×
خطبة جمعة بالمسجد النبوي، ألقاها فضيلة الدكتور عبد المحسن القاسم أثابه الله في يوم 21 رمضان 1443هـ، يتحدث فيها عن نعمة إدراك العشر الأواخر من رمضان وأن إدراك مواسم الخيرات مِن نِعَم اللَّه العظيمة، وشُهودُ الأزمنةِ التي يُضاعَفُ فيها ثوابُ العملِ الصالح مِنَّةٌ من اللَّه جَسيمة، وعُمُر العبد وإن طال فهو قصير، وفي مواسم العبادة من مضاعَفة الأجور وكثرةِ الثوابِ ما يَعدِلُ الزيادةَ في العُمُر والفُسْحَةَ في الأَجَل.

نِعْمَةُ إِدْرَاكِ العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ([1])

إنَّ الحمدَ للَّه، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، مَن يهده اللَّه فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلَّا اللَّهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسوله، صلَّى اللَّه عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

أمَّا بعدُ:

فاتَّقوا اللَّه - عبادَ اللَّه - حقَّ التَّقوى، وراقبوه في السرِّ والنَّجوى.

أيُّها المسلمون:

إدراكُ مواسم الخيرات مِن نِعَم اللَّه العظيمة، وشُهودُ الأزمنةِ التي يُضاعَفُ فيها ثوابُ العملِ الصالح مِنَّةٌ من اللَّه جَسيمة، وعُمُر العبد وإن طال فهو قصير، وفي مواسم العبادة من مضاعَفة الأجور وكثرةِ الثوابِ ما يَعدِلُ الزيادةَ في العُمُر والفُسْحَةَ في الأَجَل.

والمواسمُ التي اختارها اللَّه لعباده تتفاوت مراتبُها، وتتفاضَلُ منازلُها، والعِبرةُ فيها بِكَمال النِّهايات لا بِنَقص البِدايات، و«الأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا» (متفق عليه).

ومَن أدرك رمضانَ وأَمْكَنَه اللَّهُ مِن صيامه وقيامه فقد وُهِب فرصةً فاتت كثيراً من الخلق، وإذا فُسِح له في أجَله حتى بَلغ العشرَ الأواخر منه فقد خُصَّ بما يُتحسَّر على فَقده ويَنْدَم على فواته؛ لإعطائه مُهْلَةً يزدادُ فيها من الخير، ويَستغفرُ فيها من ذنوبه، ويَستدركُ ما فاتَه، ويُصلحُ ما فرَّط فيه، ويَعْمَلُ من الصالحات ما ترتفع به مَرْتَبَتُه في الجنَّة، قال النبي ﷺ: «رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ، ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ» (رواه الترمذي).

والعشر الأواخر من رمضان هي تاجُ الشهرِ وخُلاصتُه وواسطةُ عِقْدِه، العبادةُ فيها خيرٌ من العبادة في كلِّ ليالي العام سِواها، ويُستحب فيها الإكثار من تلاوة القرآن، قال ابن رجب رحمه اللَّه: «الأَوْقَاتُ المُفَضَّلَةُ - كَشَهْرِ رَمَضَانَ، خُصُوصاً اللَّيَالِي الَّتِي يُطْلَبُ فِيهَا لَيْلَةُ القَدْرِ - يُسْتَحَبُّ الإِكْثَارُ مِنْ تِلَاوَةِ القُرْآنِ اغْتِنَاماً لِلزَّمَانِ».

فيها ليلةُ القَدْر التي أنزل اللَّه فيها القرآن العظيم كاملاً إلى السماء الدنيا: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ﴾، ليلةٌ ذات شأنٍ عظيم ومنزلَةٍ رفيعَةٍ، ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القَدْرِ﴾، إنها ليلة مباركةٌ، خيرُها كثير، قال جلَّ شأنه: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ﴾.

العملُ والثواب فيها خيرٌ من عبادة ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، التسبيحة الواحدة فيها لا يُقادَر قَدْرُها، ولا يُحاط بِمَبْلغٍ ثَوابها، والركعة فيها تَعْدِل عِبادة السِّنِين.

من وُفِّق فيها للعمل الصالح المتقبَّل فَكأنما أُعطي عُمُراً طويلاً شَغَله كلَّه بالطاعة والعبادة.

لِشَرف ليلة القدر يُكتب فيها أقدارُ عام كامل من أعمار الخلق، فيُفصَل من اللَّوح المحفوظ إلى الملائكة الكاتبين أمرُ السَّنة وما يكون فيها من الآجال والأرزاق وما يكون فيها إلى آخرها، قال سبحانه: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِّنْ عِندِنَا﴾.

ليلةٌ يَكثُر فيها بأمر اللَّه تَنزُّلُ الملائكة من السماء؛ لكثرة بركتها: قال عزَّ وجلَّ: ﴿تَنَزَّلُ المَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ﴾، قال ابن كثير رحمه اللَّه: «يَكْثُرُ تَنَزُّلُ المَلَائِكَةِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ؛ لِكَثْرَةِ بَرَكَتِهَا، وَالمَلَائِكَةُ يَتَنزَّلُونَ مَعَ تَنَزُّلِ البَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ، كَمَا يَتَنَزَّلُونَ عِنْدَ تِلَاوَةِ القُرْآنِ، وَيُحِيطُونَ بِحِلَقِ الذِّكْرِ، وَيَضَعُونَ أَجْنِحَتَهُمْ لِطَالِبِ العِلْمِ بِصِدْقٍ؛ تَعْظِيماً لَهُ».

وقيامُ ليلةِ القدر مع التصديق بثوابها واحتسابِ أجْرِها: جزاؤه مغفرةُ الذنوبِ كلِّها، قال ﷺ: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» (متفق عليه).

ويُشرع عُمْرَانها بالصلاة والدعاء والذكر والاستغفار ونحو ذلك، ومن حُرِم بركتَها وخيرَها فهو محروم، قال ﷺ: «فِيهِ - أَيْ: فِي رَمَضَانَ - لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ» (رواه أحمد).

ولمنزلة ليلة القدر العظيمة كان الرسول ﷺ يتحرَّاها ويحثُّ أصحابه على تحرِّيها في العشر الأواخر، وهي في الأوتار من العشر آكد، ومن شِدَّة تحرِّي النبي ﷺ لليلة القدر اعتكف مرة في العشر الأُوَل، ثم في العشر الأوسط، ثم عَرف أنها في العشر الأواخر فاعتكف فيها (رواه مسلم).

وكان النبي ﷺ يُكثر العبادة في هذه العشر، ويجتهد فيها اجتهاداً عظيماً، يُحْيِي عامةَ الليل متهجِّداً بالصلاة والذكر والدعاء والاستغفار وغير ذلك، قالت عائشةُ رضي اللَّه عنها: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَجْتَهِدُ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ» (رواه مسلم).

وكان عليه الصلاة والسلام في هذه العشر يتقلَّل من أمر الدنيا ويعتزل الناس، ويوقظ أهل بيته لينالوا خير هذه الليالي، قالت عائشةُ رضي اللَّه عنها: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا دَخَلَ العَشْرُ أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ المِئْزَرَ» (متفق عليه).

وكان يعتكف في مسجده كلَّ عام في العشر الأواخر؛ يتحرَّى ليلة القدر، لِيُدركها وهو في عبادة متصلة، بحضور قلب وإقبال نَفْس، قالت عائشةُ رضي اللَّه عنها: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ» (متفق عليه).

وكل عبادة شُرِعت في رمضان فهي ممتدَّة إلى آخر ليلة منه، وهي في العشر الآواخر آكد، فعلى المسلم أن يكون حِرصُه عليها أعظم، فيُشرع فيها مع صيام النهار: قيام الليل لا سيما مع الجماعة؛ فـ«إِنَّهُ مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ؛ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ» (رواه أحمد).

ويُشرع فيها: كثرةُ الذكر والدعاء، والمداومةُ على قراءة القرآن، والإحسانُ إلى الخلق بأنواع الصدقات، وسدُّ حاجات المُعْوِزِين، وصلةُ الأرحام، وبِرُّ الوالدين، والإحسانُ إلى الجيران، وغيرُ ذلك من فِعل الخيرات، والعُمْرَةُ في رمضان تَعْدِل حَجَّةً مع النبي ﷺ.

وقبل ذلك وبعده: لزومُ التوبةِ الصادقة، ودوامُ الإنابة وخضوعِ القلبِ لخالِقه، وتعاهدُ النفس بالتزكية والإصلاحِ، وسلامة القلب والإخلاصُ للَّه واتباع هدي النبي ﷺ.

وفي السَّلف عُبَّاد مكثِرون من الركوع والسجود وملازمةِ الصيام والقيام، وفيهم من هو دون ذلك في العبادة، وعِنَايتهم جميعاً بالقلوب دائمة، وهمُّهم: تحقيق التوحيد وسلامة الصدور، قال ابن رجب رحمه اللَّه: «كَانَ أَكْثَرُ تَطَوُّعِ النَّبِيِّ ﷺ وَخَوَاصِّ أَصْحَابِهِ بِبِرِّ القُلُوبِ وَطَهَارَتِهَا وَسَلَامَتِهَا وَقُوَّةِ تَعَلُّقِهَا بِاللَّهِ؛ خَشْيَةً لَهَ وَمَحَبَّةً وَإِجْلَالاً وَتَعْظِيماً، وَرَغْبَةً فِيمَا عِنْدَهُ، وَزُهْداً فِيمَا يَفْنَى».


وبعدُ، أيها المسلمون:

فالعُمُر زمن عمارة الآخرة، والنَّفَس الذي يَتَرَدَّد في الصدر إذا خرج لم يَعُدْ، والتفريط في اللحظة الواحدة من لحظات الأزمنة الفاضلة غَبْنٌ وخَسارةٌ.

ومن قصَّر أو فرَّط في أولِ هذا الشهر فباب الاستدراك مُشْرَع، فـ«اسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ»، ولا تَكْسَلْ ولا تُسَوِّفْ، وبَادِرْ إلى اغتنام العمل فيما بقي من الشهر، فعسى أن يُستدرك به ما فات من الزمن.

أعوذ باللَّه من الشيطان الرجيم

﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين﴾.

بارك اللَّه لي ولكم في القرآن العظيم …


الخطبة الثانية

الحمد للَّهِ على إحسانه، والشُّكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلَّا اللَّهُ وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمداً عبدُهُ ورسوله، صلَّى اللَّهُ عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّمَ تسليماً مزيداً.

أيُّها المسلمون:

ليالي العشر من رمضان أنفَسُ ليالي الدهر، فلا تفرِّطْ في شيء من أوقاتها.

واحرِصْ على أن لا يَراك اللَّهُ إلا في طاعة، فإن ضَعُفْتَ عن فِعل الطاعة فإيَّاك أن يَراك على معصية!

ولا تتهاوَنْ في أداء الواجبات، وأعظمُها بعدَ التوحيد: أداءُ الصلاة في وقتها.

وأكثِرْ من الصلاة، وأنفِقْ مما رزقك اللَّهُ، وتضرَّعْ إلى اللَّه بالدعاء، وأكثِرْ دَوماً من الدعاء بالإخلاص؛ فهو سبب القَبول والخَلاص من الكُروب.

وتحرَّ المأثور من الأدعية فهي أحرَى بالإجابة، ولَازِمْ تلاوةَ القرآن في كل حِين، قال عليه الصلاة والسلام: «اقْرَؤُوا القُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ شَفِيعاً لِأَصْحَابِهِ» (رواه مسلم).

وأكثِرْ مِن ذِكر اللَّهِ؛ فهو سبب الظَّفَر والفَوز، قال تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ﴾.

واخْتِمْ شهرَ رمضان بالاستغفار وسؤالِ اللَّه القَبول، وانْزِعْ من قلبِك العُجْبَ بعمل الصالحات؛ فإنه مُفْسِد لها.

ثمَّ اعلموا أنَّ اللَّه أمركم بالصلاة والسلام على نبيِّه …


([1]) أُلقيت يوم الجمعة، الحادي والعشرين من شهر رمضان، سنة ثلاث وأربعين وأربع مئة وألف من الهجرة، في المسجد النَّبويِّ.