك حسن قصد، لكن لم يصحبه علم يصححه، ولا معرفة تبين مرتبته، ولا ورع ورأي صحيح يوقف العبد عند حدِّه الذي أوجبه الشرع عليه؛ فلحسن قصدك المتمحض أو الممتزج بشيء آخر قد عفوت لك عما كان منك إليَّ من الاتهام بالقصد السيىء؛ فهب أن الصواب معك يقيناً؛ فهل خطأ الإنسان عنوان على سوء قصده؟ فلو كان الأمر كذلك لتوجه رمي جميع علماء الأمة بالقصود السيئة؛ فهل سلم أحد من الخطأ؟ وهل هذا القول الذي تجرأت عليه إلا مخالف لما أجمع عليه المسلمون من أنه لا يحل رمي المسلم بالقصد السيىء إذا أخطأ في مسألة علمية دينية؟ والله تعالى قد عفا عن خطأ المؤمنين: {{رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا}}. قال الله: قد فعلت»([11]).

ثم نقول: هب أنه جاز للإنسان القدح في إرادة ما دلت القرائن والعلامات على قصده السيىء؛ أفيحل القدح فيمن عندك من الأدلة والقرائن الكثيرة على بعده عن القصود السيئة ما لا يبرر لك أن تتوهم فيه شيئاً مما رميته به؟ وأن الله أمر المؤمنين أن يظنوا بإخوانهم خيراً إذا قيل فيهم خلاف ما يقتضيه الإيمان؛ فقال تعالى: {{لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا}} [النور: 12] .

واعلم يا أخي أن هذه المقدمة ليس الغرض منها مقابلتك بما قلت: فإني قد ذكرت لك أني قد عفوت لك عن حقي إن كان لي حق، ولكن الغرض النصيحة، وأن أعرفك موقع هذا الاتهام ومرتبته من الدين والعقل والمروءة الإنسانية.

ثم إنه بعد هذا أخذ يتكلم عن الجواب الذي انتقده بما لا محلَّ لذكره هنا، وإنما الفائدة في هذه المقدمة.

 فائدة (28) [محاورة مع رجل وقع في عيب رجل من أهل الدين]

وقع رجل في رجل من أهل الدين، وجعل يعيبه ويعيِّن بعض ما يعيبه به، فقال بعض الحاضرين له: أريد أن أسألك: هل أنت متيقن ما عبته فيه؟ ومن أي طريق أخبرت به؟ ثم إذا كان الأمر الذي ذكرته يقيناً؛ فهل يحل لك أن تعيبه أم لا؟


أما الأول؛ فإني أعرف أنك لم تجالس الرجل وربما أنك لم تجتمع به، وإنما بنيت كلامك على ما يقوله بعض الناس عنه، وهذا معلوم أنه لا يحل لك أن تبني على كلام الناس، وقد علم أن منهم الصادق والكاذب والمخبر عما رأى والمخبر عما سمع، والكاذب الذي يخلق ما يقول؛ فاتضح أنه على كل هذه التقادير لا يحل لك القدح فيه.

ثم ننتقل معك إلى المقام الثاني، وهو أنك متيقن أن فيه العيب الذي ذكرته، وقد وصل إليك بطريق يقيني؛ فهل تكلمت معه ونصحته ونظرت هل له عذرٌ أم لا؟ وهل يقبل النصيحة أم لا؟.

فقال: لم أتكلم معه في هذا بالكلية.

فقال له: هذا لا يحل لك، إنما يجب عليك إذا علمت من أخيك أمراً معيباً أن تنصحه بكل ما تقدر عليه قبل كل شيء، ثم إذا نصحته وأصر على العناد؛ فانظر هل في عيبك له عند الناس مصلحة وردع، أم في ذلك خلاف ذلك؟ وعلى الأحوال كلها؛ فأنت أظهرت في عيبك هذا له الغيرة على الدين وإنكار المنكر، وأنت في الحقيقة الذي فعل المنكر، وما أكثر من يجري منه مثل هذه الأمور الضارة التي يحمل عليها ضعف البصيرة وقلة الورع! والله أعلم.

 فائدة (29) [الدعاء هو العبادة]

قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الدعاء مخ العبادة»، أو: «الدعاء

هو العبادة»([12] إنما كان ذلك كذلك لأمور:

ـ منها: أن الدعاء فيه التضرع إلى الله وإظهار الضعف والحاجة إلى الله.

ـ ومنها: أن العبادة كلما كان القلب فيها أخشع والفكر فيها حاضر؛ فهي أفضل وأكمل، والدعاء أقرب العبادات إلى حصول هذا المقصود؛ فإن حاجة العبد تدفعه إلى الخشوع وحضور القلب.

ـ ومنها: أن الدعاء ملازم للتوكل والاستعانة بالله؛ فإن التوكل هو الاعتماد بالقلب على الله والثقة به في حصول المحبوبات واندفاع المكروهات، والدعاء يقويه، بل يعبر عنه ويصرح به؛ فإن الداعي يعلم ضرورته التامة إلى الله، وأنها بيد الله، ويطلبها من ربه راجياً له واثقاً به، وهذا هو روح العبادة.

ـ ومنها: أن الداعي لما كان يدعو الله لمصلحته ومنفعته ويطلب من الله حوائجه؛ فربما ظن الظان أن ذلك هو المقصود، وأنه إن حصلت الحاجة التي دعا لأجلها فقد حصل المراد، وإن لم تحصل فقد ضاع سعيه، وهذا ظن غالط؛ فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه عبادة لله، سواء أجيب العبد إلى ما سأل أو لم يجب؛ فإنه كسب العبادة لله بدعائه، كما لو صلى أو قرأ أو ذكر الله؛ فإن حصل مع هذه العبادة التي هي المقصود الأعظم مطلوبه وإلا فهو غانم ومحصل لعبادة ربه؛ فمن نعمة الله على العبد أن يأمره بالدعاء وتدفعه الحاجات والضرورات إلى سؤال الله لتحصل له هذه العبادة العظيمة، حتى كان بعض السلف يقول: إنه تكون لي الحاجة إلى الله فأدعوه فيفتح لي من لذيذ مناجاته ما أتمنى معه أن حاجتي لم تُقْضَ؛ لما أخشى من انصراف النفس عن هذه المناجاة والعبادة، ويقول بعضهم: لقد بورك لك في حاجة أكثرت فيها من قرع باب سيدك.

 فائدة (30) [تفاوت الناس عند المصائب]

الناس إذا ما لهم حبيب أو أصابتهم مصيبة متفاوتون؛ فأعلاهم منزلة من يقول: إن لله عليَّ حقًّا في هذه المصيبة ولحبيبي عليَّ حق؛ فأشتغل بتحقيق أداء الحقين عن الاشتغال بفوات حظي من حبيبي؛ فلله عليَّ حق الصبر الذي لا بد منه، ولا يتم الإيمان إلا به، فإن أمكن مع ذلك الارتقاء إلى مقام الرضى والشكر اللذين هما أعلى المقامات؛ كان هو المغنم الأعلى والحظ العظيم، فيشتغل بهذا الحق، ويعلم أنه إذا قام به أثابه الله من الخير العاجل والآجل أعظم

  مما فاته بأضعاف مضاعفة، وأما حق حبيبي عَلَيَّ من والد وقريب وصديق ونحوه؛ فالاشتغال به أن أعمل ما أقدر عليه من الأسباب التي يغتبط بها بعد موته من الاستغفار له والدعاء والصدقة وتنفيذ وصيته وقضاء دينه ونشر ما تسبب في حياته له من مشروع ديني وغيره، فمن كان كذلك؛ فهو الرجل الحازم، وهو الرجل الذي وفِّقَ للقيام بالحقوق وبالوفاء بحق الحبيب، وأما من كان إذا أصيب بمثل هذه المصيبة لحظ فوات حظه فقط؛ فإنه تحضره الهموم والغموم والسخط وفوات الثواب وحصول العقاب.

فسبحان من فاوت بين العباد هذا التفاوت الذي لا ينضبط طرفاه! والله أعلم.

 فائدة (31) [التوكل مع الفرح بالأسباب]

على العبد أن يكون توكله واعتماده على الله، وأن يقوم بالأسباب النافعة ولا يعتمد عليها، ولكن الله إذا يسرها للعبد أو يسر ثمراتها ونتائجها فرح بها العبد واطمأن بها قلبه، من غير اعتماد عليها، بل استبشاراً بأنها من فضله وتيسيره، ولهذا لما ذكر الله إمداد الملائكة للمسلمين في بدر؛ قال: {{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وقال: {{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ}} [الأنفال: 10 ـ 11] ، وقال صلى الله عليه وسلم: «اعملوا؛ فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة؛ فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة؛ فييسرون لعمل أهل الشقاوة»([13])، ولهذا كان التيسير لليسرى عنواناً وبشارة للمؤمن، وقال: {{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا}} [يونس: 58] ؛ فأمر بالفرح بفضله ورحمته اللذين هما السبب الأعظم لنيل الخيرات والنجاة من الشرور.

 فائدة (32) [الإيمان يشمل عقائد الدين وأعمال القلوب والجوارح]

توضيح أن الإيمان يشمل عقائد الدين وأعمال القلوب وأعمال الجوارح؛ كما دل عليه الكتاب والسنّة واتفق عليه السلف الصالح وبيان ارتباط بعضها ببعض، وذلك أن العبد إذا سمع النصوص من الكتاب والسنة الدالة على صفات الله إثباتاً ونفياً وعلى تصديق رسوله وعلى الإخبار بكل الغيوب وعلى الأمر بالخير والنهي عن الشر؛ فإنه يفهمها أولاً، فإذا فهمها وعرفها؛ اعترف القلب بها وصدقها تصديقاً لا ريب فيه، تصديقاً لله ورسوله، وذلك يقتضي محبتَها والتقربَ إلى الله باعتقاد ما دلت عليه والجزمَ بأنه الحق النافع، فإذا عرف الله ورسوله وأحبه؛ أحب كُلَّ ما يقرب إلى الله، وكره كُلَّ ما يبغضه ويمقته، وحيئنذٍ ينقاد القلب انقياداً جازماً لطاعة الله وطاعة رسوله، فيقصد ويريد فعل ما يقدر عليه من محبوبات الله من واجب ومستحب قصداً جازماً يترتب عليه وجود ما قصده وأراده، ويقصد اجتناب ما نهى الله عنه ونهى عنه رسوله قصداً جازماً يقترن به الترك، وهذا هو معنى قوله: {{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا}} [آل عمران: 193] ، وقول المؤمنين: {{سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}} [البقرة: 285] ، ومنة الله عليهم بقوله: {{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ}} [الحجرات: 7] الآية؛ فتبين أن هذه الأمور: التصديق، والاعتراف، والحب، والانقياد، ووجود مقتضى هذا الانقياد، متلازمة مرتبط بعضها ببعض، إذا تم واحد منها وكمل علم أن جميعها قد كملت، وإذا انتفى واحد منها بالكلية علم أن جميعها انتفت، وإذا نقص واحد منها فَلِنَقْصِ بقيتها؛ فافهم هذا الإيضاح في بيان الإيمان، ولهذا مثل الله الإيمان بالشجرة، والشجرة في وجودها وكمالها ونقصها على هذا الوصف الذي ذكرنا. والله أعلم.

 فائدة (33) [تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم من علم لا ينفع]

تعوذ صلى الله عليه وسلم من علم لا ينفع([14] وذلك أمور:

ـ منها: العلوم الضارة ضرراً محضاً، أو شرها أعظم من


خيرها؛ كعلوم السحر، وتعلم الباطل بغير بصيرة بالحق.

ـ ومنها: الاشتغال بالعلوم التي تشغل العبد عن الأمور النافعة حتى المباحة.

ـ ومنها: العلم الشرعي الذي لا يعمل به صاحبه، يعرف الخير فيتركه، ويعرف الشر فيقتحمه.

ـ ومنها: الاشتغال بالعلوم الطبيعية إذا أعرض صاحبها عن العلوم الدينية؛ فإن الاقتصار عليها يوجب لصاحبها تيهاً وكبراً يتكبر به على الحق علماً وعملاً، كما هو مشاهد ممن يشتغل بالعلوم العصرية المحضة، ويزهد في علوم الدين.

أما العلوم النافعة: فهي علوم الدين وما أعان عليها من علوم العربية بأنواعها، وما فيه إصلاح للدين والدنيا والأحوال والأخلاق بشرط أن يكون الدين فيها هو الأصل وغيره تبع له ومعين عليه.

 فائدة (34) [معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لولا حواء لم تخن أنثى زوجها ولولا بنو إسرائيل لم يخنز اللحم»]

قوله صلى الله عليه وسلم: «لولا حواء لم تخن أنثى زوجها، ولولا بنو إسرائيل لم يخنز اللحم»([15]): أحسنُ ما يحمل عليه أن حواء عليها السلام قيل إنها حسَّنت له الأكل من الشجرة حين وسوس لهما الشيطان، فاجتمع على آدم تغرير الشيطان وتسويله وتحسين زوجته له، فوقع الأكل، ولكن تاب الله عليهما حين تابا وندما.

وأما بنو إسرائيل؛ فقيل لهم: لا تدخروا من اللحم الذي رزقتموه في التيه. فادخروه من الهلع والحرص الشديد وضعف الثقة بالله، وكان الناس قبل ذلك يأكلون اللحم طرياً ولا يدخرونه، فلما حصل ادخاره من بني إسرائيل؛ كانوا أول من سنَّ للناس هذا الأمر.

ومضمون ذلك أن الواجب على المرأة أن يكون زوجها عندها محترماً احتراماً حقيقيًّا، وتبني أمرها معه على الصدق والصراحة وعدم الخيانة، ولكن وقعت حواء؛ فوقعت بناتها، وكان الأولى للناس أن يأكلوا اللحم وهو طري، وما فضل عن أكلهم أهدوه أو تصدقوا به، ولا يتركوه يخنز، ولكن لما وقع بنو إسرائيل في ادخاره؛ وقع الناس فيه بعدهم، فحرموا تلك المواساة النافعة. والله أعلم.

 فائدة (35) [حديث: «اللهم إني أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك»]

في الدعاء المأثور عنه صلى الله عليه وسلم: «اللهم! إني أسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك»([16]): دعاء جامع نافع؛ فإن مجموع مطالب السائلين حصول الرحمة المتضمنة لخير الدنيا والآخرة، وحصول المغفرة المتضمنة لاندفاع الشرور في الدنيا والآخرة، وموجبات الرحمة هي الأسباب التي توجبها والأوصاف التي تقتضيها، وقد ثبت في نصوص كثيرة من الكتاب والسنّة من أسباب الرحمة العامة والرحمة الخاصة أمور كثيرة، مثل قوله:

{{إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}} [الأعراف: 56] ؛ أي: في عبادة الله وإلى عباد الله.

وقوله: {{فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ}{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ}} [الأعراف: 156 ـ 157] الآية.

ومثل: {{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ *}} [آل عمرن: 132] ، وطاعة الله ورسوله تشمل فعل الواجبات والمستحبات، وترك المحرمات والمكروهات، بل وأبلغ من ذلك التصديق بخبر الله ورسوله عن كل شيء.

{{وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ *}} [الأعراف: 204] .

ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: «الراحمون يرحمهم الرحمـن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء»([17]).

وأخبار كثيرة عمن عملوا بعض الأعمال التي رحمهم الله بها وغفر لهم بها، وأما عزائم المغفرة؛ فكذلك هي الصفات والأخلاق والأعمال التي جعلها الله سبباً لنيل مغفرته عامة أو خاصة، مثل قوله: {{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى *}} [طه: 82] ، ونحوها من النصوص التي لا تحصى في ذلك أسباب المغفرة التي من أعظمها الإيمان والصدق والإخلاص؛ فسؤال موجبات الرحمة وعزائم المغفرة يدخل في هذا التوفيق لكل سبب ينال به رحمة الله ومغفرته.

فصلى الله وسلم على من أعطي جوامع الكلم ونوافعها وأصول الخير وفروعه.

 فائدة (36) [حكم شق بطن الحامل الميت لإخراج الولد]

سئلت عن امرأة ماتت وفي بطنها ولد حي: هل يشق بطنها ويخرج، أم لا؟

فأجبت: قد علم ما قاله الأصحاب ـ رحمهم الله ـ وهو  أنهم قالوا: فإن ماتت حامل وفي بطنها ولد حي؛ حرم شق بطنها وأخرج


النساء ـ بالمعالجات وإدخال اليد على الجنين ـ من ترجى حياته، فإن تعذر؛ لم تدفن حتى يموت ما في بطنها، وإن خرج بعضه حيًّا شق للباقي.

فهذا كلام الفقهاء بناءً على أن ذلك مُثْلَةٌ بالميتة، والأصل تحريم التمثيل بالميت؛ إلا إذا عارض ذلك مصلحة قوية متحققة، يعني: إذا خرج بعضه حيًّا فإنه يشق للباقي؛ لما فيه من مصلحة المولود، ولما يترتب على عدم الشق في هذه الحالة من مفسدة موته، والحي يراعى أكثر مما يراعى الميت، لكن في هذه الأوقات الأخيرة حين ارتقى فن الجراحة صار شق البطن أو شيء من البدن لا يعد مُثْلَةً، فيفعلونه بالأحياء برضاهم ورغبتهم للمعالجات المتنوعة، فيغلب على الظن أن الفقهاء لو شاهدوا هذه الحال؛ لحكموا بجواز شق بطن الحامل بمولود حي وإخراجه، وخصوصاً إذا انتهى الحمل وعلم أو غلب على الظن سلامة المولود، وتعليلهم بالمثلة يدل على هذا.

ومما يدل على جواز شق البطن وإخراج الجنين الحي أنه إذا تعارضت المصالح والمفاسد؛ قدم أعلى المصلحتين، وارتكب أهون المفسدتين، وذلك أن سلامة البطن من الشق مصلحة وسلامة الولد وجوده حيًّا مصلحة أكبر، وأيضاً فشق البطن مفسدة، وترك المولود الحي يختنق في بطنها حتى يموت مفسدة أكبر؛ فصار الشق أهون المفسدتين.


ثم نعود فنقول: الشق في هذه الأوقات صار لا يعتبره الناس مثلة ولا مفسدة؛ فلا بقي شيء يعارض إخراجه بالكلية. والله أعلم.

 فائدة (37) [حكم من وصل إليه مال محرم لكسبه]

من وصل إليه مال محرم لكسبه؛ فلا يخلو من ثلاث حالات:

إما أن يكون عن منفعة محرمة قد استوفاها من انتقل هذا المال منه؛ فهذا لا يرد إليه المال، بل يجب على من حصل بيده أن يتصدق به عن نفسه، لعل الله أن يكفر عنه ما اجترمه مع التوبة إلى الله من ذلك الذنب الذي تعوض عنه هذا العوض.

وإما أن يصل إليه من الغير على وجه التعويض عنه بالمحرم؛ كالغصوب، والعقود المحرمة، والربا على المضطر، وما أشبه ذلك؛ فهذا يجب رده على صاحبه إن كان يعرفه، وإلا؛ دفعه إلى ورثته، وبذلك يبرأ من التبعة.

وإما أن يكون بيده مالٌ لغيره وقد جهل ذلك الغير؛ كالودائع، والرهون، والغصوب التي جهل أصحابها وجهلت ورثتهم؛ فالطريق إلى التخلص منها إما أن يتصدق بها عنهم لأنه تعذر إيصالها إليهم وتعذر انتفاعهم بها، والمال يقصد لنفعه ولا يتصور نفع في هذه الحال إلا بالصدقة بها عنهم، وتنفذ هذه الصدقة ما دامت الحال على جهلها، فإذا وجد صاحبه أو وارثه بعدما تصدق بها عنه؛ خيره بين إمضاء ذلك التصرف الذي هو الصدقة، ويكون الأجر لصاحبها الأصيل، وإما أن يرد هذا التصدق ويكون الأجر للذي باشر الصدقة، ولكنه يغرم ذلك المال لصاحبه، وإما أن يدفعها إلى الوكيل العام لمن لا وكيل له ولا ولي له، وهو الإمام أو نائبه، وإذا دفعها إليه برىء من التبعة وصرفها الإمام؛ كحال الفيء في المصالح العامة. والله أعلم.

هذا التفصيل في الأموال المحرمة لكسبها؛ فأما المحرمة لذاتها ؛ كالميتة، والدم ولحم الخنزير، والخمر، ونحوها؛ فإن التحريم تابع لوجودها حيث كانت، ويجب اجتنابها والبعد عنها من كل وجه. والله أعلم.

 فائدة (38) [الشفاعة للغير في الأمور الدينية والدنيوية]

من توسط لغيره أو شفع له في أمر من الأمور الدينية أو الدنيوية؛ كالوظائف والعطايا ونحوها؛ كان حكم ذلك تابع للأمر المتوسط فيه إن كان مأموراً به بأن كان المتوسط له مستحقاً لتلك الوظيفة أو ذلك العطاء؛ فالتوسط محمود بل قد يكون واجباً، وإن كان المتوسط فيه منهيًّا عنه بأن كان المشفوع له لا يستحق العطاء أو لا يستحق الولاية أو غيره خيراً منه وأنفع؛ كان التوسط مذموماً غشًّا لله ورسوله؛ لأن ذلك معصية، وغشًّا للمتوسط عنده؛ لأنه يجب عليه أن ينصح له فيمن يولي أو يعطي، ومن هو الأولى والأنفع؟ وغشًّا أيضاً لمن توسط له؛ لكونه أعانه على ما هو منهي عنه، وكل هذا داخل في قوله تعالى:

{{مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا}} [النساء: 85] . والله أعلم.

 فائدة (39) [السبق والتبريز في العلوم وغيرها]

السبق والتبريز والنبوغ في العلوم أو الأخلاق أو الأعمال معناه: أن يسبق غيره فيها سبقاً كثيراً، ويتقدم على المشاركين فيها أمداً بعيداً، وهذا نوعان:

أحدهما: سبق مطلق في كل فن من العلوم النافعة، وفي كل خلق من الأخلاق الفاضلة، وفي كل عمل من الأعمال الصالحة، أو في جمهور ذلك، وهذا من أندر النادر، ويوجد أفراد من هذا النوع ـ أيدهم الله بقوة منه ومعونة عظيمة ـ استولوا على السبق في كل شيء، وهي على إطلاقها قد تكاملت تكاملاً تامًّا في نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم؛ فإنه أعلم الخلق وأكملهم وأعلاهم في كل فضيلة، وقد جمع الله فيه من الفضائل ما تفرق في غيره وكان له منها أعلاها؛ فلذلك كان أفضل الخلق وأقربهم عند الله جاهاً ومنزلةً ووسيلةً؛ صلى الله عليه وسلم، وكلما


شُرِح وبُيِّن من سيرته؛ فهو جزء من هذا الأصل الكبير، ثم بعده الأنبياء على مراتبهم، ثم خيار الصحابة رضي الله عنهم، ثم أئمة الهدى من أمته ومصابيح الدجى وهداة الأمة وأكابر الأئمة.

النوع الثاني: أن يسبق الإنسان في واحد من هذه الأمور أو اثنين مثلاً؛ فهذا كثير، وسبب ذلك مع إعانة الله: قوة الرغبة، وشدة الشوق في هذا الذي نبغ فيه وفاق غيره، وقوة الذكاء لأنه ينتج من ذلك قوة العمل، وذلك موجب للسبق الذي لا يدرك.

وأيضاً حصر الفكر والعمل في أمر من الأمور وجعله نصب العين والغاية، وأكبر الهم، ومبلغ العلم يوجب إدراك هذه المرتبة.

ومن هذا الباب نبوغ من فاق في علم التفسير، أو في علم الحديث، أو في علم الفقه، أو في علم النحو أو اللغة، أو(...)([18]) الطب أو الصناعات، أو غيرها من الفنون؛ فإنه إذا تخصص في شيء من هذه الفنون وصار هو دأبه ليلاً ونهاراً؛ فإنه يدرك منه ما ييسر الله له فيه، ومن ذلك تبريز الإنسان في خصلة من الأخلاق المرضية والأعمال الصالحة؛ كأن يفوق غيره في الحلم الواسع، أو الصبر القوي، أو الخلق الحسن، مع كل أحد، أو الأعمال البدنية؛ ككثرة الصلاة أو الصيام، أو الإحسان، أو الحج، أو الشجاعة، أو غيرها، بحيث إذا ذكر في هذه المقامات عد من السابقين الذين لا يكاد يوجد لهم نظيرٌ أو مقارب.

كما يذكر في هذا الباب عن نوادر أهل الكرم والجود، ونوادر الشجعان، ونوادر المنقطعين للعبادة، ونوادر الذاكرين الله كثيراً والذاكرات.

وقد يكون فائقاً غيره في عمل خاص، مثل: بر الوالدين، أو صلة الأرحام، أو نحوها، ومن هذا ما ذكره النبي صلّى الله عليه وسلّم في قصة أصحاب الغار([19]) الذين انطبق عليهم، وقالوا: لا ينجيكم مما أنتم فيه إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم. فدعا كل واحد منهم بالعمل الذي برز به على غيره: هذا ببره الكامل بوالديه، وهذا بعفته العظيمة التي لا نظير لها، وهذا بأمانته وإحسانه الكثير الذي لا مثل له. ومن تأمل في أحوال الخلق رأى من هذا الباب عجائب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء بالأسباب التي يخصه بها ويقويه عليها، والله ذو الفضل العظيم.

 فائدة (40) [أعمال تنافي العقل]

يا عجباً لمن هو عاقل ويدعي العقل، وهو يعمل ما ينافي العقل من جميع الوجوه!! فإن العقل يأمر بكل نافع، وبالاشتغال بالأهم عن المهم، وبترجيح أعلى المصالح على أدناها، وبردع صاحبه عن جميع الأمور الضارة.

وأكثر الخلق غير مستقيمين على هذا الأمر من كل وجـه، وكثير

من العقلاء يسلكه في بعض الأمور ويدعه في بعضها لأغراض نفسية رأى تقديمها على ما يقضي به العقل والشرع.

يا عجباً لمن يضيع أوقاته الثمينة في غير ما ينفعه وهي جواهر لا قيمة لها ولا يمكن استدراكها!!

ويا عجباً لمن أعطوا فهوماً وذكاءً؛ فصرفوها في العلوم الضارة، ومن أعطوا قوة وقدرة متنوعة؛ فصرفوها في الأمور الدنية وضيعوا الأمور العلية!!

ويا عجباً لمن كان شغلهم البحث عن عيوب من لا يحبونه، والاعتراض المتنوّع على من يبغضونه، كيف غطى السكر على عقولهم ولم يعلموا أن ذلك عين نقصهم والتعبير عن عدم فضلهم، والسعي في نقل حسناتهم إلى من يبغضونه بحسب بغضهم لهم، وهكذا تجد خلقاً كثيراً يدّعون أن لهم عقولاً كباراً وهم على هذه الصفة!!

ويا عجباً لمن أغناهم الله وموَّلهم وأعطاهم وهم لم يستغنوا لا في دينهم ولا في دنياهم، لا قاموا بالنفقات الواجبة ولا المستحبة، بل سعوا في تحصيل الأموال وتجميعها، ولم يعرفوا أن المقصود منها أن تغني صاحبها بصرفها فيما ينفع في دينه ودنياه؛ فجمعوا بين التعب العظيم في تحصيلها وبين الشح الزائد والبخل في إمساكها حتى انتقلت دنياهم إلى غيرهم في حالة لا يحمدون عليها؛ فما أعظم حسرة هؤلاء وأشد أسفهم!!

وقس على أمثال ذلك أموراً تشاهدها وتسمع عنها في الخلق تنافي العقل ويستحق صاحبها أن يكون من أهل الحمق والجهل، وهذا من الأدلة على أن الذكاء والفطنة والعقل وحده، لا يهدي صاحبه إلا بهداية  خاصة من الله وعناية من توفيقه ولطفه، وهذا مما يوجب للعاقل أن لا يزال ملحًّا على ربه في توفيقه لأحسن الأعمال والأخلاق وأهداها وأرشدها.

 فائدة (41) [حكم القيام للناس]

يفرق بين القيام للرجل والقيام إليه والقيام عليه:

الأول: مكروه لاَّ إذا تضمن تركه مفسدة؛ فلا بأس به، وقد استحبه طوائف من أهل العلم، لأهل الفضل من العلماء والولاة وللوالدين([20]) ونحوهم.

وأما الثاني: وهو القيام إليه؛ كقيام الإنسان لمن قدم من سفر أو لمن استضافه، أو لمن أراد أن يهنيه أو يعزيه؛ فهذا لا حرج فيه، بل هو تابع للقصد الذي قام إليه لأجله.

وأما الثالث: وهو القيام عليه؛ فهو محرم، لا يجوز أن يقوم الرجل على رأس الرجل تعظيماً له، كما نهى صلى الله عليه وسلم([21]) عن ذلك؛ فإن في ذلك تعظيماً لغير الله، وتعاظماً ممن يقام على

رأسه.

فهذا الفرقان بين الأمور الثلاثة يوجب لك أن تعطي الأمور حقها؛ من التأمل، وتنظر الداعي، والسبب الحامل عليها، كما تأمل ما يترتب عليها من الخير والشر والمصالح والمفاسد. والله أعلم.

 فائدة (42) [العفو عن الناس]

العفو عن الناس إذا أساؤوا إليك كله محمود، وخصوصاً من لهم حق متأكد من ولادة وقرابة وصداقة ونحوها، وأخص من ذلك من كانت إساءتهم إليك صادرة عن مقصد حسن هو فيه غالط في أصله أو في مقداره، وكان بعضهم يقول: كل من أساء إليّ بقول أو فعل أو اعتراض، وقصده بذلك وجه الله، أو كان قصده مشوباً بعضه لله وبعضه تبع لغرض النفس؛ فهو منِّي في حلٍّ، وقد سامحته لله الذي للمسيء إليّ نوع احتساب، وإن كان مخطئاً أو مزوراً عليه أو بانياً على قول الطائفة التي قد عرفت بالاعتراض عليَّ؛ فكل هذه الأقسام قد سامحته لله علمت بإساءته أو جهلتها. وأما من ليس له من المقاصد إلا الأغراض النفسية والعدوان المتمحض الذي يعلمه من نفسه؛ فهذا لا أقابله بإساءته وأمره إلى الله، ومن وصل إلى هذه الحالة؛ فليحمد الله على هذه النعمة الكبرى، وعلى راحة الضمير، وعلى كثرة ما يجني من الخير، وعلى ما يرجى له من جزاء ربه له ومعاملته له، وأنه يرجى أن يكمل الله له النواقص ويعفو عما مزج فيه العبد أغراضه وشهواته النفسية مع داعي الإخلاص، ويستثنى من هذا الأصل العفو عن المجرم المفسد المتمرد الذي العفو عنه مما يزيده في عتوِّه وتمرده؛ فالواجب في مثل هذا الردع والزجر بكل ممكن، ولعل هذا يؤخذ من القيد الذي ذكره الله بقوله: {{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ}} [الشورى: 40]؛ فشرط الله أن يكون العفو فيه صلاح، فأما العفو الذي لا صلاح فيه، بل فيه ضده؛ فهو منهي عنه. والله أعلم.

 فائدة (43) [نعم الله على العبد]

إذا أنعم الله على عبد نعمة، فإن هو أحسن تصريفها وتدبيرها؛ كانت نعمة أخرى وتمت عليه فيه النعمة، وإن هو لم يحسن تصريفها بأن لم يستعملها أو استعملها فيما لا ينفع أو فيما يضر؛ كانت عليه نقمة وحجة.

فكم ممن أوتوا قوة في عقولهم وأبدانهم فصرفوها فيما ينفعهم ديناً أو دنياً، فانتفعوا وارتفعوا؟!

وكم ممّن صرفوهما فيما لا يعود عليهم بخير أو أهملوهما؛ فصار اللَّوم عليهم أعظم والمصيبة في حقهم أكثر؟!

وكم ممن أوتوا مالاً أو جاهاً أو رياسة؛ فلم ينتفعوا بها فيما


جعلت له؛ فكانت عليهم وبالاً؟!

وكم ممن كانت هذه الأشياء زاداً يتزودون بها إلى الخير العاجل والثواب الآجل؟!

وهذه الأمور ونحوها من مَحَالِّ الفتن والاختبار وبها يتميز الأخيار من الأشرار.

 فائدة (44) [حديث «الاقتصاد في المعيشة...»]

روى البيهقي عن ابن عمر مرفوعاً([22]): «الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة، والتودد إلى الناس نصف العقل، وحسن السؤال نصف العلم».

ووجه ذكر هذه الثلاثة ظاهر؛ فإن العبد كما أنه محتاج ومضطر

إلى إصلاح دينه بالعلم النافع والعمل الصالح والقيام بما خلق له العبد؛ فهو مضطر إلى إصلاح دنياه وقيام معيشته، وذلك بأمرين:

أحدهما: الاكتساب بصناعة، أو تجارة، أو حرفة، أو عمل من الأعمال المناسب لحالة الإنسان، الموافق لسير حياته، الملائم لمواهبه وتوجيهاته.

والأمر الثاني: بحسن التصريف والإنفاق، وذلك هو الاقتصاد؛ فمتى تم له الأمران: الكسب المناسب، والاقتصاد في النفقة التي ميزانها قوله تعالى: {{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا *}} [الفرقان: 67] ؛ فقد تمت أمور معيشته الي هيئت له، ومتى فقد الأمرين أو أحدهما؛ اختلت معيشته؛ فمن الناس من تختل معيشته بسبب عدم الكسب وإخلاده إلى الكسل، أو سلوك الطرق التي لا تغني عنه شيئاً، ومن الناس من تختل معيشته بسبب عدم اقتصاده في الإنفاق، بل يسرف في الإنفاق، فيقعد ملوماً محسوراً؛ فعلم بذلك أن الاقتصاد في النفقة أحد شطري المعيشة، والشطر الثاني المكسب النافع.

وأما قوله: «والتودد إلى الناس نصف العقل»: فإن العقل هو الذي يعقل به صاحبه ما ينفعه ويمتنع به عمَّا يضره، والعقل يدعو دائماً إلى الراحة القلبية والراحة البدنية والعمل بالأسباب الموفرة للراحة، ولا شك أن التودد إلى الناس بالأخلاق الجميلة والبشاشة وحسن الخلق من أكبر الأسباب لراحة القلب والبدن والسلامة من الغلِّ والحقد والمنازعات والمخاصمات والتعلقات المشوشة للأفكار الموجبة للأكدار.

ومن ذاق طعم حسن الخلق والتودد إلى الناس وكيف يكسب العبد بذلك من الأصحاب والأحباب ما هو من أفضل الغنائم، وكيف يسلم به من شرور؟ وكيف ينقلب العدو صديقاً والمبغض محبًّا؟ عرف ما في ذلك من الخير والراحة، وأن هذه الأمور هي القسم الأكبر الذي يرشد إليه العقل.

وأما قوله: «وحسن السؤال نصف العلم»: فإن العلم إنما يدرك بسلوك طرقه الموصلة إليه، وذلك بحسن السؤال وحسن الإصغاء، بأن يسأل الإنسان عن الأمور المهمة والتي يحتاجها، ويسألها بطريقة تحصل المقصود؛ فإن كان مشتغلاً بالتعلم، مستعدًّا لطلب العلم؛ فبالاشتغال بالكتب التي تليق بمطلبه على وجه يتمكن من فهمها والتوسع للتفكر في معانيها، ولا يشتغل بكتب لا تجدي عليه إلا العناء، أو يكثر من الدروس ما لا يتحمله ذهنه؛ فمتى سلك هذه الطريقة النافعة؛ رجي له الفلاح والإدراك، وكذلك سؤال العلماء مشافهة يسأل عن الذي يحتاج إليه بلطف ولين ويصغي إلى إلقاء المعلم إصغاء المضطر المفتقر إلى علمه؛ فمتى وفق لهذه الحالة؛ فقد فعل السبب الذي ينال به العلم، والتوفيق بيد الله وتيسيره.


 فائدة (45) [حدث: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ»]

قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة المتفق عليه([23]): «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ»: يدل على أمور: على وجوب الوضوء، وعلى أنه شرط من شروط الصلاة، وعلى أنه لا يسقط عمداً ولا سهواً ولا جهلاً؛ لعمومه، وبقي علينا أن نتعرف ما هو الحدث الذي دل الحديث على أنه سبب وجوب الوضوء؛ فإن عرفناه من الشرع، وإلا رجعنا إلى اللفظ وإلى العرف، فننظر، فإذا الشارع قد بين الأحداث الناقضة للوضوء، مثل: الخارج من السبيلين، والخارج الفاحش النجس من بقية البدن، والنوم الكثير، ولمس النساء بلذة، وأكل لحوم الإبل، ومس الفرج باليد من دون حائل.

ومفهوم الحديث أن الصلاة تقبل مع الوضوء؛ فدل على فضل الوضوء وتأثيره العظيم في أجلِّ العبادات والطاعات، ولا يدل على أنه لا يشترط للصلاة غير الوضوء؛ بل يشترط لها الوقت، والسترة، واستقبال القبلة، والنية، وهذه الشروط تؤخذ من النصوص الأخر. والله أعلم.

 فائدة (46) [حديث: «ويل للأعقاب من النار»]([24])

قوله صلى الله عليه وسلم: «ويل للأعقاب من النار» يدل على

وجوب استيعاب أعضاء الوضوء بالطهارة، وعلى أن الإسباغ لا يسقط سهواً ولا جهلاً ولا عمداً، وأن الجزاء من جنس العمل؛ فيعذب العبد بعضوه الذي ترك واجبه، كما يحلى المؤمن بأعضائه التي يسبغ فيها الوضوء. والله أعلم.

 فائدة (47) [قوله تعالى: {يؤتى الحكمة من يشاء} الآية]

قوله تعالى: {{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}} [البقرة: 269] : هذا يدل على أن أفضل منن الله على عبده أن يؤتيه الحكمة، والحكمة هي إصابة الصواب، ووضع الأمور مواضعها في العلوم والأعمال.

ففي العلوم: أن يكون العبد عارفاً لما تجب أو تستحب معرفته معرفة مطابقة للواقع، وأن يكون تعلمه وتعليمه على طريقة يحصل بها أكمل ما يكون من الوصول إلى العلوم بحسب الاستطاعة والمقدور، وضد ذلك الجهل البسيط أو الجهل المركب؛ الذي لا يعرف وهو لا يعرف أنه لا يعرف، أو نقص العلم، أو سلوك طرق التعلم والتعليم التي لا توصل إليه، أو توصل إليه بوجه ناقص؛ فكل هذا منافٍ للحكمة العلمية.

وأما الحكمة العملية فإنه يسلك العبد في عمله الديني


أو الدنيوي أنفع طريق يتم به العمل؛ ففي الدين: الإخلاص للمعبود، والمتابعة للرسول، والاقتصاد في السير وعدم الغلو فيه أو التقصير، وفي العمل الدنيوي: أن يستعمل من الأسباب أنسبها إليه وأتمها لحصول مقصوده، ويسعى سعياً جميلاً. وبعد حصول ثمرة السبب الدنيوي يسعى في إنفاقه فيما ينبغي على الوجه الذي ينبغي من غير إسراف ولا تقتير. والله أعلم.

 فائدة (48) [المصيبة التي يثاب عليها العبد]

المصيبة التي تصيب العبد، ويؤمر بالصبر عليها، ويثاب على ذلك نوعان:

ـ مصيبة تأتيه بغير اختياره وعمله؛ كفقد الأحباب، والمكاره التي تصيبه في بدنه، أو قلبه، أو ماله، أو حبيبه، فمن نعمة الله على المؤمن أنه إذا قام بوظيفة الصبر والرّضى واحتساب الأجر؛ أعطاه الله أجره بغير حساب.

ـ والنوع الثاني: المصيبة التي تنال المؤمن بأسباب عمله الصالح؛ كالجهاد، والحج، والقيام بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ فهذه تشارك الأولى في ثوابها والصبر عليها، وتزيد عليها بشرف سببها؛ حيث نشأت عن طاعة الله؛ فكانت أسبابها خير الأسباب، وثمراتها خير الثمار، وكانت مع ذلك تابعة لتلك الطاعة والعبادة التي قام بها العبد.

قال تعالى في المجاهدين: {{لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}} [التوبة: 120] الآية.

وقال: {{وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا *}} [النساء: 104] .

{{وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ *}} [آل عمران: 157] .

وهذه أيضاً يعان عليها العبد ما لا يعان على الأخرى؛ فإن الله تعالى شكور يشكر عبده الذي قام بمراضيه بأنواع من الثواب في قلبه وإيمانه وثوابه والتحمل عنه، وربما استحلاها المؤمنون بحسب إيمانهم.

وهنا مصيبة ثالثة تكون من أسباب عمله بالمعاصي؛ فهذه إذا اقترن بها الصبر والاحتساب؛ كانت من مكفرات الخطايا، وإلا فهي تابعة للسيئات ونموذج للعقوبات. والله أعلم.

 فائدة (49) [إذا طاف أو سعى محمولاً]

إذا طاف أو سعى محمولاً لعذر، ونوى كل من الحامل والمحمول عن نفسه؛ فالمشهور في المذهب عند الحنابلة


المتأخرين: أنه لا يجزىء إلا عن المحمول، وهو ضعيف لا دليل عليه، ولا تعليل صحيح يدل عليه، والصحيح في هذا مذهب الإمام أبي حنيفة: أنه يجزي عن كل واحد من الحامل والمحمول، وهو قول في مذهب الحنابلة استحسنه الموفق، وهو الصواب الذي تدل عليه الأدلة، فإن من طاف حاملاً أو محمولاً لعذر أو لغير عذر على القول الآخر؛ فإنه قد أدى فريضة طوافه، وقد صدق على كل منهما أنه تطوف بالبيت العتيق.

يؤيّدُ هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات»([25])، وهذان كل منهما نوى الطواف لنفسه، وفعله.

يؤيد هذا أنه بالاتفاق إذا حمله في بقية المناسك، كالوقوف بعرفة ومزدلفة وغيرها: أن النسك قد تم لكل منهما؛ فما الفرق بينها وبين الطواف والسعي؟

يؤيد هذا أنه لم ينقل أن أحداً من الصحابة والتابعين قالوا: إنه لا يجزي عن الحامل، وقد وقع في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم وزمن أصحابه والتابعين قضايا متعددة من هذا النوع؛ فلم يأمروا الحامل أن يطوف طوافاً آخر أو سعياً آخر.وإذا كان الولي المحرم ينوي الإحرام عن الصبي الذي لا يعقل ما يقوله ويحضره في المشاعر كلها، ويجزي عن الجميع؛ فما بال الطواف والسعي؟!

وهذا القول كلما تدبره الإنسان عرف أنه الصواب المقطوع به.وأيضاً؛ فإن طواف الراكب على بعير وغيره يجوز على الصحيح لعذر ولغير عذر، وعلى القول المشهور من المذهب: أنه يجوز لعذر يقع الطواف عن المحمول مجزِئًا قولاً واحداً؛ فما الفرق بين الراكب للحيوان والراكب للإنسان والحاجة تدعو إلى كل منهما، بل الحاجة إلى حمل الإنسان أشد من الحاجة إلى حمل الحيوان، بل الحيوانات في هذه الأوقات متعذر دخولها المسجد الحرام كما هو معروف، والله أعلم، مع أن الحامل إذا نوى عن نفسه؛ كان أحق بوقوعه عنه؟

 فائدة (50) [الواجبـات الماليـة]

سئلت عن الواجبات في مال الإنسان الذي يملكه، وهل لذلك حد في الشرع، وما مقداره وصفته؟

فأجبت بأن الشارع بيَّن للعباد كل ما يحتاجونه، وخصوصاً الواجبات التي هي أهم المهمات: الواجبات على القلب، والواجبات على البدن، والواجبات من الأقوال والأعمال.

وكذلك وضح الواجبات المالية توضيحاً تامًّا مجملاً؛ فأمر بأداء الحقوق المالية، وحث عليها، ومدح القائمين بها، وذمَّ المانعين لها أو لبعضها، وفصل ذلك بذكر الأموال التي تجب فيها الزكاة وشروطها ونصبها ومقدار الواجب فيها، وهذا أعظم الواجبات المالية، وفصل كذلك ما في المال من النفقات على النفس والأهل والعيال والمماليك من الآدميين والبهائم، وبيَّن أيضاً وجوب الوفاء


بالعقود والمعاملات على اختلاف أنواعها وتباين أسبابها، وبين ما يتعلق بالمال من الحقوق العارضة بأسبابها؛ كبذل النفوس والأموال المتلفة بغير حق، وما فيه من الحقوق العارضة لحاجة الغير من ضيف ونحوه، أو لاضطرار الغير فأوجب مواساة المضطرين ودفع اضطرارهم.

ومن ذلك إلزام الناس بالمعاوضات التي تجب عليهم؛ فإن إلزام الناس بالمعاوضات والتسعير عليهم فيها:

منها: ما هو ظلم محرم؛ كإكراههم على البيع بثمن لا يرضونه، أو منعهم ممَّا أباحه الله لهم.

ومنها: ما هو عدل، مثل: إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل.

ومثل التسعير على العمال ومن يحتاج الناس إليهم ومنعهم من أخذ الزيادة الفاحشة كما يمنع الناس من هضمهم لحقوقهم.

ففي أمثال هذه المسائل على الناس مراعاة العدل ومنع أسباب الظلم، وهذه الأمور منها أشياء واضحة لكل أحد، ومنها أشياء يكون فيها اشتباه والْتباس يجب أن تحقق وتفحص فحصاً تامًّا؛ ليعرف مرتبتها، فما دامت مشتبهة؛ فالأصل تحريم أموال الغير، والأصل إبقاء الناس على معاملاتهم واحترام حقوقهم حتى يتضح ما يوجب الخروج عن هذا الأصل لأصل شرعي أقوى منه وأولى.

وأما مـا يهذي به كثير مـن الناس عندمـا انتشرت الشيوعيـة،

وشاعت دعايتها، وأثرت على كثير من أهل العلم العصريين من أنه يسوغ لأولياء الأمور أن يلزموا أهل الغنى والثروة أن يواسوا بذلك أهل الحاجة والفقراء، وأن يفتتوا ثروتهم على أهل الحاجات، وأن يسددوا بزائد ثروتهم جميع المصالح المحتاج إليها بغير رضاهم ، بل بالقهر والقسر؛ فهذا معلوم فساده بالضرورة من دين الإسلام، وأن الإسلام بريء من هذه الحالة الشيوعية، أو هي مبدأ الشيوعية.ونصوص الكتاب والسنّة على ذلك في إبطال هذا القول صريحة جدًّا وكثيرة، وإجماع الأمة يبطل هذا القول المنافي لنصوص الكتاب والسنّة، والمنافي للفطرة التي فطر الله عليها العباد والفاتح للظلمة والطغاة أبواب الظلم والشر والفساد.

فالله تعالى يبسط الرزق لمن يشاء ويقدره على من يشاء، وقد جعل العباد بعضهم فوق بعض درجات في كل الصفات: في العقل والحمق، وفي العلم، والجهل، وفي حسن الخلق وسوء الخلق، وفي الغنى والفقر، وفي كثرة الأولاد والأموال والأتباع وضد ذلك، حكم بذلك قدراً ويسر كلًّا لما خلق له، وأوجب على كل من أعطاه الله شيئاً من هذه النعم وغيرها واجبات حددها وبينها وفصلها وجعل لنيل المطالب الدنيوية والمطالب الأخروية أسباباً وطرقاً، من سلكها أفضت به إلى مسبباتها، وأوصلته إلى نتائجها.وهؤلاء المنحرفون يريدون أن يبطلوا قدر الله وشرعه، ويبرروا آراءهم بشبه لا تسمن ولا تغني عن جوع، ويضيفون ذلك إلى الشرع تحريفاً منهم.

وقد اغتر بهذه الآراء الشيوعية كثير من العصريين، وكَثُرَ

الداعون إلى هذه الطريقة الشنيعة تغريراً واغتراراً، ولكن البصير لا يخفى عليه الأمر، والمعصوم من عصمه الله.

وقد يروجون هذا الباطل بأن تضخم المال في أيدٍ قليلة سبب لمفسدة الترف المفسد للأخلاق، وسبب لإثارة الأحقاد من الفقراء والمعدمين، وهذا غلط فاحش؛ فإن الغنى قد يكون سبباً للطغيان، وقد يكون سبباً للتواضع والتزود من طاعة الرحمن، وعلى فرض ما فيه من المفاسد؛ فإن ما حاولوه من القضاء على الثروة سبب لشرور عظيمة لا تنسب إليها أي مفسدة، وسبب لإثارة فتن وشرور كثيرة، عكس ما قالوه، وما قالوه في زيادة ثروة المال يقال مثله في زيادة قوة الجسد وصحة البدن؛ فإنه قد يبعث على شرور، وقد يتوسل به إلى خيرات.

وهكذا كل ما أعطاه الله للعباد من المميزات والفضائل البدنية والمالية والرياسات والأولاد والأتباع؛ كل ذلك لا بد منه، ولا يمكن محاولة إبطاله وصرف سنن الباري التي أجراها على عباده.

والله تعالى قد كفى العباد مَؤُونة وأضرار الثورة بما شرعه من الحقوق المالية الواجبة والمستحبة التي لو قام بها أرباب الأموال؛ لكانوا من خير البرية أخلاقاً وأعمالاً، وأشرفهم وأعظمهم اعتباراً، ولكن لما منعه أكثر الخلق ما أوجبه الله عليهم؛ سلط عليهم أنواع الظلمة من ولاة ظالمين ومن فتاوى الجاهلين المتجرئين، {{وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ *}} [الأنعام: 129] .

واعلم أن الشُّبه التي تثار لنصر كل باطل إذا فرض صحة بعضها؛ فإنها نظريات ضئيلة جدًّا، ونظر قاصر قاصر، حيث نظروا جزئياً وملاحظة جزئية، وعموا عن الأصول التي تبنى عليها الأحكام، ويعتبرها الشرع، وتتولد عنها المصالح الكلية، وتنغمر في المضار الجزئية، وتوافق الشرعة والفطر، وتدع الخليقة هادئة والأسباب قائمة والارتباط بين الناس قائماً، {{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عمَّا يَعْمَلُونَ *}} [الأنعام: 132] .

 فائدة (51) [قول صاحب «الإقناع» في صحة بيع الأمة للمجذوم]

قول صاحب «الإقناع» حين ذكر صحة بيع الأمة لمن به جذام ونحوه: «وهل لها منعه من وطئها؟ يحتمل وجهين: أولاهما: ليس لها منعه لملكه منافعها، وبه قالت الشافعية». انتهى.

في هذا نظر ظاهر، ومخالفة لقاعدة المذهب، ومخالف أيضاً لظاهر كلام الأصحاب؛ فإنهم ذكروا في باب النفقات وجوب قيام السيد بحقوق مماليكه الواجبة والقيام بكفاياتهم؛ من مطعوم، ومشروب، وملبوس، ومسكن، وغيرها، وتحريم تحميله ما يشق عليه، وتحريم إيقاع الإضرار به، والضرر الحاصل من مقاربة المجذوم ونحوه شديد، وأما التعليل الذي ذكره وأنه مالك لمنافعها؛ فهي المنافع المعتادة التي لا ضرر فيها، وأما ما فيه ضرر؛ فلا يملكها كما صرحوا به. والله أعلم.


 فائدة (52) [معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله]

معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله من الكتاب والسنّة، فرض عين أو فرض كفاية بحسب مراتبه، والحد نوعان: إما حد محيط بجميع المحدود، وإما حد يقصد به التمثيل والتصوير.

مثال الأول: أن يقال في حق المقتصد والسابق إلى الخيرات والظالم لنفسه، المقتصد هو الذي يؤدي الفرائض والواجبات ويترك المحرمات، والسابق إلى الخيرات يزيد على ذلك بفعل المستحبات التابعة للفرائض والمستقلة ويترك المكروهات كذلك، والظالم لنفسه هو الذي يقصر ببعض الواجبات، أو يتجرأ على بعض المحرمات.

ومثال الثاني: إذا مثل: المقتصد هو الذي يصلي الفرائض والصلوات بأوقاتها، والسابق هو الذي يصليها في أول وقتها ويجتهد في تكميل ما فيها من المكملات والمستحبات، والظالم لنفسه هو الذي يؤخرها عن وقتها الواجب ونحو ذلك؛ فهذا من باب التمثيل والتصوير، وهذا ينفع في مقام الدعوة والتعليم الخاص، وذلك ينفع في مقام تقرير الأصول والقواعد، وما أنفع الجمع بين الأمرين إذا اقتضت الحال ذلك، ومن عوَّد نفسه ذلك؛ سهل عليه، ونفع وانتفع. والله الموفق المعين.


 فائدة (53) [المطلوب من العلم تصور مسائله الكلية والجزئية]

المطلوب من العلم تصور مسائله الكلية والجزئية والاستدلال عليها بالدلائل الموصلة إلى العلم بقدر الإمكان؛ فالعلم مسائل ودلائل، والله يقول الحق في خبره وحكمه، وهو يهدي السبيل في آياته وبراهينه وأدلته وبيناته الواضحة، {{وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا *}} [الفرقان: 33] ؛ فأعظم الحق وأصدقه وأنفعه ما قاله الله ورسوله وحكم به الله ورسوله، وأوضح الأدلة والبراهين ما نبه الله عليه ورسوله، والكليات من المسائل والدلائل تحفظ الجزئيات وتجمعها وتكون أساساً وأصلاً لها، والجزئيات تفصل الكليات وتوضحها؛ فمتى كان صاحب العلم متمكناً من الأحكام الكلية وتصويرها وتقريرها ومن التمثيل بالجزئيات؛ فقد تم علمه، ومتى قصر فيهما أو في أحدهما؛ حصل له من القصور والجهل بحسب ما قصر فيه؛ فمستقل ومستكثر، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

والعلم الموروث عن الرسول من الكتاب والسنّة فيه المسائل والدلائل المحتاج إليها على أكمل وجه، وفيه الأدلة العقلية والنقلية، ويدعو إلى الخضوع والذل لله والتواضع للحق والخلق.

وعلوم أعداء الرسل ليس فيها براهين عقلية، ولكنها شبه وجهل


وضلال، ومع ذلك؛ ففي قلوب أهلها كبر ما هم ببالغيه؛ كبر على الحق وعلى الخلق، مع قصورهم العظيم وجهلهم المركب واغترارهم بما عرفوه من العلوم التي إن نفعت؛ ففي بعض الأمور الدنيوية.

 فائدة مهمة جدًّا (54) [مغذيـات الإيمـان]

ينبغي للعبد أن يسعى ويجتهد في عمل الأسباب الجالبة للإيمان والمقوية للإيمان، ومن أعظم ذلك تدبر القرآن؛ فإنه يزيد في علوم الإيمان وشواهده، ويقوي الإرادات القلبية، ويحث على أعمال القلوب من التوكل والإخلاص والتعلق بالله الذي هو أصل الإيمان.

وكذلك معرفة أحوال النبي صلّى الله عليه وسلّم وسماع أحاديثه، ومعرفة معجزاته، وما هو عليه من الأخلاق والأوصاف.

وكذلك التفكر في آيات الله ومخلوقاته المتنوعة، ولهذا يحث الله على التفكر في ملكوت السماوات والأرض وما أودع فيها من الآيات والبراهين الدالة على وحدانية الله وصفاته وآلائه.

وكذلك التفكر في نعم الله الظاهرة والباطنة الخاصة والعامة؛ فإنها تدعو دعاءً حثيثاً إلى الإيمان وتقويه؛ فما بالعباد من النعم وما يدفعه من النقم كلما تفكر فيها العبدُ؛ ازداد إيمانه، وقوي يقينه. وكذلك النظر في أحوال الأنبياء والصديقين وخواص المؤمنين، ومعرفة أحوالهم، وتتبع أمورهم؛ من أكبر مقويات الإيمان ومواد تغذيته.وكذلك الضرورات التي تلجىء العبد إلى ربه وتحثه على ذكره وكثرة دعائه وما ينشأ عن ذلك من تفريج الكربات وإجابة الدعوات وحصول المسار واندفاع المضار؛ كلها من مقويات الإيمان.

ومن أعظم مقويات الإيمان ومغذياته اللهج بذكر الله والإكثار من دعائه والإنابة إليه في السراء والضراء، في جميع النوازل الخاصة والعامة، الكبيرة والصغيرة؛ فهي من مغذيات الإيمان، والإيمان يغذيها؛ فكل من الأمرين يمد الآخر. وكلما ازداد العبد من هذه الأمور ومن الرجوع إلى الله في كل أحواله؛ ازداد إيمانه، وكثرت شواهده، وازداد العبد بصيرةً ويقيناً، وقوي توكله.

ومن مغذيات الإيمان: قوة الصبر على طاعة الله وعن معاصيه وعلى أقداره، مع استصحاب التوكل والاستعانة بالله على ذلك، بل هو الإيمان أصلاً وفرعاً وغذاءً وثمرة.

فمتى غرست شجرة الإيمان في القلب وتأصلت بمعرفة الله ومعرفة ما له من الأسماء الحسنى والصفات العظيمة، والتفرد بكل كمال وكل فضل وإفضال، وانبعثت دواعي الإنابة إلى الله بذكره ودعائه، والرجوع إليه، وامتثال أمره واجتناب نهيه، والصبر على أقداره، والرضى به ربًّا وبالإسلام ديناً وبمحمد نبيًّا. وتعاهد العبد هذه الشجرة بالأوراد الشرعية والوظائف المرتبة، وهي: أعمال اليوم والليلة، ودوام التوبة والاستغفار كل وقت، والعزم الجازم على تحقيق الإخلاص لله والمتابعة للرسول، والاجتهاد في تحقيق ذلك، وتنقية القلب من كل ما يضاد ذلك؛ من رياء، وفخر، وعجب، وكبر، وتيه، ومن غل وحقد وغش مما ينافي النصيحة ومحبة الخير للمسلمين، وتعاهدها أيضاً ببذل ما يستطيعه العبد من النفع للعباد؛ من تعليم، ونصيحة لهم في دينهم ودنياهم، وتوجيه لهم إلى الخير بحسب أحوالهم، ودعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة بحسب قدرته واستطاعته وبحسب الظروف التي هو فيها.

متى وفق لذلك كله؛ آتت هذه الشجرة أكلها كل حين بإذن ربها، والله تعالى هو الموفق وحده، المحمود وحده، الذي لا ملجأ للعبد ولا منجا منه إلا إليه، ولا حول ولا قوة [إلا]([26]) به، وهو المرجع في كل الأمور، وإليه المفزع والمشتكى، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

 فائدة (55) [الزهـد النافـع]

الزهد([27]) في الدنيا وتوابعها ليس مقصوداً لنفسه، بل مقصوداً لغيره؛ فإن كان ذلك مما يستعان به على طاعة الله وقيام دينه والنفع المتعدي والقاصر؛ كان محموداً، وإن كان لا يتوسل به إلى شيء من ذلك، أو يتوسل به إلى أغراض نفسية وشهوات دنية، أو يطلب به الراحة الحاضرة فقط؛ لم يكن محموداً؛ فهو وسيلة محضة لا غاية مقصودة، وإنما الغايات المطلوبة تتبع أوامر الله ورسوله، وعلمها وتنفيذها في نفسه وفي غيره بكل وسيلة وطريقة توصل إليها. والله أعلم.

 فائدة (56) [قوله تعالى: {تعلمونهن مما علمكم الله} الآية]

قوله تعالى: {{تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ}} [المائدة: 4] الآية فيها فوائد كثيرة:

ـ منها: أن تعليم الله لعباده العلوم التي يدركون بها المعاش ويتوسلون بها إلى المنافع الدنيوية من نعمه العظيمة؛ فإنه امتن على العباد بما يعلمون الجوارح الأسباب التي تحصل لهم بها الصيود حتى يكون ما تدركه الجوارح بمنزلة ما باشروه من الأعمال؛ لأنها من أعمالهم؛ فكل علم علمه الله الإنسان يدرك به منافعه الدينية والدنيوية؛ فإنه من نعمه.

وفيها على أن تعليمها يكون بحسب العرف والعادة؛ لأن الله أطلق التعليم ولم يقيده إلا بقيدين:

أحدهما: أن تتعلم هذه الجوارح تعلماً تمسك على صاحبها وتتميز عن الجوارح التي تمسك لنفسها وعلى نفسها، ويعرف ذلك بالقرائن المعروفة.

ثانيهما: ذكر اسم الله عند إرسالها؛ فإرسالها بمنزلة تحريك يده للذبح.

ـ ومنها: أن الاشتغال بالعلوم التي تتسهل بها الأسباب الدنيوية محبوبة لله، وهو مما امتن به على عباده؛ فكل طريق يوصل إلى المنافع الدنيوية أو يسهلها؛ فإنه من هذا الباب.

 فائدة (57) [الدعـاء عبـادة]

مما ينبغي لمن دعا ربه في حصول مطلوب أو دفع مرهوب: أن لا يقتصر في قصده ونيته على حصول مطلوبه الذي دعا لأجله، بل يقصد بدعائه التقرب إلى الله بالدعاء وعبادته التي هي أعلى الغايات؛ ليكون على يقين من نفع دعائه، فإن الدعاء مخ العبادة وخلاصتها؛ فإنه يجذب القلب إلى الله، وتلجئه حاجته للخضوع والتضرع لله الذي هو المقصود الأعظم في العبادة، ومن كان هذا قصده في دعائه التقرب إلى الله بالدعاء وحصول مطلوبه؛ فهو أكمل بكثير ممن لا يقصد إلا حصول مطلوبه فقط؛ كحال أكثر الناس؛ فإن هذا نقص وحرمان لهذا الفضل العظيم، ولمثل هذا فليتنافس المتنافسون، وهذا من ثمرات العلم النافع؛ فإن الجهل منع الخلق الكثير من مقاصد جليلة ووسائل جميلة، لو عرفوها؛ لقصدوها، ولو شعروا بها؛ لتوسلوا إليها. والله الموفق.

 فائدة (58) [تخصيص الفقهاء بيع الأصول والثمار بباب]

إذا قيل: كيف خَصَّ الفقهاء رحمهم الله باب بيع الأصول

والثمار مع أن جميع ما يلزم ويشترط ويحل ويحرم في أنواع البيوعات موجود فيها.

قيل: لما اختصت به من الأحكام والبحوث الخاصة؛ كالبحث فيما يدخل في البيع وما لا يدخل، وما يكون للبائع وما يكون للمشتري، وبيع الحبوب والثمار حيث لها حالات:

ـ حال إذا كانت تابعة للأصول حل بيعها على كل حال.

ـ وحال إذا بيعت منفردة؛ ففيها تفصيل: إن بيع قبل بدو الصلاح؛ لم يحل، وإن بيعت بعد بدو الصلاح؛ حلت.

وأيضاً يذكرون فيها تبقية الثمار والزروع التي لا تدخل في بيع أصولها إلى استكمالها؛ فهذه الخصائص التي أوجبت تخصيص الفقهاء رحمهم الله لها بباب.

ونظير هذا تخصيصهم باب السلم، وهو داخل في البيوعات؛ لما اختص به من الشروط الزائدة على شروط البيع المطلق. والله أعلم.

 فائدة (59) [في بيان شعب الإيمان]

في «الصحيحين»([28]) عن أبي هريرة؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة؛ فأعلاها أو أفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان».

هذا الحديث من أعظم أدلة السلف على أن الإيمان يشمل عقائد القلوب وأعمالها وأعمال الجوارح، وأنه درجات متفاوتة، أعلاها وأفضلها على الإطلاق شهادة التوحيد؛ فإنها الأساس الأعظم لجميع أمور الإيمان. وأدناها أقل إحسان يتصور إماطة الأذى عن الطريق، وخص الحياء بالذكر؛ لأنه يدعو إلى كل خلق جميل وعمل صالح، وينهى عن ضده.

وقد صنف العلماء رحمهم الله في تعداد شعب الإيمان وحقيقتها كل عقيدة صحيحة وإرادة محمودة وخلق جميل وعمل صالح، والتفاصيل الواردة في الكتاب والسنّة ترجع إلى ذلك:

ـ فمنها: الأصول الستة: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، والشرائع الخمس: الشهادتان، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، فرض ذلك ونفله.

ـ ومنها: أعمال القلوب؛ كمحبة الله، وخوفه، ورجائه وحده، والإخلاص له في كل شيء، والتوكل عليه، والحياء، والصبر، والإنابة، والتقوى، والورع.

ـ ومنها: النصيحة لله ولكتابه ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم.

ـ ومنها: بر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الجيران والأصحاب والمعاملين.

ـ ومنها: التواضع للحق والخلق.

ـ ومنها: ذكر الله على اختلاف أنواعه وتعلم العلوم النافعة وتعليمها، وكمال المتابعة للرسول، والاستقامة على دينه وهديه وسنّته.

ـ ومنها: القيام بحقوق الأهل والمماليك من الآدميين والبهائم. إلى غير ذلك مما حث عليه الكتاب والسنّة. والله أعلم.

 فائدة (60) [المحرمات من النساء]

يحرم على الإنسان من النساء أصوله وفروعه وفروع أبيه وأمه؛ وإن نزلن: بنات الأجداد، وبنات الجدات للصلب فقط نسباً ورضاعاً، وإذا تزوج امرأة تعلق به حكمان: حرم عليه أمهاتها وإن علون، وبناتها وإن نزلن، وتعلق بها حكمان: حرمت هي على أصول زوجها وإن علوا وفروعه وإن نزلوا.

 فائدة (61) [تبعـض الأحكـام]

من الأحكام ما تثبت أحكامها من وجه دون وجه بحسب أسبابها ومآخذها؛ كشهادة العدل لأصوله وفروعه ونحوهم لا تقبل، وتقبل عليهم، وضده العدو([29]) بشهادته على عدوه لا تقبل، وله تقبل، والسرقة توجب رد المال والقطع إذا ثبتت بنصابها التام، وهو شهادة عدلين فأكثر، فإن شهد رجل وامرأتان، أو شهد رجل وحلف المدعي؛ ثبت المال لكمال نصابه دون القطع لعدم كمال نصابه، وإذا رهن شيئاً، فأقر به لغيره؛ قبل على نفسه، فيرده لمن أقرَّ به إذا انفك الرهن، أو يرد قيمته إن بيع في الرهن ولم يقبل على الراهن؛ لأن الإقرار يقبل على نفسه لا على غيره؛ فنعتبر الأمرين. ومثله إذا أقر بجناية الرهن؛ قبل على نفسه لا على المرتهن ما لم يقم بينة بذلك، أو يصدقه المرتهن في المسألتين.

ولهذه المسائل نظائر متعددة يؤخذ من قول الأصوليين: الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، ومن قول الفقهاء: تتبعض الأحكام بحسب أسبابها. والله أعلم.

 فائدة (62) [الطـلاق المشتبـه]

قول الأصحاب رحمهم الله في بعض مسائل الطلاق المشتبه فيه أو في وجود ما علق عليه: «والاحتياط الْتزام الطلاق». فيه نظر ظاهر؛ فإن الاحتياط يحسن في توقي المشتبهات إذا لم تدخل العبد في محذور شرعي، فإذا أدخلته فيه فترك الاحتياط هو المتعين، وذلك أن الطلاق أبغض الحلال إلى الله([30])؛ لما فيه من كثير من المفاسد وزوال كثير من المصالح، فمتى قلنا: الاحتياط الْتزام الطلاق؛ وقعنا في هذه المحاذير ونحن معنا الأصل وهو العصمة؛ فإن الأصل بقاء النكاح حتى نجزم بزواله؛ فتمسكنا بهذا الأصل أولى بنا من تركه تمسكاً بالاحتياط، ونظير ذلك أن من عنده مال مشتبه وعليه دين أو واجبات مالية لا يمكن أداؤها إلا بذلك المال المشتبه؛ فليس له أن يقول: أنا أحتاط وأترك هذا المال المشتبه؛ فيترتب عليه ترك واجب محقق. والله أعلم.

 فائدة (63) [حكم نقل الأعضاء]

كثر السؤال في هذه الأيام عما وقع أخيراً في الطب الحديث من أخذ جزء من جسد الإنسان وتركيبه على إنسان آخر مضطر إليه؛ كأخذ لحمة من جسده لسد شفة آخر أو لأنفه، أو أخذ عين الحي الذي على وشك التلف وتركيبها في محل عين آخر، ومنه أخذ الدم من إنسان لآخر لتقوية دمه. وما أشبه ذلك؛ فهل مثل هذه الأمور تسوغ لما فيها من المصالح المعروفة ورضى من أخذت منه أم لا تسوغ أم يفرق بين ما تعظم مصلحته جدًّا وتقلُّ مضرته ومفسدته فيسوغ وما ليس كذلك فلا يسوغ؟

الجواب: ونسأل الله الإعانة والتوفيق لإصابة الصواب: جميع المسائل التي تَحْدُثُ في كل وقت سواء حدثت أجناسها أو أفرادها يجب أن تتصور قبل كل شيء، فإذا عرفت حقيقتها وشخصت صفاتها، وتصورها الإنسان تصوراً تاماًّ بذاتها ومقدماتها ونتائجها: طبقت على نصوص الشرع وأصوله الكلية، فإن الشرع يحل جميع المشكلات؛ مشكلات الجماعات والأفراد، ويحل المسائل الكلية والجزئية، يحلها حلًّا مرضيًّا للعقول الصحيحة والفطر المستقيمة، بشرط أن ينظر فيه البصير من جميع نواحيه وجوانبه الواقعية والشرعية.

فهذه المسألة قبل كل شيء نحن واقفون على الحياد؛ حى يتضح لنا اتضاحاً تامًّا الجزم بأحد القولين.

فنقول: من الناس من يقول: هذه الأشياء لا تجوز؛ لأن الأصل أن بدن الإنسان ليس له التصرف فيه بإتلاف وقطع شيء منه والتمثيل به؛ لأنه أمانة عنده لله، ولهذا قال تعالى: {{وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}} [البقرة: 195] .

والمسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه ([31])، أما المال؛ فإنه يباح بإباحة صاحبه وبالأسباب التي جعلها الشارع وسيلة لإباحة التملكات، وأما الدم؛ فلا يباح بوجه من الوجوه، ولو أباحه صاحبه لغيره سواء كان نفساً أو عضواً أو دماً أو غيره؛ إلا على وجه


القصاص بشروطه، أو في الحالة التي أباحها الشارع، وهي أمور معروفة ليس منها هذا المسؤول عنه، ثم إن ما زعموه من المصالح للغير معارض بالمضرة اللاحقة لمن قطع منه ذلك الجزء؛ فكم من إنسان تلف أو مرض بهذا العمل؟!

ويؤيد هذا قول الفقهاء: من ماتت وهي حامل بحمل حيٍّ؛ لم يحل شق بطنها لإخراجه، ولو غلب على الظن أو لو تيقنا خروجه حيًّا إلا إذا خرج بعضه حيًّا؛ فيشق للباقي([32])، فإذا كان هذا في الميتة؛ فكيف حال الحي؟! فالمؤمن بدنه محترم حيًّا وميتاً.

ويؤيد هذا أيضا أنَّ الدَّم نجس خبيث، وكل نجس خبيث لا يحل التداوي به مع ما يخشى من أخذ دم الإنسان من هلاك أو مرض؛ فهذا من حجج هذا القول.

ومن الناس من يقول: لا بأس بذلك لأننا إذا طبقنا هذه المسألة على الأصل العظيم المحيط الشرعي صارت من أوائل ما يدخل فيه، وإن ذلك مباح، بل ربما يكون مستحبًّا، وذلك أن الأصل إذا تعارضت المصالح والمفاسد والمنافع والمضار، فإن رجحت المفاسد أو تكافأت؛ منع منه، وصار درء المفاسد في هذه الحال أولى من جلب المصالح، وإن رجحت المصالح والمنافع على المفاسد والمضار؛ اتبعت المصالح الراجحة، وهذه المذكورات مصالحها عظيمة معروفة، ومضارها إذا قُدِّرت؛ فهي جزئية


يسيرة منغمرة في المصالح المتنوعة. ويؤيد هذا أن حجة القول الأول، وهي أن الأصل أن بدن الإنسان محترم لا يباح بالإباحة متى اعتبرنا فيه هذا الأصل، فإنه تباح كثير من ذلك للمصلحة الكثيرة المنغمرة في المفسدة بفقد ذلك العضو أو التمثيل به؛ فإنه يباح لمن وقعت فيه الأكلة التي يخشى أن ترعى بقية بدنه يجوز قطع العضو المتآكل لسلامة الباقي، وكذلك يجوز قطع السلع التي لا خطر في قطعها، ويجوز التمثيل في البدن بشق البطن أو غيره للتمكن من علاج المرض، ويجوز قلع الضرس ونحوه عند التألم الكثير، وأمور كثيرة من هذا النوع أبيحت لما يترتب عليها من حصول مصلحة أو دفع مضرة.

وأيضاً؛ فإن كثيراً من هذه الأمور المسؤول عنها يترتب عليها المصالح من دون ضرر يحدث، وما كان كذلك؛ فإن الشارع لا يحرمه، وقد نبه الله على هذا الأصل في عدة مواضع من كتابه، ومنه قوله تعالى عن الخمر والميسر: {{قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}} [البقرة: 219] ؛ فمفهوم الآية أن ما كانت منافعه ومصالحه أكثر من مفاسده وإثمه؛ فإن الله لا يحرمه ولا يمنعه.

وأيضاً؛ فإن مهرة الأطباء المعتبرين متى قرروا تقريراً متفقاً عليه أنه لا ضرر على المأخوذ من جسده ذلك الجزء، وعرفنا ما


يحصل بذلك من مصلحة الغير؛ كانت مصلحة محضة خالية من المفسدة.

وإذا كان كثير من أهل العلم يجوزون بل يستحسنون إيثار الإنسان غيره على نفسه بطعام أو شراب هو أحق به منه، ولو تضمن ذلك تلفه أو مرضه ونحو ذلك؛ فكيف بالإيثار بجزء من بدنه لنفع أخيه النفع العظيم من غير خطر تلف، بل ولا مرض، وربما كان في ذلك نفع له إذا كان المؤثر قريباً أو صديقاً خاصًّا أو صاحب حق كبير أو أخذ عليه نفعاً دنيوياً ينفعه أو ينفع من بعده؟!

ويؤيد هذا أن كثيراً من الفتاوى تتغير بتغير الأزمان والأحوال والتطورات، وخصوصاً الأمور التي ترجع إلى المنافع والمضار، ومن المعلوم أن ترقي الطب الحديث له أثره الأكبر في هذه الأمور كما هو معلوم مشاهد، والشارع أخبر بأنه ما من داء إلا وله شفاء، وأمر بالتداوي ([33]) خصوصاً وعموماً، فإذا تعين الدواء وحصول المنفعة بأخذ جزء من هذا ووضعه في الآخر من غير ضرر يلحق المأخوذ منه؛ فهو داخل فيما أباحه الشارع؛ وإن كان قبل ذلك وقبل ارتقاء الطب فيه ضرر أو خطر.

فيراعى كل وقت بحسبه، وبهذا نجيب عن كلام أهل العلم القائلين بأن الأصل في أجزاء الآدمي تحريم أخذها وتحريم التمثيل بها؛ فيقال: هذا يوم كان ذلك خطراً وضرراً، وربما أدى إلى


الهلاك، وذلك أيضاً في الحالة التي يهتك فيها بدن الآدمي وتنتهك حرمته، فأما في هذا الوقت؛ فالأمران مفقودان: الضرر مفقود بوجه، وانتهاك الحرمة مفقود؛ فإن الإنسان قد رضي كل الرضى بذلك، واختاره. وبذلك[(38)] مختاراً([34]) مطمئناً لا ضرر عليه ولا سقوط شيء من حرمته، والشارع إنما أمر باحترام الآدمي تشريفاً له وتكريماً، والحالة الحاضرة غير الحالة الغابرة، ونحن إنما أجزنا ذلك إذا كان المتولي لذلك طبيباً ماهراً وقد وجدت تجارب عديد للنفع وعدم الضرر؛ فبهذا يزول المحذور.

ومما يؤيد ذلك ما قاله غير واحد من أهل العلم؛ منهم شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم: أنه إذا أشكل عليك شيء: هل هو حلال، أو حرام، إما مأمور به أو منهي عنه؛ فانظر إلى أسبابه الموجبة وآثاره ونتائجه الحاصلة، فإنْ كانت منافع ومصالح وخيرات وثمراتها طيبة؛ كان من قسم المباح أو المأمور به، وإنْ كان بالعكس؛ كانت بعكس ذلك؛ فطبق هذه المسألة على هذا الأصل، وانظر أسبابها وثمراتها؛ تجدها أسباباً لا محذور فيها، وثمراتها خير الثمرات. وإذا قال الأولون: أما ثمراتها؛ فنحن نوافق عليها، ولا يمكننا إلا الاعتراف بها، ولكن الأسباب محرمة كما ذكرنا أن الأصل في أجزاء الآدمي التحريم، وأن استعمال الدم استعمال للدواء الخبيث؛ فقد أجبنا عن ذلك بأن العلة في تحريم الأجزاء إقامة حرمـة

الآدمي ودفعاً للانتهاك الفظيع، وهذا مفقود هنا.

وأما الدم؛ فليس عنه جواب؛ إلا أن نقول: إن مفسدته تنغمر في مصالحه الكثيرة، وأيضاً ربما ندعي أن هذا الدم الذي ينقل من بدن إلى آخر ليس من جنس الدم الخارج الخبيث المطلوب بُعْدُهُ واجتنابه، وإنما هذا الدم هو روح الإنسان وقوته وغذاؤه؛ فهو بمنزلة الأجزاء أو دونها، ولم يخرجه الإنسان رغبة عنه، وإنما هو إيثار لغيره وبذل من قوته لقوة غيره، وبهذا يخف خبثه في ذاته وتلطفه آثاره الحميدة، ولهذا حرم الله الدم المسفوح، وجعله خبيثاً؛ فدلَّ على أن الدماء في اللحم والعروق وفي معدنها قبل بروزها ليس محكوماً عليها بالتحريم والخبث.

فقال الأولون: هذا من الدم المسفوح؛ فإنه لا فرق بين استخراجه بسكين أو إبرة أو غيرها، أو ينجرح الجسد من نفسه فيخرج الدم؛ فكل ذلك دم مسفوح محرم خبيث؛ فكيف تجيزونه؟!

ولا فرق بين سفحه لقتل الإنسان والحيوان، أو سفحه لأكله، أو سفحه للتداوي به؛ فمن فرق بين هذه الأمور؛ فعليه الدليل.

فقال هؤلاء المجيزون: هب أنا عجزنا عن الجواب عن حل الدم المذكور؛ فقد ذكرنا لكم من أصول الشريعة ومصالحها ما يدل على إباحة أخذ أجزاء الإنسان لإصلاح غيره إذا لم يكن فيه ضرر، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً»([35])، و«مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كالجسد الواحد»([36])، فعموم هذا يدل على هذه المسألة، وأن ذلك جائز.

فإذا قلتم: إن هذا في التواد والتراحم والتعاطف كما ذكره النبي صلّى الله عليه وسلّم لا في وصل أعضائه بأعضائه.

قلنا: إذا لم يكن عليه ضرر ولأخيه فيه نفع؛ فما الذي يخرجه من هذا؟ وهل هذا إلا فرد من أفراده؟ كما أنه داخل في الإيثار؟

وإذا كان من أعظم خصال العبد الحميدة مدافعته عن نفس أخيه وماله، ولو حصل عليه ضرر في بدنه أو ماله؛ فهذه المسألة من باب أولى وأحرى، وكذلك من فضائله تحصيل مصالح أخيه وإن طالت الشقة وعظمت المشقة؛ فهذه كذلك، وأولى.

ونهاية الأمر أنّ هذا الأمر غير موجود في أول هذه الأمة لخطره وضرره في ذلك الوقت؛ فحيث انتقلت الحال إلى ضدها وزال الضرر والخطر لِمَ لا يجوز ويختلف الحكم فيه لاختلاف العلة؟

ويلاحظ أيضاً في هذه الأوقات التسهيل ومجاراة الأحوال إذا لم يخالف نصًّا شرعيًّا؛ لأن أكثر الناس لا يستفتون ولا يبالون، وكثير ممن يستفتي إذا أفتي بخلاف رغبته وهواه؛ ترك الْتزامَ ذلك؛ فالتسهيل عند تكافىء الأقول يخفف الشرَّ، ويوجب أن يتماسك


الناس بعض التماسك؛ لضعف الإيمان، وعدم الرغبة في الخير أو نقصها، كما يلاحظ أيضاً أن يعرف الناس أن الدين الإسلامي لا يقف حاجزاً دون المصالح الخالصة أو الراجحة، بل يجاري الأحوال والأزمان، ويتتبع المنافع والمصالح الكلية والجزئية، فإن الملحدين يموهون على الجهال أن الدين الإسلامي لا يصلح لمجاراة الأحوال والتطورات الحديثة، وهم في ذلك مفترون فإن الدين الإسلامي به الصلاح المطلق من كل وجه: الكلي والجزئي، وهو حلاَّل لكلِّ مشكلة خاصة أو عامة، وغيره قاصر من جميع الوجوه.

 فائدة (64) [الدعاء لوازمه ومتمماته]

الأدعية القرآنية والنبوية الأمر بها أو الثناء على الداعين بها يستتبع لوازمها ومتمماتها؛ فسؤال الله الهداية يستدعي فعل جميع الأسباب التي تدرك بها الهداية العلمية والعملية، وسؤال الله الرحمة والمغفرة يقتضي مع ذلك فعل الممكن من الأسباب التي تنال بها الرحمة والمغفرة، وهي معروفة في الكتاب والسنّة، وإذا قال الداعي: «اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي...»([37]) إلى آخره؛ يقتضي مع هذا الطلب والالتجاء إلى الله أن يسعى العبد في إصلاح دينه بمعرفة الحق واتباعه ومعرفة الباطل واجتنابه، ودفع فتن الشبهات والشهوات، ويقتضي أن يسعى ويقوم بالأسباب التي تصلح بها دنياه، وهي متنوعة بحسب أحوال الخلق.

وإذا قال الداعي: {{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}} [الأحقاف: 15] ؛ فمع هذا التضرع إلى الله يسعى في شكر نعم الله عليه وعلى والديه؛ اعترافاً، وثناءً، وحمداً، واستعانةً بها على طاعته، وتَعَرُّفِ الأعمال الصالحة التي ترضي الله والعمل بها، والسعي في تربية الذرية تربية إصلاحية دينية، وهكذا جميع الأدعية صريحة في الاتكال والتضرع إلى الله والالتجاء إليه في حصول المطالب المتنوعة، وصريحة في الاجتهاد في فعل كل سبب ينال به ذلك المقصود؛ فإن الله تعالى جعل للمطالب كلها أسباباً بها تنال، وأمر بفعلها مع قوة الاعتماد على الله.

والدعاء يعبر عن قوة الاعتماد على الله، ولهذا كان الدعاء روح العبادة ومخها، وإذا سأل العبد ربه أن يتوفاه مسلماً وأن يتوفاه مع الأبرار كان سؤالاً لحسن الخاتمة، ويستدعي فعل الأسباب والتوفيق للأسباب التي تنال بها الوفاة على الإسلام، ولهذا يقول الله تعالى: {{وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}} [آل عمران: 102] ، وذلك بفعل الأسباب والاعتماد على مسببها. والله أعلم.


 فائدة (65) [العلـوم قسمـان]

العلوم قسمان:

ـ علوم نافعة تزكي النفوس، وتهذب الأخلاق، وتصلح العقائد، وتكون بها الأعمال صالحة مثمرة للخيرات، وهي العلوم الشرعية وما يتبعها مما يعين عليها من علوم العربية.

ـ والنوع الثاني: علوم لا يقصد بها تهذيب الأخلاق وإصلاح العقائد والأعمال، وإنما يقصد بها المنافع الدنيوية فقط؛ فهذه صناعة من الصناعات، وتتفاوت بتفاوت منافعها الدنيوية، فإن قصد بها الخير وبنيت على الإيمان والدين؛ صارت علوماً دنيوية دينية، وإن لم يقصد بها الدين؛ صارت علوماً دنيوية محضة، لا غاية شريفة لها، بل غاياتها دنية ناقصة جدًّا، فانية، وربما ضرت أهلها من وجهين:

أحدهما: قد تكون سبباً لشقائهم الدنيوي وهلاكهم وحلول المثلات بهم؛ كما هو مشاهد في هذه الأوقات، حيث صار ضرر العلوم التي أحدثت المخترعات والأسحلة الفتاكة شرًّا عظيماً على أهلها وغيرهم.

والثاني: أن أهلها تحدث لهم الزهو والكبر والإعجاب بها وجعلها هي الغاية المقصودة من كل شيء؛ فيحتقرون غيرهم، وتأتيهم علوم الرسل التي هي العلوم النافعة فيدفعونها، ويتكبرون عنها فرحين بعلومهم التي تميزوا بها عن كثير من الناس؛ فهؤلاء ينطبق عليهم أتم الانطباق قوله تعالى: {{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ *}} [غافر: 83] ؛ فنعوذ بالله من علم لا ينفع.

 فائدة (66) [الفرق بن البيع والإجارة وبين الإجارة والجعالة]

يفرق بين البيع والإجارة بأمور:

ـ منها: أن البيع واقع على الأعيان والمنافع تستتبعها، والإجارة واقعة على المنافع.

ـ منها: ما يتفرع على هذا أن الإجارة لا تقع إلا على نفع عين تبقى، والبيع يقع على ما يبقى وما يستهلك.

ـ منها: جواز إجارة الحر وإجارة الوقف، بخلاف البيع، وكذلك الأرض الخراجية تجوز إجارتها ولا يجوز بيعها في المشهور من المذهب. والصحيح جواز ذلك.

ـ منها: ويفرق بين الإجارة والجعالة بفروق:

ـ منها: أن الإجارة لا بد أن يكون العمل والزمن معلوماً. والجعالة قد يكونان معلومين وقد يكونان مجهولين.


ـ ومنها: الجعالة تجوز على فعل القرب دون الإجارة.

ـ ومنها: الإجارة عقد لازم والجعالة عقد جائز.

ـ ومنها: الإجارة تكون مع معين والجعالة قد تكون مع معين ومع غير معين.

 فائدة (67) [الوقف على حجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم]

قول صاحب «الرعاية»([38]) رحمه الله: «ويصح وقف عبده على حجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم لإخراج ترابها وإشعال قناديلها وإصلاحها لا لإشعالها وحده وتعليق ستورها الحرير والتعليق وكنس الحائط ونحوه».

هذا فيه نظر، بل الصواب الموافق للشريعة ولقاعدة المذهب المنع في الصورتين؛ لأنه لا يصح الوقف إلا على جهة قربة؛ فكيف بالمعصية أو ما اشتمل على معصية؟!

وكذلك قول صاحب «الإقناع» وغيره: «لا يصح الوقف على الكنائس والديرة ونحوها، بل يصح على من ينزلها من مارٍّ ومجتاز فقط». وعللوا ذلك بأن الوقف عليهم لا على البقعة أيضاً فيه نظر؛ فـإنه إعانـة ظاهرة على عمارة بيوت الكفر، ومـا كان كذلك؛ فهـو

  ممنوع. والله أعلم.

 فائدة (68) [كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية في أوقات الفترات]

سئلت عن معنى قول شيخ الإسلام ابن تيمية: «وفي أوقات الفترات وأمكنة الفترات يثاب الرجل على ما معه من الإيمان القليل ويغفر الله فيه لمن لم يقم الحجة عليه ما لا يغفر به لمن قامت الحجة عليه؛ كما في الحديث: «يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاةً ولا صياماً ولا حجًّا ولا عمرة؛ إلا الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة، ويقولون: أدركنا آباءنا وهم يقولون: لا إله إلا لله. فقيل لحذيفة بن اليمان: وما تغني عنهم لا إله إلا الله؟ فقال: تنجيهم من النار ـ ثلاثاً ـ»([39]).

قلت: قد أجاب عنها بعدها بقوله: «وأصل ذلك أن المقالة التي هي كفر بالكتاب أو السنّة أو الإجماع يقال: هي كفر قولاً يطلق؛ كما دل على ذلك الدليل الشرعي؛ فإن الإيمان من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله، ليس ذلك مما يحكم الناس فيه بظنونهم وأهوائهم، ولا يجب أن يحكم في كل شخص قال ذلك أنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير وتنتفي موانعه، مثل من قال: إن


الخمر أو الربا حلال لقرب عهده بالإسلام، أو لنشوئه في بادية بعيدة، أو سمع كلاماً من القرآن أو السنّة؛ فأنكره ولم يعتقد أنه من القرآن أو من أحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كما كان بعض السلف ينكر أشياء حتى يثبت عنده أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قالها، وكما كان الصحابة يشكون في أشياء مثل رؤية الله([40]) وغير ذلك حتى يسألوا عن ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومثل الذي قال:

«إذا أنا متُّ؛ فاسحقوني وذروني في اليمِّ لعلِّي أضل([41]) عن الله»، ونحو ذلك؛ فإن هؤلاء لا يكفرون حتى تقوم عليهم الحجة بالرسالة؛ كما قال تعالى: {{لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}} [النساء: 165] ، وقد عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، وقد أشبعنا الكلام في القواعد في هذا الجواب في أماكنها». انتهى كلامه رحمه الله.

 فائدة (69) [حديث: «ألحقو الفرائض بأهلها»]

قوله صلى الله عليه وسلم: «ألحقوا الفرائض بأهلها؛ فما بقي؛

فلأولى رجل»([42]): يدل هذا الحديث على أصول مهمة في الفرائض.

ـ منها: وجوب إلحاق أهل الفروض فروضهم إذا كانوا وارثين.

ـ ومنها: تقديم الفروض على العصبات.

ـ ومنها: فيها دلالة على العول: فإن الفروض إذا زادت عن أصل المسألة؛ فقد أمرنا النبي صلّى الله عليه وسلّم أن نلحقها بأهلها، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالعول الذي فيه العدل بين الجميع.

ـ ومنها: أن العصبة لا يرثون مع استغراق الفروض حتى في الحمارية([43]).

ـ ومنها: أن العاصب هو من ليس بذي فرض، وأن حكمه أن يأخذ المال إذا انفرد وما بقي بعد الفروض إذا بقي شيء ويسقط بالاستغراق، وأنه إذ اجتمع منهم اثنان فأكثر بلا تميز؛ اشتركوا في هذه الأحكام وإن كان بعضهم أقرب جهة قُدِّم، فإن كانوا في جهة واحدة؛ قدم الأقرب منزلة، فإن كانت منزلتهم واحدة وأحدهم شقيق والآخر للأب؛ قدم الشقيق، وهذا يؤخذ من عموم قوله: «لأولى رجل ذكر».

ـ ومنها: أن عصبات الأقارب هم: الذكور المُدْلِين بأنفسهم أو بواسطة ذكور، وهم الفروع. والأصول: الذكور، وفروع الأصول: الذكور. وأما الزوج والأخ من الأم؛ فإنهم من ذوي الفروض.

ويؤخذ من هذا الحديث أيضاً أنه إذا اجتمع الأب أو الجد مع الابن أو ابن الابن يلحق به فرضه، وهو السدس، والباقي لأقرب رجل، وهو الابن أو ابن الابن، ومع الإناث يأخذ فرضه السدس، وإن بقي شيء أخذه تعصيباً؛ فيدخل في قوله: «فلأولى رجل ذكر»؛ فإنه مثلاً إذا خلف بنتاً وأباً وعمًّا وألحقنا الفروض بأهلها، فأعطينا البنت النصف والأب السدس، بقي الثلث لأولى رجل ذكر، ومن المعلوم أن الأب أقرب من العم ومن الإخوة وبنيهم. والله أعلم.

 فائدة (70) [حفظ الأمانة من التلف]

من عنده أمانة لغيره؛ فعليه حفظها في حرز مثلها عن الضياع، هذا في كل أمانة، ثم إن كانت حيواناً لزمه إعلافها وسقيها وحفظها عن الحر الشديد والبرد والمتالف. وإن كانت صوفاً ونحوها مما يحتاج إلى دفع الحرق منه لزمه ذلك، وإن حدث خوف عليها لزمه دفع ذلك المخوف مع قدرته، وإن أخذت منه لزمه استخراجها ممّن أخذها، ولو بمطالبته عند الحاكم، ويرجع على صاحبها بمؤونة جميع ذلك؛ لأنه مأمور به شرعاً وعرفاً، وكل هذا داخل في حفظ الأمانة وأدائها.

 فائدة (71) [محبة الأخيار والاتصال بهم]

كتبت إلى بعض الفضلاء مكتوباً؛ قلت فيه: أخبرك يا أخي بما [في] قلبي لك من الود المبني على ما وصل إليّ من أخلاقكم الجميلة وسيرتكم الحميدة والرغبة الأكيدة بالاتصال بأمثالكم من الأخيار؛ فإن في الاتصال بالأخيار فوائد عديدة:.

ـ أكبرها وأفضلها أن هذا طاعة لله ورسوله، ومما يحبه الله ورسوله.

ـ ومنها: أن هذا تابع لمحبة الله ورسوله؛ فتمام محبة الله ورسوله محبة من يحبه الله ورسوله.

ـ ومنها: ما في ذلك من النصوص الحاثة على هذه المحبة، منها حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فذكر رجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه، وتفرقا عليه([44]).

ـ ومنها: أنه ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم عدة أدعية في هذا الشأن، منها قوله: «اللهم! إني أسألك حبك وحب من يحبك»([45]). وكل مطلوب مسؤول كما عليك أن تسأله من الله؛ فعليك أن تسعى بجميع الأسباب الجالبة له المحصلة له؛ فالمؤمن يدعو الله بحصول المطالب الدينية والدنيوية، وفي دفع المكاره، ومن لازم ذلك السعي في تحصيل المطلوب وفي دفع المكروه؛ فيجمع بين الدعاء والسعي في نيل المطلوب، فالدعاء وحده من دون سعي قليل الجدوى.

ـ ومنها: أنه من أعظم المكاسب وأجل المغانم كسب صداقة الأخيار واغتنام أدعيتهم في الحياة وبعد الممات.

ـ ومنها: أنه بسبب ذلك رُبَّما حصل إفادة أو استفادة من الطرفين، أو نصيحة من أحد الجانبين.

ـ ومنها: أنه بسبب ذلك يحصل من الأدعية والتوجيهات القلبية ما ينتفع به كُلٌّ منهما من الآخر في الحياة وبعد الممات.

ـ ومنها: أن هذا من البشرى في الحياة الدنيا، فمتى وفق العبد لمحبة الصالحين وصحبتهم والاتصال بهم؛ رجي أن يدخل تحت قوله تعالى: {{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا *}} [مريم: 96] ؛ أي: منه ومن عباده الصالحين.

ـ ومنها: أن الله تعالى يجمع لأهل دار السعادة جميع المسرات التي من جملتها الاجتماع في الجنة والمنازل العالية


بمن يحبهم ويتصل بهم؛ كما قال تعالى: {{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ}} [الرعد: 23] ؛ فالأزواج هم النظراء في العمل والمحبة، وإن دخل فيه الزوجات بوجه آخر؛ فبعض هذه الفوائد تكفي في الترغيب في محبة الأخيار والاتصال بهم.

 فائدة (72) [بيان مرتبة الرسول صلّى الله عليه وسلّم]

قال تعالى: {{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ}} [الكهف: 110] : في هذه الآية وأشباهها بيان مرتبة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وأن وصفه للرسول أنه بشر مثل سائر البشر يحتاج إلى ما يحتاج إليه البشر ويجري عليه من الأمور ما يجري على البشر، وليس له من الأمر شيء ولا من خصائص الرب ولا من حقوقه الخاصة شيء، وأنه تميز عن غيره بالرسالة والوحي وما ترتب عليهما من الفضائل والكمالات الإنسانية وقد امتثل صلى الله عليه وسلم هذا الأمر في عدة مناسبات: في سهوه في الصلاة، وفي المشاورات لأصحابه ورجوعه إلى قولهم في كثير من الأمور، وفي الحكم بين الناس، وفي غيرها من الأمور؛ ليحقق هذا الأمر، ويعرف الناس ما يلزمهم، وليكون قدوة للخلق، ولذا كان العلماء يقولون: إن الواجب في حق الأنبياء الصدق في كل ما يقولون، والعصمة في كل ما يبلغون، وأن يكونوا على أكمل الصفات سالمين من كل رذيلة، متحلين بكل فضيلة ،ويستحيل في حقهم ضد ذلك، ويجوز عليهم الأعراض البشرية التي أشرنا لها. والله أعلم.

 فائدة (73) [التحقق من دخول الأحكام الجزئية في الأحكام الكلية]

من أراد الحكم على شيء من الجزئيات؛ فعليه أن يبين دخولها في الأحكام الكلية، وهذا أصل كبير نافع، من أحْكَمَه علماً وعملاً؛ نجح، ومن لم يحكمه؛ غلط غلطاً كبيراً أو صغيراً بحسب ما حكم به من الجزئيات، وجميع الحوادث وجميع أفعال المكلفين داخلة تحت هذا الأصل، ولنذكر لهذا نموذجاً يفتح بابه، ويستدل به على  غيره:

من ذلك أن الشارع مدح من اتَّصف بالإيمان والتقوى والصلاح والعلم والعمل الصالح والإحسان في عبادة الخالق والإحسان إلى الخلق بحسب أحوالهم، وذم من اتَّصف بضد ذلك، فن أراد أن يمدح أحداً من الناس شخصاً أو طائفة أو يذم؛ فعليه أن يبين دخول ما مدحه أو قدح فيه في الاسم الشرعي الذي علق عليه الشارع المدح أو الذم، فإن علقه بغير الأسماء الشرعية؛ عظم غلطه، وانحرف في حكمه.

وكذلك أمر الشارع بالعدل ونهى عن الظلم، فمن أراد الحكم على شيء من الأشياء بأنه عدل أو ظلم أو أن فاعله عادل أو ظالم؛ فعليه أن يبين دخوله في نص الشارع الكلي، وكذلك أمر بإشهاد العدول وقبل شهادتهم بحسب تفاوت الأحكام الشرعية، فمتى شهد أحد بشيء من الأشياء؛ فعلى من يحكم بشهادته أن يتحقق دخوله في العدالة الشرعية المعتبرة.وكذلك رد كثيراً من الأمور إلى العرف والمعروف، وأمر بها ونهى عن المنكر الذي هو ضدها، وذلك كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمعاشرة بالمعروف والقيام بالحقوق بالمعروف غير المنكر، فعلى من أراد أن يحكم بشيء من ذلك؛ فعليه أن يبين دخول ذلك المحكوم فيه بالعرف والمعروف أو المنكر.

وكذلك نهى عن بيع الغرر ومعاملات الغرر؛ فعلى من أراد أن يحكم في معاملة جزئية أن يحقق فيها هذا الوصف، فإن تحقق دخول الجزئي في الأصل الكلي؛ فليحكم فيه، وإلا؛ فليتوقف عن النهي عنه إلا بدليل، وكذلك أمور كثيرة جدًّا علق الشارع عليها أحكاماً، فيشتبه الأمر في جزئياتها وأفرادها: هل فيها ذلك الوصف؟ فالطريق إلى الحكم العلم التام بالواقع ليتمكن من الحكم عليه، وعند الاشتباه في الجزئيات، يرجع فيه إلى أهل الخبرة فيه.

 فائدة (74) [نصيحة للولاة والأمراء]

كتب رجل كتاباً إلى بعض الأمراء، فقال بعد افتتاح الكتاب: بعده؛ الداعي لهذا بذل النصيحة والتذاكر في أمر أغلب الأمراء والولاة في غفلة عنه؛ إما جهلاً، وإما تهاوناً وعدم اعتناء، وذلك أن ولاية الإمارة كبيرة كانت أو صغيرة من ضرورات الناس ومن الواجبات الشرعية؛ لما يترتب عليها من المصالح الكثيرة ودفع المفاسد المتنوعة؛ فيجب على من تولى على الناس أن يتخذ الولاية ديناً وقربة يتقرب له[46] إلى الله، ووسيلة يتوسل بها إلى إقامة الشرع والعدل، وأن يجتهد في تحقيق هذه النية ويخلص لله فيها، ويستعين بالله على إقامة ما يتعلق بولايته من الواجبات العامة والخاصة؛ فبذلك يعينه الله، وذلك([47]) تهون عليه المشاق المعترضة في إقامة العدل، وبذلك تعلو درجته عند الله ويعلو مقامه عند الخلق، وبذلك يمكنه الله، ويدفع عنه الأعداء من الحاسدين وغيرهم، ولا يتشبه الموفق بأغلب الناس الذين لا غرض لهم من نيل الولاية إمارة أو غيرها؛ إلا الترأس والتوسل إلى المآكل والأطماع الضارة؛ فإن هذا هبوط وإهمال لما فرض على العبد، وطريق إلى معاصٍ كثيرة، واعتداء على الخلق لتحصيله أغراضه الفاسدة الضارة، ومع ذلك؛ فمن كانت هذه حاله الغالب أن تكون عاقبته أسوأ العواقب وطريقه شر الطرائق؛ فما أولى بالعبد أن ينظر إلى واجبه الحاضر وإلى ما يقربه إلى مولاه وإلى العواقب المتأخرة المترتبة على سلوك طريق العدل، أو على ضده.

نسأل الله تعالى أن لا يكلنا وإياكم إلى أنفسنا طرفة عين، وأن يمدنا وإياكم بعونه وتوفيقه.


 فائدة (75) [تأييد الله الخواص عباده]

قوله تعالى في حق خواص المؤمنين: {{وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ}} [المجادلة: 22] : هذا التأييد من الله لهم هو تأييدهم بالأسباب التي نالوا بها مراتب الإيمان؛ فأيدهم بقوة نالوا بها العلم، وبقوة نالوا بها اليقين والإيمان، وبقوة نالوا بها الصبر والتوكل والخوف والرجاء والإنابة، وبقوة قاموا بها بالجهاد؛ فالله تعالى هو المتفضل عليهم بالسبب وسبب السبب، كما أنه المتفضل عليهم بالجزاء على ذلك؛ فمنه الفضل السابق واللاحق، وبتأييده لهم بالأسباب ومسبباتها تمت عليهم النعمة؛ كما قال تعالى: {{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ *فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ *}} [الحجرات: 7 ـ 8] ، وبهذا وبقوله تعالى: {{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ}} [المائدة: 16] تعرف حكمة الله في تأييد هؤلاء الخواص بمعالي الأخلاق ومحاسن الأعمال، كما أن مثل قوله تعالى: {{فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}} [الأعراف: 30] الآية يعرف بها حكمة الله في عدم هداية الذين اختاروا الشقاء والضلالة على السعادة والهدى وولاية الشياطين على ولاية رب العالمين؛ فكان من الحكمة الربانية التي يحمد الله عليها أكمل حمد أنه ولَّى هؤلاء الأشقياء ما تولوه، واختاروه لأنفسهم، وأنهم حين جاءهم الهدى والحق فردوه ولم يؤمنوا به؛ قلب الله قلوبهم وختم عليها؛ فله الحمد على ذلك كما له الحمد على فضله وإحسانه.

 فائدة (76) [فوائـد الجهـاد]

جهاد هذه الأمة هو الجهاد المشروع في الكتاب والسنّة، وله فائدتان عظيمتان ضروريتان:

إحداهما: دفع عدوان المعتدين على الإسلام والمسلمين الذي لولاه لذهبت الأديان، واضمحل الإسلام من عدوان الظالمين: {{وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا}} [الحج: 40] ، {{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ *}} [الحج: 39] .

والفائدة الثانية: الإحسان إلى الخلق كلهم بنشر الدين الواجب على الخلق كلهم الذي لا تحصل سعادتهم وفلاحهم إلا به، ودعوة المكلفين كلهم إلى ما خلقوا له من عبادة الله وحده لا شريك له وتركهم كل ما ينافي ذلك ويضاده.

وهذا غاية نفع الخلق والإحسان إليهم، {{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}} [الأنفال: 39] ، وهذا من أعظم محاسن الإسلام؛ فإنه لم يكن الغرض من جهاد الدين مجرد السيطرة على الخلق ولا استعبادهم للمخلوقين، ولا القصد الفناء والتدمير، ولا هو للظلم المتنوع باسم العدالة كما هي مقاصد حروب المنحرفين عن الدين، ولذلك اختلفت آثارها؛ فآثار جهاد الدين الإسلامي([48]) نشر العدل والرحمة والخيرات والسعادة والفلاح والصلاح المتنوع، وآثار غيره الفناء والتدمير واستعباد الخلق وظلمهم في دمائهم وأموالهم وأخلاقهم.

 فائدة (77) [شجـرة الإيمـان]

قال الله تعالى: {{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طِيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ *تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ *}} [إبراهيم: 24 ـ 25] : مثل الله كلمة التوحيد والإيمان كمثل هذه الشجرة الطيبة الموصوفة بأن لها أصولاً وفروعاً وثماراً؛ فأصول هذه الكلمة شهادة التوحيد والإيمان بأصول الدين كلها، وفروعها القيام بشرائع الإسلام الظاهرة والباطنة من حقوق الله وحقوق الخلق، وثمارها ما يتحلى به صاحبها من كل خلق جميل وهدي حسن وسمت صالح وأوصاف عالية جليلة، وثمار ذلك من الثواب العاجل والآجل، فمتى تمت هذه الشجرة؛ كملت فروعها ونمت ثمارها ولذ جناها، ومتى نقصت أو ضعفت؛ تبعتها هذه الأمور؛ فضعفت الفروع، وقلت الثمار أو عدمت؛ فحقيق بكلمة هذه حالها أن يبلغ العبد من معرفتها والعمل بها غاية مقدوره لتوقف سعادته وفلاحه عليها. والله أعلم.

 فائدة (78) [صور الوكالة في الزواج]

إذا وكَّل الوليُّ الغائبُ وكيلاً على نكاح موليته؛ فله ثلاث صور:

ـ إما أن يعينه، فيقول: وكلتك تُزَوِّجُ فلانة فلاناً؛ فهذا لا يستفيد به الوكيل إلا العقد الأول، فمتى حصلت فرقة فيه وأريد تزويجها زوجاً آخر؛ احتيج توكيل غير التوكيل الأول.

ـ وإما أن يفوض له الوكالة بأن يوكله أن يزوجها متى شاء على أيِّ زوج شاء؛ فهذا يستفيد به الوكيل العقد الأول وما بعده.

ـ الثالث: أن يوكله ويطلق لا يفوضه ولا يعين له زوجاً، بل يقول مثلا: وكلتك في تزويج موليتي؛ فهل يستفيد به العقد الثاني وما بعده أم لا يستفيد به إلا العقد الأول؟

لم أرَ من صرح تصريحاً يزيل الإشكال في هذا، ويتوجه أن يرجع في ذلك إلى قرائن الأحوال؛ فإنهم قالوا: ينعقد التوكيل بما دل عليه، فإن دلت قرائن الأحوال على أنه وكيل لكل عقد تزوج به المرأة وصار غرض الولي اتصال موليته بالأزواج وأن لا يعطلها عن الزواج؛ صار بمنزلة التفويض، وإن كان غرضه فقط هذا الزواج الخاص؛ اختص به. والله أعلم.

 فائدة (79) [مناظرة مع بعض المتكلمين]

وقعت مناظرة بيني وبين رجل من الفضلاء، ولكنه يميل إلى مذهب المتكلمين المنحرفين الذين يقولون: إنَّ العقل يقدم على النصوص الشرعية إذا تعارضت، وأنه يجب تأويل النصوص حتى تتفق مع العقل في مسألة الاستواء والنزول الإلـهي ونحوها تبعاً لأسلافه؛ فقلت له:

حين أوَّلَ بل حرَّفَ نصوص الشرع من جنس التحريفات التي يقولها المتكلمون من الجهمية، ومن وافقهم من الأشعرية ولو في بعض الصفات.

الموجه إليه الخطاب في هذا المقام أحد رجلين:

ـ إما رجل لا يعترف بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وصدقه؛ فهذا يتكلم معه في الأصل في إثبات نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وبيان براهينها القوية الظاهرة الكثيرة؛ فأعيذك بالله أن تكون هذا الرجل، بل أعرف أنك من أعظم من يكفره ولا يعتقد إسلامه.

ـ والرجل الثاني: من يعلم أن محمداً رسول الله حقًّا، وأنه صادق وما جاء به ثابت لا ريب فيه، وأنه إذا أخبرنا بشيء نجزم بثبوت ما أخبرنا به، وأنت لا شك تقول بهذا، ومن قال بهذا؛ فإنه يمتنع عنده أن يجعل العقل مقدماً على خبر الرسول الصحيح الثابت؛ فإيمانك بالرسول وتصديقك له في كل ما أخبر به يوجب عليه([49]) أن تقدم قوله وخبره على كل شيء؛ عقل أو غير عقل.

ثم اعلم يا أخي مع ذلك أنه لا يمكن أن يوجد معقول صحيح مُسَلَّم فيه عند عقلاء الناس يعارض ما جاء به الرسول؛ فمدلول كلام الرسول صدق في أخباره، عدل في أوامره ونواهيه، وإذا أصررت أن العقل الذي تتدعيه يناقض هذه النصوص؛ فهذه دعوى يتمكن كل مبطل من قولها، ولا تغني شيئاً باتفاق الناس؛ فإن عقول أهل الحق المثبتين ما أثبت الله ورسوله كلها متفقة على معنى ما قاله الله ورسوله خاضعة لذلك، مهتدية به، قد ازدادت عقولهم قوة وهداية حين استنارت بالوحي؛ فلا يرضى عاقل أن يقدم عليها آراء المتكلمين المتهافتة المتناقضة المبنية على الخيالات والجهالات والتوهمات.

فقال: ليس عندي شك في صدق الرسول وثبوت خبره، ولكني لا أفهم من الاستواء إلا من جنس استواء الملوك على عروشهم، ولا من النزول إلا نزول المخلوقين من أعلى إلى أسفل، والله تعالى منزه عن مشابهة المخلوقين!

فقلت له: إننا لم نثبت استواء مثل استواء المخلوق، ولا نزولاً كنزوله، وإنما نثبت ما أثبته الله منها ومن غيرها على وجه يليق بعظمة الله ويناسب كماله، مع اعتقادنا أن الله ليس كمثله شيء، وأنه منزه عن النقائص وعن مماثلة المخلوقين؛ فعلينا أن ننتهي إلى الكتاب والسنّة، ولا نتجاوز ذلك؛ فالاستواء معلوم والكيف مجهول، والنزول معلوم والكيف مجهول.

فسكت هذا المتأول، وسكوته يدل على أحد أمرين:

إما رجوع إلى الصواب.

وإما عجز عن نصر باطله.

ولكنه تعصب ورضي بالبقاء عليه، وهو الظاهر؛ إذ لو رجع لصرح لمناظره بذلك.

واعلم أن التأويل الذي قبله أهل العلم هو الذي يقصد به بيان مراد المتكلم، فإن لم يكن كذلك؛ كان من باب التحريف لا من باب التفسير. وتأويلات أهل البدع لبدعهم هي من هذا الباب.

 فائدة (80) [تحريف المنقول والمكابرة في المعقول]

أعظم الكذب والبهتان تحريف المنقول والمكابرة في المعقول.

التحريف: نفي ما دل عليه الكتاب والسنة من معاني أسماء الله وصفاته وأفعاله وأمور الغيب، وجلب معانٍ باطلة لا تدل عليها بوجه من الوجوه.

ومكابرة المعقول: نفي الأمور التي يشترك العقلاء في إثباتها أو إثبات ما يشترك العقلاء في نفيه.

فالمكابرة في الحقيقة جنون في العقل، وكبر في النفس، وعجب وغرور أو اغترار، والواجب في المنقول تصديقه وتصديق ما دل عليه، سواء أدركه الإنسان بعقله أو لم يدركه؛ فإن كثيراً من السمعيات فوق عقول العقلاء لا تهتدي إليها ولا سبيل لها إليها، بل العقول تزداد قوة وكمالاً في إدراكها والانقياد لها، والواجب في الأمور العقلية إثبات ما اتفق العقلاء على إثباته ونفي ما اتفقوا على نفيه، والتوقف فيما تضارب فيه آراؤهم وتباينت فيه طرقهم، فمن وفق لهذه الطريقة؛ فقد سلك الصراط المستقيم.

 فائدة (81) [الفرق بين الإخبار والإنشاء]

يجب التفريق بين الإخبار عن الله ورسوله ومخاطبته، فإذا ناجينا ربنا ودعوناه؛ لم ندعه إلا بأسمائه الحسنى وصفاته، وإذا أخبرنا عنه ببعض الألفاظ التي يحكم على معانيها بأحكام متباينة بحسب من هي له؛ فلا بأس أن نخبر عنه بلفظ غير موجود في الكتاب والسنّة إذا كان المعنى صحيحاً؛ فنقول: الله واجب الوجود، وما أشبه ذلك، وإذا خاطبنا الرسول صلّى الله عليه وسلّم قلنا: يا رسول الله! يا نبي الله! وإذا أخبرنا عنه قلنا: محمد رسول لله، ونشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، محمد أفضل الرسل وخاتمهم وإمامهم، محمد رحمة للعالمين. ونظير ذلك:

الفرق بين الإخبار بالأسماء المعبدة لغير الله توسع أهل العلم فيها، فقالوا: عبد المطلب عبد شمس ونحو ذلك، وعند إنشاء التسمية لا يحل أن يسمى بعبد لغير الله؛ فالإخبار أوسع من الإنشاء، والسبب أن المنشىء للأقوال والأفعال عليه أن يتقيد بالشرع؛ فلا ينشىء قولاً ولا فعلاً إلا إذا كان مباحاً، وأما المخبر؛ فإنه يخبر عن الأمور الواقعة، والواقع يقع فيه الطيب والخبيث والصدق والكذب والحلال والحرام؛ فالمنشىء ملتزم، والمخبر مخبر فقط.

 فائدة (82) [الأمور الواقعة وغير الواقعة من حيث القدر]

الأمور كلها الواقعة وغير الواقعة لا تخلو من أحد أمور أربعة:

أحدها: الأمور التي يقدرها الله ويحبها، وذلك الإيمان وفروعه من الطاعات كلها؛ فهذه قد اجتمعت فيها الإرادة القدرية والإرادة الدينية.

الثاني: الأمور التي لا يحبها ولا يقدرها؛ فهذه انتفت عنها الإرادتان المذكورتان، وذلك كالمعاصي والمباحات التي لم يُقَدِّرِ الله وقوعها.

الثالث: الأمور التي يقدرها ولا يحبها، مثل: الكفر، والفسوق، والعصيان الواقع من الكفار والعصاة؛ فهذه وجدت فيها الإرادة القدرية دون الإرادة الدينية.

الرابع: الأمور التي يحبها الله لكنه لم يقدرها، مثل: الإيمان، والطاعات التي أمر العباد بها ولم توجد.

ووقوع هذه الأشياء أو عدم وقوعها تبع لحكمة الله وحده، فما وقع منها؛ فإنه لحكمة بالغة، وما لم يقع فكذلك؛ الحكمة تقتضي عدم وقوعه؛ فهذا أمر عام سواء فهمنا الحكمة أو بعضها في ذلك أو لم نفهمها، ولكن وقوف العبد على بعض الحكم والأسرار في ذلك مما يزداد به علمه وإيمانه.

 فائدة (83) [درء المفاسد أولى من جلب المصالح]

قوله تعالى: {{وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ}} إلى قوله: {{لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}} [الفتح: 25] يستدل بها على أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح، ومثلها قصة قتل الخضر للغلام الذي خشي أن يرهق أبويه طغياناً وكفراً.


 فائدة (84) [المجتهدون والمتأولون في مسائل الأحكام]

أجمع المسلمون على أن عوام الكفار من أهل الكتاب وغيرهم من المشركين وجهالهم وضلالهم ومتأوليهم: أنهم كلهم كفار، وأن جهلهم وضلالهم وتأويلهم واجتهادَهم لا يفيدهم شيئاً، كما دل على ذلك نصوص الكتاب والسنّة، وأجمعوا أيضاً على أن المجتهدين والمتأولين في مسائل الأحكام من المؤمنين غير آثمين، بل قد عفا الله عن المؤمنين خطأهم، قال تعالى: {{رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا}}! قال الله: «قد فعلت»([50])، وإنما اختلف الناس في المتأول المخطىء في الأصول من المؤمنين؛ فكثير([51]) من أهل الكلام والبدع فسقوه أو كفروه، وتبعهم من أخذ بقولهم على عِلاَّته؟!

ومذهب جمهور الأمة وسائر الأئمة المقتدى بهم أن الخطأ في المسائل العلمية كالخطأ في المسائل العملية، أن الله رفع المؤاخذة فيها عن المؤمنين المجتهدين، وإنما اللوم والإثم في ترك الواجب لغير عذر أو التجري على المحرم الذي يعلمه محرماً. والله تعالى أعلم.

 فائدة (85) [رد المتشابهات إلى المحكمات]

قسم اللَّهُ الناس حول الآيات المحكمات والمتشابهات قسمين،

 قال تعالى: {{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}} [آل عمران: 7] الآية؛ فأخبر بالسبب والغاية في كل من القسمين.

أما الذين في قلوبهم زيغ؛ فهم يتتبعون المتشابه ويدعون المحكم، وذلك لزيغ قلوبهم وانحرافها وقصدها الفاسد مالت إلى هذا العمل المنحرف وغايتها أخس الغايات؛ ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله على غير المراد منه.

وأما الراسخون في العلم؛ فالسبب في استقامتهم رسوخهم في العلم في كماله وتحقيقه وإيمانهم الصحيح؛ فالعلم والإيمان الذي في قلوبهم أثمر لهم هذه الغاية الحميدة، وهو الإيمان بكل من المحكم والمتشابه؛ لعلمهم أنهما من عند الله، وما كان من عند الله؛ فهو حق، والحق يصدِّق بعضه بعضاً، ولا تناقض؛ فيردون المتشابه المحتمل للأَوْجُهِ إلى المحكم الواضح، فيصير الجميع محكماً، ويزول الاشتباه إذا رُدَّ المتشابهُ إلى المحكم.

ولذلك أمثلة كثيرة، منها الآية التي بعدها في قولهم: {{رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا}} [آل عمران: 8] في القرآن عدة آيات فيها الإخبار


بأنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء؛ فهي وحدها ربما يظن الغالط أن هدايته لمن اهتدى وإضلاله من ضل لمجرد المشيئة ومحض الإرادة، وأنها غير مقرونة بالحكمة، وهذا ظن خاطىء؛ فقد أخبر في آيات كثيرة أن الهداية لها أسباب، وكذلك الإضلال؛ كقوله:

{{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ}} [المائدة: 16] .

وقوله: {{فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}} [الأعراف: 30] ، {{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}} [الصف: 5] ، {{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}} [الأنعام: 110] .

... إلى غيرها من الآيات الدالة على ربط هدايته وإضلاله بالحكمة البالغة التي يحمد عليها ويثنى عليه بها، ويعلم أنه ما وضع هدايته إلا في محلها، ولا أضل إلا من اختار لنفسه طريق الغي والضلال، وأنه ولاَّه ما تولى لنفسه، ومثل ذلك الإخبار بأنه يرزق من يشاء يبسط الرزق ويقدره على من يشاء، مع ذكر الأسباب الي يحصل بها هذا وهذا، ونحو ذلك. والله أعلم.


 فائدة (86) [حكم إدخال الحج الصحيح على عمرة فاسدة]

سئلت عن قول أصحابنا الحنابلة: إن المتمتع إذا طاف لعمرته وسعى لها وتحلل منها، ثم وطىء بعد هذا الحل، ثم أحرم بالحج وتممه، ثم تبين له أن طوافه للعمرة قد كان بغير طهارة؛ قالوا: لم يصح حجه؛ لأنه أدخل حجًّا على عمرة فاسدة، وإدخال الحج على العمرة غير جائز ولا منعقد؛ فهل هذا القول صحيح، وما الذي تختارونه فيها؟

الجواب وبالله التوفيق: الذي نراه في هذه المسألة المهمة أن الحج صحيح حتى ولو حكمنا على العمرة بالفساد، وعندنا في هذا الرأي عدة مآخذ:

المأخذ الأول في أصل المسألة: وهو منع إدخال الحج على العمرة الفاسدة؛ لأنه لم يرد المنع من ذلك، والقران الذي هو أحد الأنساك الثلاثة قد ثبت صحته إذا أحرم بهما جميعاً من الميقات([52])؛ كما ثبت إدخال الحج على العمرة الصحيحة؛ فالفاسد كالصحيح.

المأخذ الثاني: أن الوطء في الحج إنما يفسده إذا كان صاحبه غير معذور على الصحيح؛ كما هو اختيار شيخ الإسلام، وكما هو ظاهر العمومات الرافعة للحرج عن الخطأ والنسيان، وهذا بلا شك جاهل بالحال، والجهل بالحال كالجهل بالحكم سواء، فإذا كان الصحيح أن الوطء من الناسي والجاهل في الحج لا يضر ولا  يفسده؛ فكيف بهذا الوطء الذي هو حِلٌّ صحيح، أو حِلٌّ بين العمرة والحج يعتقده صاحبه صحيحاً؟! فهذا من باب أولى وأحرى.

المأخذ الثالث: اختلف العلماء في صحة طواف المحدث على ثلاثة أقوال: الصحة، وعدمها، والتفصيل بين ترك الطهارة عمداً؛ فلا يصح طوافه، وبين تركها جهلاً أو نسياناً؛ فيصح كما قال به كثير من أهل العلم.

فعلى القولين: قول من يقول بصحته مطلقاً، ومن يقول بصحته للمعذور؛ الحكم ظاهر واضح أنه وطىء بعد عمرة صحيحة تامة.

وعلى القول بعدم الصحة مطلقاً نرجع إلى المأخذين السابقين.

المأخذ الرابع: أن نقول: هب أن العمرة فاسدة بالوطء المذكور؛ فلنخصها بالفساد ولا نعدي ذلك إلى الحج، وذلك أن الأصل أن أركان العمرة وواجباتها ومكملاتها متعلقات بها وحدها صحةً وفساداً أو نقصاً وكمالاً، كما أن الحج كذلك، وكلاهما نسك مستقل في ذاته ومستقل في أفعاله وأقواله، وبينهما حل برزخ لا من هذا ولا من هذا، والعبادات المستقلة الأصل أن كل عبادة لا تفسد بفساد الأخرى؛ فإدخال هذه المسألة في هذا العموم أولى من إخراجها بحجة أن العمرة والحج مرتبط بعضها ببعض؛ فالارتباط إنما هو في وجوب الإتيان بالحج للمتمتع الذي لم يحج أو الذي فسخ عمرته إلى الحج، لا في أفعالها بدليل استقلال كل منهما بما فيها من طواف وسعي ووقوف وحلاق وغيرها. والله أعلم.

 فائدة (87) [عدة المطلقة المتوفى عنها زوجها]

سئلت عن رجل طلق زوجته ثم مات عنها وهي في عدتها: هل تنتقل إلى عدة وفاة، وهل ترث منه أم لا؟

فأجبت وقلت: في ذلك تفصيل إن كان الطلاق رجعيًّا بأن طلق في نكاح صحيح أقل من ثلاث على غير عوض؛ انتقلت إلى عدة الوفاة، وورثت إن لم يكن بها مانع من رق أو اختلاف دين ونحوهما؛ لأنها في حكم الزوجات.وإن كان الطلاق بائناً وهو في الصحة؛ لم تنتقل ولم ترث، بل تستمر على عدة الطلاق، وكذلك إن كان الطلاق بائناً في مرض موته، وبها مانع يمنع الميراث من رق أو اختلاف دين؛ لم تنتقل ولم ترث.وإن كان الطلاق في مرض موته المخوف من غير سؤال منها، ومات قبل انقضاء العدة؛ اعتدت أطول العدتين من عدة طلاق أو وفاة، فإن كانت عدة الطلاق أطول استمرّت عليها، بأن تباعد ما بين الحيضتين، وإن كانت عدة الوفاة أطول انتقلت إليها.

هذا كله إذا لم تكن حاملاً، فإن كانت حاملاً؛ استوت العدد كلها فيه لأن الحمل يقضي على العدات كلها؛ لأنه عدة للمفارقة في الحياة، والمفارقة في الحياة([53])، وللحرة والأمة، ويتفق فيه الاستبراء والعدد كلها. والله أعلم.

 فائدة (88) [إذن الأمة المبعضة في النكاح]

كيف تستأذن الأمة المبعضة في النكاح، وهل الحكم فيه لها أو لمالك باقيها أو لمعتق بعضها؟

الجواب: يحتاج ذلك إلى جميع المذكورين، لا بد من إذن سيدها المالك لبعضها، ومن إذنها وإذن معتق ما عتق منها.

 فائدة (89) [ولي أمة الحرة في النكاح]

من الذي يزوج أمة الحرة لأنها لا تتولى المرأة زواج نفسها ولا زواج غيرها؟

الجواب: إن كانت الحرة المالكة غير رشيدة؛ فولي أمتها وليها في مالها كما هو مفصل في موضعه، وإن كانت رشيدة؛ فوليها ولي سيدتها في النكاح، ولا بد من إذن سيدتها هنا نطقاً، بكراً كانت سيدتها أو ثيباً.

 فائدة (90) [الاستفصال والاستفهام عن كل احتمال]

من أهم المهمات على المفتي والحاكم والمعلم الاستفصال عن كل احتمال، وخصوصاً إذا قويت الاحتمالات؛ فإن الإطلاق في الجواب أو التعليم يوجب الغلط والخلط لا محالة.

مثال ذلك في السرقة: إذا سئل المفتي عن السارق: هل تقطع يده؟ فعليه أن يستفصل عن السارق والمسروق والمسروق منه وصفة السرقة؛ فيقول: هل السارق مكلف أم لا؟ فإن لم يكن مكلفاً؛ فلا قطع عليه، وإن كان مكلفاً؛ فهل له شبهة حق أو شبهة؟ فإن كان له شبهة؛ فإن الحدود تدرَأُ بالشبهات.

وقد فصل الفقهاء أنواع الشبه التي تدرَأُ الحد، فإن لم يكن له شبهة بوجه من الوجوه؛ فهل المسروق يبلغ نصاب السرقة ربع دينار؟ فإن لم يبلغ ذلك؛ فلا قطع، وإن يبلغ نصاباً؛ فهل سرقه من حرز مثله الذي يحرز به، أم سرقه من غير حرز؟ فإن كان من غير حرز؛ فلا قطع عليه، وإن كان من حرز مثله؛ فيسأل عن الطريق الذي ثبتت به السرقة، فإن شهد به عدلان أو أقرَّ به مرتين ولم يرجع عن إقراره؛ ثبتت، وإلا؛ لم تثبت، وإذا ثبتت بأحد الأمرين؛ فهل المسروق محترماً؟ فإن لم يكن المال محترماً أو كان المسروق منه غير محترم؛ لم يحد، وإن كان المال محترماً والمسروق منه محترماً مسلماً أو كافراً له عهد؛ فيقال: هل طالب المسروق منه بالسرقة أم لا؟ فإن لم يطالب؛ لم يقطع، وإن طالب المسروق منه؛ فهل تحققت السرقة التي أخذ مال الغير على وجه الاختفاء، أم أنها على وجه الاختلاس أو الانتهاب أو الاغتصاب التي لا قطع على صاحبه؟

فإذا توفرت هذه الشروط كلها؛ قطعت يد السارق، وكذلك جميع الأحكام كلما كثرت شروطها تعين السؤال والاستفهام عن تحققها حتى يقع الجواب صواباً. والله أعلم.

 فائدة (91) [فتوى في وصايا أهل نجد في الأضاحي]

وصايا أهل نجد كثير منها أو أكثرها يصرف فعلها في ضحايا كل عام، يعينها الموصون لمن يكون ثوابها من شخص أو أشخاص، وقد تغير الوقت بغلاء الأضاحي؛ فصار كثير منهم يجمعون الريع السنتين والثلاث والسنين الكثيرة حتى تستكمل الأضاحي على حسب عوائد أو فتاوى يتلقاها بعضهم من بعض، وكنت أفتي أن الوصايا كلها يجب تنفيذها كل عام، سواء كفت أو لم تكف المقدر الذي كان يظن أن تبلغه؛ فمن عنده مثلاً وصيتان أو ثلاث وقد عين فيها أضاحي، وكل واحدة لا تكفي، ولكنها إذا جمعت كفت؛ تعين جمعها في ضحية واحدة تنوى عن جميع المشتركين فيها، وكذلك لو كانت وصية واحدة فيها عدة أضاحي لا تكفيها كُلها ولم يكن فيها ترتيب؛ فإنه يشتري واحدة أو أكثر وتنوى عن جميع المعينين في ثوابها، وكذلك لو كان عند الإنسان وصية واحدة لا تكفي وأراد أن يتصدق على صاحبها بتكميلها من عنده، أو يجعل معها لنفسه دراهم حتى تكفي وينويها عن نفسه وعن صاحب([54]) الوصية؛ فكل ذلك جائز، بل واجب تنفيذ الوصايا بحسب الإمكان، وسواء تفاوتت دراهم فعلها أو تساوت.

وقد كتبت في هذه المسائل سابقاً رسالة، ولهذا القول مآخذ عديدة مبنية على أصول الشريعة، وعلى أصول مذهب الإمام أحمد، وعلى مقاصد الموصيين وألفاظهم، وهي كثيرة جدًّا:

ـ منها: أنه لا يوجد ما يمنع ذلك من نص الشارع ولا من نصوص أصحاب الإمام أحمد، فإذا لم يكن في المنع نص؛ فمنع ذلك وحرمان أهل الوصايا من وصاياهم كل عام عين الضرر والفساد.

الثاني: أن نصوص الشرع ونصوص المذهب وكلام الأصحاب تدل على وجوب تنفيذ الوصايا الصحيحة بوقتها وعدم تعطيلها أو تأخيرها، قال تعالى: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] ، وصح عنه صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: «إذا أمرتكم بأمر؛ فأتوا منه ما استطعتم»([55]).

ومن المعلوم أن تنفيذ الوصايا من التقوى ومما أمر به الشارع؛ فيتعين تنفيذها ولا يحل تأخيرها عن وقتها أو تعطيلها، وقد ذكر صلّى الله عليه وسلّم من بر الوالدين بعد موتهما إنفاذ عهدهما([56])، ومن إنفاذ عهدهما إنفاذ الوصايا الي يوصون بها كل عام بحسب الإمكان، وإذا لم يقدر على الجميع؛ وجب منه المقدور والمستطاع.

والنصوص في هذا المعنى كثيرة، وكذلك نصوص الأصحاب رحمهم الله؛ فإنهم نصوا في الكتب المختصرات والمطولات على وجوب تنفيذ الوصايا، وعلى وجوب العمل بنصوص الواقفين من الموصيين الموافقة لأمر الله وشريعته، وأن ذلك بحسب الإمكان، والموصون يقولون في وصاياهم: قادم فيه كل عام كذا وكذا، قادم في فعله كل عام كذا وكذا ضحية وكذا وكذا تمر صدقة، أو للصّوّام وكذا وكذا بر أو دراهم، أو نحو ذلك؛ فكما أنه إذا حصل المغل ولم يكف مقدار التمر أو البر أو الدراهم المقدرة، وَجَبَ تنفيذ الموجود فكذلك الأضاحي، وأيُّ فرقٍ بينها وبين التمر والبُرِّ والدراهم ونحوها.

فهذه المسائل المذكورة كلها داخلة في نصوص الشارع ونصوص العلماء ومقاصد الموقفين وألفاظهم؛ ولهذا أقول:

المأخذ الثالث: أن الموصيين في ألفاظهم وعباراتهم وفي نياتهم ومقاصدهم كلها متفقة على أن تنفذ وصاياهم كل عام فهم يقولون: قادم فيه كل عام كذا وكذا ضحية، كما يقولون: قادم فيه كل عام كذا وكذا تمر أو بر أو نحوهما، ويقدرون في الغالب ما يظنون الريع يكفي فيه، وقد يتخلف الوقت فيقصر الريع؛ فننظر([57]) إلى ألفاظهم ومقاصدهم الصريحة الصحيحة وننفذها كل عام بحسب الإمكان وبقدر المستطاع.

المأخذ الرابع: أن وصايا الناس يقصد بها أن يتولاها المستحقون بحسب البطون، وأن يكون ريعها يرتفقون فيه ما داموا مستحقين، ولكنهم عينوه بتمر أو بر أو ضحايا أو غيرها؛ فكونها تنفذ كل عام هو السبيل الوحيد إلى وصولها لمستحقيها، وأن لا تتأخر تأخراً كثيراً؛ فإنها إذا نفذت كل عام وصلت يقيناً إلى مستحقيها من أهل الوقف وانتفعوا بها وارتفقوا بها بحسبها، فإذا كانت قليلة وجمعت السنين العديدة؛ ربما إذا اجتمعت صادفت بطناً حادثاً غير البطن السابق، وربما مع قلتها وتأخير تنفيذها حتى تجتمع أن يتعذر أو يتعسر استخراجها أو نفوذها ممّن جمعها لعسرته أو مماطلته أو موته أو لغير ذلك من الأسباب؛ فلا طريق إلى السلامة من هذه المفاسد المشاهدة إلا بتنفيذها كل عام بحسب المستطاع. ويؤيد هذا:

المأخذ الخامس: أن الموتى يتشوقون كل عام إلى ما يحصل لهم من صدقاتهم ووصاياهم بعد موتهم؛ فهم كالغريق الذي ينتظر ما يغيثه وما ينفعه وحاجتهم ماسة ضرورية لا تحتمل التأخير بكون وصاياهم تجري عليهم كل عام، كما نصوا وكما قصدوا، وكما هو مقتضى أحوالهم هو الواجب على من يريد نفعهم وبرهم ورحمتهم، وكما أنهم إذا عينوا من ريعها كل عام مقداراً معيناً من تمر أو بر أو دراهم، ولم يحصل ذلك المقدار، بل حصل ما دونه ينفذ الموجود ولا ينتظر ويتأخر إلى المفقود، فكذلك في الأضاحي من غير فرق؛ فمن فرق بين الأضاحي وغيرها؛ فعليه الدليل، وأنّى له ذلك؛ فإن الشارع لا يفرق بين المتماثلات كما لا يجمع([58]) بين المختلفات المتباينات في أحكامها.

المأخذ السادس: أن الأصحاب ـ رحمهم الله ـ نصوا على أن الدراهم التي تعينت للأضاحي أنها إذا كفت واحدة وزاد منها زيادة، أو صارت لا تكفي وحدها أنه يشترى بها لحم يتصدق به تحصيلاً للمقصود بحسب الإمكان؛ فالمشاركة فيها وكونها بسفك دمها عن جميع المشتركين أولى من شراء اللحم، وهذا ظاهر بين. ولله الحمد.

السابع: أن الأصحاب أيضاً نصوا على أن الوصايا إذا لم يمكن إنفاذها كلها أن أهلها يتحاصون عليها كل على حسب ما قدر له، ويدخل في هذا المقدرات من التمر والبر والدراهم والأضاحي وغيرها كما يدخل فيها المتنوعات من صدقات على فقراء ومساكين، ومن إعطاء أقارب ومن جهات بِر؛ كالمساجد والمدارس وغيرها؛ فالوصايا التي لا تكفي سواء كانت وصايا يفرغ منها دفعة واحدة بعد موت الموصي أو وصايا مغل عقارات ونحوها كوصايا أهل نجد؛ فإن مغلها قائم مقام أصلها يحكم فيه ما يحكم في الجميع إذا كان صاحبه يريد تنفيذه دفعة واحدة.

وهذه المآخذ لو بسطت؛ لزادت على ما ذكرنا، والمسألة أوضح من أن يشتبه الإنسان فيها، ولكن جريان العادة على أمر من الأمور المنتقدة يحتاج الإنسان إلى إزالتها بزيادة توضيح وإقامة أدلة وتنبيه على كلام العلماء المعتبرين فيها. والله أعلم وأحكم.

 فائدة (92) [ورود العدة على العدة]

إذا وردت عدة على عدة؛ فهل تدخل إحداهما على الأخرى، أم يلزم إتمام كل واحدة منهما، أم ماذا؟

الجواب: في هذا تفصيل على مذهب الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ وصورة ذلك أن تكون المرأة معتدة ثم توطأ في عدتها؛ فلا يخلو إما أن يكون الواطىء فيها صاحب العدة الأولى، أو يكون غيره، فإن كان صاحب العدة الأولى وكان الوطء الواقع في العدة وطء شبهة أو نكاح فاسد؛ فإنها تبتدي العدة منه وتدخل فيها الأولى؛ لأن النسب يلحق في الوطء الأول والآخر وإن كان الوطء الواقع منه زنا أتمت العدة الأولى، ثم استأنفت عدة للوطء الثاني؛ لاختلاف الوطئين؛ لأن الوطء الأول يلحق فيه الولد، ووطء الزنا لا يلحق فوجب تمييز العدتين وعدم تداخلهما، وإن كان الواطىء غير صاحب العدة وجب لكل واحد من الأول والآخر عدة مستقلة؛ فتعتد للأول ثم تعتد للثاني، إلا أنه إذا وطئها الثاني؛ فإن من وطئه إلى مفارقته لا تحتسب من العدة، فإذا فارقها بنت على عدة الأول، ثم تعتد للثاني عدة كاملة؛ إلا إن حملت من أحدهما وولدت منه يقيناً؛ فإنها تنقضي عدتها منه ثم تكمل عدة الأول، هذا كله بناءً على المذهب.

وأما على ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو أن الموطوءة بشبهة أو زنا أو نكاح فاسد ليس عليها إلا الاستبراء؛ فإن الأمر في هذه الصور واضح، وهو أنه بعد الوطءِ الثاني سواء كان من صاحب العدة أو غيره تكتفي ببقية العدة إن تضمنت الاستبراء أو تستبرأ براءة معتبرة بعد الوطء الثاني؛ فعدة الأول لا بد منها، والوطء الثاني مطلقاً يكتفى فيه باستبراء داخل في عدة الأول، وإلا؛ فمستقل. والله أعلم.

 فائدة (93) جليلة في الفروق بين المسائل الفقهية والتقاسيم الشرعية([59])

أصل هذه المسائل: أن تعلم أن الشارع لا يفرق بين المتشابهات من كل وجه، بل لا بد فيها من فوارق معنوية، وأوصاف متفاوتة أوجبت الفرق، فإذا وجد مسألتان قد فرّق بينهما، وحكم لكل واحدة بحكم مباين للأخرى، فإن كان ثمّ فارق صحيح ومعنى موجب للفرق، وإلا فاعلم أن الفرق صوري والفروق الصورية ضعيفة


جداً، ولهذا الأصل الكبير أمثلة كثيرة نذكر منها ما نستحضره.

فمنها ما ذكروه من الفروق بين النكاح وغيره من العقود، وهي فروق كثيرة تزيد على العشرين، قد فصلتها في الإرشاد([60])؛ فانظرها هناك تجد المعاني الصحيحة الموجبة للفرق بين النكاح وغيره.

منها: ما ذكره العلماء رحمهم الله من الفرق بين فرض الصلاة ونفلها، فإن الأصل اشتراك الفرض والنفل منها في الأحكام، وقد فرّق بينهما بفروق ثابتة شرعية.منها: أن النفل يصح من الجالس القادر على القيام، بخلاف الفرض وأنه يصح على الراحلة في السفر الطويل والقصير.ويجوز فيه الشرب اليسير، والفرض بخلاف ذلك، وذلك يعود إلى سهولة النفل والترغيب في الإكثار منه.

ومنها: اشتراط ستر أحد المنكبين في الفرض دون النفل للرجل البالغ ، وهذا الفرق ضعيف لعدم ثبوت الفرق بينهما في هذا الموضع شرعاً، فإن الأمر بستر أحد المنكبين يعم الفرض والنفل في حق الرجال، مع أن الصواب أن ستر المنكب من باب التكميل لا من باب الوجوب.

ومنها: تجويز النفل داخل الكعبة دون الفرض، ولكن فيه نظر،  فإنما ثبت في النفل ثبت في الفرض، والفرق الذي ذكره الفقهاء، وهو أنه في الفرض لا بد أن يستدبر شيئاً منها موجود في النفل.ومن الفروق الضعيفةجدا: المنع من إئتمام المتنفل بالمفترض مع أنه قد ثبت


جواز ذلك ثبوتاً لا ريب فيه، وقصة معاذ (1) وغيرها شاهدة بذلك، وتعليلهم باختلاف النية موجود في ائتمام المفترض بالمتنفل ، وهذ من علامت ضعف الدليل، والعلة أنك إذا أدرتها وعكستها في القسم المقابل ريت لأمر نظير ما قالوه، فيكون هذا من الفروق الصورية التي لا تعتبر؛ فكيف مع مخالفتها للنص؟!

ومن الفروق الصحيحة: تجويز قطع النفل لحضور الفرض، وأنه لا يصح ابتداء نافلة بعد إقامة الفريضة، وأنه لا يجوز أن يشتغل بالنافلة مع ضيق الوقت عن الفريضة، وأنه لا تقضى النوافل إذا كثرت الفوائت الفرائض، وما أشبه ذلك فإن القصد من ذلك واحد وهو الاهتمام بالفرائض.

ومن الفروق الصحيحة: ما ذكروه في الفرق بين صلاة الجمعة وصلاة العيدين وهي عدة فروق قد فصّلتها في كتاب الإرشاد.ومن الفروق الصحيحة بين صيام الفرض والنفل: أن الفرض لا بد له من نية موجودة في ليل الصيام، والنفل يصح بنية من النهار بشرط أن لا يفعل شيئاً من المفطرات. ومنها: أنه لا يصح صوم النفل ممن عليه فرض الصيام. ومنها: أنه يصح صيام


أيام التشريق للمتمتع والقارن الذي تعذر عليه الهدي دون قضاء رمضان وغيره؛ لأن الله عين الثلاثة أن تكون في الحج فوقتها محصور.ومن الفروق بين النوافل: أن الصلاة والصيام وغيرها يجوز قطع نفلها إلا الحج والعمرة، فمتى أحرم بالحج أو العمرة وجب عليه الإتمام.

ومن الفروق الضعيفة: تفريقهم بين الجاهل والناسي والمتعمد في إتلاف الشعر والأظفار، وفي اللبس للمخيط وتغطية الرأس والطيب، وأن الأخيرات يعذر فيهما الجهل والنسيان، وإزالة الشعر وتقليم الأظفار تجب عليه فيه الفدية مطلقاً، وعللوه بأنه إتلاف ، والذين لم يفرقوا قالوا: المقصود من الجميع واحد وهو حصول الترفه بالمذكورات، وهي كلها مستويات في ذلك، والشعور والأظفار لا قيمة لها.

وأيضاً إنما الإتلاف الذي يستوي فيه الأهل وغيره في حقوق الآدميين كإتلاف النفوس والأموال، وهذه الحق فيها لله متمحض، فإذا كان معذوراً بالإجماع غير آثم فكذلك الفدية، وبهذا أيضاً تعرف ضعف الفرق بين جماع المعذور بجهل أو نسيان وغير المعذور، كما هو المشهور من المذهب والتفريق بين المعذور وغيره هو الأولى كما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره في مسألة فطر الصائم إفساد الحج والعمرة وغيرها.

وبه أيضاً يعرف ضعف عدم التفريق بين المتعمد وغير المتعمد في قتل الصيد، وأن في الجميع الجزاء كما هو مذهب الجمهور ، مع أن الآية الكريمة نصت على المتعمد نصاً صريحاً في قوله: {{وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}}.[المائدة:  95] وكذلك تجويز النبي صلّى الله عليه وسلّم لرعاة المواشي وسقاة زمـزم أن يجمعوا رمي أيام التشريق في آخر يوم ([61])، دليل على أن غيرهم لا يساويهم في ذلك، والمتأخرون من الحنابلة رحمهم الله جعلوا الجميع واحداً وأنه لا بأس أن يجمع الرمي في آخر يوم، ولو لم يكن معذوراً، وفيه نظر.

وأما قولهم: ومن وجبت عليه بدنة أجزأته بقرة، ولو في جزاء الصيد. فالصواب في ذلك القول الآخر: وأن جزاء الصيد يتعين فيه المثل كما ذكره النص ، ولأن فيه شائبة عقوبة بخلاف بقية الأحكام، فإن معنى السهولة فيها بينة واضحة.

ومن الفروق الصحيحة الثابتة شرعاً: الفرق بين من ترك المأمور سهواً أو جهلاً، فلا تبرأ الذمة إلا بفعله، وبين فاعل المحظور وهو معذور بجهل أو نسيان، فإنه يعذر وتصح عبادته، وذلك في الصلاة و الصيام والحج، وبقية العبادات كمااختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وطرده في كل المسائل.أما المشهور من المذهب فإنهم لم يستقر لهم قرار...([62])

ويكفي هذا أن الشرطين في الأصول والفروع ويزاد في غيرهم أن يكون المنفق وارثا للمنفق عليه بفرض أو تعصيب، وهذه النفقات تبع العرف والكفاية، وكذلك نفقة المماليك من الآدميين والبهائم. والله أعلم.

فهذه الفروق والتقاسيم التي استفدناها وتتبعناها من كلام أصحابنا الحنابلة غفر الله لهم ورحمهم جمعت علما عظيما، ونبهت على مآخذ الأقوال وعللها، لا تجدها مجموعة في موضع واحد، ويحق أن تفرد برسالة مستقلة يسر الله إفرادها ونشرهـا([63]) وعندمـا


 فرغنا منها خطر على القلب فائدة من جنس آخر من النفقة، وهي هذه:

 فائدة (94) جليلة في مراتب الأحكام والتنقلات الفقهية

وجمهور مسائل هذه الفائدة مبنية على السهولة والانتقال من الأصل إلى بدله، ومن مسألة إلى نظيرها؛ فلنذكر من أمثلتها ما يحضرنا مبتدئين في العبادات ثم في المعاملات:

ـ فمنها: الطهارة، أوجب الله على المكلفين التطهر بالماء من الأحداث والأخباث، فإذا تعذر استعماله بعدم أو تضرر؛ انتقل العبد من طهارة الماء إلى طهارة التيمم بالتراب في الأحداث، وإلى تخفيف النجاسات والبعد عنها ما أمكنه الأمر.

ـ ومنها: على وجه العموم: على الإنسان أن يقتصر على ما أباحه الله له مع القدرة على استعماله، فإذا تعذر واضطر إلى تناول المحرم؛ فالضرورات تبيح المحظورات من الأواني والثياب المحرمة والأطعمة والأشربة والاستعمالات وغيرها؛ لأن الله تعالى لما حرم الميتة وما عطف عليها قال: {{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}} [المائدة: 3] ، وهي في الفقه مسائل لا تعد ولا تحصى، ويشبه ذلك أن المكروهات إذا احتيج إليها زالت الكراهة؛


لأن الحاجة أكبر سبب للسهولة واليسر، ولأنها قد تتعارض مع واجب يتعين فعله أو محرم يتعين تركه، ولهذا قد يعرض من المصالح أو من كف المفاسد للعمل المفضول ما يصيره مثل أو أفضل من العمل الفاضل. والله أعلم.

ـ ومنها: وجوب تقدم الشروط على مشروطاتها؛ فكل شرط لعبادة أو تصرف أو عقد أو فسخ أو تلف أو إتلاف أو غيرها لا بد أن يتقدم على مشروطه، فإن لم يتقدم عليه مع القدرة؛ لم يصح المشروط، ويدخل في هذا ما لا يعد من المسائل الكبار والصغار، وكذلك لا بد من وجود الأسباب لتترتب عليها مسبباتها، ومن هذا: العبادات المشترط فيها الترتيب كالطهارة والصلاة ونحوها، فإذا لم يحصل الترتيب وتقديم المقدم وتأخير المؤخر؛ لم تصح تلك العبادة.

ـ ومنها: من كان على عضو من أعضاءِ طهارةٍ، جرح أو كسر ونحوه وجب غسله بالماء، فإن ضَرَّ وَجَبَ مَسْحُه، فإن ضَرَّ مَسْحُه، أو مسح الحائل التي عليه؛ تيمم عنه.

ـ ومنها: من عليه حدث وعلى بدنه وثوبه نجاسة وعنده ماء لا يكفي الجميع قدم نجاسة الثوب؛ لأنه لا يتيمم عنه قولاً واحداً، ثم نجاسة البدن للخلاف في صحة التيمم عنها، ثم استعمله للحدث.

ـ ومنها: المرأة المستحاضة يجب عليها أن تجلس عادتها إن

كان لها عادة مضبوطة، فإن لم يكن جلست التمييز إذا كان بعضه أسود وبعضه أحمر، أو بعضه منتن وبعضه غير منتن، أو بعضه ثخين وبعضه رقيق؛ جلست الأسود أو المنتن أو الثخين، فإن لم يكن لها عادة ولا تمييز جلست غالب الحيض ستة أيام أو سبعة؛ لورود الأحاديث([64]) في هذه المراتب الثلاث.

ـ ومنها: الصغير يؤمر بالصلاة لسبع سنين، ويضرب عليها لعشر، وكذلك بقية شروطها، وكفه عن المفاسد.

ـ ومنها: يصلي المريض قائماً، فإن عجز أو شق عليه مشقة غير محتملة؛ صلى قاعداً، فإن لم يمكن؛ فعلى جنبه، ويومىء برأسه بالركوع والسجود، فإن عجز صلى مستلقياً، فإن عجز برأسه أوما بطرفه، واستحضر الفعل بقلبه، وكذلك القول إن عجز عن النطق، وعند شيخ الإسلام آخر المراتب الإيماء بالرأس، والمذهب أحوط وأولى.

ـ ومنها: إذا كان عنده سترة لا تكفي للصلاة؛ ستر العورة المغلظة، وهي الفرجان، فإن لم يكفِ إلا أحدهما؛ فالدبر أولى لأنه ينفرج في الركوع والسجود، ومن الأقوال الضعيفة جدًّا قولهم: إلا إذا كفت كتفه وعجزه فقط؛ فيكون مقدماً على ستر الفرجين، وتعليلهم بقوله لأن المنكب لا بدل له عجيب، وهل للقبل بدل؟! والمنكب إنما شرع ستره تكميلاً مستحبًّا عند جمهور العلماء وتكميلاً واجباً عند الإمام أحمد؛ فكيف يقدم التكميلي على الضروري؟! والله أعلم.

ـ ومنها: من اشتبهت عليه القبلة إذا أراد الصلاة، فإن أمكنه اليقين، وإلا؛ صلى بالاجتهاد والنظر في أدلة القبلة، فإن تعذر ذلك؛ قلد المجتهد كما في مسائل الإفتاء وغيرها.

ـ ومنها: الإمامة في الصلاة الأولى الجامع بين القراءة والعلم، ثم الأقرأ، ثم الأدين، ثم الأسن، وقيل أيضاً: إنه يقدم الأشرف، وهو المشهور، ولكن لا دليل عليه، وأولى المساجد الأكثر جماعة، ثم الأبعد، ثم المسجد العتيق؛ إلا إذا ترتب في حضوره في المسجد المفضول مصلحة أخرى.

ـ ومنها: المقدم من الصلوات فروض الأعيان ثم فروض الكفاية، ثم ما تُسَنُّ له الجماعة، ثم الرواتب والوتر، ثم النوافل


المطلقة، وإذا ضاق الوقت؛ لزم تقديم الفرض على النفل، وكذلك الصيام المقدم قضاء رمضان، ثم الكفارات لوجوبها بأصل الشرع، ثم النذور؛ لأن المكلف هو الذي أوجبها على نفسه، ولهذا قالوا: لا يصح أن يصوم نفلاً قبل أداء فرضه.

ـ ومنها: إذا تخلف الإمام الراتب، فإن كان أذن لهم صلوا، وإلا؛ فإن كان قريباً راسلوه، فإن بعد أو شق عليهم الانتظار؛ صلوا.

ـ ومنها: أفضل الصفوف الصف الأول، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، فإن كان في صف واحد؛ فالأيمن أفضل، إلا إذا كان في الأيسر مصلحة لا تحصل بالأيمن؛ فقد يفضل على الأيمن.

ـ ومنها: يقدم إلى الإمام مع عدم المرجح الظاهر الرجال أولو الأحلام والنهى، ثم الأمثل فالأمثل، ثم الصبيان، ثم النساء، وكذلك إذا صلى عليهم جميعاً قدم إلى الإمام الرجال، ثم الصبيان، ثم النساء الأفضل فالأفضل، وإذا دفن جماعة في قبر واحد للضرورة؛ قدم إلى القبلة الفاضل من الموتى من الرجال، ثم الصبيان، ثم النساء.

ـ ومنها: إذا صلي في بلد جمعتان فأكثر لغير حاجة؛ فالصحيحة ما أذن فيها الإمام بقوله أو مباشرته، فإن استويا؛ فالسابقة بتكبيرة الإحرام هي الصحيحة والثانية باطلة، فإن أشكل أيهما السابق؛ أعاد الجميع، هذا المذهب، وفيه قول قوي على أنه


وإن كان لا يحل تعدد الجمعة لغير حاجة؛ فالصلاة صحيحة من كل من الجمعات؛ لأن التبعة في هذا على من لهم الأمر، وأما غيرهم؛ فمعذورون، وهب أنهم غير معذورين؛ فهذا النهي يعود إلى أمر خارج عن نفس العبادة وشرطها. والله أعلم.

وأولى الناس بغسل الميت والصلاة عليه وصيه في ذلك، ثم الأقرب فالأقرب.

والحلي له مراتب: إن كان للقنية؛ ففيه زكاة النقدين ربع عشر وزنه، وإن كان للتجارة؛ ففيه زكاة عروض وهي قيمته، وافقت وزنه أو زادت أو نقصت، وإن كان للتأجير؛ ففيه الزكاة زكاة وزنه وفعله، وإن كان للاستعمال أو الإعارة؛ فلا زكاة فيه.

ـ ومنها: إذا كان عنده ما لا يكفي لجميع من تجب عليه فطرتهم؛ فإنه يبدأ بنفسه، فامرأته، فرقيقه، فأمه، فأبيه، فولده فالأقرب، فالأقرب في الميراث، وكذلك في باب النفقات على الزوجات والمماليك وأقاربه المعسرين على هذا الترتيب؛ إلا أنهم هناك قدموا الأب على الأم وهنا أوجبوا الفطرة على من تبرع بمؤونة شخص شهر رمضان، ولم يوجبوا نفقته، والصواب عدم الوجوب على من تبرع بنفقته؛ لأن الفطرة تبع النفقة وجوباً واستحباباً، وعلى المذهب الواجب في الفطرة وفي الكفارات كلها من الأصناف الخمسة: البر، والشعير، والتمر، والزبيب، والأقط، ثم إن تعذرت عدل إلى قوت البلد من غيرها، وعند الشيخ تقي الدين يجزي كل قوت وجدت الأصناف الخمسة أو عدمت.

وعلى المذهب لا تنقل الزكاة مسافة قصر فأكثر إلا إذا لم يجد من يدفعها إليه، وعلى الصحيح يجوز ذلك، وهو ظاهر الأدلة الشرعية.

ـ ومنها: كفارة الوطء في نهار رمضان وكفارة الظهار عتق رقبة مؤمنة سليمة من العيوب المضرة بالعمل، فإن لم يجد؛ فصيام شهرين متتابعين، وتشاركها في هذين الأمرين كفارة القتل، فإن لم يستطع؛ فإطعام ستين مسكيناً.

ـ ومنها: الأفضل الفطر على رطب، فإن عدم؛ فتمر، فإن عدم؛ فماء.

ـ ومنها: يتأكد طلب ليلة القدر ليلة سبع وعشرين، ثم في أفراد العشر الأواخر، ثم في بقيتها.

ـ ومنها: من عين بنذره غير المساجد الثلاثة؛ لم يتعين، وإن عين أحد الثلاثة، فإن عين الفاضل وهو المسجد الحرام؛ تعين ولم يجز في غيره، وإن عين المفضول وهو المسجد الأقصى؛ جاز فيه وفي المسجدين، وإن عين المتوسط وهو مسجد المدينة؛ جاز فيه وفي الفاضل لا في المفضول.

ـ ومنها: أفضل الأنساك التمتع؛ فالإفراد فالقران، وقيل: إن القران أفضل من الإفراد؛ لما يحصل فيه من نسكين تامين، وإن من


ساق الهدي أفضل له القران من التمتع، وهو الصحيح الذي اختاره شيخ الإسلام.

ـ ومنها: الهدي والفدية؛ فعلى متمتع وقارن دم، فإن عدمه أو ثمنه؛ صام عشرة أيام: ثلاثة في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله، وكذلك في ترك الواجب.

ومن وطىء في الحج قبل التحلل الأول؛ فسد حجه وعليه بدنة، فإن لم يجد صام كذلك عشرة أيام: ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع، ويجب في فدية الأذى صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين أو سفك دم.

وفي جزاء الصيد المثل من النعم أو تقويمه بمحل التلف، ويشتري به طعاماً يجزي في الفطرة، فيطعم كل مسكين مدَّ برٍّ أو نصف صاع من غيره، أو يصوم عن إطعام كل مسكين يوماً.

ـ ومنها: الرهن إذا حل الدين وامتنع الراهن من الوفاء، فإن كان أذن في بيعه؛ باعه المرتهن، أو [من]([65]) بيده الرهن ووفى الدين من ثمنه، وإلا؛ أجبره الحاكم على الوفاء من أي جهة أو بيع الرهن، فإن أصَرَّ على الامتناع؛ باعه الحاكم ووفى الدين.

ـ ومنها: من كان بيده حيوان أمانة لغيره فإن كان رهناً محلوباً أو مركوباً؛ أنفق عليه من هو بيده بقدر ركوبه ولبنه متحرياً للعدل


ولو لم يستأذن صاحبه لإذن الشارع فيه، وإن كان غير ذلك، فإن كان صاحبه حاضراً وقد أذن له أن ينفق؛ أنفق عليه ورجع بنفقته على صاحبه، وإن لم يكن حاضراً ولا أذن في ذلك؛ أنفق عليها ولو لم يستأذن الحاكم، ورجع بالنفقة؛ لأن استئمانه إياها إذن بحفظها، وحفظها لا يأتى إلا بالإنفاق.

ـ ومنها: من حصل غصن شجرته في هواء غيره أو قراره ولم يرض الجار؛ أمر بإزالته، فإن أبى؛ لواه الجار إن أمكن بلا قطع، وإلا؛ فله قطعه ولا ضمان عليه، واختار بعض أهل العلم في هذه الأشياء أن الجار لا يلزم جاره إزالته إذا لم يكن عليه ضرر، قال: وهو أولى من إلزامه بالتسقيف على جدار جاره.

نعم، لو كان على الجار ضرر؛ فالضرر لا يزال بالضرر.

ـ ومنها: من طولب بدين عليه، فإن كان معسراً؛ أمر صاحب الدين بإنظاره وجوباً إلى الميسرة، وإن كان موسراً بحقه أو بعضه؛ أمر وألزم بوفائه، فإن أبى؛ حبس أو عزر، فإن أصر مع ذلك ولم يبع مالَه؛ باعه الحاكم ووفى دينه، هذا إذا كان الدين حالاًّ، وأما المؤجل؛ فلا يطالب به ولا يحجر عليه قبل حلوله.

ـ ومنها: من عنده وديعة وأراد سفراً؛ ردها إلى صاحبها، فإن غاب؛ حملها معه إن كان أحرز، وإلا؛ أودعها ثقةً، والظاهر أنه يبقيها عنده لدلالة العرف على ذلك.

ـ ومنها: إذا اجتمـع عاصبان فأكثر؛ قـدم منهم الأقرب جهـة،

ثم إن كانوا في جهة واحدة؛ الأقرب منزلة، فإن كانوا في منزلة واحدة؛ قدم الأقوى، وهو الشقيق، ثم إن استووا من كل وجه؛ اشتركوا.

ـ ومنها: من نشزت امرأته وتركت الواجبَ عليها في حقه؛ وعظها أولاً وخوفها ورغبها ورهبها، فإن أصرت؛ هجرها في المضجع، فإن أصرت؛ ضربها ضرباً غير مبرح، ويمنع من ذلك إن كان مانعاً لحقها الواجب لها عليه.

 فائدة (95) [حكم رجوع الموكل بعد تصرف الوكيل]

إذا وكل وكيلاً في تصرف عقد أو فسخ أو غيرهما، فتصرف الوكيل، ثم بعد التصرف ادعى الموكل أنه رجع وفسخ توكيله قبل أن يتصرف، فإن كان ذلك ببينة؛ صار تصرف الوكيل لاغياً، وكذلك إذا صدق المتصرف معه وإن لم يكن ببينة؛ لم يقبل قول الموكل؛ لأن الوكالة ثبتت، والتصرف المأذون فيه حصل، والأصل عدم نقضه إلا في مسألة اختلف فيها كلام الأصحاب، وهو ما إذا وكل زوجته في طلاق نفسها وطلقت نفسها، وادعى أنه رجع قبل إيقاعها؛ فقيل: القول قول الزوج، وقيل: القول قول الزوجة، وهو الأظهر كغيرها من المسائل بناءً على هذا الأصل الذي ينبغي طرده، وكذلك لو وكل غير الزوجة فطلق الوكيل وادعى الزوج أنه رجع قبل الإيقاع. والله أعلم.


 فائدة (96) [الألفاظ الصريحة في الطلاق]

يستفاد من كلام الأصحاب ـ رحمهم الله ـ أن صريح الطلاق أنواع:

ـ منها: لفظ الطلاق حيثما تصرفت تصاريفه اللفظية؛ إلا الألفاظ التي تدل على أنها هي الموقعة للطلاق؛ كاسم الفاعل من قوله: مُطَلِّقة، والأمر كقوله: طَلِّقِي، والمضارع كقوله: تُطلقين؛ لأن هذه الألفاظ نسب فيها التطليق إليها.

ـ ومنها: الجواب الصريح لأحد الألفاظ الصريحة كمن قيل له: أطلقت امرأتك؟ فقال: نعم؛ لأن نعم صريحة في الجواب، والجواب الصريح للفظ الصريح صريح.

ـ ومنها: إذا عمل مع زوجته عملَ إهانةٍ، مثل إنْ أخرجها من دارها أو لطمها.

أو عملاً لا إهانة فيه، مثل إنْ أطعمها أو سقاها أو ألبسها، أو دفع إليها شيئاً، وقال لها: هذا طلاقك.

ـ ومنها: إذا طلق إحدى زوجتيه، ثم قال عقبه لضرتها: أنت مثلها أو شريكتها، أو: شَرَّكْتُك معها، ولا فرق في ذلك بين أن يلفظ بالمذكورات من الألفاظ أو يكتبه؛ إلا أنه في الكتابة إذا ادعى أنه لم يقصد الطلاق بل قال: أريد غم أهلي أو تجويد خطي ونحوه؛ فإنه يقبل.

ـ ومنها: الألفاظ الصريحة في اللغات الأخر إذا كان عارفاً بمعناه، ومن نطق بشيء من هذه الصرائح ولم يعرف معناه؛ لم يقع به طلاق.

ـ ومنها: عند النجديين وفي عرفهم إذا قال الزوج لزوجته: أنت بالثلاث، أو روحي بالثلاث؛ فإنه صريح عندهم لا يحتمل غيره؛ لأن الثلاث صفة لموصوف محذوف معروف، والتقدير بالطلاق الثلاث؛ فهي أبلغ من نعم في الجواب عن صريح الطلاق، وحَذْفُ الموصوف شائع في اللغة والعرف، ولهذا كان علماؤهم لا يتوقفون بوقوع الطلاق في ذلك. والله أعلم. والإشارة المفهومة من الأخرس في ذلك كالنطق.

 فائدة (97) [السبب في عدم ذكر أحكام الخنثى المشكل في الكتاب والسنّة]

إذا قيل: كان الفقهاء ـ رحمهم الله ـ يذكرون أحكام الخنثى المشكل في جميع أبواب العلم المتعلقة بالذكور والإناث مع أنك لا تجدها مذكورة في الكتاب ولا في السنّة مع أن الحال تقتضي على حسب ذكر الفقهاء لها أن تتكرر في الكتاب والسنّة مرات؛ لأنه على هذا الناس ذكور أو إناث أو خناثى؛ فيقتضي أن يكون القسم الأخير مساوياً أو مقارباً في ذكره لأحد القسمين.

فالجواب: مقصود الفقهاء ـ رحمهم الله ـ تحرير الأحكام الشرعية والتدقيق في الأمور الفقهية، ولهذا يذكرون الأمور النادرة، بل الأمور غير الواقعة إذا احتاجوا إلى إدخالها في العمومات أو استثنائها منها أو تقسيمها الذي يستوعب كل ممكن منها؛ فكون هذا مرادهم لا يرد ما ذكره السائل.

ثانياً: عدم ذكر ذلك في الكتاب والسنّة إما لندرته كما هو الواقع أنه من أندر النادر ثم إشكاله وعدم تمييزه أندر وأندر، والكتاب والسنّة إنما يذكر ما يحتاج الناس إليه غالباً لا نادراً.

ثالثاً: طريقة الكتاب والسنّة إذا كانت الأمور على قسمين، وربما تولد من بينهما قسم ثالث: أن تذكر أحكام كل من القسمين المشتركة والمتميزة، ويكون المتولد من بينهما يؤخذ من علل أحكامها؛ فإنه من المتقرر أن الأشياء كثير منها يكون فيه صفات متباينة ويكون لكل صفة مقتضاها من الأحكام والثواب والعقاب، وكذلك يذكر الله جزاء المؤمن الكامل وعقاب المجرم المحض كثيراً، ويعرف منهما حكم من فيه إيمان وإجرام وخير وشر، كما أنه صرح بهذا القسم في مواضع لكثرة وجوده، فلو لم يصرح به؛ لعرف حكمه من ذكر حكم القسمين المتباينين، ولهذا نقول: للخنثى حالتان:

ـ حالة يطلب فيها تمييزه: هل هو ذكر أو أنثى، وقد ذكر الفقهاء الأشياء التي يحصل فيها التمييز، وعلى هذا وغيره من المشتبهات دلت نصوص الكتاب والسنّة على وجه العموم على الأمر والإرشاد إلى تمييز الأمور وتوضيحها بطرقها، وكل شيء له طريق يوصل إلى تمييزه من غيره؛ فيدخل هذا في هذا العموم.

ـ الحالة الثانية: إذا تعذر التمييز ووقع الإشكال وهو الخنثى المشكل الذي لم تتضح ذكوريته ولا أنوثيته؛ فهذا إن كانت الأحكام مشتركة بين الذكر والأنثى كأكثر أحكام التكاليف؛ فالخنثى مثلهما، وإن كانت من الأحكام المختلفة التي للذكر فيها حال وللأنثى حال أخرى؛ جعل الخنثى المشكل وسطاً بين الطرفين؛ كما في المواريث ونحوها.

هذا في الأحكام التي يمكن التوسط فيها، وأما ما لا يمكن؛ كنقض الوضوء بمس المرأة، وكالزواج، ونحوه؛ بني في ذلك على الأصل، ففي نقض الوضوء إذ مُسَّ الخنثى المشكل لا يحكم بنقض الوضوء؛ لأن الأصل الطهارة، وقد شككنا بوجود الناقض: هل هو ذكر أو أنثى؟

وفي مسألة التزويج ليس له أن يتزوج أنثى ولا ذكر؛ لأن الأصل في الإبضاع التحريم؛ فلا يقدم على زواج لا نعلم هل هو صحيح أو باطل، هذا الغالب على أحكام الخنثى بعد التتبع لها ولمآخذها. والله أعلم.

 فائدة (98) [مناظرة بين مؤمن موحد ومادي ملحد]

أذكر هـهنا محاورة بين مؤمن موحد ومادي ملحد، وذلك أن


رجليْنِ مسلميْنِ كانا متصافييْنِ على الإسلام وفي طلب العلم، فغاب أحدهما عن صاحبه مدة طويلة، ثم التقيا؛ فإذا هذا الغائب قد تغيرت أحواله وأخلاقه، فسأله صاحبه وبحث معه في تبيين السبب الذي أوصله إلى هذا التغير الذي لا يعهده منه؛ فإذا هو قد تغلبت عليه دعايات الملحدين الذين يدعون لنبذ الدين ورفض ما جاء به سيد المرسلين، فحاوله صاحبه وقلبه على كل وجه لعله يرجع عن هذا الانقلاب الغريب الذي توجه به وجهة خبيثة؛ فلم يفد فيه النصح، فعرف أن هذه علة تفتقر إلى استئصال أصل الداء ومقابلته بضده، وأن ذلك متوقف على معرفة الأسباب التي حولته وإلى تمحيصها وتوضيحها ومقابلتها بما يضادها وبقمعها، وشرحها شرحاً يبين مرتبتها من الحقيقة؛ فقال له مستكشفاً له عن الحامل له على ذلك، فقال له:

يا هذا! ما هذه الأسباب الي حملتك على ما أرى، وما الذي دعاك إلى نبذ ما كنت عليه، فإن كان خيراً كنت أنا وأنت شريكين فيه وتابعتك على ذلك، وإلا؛ فانظر لنفسك، وانظر من عقلك وأدبك أنك لا ترضى أن تقيم على ما يضرك ويثمرك الثمرات الرديئة!

فقال له: لا أخفيك العلم أني رأيت حالة المسلمين حالة لا يرضاها عاقل، رأيتهم في ذل وخمول وأمورهم مدبرة وأحوالهم سيئة، ورأيت في الجانب الآخر هؤلاء الأجانب قد ترقوا في هذه الحياة وتفننوا في الفنون العجيبة، واخترعوا الاختراعات المدهشة والصناعات المتفوقة، وقد دانت لهم الأمم وصاروا يتحكمون في الأمم الضعيفة بما شاؤوا ويعتبرونهم كالعبيد لهم والأجراء وأدنى من ذلك؛ فرأيت منهم العز الذي بهرني والتفنن الذي أدهشني؛ فقلت في نفسي: لولا أن هؤلاء القوم هم القوم، وأنهم على الحق والمسلمون على ضده؛ ما كانوا على الوصف الذي ذكرت لك، فرأيت سلوكي سبيلهم خيراً لي وأحمد عاقبة؛ فهذا الذي صيرني إلى ما رأيت.

فقال له صاحبه حين أبدى له ما كان مستوراً: إذا كان هذا هو السبب الذي حوَّلك إلى ما أرى؛ فهذا ليس من الأسباب والطرق والحقائق التي يبني عليها العقلاء وأولو الألباب عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم، ويعلقون بها مستقبلهم وآمالهم، أما تأخر المسلمين فيما ذكرت؛ فليس ذلك من دينهم، بل دينهم يضاد هذا أشد المضادة، وقد علمت وتيقنت ببعض ما عرفت أن دين الإسلام يدعو إلى الصلاح والإصلاح من كل وجه: إصلاح العقائد والأخلاق والدين والدنيا، وإصلاح الأحوال الداخلية والخارجية بكل وسيلة تصلح الأمة وتكف عنها عادية الأعداء، والاستعداد لهم بكل قوة تستطاع، وها هو لا تزال تعاليمه وإرشاداته قائمة لدينا، تنادي أهلها: هلموا إلى جميع الأسباب النافعة التي تعليكم وترقيكم وتعزكم في دينكم ودنياكم! أفبتفريط أهل الدين بل المنتسبين إلى الدين تحتج على الدين وتوالي أعداءه؟! أليس العاقل إذا رأى هذا التفريط منهم أوجب له أن يكون نشاطه وجهاده متضاعفاً لينال المقامات العالية


يستنقذ الهالكين من الهوة العميقة؟! أليس القيام التام لنصر الدين في هذه الحالة من أفرض الفروض وأوجب الواجبات؟! فالجهاد في حال قوة المسلمين وكثرة المشاركين له فضل عظيم يفوق سائر العبادات؛ فكيف إذا كانوا على هذا الوصف؟! فإن الجهاد في سبيله لا يمكن التعبير عن فضله وجليل ثمراته، ففي هذه الحال يكون الجهاد قسمين:

ـ قسم جهاد لتقويم المسلمين وإيقاظ هممهم وعزائمهم، وتعليمهم كل علم ينفعهم، وإرشادهم إلى كل صلاح وإصلاح، وتهذيبهم بالأخلاق الراقية، ولعل هذا أشق النوعين وأفضلهما.

ـ وقسم فيه مقاومة الأعداء وإعداد العدد لهم من كل وجه.

أفحين صار الأمر على الوصف الذي ذكرت والحال التي شرحت، وصار الموقف حرجاً تتخلى عن إخوانك المسلمين وتتخلف مع الجبناء والمتخلفين؛ فكيف وأنت منضم إلى حزب المحاربين، لا تكن يا هذا أرذل ممن قال الله فيهم: {{تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا}} [آل عمران: 167] ، قاتلوا لأجل الدين أو ادفعوا لأجل الرابطة القومية؛ فأعيذك من هذه الحالة التي لا يرضاها ذوو الديانات ولا أهل النجدات والمودات فهل ترضى أن تشارك قومك في حال عزهم وقوة عددهم وعديدهم، وتفارقهم في حال ذلهم ومصائبهم، وتخذلهم في حالة اشتدت فيها الضرورة إلى نصرة الأولياء وغيرهم


وقمع عدوان الأعداء؛ فكيف مع هذا تظاهر الأعداء الألداء؛ فهل رأيت ديناً خيراً من دينك؟!

فقال له ذلك المنقلب: الأمر كما ذكرت لك ونفسي تَتُوق إلى أولئك الأقوام الذين أتقنوا الفنون والصناعات، وألفوا السياسات الراقية والحضارات.

فقال له صاحبه وهو يحاوره: أرفضت ديناً قيماً كامل القواعد نير البرهان يدعو إلى الخيرات، ويحث على جميع طرق السعادة والفلاح، ويقول لأهله: هلموا إلى الفلاح والنجاح! هلموا إلى دين عظيم مبني على الحضارات الصحيحة الراقية التي بنيت على العدل والتوحيد وأسست على الرحمة والشفقة على الخلق والحكمة وأداء الحقوق ومنع الظلم من جميع الوجوه والعقوق.

دين شمل بظله الظليل وخيره الكثير الطويل وإحسانه الشامل وبهائه الكامل ما بين المشارق والمغارب، واعترف بذلك الموافق والمنصف المخالف؛ أتتركه يا هذا لحضارات ومدنيات زائفة مبنية على الكفر والإلحاد، مؤسسة على الجشع والطمع وظلم العباد، فاقدة لروح الإيمان ورَوْحه ورحمته، حضارة ظاهرها مزخرف وباطنها خراب، وتظنها تعميراً للوجود وهي حقيقة الهلاك والتدمير؟! ألم تر آثارها وما جلبته للعباد من الهلاك والفناء؛ فهل سمع الخلق منذ أوجدهم بمثل هذه المجازر البشرية والفوضى المادية؟! فهل أغنت عنهم مدنيتهم وحضارتهم من عذاب الله من شيء لما جاء أمر ربك؟! وما زادتهم غير تتبيب؛ فلا يخدعنك يا هذا ما ترى من المناظر والزخرفة والأقوال المموهة والدعاوي والدعايات الطويلة العريضة التي أخذت بقلوب الرعاع الهمج، فانظر إلى بواطن الأشياء ولا تغرنك الظواهر، وتأمل النتائج الوخيمة؛ فهل أسعدتهم هذه الحضارة في دنياهم التي لا يرجون حياة غيرها فضلاً عن أخراهم؟! ألم ترهم ينتقلون من شر إلى شرور ولا يسكنون في وقت قليل إلا وهم يتحفزون إلى الطامات؟!

ثم هب أنهم متعوا في حياتهم بالعز والرياسات ومظاهر الحياة؛ فهل إذا انحزت إليهم وواليتهم يشركونك في حياتهم ويجعلونك كأحدهم؟

كلا والله، إنهم إذا رضوا عنك بمظاهرتك إياهم جعلوك من أخس خدامهم وأقذر أجرائهم، يقضون بك وطراً، ويجعلونك مصيدة لهم يصطادون بها كل من لا بصيرة عنده؛ فالله الله يا هذا في دينك! والله الله في مروءتك وأخلاقك وأدبك وفي بقية رمقك! فالانضمام إلى هؤلاء هو والله الهلاك.

فلما سمع هذا الكلام وتأمل جميع الوسائل التي تنال بها الأغراض من أولئك الأقوام؛ فإذا هي مسدودة؛ فلا دين ولا دنيا، ولا راحة قلب ولا بدن ولا سلامة، عرف أنه من المغرورين، وأن الواجب عليه متابعة الناصحين، وأن الرجوع إلى الحق الذي فيه سعادة الدنيا والآخرة خير من التمادي على الباطل الذي يحتوي على الضرر العظيم؛ فقال لصاحبه: كيف لي بالرجوع، وأنّى لي وقد انحزت إلى أولئك النزوع؟

فقال له صاحبه: ألم تعلم أن من أكبر فضائل الإنسان أن يتبع الحق الذي تبين له ويدع ما هو عليه من الباطل، وأن الموفق الحازم هو الذي إذا وقع في الهلاك سلك كل وسيلة توصله إلى النجاة والفكاك وتخلِّصه مما وقع فيه الأشراك؟ واعلم أنه كلما ذاق العبد مذهب المنحرفين وشاهد ما فيه من الغي والضلال، ثم تراجع إلى الحق الذي هو حبيب القلوب كان أعظم لوقعه وأكبر لنفعه؛ فارجع إلى الحق ثابتاً، وثق بوعد الله أن الله لا يخلف الميعاد.

فقال: الحمد لله الذي أنقذنا بلطفه وحسن عنايته من الهلاك والشقاء، ومنَّ علينا بالسعادة والهدى؛ فنسأل الله أن يتم علينا نعمته ويثبتنا عليها.

فقال له الناصح: يا أخي! وأزيدك بياناً عما ذكرت لك أن هذه المظاهر التي تراها من الكفار قد نبهنا الله عليها في كتابه، وأخبر عنها وحذرنا أن نغتر بها، قال تعالى: {{لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلاَدِ *مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ *}} [آل عمران: 196 ـ 197] ؛ فهذا الاغترار مصيدة لهم وللجاهلين بأحوالهم، وقد أرانا الله من أيامه ووقائعه فيهم ما فيه عبرة للمعتبرين وموعظة للمتقين. والحمد لله رب العالمين.


 فائدة (99) [أضرب غيبة الزوج عن زوجته]

غَيبَة الزوج عن زوجته على أضرب: إن كان قصده الإضرار بها؛ ضربت له مدة كمدة المؤلي: أربعة أشهر، وإن لم يقصد الإضرار ولم يكن سفره لضرورة أو طلب رزق يحتاجه؛ ضرب له مدة ستة أشهر، فإن لم يقدم في هاتين الحالتين؛ فلها الفسخ، وإن كان سفره لطلب رزق يحتاجه أو في أمرٍ واجب أو كان مفقوداً؛ فليس لها الفسخ إلا إذا لم يخلف لها نفقة، فلها الفسخ لأجل تعذر النفقة. والله أعلم.

 فائدة (100) [حفـظ المـال]

يستفاد من إرشاد النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى دبغ جلود الميتة([66]) وإخباره بطهارتها: الأمر بحفظ المال والنهي عن إضاعته، ومعالجة ما أمكن جعله مالاً ينتفع به بالمعاجلة التي لولاها لم يكن مالاً يصلح الانتفاع به.

 فائدة (101) [من أحكام الرضاع]

يستفاد من كلام الأصحاب أن المرأة ذات اللبن من زوج سابق


ثم تزوجت زوجاً آخر، فوطئها الزوج الثاني، فبقي لبنها بحاله أو زاد؛ أنه للأول، وكذا لو حملت من الثاني في الصورتين إلا أنه إذا زاد في أوانه وهو كما قال بعضهم: أربعون يوماً من حملها من الثاني، وأنه إن زاد لبنها من الثاني التي حملت منه في أوانه أو انقطع اللبن الأول، ثم عاد بعد الحمل وقبل الوضع؛ فللاثنين، أو ولدت من الثاني ولم يزد لبنها ولم ينقص؛ فلهما، ولكن الصحيح أنه إذا انقطع ثم عاد؛ فللثاني خاصة كما صوبه في «الإنصاف»، وكذلك الصحيح أنها إذا ولدت من الثاني ولم يزد؛ فللثاني كما اختاره الموفق وغيره، وهو قول الجمهور.

 فائدة (102) [من أحكام الرضاع]

قد يكون صاحب اللبن أباً للراضع دون المرضعة، وبالعكس، مثال ذلك أن يكون له زوجتان ترضع كل واحدة منهما الرضيع ثلاث رضعات؛ فالزوج صار أباً للراضع؛ لأنه اجتمع من لبنه ست رضعات، والزوجتان ليستا أُمَّين للراضع لأن كل واحدة لم ترضعه رضاعاً محرماً، لكن الطفل يكون ابناً لزوجهما؛ فيكون مَحْرَماً لهما من هذه الجهة.

ومثال العكس: أن ترضع المرأة من لبن زوج ثلاث رضعات، ثم يفارقها وتتزوج زوجاً آخر، وتحمل منه وترضع بلبنه هذا الراضع الذي رضع منها أولاً ثلاث رضعات؛ فالمرضعة صارت أمًّا لوجود الشرط، وهو أنها أرضعت الرضيع ست رضعات، ولم يكن زوجها الأول ولا الثاني أباً للرضيع؛ لأنه لم ترضع من لبن كل واحد منهما إلا ثلاث رضعات، لكن يكون الطفل أو الطفلة ربيباً لكل منهما؛ لثبوت الأمومة من الزوجة.

 فائدة (103) [من أحكام النفقة]

قول الأصحاب ـ رحمهم الله ـ في نفقة الزوجة: ولا يعتاض عن النفقة الماضية بربوي كان عوضها عن الخبز بحنطة أو دقيقها؛ فلا يصح ولو تراضيا عليه؛ لأنه ربا. انتهى.

فيه نظر، وهذا القول يشبه الأقوال التي تقع غلطاً محضاً لا وجه له من الدليل والتعليل؛ لأن هذا ليس بمعاوضة حقيقة، فإن الشارع لم يعتبر الواجب بأكثر من الكفاية؛ فبأي شيء حصلت الكفاية كان ذلك هو الواجب، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة: «خذي ما يكفيك من ماله ويكفي ولدك»([67])؛ فقدر ذلك بالكفاية، وإنما صير إلى إيجاب الخبز عند الاختلاف لترجحه بكونه القوت المعتاد، فالأصل أن الواجب للزوجة ما يكفيها؛ فأي شيء كفاها من خبز أو تمر أو زبيب أو أرز أو شعير أو ذرة مما يتفق ويوافق العرف؛ كان هذا هو الواجب وقت الوفاء.


فالمسألة التي ذكروها ليست في الحقيقة عوضاً من شيء معين مستقر في الذمة. والله أعلم.

وهذا القول الذي ذكرته هو الذي رجحه الشيخ الموفق في «المغني»، وكذلك قد ذكر الأصحاب وجهاً أنها إذا قبضت الكسوة ومات الزوج أو ماتت: أنها تملكها ولا يرجع عليها بشيء منها. وهو المختار.

 فائدة (104) [توطين النفس على العمل]

توطين النفس على العمل والعزم الذي لا تردد فيه أكبر عون على إتمامه وإتقانه وسهولته على العامل، والسبب ظاهر؛ فإن النفس متى عزمت عزماً أكيداً لا تردد فيه؛ لم يبق لها التفات إلى غيره، وانحصر الفكر والهمة والإرادة فيه، وتوجهت إلى إكماله وإتقانه، ولا شك أن الإقبال بالكلية على العمل يحصر التوجه الباطن والظاهر إليه مع([68]) ما يحصل من معونة الله للعبد الذي على هذا الوصف، فإذا وطن نفسه على العمل؛ عمل العبد جميع الأسباب التي تكمل له العمل التي من أعظمها الاستعانة بالله والتوكل عليه، قال تعالى: {{فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}} [آل عمران: 159] ، ولهذا المتردد الذي يعمل العمل وليس من نيته الجازمة تكميله، بل يعلق


تكميله على أمور أخر سريعاً ما ينحل عزمه ويتوجه قلبه إلى وجهة أخرى، ويضعف عمله لذلك؛ فالعزم والثبات هما السبب الأكبر لنيل المطالب المتنوعة، ومن دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم! إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد»([69] لأن بالأمرين يحصل الكمال للعبد: العزيمة على الرشد التي هي أمور الخير كلها ثم الثبات على ذلك، والنقص إما من عدم العزيمة أو العزيمة على ما ليس يرشد، وهي الأمور التي لا نفع فيها في الدين ولا في الدنيا، أو عدم الثبات الذي سببه التردد وعدم التصميم؛ فعلى من شرع في عمل رشد نافع أن يوطن نفسه على تكميله من كل وجه، ويوجه له وجهته الظاهرة والباطنة، ولا يستبطىء النتيجة النافعة، بل يثابر عليه مثابرة الجازم الذي لا مثنوية عنده ولا تلوم.

وَقَلَّ مَنْ جَدَّ في أَمرٍ تَطَلَّبَهُ            واسْتَصْحَبَ الصَّبْرَ إلاَّ فَازَ بالظَّفَرِ

فطالب العلم، وسالك طريق خير، وطالبٌ سبباً من الأسباب الدنيوية النافعة؛ كل هؤلاء محتاجون إلى توطين نفوسهم على مطلوبهم، وأن يستمروا على ما يسره الله لهم من الأسباب التي ينالون بها مطالبهم، ويثابروا على ذلك حتى يتم لهم ما أرادوه وطلبوه، ولا ينتقلوا في الأسباب قبل تمام ما قصدوه؛ فإن التنقل في الأسباب وكثرة الطوارىء التي تطرأ على العبد مضيعة للوقت مذهب للبركة. والتجربة والمشاهدة خير شاهد لذلك. والله الموفق.

 فائدة (105) [الضمان في المتلف للنفوس والأموال]

الأصل في المتلف للنفوس والأموال بغير حق أن الضمان يكون عليه عامداً أو ساهياً أو جاهلاً؛ إلا في مسائل:

ـ منها: ما يتلفه العبد يكون في رقبته ويفديه السيد بالأقل من أرش الجناية وقيمته.

ـ ومنها: من أرسل صغيراً أو مجنوناً لا ولاية له على واحد منهما، أو استعمله في عمل فأتلف أو تلف؛ فضمان ذلك على المرسل.

ـ ومنها: الغاصب للعبد جميع إتلافاته، وتلفه ضمانه عليه.

ـ ومنها: العاقلة تحمل دية الخطأ وشبه العمد، فإن تعذر ذلك؛ فعلى بيت المال.

ـ ومنها: خطأ الحاكم في حكمه والإمام ونوابه في أحكامه وأعماله العامة؛ فإنها في بيت المال.

ـ ومنها: خطأ الوكيل والوصي والناظر للوقف والولي وما أشبههم من أهل الولايات إذا أخطؤوا في تصرفاتهم وأعمالهم؛


فالضمان ليس عليهم إذا لم يتعدوا أو يفرطوا، بل على تلك الجهات، وكذلك الأمناء على الحيوانات والأموال ونحوها لا ضمان عليهم إذا لم يتعدوا أو يفرطوا.

ويشبه هذا من بعض الوجوه أن البهائم جناياتها هدر إلا ما نُسِب صاحبها إلى تفريط أو تعدٍّ، أو كان متصرفاً فيها كما فصل ذلك في أبوابه. ونظير ذلك من أعطى الصغير أو السفيه أو المجنون من أموالهم ما لا يصلح أن يعطوا؛ فإنه ضامن لإتلافهم في هذه الحال لأموالهم، وهم المباشرون للإتلاف.

 فائدة مهمة جدًّا (106) [الأبواب والأحكام الغريبة]

الأبواب والأحكام الغريبة وهي التي انفردت بحكم خاص يخالف ما ثبت من الحكم للأصل الكلي؛ فهي كالمستثناة من الأصل، واعلم على وجه الإجمال أنه لا يوجد في الشرع مسألة واحدة انفردت عن نظائرها بحكم خاص إلا لسبب ووصف امتازت به، وأوجب لها الخروج عن نظائرها؛ لأن من أصول الشرع المطردة أن الشارع لا يفرق بين المتماثلات من كل وجه، وإذا تتبعت هذا النوع وجدت الأمر كما ذكرنا.

من ذلك باب العاقلة؛ فإن الأصل أن المتلف ضمان ما أتلفه عليه، ولكن لما كان قتل الخطأ وشبهه يكثر والقاتل لم يتعمد تعمداً محضاً وحمله جميع الدية شاق متعذر أو متعسر جدًّا، والعصبات كانوا يتعاونون ويتناصرون ويتساندون في كثير من الأمور؛ فكان من الحكمة الشرعية حملهم عن القاتل الدية في هذه الحال تحقيقاً للمناصرة، وحثًّا على المعاونة وتسهيل الأمر عليهم من وجوه:

من جهة تعميمهم فيها وتحميلهم بحسب حالهم وتأجيلها عليهم ثلاث سنين كل عام ثلثها؛ فحينئذٍ تخف عليهم ولا تهدر الدماء المعصومة.

وأيضاً متى علمت العاقلة أنهم هم الحاملون لذلك؛ منعوا مجانينهم وصغارهم وسفهاءهم من الأسباب التي يحصل بها القتل خوفاً من التحميل وشفقة عليهم، فكان حمل العاقلة من المعاونات العرفية ومن المحاسن الشرعية.

ومن ذلك القسامة؛ فإن الأصل أن المدعي عليه البينة واليمين على المدعى عليه، وأما القسامة؛ فلما تعذرت البينة على المدعي وحصل اللوث الذي هو القرائن الظاهرة القوية؛ قوي حينئذٍ جانب المدعين، فصار القول قولهم، لكن على وجه لا يكاد يقدم عليه أحد إلا بعد التروي والتحقق واليقين، أو شبهه أن المدعى عليه هو القاتل بأن يقسم جميع رجال الأولياء خمسين يميناً على القاتل؛ فمع وجود القرائن الظاهرة ومع إقدام جميع الأولياء ومع هذه الأيمان المكررة المغلظة يتضح حينئذٍ أن قبول قول المدعين أقوى من كثير من البينات كما هو ظاهر لكل أحد.

ومن ذلك: باب النذر مخالف للأصل الذي هو أن الوسائل لها أحكام المقاصد، والنذر عقده مكروه، وهو الوسيلة والوفاء به


واجب، وهو المقصود؛ فالشارع نهى عن النذر وقال: «إنه لا يأتي بخير»([70])، وأمر بالوفاء به، ومدح الموفين، والسبب ظاهر؛ فإن إيجاب الإنسان على نفسه شيئاً من العبادات التي عافاه الله من وجوبها تعرض للبلاء وتعرض للمعصية، والإنسان ينبغي له أن يسعى في أسباب العافية الدينية والدنيوية من كل وجه، فإذا نذر؛ فقد حمل نفسه أمراً لا يدري هل يطيقه أم لا، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن العبادة لله لا تتم ولا تكمل إلا بالإخلاص التام لله والنذر فيه إخلال من الإخلاص ونقص؛ فإنه إذا قال العبد: لله عليَّ نذر إن شفاني أو شفى مريضي أو أعطاني الشيء الفلاني؛ لأفعلن كذا وكذا من العبادات، ثم حصل له؛ كان ذلك يشبه المعاوضة والمقابلة، وأنه لم يفعل العبادة الي عينها إلا بالشرط الذي علقها عليه، والإخلاص المحض أن يكون الداعي والحامل للعمل وجه الله خالصاً، لا جزاء عاجل، ومن جهة أخرى أن الناذر جزم على الفعل ولم يعلقه بالمشيئة، وهو من هذا الوجه يشبه المتألي على الله، ومن جهة أخرى كثير من الناس يظن أن النذر سبب لحصول الأمر المنذور، وهذا كذب بنص الشارع، حيث قال: «إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل»؛ فهو ليس من الأسباب التي نصبها الشارع لحصول مسبباتها، وفي قوله: «وإنما يستخرج به من البخيل» إشارة إلى ضعف إخلاص الإنسان، فإن البخيل الذي لا داعي قوي عنده من الإيمان يقضي على بخله، وإنما يستخرج منه بمثل النذر ونحوه؛ فكأن خيره الذي فيه خير ناقص ردي.

فبهذه الأسباب صار عقد النذر مكروهاً والوفاء به واجباً.

ـ ومنها: باب الشفعة؛ فإن الأصل أن مال الغير لا يتملكه الإنسان إلا باختياره ورضاه، فالمشتري للشقص الذي تملكه بالشراء جعل الشارع للشريك أن يتملكه منه قهراً عليه لسبب ظاهر، وهو إزالة ضرر الشركة من غير ضرر يكون على المشتري؛ فالمشتري يعود إليه الثمن الذي بذله ولم يكن قبل هذا مالكاً متصرفاً، فأباح الشارع للمالك الأصيل الذي له من التصرفات السابقة والحاضرة والمستقبلة والعمارات وتوابعها أن يتملكه من هذا المشتري الحادث إزالة لضرره وتتميماً لمقاصده، وحقق ذلك إن كانت الشفعة في العقارات التي لم تقسم، بخلاف المنقولات ونحوها؛ لأن ضرر العقارات أكثر وأدوم من غيره.

ـ ومنها: باب الوقف؛ فإن الأصل في الأموال جواز التصرفات المطلقة فيها من جميع الوجوه، والوقف قد علمت أحكامه الكثيرة الخاصة المترتبة على أنه تسبيل الأصل وتوقيف المنافع، وذلك لما يترتب عليه من المصالح المتسلسلة النافعة للحاضرين والمستقبلين، وللأحياء والأموات، وللمصالح الخاصة والمصالح العامة. والله أعلم.

ـ ومنها: أحكام أمهات الأولاد؛ فإن الأصل أن الإماء


يتصرف فيها سيدها في منافعها ورقبتها وأم الولد تختص بأحكام تميزها عن سائر الإماء؛ لأنه لما تولد الولد الحر فيها من سيدها سرى منه شيء اقتضى ثبوت هذه الأحكام المتبعضة في حال حياة سيدها، وأنه يتصرف في منافعها دون رقبتها وبعد موته يثبت لها الخروج التام عن ملكه؛ فهذه الخواص لهذا السبب أوجبت اختصاصها بأحكامها المعروفة.

ـ ومنها: في العبادات: الحج والعمرة؛ فإن فيها خواصًّا اختصت بها من بين سائر العبادات. العباداتُ لا يجب إتمام نوافلها، والحج والعمرة إذا شرع فيهما يجب إتمامهما؛ لأن الشروع في عقدهما بمنزلة إيجاب العبد على نفسه شيئاً من العبادات، ولذلك قال تعالى: {{فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ}} [البقرة: 197] : أي: أوجبه على نفسه، {{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ}} [الحج: 29] ؛ فسمى متعبدات النسك نذوراً؛ لأنه أوجبها على نفسه بعقد الإحرام.

ـ ومنها: أن من عليه حجة الإسلام لا يصح أن يصرفها عن غيرها، ولا أن يحج عن غيره؛ فإن فعل ذلك انقلبت إلى نفسه عن حجة الإسلام؛ لأن أول نسك بعد وجوبه على المكلف غير قابل لغير الفريضة الإسلامية التي هي فريضة العمر؛ فمهما نوى العبد بها من النيات المنافية لهذا المقصد؛ لغت تلك النيات المعارضة، وبقي الأصل سالماً.


ـ ومنها: أن المفرد والقارن إذا طاف للقدوم وسعى بعده سعي الحج، ثم قلب ذلك وفسخه إلى العمرة كما هو المشروع، والأفضل أن ذلك الطواف الذي كان للقدوم وذلك السعي الذي كان للحج ينقلبان للعمرة ركنين من أركانها، مع أنه أدى الطواف بنية النفل وهو طواف القدوم، وأدى السعي بنية سعي الحج، ثم انقلبا كما ترى، وهذا يعد من الغرائب، والسبب في ذلك كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة»([71])، والعمرة أيضاً هي الحج الأصغر، وأيضاً إذا فسخ القران والإفراد ناوياً التمتع؛ فهو في الحقيقة لم ينقض ما سبق له من الأعمال والنيات، وإنما أتى بها على وجه أكمل؛ فهو لم يصرفها إلى شيء آخر، وإنما أدارها من صفة إلى صفة أحسن منها وأتم؛ كما أمر به النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه بعدما طافوا وسعوا أن يجعلوها عمرة([72])، واكتفوا بذلك الطواف والسعي عنها مع أن أكثرهم لم يفسخ إلا بعد كمال السعي؛ فللحج والعمرة من الارتباط الوثيق ما ليس لغيرها من العبادات؛ فهذا الذي أوجب استغراب هذه المسائل التي لا نظير لها بل تخالف نظائرها.

ـ ومنها: أنه لو أراد المحرم الخروج من إحرامه قبل الفراغ من نسكه بدون عذر حصر أو نحوه لم يتمكن من ذلك، وفسخه غير معتبر وغير مبطل للنسك؛ لما ذكرنا من لزوم إتمام فرضهما ونفلهما وعدم قبول النسك لشيء آخر. والله أعلم.

ـ ومن المسائل الغريبة على ما فيها من الخلاف: مسألة منع الرجل من الماء الذي خلت فيه المرأة لطهارة الحدث دون الخبث؛ فهي غريبة من عدة وجوه، والقائلون بها لا يعللون ذلك، بل يقولون: إن هذا تعبدي؛ لأنهم لا يشاهدون لها تعليلاً وجيهاً، وأما الذين يرون ضعفها؛ فتخرج المسألة عندهم من هذا الباب، وهو الصواب؛ لأدلة كثيرة مذكورة في غير هذا الموضع.

ـ ومن المسائل الغريبة: أن المسبوق في الصلاة إذا زاد إمامه ركعة سهواً لا يعتد بها المسبوق، بل يأتي بركعة غيرها ويقولون: لما لغت في حق الإمام لغت في حقه، وهذا تعليل فيه ضعف كثير؛ فإن الإمام إنما لغت في حقه لكونها وقعت موصوفة بصفتين: السهو، والزيادة على ما يجب عليه، أما المأموم؛ فلا وجه لإلغائها إذا كان مسبوقاً بركعة فأكثر؛ لأنها أصيلة في حقه لا زائدة، وأيضاً؛ فإنه وقع الإجماع على أن من زاد في فريضة ركعة واحدة متعمداً فصلاته باطلة، ولم يستثن من هذا العموم صورة واحدة، فَلِمَ خرجت هذه الصورة عن هذا العموم؟ وعدم اعتبارها في حق الإمام لا يوجب خروجها. والله أعلم.

ـ ومن الغرائب أيضاً: بعض عيوب الأضاحي عند القائلين بها، مثل: العضباء التي ذهب أكثر أذنها أو قرنها، والعصماء التي


انكسر غلاف قرنها من دون أن يحدث مرضاً أو جرحاً، ونحوها فإن هذا مخالف للمعهود المعقول من العيوب الضارة، وهي المريضة البين مرضها، والعرجاء البين عرجها، والعوراء البين عورها، والهزيلة التي لا مخ فيها، وما كان مثلها أو أولى منها، وكذلك العيوب في البيع والمعاوضات، وهو ما نقص قيمة العوض أو المعوض هذا معقول، وكذلك عيوب الرقبة في الكفارة، وهو عيب واحد، وهو كل عيب يضر بالعمل ضرراً بيناً؛ فكل هذا مما ينافي المقصود، وأما بعض عيوب الأضاحي المذكورة؛ فعند القائلين به يقولون: هذا تعبدي لأن فقدها لا يضر باللحم ولا بالقيمة لغير هذا الغرض، وأما من يقول: تجزي، وليس من العيوب المانعة، وإنما هي من الكماليات كما هو القول القوي؛ فيزول هذا الاستغراب، ونظير ذلك العيوب في النكاح عينوا منها عدة أشياء ونفوا منها عيوباً في الحقيقة هي مثلها أو ربما كانت أعظم منها؛ فيعد هذا النفي من غرائب العلم عند القائلين به مثل العمى والصمم وقطع اليدين والرجلين والخرس، وحيث إن القول ضعيف لا يجيب القائلون به إلا بجواب ضعيف، وأما على القول الصحيح، وهو أن هذه الأمور من العيوب المثبتة للفسخ والخيار؛ فيزول هذا الاستغراب؛ لأن العيب الحقيقي ما نقص المعقود عليه وما منع حصول المقصود كله أو بعضه، فإذا طردنا هذا ولم نستثنِ شيئاً؛ كنا أخذنا بما هو معقول مستحسن عرفاً وشرعاً. والله أعلم.

ـ ومن غرائب العلم الصحيحة: أمور اختص بها النكاح لأسباب قد ذكرناها في السؤال والجواب([73])، وهي أحكام متعددة.

ـ ومن غرائب العلم عند القائلين به: أن صلاة المأموم تبطل بصلاة إمامه، مع أنه إذا لم يعلم بالبطلان إلا بعد الصلاة أعاد الإمام ولم يعد المأموم، ووجه الاستغراب أن الأصل الشرعي الفقهي أن كل مصلٍّ لا تبطل صلاته إلا إذا ترك بعض الشروط أو الأركان أو الواجبات لغير عذر أو فعل بعض المبطلات، وهذه المسألة عند القائلين بها بطلت صلاة المأموم بأمر خارج عن فعله وعمله، بل ببطلان صلاة إمامه، ويعللون هذا بأن صلاة المأموم مرتبطة بصلاة إمامه، فإذا بطلت صلاة الإمام بطلت صلاة المأموم، والصواب القول الآخر، وأنها لا تبطل؛ فعلى هذا القول الصحيح لا تصير من الغرائب، بل هي جارية على الأصل، والعبادة لا تبطل إلا بالأشياء التي أبطلها الشارع بها، وهذه ليست منها، ولهذا من لم يعلم إلا بعد الصلاة؛ فصلاة المأموم صحيحة، والارتباط الذي عللوا به إنما هو وجوب المتابعة لا غير، وأما بقية الأحكام؛ فكل مصلٍّ له ما كسب وعليه ما اكتسب.

ـ ومنها: بعض مسائل الاستبراء؛ فإن الاستبراء الغرض منه معرفة براءة الرحم من ولد الغير؛ لئلا تختلط المياه وتشتبه الأنساب، وذلك عند الشك في اشتغال الرحم معقول.

وأما عند اليقين ببراءة الرحم؛ كإذا ملك الأمة من امرأة أو من صبي أو ممن يعلم أنه استبرأها؛ فإيجاب الاستبراء غريب، ولكن يعللون ذلك بالتعبد تارة وبالاحتياط وسد الذريعة تارة أخرى، وطريق الاحتياط مطلوب شرعاً وعرفاً، ومن العلماء من قال: إنه في هذه المسائل التي يعلم يقيناً براءة الرحم لا يجب استبراء؛ كما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية؛ فعلى قولهم لا غرابة في هذه المسائل.

وأما مسائل العدد؛ فليس فيها شيء غريب لأنه ليس الغرض من العدة علة واحدة وهي طلب براءة الرحم، بل له عدة علل إذا فقد بعضها؛ فالبقية موجودة؛ فإنه يقصد منها براءة الرحم، وأداء حق الزوج والزوجة، وتطويل العدة للتمكن من الرجعة ولجريان النفقة وللاحتياط للولد، ولغير ذلك من الحكم الظاهرة للمتأمل. والله أعلم.

ـ ومن ذلك: انتقاض وضوء الماسح على الخفين بتمام المدة وبخلع الممسوح عند القائلين به، إنهما من النواقض الغريبة؛ لأنه لم يحصل شيء من نواقض الوضوء لا حدث، ولا ما هو مظنة الحدث، لكنهم يعللون بأن المسح ضرورة ولا يجتمع مع الغسل، وهي علة ضعيفة، ومن قال؛ لا ينتقض الوضوء بالخلع ولا بتمام المدة؛ فقوله أصح، ولم يأت دليل شرعي يدل على النقض بهما، والأصل عدم النقض، وهذا القول هو الصواب، وبه تخرج المسألة عن الاستغراب.

ولنقتصر من هذه الفائدة على هذه الأمثلة التي يحصل بها التوضيح وفتح هذا الباب. والله الموفق.

 فائدة (107) [الشبهة التي تدرأ الحد]

الشبهة التي تدرأ الحد هي الاشتباه واعتقاد حل الموطوءة، سواء كان الاعتقاد مصيباً أو مخطئاً، ويدخل في ذلك العقود الفاسدة والباطلة إذا ظن الواطىء صحتها، كما يدخل في ذلك الاشتباه الاعتقادي من دون عقد كأن يطأ من ظنها زوجته أو سريته، ولكن قد توسع الأصحاب في مسائل الشبهة، حتى عدوا ما يعلم أنه ليس بشبهة أصلاً.

ومن ذلك قولهم: ويدرأ الحد عن الزاني إذا قال: إنها امرأته، أو ادعى السارق أن المسروق ملكه من غير بينة ولا إقرار يدل على شيء من ذلك، بل ولا قرينة ولا دعوى متقدمة؛ فهذا ممّا يعلم أنه ليس من الشبهة في شيء، ولو فتح هذا الباب؛ لانفتح شر كثير، وتعطلت كثير من الحدود الشرعية؛ فعلم أن هذا القول بعيد من الصواب، بل يجزم بخطئه. والله أعلم.

 فائدة  (108) مهمة للمعتنين بكتب الفقه ومقاصد الأبواب وبعض مناسبات تربط بعض الأبواب ببعض

اعلم وفقك الله، وعلمك ما لم تكن تعلم من العلوم النافعة أن الفقهاء الذين اعتنوا بكتب الأحكام والفقه وتأليفها وترتيبها أحسنوا على الناس إحساناً عظيماً، بما رتبوه وقربوه لهم من العلم، حيث  حصروا أجناس المسائل الدينية وأنواعها بأبواب وفصول، تجمع شملها، وتضم متفرقاتها، وتقرب بعيدها، وتسهلها على المعلمين والمتعلمين، وتكفيهم المؤنة الشديدة في تتبعها من مظانها الذي لا يكاد يصل إليه إلا أفراد من المبرزين في العلم؛ فاعتنى الفقهاء، فجمعوا مثلاً أحكام الصلاة في أبواب وفصول، كل باب وفصل جمعوا فيه من الأحكام المتفرقة في نصوص الكتاب والسنّة والأقيسة الصحيحة، وهكذا الزكاة والصيام وبقية العبادات وأبواب المعاملات والتبرعات والمواريث والأنكحة وتوابعها والجنايات وتوابعها؛ فقربوا البعيد، وجمعوا المتفرقات، وسهلوا الشديد؛ فلهم بذلك الفضل الأكبر واليد البيضاء والشكر والدعاء من جميع المنتفعين بهذا التعليم الذي يسره الله على أيديهم وبمساعيهم المشكورة وأياديهم المبرورة؛ فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين أفضل الجزاء، ورفع الله درجاتهم، وضاعف لهم الأجور، وغفر لهم القصور، وعلى المنتفعين أن يشكروا الله على هذا التيسير الذي أجراه الله على أيديهم وبسببهم، ويحمدوه على هذه النعمة الكبرى وغيرها؛ فإنه أهل الثناء والحمد والنعم كلها منه، أسبابها ومسبباتها؛ فهذا التنبيه يفيدنا معرفة أقدار أهل العلم، وشكرهم على ما عملوا مع الأمة، والعناية بهذه التعاليم الجميلة والتقريبات التي كفت طالب العلم عن عناء ومجهود كبير.

إذا علمت ما سبق من الإجمال؛ فهـهنا إجمال آخر، وهو أن الفقهاء ـ رحمهم الله ـ بدؤوا بما الناس إليه أحوج وأكثر اضطراراً إليه ومنفعة، قدموا العبادات على غيرها؛ لأن العبادات لازمة للمكلفين،


وهي المقصود وما سواها وسائل وتوابع، وقدموا منها الصلاة، ثم الزكاة، ثم الصيام، ثم الحج؛ لأنها في مراتب الحاجة والاضطرار إليها على هذا الترتيب؛ كما هو معلوم، ثم ثنوا بالمعاملات لكثرة نفعها وتقدمها على المواريث والأنكحة والتبرعات، ثم الوصايا والمواريث وتوابعها؛ لأنها تتعقب الحياة وتتصل بها، ثم الأنكحة وتوابعها؛ لأنها دون المعاملات في الكثرة والحاجة، ولكن حاجتها ضرروية ونفعها كبير.

ولما كانت الجنايات إنما تقع غالباً متفرعة عن معاملات أو أنكحة أو نحوها؛ أخروها على هذه الأبواب، وأخروا عن الجميع أبواب الأقضية والشهادات والإقرارات؛ لأنها تقع فرعاً عن المعاملات وحقوق الزوجية، ويقع فيها من التخاصم والاشتباه شيء كثير؛ فيحتاج بعد وجوده إلى ما يبينه ويبين الحكم فيه؛ فهذه المناسبات الجميلة بين هذه الأبواب يغلب على الظن أنها أو بعضها مقصودة للفقهاء؛ غفر الله لهم ورحمهم.

 (109) فصـل تابـع

إذا علمت هذه المقدمة؛ فلنعد إلى ما قصدنا بيانه؛ فنقول: فقهاؤنا وأصحابنا الحنابلة وكذلك جمهور العلماء وغيرهم بدؤوا بالطهارة قبل الصلاة لأنها مفتاحها وسابقة لها ومتقدمة عليها، ولما كانت الطهارة نوعين: أصلية؛ وهي الطهارة بالماء قدموها، وبدلية؛ وهي التيمم أخروها عنها؛ فكتاب الطهارة يبحث فيه عما يتطهر به من المياه وما لا يتطهر، وعما يستعمل من الآنية وما لا يستعمل، ثم باب الاستنجاء الذي هو مقدمة الطهارة وشرط من شروطها، ويفرعون أحكامه، ثم السواك وسنن الفطرة؛ لتقدمه على الوضوء، ثم الوضوء، وشروطه وفروضه وصفاته وسننه، وألحقوه بباب المسح على الخفين؛ لأنه في الحقيقة متمم للوضوء، فإن أعضاء الوضوء لها حالة يباشرها الماء وحالة يمسح ما عليها من الحوائل؛ فاحتيج إلى إلحاقه، ثم بما ينقض الطهارة وما يرجع إليه عند الشك والاشتباه ثم ما يمتنع على المحدث من العبادات، ثم ألحقوا ذلك بالطهارة الكبرى([74])، وصنعوا فيها كما صنعوا بالطهارة الكبرى، ثم بعد ذلك تكلموا عن التيمم ومتى يشرع وما ينوب عن طهارة الماء فيه عند التعذر، وهل هو في كل شيء أو في شيء دون شيء، وذكروا مكملاته ومفسداته، ثم لما كانت الطهارة قسمين: أحداث ترفع، ونجاسات تزال؛ ذكروا باب إزالة النجاسة، وذكروا فيه أنواعها وكيفية تطهيرها، وذكروا في هذا الباب أصولاً كبيرة تتعلق بالطهارة والنجاسة والحلّ والتحريم من الحيوانات وغيرها، ولما كان الحيض والنفاس والاستحاضة قسماً من أقسام النجاسات، ولكن لها خواص وأحكام تخصها أفردوها بباب ذكروا فيه كل أحكامها وختموا بذلك باب الطهارة.

 كتاب الصلاة والزكاة

ذكـروا أولاً في مقدمـة هـذا الكتاب أحـكام الصلاة في الجملـة

ومن تجب عليه ومن لا تجب وحكم تاركها، وتوابع ذلك مما تستصحبه معك في أبواب الصلاة كلها، ولا يخفى مناسبة تقديم الأذان؛ لأنه إعلام بدخول وقتها، ثم قدموا الشروط لأنها تتقدم على المشروط وتستمر معه إلى الفراغ، ثم ذكروا صفة الصلاة ما يلزم فيها وما يستحب على ترتيبها، ثم ميزوا ما فيها من الأركان والواجبات والمستحبات بذكر ما يختص به كل واحد منها، ثم بعد ذكر المكملات ذكروا المنقصات لها من مكروهات تنقص ثوابها ومقصودها ومن مبطلات تفسدها وتلغيها، ثم لما كان السهو متأخراً عنها؛ أخروه وفصلوه في باب ذكروا أسبابه الثلاثة؛ الزيادة، والنقصان، والشك؛ وحكم كل واحد، ثم أعقبوا بصلاة التطوع؛ لأنها تكميل للفرائض وتتميم، وذكروا مراتبها ودرجاتها، ولما كانت صلاة الجماعة من الواجبات للصلاة في حق بعض المصلين لا من الواجبات فيها؛ أخروها على هذه الأبواب، وذكروا حكمها والإمام وصفته اللازمة والمستحبة ودرجات الأئمة وكيفية الائتمام، ثم ذكروا الأعذار التي تسقط وجوب الجمعة والجماعة وعقبوه بباب صلاة أهل الأعذار من جميع المصلين، وقسموا الأعذار إلى أمراض ونحوها وسفر وخوف، وذكروا لكل سبب ما يناسبه، ثم أخروا صلاة الجمعة والعيدين لأنها تتكرر في الأسبوع وفي العام، ثم ذكروا صلاة الكسوف والاستسقاء؛ لأنها عوارض تعرض بحسب وجود أسبابها، ثم ختموا كتاب الصلاة بصلاة الجنائز؛ لأن أهم ما يفعل بالميت الصلاة، وقد ذكروا فيه جميع أحكام الميت وأهل المصيبة وزيارة القبور وتوابعها، وبهذه الأبواب لم يبقوا من متعلقات الصلاة شيئاً إلا ذكروه، فجزاهم الله خير الجزاء بجمعهم وحسن ترتيبهم وتقسيمهم.

 كتـاب الزكـاة

ذكروا في مقدمته نظير ما ذكروه في الصلاة، ذكروا الأحكام الكلية التي تشترك فيها جميع الأموال الزكوية وشروطها وما يمنعها ويتعلق بذلك، ثم فصلوا كل نوع من أنواع الأموال المزكاة بشروطه وأحكامه الخاصة ومقادير أنصبائه ونحو ذلك، ثم ذكروا زكاة الأبدان، وهي زكاة الفطر، وذكروا أهل الزكاة من تدفع إليه وموانع ذلك وصفة الإخراج، وختموه بصدقة التطوع؛ لأنها تكميل وتتميم للفريضة.

 كتـاب الصيـام

ذكروا في مقدمته ما يجب عليه صيام رمضان وحقيقة الصيام والصيام الواجب والمندوب، ثم ذكروا المفطرات التي تفسده والمنقصات التي تنقص أجره وثوابه والأيام التي يكره صيامها أو يحرم، وختموه بذكر ليلة القدر وبالاعتكاف؛ لأنها خاتمة الصيام.

 كتـاب الحـج

ذكروا في مقدمته شروط الوجوب، ثم المواقيت، ثم الأنساك الثلاثة وما تشترك فيه وما يتميز به كل واحد منها، ثم محظورات الإحرام، ثم صفة الحج والعمرة من أولها إلى آخرها، وميزوا أركانها من واجباتها من مستحباتها وما يختص به كل واحد، ثم ذكروا الدماء الواجبة والمستحبة وجزاء الصيد وتوابع ذلك، وذكروا بعده زيارة النبي صلّى الله عليه وسلّم ومسجده، وحين ذكروا الهدي ناسب أن يذكروا بعده أبواب الأضاحي والعقيقة؛ لأن هذه الدماء دماء قربان إلى الله؛ فالهدي كمال النسك وزينته، والفدية ترقع خلله، والأضاحي قربة عامة لجميع المسلمين، والعقيقة شكران بنعمة الله بوجود الأولاد وهبتهم، ولهذا كانت على قدر النعمة؛ فالذكر عقيقتان، والأنثى لها واحدة، كما كانت الأنثى نصف الذكر في الميراث والوصية والهبة والشهادة والعتق؛ عتق النفل.

وبعد أن ذكروا أركان الإسلام الأربعة وفروعها ومتعلقاتها، وكان الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الدين وبه قيامه، ولا تتم العبادات المذكورة ولا يُمَكَّنُ لأهلها إلا به، ذكروا أحكام الجهاد الكثيرة وحيث كان من أحكامه حكم الإسلام على الكفار ولهم، ذكروا بعده أحكامهم من أهل الذمة والمستأمنين وأهل الحرب وما يختص به كل قسم، وبه ختموا العبادات.

 كتاب البيوع والمعاملات

تقدم أن البيوع بعد العبادات في المرتبة الأولى من الحاجة والكثرة وضرورة العباد إليه؛ لهذا قدموه؛ فذكروا حده الجامع لمتفرقاته وشروطه السبعة التي تأتي على كل نوع منه، حتى الأبواب التي يفردونها عنه؛ كباب السلم، وباب بيع الأصول والثمار؛ فشروط البيع السبعة مستصحبة معك في هذه الأبواب، ولكن ذكروا وخصوا هذه الأبواب لانفرادها بأحكام تميزت به؛ فشروط السلم السبعة غير الشروط السبعة الأصلية، وبشروطه الخاصة أفردوه، وكذلك بيع الأصول والثمار حيث كان للعقارات وللثمار أحكام خاصة في حل البيع وعدمه وفي الذي يدخل في مسمى ما عقد عليه وما لا يدخل أفردت بباب، وذكروا بعد البيع وشروطه الأصلية التي لا بد منها إلى الشروط فيه الذي يشرطها أحد المتعاقدين على الآخر لمصلحته أو مصلحتها، وما يحل منها وما لا يحل، كما ذكروا هذا النوع في أبواب كثيرة؛ لأن كل متعاقدين يكون لهما أو لأحدهما أغراض ومقاصد يضطر أو يحتاج إلى شرطها على الآخر؛ فيحتاج إلى تمييز ما يحل منها، وهي الأصل التي لا تنافي مقتضى ذلك العقد ولا تدخل في محرم ولا تخرج من واجب مما لا يحل؛ كأحد الأقسام الثلاثة.

ثم لما كان للبيع موانع ومفسدات غير الإخلال بشروطه؛ ذكروا بعده البيوع التي يستعان بها على الإثم والعدوان وعدم حلها لغايتها الضارة، وذكروا أيضاً أبواب الربا الذي حرمه الشارع تحريماً بليغاً وحَدَّه بحدوده؛ فذكروه وذكروا متعلقاته.

ثم لما كانت البيوع حقيقتها دفع عوض وأخذ معوض على وجه التحرير والكسب والنظر إلى المبيعات وإلى آجالها وتفريع ذلك، وكان الناس مضطرين في أوقات كثيرة إلى استقراض بعضهم


من بعض لا على وجه المعاوضة، بل على وجه الإحسان والرفق، هذا يربح الانتفاع الدنيوي والمقرض يربح الانتفاع الأخروي والمعروف الحاضر؛ ذكروا باب القرض وأحكامه.

ثم لما كانت المعاوضات قد يتأخر تسليم أحد العوضين أو لا يتأخر، [وكانت تحتاج إلى توثيق الحقوق لحفظها والاطمئنان للوفاء وسرعته؛ فأتبعوا هذه الأبواب بأبواب الرهن والضمان والكفالة التي تحفظ به الحقوق ويستوفى منها عند التعذر.

ولما كانت التوثقة الرابعة لا يستوفى منها الحق بل يستوفى بها، وكانت شاملة لجميع أبواب الفقه؛ أخروها إلى أبواب القضاء لمناسبتها الأقضية.

ثم لما كانت عقود [المعاوضات] بعضها واقع على الأعيان بمنافعها وهي البيوع قدموها، وبعضها واقع على منافع الأبدان ومنافع الأعيان وهي الإجارة؛ ذكروا أحكام الإجارة، وحيث كانت المعاملات تارة يستقل بها الإنسان وهي الأصل وهي الأكثر، وتارة يشارك فيها غيره؛ أتبعوا هذه الأبواب بأبواب الشركة والمزارعة والمساقات والمغارسة؛ لأنها كلها من باب واحد.

ثم إنه لما كان الإنسان الأصل فيه والأكثر أن يكون مباشراً للتصرف في ماله لا مانع له ولا حجر عليه؛ قدموا هذه الأبواب، وتارة تحتاج إلى منعه عن التصرف في ماله؛ إما لمصلحته؛ كالصغير والمجنون والسفيه لئلا تضيع أموالهم التي جعلها الله قياماً للعباد، وإما لمصلحة المعاملين؛ كالمفلس؛ ذكروا بعد هذا أبواب الحجر وأحكامه.

ثم لما كانت الحقوق والمعاملات يقع فيها من الاشتباه والتنازع والتخاصم ما هو معلوم معروف؛ ذكروا ما يحل هذا التنازع ويزيل الاشتباه، وهي أبواب الصلح بأنواعه، وأتبعوه بحقوق الجيران لكثرة هذا النوع فيهم والحاجة إلى حله بالصلح، ثم لما ذكروا المعاملات المتبادلة بين الاثنين فأكثر على وجه العدل والرضى؛ ذكروا قسماً واقعاً كثيراً، وهو الاستيلاء بغير حق على أموال الناس وحقوقهم بغير حق؛ أتبعوا ذلك بأبواب الغصب وأحكامه، ولما كان الناس محتاجين بل مضطرين إلى إبقاء أموالهم عند غيرهم ليحفظوها نيابة عنهم؛ ذكروا باب الوديعة والأمانات وأحكامها.

وهنا قسم آخر من الأموال تضيع عن أهلها ويجدها غيرهم؛ فاحتاجوا إلى ذكر اللقطة واللقيط، وبذلك ختموا [أبواب] المعاملات.

 بـاب التبرعـات

ثم أتبعوا هذه الأبواب بأبواب التبرعات التي يبذلها صاحبها إحساناً ومعروفاً وتقرباً إلى الله، وهي الأوقاف والهبات والوصايا، وذكروا أحكامها، لكن لما كان من التبرعات القرض والعارية؛ ذكروا هذين البابين في تضاعيف أبواب المعاملة لأنها تشارك التبرعات بالإحسان والرفق، وتشارك المعاوضة برد العين أو عوضها إلى ربها؛ فهي إحسان يرجع عوضه إلى الإنسان.

ثم لما كانت التبرعات قسمين؛ قسم يبذله صاحبه طوعاً واختياراً، وهي المذكورات، ونوع ينحاز إلى غيره قهراً واضطراراً، وهي المواريث؛ ذكروها بعدها وذكروا أحكامها وفروعها، وأتبعوها بأبوابٍ من جنسها، وبمناسبة ذكر الولاء وتفريعه وبيان أنه أحد أسباب الإرث الثلاثة؛ ذكروا بعده العتق وأحكامه؛ لأن الولاء يتفرع عليه، وذكروا فيه أحكام العبيد؛ فانظر إلى هذا الارتباط الوثيق بين هذه الأبواب، وإلى هذا الترتيب المناسب غاية المناسبة؛ فجزاهم الله عن الأمة خير الجزاء.

وبعده انتقلوا إلى أحكام الأنكحة.

 كتـاب النكـاح

هذا الكتاب أكثر أبواب الفقه أحكاماً؛ لكثرة العلاقات والتعلقات بين الزوجين؛ فذكروا حده وحكمه والخطبة، وأتبعوه بشروطه وأركانه التي لا بد منها، وبعده بالمحرمات، وهي موانعه ولو وجدت شروطه وأركانه، وأتبعوا ذلك بالشروط التي يشرطها أحد الزوجين على الآخر ما يصح منها وما لا يصح، وحكم العيوب فيه ثم الصداق والوليمة وعشرة النساء، وذكروا في ضمن ذلك أحكاماً كثيرة.

ولما كان النكاح هو المقصود والخلع والطلاق غير مقصود؛


أخروا أحكام هذين البابين، وأيضاً هما متفرعان عن النكاح، وألحقوا بهما أبواب الإيلاء والظهار واللعان، ثم أتبعوا ذلك بأبواب العدد لترتبها على الفراق في الحياة وبعد الممات، وذكروا في ضمن هذه الأبواب فسوخاً كثيرة فسخ فيها لأحدهما إذا لم يحصل من صاحبه القيام بالواجب وتعذر ذلك، ثم ذكروا الرضاع وبعده النفقات؛ لأن الرضاع يشبه أبواب الأنكحة لتعلق التحريمات والمحرمية به، ويشبه النفقات، وأخروا النفقات عن الفسوخ كالطلاق ونحوه وإن كانت سابقة لذلك؛ لأن النفقات لا تختص بأحكام الزوجية، بل ذكروا معها النفقة على الأقارب والمماليك، كما أخروا الصداق والوليمة عن أحكام النكاح الكثيرة لأنها وسائل والنكاح مقصود، وهذا من باب تقديم المقصود المهم على غيره، وأتبعوا الحضانة بالنفقات لارتباط البابين؛ لأنها واجبة على من عليه النفقة مع أنه قد يكون غيره أحق منه بها، لذلك جعلوا له باباً مستقلًّا، وبه ختموا كتاب الأنكحة ومتعلقات الزوجين، وأدخلوا في ضمن ذلك مما يتعلق بغيرهما أحكاماً كثيرة على وجه الاستطراد والمناسبات.

 كتاب الجنايات والحدود

أخروها لوقوعها غالباً بعد الأنكحة ولقلتها بالنسبة إلى غيرها؛ فذكروا قتل النفوس والجناية على الأطراف والجروح، وفصلوا أحكام العمد المحض والخطأ وشبه العمد والقصاص في الأول


وشروطه والدية وأحكامها في الأخيرين وما عليه، وأن الأول على القاتل، والأخيرين على العاقلة؛ ففصلوا أحكام العاقلة، وذكروا بعدها القسامة لأنها من طرق إثبات القتل أو نفيه، ثم أعقبوا ذلك بالحدود على المعاصي، وبدؤوا بالأثقل فالأثقل، وفصلوا أحكامها وأحكام المرتدين وما به تحصل الردة، وبه ختموا الجنايات والحدود.

 كتـاب الأطعمـة

ذكروا فيها أصولاً محيطة بما يحل من الأطعمة والأشربة وما يحرم منها، وأما الأكسية؛ فمحلها ذكروها في شروط الصلاة في باب السترة لتلك المناسبة.

ولما كانت الأطعمة أجناساً ثلاثة: حيوانات بحرية، وخارج من الأرض من حبوب وثمار ونحوها، وهذان القسمان الأصل حلها؛ إلا ما استثني من ذلك لضرورة، وحيوانات برية، وكان الحلال منها ـ أي: من البرية ـ مشروطاً بذكاته؛ أتبعوه باب الذكاة لأنه كالتتمة له، وكذلك الصيد له أحكام خاصة أفردوه بباب؛ فهما في الحقيقة من باب الأطعمة، ثم ذكروا بعد ذلك الأيمان والنذور لأنها إيجابات جديدة يوجبها المكلف على نفسه، فيتفرع عليها أحكام شرعية كثيرة.

 كتاب القضاء والإقرار

لما كانت جميع الأبواب السابقة يقع فيها بين الناس اشتباهات


وارتباطات وحقوق ومخاصمات؛ عقبوها بباب القضاء الذي يوضح هذه الاشتباهات ويحل هذه المنازعات، وذكروا أصوله وطرقه وأحكامه، وذكروا في ضمنه الشهادات وشروطها وموانعها؛ لأن أكثر ما يعتمد القضاة عليها في حل المشكلات والنزاع كما هو مشاهد، وختموا الفقه بباب الإقرار: لأن الإقرار أوسع البينات وأشملها، وهو يأتي على كل باب من أبواب الفقه ويقع من البر والفاجر والمسلم والكافر في العبادات والمعاملات والحقوق وغيرها، وكل كتاب وباب مما ذكروه رتبوا أجناس مسائله وأنواعها، وأفرادها بأبواب وفصول تعين طالب العلم إعانة ظاهرة.

فللّه الحمد حيث حفظ دينه بأسباب يعلمها العباد وأسباب لا يعلمونها، ومن جملة الأسباب تعاليم أهل العلم المحققين وإرشاداتهم وهدايتهم هداية ينتفعون بها وينفعون غيرهم؛ فغفر الله لهم، ورحمهم، وكمل نواقصهم، وأوصلهم إلى ما أملوه، ورجوه؛ إنه جواد كريم.

 فائدة (110) [الفرق بين من يفرح بالنعم لهواه ومن يفرح بالنعم لتساعده على طاعة الله]

ما أعظم الفرق والتفاوت بين من يفرح بالنعم لموافقة طبعه وهواه، ومن يفرح بها لأنها تعينه وتساعده على طاعة الله؛ فهذا الأخير قد استعمل النعم، ووضعها في موضعها الذي قصدت له، توسل بها إلى نعم عاجلة وآجلة، ودخل في قوله تعالى: {{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ *}} [يونس: 58] ، وهذا الذي كانت نعم الله عليه سبباً للسعادة الأبدية والمغنم الرابح ينبغي للعبد إذا أنعم الله عليه بعافية بدن وسعة رزق وحصول ولد ونحوه؛ أن يجتهد ويعمل كل سبب ظاهر وباطن في أن تكون هذه الأمور معينة له على الخير وزاداً له إلى ما يحبه الله ويرضاه، ويقول: «اللهم! ما رزقتني مما أحب؛ فاجعله قوة لي فيما تحب، وما زويت عَنِّي مما أحب؛ فاجعله فراغاً لي فيما تحب». وهذا أعظم بركة النعم؛ فإن نعم الله وعطاياه إن لم يبارك للعبد فيها كانت ناقصة وقليلة الجدوى على العبد، واللوم كل اللوم عليه، ولهذا من فرح بالنعم لموافقة طبعه وهواه وحزن على فواته لمخالفتها لذلك؛ لم يكن له غاية حميدة ولا عاقبة حسنة، بل قد يجد هذه النعم محشوة بالنكد والآلام القلبية، ولهذا يحق للعبد أن يقول بقوة إيمان وصدق: «اللهم! بارك لي فيما أعطيت»؛ فيكون داعياً لله بدوام النعم وبركتها والمزيد منها. والله أعلم.

 فائدة (111) [ما الواجب سلوكه مع علمائنا؟]

سألني سائل من أهل العلم: ما الواجب عليَّ سلوكه مع علماء نجد، وهل لهم ميزة على سائر المؤمنين؟

فقلت للسائل: لم ضيقت دائرة السؤال، هلا سألت عن علماء المملكة كلها، بل عن علماء الأقطار كلها؟

فقال السائل: لم يخف عليَّ ما ذكرته، ولكني أحببت التخفيف عنك في الجواب، وأيضاً هم الذين أعرفهم غالباً حق المعرفة، وأيضاً إذا حصل الجواب عنهم؛ فسائر علماء المسلمين طريقهم طريق هؤلاء، فإن الأسئلة لا يلزم أن تكون كلية، بل كثير من الأسئلة الجزئية يكون جوابها أوضح وأبين من جواب الأسئلة الكلية، وبالجزئيات نتعرف الكليات، فحين عرفت مراده بل حين عرفني بمراده؛ قلت: الجواب وبالله التوفيق ونسأله الإعانة:

اعلم يا أخي أن الواجب عليك موالاة جميع علماء نجد ومحبتهم والتقرب إلى الله بذلك، وأن تميزهم عن جميع المؤمنين لما خصَّهم الله به من العلم والإيمان والتعليم والدعوة والقيام بفروض كفايات نابوا فيها عن جميع المؤمنين، وهي كثيرة جدًّا، وأن تجعل هذه الفواضل والفضائل نصب عينيك، وتعلم مع ذلك أنهم كسائر الناس بشر يجري منهم ما يجري من البشر؛ فاجعل ما يبلغك مما ينتقد عليهم إن صح ذلك وأكثره غير صحيح؛ اجعل ذلك مقابلاً لما لهم من المحاسن والفضائل تجد ذلك مضمحلاً، وجاهد نفسك إن وجدت في نفسك على أحد منهم موجدة أن تداويها بالمحبة والثناء والدعاء؛ تقرباً إلى الله، وقياماً بالواجب، وارتقاءً إلى الكمال الممكن، واعلم أنهم ـ ولله الحمد ـ كلهم على المذهب السلفي متفقون على إثبات ما أثبته الله ورسوله من صفات الله جل جلاله من غير استثناء على الوجه اللائق بعظمة الله وكبريائه، ونفي ما نفاه الله ورسوله من النقص والكفو والند والتمثيل، ومتفقون أيضاً على الدعوة إلى الشهادتين التوحيد الخالص والاتباع الخالص، وإذا فرض خطأ واحد منهم في بعض المسائل وهو معتقد هذا الأصل؛ فخطؤه قد غفره الله وتجاوز عنه بعد الاجتهاد، وهو المظنون، بل هو المعلوم من حالهم؛ فإنهم يعتقدون ما ذكرنا من صميم قلوبهم، ويدعون إليه ويقررونه، وينكرون على جميع المعطلين النفاة كما ينكرون على المعطلين لتوحيد الإلهية والعبادة، وهم كلهم متفقون على أن من صرف نوعاً من أنواع العبادة لغير الله من أي مخلوق يكون؛ فهو مشرك كافر؛ لأن([75]) هذا حد الشرك الأكبر المخرج عن دائرة الإسلام، فإذا عرفت ما ذكرته لك عنهم، وإن شككت في ذلك؛ فاسأل العارفين الذين ليس لهم هوى ولا أغراض؛ عرفت أن الواجب عليهم تمييزهم بالموالاة والمحبة والثناء، ونشر فضائلهم، وقمع من تعرض لهم، ونصيحة من يظن بهم خلاف ما ذكرناه، واجعل هذا طريقك الذي تسلكه؛ فإنه الطريق المستقيم الموافق للكتاب والسنّة ولقواعد الشريعة وأصولها.

ثم اعلم أن في هذا القطر المسؤول عنه أربعة من أهل العلم الذين برزوا على غيرهم، وتميزوا بعلمهم وتعليمهم ودعايتهم ونفعهم، وحصل بهم وعلى أيديهم خير كثير ونفع كبير؛ فميزهم  يا أخي بمحبتك، واعرف قدرهم، وأكثر من الدعاء لهم والثناء ونشر محاسنهم، وتقرب إلى الله بذلك، وهؤلاء تعرفهم ويعرفهم غيرك، وذكر صفاتهم يغني عن ذكر أسمائهم، وضم إليهم خامساً


جعل الله فيه بركة؛ فهو وإن كان دونهم في العلم؛ فقد حصل على يديه من النفع التعليمي والديني ما لم يحصل على يد غيره، وقد انحاز إلى بعض أقطار المملكة؛ فهدى الله به ذلك القطر وانتقلوا إلى مذهب السلف، وكثر فيهم أهل العلم؛ فالعلم إذا جعل الله فيه بركة ترتب عليه خير كثير، وهذا الخامس من أكبر الدعاة إلى الله وإلى دينه، فتجب مؤازرته ومناصرته والثناء عليه والذب عنه، كما يجب ذلك لهؤلاء الأربعة ولغيرهم من علماء المسلمين.

ثم إياك يا أخي أن تسمع بأحد منهم قدحاً أو انتقاداً إلا رددته ونصحت المعترضَ وبينت له مقاماتهم العالية، ولا يغرنك ترك أكثر الناس لمراعاة هذا الحق الذي هو آكد حقوق المسلمين، وبه يحصل للعبد من الخير والثواب ويحصل به من المصالح الخاصة والعامة شيء كثير.

وهذا الجواب الذي ذكرته وإن كان موضوعه هذا القطر الذي وقع عليه السؤال وهذا الوقت الذي لأجله سيق السؤال؛ فهو شامل لجميع علماء الأقطار ممن عرفوا بالعلم والدين، وشامل أيضاً لجميع الأزمنة، وأول وأولى ما يدخل في هذا الدعاء: {{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}} [الحشر: 10] ، وقوله: {{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}} [محمد: 19] أول وأولى من يدخل في ذلك علماء


المسلمين في كل زمان ومكان، كما أن أوصاف الخير والكمال وأحكام الثواب أولى من يدخل فيها وتنطبق على أهل العلم والإيمان؛ فهم الغاية في كل فضيلة، وهم الهداة المرشدون إلى كل خير.

 فائدة (112) [معنى حديث: «اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل»]

دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم لابن عباس رضي الله عنهما: «اللهم! فقهه في الدين، وعلمه التأويل»([76]) يظن كثير من الناس أنهما مترادفان معناهما واحد، وليس الأمر كذلك؛ فإن الفقه في الدين: التفقه في أصوله وفروعه وأحكامه المتنوعة، ومعرفة الشرائع الكلية، وأما معرفة التأويل؛ فهي أخص من ذلك؛ فهي التمكن من إدخال الوقائع والجزئيات والمعينات في الشرعيات الكلية وتطبيقها عليها، فإذا أخبر الله ورسوله بخبر عن وقوع بعض الحوادث؛ فالفقه في الدين معرفة ذلك واعتقاد مدلوله، وعلم التأويل إذا وقع ذلك الحادث تمكن العالم من إدخاله في ذلك الخبر وعلم أنه هو المراد؛ فيزداد بذلك علماً وإيماناً، وكذلك إذا حكم الله ورسوله بحكم أمر أو نهي أو إباحة؛ فالفقه في الدين هو معرفة ذلك الحكم ومعرفة المراد منه، والتأويل تطبيق الجزئيات والأعيان على الكليات، ومعرفة تفاصيل الأعيان، وأنها مراد الله ورسوله بذلك الحكم؛ فكم من فقيه في الدين ولكنه يخفى عليه إدخال كثير من الحوادث والمعينات في الأحكام الكلية ولا يشعر بها؟!

ولهذا ينبغي للمعلم والواعظ أن ينبه على الوقائع والحوادث والمعينات، وأنها هي المراد، وهي داخلة في ذلك الأمر أو النهي أو الإباحة أو الخبر؛ فما أعظم نفع ذلك!

وهذا التطبيق أيضاً يقوي تلك المعرفة الكلية؛ فكل منهما يمد الآخر: الحوادث والوقائع لا بد أن ترجع وتربط بالكليات، والكليات لا تتضح تماماً إلا بالتفصيل وتعيين الجزئيات.

 فائدة (113) [التحذير من الوقوع في أعراض الناس]

إياك والوقوع في أعراض الناس؛ فإن في ذلك الهلاك وذهاب الحسنات وزيادة التبعات ونقص الإيمان والمروءة والاعتبار والنزول من أعالي الأخلاق إلى أسافلها، ومن ألقى نظرة صحيحة على المبتلى بالوقوع بأعراض الناس أخذه العجب الكثير؛ فإن الإنسان لا يعاني أمراً من الأمور إلا لما يرى له من المنفعة الدينية أو الدنيوية أو المروءة الإنسانية أو اللذة الحقيقية، وهذا فاقد لهذه الأمور كلها؛ فالمضرة الدينية متحتمة لا محالة، وفيها تلك المضار المنبه عليها، وأما المصلحة الدنيوية؛ فأي مصلحة يصيبها من ذم من يبغضه والوقوع فيه؟! بل هذا يعبر عن نقصه وضعف عقله وحمقه؛ فإن العقل إنما يدعو إلى الاشتغال بما يحصل به نفع ديني أو دنيوي، وهذا ضرر فيهما، وهو حمق؛ إذ هو يذهب إلى أعز شيء عنده وأغلى مدخر ـ وهو الحسنات ـ، فيهديها إلى أبغض الناس إليه، وحمق من جهة أخرى؛ فإنه يخيل له أنه يأخذ بثأره من عدوه وينتصر ممن يبغضه بكلامه فيه وقدحه فيه، وهو في الحقيقة انتصار العاجزين وسلاح الجبناء؛ فإنه أكبر معبر عن نقص القادح وعجزه وعجبه بنفسه، فمن عنده مسكة من عقل وشيء من حزم يربأ بنفسه عن هذا المرتع الوخيم والمورد الذميم مع ما يجلب عليه من تبعات اللسان وعثراته ورجوع ضرره عليه؛ فإنه معين لصاحبه عليه؛ فكم من باغٍ على غيره بالكلام أو غيره صرعه بغيه وعاجلته جرأته؟! وكم من حافرٍ لغيره حفرة هلاك وقع هو فيها؟! فيا عجباً للمبتلى بهذا الأمر وهو يرى بعض هذه المضار ويعلم هو وغيره أنه أكبر خزي عليه وعار!! و {{كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ}} [الأنعام: 108] ؛ فيا من عوفي من هذا البلاء الفتاك! اِحمد ربك على هذه النعمة العظمى، ولتهنك العافية والسلامة والراحة والغبطة والخير العاجل والآجل.

 فائدة  (113) في صورة إرشاد، والد لابنيه وجواب كل منهما

كان رجل من أهل العلم والصلاح له ابنان أصابهما مرض


اضطر إلى بعثهما للمستشفى، فبعث كل واحد منهما إلى مستشفى غير مستشفى أخيه، ووصاهما عند ذلك بوصية نافعة: وصاهما بقوة التوكل على الله تعالى، والاستعانة به، مع مباشرة العلاج؛ فإن لذلك نفعه وأثره الطيب، وقال لهما: إن التوكل لا ينافي القيام بالعلاج ومباشرة الأسباب، بل كل منهما يمدُّ الآخر ويقويه، وقال لهما: ومع ذلك يا بَنِيَّ استعينا على ما بكما من المرض ومشقته وصعوبة العلاج وطول محبسكما هناك بقوة الرجاء والطمع في فضل الله وحصول الشفاء، واجعلا الرجاء نصب أعينكما كل وقت، وإياكما أن يملككما اليأس أو يخالطكم خوف من المستقبل؛ فإن هذا هو من أقوى الأسباب لحصول النفع بالعلاج وحصول العافية وخصوصاً إذا انضم إلى ذلك احتساب الأجر والثواب؛ فإن الاحتساب يهون المصائب، ويسهل المشاق، ويسهل الأمور العسيرة، ويقابل بحلاوته مرارة الآلام، ثم اشتغلا في مدة احتباسكما بالخير الذي ينفعكما في الدين والدنيا من كثرة ذكر الله الذي يسلي الحزين ويؤمن الخائف، وحسن الخلق مع من يتصل بكما، ودعوة كل من تعاشرونه وتجتمعون به إلى الخير والاشتغال به، والبحث عن مسائل العلم النافع، والبحث في كثرة نعم الله عليكما وعلى الناس؛ فإنكما بذلك تكسبان خيراً كثيراً، وإياكما من الضجر والسآمة والملل وسوء الخلق وكثرة الهم والأفكار التي لا تسمن ولا تغني من جوع؛ فإنكما إذا حفظتما وصيتي وراعيتموها لا بد أن تروا آثارها الحميدة وعواقبها الطيبة.

ثم ودعهما الله الذي لا تضيع ودائعه بعد أن بعث معهما من يخدمهما ويقوم بما يلزمهما، وجعل يتضرع إلى الله في توفيقهما ونجاحهما، فدخل كل واحد مستشفى غير مستشفى أخيه، وبعد مدة لم تدعه الأشواق حتى زارهما وعادهما فبدأ بأحدهما، فوجده كاسف البال، ضعيف الحال، قد ملكته الأحزان، وطالت به الآلام، ولم يزل مرضه الذي كان يعهد، بل زاد؛ فلم يملك الأب الرحيم نفسه من البكاء والحزن على ما شاهد من ابنه.

فقال: يا بني! ما الذي صيرك إلى ما رأيت؛ ألم أتخير لك أحسن ما عرفت من المستشفيات الراقية؟! ألم أصحبك من يقوم بجميع ما يلزم ويتعاهد خدمتك؟!

فقال: يا أبتِ! هو ما رأيت، ما هو إلا أن فارقتك ونسيت ما قلت لي وأوصيتني فيه، وأشغلني مرضي، وكثرت مخاوفي وأفكاري الضارة، وزاد مرضي، إني مع قوم وبين أناس قد قضوا أوقاتهم بالغفلة والإعراض عن الله وعن ذكره؛ فابتلوا بالهموم، وجعلوا يتسلون عن ذلك كما زعموا بالألعاب الضارة: الشطرنج والنرد ونحوها؛ فلم تزدهم إلا مرضاً إلى مرضهم وهمًّا إلى همهم، فسلكت مسلكهم وأصابني يا أبت ما أصابهم، فيا أسفا يا أبت! قد اجتمع عليَّ مرض قلبي ومرضي الذي ذهبت لعلاجه، ودب اليأس إلى قلبي حتى كاد يغمره؛ فالآن يا أبت قد بقي فيّ بقية رمق ونوع رجاء إن أخرجتني منهم وصحبتني؛ فإني مع ذلك لم أجد عند المباشرين لعلاجي إلا شراسة الأخلاق وصعوبة العلاج وعدم النجاح والهلع والطمع المتجاوز للحد؛ فاستصحبني يا أبت ما دام فيّ بقية صحبك الله بكل خير؛ فَرَقَّ له والده فأجاب [سؤال]([77]) ورثى لسوء مصيره وحاله، وعرف الابن التعس أن أكبر الأسباب لوصوله لهذه الحالة نبذه نصائح أبيه العالم المشفق الحكيم، وجعل يلقي سمعه وبصره وقلبه لنصائح والده لعله يفلح بعد ذلك.

ثم إن هذا الأب الحنون انطلق إلى ابنه الآخر؛ فإذا هو في مستشفى جميل وحوله أصحاب وعشراء كالإخوان المتصافين المتصاحبين المتحابين، يتبادلون الأحاديث الطيبة. وأثر السرور والبشر بادٍ على وجوههم، وقد اضمحل مرضه وتم شفاؤه، وعاد على أحسن من حاله قبل مرضه.

فقال: يا بني! ما الذي حبسك عني وأنت ولله الحمد في عافية ونعمة سابغة وأنا أعد الأيام بل الساعات شوقاً إلى لقياك؟

فقال: يا أبتِي! ما هو إلا أني لما انصرفت منك كانت وصيتك نصب عيني وأهم عندي من علاج مرضي؛ لما عرفته منك من الخبرة التامة والنصح؛ فوجدتها أكبر معين لي على كل حالة من أحوالي؛ فإني لا زلت معتمداً متوكلاً على الله، ولا زلت راجياً منه الشفاء، ولا زلت محتسباً ما يصيبني من ألم وعلاج شاق وطول محبس مرتقباً أجره وثوابه عند الله، فرأيت الذي يصيبني لا نسبة له إلى الخير الذي أرجوه من ربي فيقوى بذلك قلبي وتطمئن لذلك نفسي، وتقوى الطبيعة مع ذلك على دفع الأمراض التي معي، ثم في آخر أمري صار

الطبيب يتعجب من سرعة زوال مرضي وطمأنينة قلبي.

ومع ذلك يا أبتِ لا زلت مع هؤلاء الإخوان الذين حولي وأمراضهم تشبه مرضي، أعاشرهم معاشرة الصاحب الشفيق لصاحبه، وأدعوهم وأحثهم على التعاون على الخير، وأذكرهم وصيتك النافعة، وأذكرهم ما حصل لي فيها من النفع، وأرغبهم في العمل بها حتى رأوا من آثارها ما رأيت، وازدادت محبتي لهم ومحبتهم لي، فصرنا نتخوف من خروجنا من هذا الموضع الذي لم نصر إليه إلا اضطراراً نتخوف من الفراق الذي يحول بين كل واحد والاجتماع بحبيبه؛ لأن كل واحد منا له بلد وقطر غير بلد الآخر، وحصل بيننا هذه الألفة التي تشاهد، وكلنا ولله الحمد لنا زمان، ونحن رافلون في أثواب العافية، وصار لك يا أبت بذلك علينا جميعاً المنّة الكبرى والمعروف الأعظم، حيث كانت نصائحك الثمينة قد شاهدنا آثارها وجنينا ثمارها؛ فجزاك الله يا أبت من أب رحيم عني وعن زملائي أفضل الجزاء، ثم إني أخبرك يا أبت بخبر يسرك جدًّا، أنَّا لم نستفد من هذا المستشفى مجرد الشفاء والنجاح من أمراضنا فقط، بل استفدنا منه أكبر من ذلك، استفدنا أننا حصلنا خيراً كثيراً، لا تحسبن أوقاتنا تمضي علينا غفلة وسبهللاً، بل أكثرها في قراءة وذكر لله، ومباحثة في العلوم النافعة ونعم الله السابغة، وتعداد ما لله علينا من فضل وإحسان مع ما انضم إلى ذلك من قوة التوكل، والرجاء والطمع في فضل الله وإحسانه، والرغبة في الخير والرهبة من ضده.

فلما تم كلام هذا الابن الموفق؛ ظهر على الأب من السرور


والاستبشار ما لا يمكن التعبير عنه، وذلك من آثار المساعي المشكورة والأعمال المبرورة، وأنساه هذا السرور ما حصل معه من الحزن على ابنه السابق.

فانظر إلى هذا التفاوت والفرق العظيم بين الابنين وذلك راجع إلى قبول النصائح والعمل النافع. والله أعلم.

 فائدة  (115) قصة أخرى

رجل له ابنان بلغا سن التمييز، وكان أبوهما إذ ذاك نعم المربي لهما في ملاحظة أخلاقهما وخلائقهما على صغر سنهما، فأراد تكميل ذلك بالتعليم الذي لا تتم الأمور إلا بالتعليم النافع، ولكن ما كل مجتهد مصيب، أراد من اجتهاده أن يبعث كل واحد منهما إلى مدرسة مغايرة للمدرسة الأخرى في أصلها وغايتها وثمراتها، لم يشاور في اختيار الأصلح أحداً من الناصحين العارفين، وكان يسمع أن كل واحدة من المدارس الراقية، ولكن الأسماء لا تغر اللبيب والاشتراك في المسميات لا تدل على الاستواء في الصفات.

أما أحدهما؛ فأدخله في مدرسة فيها من الفنون العصرية شيء كثير، ولكنها فاقدة للتعاليم الدينية التي هي جوهر العلوم وروحها، والثاني أدخله في مدرسة دونها في الشهرة عند الناس، ولا بأس بها في الفنون العصرية، ولكنها مؤسسة على العناية العظيمة في التعاليم الدينية وتهذيب الأخلاق والحث على كمالاتها، ولكن عند الصباح يحمد القوم السرى، وعند النتائج وحصول الثمرات يعرف الفرق العظيم والتفاوت الكثير. مكثا فيهما مدة الدراسة وترقى كل واحد منهما في علومهما وتربّى من معينهما، وأخذ كل منهما الشهادة بنجاحه التام المناسب لحاله فماذا صار كل واحد منهما، وماذا أثمرت له المدرسة، وهل ارتفع بها أو انخفض؟ لأن العلم ليس هو مجرد معرفة الألفاظ وفصاحة اللسان، ولا مجرد معرفة الصنائع؛ وإن كانت هذه من الوسائل النافعة، ولكن العلم هو العلم المرقي للأرواح مع الأجساد، الجامع بين مصالح الدين والدنيا، الموجه صاحبه وغيره لكل صفة حميدة وخصلة سديدة.

أما الأول؛ فإنه خرج من مدرسته فصيح اللسان، يحسن أن ينشىء الكلام وربما أحسن إنتاج بعض الصنائع، ولكن التعاليم الروحية قد فقدها، قد أخذه العجب والزهو والغرور، وصار معجباً بنفسه متكبراً على أبناء جنسه، بل قد رأى والداه من معاملته المذكورة لهما شيئاً كثيراً، رأى نفسه أنه يعرف أشياء لا يعرفها العوام، وتخلق بأخلاق الأجانب أعدائه في الدين، قد فقد الفضيلة واتَّصف بالرذيلة؛ فيا ليت تعاليمه السابقة كانت لاغية هباءً منثوراً! لكنها مع ذلك زادته عتوًّا وكبراً ونفوراً.

فلما رأى والده ابنه بهذه الحالة أسقط في يده، ورأى أنه قد خسر ولده لأنه لا سبيل في الغالب إلى تلافيه واستدراك نقصه المطرد بعد ما غذته هذه المدرسة بزقومها، وسمومها ولم يقتصر هذا الابن التعس على احتقار الناس، بل أوصلته الجراءَة إلى احتقار علوم الرسل وأديانهم؛ فأصبح أبوه من الخاسرين، وأضحى الابن التعس ملحداً من الملحدين.

أما الآخر الثاني؛ فإنه حين تخرج من مدرسته ونظرنا إلى ما جناه منها؛ فإذا هو قد مُلىء عقلاً وديناً وخلقاً وتواضعاً؛ لأن الدين بطبيعته هذه آثاره، رأيناه قد تمسك غاية التمسك بدين الإسلام، وبدت عليه أنواره وهدايته وإرشاده وتوجيهاته السديدة المستقيمة، وإذا هو الرجل الحقيقي بمعنى الكلمة، قد تسربل بالدين، وانبعث يدعو إلى الله على بصيرة، وينصر دينه وقومه النصر الصحيح، ويحثهم على كل خلق جميل، وينهاهم عن كل خلق رذيل؛ فأضحى عَلَمَاً يأتم به المهتدون، ونوراً يقتبس منه المؤمنون، وأصبح رجلاً دينياً ودنيوياً، قد استصحب تعاليم الدين والتي جمعت جميع المصالح، وذادت عن جميع القبائح مع الصدق الكامل والنصح الصادق والإصابة في القول والعمل؛ فانجبرت به مصيبةُ أبيه، وظهر الفرق العظيم والتفاوت بينه وبين أخيه.

وإخفاق الأول ونجاح الثاني رجع إلى اختيار الوالد؛ فيا أيها الآباء المشفقون! الله الله في أولادكم وأفلاذ أكبادكم الذين يخلفونكم وأنتم أحياء وأموات، انظروا لهم، واختاروا لهم ما ينفعهم وينفعكم، وإلا؛ فلا تلوموا إلا أنفسكم.

 فائدة قصة أخرى (116)

رجل له أبناء قد رباهم وأبدى مجهوده في معاملتهم معاملة


الأب الشفيق لأبنائه الذين ملكوا قلبه محبةً ورحمةً وحناناً فلما بلغوا رشدهم وآن وقت كسبهم ونفعهم؛ قال لهم: يا أبنائي! لا أخفيكم أمركم، قد قمت بواجباتكم وربيتكم أحسن ما أقدر عليه من التربية، والآن قد ملكتم أمركم وعرفتم مصلحتكم، وأحببت لكم الاستقلال في حياتكم وأن تواجهوها بمجهوداتكم المقدورة، ومعازمكم ومدارككم، أريد يا أبنائي أن أبعث كل واحد منكم في عمل من الأعمال الدنيوية، وأوصيه بوصية تناسب عمله المذكور.

أما أنت يا خالد، فقد عرفت منك أنك قد مهرت في الصناعة الفلانية، فاذهب يا بني وافتح لك محلًّا لهذه الصنعة، وأعلن عنها إعلاناً صحيحاً صادقاً لا مجاوزة فيه، واستعمل يا بني النصح مع كل أحد، وإياك والغش والظلم وإخلاف المواعيد، وأقبل على صنعتك بجدٍّ واجتهاد، ولا تجعل نفسك لعمل لا تعرفه أولا تتقنه، ولا تكثر من الأعمال التي لا تتمكن منها كلها وهي تتزاحم عليك؛ فتعجز قوتك وتبوء بالفشل؛ فإنك إن حفظت وصيتي؛ حصل لك الاعتبار، ونلت الشرف، وصرت مقصوداً في صنعتك، محموداً في عملك.

وأما أنت يا جعفر، فاذهب خادماً عند فلان؛ لأني لا أرى لك أنسب من الخدمة، ولكن قم يا بني بأوامره بجدٍّ ونشاط، وإياك والكسل؛ فإن الكسلان ضعيف القوة، ضعيف الإرادة مع ما يكسبه من الذل والطرد والمهانة، وملازمة الأمانة في خدمتك لمخدومك، ولا يكن عملك في حضرته يفوق عملك في غيبته، فإن راعيت وصيتي؛ نلت رضى مخدومك، وتسابق الناس عليك، وازددت رفعة وحسن سمعة، وأديت واجبك.

وأما أنت يا محمد، فقد عرفت ميلك إلى التجارة؛ فاذهب في أرض الله، واطلب لنفسك التجارة التي تناسب لحالك، وتقوم بأودك وترى نفسك قادراً عليها، ولكن يا بني عليك بالسعي الجميل والطمأنينة والثبات، وإذا بورك لك في مكسب؛ فالزمه، ولتكن المعاملة الطيبة منك على بالٍ، واعلم أن المعاملة وحسنها هي روح التجارة، والغش والخداع هو سوس التجارة وداؤها، وبه يهبط التاجر إلى أسفل سافلين.

وأوصيكم يا بني بوصية جامعة: أوصيكم بالنية الصالحة والاحتساب، وأن تقوموا بمكاسبكم المذكورة قصد الأداء الواجب والقيام على النفس والعائلة، والاستعانة برزق الله على طاعته؛ فإنه بذلك تكونون مشتغلين بالأمور الدينية الدنيوية، ويسهل الله لكم أموركم.

فهذه وصيتي لكم، وأرجو الله أن يعينكم على مقاصدكم؛ فإن دعاء الوالد لأولاده مرجو الإجابة، وهو في الحقيقة دعاء لنفسه؛ لأن صلاح أولاده يعود عليه منه خير كثير، واعلموا أن الأمور بآخرها، والأعمال بخواتيمها، ولا بد بعد مدة طويلة يظهر نجاحكم وفلاحكم أو إخفاقكم وإفلاسكم؛ فاذهبوا على بركة الله.

ثـم ذهب كل واحـد إلى العمل الذي وجـه، واستصحب كـل

واحد نصائح والده الرحيم؛ فما مضى على خالد مدة حتى مهر في صناعته، وقصده الناس من كل جانب وحمدوه على نصحه وإتقانه وحسن معاملته، وحيث لم يكن له التفات آخر إلى غير صنعته وحصر فكره وظاهره وباطنه عليها؛ فاق فيها أبناء جنسه، وحصل له رزق يكفيه ويكفي عائلته، ويرد الفضل منه على والديه وأقاربه؛ فاغتبط والده بنجاحه.

وأما جعفر؛ فإنه حافظ على وصية أبيه ولازم مخدومه ما شاء الله أن يلازمه، وصار عنده أميناً معتبراً، واحتفظ به لعلمه أنه لو ذهب عنه لتسابق إليه الناس، لما علموه من نصحه وقيامه بواجبه، فنجح في مقصوده، ولكن مثل هذا يأتيه النقص من جهتين إذ فرضنا كماله في مهنته:

أولاً: أن الخدمة نهايتها أن تكون كافية لمعاش الإنسان، ليس فيها زيادة إلا إن وُفِّقَ للاقتصاد في النفقة؛ فربما زاد شيئاً يسيراً.

والنقص الثاني: أن الخادم المستعد للخدمة الذي لا عمل له ولا شغل له سواها يبقى فكره خامداً وقريحته جامدة ومعارفه ضئيلة؛ لأنه قد اعتاد أن يكون مُدَبَّراً لا مُدَبِّراً، ومأموراً لا آمراً، وإرادته وأعماله تبع لإرادة غيره وعمله، رقيقاً لا حرًّا، ومقلداً لا مستقلًّا.

وهذا نقص، وأي نقص؟! فإنه إذا تمرن على الخدمة ولازمها مدة طويلة تعذر عليه بعد ذلك عمل غيرها، بل لا يصير له رغبة في سواها، وغايته أن يكون له شرف كشرف الرقيق، ومع ذلك؛ فالخدمة والتعيش خير من سؤال الناس والذل لهم، ولكل مقام مقال.

وأما محمد؛ فإنه كأخويه حفظ وصية أبيه، ثم جعل يكسب شيئاً فشيئاً، لا يحتقر القليل ولا يأنف من الشيء الحقير، وترقى شيئاً فشيئاً؛ حتى فتح له محل تجارة ووسع تجارته وفرعها، وأوزع لأصحابه وعملائه أنه مستعد لما يرد عليه من الأموال تصريفاً وتحويلاً وتدبيراً؛ فانفتحت في أصناف المعاملات أفكاره، وتوسعت حين أعمل أفكاره في الطرق المتنوعة والمعاملات المتباينة معارفه، وكلما ازدادت أعماله استعمل الأجراء الأمناء الذين قد عرفت كفاءتهم، ولم يبال بكثرة أجور من جمع بين الأمانة التامة والكفاءة التامة؛ فإن ما يحصل له به من المنافع والخيرات ما لا يعد ولا يحصر، وصار مرجوعاً إليه في أمور التجارة ولوازمها، معتبراً عند الناس كلهم، إذا قال سمعوا لقوله، وإذا أبدى رأياً ظهر للناس إصابته، وهو مع ذلك قائم أشد القيام بملاحظة أموال الناس حفظاً وتصريفاً وتدبيراً وتنجيزاً.

وحيث كانت تجارته مبنية على ما أوصاه به والده من النية الطيبة في كل ما يأتي وما يذر؛ جعل يرمق بنظره السديد وفكره الصائب أصحاب المروءات الذين أخفقت أسبابهم وضعفت أعمالهم؛ فيحرص على أن يجعل منهم كل إنسان في عمل يليق به ويتعيش به، وهو في ذلك لا يصيبه نقص، بل الخير يزيد والأجر حاصل، ثم هو في تجارته يستعمل ما ذكره النبي صلّى الله عليه وسلّم:

رحم الله عبداً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى([78]).

ييسر على الموسرين، وينظر المعسرين، ويعين على نوائب الحق.

وهو مع ذلك قائم بحقوق المال كلها؛ من الزكاة، والنفقات الواجبة والمستحبة، وصلة الأرحام، والهدية للإخوان، وتعاهد الفقراء والمساكين، ونال من الشرف والسمعة والثناء الحسن ما لا يكاد يصل إليه أحد؛ فتبارك الله الذي فاوت بين عباده في الاشتغال في الأعمال الدنيوية والأخروية، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

 فائدة في قصة الأخوين (117)

كان أخوان قد ورثا من أبيهما مالاً كثيراً نقوداً وأثاثاً وعقاراً، وانفرد كل منهما بماله، وكانوا في الرأي والعقل فيما يبدو للناس متقاربين، ولكن هذا لا يدل ولا يعطي الحكم، إنما يحكم على الناس وعلى آرائهم وعقولهم بعد الاختبار وظهور النتائج.

أما أحد الأخوين؛ فتلقى ما روثه من أبيه بهلع وجشع وشح


وإمساك عظيم، حتى بخل عن القيام بالواجبات، وطبعاً من كان على هذا الوصف؛ فسيكون المال أكبر همه، ومع تلقيه بالشح والإمساك عن الأمور اللازمة؛ فقد اعتمد بقلبه عليه، وتألى بلسان الحال إن لم نقل بلسان المقال إنه قادر عليه، وأنه سيغتبط في ماله في حياته، وأنه لا سبيل إلى نقصه وفنائه، ولو قدر شيء من ذلك؛ ففي بقيته ما يقوم به وبمن يتصل به، فحيث تلقاه على هذا الوصف الرذيل حلت بماله الآفات المتنوعات:

أولاً: نزع الله منه البركة؛ لأن كل مال ضنَّ به صاحبه واتكل عليه ومنع منه الواجبات؛ فليرتقب صاحبه النقص من جميع الجوانب.

ثانياً: قيض له معاشرة أناس لم يعاشروه على أساس الصداقة الصحيحة، وإنما هم مترصدون مترقبون فيه وفي ماله الفرص والأطماع الضارة؛ فلم يزالوا به يزينون إليه معاملتهم في ديون ومضاربات وقروض، ومنهم من هو دون ذلك؛ يزينون إليه الإسراف في الدعوات ومجارات أهل الربا والعقول الناقصة في بذل الأموال في طرق التبذير وإنفاقه في السبل الضارة غير النافعة؛ فلم يزالوا به كذلك حتى تقطعت مجاريه، ونضبت معينه ومادته، وبقي صفر اليدين، بل تراكم عليه الدَّينُ؛ فانظر إلى هذا الرأي الآفن الذي لم يستطع أن ينتفع بماله لا في دنياه ولا في أخراه.

أما الأخ الآخر؛ فإنه حين وصل إليه هذا المال الجزيل؛ حمد


الله أولاً على هذه النعمة العظيمة وعلى حصول أكبر الوسائل التي يتوسل بها إلى سعادة الدنيا وسعادة الدين إذا عرف صاحبها كيف يدبرها؛ فأطال فكره الصحيح فيما يدبر به هذا المال، وعلم أن الدنيا وإن بلغت ما بلغت؛ فمآلها الزوال والاضمحلال؛ فاستعان بربه وسأله أن يبارك له فيه، وأن يجعله معونة له على أمور الدنيا وأمور الدين، وأن لا يكله إلى نفسه وتدبيره، وأن ييسر له الأسباب النافعة، ويصرف عنه بلطفه كل سبب ضار، فأخذه بحكمة ونية صالحة، عزم عزماً جازماً على أن يؤدي فيه الواجبات الدينية والمستحبات، أن يقوم فيه بواجب نفسه وعائلته، ومن يتصل به بحكمة واقتصاد، وجعل يسعى في الأسباب التي تنميه ويشاور على ذلك أهل الرأي والخبرة والمعرفة وكل سبب يباشره؛ فهو مستصحب للاعتماد على الله سائلاً من ربه أن ييسره له ويسهله، فحيث كان على هذا الأساس الطيب بارك الله في أمواله ونمَّاها، فتضاعفت أمواله، ونفذ ما كان نواه؛ علم أن أول واجب عليه إخراج الواجبات فيه؛ فأحصى كل نوع من المال على حدته، فأخرج زكاته معتقداً أن أفضل ما أنفقت فيه الأموال ما يعود إلى صلاح الدِّين، ويستتبع ذلك صلاح الدنيا، وتعاهد مع ذلك الصدقة والإنفاق في كل مشروع بحسب الحال والمناسبات، ووصل أرحامه، وقام بحق الجيران والأصحاب والمعاملين، وهو مع ذلك مغتبط في دنياه، لم يقصر عليه من مصالح دنياه شيء، لم يذهب مع المسرفين في تبذيرهم، ولا مع البخلاء وأهل الشحِّ في إمساكهم، بل كما دبَّر الكسب والتجارة بحكمة؛ كذلك دبَّر التصريف والإنفاق بحكمة واقتصاد، وسلك أولاده مسلكه، واقتفوا طريقته، وأقر اللهُ عينه بهم وبصلاحهم وكفاءتهم وتوفيقهم؛ فعاش حميداً، وخرج من الدنيا سعيداً.

فسبحان من فاوت بين العباد هذا التفاوت العظيم! وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. والله ذو الفضل العظيم.

 فائدة (118) [تخلف الفرع مع ثبوت الأصل]

إذا ثبت الفرع كان الأصل ثابتاً، وإذا ثبت التابع كان المتبوع ثابتاً، هذا هو الأصل، وقد يتخلف ذلك لعلة في مسائل:

ـ من ذلك قول الأصحاب: من ادعى على آخر أنه ضرب أخاه بسهم عمداً فقتله، ونفذ إلى أخيه الآخر فقتله خطأ، وأقام بذلك رجلاً وامرأتين أو رجلاً وحلف معه، ثبت قتل الثاني لأنه خطأ موجب للمال، وقد تمَّ نصابه دون الأول؛ لأنه عمد ونصاب شهادته رجلان فقط.

ـ ومنها: إذا ادعى خلع امرأته؛ ثبت العوض إذا أقام رجلاً وامرأتين، أو رجلاً حلف معه لتمام نصابه دون الخلع بالشهادة، وإنما تبين امرأته بإقراره بالبينونة.

ـ ومنها: إذا أقامت رجلاً وامرأتين على رجل بتزويجها بمهر عيَّنته؛ ثبت المهر دون النكاح.

ـ ومنها: من حلف بطلاقٍ ما سرق أو ما غصب أو ما عقد العقد الفلاني المالي، فثبت فعله برجل وامرأتين أو رجل ويمين؛ ثبت المال، ولم تطلق زوجته. وما أشبه ذلك مما يعلل بمثل هذه العلة ونحوها.

 فائدة (119) [الإحسـان]

قال الله تعالى: {{إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}} [الأعراف: 56] : هذه الآية الكريمة جمعت أسباب الرحمة وأبوابها وطرقها بلفظ واضح مختصر، وهو الإحسان في عبادة الخالق، وإيقاعها على أكمل الوجوه المستطاعة للعبد؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه؛ فإنه يراك»([79]).

والإحسان إلى المخلوقين بالإيصال إليهم ما يستطعيه العبد من نفع مالي أو بدني قولي أو فعلي، والدِّين كله داخل في هذا؛ لأن الدِّين هو القيام بحقوق الله والقيام بحقوق الخلق قياماً بالواجب وقياماً بالمستحب.

وقال تعالى: {{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}} [يونس: 26] ؛


فالحسنى والزيادة التي وعدها الله للذين أحسنوا هي الرحمة التي ذكر الله أنها قريب من المحسنين؛ فالحسنى تفسر بالحالة الحسنة في الدنيا والآخرة، وتفسر بالجنة. والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم، أو الحسنى جزاؤهم على إحسانهم. والزيادة ما زاد على ذلك مما لم يقابل بشيء من أعمالهم، بل زيادة من فضل الله وكرمه، لم تبلغهم أعمالهم، ويدخل في هذا التفسير الأول.

وقال تعالى: {{هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ *}} [الرحمن: 60] ، وهذا استفهام بمعنى التقرير؛ أي: هل جزاء من أحسن في عبادة الله وإلى عباد الله إلا أن يحسن الله جزاءه وثوابه بأعلى أنواع النعيم؛ فبيَّن أنه حصل لهم هذا الثواب الكامل من جميع الوجوه بإحسانهم، وبيَّن مع ذلك أن هذا جزاء لكل محسن.

وقال تعالى: {{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}} [البقرة: 195] ؛ فمحبة الله للعبد هي أعلى ما تمنَّاه المؤمنون، وأفضل ما سأله السائلون، وسببها من العبد أن يكون من المحسنين في عبادته وإلى عباده، فينال من محبة الله ورحمته بحسب ما قام به من الإحسان.

وقال تعالى: {{إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً}} [الكهف: 30] ، {{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً *}} [الكهف: 7] ، وهو العمل الخالص لله المتبع فيه رسول الله، المجتهد صاحبه في إكماله وإتمام واجباته ومستحباته؛ فالعمل الذي على هذا الوصف لا يضيعه الله، بل يضاعفه للعبد أضعافاً كثيرة بحسب درجاته وبحسب ما صدر منه من إيمان، وبحسب نفعه وغايته وثمراته الجليلة.

وقال صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح([80]): «إن الله كتب الإحسان على كل شيء»؛ فعمم الأمور كلها، وإن الله تعالى كتب الإحسان في كل عمل ومعاملة للخلق؛ حتى في الحالة التي تزهق فيها النفوس، ولهذا قال: «فإذا قتلتم؛ فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم؛ فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته»([81]).

والدِّين كله إحسان؛ حتى ما فيه من الحدود والعقوبات؛ فإنها رحمة بأهلها وبغيرها لما فيها من الردع والمنع من المعاصي والمضار، وهذا الإحسان الشامل للدِّين كله هو الإصلاح الذي قال الله فيه: {{إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}} [الأعراف: 170] ، كما قال: {{إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً}} [الكهف: 30] ؛ فالإصلاح يشمل إصلاح القلوب بالعقائد الصحيحة والأخلاق الطيبة الجميلة وإصلاح الأعمال، وهي جميع الأعمال الصالحة والأقوال الصالحة من واجب ومستحب من حقوق الله وحقوق عباده، وإصلاح ما يعود إلى الفرد وما يعود إلى الجماعة، وما يعود إلى الدِّين، وما يعود إلى الدنيا؛ فإن إصلاح الأحوال الدنيوية الإصلاح الصحيح داخل في إصلاح الدِّين، فكما أمر الله ورسوله بالقيام بالعبادات؛ فقد أباح الله ورسوله كلَّ طيب حلال نافع، وأباح كلَّ طريق يوصل إليه من الأسباب الدنيوية من تجارات وصناعات، وأصناف المكاسب على اختلاف أنواعها وأصنافها.

وكما أمر الشارع بإصلاح ما يعود إلى نفس الإنسان؛ فقد أمر بإصلاح ما يعود إلى الخلق، فالصالح حقيقة هو المصلح، ووصف الله جميع طرق الخيرات أنها من الصالحات لأنها إصلاح للأمور، وهذه طريقة الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم، قال تعالى عن شعيب: {{إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ}} [هود: 88] .

وضد الإصلاح الإفساد، قال تعالى: {{إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ}} [يونس: 81] .

فالأمور كلها إما إصلاح يحبه الله، ويأمر به، ويثيب عليه، ويصلح لصاحبه ثمراته ونتائجه، وإما إفساد يبغضه الله، وينهى عنه، ويعاقب عليه، ولا يصلح لأهله أعمالهم، فكل أمر فيه جلب للمنافع ودفع للمضار؛ فهو إصلاح، وضده الإفساد.

والصالح المصلح يتولاه الله بلطفه، وييسره لليسرى، ويجنبه العسرى، ويحفظه في نفسه وذريته، {{إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ *}} [الأعراف: 196] .

وقال يوسف صلى الله عليه وسلم: {{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ *}} [يوسف: 101] ، وأخبر أنه حفظ للغلامين اليتيمين كنزهما بالأسباب التي ذكرها بصلاح أبيهما؛ لقوله تعالى: {{وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا}} [الكهف: 82] ، وأخبر أن الصلاح والفساد متضادان متناقضان[(75) لقول موسى لأخيه: {{وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}} [الأعراف: 142] .

 فائدة (120) [العقول تدرك ما يجب لله ويمتنع على سبيل الإجمال لا على سبيل التفصيل]

العقول لا تهتدي إلى معرفة تفاصيل أسماء الله وصفاته ولا تفاصيل اليوم الآخر ولا تفاصيل الإحكام الشرعية الظاهرة والباطنة، وهذه أعظم العلوم والمعارف، وقد يكون في العقول معرفة واهتداء إلى أصول ذلك وجمله، كما أن العقول عند التفكر الصحيح تهتدي إلى معرفة أن الكمال المطلق والعظمة والاقتدار والخلق والوحدانية ثابتة لله وحده، وكذلك تهتدي إلى حكمة الله، وأنه لا يليق بحكمته أن يخلق الخلق سدى، لا يؤمرون ولا ينهون ولا يثابون ولا يعاقبون.


فهذه الجمل المركوزة في الفطر والعقول يُذَكِّر الله بها عباده، ويُبَيِّنُ لهم أن تفاصيل هذه الجمل توافق الأصول الثابتة في العقول، ولهذا سمَّى الله كتابه وشرعه تذكيراً وذكراً، يتذكرون به ما ركز في عقولهم من وجوب تعظيم الله والاعتراف بوحدانيته وكمال حكمته وشمول رحمته.

 فائدة (121) [العلم النافع والعمل الصالح]

الله تعالى خلق الخلق، وأنزل الأمر والشرائع؛ ليعرفوه ويعبدوه وحده، معرفة الحق والعمل به للعلم النافع والعمل الصالح؛ لقوله تعالى: {{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا *}} [الطلاق: 12] ، مع قوله تعالى: {{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ *}} [الذاريات: 56] ، وقد جمع بين الأمرين في قوله تعالى: {{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ *}} [الزمر: 2] .

فالأول العلم النافع، والثاني العمل الصالح، وهذان الأمران هما دعوة الحق المذكوران في قوله: {{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ}} [الرعد: 14] ؛ فدعوة الحق هي إخلاص


العمل لله المتضمن معرفته ومعرفة دينه وشرعه. وهذان الأمران هما الطريق الوحيد للسعادة والفلاح، وهما أعلا ما يكون وأرفع وأكمل، كما قال تعالى: {{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ *}} [فصلت: 33] ، والدعوة إلى الله ملازمة ومتضمنة للعلم؛ لأن من شروط الدعوة العلم بما يدعو إليه الداعي.

 فائدة (122) [تفسير قوله تعالى: {والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم...} الآيات]

قوله تعالى: {{وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ *وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ *}} [الشورى: 38 ـ 39] : جمعت هاتان الآيتان مدح المسلمين الذين قاموا بهذه الأوصاف المتضمنة للقيام بحقوق الله وحقوق العباد، وبالصلاح الديني والدنيوي الداخلي والخارجي، وبمقابلة الباغين بكل طريق يتم به الانتصار؛ لأن قوله: {{وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ}} يشمل القيام بأصول الإيمان وشرائع الإحسان، وامتثال الأوامر واجتناب النواهي؛ فيكون من ذكر الصلاة والنفقة من باب عطف الخاص على العام؛ لأن من قام بالصلاة والنفقات الواجبة والمستحبة؛ كان قيامه بغيرها من باب أولى، ولأن إقامة الصلاة فيها الإخلاص للمعبود والنفقة فيها الإحسان إلى الخلق، والمخلصون المحسنون هم خيار الخلق.

وأما قوله: {{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}}؛ فإنه يشمل التشاور في أمور الدين عند اشتباه المسائل والبحث عن الدلائل، وفي أمور الدنيا، وفي الأمور التي تتعلق بالأفراد والجماعات الداخلية والخارجية في الأمور المشتبهة التي يراد السعي في تحصيلها أو في دفعها، وكيفية الطريق إلى ذلك، وخصوصاً إذا بغى عليهم الأعداء؛ فإنهم لا يصبرون على بغي الباغين واستعمار المستعمرين وجشع الظالمين، بل يدفعون ذلك بكل وسيلة مادية أو معنوية.

 فائدة (123) [الوقوف على الأسباب دون الغاية]

الوقوف مع الأسباب والاقتصار على معرفتها دون ما جعلت غاية له قد يكون سبباً للهلاك، وهذا هو الواقع كثيراً، قال تعالى: {{كَلاَّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى *أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى *}} [العلق: 6 ـ 7] ؛ فالغنى نعمة كبرى من الله وظيفتها القيام بشكر نعمة الله والاعتراف بها والاستعانة بها على طاعة المنعم، وبذلك يتوسل بالسبب إلى غايته ومقصوده، ولكن الإنسان من جهله وظلمه تكون هذه النعمة سبباً لطغيانه؛ لأنه وقف مع السبب ورأى أنه استغنى عن ربه، وظن أن النعمة لا تزول، وأسكرته الشهوات، وصرفته الرئاسة؛ فبغى وطغى، وقال فرعون


مغترًّا برئاسته وما أوتيه من الدنيا: {{يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلاَ تُبْصِرُونَ}} [الزخرف: 51] ؛ فانظر كيف اغترَّ بهذه النعمة، واستمرَّ على كفره وتمرده، وردَّ ما جاء به رسول الله موسى صلّى الله عليه وسلّم.

وقال تعالى عن قارون حين نصحه قومه، وحثُّوه على القيام بحقِّ الغنى والنعمة؛ قال: {{إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}} [القصص: 78] ؛ أي: عندي من علوم المكاسب والمعرف بطرقها ما يوجب استمرار ما أنا فيه من الغنى، سواء أطعت أو عصيت، فاغترَّ بعلمه بوجوه المكاسب؛ فانقطع بالأسباب عن مسببها، وبالنعم عن المنعم بها، وهكذا تجد كثيراً من أصحاب العافية والغنى قد اغترُّوا بعافيتهم وغناهم، ولم يكن لهم غاية يستعملون عافيتهم ونعم الله للتوسل لها.

وكذلك تجد كثيراً ممن له معرفة وعلم ببعض الأسباب الكونية من طب أو صناعة ونحوها، قد اغتروا بمهارتهم فيها، وظنوا أنهم بلغوا الغاية وهم منقطعون في الوسيلة، وهذا من أخطر ما يكون من الانحراف؛ فإن الماديين والطبائعيين ما زالت بهم علومهم حتى جحدوا علوم الرسل، وأنكروا الرب العظيم، فضلاً عن إنكارهم الآخرة والغيوب الأخر، {{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ *}} [غافر: 83] .


 فائدة (124) [أنواع الناس في ارتكاب الذنوب]

ثلاثة أشخاص ارتكبوا جريمة عظيمة دون الكفر، وقد تفاوتت أحكامهم في الدنيا والآحرة: أحدهم جاهل بحكمها مع إيمانه؛ فهذا لا عقوبة عليه ولا مأثم. والثاني عالم بتحريمها معترف بذنبه؛ فهذا آثم ظالم، وعليه ما رتب على هذه الجريمة من عقوبات الدنيا والآخرة. والثالث عالم بذلك، ولكنه غير معترف بتحريمها ولا ملتزم تحريمها؛ فهذا ليس بمؤمن، بل هو محكوم بكفره. والله أعلم.

 فائدة (125) [أنـواع القلـوب]

القلوب ثلاثة: صحيح ليِّن، وقاسٍ، وضعيف؛ فالذي ينقاد للحق ويثبت عليه هو القوي اللين الصحيح، والذي ينقاد لكنه لا يثبت عليه هو الضعيف، والذي لا ينقاد له بالكلية هو القلب القاسي. والله أعلم.

 فائدة (126) [بيان قول شيخ الإسلام ابن تيمية في وجوب عمارة الوقف...]

سؤال: ما معنى قول شيخ الإسلام: «تجب عمارة الوقف بحسب البطون. والجمع بين عمارة الوقف وأرباب الوظائف حسب الإمكان أولى، بل قد تجب؟».

الجواب: هذا الكلام الذي قاله الشيخ ونقله الفقهاء عنه مرتضين له تضمن أمرين:

أحدهما: وجوب عمارة الوقف وإن لم يشترط الواقف تعميره؛ لأن هذا العرف المطرد في الأوقاف، لأنه لا تنحفظ ماليتها ولا يتم استغلالها إلا بالتعمير؛ فالواقف وإن لم يشرطه بلفظه؛ فهذا مقتضى العرف الذي تحمل عليه المطلقات، لكن هذا التعمير يوزع على حسب البطون؛ فلا يجعل على البطن الأول فيكون عليه ضرر، وهو المقدم في القصد والاستحقاق؛ فإنه إذا عمر من مغله الحاضر؛ فربما استوعب المغل جميعه عدة سنين، فيحرم منه البطن الأول، ويكون إذا خلص من نفقة التعمير للبطون المتأخرة خالصاً معمراً؛ فهذا ليس من الإنصاف، بل العدل الواجب أن توزع النفقة أو يوزع التعمير على البطون كلها، فإذا فرضنا أنه يستوعب من النفقة للتعمير ثلاثة آلاف، وأمكن استدانتها آجالاً كثيرة كل عام يحل منها قسط؛ يؤخذ من الريع وتبقى البقية من المغل لأهل البطن المستحق حتى تكمل الآجال.

وإما أن يعمر شيئاً فشيئاً، فمثلاً إذا كان المغل كل عام ألف درهم عمر منه ما يساوي أو يقابل مئتين أو ثلاث أو أقل أو أكثر بحسب الاجتهاد، ثم كل عام كذلك، حتى يتم تعميره، فلا يُهْمَل عن التعمير، ولا تُحْرَم البطون السابقة منه لأجل التعمير التام فينظر الأصلح للجميع من أحد الأمرين الأصلح للوقف ولأهل الوقف، وهذا معنى قوله: «والجمع بين العمارة وأرباب الوظائف حسب الإمكان أولى، بل قد يجب»؛ فيكون في ذلك مراعاة للوقف ولأهل الوقف، واستمرار لنفعه.

وأما قول الأصحاب: إنه لا تجب عمارة الوقف إذا لم يشرطه الواقف؛ فهذا ضعيف مخالف لمقاصد الموقفين ومنافٍ للعرف، وإضرار في الحال والمآل، وتسليط للمستحقين الأولين على استغلاله استغلالاً يتلف أصله؛ كما هو معروف، وكلام الشيخ هذا عدل، وهو الطريق الوحيد لإصلاح الأوقاف واستمرار نفعها. والله أعلم.

 فائدة (127) [تفسير قوله تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان...} الآية]

قال الله تعالى: {{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ *}} [الحديد: 25] ، ما أعظم هذه الآية وأجمعها! فإن الله ذكر فيها أكبر نعمة أنعم بها على الخلق، وهو إرسال الرسل، وأن لله أيدهم بالآيات البينات والبراهين القاطعات، وأنه أقام الدين على أيديهم بالكتاب والميزان والحديد؛ فالكتاب به يقوم العلم والدِّين، وتتضح الحقائق، وتستنير الطريق، ويتبين الهدى من الضلال والغي من الرشاد، والميزان الذي هو العدل، وما يعرف به العدل تقوم به الحقوق والعقود والمعاملات والتشريعات المتنوعة.

والحديد يحصل به النصر وقمع المعتدين من الكفار والمنافقين والظالمين.

فالرسل صلوات الله وسلامه عليهم اشتركوا بأن الله أرسلهم، وأنعم بهم على العباد نعمةً لا يصلح دينهم ودنياهم وآخرتهم إلا بها، وأن كل واحد منهم أيد بآيات بينات تدل دلالة قطعية أنه رسول الله، وأن ما جاء به حق.

واشتركوا أيضاً بأن الدين واحد أصله الذي يدعون إليه من توحيد الله والإيمان به ومن العدل بين العباد على اختلاف الأحوال بحسب الأزمنة والأمكنة والأحوال، وأن قمع المعتدين مشروع أيضاً في كل شريعة شرعها الله على ألسنة رسله، وهذا من أعظم البراهين على صدقهم؛ فإنهم أتوا كلهم بأصول الخير والعدل وثواب المحسنين وعقوبة المعتدين؛ فدعوتهم واحدة، ودينهم واحد، وكلهم يُصدِّق بعضهم بعضاً، ويوافق بعضهم بعضاً.

ثم ذكر ما في الحديد من المنافع العمومية والخصوصية؛ فإن منافع الحديد لا يمكن تعدادها ولا حصرها وخصوصاً في هذه الأوقات؛ فإنه ما قامت المخترعات والصناعات العظيمة إلا بالحديد، وذلك من أكبر نعم الله على عباده التي يجب عليهم شكرها، ولكن أكثر الخلق كافرون بها غير معترفين بها، ومن كانت هذه حاله؛ فالمنافع التي حصلت له استدراج من الله وحجة عليه.

وقوله: {{وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ}} هذا بيان لكمال حكمته في ابتلاء العباد بعضهم ببعض، وأنه مع قوته وقدرته على نصر المؤمنين نصراً مستمرًّا اقتضت الحكمة أن يبلو بعضهم ببعض، ويتضح حال المؤمن الصادق الذي ينصر الله ورسوله بالغيب ممن ينقلب على عقبيه، ويعبد الله على حرف إن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه؛ خسر الدنيا والآخرة.

 فائدة (128) [الفائدة التي تستفيدها من العلوم نوعان]

الفائدة التي تستفيدها من العلوم نوعان:

أحدهما: مسائل لم تكن تعرفها قبل ذلك؛ فتستفيدها بعد جهلك بها.

ثانيهما: مسائل قد علمتها ثم نسيتها، فيحصل لك تذكرها.

ولهذا ذكر الله هذين النوعين في قوله: {{تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ *}} [ق: 8] ، تبصرة يتبصر بها الأعمى الجاهل بها، فيحصل له العلم بعد الجهل، وذكرى يتذكرها من كان علمها ثم نسيها.

وهنا نوع ثانٍ من التذكرة: وهو أن يعرفها جملة، ثم يفصل له ما كان في علمه مجملاً؛ فيكون للتفصيل بعد الإجمال موقع عظيم، ثم الطريق إلى هذين الأمرين التبصرة والذكرى، التفكر والتأمل في حدود الأشياء وتصورها التصور الذي يميزها عن غيرها، ثم الاستدلال بالدليل والبرهان عليها؛ فالنظر والتدبر مبتدأ العلم ومفتاحه، ثم ينتقل منه إلى تصور الأشياء ثم الحكم عليها حكماً صحيحاً يحصل به تبصرة للمجهول وتذكرة للمنسي، ولكن الذي


ينتفع بذلك حقيقةً هو العبد المنيب إلى الله، الذي وجه وجهه لله وقصد اتباع الحق والبحث عن طريقه، فأما من أعرض عن الله أو كان غرضه غير الحق؛ فإنه لا ينتفع بالآيات والعلوم النافعة، بل تكون حجة عليه. والله أعلم.

 فائدة (129) [أنـواع التوسـل]

التوسل والوسيلة يراد به أحد أمور أربعة:

أحدهما: لا يتم الإيمان إلا به، وهو التوسل إلى الله بالإيمان به وبرسوله وطاعته وطاعة رسوله، وهذا هو المراد بقوله: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}} [المائدة: 35] .

والثاني: التوسل إلى الله بطلب دعاء الرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حياته وطلب المؤمنين بعضهم من بعضٍ أن يدعو له؛ فهذا تابع للأول ومرغب فيه.

الثالث: التوسل بجاه المخلوق وذواتهم، مثل قوله: اللهم! إني أتوجه إليك بجاه نبيك أو نحوه؛ فهذا قد أجازه بعض العلماء، ولكنه ضعيف. والصواب الجزم بتحريمه؛ لأنه لا يتوسل إلى الله في الدعاء إلا بأسمائه وصفاته.

الرابع: التوسل في عرف كثير من المتأخرين، وهو دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم والاستغاثة به؛ فهذا من الشرك الأكبر؛ لأن الدعاء والاستغاثة فيما لا يقدر عليه إلا الله عبادة، فتوجيهها لغير الله شرك أكبر. والله أعلم.

 فائدة (130) [آثار الشبه والمقالات الباطلة على الخلق]

الشبه الباطلة والمقالات الفاسدة تختلف نتائجها وثمراتها باختلاف الناس؛ فتحدث لأناس الجهل والضلال ولأناس الشك والارتياب ولأناس زيادة العلم واليقين.

أما الذين تلتبس عليهم ويعتقدونها على عِلاَّتها، أو يقلدون فيها غيرهم من غير معرفة بها، بل يأخذونها مسلمة؛ فهؤلاء يضلون ويبقون في جهلهم يعمهون، وهم يظنون أنهم يعلمون ويتبعون الحق، وما أكثر هذا الصنف! فدهماء أهل الباطل كلهم من هذا الباب؛ ضلال مقلدون.

وأما الذين تحدث لهم الشك؛ فهم الحذاق ممن عرف الشبه، وميز ما هي عليه من التناقض والفساد، ولم يكن عنده من البصيرة في الحق ما يرجع إليه؛ إنهم يبقون في شك واضطراب، يرون فسادها وتناقضها، ولا يدرون أين يُوجهون.

وأما الذين عندهم بصيرة وعلم بالحق؛ فهؤلاء يزدادون علماً ويقيناً وبصيرةً؛ إذا رأوا ما عارض الحقَّ من الشبه، واتضح لهم فسادها، ورأوا الحق محكماً منتظماً، فإن الضدَّ يظهر حسنه بضده، ولهذا كانت معارضات أعداء الرسل للرسل وأتباعهم من أهل العلم والبصيرة لا تزيد أهل الحق إلا يقيناً وبصيرة.

ويشبه هذا الابتلاء والامتحان الذي يعرض للعباد عند الأوامر الشرعية أو عند ترك النواهي؛ فإنه يحدث الشك والاضطراب أو الجهل والضلال؛ لأمثال المنافقين وضعفاء الإيمان، كما قال الله عنهم: {{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا *}} [الأحزاب: 12] حين اشتد الأمر، وتكالبت الأحزاب، وظنوا بالله ودينه الظنون الخاطئة.

كما تحدث لأناس زيادة اليقين والإيمان، {{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيمًا *}} [الأحزاب: 22] ؛ فالشبهات والمحن والابتلاء لهؤلاء الموفقين تخليص لإيمانهم، وزيادة لإيقانهم، وتأسيس لصدقهم، وهؤلاء هم الأقلون عدداً، الأعظمون عند الله قدراً.

 فائدة (131) [من أشهر الأصول النافعة]

الأصل أن المتشابه من نصوص الكتاب والسنّة يرد إلى المحكم، وأن الخفي الغامض يوضح ويشبه بالجلي الواضح، وأن مسائل النزاع ترد إلى مسائل الإجماع، وأن العام يخص بالخاص، والمطلق يقيد بالمقيد، والشك يرجع إلى اليقين، والفروع تنبني على الأصول، والتابع على اسمه لا يستقل إلا تبعاً لغيره، وهنا أصول أُخر تشبه هذه الأصول النافعة كثيرة الفوائد، لكن هذه أشهرها.

 فائدة (132) [معرفة مقاصد الشريعة]

من أعظم الطرق التي يعرف بها كمال الشريعة وأنها مشتملة على مصالح العباد في دينهم ودنياهم ومعاشهم ومعادنهم معرفة مقاصد الشارع([82]) والصفات التي رتَّب عليها الأحكام الكلية والجزئية، ومعرفة الحِكم والأسرار في العبادات والمعاملات والحقوق وتوابع ذلك، فكلما كان العبد بذلك أعرف؛ عرف بذلك من جلالة الشريعة الإسلامية وهيمنتها وشمولها للخيرات والبركات والعدل والإحسان ونهيها عن كلِّ ما ينافي ذلك ويضاده.

 فائدة (133) [تفسير قوله تعالى: {وما كنت تتلوا من قبله من كتاب...} الآية]

قوله تعالى: {{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ *}} [العنكبوت: 48] : قيد الله الارتياب بالمبطلين في هذه الحال؛ لأن المبطل يتشبّث بكل شبهة، ويغتنم الفرصة بوجود سبب يتكلم به، ولو كان سبباً منهاراً؛ فمفهوم الآية الكريمة أن غير المبطلين وهم المحقون الذين قصدهم اتباع الحق، أنهم لا يحصل


عندهم أدنى ريبة ولا شك. ولو فرض أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان يتلو قبل نزوله كتاباً([83]) من الكتب السابقة، أو كان يكتب لأن المحقين ينظرون، ويتأملون في الكلام وما دل عليه بقطع النظر عن حالة الشخص، ولا ريب أن كل محق إذا نظر أدنى نظر صحيح في هذا الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم؛ علم أنه الحق الذي يهدي إلى كل خير ورشد وصلاح وإصلاح. فالله تعالى قطع كل شبهة يتعلق بها حتى المبطلون؛ فالأحوال المحتفة بالنبي صلّى الله عليه وسلّم كلها متوفرة على صحة رسالته وعلى نفي الشبهات القريبة والبعيدة، وهذا من رحمة الله بعباده؛ لأن جمهور الخلق يخشى عليهم من كل شبهة تقال، أو توجه لرد دعوة الرسول لعدم بصيرتهم، فلذلك رحمهم، ولم يبق لأحد اعتراضاً على الرسول بوجه من الوجوه؛ إلا المكابرين المباهتين؛ فهؤلاء لا يضر الحق اعتراضهم وقدحهم، بل يزيده وضوحاً، وتكون مكابرتهم من أكبر الدلائل على بطلان ما يدعون إليه. والحمد لله.

ويؤيد هذا المعنى الجليل الذي نبهنا عليه قوله بعدها: {{بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}} [العنكبوت: 49] الآية.

 فائدة (134) [سؤال في اشتراط جعل الوقف في جهة بر]

سؤال: لم اشْترط أهل العلم في الأوقاف ونحوها أن تكون في


جهة بِرٍّ مع أن الإنسان يجوز له بذل ما له في الأمور المباحة؟

الجواب وبالله التوفيق: السبب في ذلك أن الأموال جعلها الله قياماً للناس، تقوم بها أمور دينهم وأمور دنياهم، فما دام العبد في قيد الحياة؛ فإنه يجوز له بذلها في المباحات والمنافع المتنوعة، كما يبذلها في الطاعات، فإذا مات العبد؛ انقطعت عنه المنافع الدنيوية، ولم يبق إلا المنافع الأخروية.

فهذا هو السبب وهو ظاهر كما ترى، ولهذا من كان عنده مال لغيره، وقد جهل صاحبه، وتعذر عليه معرفته أو معرفة وارثه صرفه فيما ينفع صاحبه في الآخرة فتصدق به عنه، أو صرفه في المصالح الدينية؛ لأنه لما تعذر عليه الانتفاع في ماله في حياته ومنافعه الدنيوية؛ تعينت المصالح الأخروية، ولهذا أيضاً كان الجزاء في الآخرة من الأعمال حين تعذر الوفاء من المال. والله أعلم.

 فائدة (135) [الظنيات لا تعارض القطعيات]

الأمر اليقيني لا يعارضه الشك ولا يدفعه، والأمور القطعية لا تعارضها الأمور الظنية فضلاً عن الشبهات التي لا حظَّ لها من العلم؛ فمن أعظم الأمور اليقينية والمسائل القطعية أن كل مؤمن يقطع ويتيقن يقيناً لا شك فيه أن محمداً صلّى الله عليه وسلّم رسول الله حقًّا، وأنه صادق في كل ما قاله، وأن جميع ما جاء به حق؛ فمتى حصلت له شبهة أو أُورد عليه شيء يناقض ما قاله الرسول؛ علم أن ذلك باطل وإن لم يفهم أو يعرف وجه بطلانه على وجه الخصوص؛ لأن ما ناقض الحق باطل وضلال، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟!

وهذا الأصل النافع ينتفع به كل مؤمن ترد عليه الشبهات أو تورد عليه، فإذا علم وتحقق أنها خلاف ما جاء به الرسول؛ عرف بطلانها قطعاً لأنها مناقضة للصدق والحق، فإن حصل له حلها بطريق خاص؛ فهو نور على نور، وإلا؛ فيكفيه هذا العموم. والله أعلم.

وكذلك أهل العلم والإيمان يعلمون أن الرسول لا يأمر إلا بما فيه خير وصلاح خالص أو راجح، ولا ينهى إلا عما فيه ضرر وفساد خالص أو راجح، فإن اتضح لهم وجه ذلك؛ فهو نور على نور علم بالأصل وبما تفرع عليه، وإن لم يتضح لهم وجهه؛ كفاهم الأصل العام الجامع، وعلموا أن فيه من موجبات الأمر أو النهي ما خفي عليهم. قال تعالى: {{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِيَ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ *}} [سبأ: 6] .

 فائدة (136) [أنواع لذات الدنيا]

لذات الدنيا ثلاثة أقسام:

أحدها: لذة تعقب ألماً أعظم منها، أو تفوت لذة أكبر منها، وهذه لذات العصاة الغافلين على اختلاف طبقاتهم، وهم الذين يقال لهم: {{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا}} [الأحقاف: 20] الآية.

الثانية: لذة لا تعقب ألماً أكبر منها ولا تفوت لذة أكبر منها، وهي لذات الغافلين المباحة التي لا يستعينون بها على الخير ولا ينوون القيام بالواجب.

الثالثة: لذة يثاب العبد عليها، وهي لذة خواص المؤمنين الذين يتمتعون بها على وجه القيام بواجب النفس وعلى وجه الاستعانة بها على طاعة الله، وعلى وجه الانكفاف بها عن معاصي الله.

وبهذه المقاصد الجليلة تكون من قسم الطاعات، وهي التي قال فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها»([84] وقال فيها: «وفي بضع أحدكم صدقة». قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام؛ أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر»([85])؛ فبين في الحديث أن التمتع بهذه الشهوات على وجه الحمد لله والاعتراف بفضله وقصد الانكفاف بها عن الحرام أجر وثواب عند الله؛ فلّله الحمد على منته.


 فائدة (137) [أنواع الاحتجاج بالقدر]

الاحتجاج بالقدر على الشرك والكفر وأنواع المعاصي احتجاج باطل؛ لأنه يدفع به أمر الله ورسوله ويعتذر به عن معاصيه لله، وذلك أكبر الظلم والجهل والضلال، وكذلك احتجاج العبد بعد وقوع ما يكره بأن يقول: لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا؛ فإنه قالٌّ على الله وتكذيب لقدره الواقع لا محالة.

وأما الاحتجاج بالقدر على وجه الإيمان به والتوحيد لله والتوكل عليه والنظر إلى سبق قضائه وقدره؛ فهو محمود مأمور به.

وكذلك الاحتجاج به على نعم الله الدينية والدنيوية؛ فإنه يوجب للعبد شهود منّة الله عليه بسبق قدره وإحسانه، وكذلك إذا فعل العبد ما يقدر عليه من الأسباب النافعة في دينه ودنياه، ثم لم يحصل له مراده بعد اجتهاده؛ فإنه إذا اطمأن في هذه الحال إلى قضاء الله وقدره كان محموداً نافعاً للعبد مريحاً لقلبه؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «وإذا غلبك أمر؛ فقل: قدر الله وما شاء فعل»([86]).

وكذلك إذا احتج به بعد التوبة من الذنب ومغفرة الله له على وجه الإيمان به؛ كان حسناً، كما حجَّ آدمُ موسى صلى الله عليهما وسلم([87]).

وكذلك ينفع النظر إلى القضاء والقدر ليبعث العبد على الجد والاجتهاد في الأعمال النافعة الدينية والدنيوية؛ فإنه إذا علم أن الله قدر الوصول إلى المطالب والمقاصد بالأسباب المأمور بها؛ جد واجتهد، عكس ما يظنه كثير من الغالطين أن إثبات القدر يثبط، بل ينشط العاملين أبلغ مما لو كان الأمر أنفاً لم يقدر له غاية.

وكذلك ينفع النظر إلى القدر عند وجود المخاوف المزعجة؛ فإن من علم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه؛ اطمأن قلبه، وسكنت نفسه، ولم ينزعج للأسباب المخوفة، بل يتلقاها بسكينة وطمأنينة، ويقوم بما أمر بالقيام به عندها.

وكذلك نفعه في المصائب وحلول المحن عظيم؛ فإنه من يؤمن بالله يهد قلبه، فإذا أصيب بمصيبة فعلم أنها من عند الله رضي وسلم لأمر الله وحكمه، واحتسب أجره وثوابه.

فهذا التفصيل في مسألة النظر إلى القضاء والقدر والاحتجاج به يأتي على جميع الأحوال، وتبين أن منه محموداً ومذموماً. والله أعلم.

 فائدة (138) [محاورة بين مؤمن وملحد]

جرت صورة محاورة بين مؤمن وملحد، فقال المؤمن للملحد:


يجب علينا أن نتفاهم ويخبر كل منهما عن عقيدته وغايتها والسبب الذي أداه إليها والأدلة التي تؤيدها والإشكالات التي ترد عليها.

فقال الآخر: لا بأس، هذا هو اللازم على من يريد الوقوف على الحقائق واتباعها، ويريد الإنصاف، وهذه الطريقة العلمية التي اتفق عليها جميع العقلاء، ودعني أبين لك معتقدي والأسباب التي أدَّتني إليه والغايات التي أريدها بأعمالي.

فقال: هاتِ ما عندك.

فقال الملحد: أما معتقدي؛ فإني أعتقد بوجود جميع المحسوسات التي ينالها الحس وتدرك بالحواس، وأعترف بها، وأتبع النافع منها، وما سوى ذلك؛ فإني لا أعترف به، بل أنكره غاية الإنكار؛ فلا أعترف بالخالق ووحدانيته، فضلاً عن اعترافي بالوحي والرسل والمعاد؛ فكلها حيث لم يدركها حسِّي، ولم تدخل تحت معلوماتي، كيف أعترف بها وقد اقتديت في هذا السبيل بكثير من فلاسفة العلم الموجودين والمفقودين؛ فلي فيهم أسوة، وهم عندي نعم القدوة لشهرتهم وذكائهم وكمال معلوماتهم ومعقولاتهم.

وأما غايتي في هذا؛ فأريد الراحة التامة في هذه الحياة التي لا حياة بعدها، والانطلاق وراء مختارات النفوس وأغراضها، وعدم التقيد الذي هو غل للقلب وللجوارح؛ فقصدي أن تكون أعمالي كلها حرة وشهواتي كلها حاصلة، والأديان تمنع من هذا، وتجعل الإنسان في حبس، وتغل أعماله، وتشل حركاته كما ذكره علماؤنا وقدوتنا في هذا السبيل.

وأما برهاني على ذلك؛ فكما ذكرت لك أن هذا الرأي عليه من أكابر فلاسفة العالم وأساطين العلماء ما هم نِعْمَ القدوة لي ولأمثالي، وبرهان ذلك ما تشاهده من مخترعاتهم وإبداعهم في الحياة وسيطرتهم على العالم بفضل علمهم ونتائج أفكارهم، وترى أهل الدِّين بعكس هذه الحال، ليس لهم تقدم في هذه الحياة ولا رقي وإنتاج لهذه المخترعات؛ فهذه عقيدتي ألقيتها إليك صريحة موضحة بحقيقتها وبراهينها؛ فهاتِ ما عندك.

فقال الموحد المؤمن: أما عقيدتي؛ فإني إذا شرحتها وأبديتها عرفتَ وعرفَ غيرك أن الحق والمنافع التي ذكرتها أنت في عقيدتك تدخل في ضمنها وتحتضن جميع الحقائق الصادقة، وتنبذ ما في عقيدتك من الشر والضرر الآجل، بل والعاجل.

أما أنا: فأؤمن بالرب العظيم الذي تضاءلت عظمة الموجودات كلها عند عظمته، وصغرت العوالم كلها عند كبريائه وقدرته وواسع علمه وحكمته وعميم رحمته.

أشهد أنه الرب الذي أوجد العالم العلوي والسفلي وأبدعه على غير مثال سبق، بل في غاية الإحكام والانتظام الذي عجزت مدارك العلماء الأولين منهم والآخرين عن إدراك بعض حكم مخلوقاته ومعقولاته، الذي له التصرف المطلق والحكم المطلق، حكم بتدبيره؛ فدبر المخلوقات، وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به، وهداها إلى مصالحها المتنوعة، ولم يخلقها سدى وعبثاً، بل خلقها بالحق وللحق، فحكم على المكلفين بشرعه.فأرسل إليهم الرسل الذين هم أجمع الناس لكل خلق جميل ووصف حميد، وأعلاهم علوماً وعقولاً، وأكملهم في جميع صفات الكمال، وأنزل عليهم الكتب المحكمة الممتعة محتوية على شرائعه الكاملة، وضح الله فيها لعباده أصدق الأخبار وأصدق العقائد وأنفع الأحكام، وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً، وفيها تبيان لكل شيء يحتاجه العباد في معاشهم ومعادهم في دينهم ودنياهم، لم يبق خيراً إلا أمر به وبين طرقه، ولا شرًّا إلا حذر عنه وعن سلوك سبيله بكل طريق. فجميع المنافع الدينية والدنيوية قد اشتمل عليها دين الإسلام الذي هو دين جميع الرسل وأتباعهم؛ فخلق الله الخلق لعبادته ومعرفته وسلوك كل طريق فيه مرضاة الله وفيه سعادة العبد ونجاته، وأدر عليهم الأرزاق، ليستعينوا بها على هذا المقصد الأعظم، ليتوسلوا بذلك إلى تمام نعمته ونيل كرامته في دار الخلود.

فالدنيا كلها من أولها إلى آخرها بالنسبة إلى تلك الدار لا نسبة لها بوجه من الوجوه؛ فلهذا آمنت بهذا الرب العظيم المدبر للعوالم كلها الذي وسعت رحمته كل شيء وشمل بجوده البر والفاجر، ولم يخل مخلوق من إحسانه طرفة عين. وتيقنت أن للعباد داراً غير هذه الدار يجازون فيها بأعمالهم التي عملوها في هذه الدار، فغايتي من عقيدتي السعادة العاجلة والسعادة الآجلة والفوز الأبدي والنعيم السرمدي، عكس غايتك الحقيرة الدنية الساقطة التافهة. وبرهاني على ذلك أعظم البراهين وأوضحها وأصدقها وأكبرها، برهاني على ذلك أكبر


الشهادات كلها، وهي شهادة الله التي أودعها كتبه السماوية، وفطر الخليقة عليها إلا من فسدت فطرته بما طرأ عليها من العقائد الفاسدة والآراء الساقطة.وبرهاني على ذلك شهادة الكتب التي أنزلها الله على رسله وخصوصاً القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، الذي أعجز الإنس والجن عن أن يأتوا بمثله في البلاغة والفصاحة والأسلوب البديع والأخبار الصادقة النافعة والأحكام المحكمة العامة الشاملة، وغير ذلك من وجوه إعجازه. وبرهاني على ذلك شهادة أعلى طبقات الخلق وهم الرسل الكرام من أولهم إلى خاتمهم كلهم متفقون على هذا الإيمان بالرب العظيم وأقداره وشرائعه وأحكامه القدرية والشرعية والجزائية؛ فهؤلاء الرسل، جَمْعُ الفلاسفة من أولهم إلى آخرهم لم يبلغوا عشر معشار ما أعطيه واحد من هؤلاء الصفوة الذين تضمحل علوم الفلاسفة إذا نسبت إلى علومهم. ثم بعد ذلك هداة الأنام ومصابيح الظلام وأئمة الهدى في جميع طبقات القرون، الذين هم على الناس وأوسعهم علوماً وأكملهم عقولاً وفضائل وأجمعهم للمحاسن، كلهم على هذا الدين الحق؛ فكيف يُفَضِّلُ ذو عقلٍ على هؤلاء زنادقةَ الفلاسفة المعروفين بانحراف المعارف والجهل العظيم بالمعارف الإلـهية؟ وإن كان لهم معرفة في بعض أمور الطبيعة؛ فهم في الدِّين والإلـهيات من أعظم الجهل وأسفل الضلال، كيف يختار عاقل السير خلف هؤلاء المنحرفين في علومهم ومقاصدهم؟! إن هذا لهو الضلال المبين.وبرهاني على ذلك أيضاً النظر في


الموجودات والتأمل للمخلوقات؛ فإنها كلها أدلة وبراهين على مبدعها وخالقها وعلى كمال علمه وقدرته وشمول رحمته وحكمته، وعلى تفرده بالوحدانية والكمال المطلق من جميع الوجوه، وعلى صدقه وصدق رسله، وأما ما ذكرته من غايتك؛ فإنها تعبر أحسن تعبير عن غايات البهائم التي لا همَّ لها إلا ما وافقها من الأكل والشرب وتوابعه، فالغاية التي شرحْتَه عن نفسك هي الفوضى بعينها، وهي إعطاء النفوس مناها ضَرَّ أو نفع، وعدم تقيدها بالأحكام الشرعية، فإن الأحكام الشرعية في إباحتها وتحريمها وفي إطلاقها ومنعها هي الغاية الكاملة في صلاح الخلق؛ فإنها أباحت كل طيب نافع للعباد من مآكل ومشارب وملابس ومناكح وغيرها، ووسعت للعباد في ذلك غاية التوسيع، ونهت عن كل خبيث ضار للعباد؛ فهي الغذاء للعباد، وهي الدواء والشفاء، نهتهم عن انطلاق النفوس في أغراضها الخسيسة التي تعود بضررها وضرر أبناء جنسها الضرر العاجل والآجل.ومن محاسنها أنها ما نهت عن شيءٍ تشتهيه النفوس إلا جعلت للعباد من المباحات ما يغني عن ذلك، وتتبع ذلك في كل الأمور؛ فإنها أغنت العباد بالحلال عن الحرام وبالنافع عن الضار؛ فهذه القيود التي قيدت المكلفين من أعظم الأدلة على حقها وخيرها وأنها حوت من المحاسن ما لا يحيط به الوصف.وأما ما ذكرت من المخترعات والصناعات؛ فليست متأثرة عن الإلحاد والزندقة، إنما تأثرت عن العلوم الصناعية وكون كثير من أهلها عقيدتهم إلحادية، ليس للعقيدة فيها أثر بوجه من الوجوه، بل الدِّين


الإسلامي يأمر ويحث على جميع الصناعات النافعة الكبيرة والصغيرة، فإذا فرض تقصير أهله عن مجارات الأمم الأخرى في هذا؛ لم يضر الدِّين شيءٌ، وهذه شبه لا يزال دعاة الإلحاد يبدونها ويذكرون تقصير المسلمين عن مجارات الأمم في هذا المضمار، وهم لم ينصفوا في هذا، فلو أنصفوا لعرفوا أن دين الإسلام أعظم من يحث على كل الأمور النافعة الدينية والدنيوية، ولكن الأعداء يتشبثون بكل شهبة، ربنا لا تجعلنا فتنةً للذين كفروا، واغفر لنا.والواجب أن ينظر إلى المسلمين في حال قيامهم بالدِّين، وكيف كانوا هم سادة الأمم، وقد خضعت لهم أقوى دول الأرض حينما كانوا قائمين بدينهم حق القيام، فمن استدل بحالة المسلمين الحاضرة على القدح في دينهم؛ فهو ظالم مفترٍ، قصده التلبيس والتغرير، وإن أردت زيادة البيان لهذا الأمر؛ فانظر إلى ما دعا إليه الدين في أصوله وفروعه أصلاً أصلاً، وشريعة شريعة تجدها كلها في غاية الإحكام والحسن والحث على كل فعل جميل وكمال إنساني ورقي روحي ومادي، وجمع بين مصالح الدين والدنيا لا يقوم غيرها مقامها في إصلاح الأمور كلها وما سواها من النظم؛ فهي وإن نفعت من  وجه ضرت من وجوه أخر، وشرها أكثر من نفعها وإن العلماء المحققين العارفين لحقيقة النظم الإسلامية والنظم الأخرى ونتائجها وثمراتها لَيَتَحَدَّون جميع الطوائف المنحرفين عن الدين، ويبرهنون على ذلك ببراهين عقلية وواقعية.وإني بصفتي واعترافي بقصوري أتحداك أيُّها الرجل! الذي فضل الإلحاد على دين رب العباد، وأتحدى غيرك


أن يأتوا بمثال واحد فاقت فيه النظم الإلحادية على النظام الإسلامي، ولن تستطيعوا إلا بالمكابرة التي يسقط معها الكلام؛ فهاتِ ما عندك من الانتقادات.

فلم يتمكن الملحد من جواب هذا السؤال، وبقي إما أن يبقى على إلحاده بعد ما تبين له الحق، ويصير مكابراً ينكر ما لا ينكر، أو ينقاد للحق، ويتبع طريق الإنصاف الذي تبين، ووضح كل الوضوح.

 فائدة (139) [الحكمة من الاستعاذة من فتنة المسيح الدجال في كل زمان ومكان]

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في «السبعينية»: «ولما كانت دعوى الدجال الربوبية ممتنعة في نفسها لم يكن ما معه من الخوارق حجة([88]) على صدقه بل كانت محنة وفتنة يضل الله بها من يشاء ويهدي من يشاء؛ كالعجل وغيره، لكنه أعظم فتنة وفتنته لا تختص بالموجودين في زمانه، بل حقيقة فتنته الباطل المخالف للشريعة المقرون بالخوارق، فمن أقر بما يخالف الشريعة لخارق؛ فقد أصابه نوع من هذه الفتنة، وهذا كثير في كل زمان ومكان، لكن هذا المعيَّن فتنته أعظم الفتن، فإذا عصم الله عبده منها، سواء أدركه أو لم يدركه؛ كان معصوماً مما دون هذه الفتنة...» إلى آخر ما قال رحمه الله.

قلت: وهذه الفائدة التي ذكرها الشيخ تبين غاية البيان أن النبي صلّى الله عليه وسلّم يأمر أمته أن يستعيذوا بالله من فتنة المسيح الدجال؛ إلاّ لأن كل أحد يحتاج إلى هذا كما يحتاج أن يعيذه الله من عذاب القبر وعذاب النار وفتنة المحيا والممات.

ففتنة المسيح الدجال اسم جنس، فيعوذ العبد بالله من كل فتنة تكون من جنس فتنته، وهي فتن الباطل والشبه المقرونة بالشبهات والخوراق التي يحصل بها الضلال الكثير من الخلق؛ كفتنة الإلحاد والماديين الذين اغتر بهم خلق كثير لما شاهدوه من صناعاتهم القوية واختراعاتهم الهائلة، وتوابع ذلك حتى ظنوهم على الحق، وبهرتهم هذه المدنية الزائفة التي ظاهرها مزوق وباطنها خراب؛ فالاستعاذة بالله من فتنة الدجال يدخل فيها أنواع هذه الفتن وما يشبهها.

وبما ذكره الشيخ يندفع إيراد من أورد كيف يأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أمته أن يدعوا بالوقاية من فتنة المسيح الدجال، وقد انطوت قرون عديدة لم يدركوا شخصه المعيَّن، وجواب ذلك أن كل أحد محتاج إلى وقاية الله من فتنة المسيح الدجال في كل زمان ومكان. والله أعلم.

 فائدة (140) [حكم من ترك ركناً من الصلاة]

قول الأصحاب رحمهم الله: من ترك ركناً، فذكره بعد شروعه في قراءة الركعة التي بعد ركعته؛ لغت الركعة التي ترك منها الركن، وقامت هذه مقامها، وإذا ذكره قبل الشروع في القراءة رجع فأتى بالمتروك وبما بعده، وتمت ركعته، واستدلوا على هذا بأن شروعه في قراءة الركعة التي بعدها شروع في ركن مقصود، فإذا شرع فيه سقط الإتيان بما ترك، ولغي ما قبلها، فصارت الركعة السابقة كلها لاغية بوجوب الترتيب بين الأركان.

والقول الثاني في المذهب: أنه لا فرق بين الصورتين، وأنه إذا نسي ركناً فذكره؛ لزمه أن يعود إليه فيأتي به وبما بعده، يأتي به؛ لأنه متروك ولا يخرج من العهدة إلاّ بفعله، ويأتي بما بعده لوجوب الترتيب، فيقع ما بعده لاغياً؛ لأن من شرطه فعل ما قبله، وسواء ذكر ذلك قبل الشروع في القراءة أو بعدها، وهذا القول أصح، وهو الموافق للقاعدة الشرعية ولقاعدة المذهب، والتفريق بين الشروع في القراءة وعدمه بأن القراءة ركن مقصود غير صحيح، فإن جميع أركان الصلاة مقصودة ركوعها وسجودها وقيامها وقعودها القولية والفعلية.

ثم في كونه بعد الشروع في القراءة تلغي الركعة السابقة فيه مفسدتان شرعيتان:

إحداهما: إهدار ما وقع صحيحاً مرتباً، وهو ما قبل الركن المتروك؛ فبأي دليل يهدر والشارع قد اعتبره والمصلي قد فعله؟!

ثانيهما: زيادة أفعال في الصلاة على وجه العمد، وهو القيام وما بعده إلى الركن المتروك؛ فمثلاً إذا كان قد ترك السجدة الأخيرة من الركعة الأولى، ولم يذكرها إلا بعد شروعه في قراءة الركعة الثانية؛ لزمنا أن نلغي قيام الأولى وركعتها والقيام بعد الركوع والسجود الأول، والقيام منه والجلوس بين السجدتين، وكله واقع على وجه الصحة، ونعتبر قيام الثانية وما بعده إلى السجدة الثانية منها، وهذا عند تأمله يجزم بغاية ضعفه ومنافاته للأصول الشرعية.فتبين أن الصواب المقطوع به أن من نسي ركناً فذكره يأتي به وبما بعده مطلقاً، سواء شرع في القراءة أم لا، وسواء في نفس الصلاة أو بعدها، وهذا القول هو ظاهر عموم الأدلة في الصلاة خاصة وفي غيرها عامة؛ مما اعتبر له الترتيب؛ فإن من ترك ترتيب الوضوء أو الطواف أو السعي أو رمي الجمار أو نحوها؛ فإنه يأتي بالمتروك وبما بعده فقط، ولا يأتي بالفعل الواقع صحيحاً.

ويؤيد هذا التعليل الصحيح أن يقال: اشتمل هذا الأمر على ثلاثة أمور: أمر قد وقع صحيحاً مرتباً قبل ترك الركن، والثاني الركن المتروك، والثالث الأركان المفعولة بعد المتروك؛ فالإتيان بالمتروك لازم لأنه متروك، والركن لا يسقط لا عمداً ولا سهواً ولا جهلاً، والإتيان بما بعده من الأركان المفعولة لازم الإتيان بها؛ لأنها وقعت لم يسبقها ما هو شرط لها، وهو الركن المتروك لوجوب الترتيب، وأما الإتيان بالواقع صحيحاً مرتباً وإلغاؤه؛ فهو خلاف الأصل وخلاف الواجب. والله أعلم.

 فائدة (141) [أمور يحتاجها السلطان]

يحتاج السلطان ومن يقوم مقامه إلى ثلاثة أمور بها يتم المقصود: الجود، والشجاعة، والحكمة؛ لأن الأمور التي يدبرها كثيرة جدًّا، وكل واحد منها على كثرتها يحتاج إلى إصلاحه وتنميته ودفع الفساد والضرر من جهته، وذلك يكون بالبذل والعطاء الجاري


مجرى الترغيب، وبالقوة والشجاعة والتنفيذ الجاري مجرى الترهيب وسلوك طريق الحكمة فيمن يعطي ويمنع وفيمن يخفض ويرفع وفيمن يثيب ويعاقب؛ فمتى تمت هذه الأمور الثلاثة؛ استقامت الأمور، وصلحت دنيا العباد ودينهم، ومتى اختل واحد منها؛ وقع من الخلل بحسبه، فمتى حصل البخل والإمساك أو كان العطى والإمساك بغير حكمة ورعاية للمصالح الدينية والدنيوية؛ حصل الخلل الكثير، ومتى لم يكن بالوالي قوة، بل كان ضعيف الإرادة أو ضعيف القدرة، أو كان قويًّا ولكنه يصرف قوته في غير حكمة في تدبيراته؛ اختلت الأمور؛ فعلى الوالي أن يجعل هذه الأمور الثلاثة أساسه الأكبر الذي ينبني عليه جميع تدبيراته وتنفيذاته، فيكون عطاؤه بحكمة ولحكمة ومنعه لحكمة، بأن يكون ذلك جلباً للمصالح الكلية أو الجزئية، ودفعاً للمفاسد الكلية والجزئية، ويكون ثوابه وعقوبته لحكمة لتتم بذلك الأمور والأحوال. والله الموفق لا رب غيره ولا إله سواه.

 فائدة (142) [وصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأمير الجيش عند الغزو]

في حديث بريدة: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا بعث أميراً أو جيشاً أوصاه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، وقال: «اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً...» الحديث في «الصحيح»([89]).

جمع صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الجليل جميع ما يلزم لأمير الجهاد وآداب الجهاد وحدوده وشروطه ومكملاته، ونهى عن كل ما يخل به أو ينقصه؛ فأوصى الأمير بأمرين:

لزوم تقوى الله التي هي النجاة، والعصمة في الدنيا والآخرة وهي السبب في حصول الخيرات وفي دفع الشرور والآفات وفي النجاة من المكاره والهلكات.

والثاني: وصاه بمن معه من المسلمين خيراً، وذلك شامل لبذل كل ما يستطيع من نفعهم في دينهم ودنياهم، والرفق بهم والإحسان إليهم والحنو عليهم؛ فإن الأمير متى اجتمع له الأمران؛ تم أمره وصلاحه، واستقامت له الأمور، ويسره الله لليسرى، وجنبه العسرى.

وأما قوله: «اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله»؛ فهو وصية للجيش كلهم أميرهم ومأمورهم بالاستعانة بالله والإخلاص والمتابعة والإصابة. وبهذه الأمور الأربعة تكمل هذه العبادة.

فقوله: «باسم الله»؛ أي: استعينوا بربكم، واعتمدوا عليه، وتوكلوا على حوله وقوته في غزوكم وجهادكم.

وقوله: «في سبيل الله»: هذا هو الإخلاص وسبيل الله هو الطريق الموصل إليه، وهو القتال؛ لتكون كلمة الله هي العليا، ويتضمن أيضاً المتابعة.

ثم قوله: «قاتلوا من كفر بالله»؛ أي: قاتلوا الكفار لا المسلمين لأجل كفرهم وحرابهم وصدهم عن سبيل الله، ثم نهاهم عما يضاد ذلك، وهو قوله: «ولا تغلوا...» إلى آخر ذلك.

فإن هذه المذكورات من أكبر القوادح في الجهاد وعن أسباب الضعف وفشل المسلمين وأسباب انتصار العدو عليهم.

فهذا الحديث الشريف محتوٍ على الأسباب النافعة والحث عليها وبيانها، وعلى التحذير من الموانع الضارة. والله أعلم.

 فائدة (143) [اسم الله الأعظم]

سئلت عن الاسم الأعظم من أسماء الله الحسنى: هل هو اسم معيَّن معروف أو اسم غير معين ولا معروف؟

الجواب: بعض الناس يظن أن الاسم الأعظم من أسماء الله الحسنى اسم لا يعرفه إلا من خصه الله بكرامة خارقة للعادة، وهذا ظن خطأ؛ فإن الله تبارك وتعالى حثَّنا على معرفة أسمائه وصفاته، وأثنى على من عرفها، وتفقه فيها، ودعا الله بها دعاء عبادة وتَعَبُّدٍ ودعاء مسألة، ولا ريب أن الاسم الأعظم منها أولاها بهذا الأمر؛ فإنه تعالى هو الجواد المطلق الذي لا منتهى لجوده وكرمه، وهو يحب الجود على عباده، ومن أعظم ما جاد به عليهم تَعَرُّفُه لهم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا؛ فالصواب أن الأسماء الحسنى كلها حسنى، وكل واحد منها عظيم، ولكن الاسم الأعظم منها كل اسم مفرد أو مقرون مع غيره إذا دل على جميع صفاته الذاتية والفعلية، أو دل على معاني جميع الصفات؛ مثل:

الله؛ فإنه الاسم الجامع لمعاني الألوهية كلها، وهي جميع أوصاف الكمال.

ومثل: الحميد المجيد؛ فإن الحميد الاسم الذي دل على جميع المحامد والكمالات لله تعالى. والمجيد الذي دل على أوصاف العظمة والجلال، ويقرب من ذلك الجليل الجميل الغني الكريم.

ومثل: الحي القيوم؛ فإن الحي من له الحياة الكاملة العظيمة الجامعة لجميع معاني الذات. والقيوم الذي قام بنفسه واستغنى عن جميع خلقه وقام بجميع الموجودات؛ فهو الاسم الذي تدخل فيه صفات الأفعال كلها.

ومثل: اسمه العظيم الكبير الذي له جميع معاني العظمة والكبرياء في ذاته وأسمائه وصفاته، وله جميع معاني التعظيم من خواص خلقه.

ومثل: قولك: يا ذا الجلال والإكرام؛ فإن الجلال صفات العظمة والكبرياء والكمالات المتنوعة. والإكرام استحقاقه على عباده غاية الحب وغاية الذل وما أشبه ذلك.

فعلم بذلك أن الاسم الأعظم اسم جنس، وهذا هو الذي تدل عليه الأدلة الشرعية والاشتقاق؛ كما في


«السنن»([90]) أنه صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: اللهم! إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد، الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. فقال:«والذي نفسي بيده؛ لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى».

وكذلك الحديث الآخر حين دعا الرجل، فقال: اللهم! إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان، بديع السماوات والأرض، ذو الجلال والإكرام، يا حي! يا قيوم! فقال صلى الله عليه وسلم:

«والذي نفسي بيده؛ لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى»([91]).

وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم؛ «اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: {{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ *}} [البقرة: 163] ، {{اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}} [البقرة: 255] . رواه أبو داود والترمذي([92]).

فمتى دعا الله العبدُ باسم من هذه الأسماء العظيمة بحضور قلب ورقة وانكسار؛ لم تكد ترد له دعوة. والله الموفق.

 فائدة (144) [النفـس اللوامـة]

أقسم الله بالنفس اللوامة، وهي على الصحيح نفس المؤمن، وذلك لكمال هذه النفس وعظمتها؛ فإن الإيمان الذي تأوي إليه وتعتقد أنه هو أصل سعادتها وفلاحها لا تزال تلوم نفسها على التقصير في لوازمه ومكملاته، ويظهر هذا كل الظهور أن من عرف حالة البشر وأن جمهورهم لا يعترفون بالإيمان الصحيح وإنما ينظرون([93]) إلى الطبيعة المجردة والإنسانية وحدها وعدم استنادها في أصلها وكمالها إلى خالقها؛ تجدهم لا يلومون أنفسهم، بل حتى المجرمون منهم ينفون اللوم عن أنفسهم، ويبررون مواقفهم. والله أعلم.

 فائدة (145) [العلـم العمـل]

قوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ *}} [الصف: 2] ، الآيات كما تدل على ذم من يأمر الناس بما لا يأتمر به وينهاهم عما كان يرتكب؛ فإنها أيضاً تهدي إلى طريقة نافعة في التعلم والتعليم، وهي أنك إذا تعلمت أو علمت؛ فلا يكن ذلك مجرد تعليم ألفاظ ومعاني لا تتصف بها ولا يتصف بها من تعلمه، بل طبق العمل على العلم، واستعن بالعمل على قوة العلم وجودته وكماله.

 فائدة (146) [البشاشـة المخلصـة]

قوله صلى الله عليه وسلم في ذكره الإحسان: «ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق»([94])، وذلك أن البشاشة المخلصة الصادرة من القلب على الوجه تعبر عما يكنه من محبة ووداد، وأنه متشرف برؤية أخيه واجتماعه به، وهي جذابة للقلوب كما هو مشاهد، وأي إحسان أبلغ من هذا؟! وأما مجرد البشاشة الخالية من الوجه المنطلق عن القلب؛ فإنها قليلة الجدوى.

 فائدة (147) [الأمر باللين والقول الحسن]

قوله تعالى: {{فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى *}} [طه: 44] ، وقوله: {{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً}} [البقرة: 83] ، وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما كان العنف في شيء إلا شانه»([95]).

ما أعظم فوائد هذه الإرشادات الحكيمة والأمر باللين والقول الحسن لعموم الناس والرفق! فإن لها التأثير العظيم في حصول المراد المطلوب من أقوال وأفعال، ولها الوقع الأكبر في التحبب إلى الناس وإزالة ما في قلوبهم من بغض وغل وحقد وجلب خواطرهم إلى مطلوبك الديني والدنيوي.

 فائدة (148) [المجادلة بالتي هي أحسن]

قوله تعالى: {{وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ *}} [العنكبوت: 46] : فيها النهي عن المجادلة إلا بالطريقة المثلى والحكمة العليا، وفيها أنه ينبغي لمن ناظر غيره أن يؤسس الأسس التي يتفق عليها المتناظران، ثم إذا حصل الاتفاق وتم الالتئام؛ انتقل منه إلى المواضع المختلف فيها بلطف ولين وهدوء.

 فائدة (149) [الطمع في رحمة الله]

قـال: {{قــَالَ وَمـَنْ يَقْنـَطُ مـِنْ رَحْمـَةِ رَبِّـهِ إِلاَّ

الضَّآلُّونَ *}} [الحجر: 56] ، {{إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}} [يوسف: 87] .

جميع ما ينال من الخيرات في الدنيا والآخرة من رحمة الله وروحه من أعمال وثواب وأسباب ومسببات؛ فعلى العبد أن يعمل، وعليه أن يرجو ويطمع؛ فبالعمل والطمع يحصل له النجاح.

 فائدة (150) [أسباب حفظ الله العبد من الشرور الباطنة والظاهرة]

قال تعالى: {{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}} [يوسف: 24] ، وقال تعالى: {{فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ *}} [يوسف: 34] .

هذان الأمران من ألطاف حفظ الباري لخواص أنبيائه وأصفيائه صرف أسباب السوء والفحشاء الداخلية، وصرف الأسباب الخارجية، ومن أراد الله به خيراً صرف عنه الأمرين اللّذين هما مجموع الفتن، وذكر الله لهذا الصرف الذي هو من أَجَلِّ نعمه سببين:

أحدهما: قوة الإخلاص من العبد واستخلاص الله له.


والثاني: اللهج بالتضرع والدعاء، فمن أخلص لله؛ استخلصه الله ووفقه لفعل الخيرات، وصرف عنه السوء والمكروهات، ومن تضرع له وألح بالدعاء؛ استجاب الله له فصرف عنه شر شياطين الإنس والجن، وكفاه كيد الكائدين ومكر الماكرين.

فيوسف صلى الله عليه وسلم لما كمل الأمرين: الإخلاص لله، والتضرع له والالتجاء إليه والاعتصام به؛ حفظه الله حفظاً كاملاً من الشرور الباطنة والظاهرة، الداخلية والخارجية، والله تعالى يقص علينا قصص أنبيائه؛ ليكون ذلك عبرة لنا، والعبرة هنا أن كل من له حَظٌّ من الإخلاص والدعاء والتضرع؛ فله حَظٌّ من حفظ الله وصيانته بحسب ما قام به من قوة الأمرين أو ضعفهما، ومن فاته الأمران؛ وُكِّلَ إلى نفسه، ولم يحصل له حفظ ولا صيانة، ووقع في فتن الشهوات والشبهات.

فنسأل الله العصمة، وأن لا يكلنا إلى حولنا وقوتنا طرفة عين، إنه جواد كريم.

وقد تضمن هذه المعاني الجليلة الدعاء الذي أرشد النبي صلّى الله عليه وسلّم إليه أمته بفعله وقوله، وهو: «اللهم! فاطر السماوات والأرض! عالم الغيب والشهادة! رب كل شيء ومليكه! أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي ومن شر الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءاً أو أجره إلى مسلم»([96])؛ فتضمن الاستعاذة من الشر الداخلي وهو شر النفس، والشر الخارجي وهو شر الشيطان وحبائله وأشراكه، ومن غايَتَي الشر: وهما أن يقترف العبد سوءاً يجره إلى نفسه، أو يجره إلى أخيه المسلم، فمن أعاذه الله من هذه الشرور؛ فقد أعاذه الله من أسباب الشرور ومن غاياتها، وألبسه ملابس العافية والسلامة والتوفيق.

 فائدة (151) [قميـص يوسـف]

قوله تعالى: {{اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا}} [يوسف: 93] تخصيص القميص بالإشارة إليه بقوله: هذا يدل على أن لهذا القميص مزية واختصاصاً، وأنه هو الذي يلي جسد يوسف، والظاهر أن هذا الاختصاص هو وجود رائحة يوسف فيه، بدليل ما قبله، وهو قول يعقوب عليه السلام: {{إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَنْ تُفَنِّدُونِ}} [يوسف: 94] ؛ فيكون في هذه الرائحة مع ملامسة جسد يوسف، مع أن كان يوسف قد دعا أن يجعل في هذا القميص شفاءً لأبيه، مع قوة السرور والفرح الذي حصل ليعقوب من مجموع الجميع، جعل الله فيه هذه المزية، وهذا أولى من قول كثير من المفسرين أن هذ القميص من الجنة، وأنه الذي ألبسه جبريل لإبراهيم حين ألقي في النار؛ فليس هنا دليل يدل عليه، وإنما هي أخبار إسرائيلية لا يمكن تصديقها بغير برهان، وأيضاً أمور الجنة والآخرة من حكمة الله أنه جعلها غيباً لا شهادة، والله قادر على رد بصر يعقوب من دون سبب، لكن جعل الله الأسباب محل حكمته وموضع ومجرى أقداره، ونظير ذلك قول الله في حق أيوب وسبب شفائه: {{ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ *}} [ص: 42] . والله أعلم.

 فوائد إشارة إلى إرشادات نافعة (152)

ينبغي للإنسان أن يحب للناس ما يحب لنفسه ويعمل لهم كما يعمل لنفسه، وينبغي أن يستخير الله في أموره المشتبهة في نفعها وفي أيها يقدم، فإذا بان له الصواب؛ فليتوكل على الله وينجزها بِهِمَّة صادقة وعزيمة جازمة مستمرة؛ فبذلك ينجح وتتم الأمور، وينبغي أن يكون عمل العبد الديني والدنيوي منظماً محكماً يأتيه في طمأنينة وتأنٍّ، وأن يكون معتدلاً لا يميل إلى أحد الطرفين الناقصين: الغلو أو التقصير، الإسراف أو البخل، وينبغي أن يكون مستمعاً أكثر مما يكون متكلماً إلا إذا ترجحت المصلحة في أن يكون متكلماً لتعليم ونحوه، وينبغي أن يعوِّد نفسه على الصبر والحلم وكظم الغيظ والعفو عن الناس؛ ليحصل له الثواب، ويستريح باله.

وإياك والغلَّ والحقدَ والحسدَ، وأَكْثِرْ من الدعاء والتحقق


بمعنى هذا الدعاء: {{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}} [الحشر: 10] ، وعليك أن تصغي إلى الناصحين وتبدي لهم الشكر أصابوا أو أخطؤوا، وتكون سريع الرجوع عن أخطائك؛ فإن هذا عنوان الإخلاص والفضل.

وإياك أن تثني على نفسك وتقدح في غيرك؛ فإن هذا عنوان النقص والحمق، وإذا عانيت عملاً من الأعمال؛ فالزم الثبات عليه.

وإياك والملل والضجر؛ فإن هذا عنوان الفشل والخيبة، واحذر من الكبر والغرور واحتقار الخلق، وعليك بالتواضع والاهتمام بالخلق ورؤية فضل ذي الفضل منهم، واللين والبشاشة لكل أحد مع الإخلاص لله وإرادة إدخال السرور عليهم؛ ففي ذلك من المصالح والفوائد ما لا يعد ولا يحصى، وإذا غلبت في أمر من الأمور؛ فلا يستولِ عليك الفشل، بل لا تزل قوي الإرادة إلى كل ما ينفعك في حالة الانتصار وحالة ضده.

وإياك والتحسر على الأمور الماضية التي لم تقدر لك، من فقد صحة أو مال أو عمل دنيوي ونحوها، وليكن همك في إصلاح عمل يومك؛ فإن الإنسان ابن يومه لا يحزن لما مضى، ولا يتطلع للمستقبل حيث لا ينفعه التطلع، وعليك بالصدق والوفاء بالعهد والوعد والإنصاف في المعاملات كلها، وأداء الحقوق كاملة موفرة بنفس مطمئنة وإيمان صادق خالص، واشتغل بعيوبك وشؤونك عن عيوب الناس وشؤونهم، وعامل كل أحد بحسب ما يليق بحاله من كبير وصغير وذكر وأنثى ورئيس ومرؤوس، وكن رقيقاً رحيماً لكل أحد حتى للحيوان البهيم؛ فإنما يرحم الله من عباده الرحماء، وكن مقتصداً في أمورك كلها، وافتح ذهنك لكل فائدة دينية أو دنيوية.

وإياك والتعصب الذميم وسوء الظن الذي لا يُبْنَى على أساس، وحاسِب نفسك، وسدِّد نقصك، واستغفِر الله من تقصيرك وإفراطك.

 فائدة (153) [الفرق بين قصة الرجل الذي مر على قرية وقصة إبراهيم عليه السلام]

الفرق بين قصة الرجل الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها وبين قصة إبراهيم عليه السلام، حيث سأل ربه أن يريه كيف يحيـي الموتى من وجهين:

أحدهما: أن إبراهيم طلب الوصول إلى عين اليقين والرجل جاءه ذلك بغير سؤال.

الثاني: أن إبراهيم انتقل من علم اليقين إلى عين اليقين والرجل انتقل من الشك إلى عين اليقين؛ لأن الصحيح بل الصواب أنه رجل شاك في البعث كما يدل عليه لفظ الآية الكريمة.

 فائدة (154) [حكم بيع العقار الذي بعضه وقف وبعضه طلق]

إذا كان العقار بعضه وقف وبعضه طلق وهو لا ينقسم

إلا بضرر: هل يجوز بيعه في هذه الحال في مذهب أحمد أم لا؟.

الجواب: إذا نظرنا إلى عموم كلام الأصحاب أن الوقف لا يجوز بيعه إلا أن تتعطل منافعه؛ كانت هذه الصورة المسؤول عنها داخلة في العموم، وأنه لا يجوز بيعه، لكن في هذه الحال صاحب الملك إذا منع من بيعه تضرر ضرراً كثيراً، وإن بقيت الحال على ما هي عليه صارت حالته حالة أهل الوقف؛ فيكون بمنزلة الممنوع من التصرف في الرقبة، وهذا لا نظير له في الأملاك، وإن قسمنا له تضرر الوقف والملك؛ فالأولى في هذه الحال جواز البيع دفعاً للضرر وتنزيله على كلام الأصحاب من قولهم في الوقف الذي اعتراه خراب، ويجوز بيع بعضه لإصلاح باقيه إذا كان عيناً واحدةً، ولم تنقص القيمة بالتشقيص، فإن نقصت بالتشقيص؛ جاز بيعه جميعه؛ فها هنا أجازوا بيع الجميع، مع إمكان أن يباع بعضه لتعمير باقيه؛ فالمسألة المسؤول عنها مثل هذه، وهو أن بيع الملك وحده فيه ضرر بالتشقيص إذا لم يبع معه الوقف، ولا فرق بين المسألتين. والله أعلم

 سؤال عن الحكمة في كون الحج يخالف سائر العابدات

سؤال عن الحكمة في كون الحج يخالف سائر العابدات لأن العبادات فعل واحد وجنس واحد في زمان واحد أو مكان واحد والحج أفعال متعددة في أمكنة متعددة على كيفيات وهيئات متنوعة؟

الجواب وبالله التوفيق والإعانة: في ذلك حكم عظيمة وأسرار يتضح بعضها ويخفى بعضها ، فلو لم يكن فيها من الحكم إلا أن حقيقة الحج هو استزارة الرب لأحبابه ووفود بيته ، وأنه أوفدهم إلى كرامته ودعاهم إلى فضله وإحسانه ليسبغ عليهم من النعم والكرامات وأصناف الهبات ما لا تدركه العبارة ولا يحيط به الوصف ؛ فنوع لهم الأنساك والمشاعر لينوع لهم الإحسان ، ونقلهم من كرامة إلى كرامة ومن مائدة من موائد فضله إلى مائدة من موائد كرمه ، ولهذا كل نوع من هذه العبادات له خاصية وسر وزيادة فضل وإيمان وتحقيق إحسان ليس للآخر ، وكل واحد منها مضطر إليه الوافد لهذا البيت . فتارة يطوف على بيت ربه ويكرر ذلك يترضى لربه ويتملق له ويطوف بفنائه ويخضع لعظمته .وتارة يسعى


بين الصفا والمروة يتردد بين هذين المشعرين العظيمين اللذين كم تردد بينهما من رسول ونبي وكم سعى بينهما من ولي لله وصفي .وتارة يقف بالمشعر الحلال وهو عرفة وتارة بالمشعر الحرام وهو مزدلفة يبدي ما في وسعه من خشية وخضوع وخشوع وإنابة وانجذاب تام إلى ربه وشدة نزوع يتضرع فيها إلى مولاه ويسأله مصالح دينه ودنياه يقف فيها موقف السائل المسكين الذليل ويطمع غاية الطمع في كرم المولى الجليل ، وتارة يثني على ربه ويسبحه ويهلله ، وتارة يذكر من منن مولاه ما أسبغه وحباه وجلله ، وتارة يسأل ربه أن يصلح قلبه بالمحبة والإنابة والإخلاص والنصيحة ويعيذه من مساوي الأخلاق والأعمال القبيحة ، فكل مطلوب ومقصود يخطر بباله يعلم أنه لا غنى له من ربه ونواله .وتارة يرمي الجمرات تنبيها وإشارة إلى رمي الخطايا ومراغمة العدو المبين ويقف عندها طالبا الرحمة والغفران من الملك الحق المبين .وتارة يذبح قربانه تقربا إلى الله بالذبح الذي هو أفضل وأولى ما دخل في قوله : {{ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ }}[الكوثر: 2] ، فكما أنه لا يستغني عن الصلاة ؛ فليس له غنى عن شقيقها وقرينها جامعا فيه بين تقربه إلى الله بهذا النسك وبين الإحسان إلى إخوانه بإطعام البائس الفقير وبين قبول ضيافة الله وكرامته له حيث أمره بالأكل منها ، ثم شرع له الشروع والتحلل من محظورات الإحرام بالحلق بعد الرمي ؛ فكان ذلك جاريا مجرى السلام من الصلاة التي تحريمها التكبير وتحليلها التسليم ؛ فتنحل عنه المحظورات التي كان ممنوعا منها وقت الإحرام إظهارا للذل والخضوع والتعظيم وشعارا وهيئة لهذا النسك الكريم .

ويتفاءل على فضل الله بانحلاله عن الخطايا والذنوب ، وأنه قد أدرك من ربه غاية المنى والمطلوب ؛ فأفعال الحق وأقواله كلها أسرار وحكم المقصود منها القيام بالعبودية المتنوعة والإخلاص للمعبود ؛ فالحج مبناه على الحب والإخلاص والتوحيد والثناء والذكر للحميد المجيد ؛ فإنما شرعت المناسك لإقامة ذكر الله

ومن الحكم في ذلك : أن هذه عبادات في محل واحد ينتابه المسلمون من أقطار الأرض بعد المشقات وبذل نفائس النفقات ؛ فكانت عبادة واحدة محتوية على جملة عبادات ، وطاعة وقربة هي عدة طاعات وقربات ؛ فالذين جاءوا إليها من كل فج عميق متحملين ما شاء الله أن يتحملوا من وسائلها وطرقها وما لا تتم إلا به ، وربما كان بعضهم قد جمع بين وصوله بنفسه والسعي في إيصال غيره إلى هذا النسك محتسبا أجره راجيا ثوابه ؛ فكان من المناسب غاية المناسبة أن يرجعوا وقد ظفروا بعدة عبادات وحصل لهم كثير من الطاعات وأنواع المغانم والمكاسب والتجارات الرابحات ؛ فيا لها من عبادة جمعت من العمل فنونا ومن الخير أنواعا ‍‍‍!

وكان من حكمة الله أيضا في تعدد عباداتها ومواضعها : أن المقيمين في مكة ونواحيها يشاركون في المشقة وبذل النفقات من كان عنها بعيدا ، ولهذا يستعدون بالأزواد والمراكب وإن كان الموضع قريبا ؛ فكأنه من تحملهم له واستعدادهم له سفر بعيد ؛ فيحصل لهم ما حصل للنائين .

ومن الحكم في ذلك : أن تعدد المشاعر والمناسك وتنقلات الحجاج فيها موضعا بعد موضع فيه راحة وإجمام وسبب لتكميل كل نسك منها كأنه عبادة مستقلة ، ولا شك أن التنقلات من أكبر الأسباب لتكميل العبادات .

ولا ريب أن البرازخ والفصول بين الأعمال سبب كبير لنشاط العمال ، واعتبر ذلك لو كانت أفعال الحج عملا واحدا في موضع واحد يتصل بعضه ببعض حتى يتم : هل يوجد فيها هذا النشاط والرغبة واستقبال كل مشعر برغبة تامة وعزيمة صادقة ؟

ومن الحكم العظيمة في ذلك : أن اجتماع المسلمين في هذه المواضع والمشاعر توجب تعارفهم وتعاطفهم واتفاقهم وقيام الألفة ؛ لأن المسلمين إخوة ومصالحهم العامة والخاصة مرتبط بعضها ببعض ، فلو كان كل قطر وبلد لا يتصلون بالآخرين ؛ لضاعت مصالحهم ، وفاتت كثير من منافعهم ، وتنافرت قلوبهم ، وتشتت شملهم ، ولكن الله وله الحمد منّ عليهم بهذا النسك وهذه العبادة العظيمة التي تجمعهم وتضم قاصيهم ودانيهم ليقع التعارف ويحصل التآلف وينتفع كل منهم بالآخر ويتفاهمون فيما يمكنهم من أمور دينهم ودنياهم ؛ فكم كسب الإنسان بسبب هذا النسك من ملاقة أجلاء فضلاء ؟! وكم تشرف بمقابلة الكملاء النبلاء ؟! وكم حصل في ذلك من علوم نافعة وآداب صالحة ؟! وكم ربح فيه من أخلاء ومن إخوان وأصحاب كرام وأخدان ؟!

لولا هذه الأمكنة لم يحصلوا ، ولولا هذه المجامع لم يدركوا ؛ فهذه من بركات الحج حيث كان مباركا وهدى للعالمين .

ومن الحكم في ذلك : أن الله قال : {{ لِيَشهَدُوا مَنَافِعَ لَهُم ويَذكُرُوا اسم الله }} [الحج: 28] ، فذكر للحج مقصودين عظيمين : ذكر اسمه والثناء عليه وأنواع عبادته كما تقدمت الإشارة إليه وشهود المنافع التي لا تتم إلا بتعدد هذه المواضع والعبادات وتنقلها من موضع إلى آخر ومن عبادة إلى أخرى ؛ فكم حصل بهذا التعدد من أنواع المكاسب الدنيوية والتجارات وأصناف الأرباح ؛ فكل موضع منها يقوم فيه سوق كبير من أسواق التجارة المتنوعة التي لا يمكن إحصاء مصالحها ومنافعها .

كل هذا من بركات هذا النسك .

ومن الحكم في ذلك : أنه قد جرت عادات الأمم بقيام التذكار لعظمائهم وكبرائهم ؛ إحياء لذكراهم ، وتعظيما لهم ، وإشادة بمجدهم ومآثرهم ، وتنشيطا للاقتداء بأعمالهم ، وأعظم الخلق على الإطلاق أنبياء الله ورسله ؛ فهم الرجال العظماء في الحقيقة ، وأعظمهم مطلقا الخليلان إبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم .


والحج من أوله إلى آخره تذكرة لمقاماتهم السامية وأحوالهم الزاكية وأعمالهم العالية ؛ فكل مشعر مذكر بأحوالهم ، وما كانوا عليه حاث على الإيمان بهم وتصديقهم وإجلالهم وإكرامهم وشدة محبتهم وقوة الاتصال بهم الذي هو أصل الإيمان وأساس اليقين وطريق الفلاح والسعادة .

وقد أشار الباري إلى ذلك في قوله : {{ واتَّخِذُوا مِن مَقَامِ إبراهيم مُصَلَّى}} [البقرة: 125] ، والمراد بذلك على أصح القولين جميع مقاماته في الحج بجميع مشاعره ، ومصلى معبدا وتذكارا ، وقد وضح ذلك النبي صلى الله عليه وسلم أتم التوضيح بقوله عنه – كل فعل ومشعرا من تلك  المشاعر - : ( خذوا عني مناسككم ) ؛ ففيها عبودية لله من جهة الأمر والترغيب ، وفيها إيمان بالرسل وتعظيم واحترام وحث على الاقتداء بهم ومحبتهم ، وذلك أعلى الخصال وأكمل الأحوال ؛ حتى أن فيها تذكيرا لمن يتصل بهؤلاء الرسل العظام كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في السعي بين الصفا والمروة حيث ذكر قصة هاجر أم إسماعيل ؛ قال : ( فلذلك سعى الناس بينهما) ، وكما رمل هو وأصحابه في طواف القدوم ؛ فكان سنة إلى يوم القيامة لهذا المعنى ؛ فكم بين احتفالات الأمم بكبرائهم ورؤسائهم وزعمائهم وإقامة التذكار لهم الذي لا يسمن ولا يغني من جوع من هذه الاحتفالات الجليلة العظيمة التي تملأ

القلوب أمنا وإيمانا وطمأنينة وانشراحا وإيقانا وتعظيما وتوقيرا لمن تعظيمهم وتوقيرهم غاية الفوز والفلاح والاقتداء بهم هو الأصل والطريق في إدراك كل نجاح ؛ فالمسلمون إذا وصلوا وحصلوا في كل مشعر من هذه المشاعر جعلوا أفعال نبيهم وأحواله وشخصه الكريم نصب أعينهم ، عالمين أنه لا تتم أمورهم كلها ولا تكمل إلا بتمام الأسوة والقدوة به .

فمن أنواع الكرامات التي يقيضها الله عليهم بل من أجلها : زيادة الإيمان بنبيهم ، وقوة المحبة والشوق إليه، التي هي من أعظم واجبات الإيمان وشروطه .

فصلى الله وسلم عليه وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين وعلى أتباعهم إلى يوم الدين وسلم تسليما



[1]_ انظر: مقدمة المؤلف.

[2]ـ

[3] ـ يريد المؤلف رحمه الله بالأدبية البحوث الأخلاقية «كذا في الحاشية» في نسخة (ب).

1- جزء من الحديث الذي رواه النعمان بن بشير: «الحلال بين والحرام بين..» أخرجه: البخاري (52)، ومسلم (1599).

(1) حديث جبريل المشهور أخرجه: مسلم (8) عن عمر بن الخطاب.

[4] ـ أخرجه: أحمد (1/293)، والترمذي (2516)، وقال: «حديث حسن صحيح».

ولابن رجب رسالة مصنفة في شرح هذا الحديث، قام بتحقيقها جاسم بن فهيد الدوسري.

[5] ـ أخرجه البخاري (5729) من حديث ابن عباس.

[6] ـ«مدارج السالكين» (3/359).

[7]  ـ كما في «صحيح مسلم» (179) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخمس كلمات؛ فقال: «إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه».

[8] ـ زيادة من «المدارج».

[9] ـ كما في «صحيح مسلم» (2786).

[10] ـ كذا في الأصل.

[11] ـ أخرجه: مسلم (126) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

[12] ـ أخرجه: الإمام أحمد (4/267)، والترمذي (3247)، وأبو داود (1479)، وابن ماجه (3828)، والنسائي في «الكبرى» كما في «التحفة» (9/30)، والحاكم (1/490)؛ عن النعمان بن بشير. وصححه ووافقه الذهبي ووافقهما الألباني (الجنائز (194)، ولفظه: «الدعاء هو العبادة». وقال الحافظ في «الفتح» (1/49): أخرجه أصحاب السنن بسند جيد. وأما لفظة: «الدعاء مخ العبادة»؛ فقد أخرجها الترمذي (3371)، وقال: «حديث غريب، لا نعرفه إلاَّ من حديث ابن لهيعة»، وقال الألباني: «وهو ضعيف لسوء حفظه؛ فيستشهد به إلاّ ما كان من رواية العبادلة عنه فيحتج به حينئذٍ، وليس هذا منها، لكن معناه صحيح بدليل حديث النعمان بن بشير».

[13] ـ أخرجه: مسلم (2647) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

[14] ـ أخرجه: مسلم (2722) عن زيد بن أرقم.

[15] ـ كما في «صحيح البخاري» (3330)، ومسلم (1470).

[16]ـ أخرجه: الترمذي (479)، وابن ماجه (1384).

وقال الترمذي: «هذا حديث غريب، وفي إسناده مقال»، وقال الألباني: «ضعيف جداً». «ضعيف سنن ابن ماجه» (293).

[17] ـ أخرجه: أحمد (2/160)، وأبو داود (4941)، والترمذي (1924) ـ وقال: «حديث حسن صحيح» ـ، والحاكم (4/159). وصححه ووافقه الذهبي، والحديث صححه جماعة من أهل العلم. انظر: «الصحيحة» للألباني (925).

[18] ـ كلمة لم أستطع قراءتها.

[19] ـ حديث الغار أخرجه: البخاري (3465)، ومسلم (2743)؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما.

[20] ـ كذا في الأصل، ولعل العبارة: "لأهل الفضل من العلماء والولاة.." والله أعلم.

[21]ـ انظر: «صحيح مسلم»، وشرحه للنووي (12/93).

[22]- البيهقي في «الشعب» (6148)، وعزاه الهيثمي في «المجمع» (1/160) للطبراني في «الأوسط»، وقال فيه: «مخيس بن تميم عن حفص بن عمر»، قال الذهبي: «مجهولان».

والحديث ضعفه الألباني في «الضعيفة» (157).

قال المخرج لـ «الجامع لشعب الإيمان» (11/528): «وللحديث شاهد من حديث أنس بن مالك رفعه ولفظه: «الاقتصاد نصف العيش، وحسن الخلق نصف الدين».

أخرجه الخطيب في «تاريخه» (12/11)، وابن عساكر، والديلمي في «مسند الفردوس» (1/122)، وكذا أخرجه الطبراني وابن لال؛ كلهم من طريق خلاد بن عيسى، عن ثابت، عن أنس بن مالك، به.

وله شواهد أخرى ذكرها السخاوي في «المقاصد» (ص 71)

[23]ـ أخرجه: البخاري (6954)، ومسلم (225). واللفظ للبخاري.

[24] ــ أخرجه: البخاري (163)، ومسلم (241).

[25] ـ أخرجه: البخاري (1)، ومسلم (1907).

[26] ـــ زيادة لا توجد في الأصل.

[27] ـ كذا في الأصل، ولعل الصواب: الزهد.

[28] ـ أخرجه: البخاري (9) ومسلم (35). واللفظ لمسلم؛ إلاّ أن فيه أفضلها دون «فأعلاها».

[29] ـ في الأصل " العد"

[30] ـ كما في «سنن أبي داود» (2178)، وابن ماجه (2018)، و «المستدرك» للحاكم (2/196)؛ من حديث محارب بن دثار، عن ابن عمر.                            =

=قال الحافظ في «التلخيص» (3/232): «ورواه أبو داود والبيهقي مرسلاً ليس فيه ابن عمر، ورجح أبو حاتم والدارقطني في «العلل» والبيهقي المرسل».

وقد صحح إسناد المرسل الشيخ الألباني في «الإرواء» (7/106).

[31] ـ كما في «صحيح مسلم» (2564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[32] ـ انظر فائدة (رقم 36).

[33] ـ انظر: «زاد المعاد» لابن القيم (4/13)؛ فقد ذكر فصلاً نافعاً في الأمر بالتداوي.

[34] ـ كذا في الأصل. ولعل الصواب: «وبذله».

[35] ـ أخرجه: البخاري (2446)، ومسلم (2585) عن أبي موسى الأشعري.

[36] ـ  كما في حديث النعمان بن بشير أخرجه: البخاري (6011)، ومسلم (2586).

[37] ـ كما في :"سنن النسائي" (3/ 73)، وابن حبان في " صحيحه" (2026" وحسنه الحافظ  ابن حجر في " نتائج الأفكر" (2/ 316).

[38]ـ صاحب لرعاية هو أبي عبد الله بن محمد بن حمدان الحراني الحنبلي المتوفي سنة 695؛ رحمه الله .انظر كتاب " المدخل المفصل" للشيخ بكر أبو زيد (ص 745).

[39] ـ كما في سنن " ابن ماجه " (4049)، و" مستدرك الحكم" (4/ 473).وصححه ووافقه الذهبي ، وقوى الحافظ في " الفتح" (13/16) إسناده. وانظر: "الصحيحة" (87).

[40] ـ انظر: كتاب " حادي الأروح" لابن القيم (الباب الخامس والستون) ؛ فقد أطال رحمه الله في ذكر الأدلة الدالة على رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة من الكتاب والسنة وأقوال السلف .

[41] ـ كما في : " صحيح البخاري"، ومسلم (2756).

[42] ـ أخرجه: البخاري (2732)، ومسلم (1615).

[43] ـ الحمارية: وهو أن يوجد في المسألة زوج وذات سدس عن أم أو جدة وأخوة لأم اثنان فأكثر، سواء كانوا ذكوراً أم ذكوراً وإناثاً، وسميت حمارية من قول القائل: «هب أن أبانا كان حماراً».

انظر: «أعلام الموقعين» (1/355) لابن القيم، وكتاب «التحقيقات المرضية» للشيخ صالح بن فوزان.

[44] ـ  كما في " صحيح البخاري" (660)، ومسلم (1031).

2ـ  أخرجه الترمذي (3490) ـ وقال ـ "حسن غريب" ـ ، والحاكم (1/ 530). ولم يوافقه الذهبي.

[46] - كذا في الأصل. ولعل الصواب: «بها».

2ـ ولعل الصواب: " بذلك".    

[48] ـ في الأصل "الإسلام"

[49] ـ في الأصل: "عليه"

[50] ـ تقدم تخرجه.

[51] ـ في الأصل: فكيف.

[52] ـ انظر: "زاد الميعاد" لابن القيم (2/107).

[53] ـ كذا في الأصل، ولعل الصواب:"الوفاة" .

[54] ـ في الأصل: " وعن صاحبه".

[55] ـ أخرجه:البخاري (7288)، ومسلم(1337)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[56] ـ كما جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد(3/497)، وأبو داود(5142)، وابن ماجه (3664)، والحاكم(4/154) ـ وصححه ووافقه الذهبي ـ ، والبخاري في "الأدب المفرد"(35)؛ عن أبي أسيد مالك بن ربيعة. والحديث ضعفه الألباني في " الضعيفة" (597).

[57] ـ كذا في الأصل، ولعل الصواب: "فينظر".

[58] ـ كذا في الأصل، ولعل الصواب: " لا يجمع".

[59] - نظر: فائدة رقم: 106

[60] - الإرشاد في معرفة الأحكام " طبع مرارا

1 -  قصة معاذ أخرجها لبخاري (6106)، ومسلم (465)

[61]- أخرجه أبو داود (1975)، والترمذي (955)، والنسائي في الحج، باب رمي الرعاة 5/273، من حديث أبي البداح بن عاصم عن أبيه.

[62] - ترك الناسخ للكتاب مقدار نصف الصحيفة بياض، ويلاحظ أن الكلام غير متصل.

[63] ـ وقد أفردها المؤلف رحمه الله برسالته المباركة "القواعد والأصول الجامعة والفروق والتقاسيم البديعة النافعة" جمع ما تيسر من جوامع الأحكام وأصولها، ومما تفترق فيه الأحكام لافتراق حكمها وعللها.

[64] ـ ومن الأحاديث التي وردت في هذه المراتب الثلاث:

أـ أنها تأخذ بالعادة؛ لحديث أم حبيبة قال لها صلى الله عليه وسلم " امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك، ثم اغتسلي".

أخرجه: مسلم(334).

ب ـ أنها تأخذ بالتمييز؛ لحديث فاطمة بنت أبي حبيش، قال لها صلى الله عليه وسلم: "إذا كان دوم الحيض؛ فإنه أسود يعرف".

أخرجه: أبو داود(286)، والنسائي (1/ 123)، والحاكم (1/174).

والحديث حسنه الألباني في "الإرواء" (1/223).

ج ـ أنها تأخذ بغالب الحيض؛ لحديث حمنة بنت جحش؛ لقوله لها صلى الله عليه وسلم: " فتحيضي ستة أيام أو سبعة في علم الله".

أخرجه الإمام أحمد (6/439)، وأبو داود (287)، والترمذي (128) ـ وقال: " حديث حسن صحيح" ـ ، وابن ماجه (627).

[65] ـ زيادة على الأصل.

[66] ـ كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما في: "البخاري" (1491)، و"مسلم" (363).

[67] ـ كما في: صحيح " البخاري" (5364)، و" مسلم" (1714).

[68] ـ زيادة على الأصل.

[69] ـ أخرجه: أحمد (4/ 125)،والترمذي (3407)، والنسائي (3/ 54)، وانظر : " تمام المنة" للألباني (ص 225).

[70] ـ كما في: " صحيح البخاري" (6608)، و"مسلم" (1639)؛ من حديث بن عمر رضي لله عنهما.

[71] ـ كما في حديث ابن عباس رضي لله عنهما، وأخرجه: مسلم (1241).

[72] ـ كما في حديث جابر رضي الله عنه، أخرجه: البخاري (1785)، ومسلم (1216).

[73] ـ وهو كتاب " الإرشاد إلى معرفة الأحكام" رتبة المؤلف بصورة السؤال المحرر الجامع والجواب المفصل النافع.

[74] ـ كذا في الأصل، ولعل الصواب "الصغرى" .

[75] ـ في الأصل: "لا".

[76] ـ أخرجه: أحمد (2396) ـ وصححه أحمد شاكر ـ، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" (1/ 494).

ورواه البخاري (75و143) بلفظ: "اللهم! علمه الكتاب".

[77] ـ كذا في الأصل، ولعل الصواب: " هذا قوله لوالده فأجاب سؤاله".

[78] ـ كما في: " صحيح البخاري" (2076) بلفظ: " رحم الله رجلا سمحا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا قتضى".

[79] ـ كما في : " صحيح مسلم" (8) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه .

[80] ـ أخرجه: مسلم (1955).

[81] ـ انظر: الحاشية السابقة .

[82] ـ انظر: مقدمة الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد لكتاب " الموافقات".

[83] ـ كذا في الأصل ، ولعل هذا تحريف، وأن الأصل: "كتابا"، والله أعلم.

[84] ـ أخرجه: " مسلم" (2734) من حديث أنس رضي الله عنه.

[85] ـ كما في حديث أبي ذر رضي الله عنه، أخرجه: مسلم (1006).

[86] ـ أخرجه مسلم (2264) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[87] ـ كما في : " صحيح البخاري" (6614)، و" مسلم" (2652)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[88] ـ في الأصل: " من الخوارق على الصدقة" والتصويب من السبعينية 483.

[89] ـ أخرجه: مسلم (1731) من حديث بريدة رضي الله عنه.

[90] ـ أخرجه: الترمذي (3475)، وأبو داود (1493)،وابن ماجه (3857).

وأخرجه: النسائي (3/ 52) بلفظ مغاير.

والحديث صححه الألبا ني في "كتاب  التوسل" (33).

[91] ـ أخرجه أحمد (3/ 158)، وأبو داود (1495) والنسائي (3/ 52)، وابن ماجه (3858) والترمذي (3544) والحاكم (1/504).

[92] ـ أخرجه: الإمام أحمد (6/461)، والترمذي (3478) ـ وقال: " هذا حديث حسن صحيح" ـ، وـأبو داود (1496)، وابن ماجه (3855) ـ وحسنه الألباني في "صحيح  ابن ماجه" (3109).

[93] ـ كذا في الأصل، ولعل الصواب: و(إنما ينظرون).

[94] ـ أخرجه: مسلم (2626).

[95] ـ أخرجه: مسلم (2594) وابن حبان في " صحيحه" (551).

وأقرب الألفاظ إلى لفظ المصنف ابن جبان وفيه" الفحش" بدل "العنف" .

[96] ـ والحديث أخرجه: الإمام أحمد (1/9)، والبخاري في " الأدب المفرد" (1204) و"خلق أفعال العباد" ـ وانظر: " صحيح الأدب المفرد" للألباني (914) ـ، والترمذي (3392) ـ وقال: " حسن صحيح"ـ.