الطريق إلى شكر النعم
ترجمات المادة
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد :
أخي الكريم: فهذا كتاب جديد من سلسلة الأعمال التي توجب لصاحبها الثواب العاجل من الله جل وعلا في الدنيا.
والشكر هو موضوع هذا الكتاب، وهو أفضل الأعمال وأجلها من حيث ثوابه العاجل وأجره الآجل.
فأما ثوابه العاجل فهو حفظ النعمة من الضياع والتلف، سواء كانت النعمة في الجسد أو المال أو الولد أو الدين أو العقل أو العبادة أو نحو ذلك، بل إن ثوابه العاجل يتعدى حفظ النعمة إلى زيادتها، وبركتها كما قال تعالى : }لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ{.
أما ثوابه الآجل، فلان الله جل وعلا وعد من شكره بالجنة، ولذلك قال العلماء الشكر نصف الإيمان والصبر نصفه الآخر.
وقال ﷺ «أفضل عباد الله يوم القيامة الحمادون»، والحمد شعبة قولية من شعب الشكر.
فكيف نشكر الله جلا وعلا؟ وما هو الطريق إلى ذلك.
حقيقة الشكر
كثير من الناس يعتقدون أن حقيقة الشكر هي الثناء على الله باللسان، وحمده بالمقال، دون أن تقترن بذلك الجوارح والفعال، لكن حقيقة الشكر أوسع من ذلك وأشمل.
يقول ابن القيم في تعريف الشكر : «الشكر ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده : ثناءً واعترافًا، وعلى قلبه شهودًا ومحبة، وعلى جوارحه انقيادًا وطاعة».
قال الجنيد في بيان حقيقة الشكر : كنت بين يدي السري السقطي ألعب وأنا ابن سبع سنين، وبين يديه جماعة يتكلمون في الشكر. فقال لي : يا غلام، ما الشكر؟ فقلت: ألا يُعصى الله بنعمة، فقال لي : أخشى أن يكون حظك من الله لسانك ».
قال السعدي رحمه الله : «وأما الشكور من عباد الله فهو الذي يجتهد في شكر ربه بطاعته وأداء ما وظف عليه من عبادته».
وقال الغزالي رحمه الله : «إن حقيقة الشكر ترجع إلى كون العبد مستعملا في إتمام حكمة الله تعالى، فأشكر العباد أحبهم إلى الله وأقربهم إليه».
أخي الكريم : وإن نعم الله جل وعلا على خلقه أعظم من أن تحصى، وأكثر من أن تذكر، وأدق من أن ترى كلها، ولذلك فإن شكرها على الوجه الأكمل في غاية الصعوبة، قال تعالى : }وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ{.
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم :" لينظر العبد في نعم الله عليه، في بدنه وسمعه وبصره ويديه ورجليه وغير ذلك. وليس من هذا شيء إلا وفيه نعمة من الله عز وجل، وحق على العبد أن يعمل بالنعمة التي في بدنه لله عز وجل في طاعته. ولينظر العبد في نعمة الرزق، فحق عليه أن يستعمل الرزق في طاعة الله، ومن عمل بهذا فقد أخذ بحزم الشكر، وأصله وفرعه".
ثواب الشاكر الزيادة
أخي الكريم: إن نعمة شكر الله على نعمه نعمة جليلة لا يختلف اثنان من المسلمين أنها مفتاح الحفظ والسعادة والسكينة بل الزيادة وفيض البركات الإلهية على الشاكر. وقد سمى العلماء الشكر بالحافظ الجالب. فهو يحفظ النعم في الدنيا من أسباب زوالها. ويجلب الزيادة منها بإذن الله سبحانه، فهو سبحانه من أمر بالشكر وأخبر أن ثوابه العاجل في الدنيا هو الزيادة، وأكد إخباره تأكيدا واضحا:
قال تعالى : }وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ{.
فقوله سبحانه: }شَكَرْتُمْ{فيها بيان واضح مؤكد باللام ونون التوكيد على أن ثواب شاكر النعم هو الزيادة في نعمه وإحلال البركة في رزقه وما أدى عليه شكره.
قال علي رضي الله عنه : «إن النعمة موصلة بالشكر، والشكر يتعلق بالمزيد، وهما مقرونان في قرن، فلن ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من العبد».
قال الفضيل بن عياض رحمه الله : «عليكم بملازمة الشكر على النعم، فقل نعمة زالت عن قوم فعادت إليهم !».
وقال رحمه الله «من عرف نعمة الله بقلبه، وحمده بلسانه، لم يستتم ذلك حتى يرى الزيادة لقول الله تعالى : }لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ{، وإن من شكر النعمة أن يحدث بها
وقال بعض العلماء : «من أعطى أربعا لم يمنع أربعا:
من أعطى الشكر لم يمنع المزيد
ومن أعطى التوبة لمن يمنع القبول.
ومن أعطى الاستخارة لم يمنع الخيرة.
ومن أعطى المشورة لم يمنع الصواب»
ومما يؤكد أن الشكر يزيد بالنعم، ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ : «بينما رجل في فلاة من الأرض، فسمع صوتا في سحابة : اسق حديقة فلان فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حر، فإذا أشرجه من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله، فتتبع الماء فإذا برجل قائم في حديقة يحول الماء بمسحاته.
فقال له : يا عبد الله، ما اسمك؟
قال : فلان – الذي سمع في السحابة.
قال له : يا عبد الله، لم تسألني عن اسمي ؟
قال : سمعت في السحاب الذي هذا ماؤه صوتا يقول : اسق حديقة فلان لاسمك فما تصنع فيها؟
قال: أما إذا قلت ما قلت، فإني أنظر إلى ما يخرج منها، فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثه، وأرد فيها ثلثه » [رواه مسلم].
فهذا الحديث فيه دليل على حفظ النعمة بشكرها وزيادتها بذلك، ولذلك حفظ الله لهذا الرجل حديقته من الجفاف والتلف وأرسل له سحابا خاصا به يسقي له بستانه من بين البساتين وجعل قصته والكرامة التي وقعت له عظة لكل راغب في بركة رزقه، وزيادة نعمه في الدنيا.
ومن ثمرات الشكر أيضا أنه من موانع نزول العذاب مثله مثل الاستغفار، إذ قال الله جل وعلا في شأن الاستغفار }وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ{ وقال تعالى في الشكر : }مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ{.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: قرن الله سبحانه وتعالى الشكر بالإيمان، وأخبر أنه لا غرض له في عذاب خلقه إن شكروا وآمنوا به فقال تعالى : }مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ{أي : إن وفيتم ما خلقكم له، وهو الشكر والإيمان فما أصنع بعذابكم » [عدة الصابرين: 118].
الطريق إلى الشكر
أخي الكريم : ولتحقيق خصلة الشكر والتوفيق إليها أسباب شرعها الله جل وعلا، كالقناعة، والدعاء، والمجاهدة، وشكر الناس على إحسانهم ونحو ذلك.
أولا : القناعة:
وهذا الطريق دل عليه قول الرسول ﷺ «يا أبا هريرة كن ورعا تكن أعبد الناس، وكن قنعا تكن أشكر الناس، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا، وأحسن جوار من جاورك تكن مسلما، وأقل الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب» [رواه ابن ماجة].
فمن كان ذا قناعة بما آتاه الله وقدره عليه فهو الشكور السعيد المطمئن في عيشه الموفق إلى الزيادة في رزقه والبركة في ماله، وكل ما يتعلق بحياته، والقناعة منشؤها من الرضا بالمقدور قليلا كان أو كثيراً، وعدم الانزعاج لفوات شيء من حطام الدنيا، وعدم تعلق النفس بالحرص على الدنيا.
ثانيا : شكر الناس على المعروف:
فعن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ : «من أعطي عطاء فوجد فليجزيه، فإن لم يجد فليثن به، فمن أثنى به فقد شكر، ومن كتمه فقد كفره» [رواه أبو داود].
فهذا الحديث فيه دليل على أن شكر الله جل وعلا لا يتحقق إلا بشكر الناس، فلن يشكر الله من لم يشكر لوالديه : }أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ{، ولم يشكر الله من لم يشكر من أحسن إليه...وهكذا.
قال أبو حاتم البستي رحمه الله : «إني لأستحب للمرء أن يلزم الشكر للصنائع، والسعي فيها من غير قضائها، إذا كان المنعم من ذوي القدر فيه والاهتمام بالصنائع، لأن الاهتمام ربما فاق المعروف وزاد على فعل الإحسان، إذ المعروف يعمله المرء لنفسه، والإحسان يصطنعه إلى الناس، وهو غير مهتم به، ولا مشفق عليه، وربما فعله الإنسان، وهو كاره، وأما الاهتمام فلا يكون إلا من فرط عناية، وفضل ود، فالعاقل يشكر الاهتمام أكثر من شكر المعروف».
وقال أيضا: «الواجب على العاقل أن يشكر النعمة ويحمد المعروف على حسب سعيه وطاقته إن قدر بالضعف وإلا فبالمثل، وإلا فبالمعرفة بوقوع النعمة عنده، مع بذل الجزاء له والشكر».
ومن يسد معروفا إليك فكن له | ||
شكورا يكن معروفه غير ضائع | ||
ولا تبخلن بالشكر والقرض فاجزه | ||
تكن خير مصنوع إليه وصانع | ||
ثانيا: شكر الله جل وعلا: ويكون على ثلاث مراتب:
الأولى : مرتبة قلبية : وهي الرضا بما كتبه الله قليلا كان أم كثيراً والاطمئنان والسكون إلى ذلك، فإن ما يؤتيه الله لعبده هو فضل ومنة منه، ولا يرى المؤمن فضل الله عليه إلا إذا قارن حاله بمن هو دونه، فإذا كان يملك الكثير فغيره يملك القليل، وإذا كان يملك القليل فغيره لا يملك شيئا، وإذا كان لا يملك شيئا فغيره عليه دين، وهكذا.... وقد جاء في الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : قال : قال رسول الله ﷺ : «خصلتان من كانتا فيه كتبه الله شاكراً صابرا، ومن لم تكن فيه لم يكتبه الله شاكراً ولا صابرا، من نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به، ونظر في دنياه إلى من هو دونه، فحمد الله على ما فضله به عليه، كتبه الله شاكرا صابرا، ومن نظر في دينه إلى من هو دونه، ونظر في دنياه إلى من هو فوقه فأسف على ما فاته منه لم يكتبه الله شاكرا ولا صابرا» [رواه الترمذي ].
الثانية: مرتبة قولية: وهي التحدث بنعمة الله جل وعلا أمام من لا يخشى حسده واستثارة عداوته وبغضه! فإن التحدث بنعمة الله جل وعلا هو شكر باللسان دل عليه قول الله جل وعلا :}وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ{.
والثالثة: مرتبة عملية: وهي شكر الجوارح بالطاعة، وشكر لله جل وعلا على فضله إن كان مالا فبالإنفاق منه، وإن كان علما فبتعليمه ونشره، وهكذا.
يقول ابن قدامة رحمه الله : «الشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح، أما بالقلب فهو أن يقصد الخير ويضمره للخلق كافة، وأما باللسان فهو إظهار الشكر بالتحميد وإظهار الرضا عن الله تعالى. وأما الجوارح : فهو استعمال نعم الله في طاعته، والتوقي من الاستعانة بها على معصيته، فمن شكر العينين أن تستر كل عيب تراه للمسلم، ومن شكر الأذنين أن تستر كل عيب تسمعه »[مختصر منهاج القاصدين ص 277].
رابعا الدعاء والاستعانة بالله على الشكر:
فإنه سبحانه هو المنعم بكل النعم، ومن نعمه على عبده توفيقه له إلى نعمة الشكر التي هي حافظة النعم وجالبتها.
قال ابن بطال رحمه الله تعالى : «من تفضل الله على عباده أن يجعل للطاعم إذا شكر ربه على ما أنعم به عليه ثواب الصائم الصابر».
ولهذا أخي فإن من الحكمة والفطنة أن تحرص على سؤال الله فضله كما قال تعالى }وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ{وأفضل فضله الإيمان به والشكر له على نعمه، ولذلك كان رسول الله ﷺ يحث أصحابه على سؤال الله الشكر.
فعن معاذ رضي الله عنه أن رسول الله، أخذ بيده، وقال : «يا معاذ، والله إني لأحبك، والله إني لأحبك، فقال: أوصيك يا معاذ ! لا تدعن في دبر كل صلاة تقول : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» [رواه أبو داود].
وهذا الحديث فيه دلالة قوية على قيمة هذا الدعاء لأن الرسول ﷺ وصى به معاذاً بعدما أخبر بحبه له، ولا تكون الوصية بعد المحبة إلا بشيء عظيم!
إذا كان شكري نعمة الله نعمة | ||
عليّ له في مثلها يجب الشكرُ | ||
فكيف وقوع الشكر إلا بفضله | ||
وإن طالت الأيام واتصل العمر | ||
إذا مسَّ بالسَّراء عم سرورها | ||
وإن مس بالضراء أعقبها أجر | ||
وما منهما إلا له في حسنة | ||
تضيق بها الأوهام والبر والبحر | ||
ولقد ورد في القرآن الكريم سؤال الله فضله وشكره في آيات كثيرة، فمن ذلك دعاء سليمان عليه السلام }رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ{.
وقال تعالى : }رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ{.
خامسا: المداومة على أذكار الحمد والشكر، والثناء على الله:
ومن ذلك ما رواه عبد الله بن غنام البياضي – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله ﷺ: «من قال حين يصبح : اللهم ما أصبح بي من نعمة فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر، فقد أدى شكر يومه، ومن قال ذلك حين يمسي فقد أدى شكر ليلته » [رواه أبو داود].
وصلي الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
***