×
الأدب مع الله أثر من آثار تعظيم الله عز وجل وتوقيره وهذه خطبة ألقاها فضيلة الشيخ عبد الرحمن السحيم

    الأدب مع الله

    إنَّ أعلى مقاماتِ الأدبِ : هو الأدبُ مع الله تعالى قَولاً وفِعْلا واعتقادا .

    قال ابنُّ القيمِ رحمه الله :

    الأَدَبُ مَعَ اللَّهِ ثَلاثَةُ أَنْوَاعٍ :

    أَحَدُهَا: صِيَانَةُ مُعَامَلَتِهِ أَنْ يَشُوبَهَا بِنَقِيصَةٍ .

    الثَّانِي: صِيَانَةُ قَلْبِهِ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى غَيْرِهِ .

    الثَّالِثُ: صِيَانَةُ إِرَادَتِهِ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِمَا يَمْقُتُكَ عَلَيْهِ .

    قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ : رَأَيْتُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَمُدَّ يَدَهُ فِي الصَّلاةِ إِلَى أَنْفِهِ فَقَبَضَ عَلَى يَدِهِ .

    وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ : الأَدَبُ الْوُقُوفُ مَعَ الْمُسْتَحْسَنَاتِ . فَقِيلَ لَهُ : وَمَا مَعْنَاهُ ؟ فَقَالَ : أَنْ تُعَامِلَهُ سُبْحَانَهُ بِالأَدَبِ سِرًّا وَعَلَنًا .

    وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ : مَنْ تَأَدَّبَ بِأَدَبِ اللَّهِ صَارَ مَنْ أَهْلِ مَحَبَّةِ اللَّهِ .

    وَسُئِلَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ أَنْفَعَ الأَدَبِ ؟ فَقَالَ : التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ . وَالزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا ، وَالْمَعْرِفَةُ بِمَا لِلَّهِ عَلَيْكَ .

    وَقَالَ سَهْلٌ : الْقَوْمُ اسْتَعَانُوا بِاللَّهِ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ . وَصَبَرُوا لِلَّهِ عَلَى آدَابِ اللَّهِ .

    وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ : تَرْكُ الأَدَبِ يُوجِبُ الطَّرْدَ . فَمَنْ أَسَاءَ الأَدَبَ عَلَى الْبِسَاطِ رُدَّ إِلَى الْبَابِ . وَمَنْ أَسَاءَ الأَدَبَ عَلَى الْبَابِ رُدَّ إِلَى سِيَاسَةِ الدَّوَابِّ .

    وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ : حُسْنُ الأَدَبِ فِي الظَّاهِرِ عُنْوَانُ حُسْنِ الأَدَبِ فِي الْبَاطِنِ. فَالأَدَبُ مَعَ اللَّهِ حُسْنُ الصُّحْبَةِ مَعَهُ ، بِإِيقَاعِ الْحَرَكَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ عَلَى مُقْتَضَى التَّعْظِيمِ وَالإِجْلالِ وَالْحَيَاءِ . كَحَالِ مَجَالِسِ الْمُلُوكِ وَمُصَاحِبِهِمْ .

    وَقَالَ سَهْلٌ : مَنْ قَهَرَ نَفْسَهُ بِالأَدَبِ فَهُوَ يَعْبُدُ اللَّهَ بِالإِخْلاصِ.

    وَتَأَمَّلْ أَحْوَالَ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِمْ مَعَ اللَّهِ، وَخِطَابَهُمْ وَسُؤَالَهُمْ. كَيْفَ تَجِدُهَا كُلَّهَا مَشْحُونَةً بِالأَدَبِ قَائِمَةً بِهِ .

    عباد الله :

    الأدبُ مع الله أن يُراعِي العبدُ مَولاَه في السِّرّ والعَلَن .

    وَمِنْ هَذَا أَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلَ: أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَتَهُ ، وَإِنْ كَانَ خَالِيًا لا يَرَاهُ أَحَدٌ ، أَدَبًا مَعَ اللَّهِ ، عَلَى حَسَبِ الْقُرْبِ مِنْهُ ، وَتَعْظِيمِهِ وَإِجْلالِهِ ، وَشِدَّةِ الْحَيَاءِ مِنْهُ ، وَمَعْرِفَةِ وَقَارِهِ .

    قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ رَحِمَهُ اللَّهُ : مَنْ تَهَاوَنَ بِالأَدَبِ عُوقِبَ بِحِرْمَانِ السُّنَنِ. وَمَنْ تَهَاوَنَ بِالسُّنَنِ . عُوقِبَ بِحِرْمَانِ الْفَرَائِضِ . وَمَنْ تَهَاوَنَ بِالْفَرَائِضِ عُوقِبَ بِحِرْمَانِ الْمَعْرِفَةِ .

    وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْزَمِ الأَدَبَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ؛ فَمَا أَسَاءَ أَحَدٌ الأَدَبَ فِي الظَّاهِرِ إِلاَّ عُوقِبَ ظَاهِرًا . وَمَا أَسَاءَ أَحَدٌ الأَدَبَ بَاطِنًا إِلاَّ عُوقِبَ بَاطِنًا .

    الأدبُ مع اللهِ أنْ لا يُقدِّمَ بين يديْ اللهِ ورسولِه صلى الله عليه وسلم .

    فإنَّ مِن أعظمِ أنواعِ إساءةِ الأدبِ مع اللهِ تعالى أن يُقَدِّمَ العبدُ عَقْلَه ورَأيَه على أوَامِر اللهِِ تعالى وشَرْعِه، فإنَّ ذلك مِنْ جِنسِ الكُفرِ الذي وَقَع فيه إبليسُ، فإنَّ اللهََ أمَرَهُ بالسجودِ لآدمَ ، فقالَ : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) ، وكَم مِنَ المسلمين اليومَ مَن يُقَدِّمُ عَقْلَه السقيمَ ورأيَه الوَخِيمَ على كلامِ ربِّ العالمين ، وعلى أقوالِ سَيِّدِ المرسلين محمدٍ صلى الله عليه وسلم ؟

    قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)

    قال ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما : لا تَقُولُوا خِلافَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

    الأدبُ مع الله أن لا يَراكَ حيثُ نَهاكَ ، ولا يفقِدَكَ حيثُ أمَرَك .

    فلا تمشِ بك قَدَمٌ إلى معصيةٍ ..

    ولا يَتَأخَّرْ بك خَطْوٌ عن طاعةٍ ..

    الأدبُ مع الله أنْ تُؤمِنَ بالقضاءِ والقَدَرِ ، وأنْ تُسلِّمَ أمْرَكَ لله عَزّ وَجَلّ ، ولا تُناِزِعَـه أمْرَه ، ولا تتسخّطَ أقْدَارَه .

    الأدبُ مع الله أنْ تَعْمَلَ بِطاعةِ اللهِ على نُورٍ مِنَ اللهِ . وأنْ تَتْرُكَ معصيةَ اللهِ إجلالاً وتعظيما للهِ عَزّ وَجَلّ .

    الأدبُ مع الله أنْ يُعَظَّمَ ما عظَّمَه اللهُ عَزّ وَجَلّ ، مِن الأقوالِ والأفعالِ والأحوالِ والأزمِنَةِ والأماكِن .

    الأدبُ مع الله أن تَسْتَحِيَ مِن نَظَرِ اللهِ إليك .. فتحفظَ السَّمْعَ والبصرَ .. والبَطْنَ والرأسَ .. والفَرْج ..

    قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه : اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ . قَالوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالحَمْدُ لِلَّهِ ، قَالَ : لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى ، وَالبَطْنَ وَمَا حَوَى ، وَلْتَذْكُرِ المَوْتَ وَالبِلَى وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ رواه الإمام أحمد والترمذي . وحسنه الألباني . ورَجَّح الذهبيُّ وقْفَه .

    الأدبُ مع اللهِ أنْ لا ترضى بِحُكْمٍ غيرِ حُكمِه تبارك وتعالى .

    الأدبُ مع اللهِ أن لا تُقَدِّمَ طاعةَ أحدٍ على طاعةِ اللهِ عَزّ وَجَلّ .

    الأدبُ مع اللهِ أن تأتَمِرَ بأمْرِ الله سبحانه ، وتَنْتَهيَ بِنَهْيِ الله عَزّ وَجَلّ .

    (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)

    الأدبُ مع الله أنْ لا يُحْلَفَ بالله كَذِبًا ..

    جاءَ في خَبَرِ نبيِ الله أيوبَ عليه الصلاة والسلام أنهُ قالَ : رَبِّي يَعْلَمُ أني كُنتُ أَمُرُّ على الرَّجُلين يَتَزَاعمان ، وكُلٌّ يَحْلِفُ بالله - أوْ على الـنَّفَرِ يَتَزَاعَمُون- فأنْقَلِبُ إلى أهلي فأُكَـفَّـرُ عن أيمانهم ، إرادةَ ألاَّ يأثمَ أحَدٌ ذَكَرَه ، ولا يَذْكُرَه أحَدٌ إلاَّ بِالْحَقّ .

    وفي خبَرِ المسيحِ ابنِ مريمَ عليه الصلاة والسلام : أنه َرأَى رَجُلا يَسْرِقُ ، فَقَالَ لَهُ : أَسَرَقْتَ ؟ قَالَ : كَلاَّ وَاللهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ . فَقَالَ عِيسَى : آمَنْتُ بِاللهِ ، وَكَذَّبْتُ عَيْنِي . رواه البخاري ومسلم .

    الثانية :

    عبادَ الله

    لقد بَلَغَ أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم الغايةَ في الأدبِ مع اللهِ تعالى .

    حَدَّثَ الإمامُ الزهري أنَّ أبا بكرٍ الصديقَ رضي الله عنه قال يوما وهو يخطِبُ : أيها الناسُ استحيوا مِنَ الله ، فَوَ اللهِ ما خَرَجْتُ لِحَاجَةٍ منذُ بَايَعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أُرِيدُ الغَائطَ إلاَّ وأنا مُقَنِّعٌ رأسي حَياءً مِنَ الله .

    وما ذلك إلاّ لأنَّ الأدبَ مع الله هو الأمْرُ الذي يَجْمَعُ خِصالَ الخيرِ كُلِّها .

    قال ابنُ القيِّم رحمه الله :

    وَالأَدَبُ هُوَ الدِّينُ كُلُّهُ ؛ فَإِنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ مِنَ الأَدَبِ ، وَالْوُضُوءَ وَغُسْلَ الْجَنَابَةِ مِنَ الأَدَبِ ، وَالتَّطَهُّرَ مِنَ الْخَبَثِ مِنَ الأَدَبِ ، حَتَّى يَقِفَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ طَاهِرًا. وَلِهَذَا كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَتَجَمَّلَ الرَّجُلُ فِي صَلاتِهِ لِلْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ.

    قال : سَمِعْتُ شَيْخَ الإِسْلامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ – يَقُولُ : مِنْ كَمَالِ أَدَبِ الصَّلاةِ : أَنْ يَقِفَ الْعَبْدُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ مُطْرِقًا ، خَافِضًا طَرْفَهُ إِلَى الأَرْضِ ، وَلا يَرْفَعَ بَصَرَهُ إِلَى فَوْقٍ .

    قال : وَمِنَ الأَدَبِ مَعَ اللَّهِ : أَنْ لا يَسْتَقْبِلَ بَيْتَهُ وَلا يَسْتَدْبِرَهُ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ .

    وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ الأَدَبَ مَعَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : هُوَ الْقِيَامُ بِدِينِهِ ، وَالتَّأَدُّبُ بِآدَابِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا .

    وَلا يَسْتَقِيمُ لأَحَدٍ قَطُّ الأَدَبُ مَعَ اللَّهِ إِلاَّ بِثَلاثَةِ أَشْيَاءَ : مَعْرِفَتُهُ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ ، وَمَعْرِفَتُهُ بِدِينِهِ وَشَرْعِهِ ، وَمَا يُحِبُّ وَمَا يَكْرَهُ . وَنَفْسٌ مُسْتَعِدَّةٌ قَابِلَةٌ لَيِّنَةٌ ، مُتَهَيِّئَةٌ لِقَبُولِ الْحَقِّ عِلْمًا وَعَمَلا وَحَالا . وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .