احذر سوء الخاتمة
ترجمات المادة
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله تعالى الولي عند الضراء ، والمتفرد بالكبرياء ، والصلاة والسلام على النبي صفوة الأصفياء ، وعلى آله وأصحابه أئمة الأتقياء. وبعد:
محطة أقلقت العارفين.. وأرقت الخائفين!
أعدوا لمجاوزتها نجائب خفيفة.. وحثوا الأنفس بأسواط العزم حتى غدت مطيعة!
محطة لطالما تساقط عندها المذنبون.. وهلك بأرضها الهالكون!
(سوء الخاتمة)! هي تلك المحطة.. النافذة على النيران، والعذاب الشديد!
* أيها المذنب! ما علمك بتلك المحطة؟!
أيها المذنب! أما سمعت بذلك الحديث الذي روع أفئدة الصالحين؟! قال رسول الله ﷺ: «إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة، ثم يختم له عمله بعمل أهل النار! وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار، ثم يختم له عمله بعمل أهل الجنة»! [رواه مسلم]
وقال ﷺ: «.. وإنما الأعمال بالخواتيم». [رواه البخاري]
قال ابن رجب: «وفي الجملة فالخواتيم ميراث السوابق، فكل ذلك سبق في الكتاب السابق، ومن هنا كان يشتد خوف السلف من سوء الخواتيم، ومنهم من كان يقلق من ذكر السوابق»!
قال حاتم الأصم: «من خلا قلبه من ذكر أربعة أخطار، فهو مغتر، فلا يأمن الشقاء! الأول: خطر يوم الميثاق، حين قال: هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي! فلا يعلم في أي الفريقين كان! والثاني: حين خلق في ظلمات ثلاث، فنودي الملك بالشقاوة والسعادة، ولا يدري: أمن الأشقياء هو أم من السعداء؟! والثالث: ذكر هول المطلع، ولا يدري أيبشر برضا الله أو بسخطه؟! والرابع: يوم يصدر الناس أشتاتًا، فلا يدري: أي الطريقين يسلك به؟!».
وكان سهل بن عبد الله يقول: «خوف الصديقين من سوء الخاتمة؛ عند كل خطرة، وعند كل حركة، وهم الذين وصفهم الله تعالى، إذ قال: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60].
وعن عطاء الخفاف، قال: «ما لقيت الثوري إلا باكيًا! فقلت: ما شأنك؟! قال: أخاف أن أكون في أم الكتاب شقيًا»!
أيها المذنب! تلك هي سوء الخاتمة! وقد رأيت كيف حدها لك العارفون.. فأين منزلك منها؟! تراك من أهل الوجل والخوف منها.. أم من الآمنين؟! فيا للخسران إن كنت من الفريق الثاني! وكيف يأمن من سلك طريقًا يؤدي إلى سوء الخاتمة؟!
* أيها المذنب! الحذر.. الحذر!!
قال ابن المبارك: «إن البصراء لا يأمنون من أربع خصال: ذنب قد مضى لا يدرى ما يصنع الرب فيه، وعمر قد بقي لا يدري ماذا فيه من الهلكات، وفضل قد أعطي لعلة واستدراج، وضلالة قد زينت له فيراها هدى، ومن زيغ القلب ساعة ساعةً، أسرع من طرفة عين قد يسلب دينه، وهو لا يشعر!».
أيها المذنب! ترى أنك ستنجو وقد سلكت طريق المعاصي.. وعكفت على المساخط؟!
فاحذر أخذة على غرة.. لا تفيق منها إلا بين يدي ملائكة غلاظ شداد!
كان الحسن البصري يقول في موعظته: «المبادرة المبادرة! فإنما هي الأنفاس لو حبست، انقطعت عنكم أعمالكم التي تقربون بها إلى الله عز وجل، رحم الله امرأ نظر إلى نفسه، وبكى على عدد ذنوبه. ثم قرأ هذه الآية: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم: 84].
وإن شئت – أيها المسكين – ذكرت لك طرفًا من أخبار الصالحين.. الذين جمعوا بين الطاعة، والخوف من سوء الخاتمة! لعل ذلك يرد قلبك الآبق عن الطاعات.. ويوقظك قبل فوات الأوان!
* عن علي بن أبي طالب t قال: «دخلت على عمر بن الخطاب حين وجأه أبو لؤلؤة، وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟! قال: أبكاني خبر السماء، أين يذهب بي، إلى الجنة أو إلى النار؟! فقلت: أبشر بالجنة، فإني سمعت رسول الله ﷺ ما لا أحصيه يقول: «سيدا أهل الجنة أبو بكر وعمر» فقال: أشاهد أنت يا علي لي بالجنة؟! قلت: نعم، وأنت يا حسن فاشهد على أبيك رسول الله أن عمر من أهل الجنة»!
* وعن محمد بن قيس: أن رجلاً من أهل المدينة نزل به الموت، فجزع، فقيل له: أتجزع؟! فقال: ولم لا أجزع؟! فوالله إن كان رسول أمير المدينة ليأتيني فأفزع لذلك، فكيف برسول رب العالمين؟!
* وبكى بعضهم عند الموت، فقيل له في ذلك، فقال: إني سمعت الله يقول لقوم: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47] فأنا أنتظر ما ترون، والله ما أدري ما يبدو لي!
* وقال بعضهم: «لو كانت الشهادة على باب الدار، والموت على الإسلام عند باب الحجرة؛ لاخترت الموت على الإسلام، لأني لا أدري ما يعرض لقلبي بين باب الحجرة وباب الدار!».
* وكان سفيان الثوري يبكي، ويقول: «أخاف أن أُسلب الإيمان عند الموت!».
* وكان مالك بن دينار يقوم طول ليله قابضًا على لحيته، ويقول: «يا رب قد علمت ساكن الجنة من ساكن النار، ففي أي الدارين منزل مالك!».
أيها المذنب! عظ نفسك! إذا كان هذا حال الصالحين.. وفيهم الفاروق عمر بن الخطاب t صاحب رسول الله ﷺ.. المبشر بالجنة.. والذي يفرق الشيطان من ظله! أليس حريًّا بك – أيها المذنب أن يطول جزعك.. وتسكب الدموع مدرارًا!
أحسنت ظنَّك بالأيام إذ حسُنت | ||||
ولم تَخَف سوء ما يأتي به القدرُ | ||||
وسالمتَك الليالي فاغتررتَ بها | ||||
وعند صفو الليالي يحدث الكدرُ | ||||
* أيها المذنب! احذر تقلب القلوب!
عن أنس t قال: كان رسول الله ﷺ يكثر أن يقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» فقلت: يا نبي الله آمنا بك، وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟!ّ قال: «نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء»!
[رواه الترمذي/ صحيح الترمذي للألباني: 2140]
أيها المذنب! كم من قلوب طبع الله عليها.. فعادت لا تعي شيئًا حتى أصبح عندها المنكر معروفًا.. والمعروف منكرًا! فهي في تخبط وعَمَى! وبينما هي كذلك إذ نزل بها الموت.. فكان سوء الخاتمة!
* أيها المذنب! الذنوب من أسباب سوء الخاتمة!
أيها المذنب! الذنوب طريق إلى النار.. كما أن الطاعات طريق إلى الجنة..
قال أبو محمد عبد الحق: «اعلم أن سوء الخاتمة – أعاذنا الله منها – لا تكون لمن استقام ظاهره، وصلح باطنه، ما سُمع بهذا، ولا عُلم به والحمد لله، وإنما تكون لمن كان له فساد في العقل، أو إصرار على الكبائر، فيصطلمه الشيطان عند تلك الصدمة، ويختطفه عند تلك الدهشة، والعياذ بالله، ثم العياذ بالله، أو يكون ممن كان مستقيمًا، ثم يتغير عن حاله، ويخرج عن سننه، ويأخذ في طريقه، فيكون ذلك سببًا لسوء خاتمته، وشؤم عاقبته»!
عن عبد العزيز بن أبي رواد قال: «حضرت رجلاً في النزع، فجعلت أقول له: قل: لا إله إلا الله. فكان يقول، فلما كان في آخر ذلك قلت له: قل لا إله إلا الله. قال: كم تقول؟! إني كافر بما تقول! وقبض على ذلك! فسألت امرأته عن أمره، فقالت: كان مدمن خمر! فكان عبد العزيز يقول: اتقوا الذنوب، فإنما هي أوقعته»!
* أيها المذنب! احذر الإصرار على الذنوب!
الإصرار باب إلى أمور عظام.. كم قاد الكثيرين إلى الهلكات.. وكم أورد المذنبين إلى الدركات! فإن إدمان الذنب طريق إلى إلفه واعتياده.. فيصبح تركه شاقًا على الأنفس.. فتمتد الغفلة.. ويطول الأمل.. حتى يفجأ الموت على حال غير مستقيمة!
أتأمنُ أيها السكران جهلاً | ||||
بأن تفجَاك في السكر المنيَّهْ | ||||
فتضحى عبرة للناس طُرًّا | ||||
وتلقى الله من شر البريَّهْ | ||||
قال ابن رجب: «واعلم أن الإنسان ما دام يأمل الحياة؛ فإنه لا يقطع أمله من الدنيا، وقد لا تسمح نفسه بالإقلاع عن لذاتها وشهواتها من المعاصي وغيرها، ويرجيه الشيطان بالتوبة في آخر عمره، فإذا تيقن الموت، وأيس من الحياة؛ أفاق من سكرته بشهوات الدنيا، فندم حينئذ على تفريطه ندامة يكاد يقتل نفسه، وطلب الرجعة إلى الدنيا ليتوب ويعمل صالحًا، فلا يجاب على شيء من ذلك، فيجتمع عليه سكرة الموت مع حسرة الفوت، وقد حذر الله في كتابه عباده من ذلك ليستعدوا للموت قبل نزوله بالتوبة والعمل الصالح، قال الله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر: 54-58].
احذر أيها المسكين أن يفجأك الموت؛ وقد أغلقت دونك أبواب التوبة.. فتلاقي الله تعالى بذنوبك.. فيا لشدة ذلك اليوم عليك!
قال ابن رجب في قوله تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ: 54]. «وفسره طائفة من السلف منهم عمر بن عبد العزيز رحمه الله بأنهم طلبوا التوبة حين حيل بينهم وبينها»:
قال الحسن البصري: «اتق الله يا ابن آدم، لا يجتمع عليك خصلتان: سكرة الموت، وحسرة الفوت»!
وقال ابن السماك: «احذر السكرة والحسرة أن يفجأك الموت وأنت على الغرة، فلا يصف واصف قدر ما تلقى، ولا قدر ما ترى»!
وقال الفضيل بن عياض: «يقول الله عز وجل: ابن آدم! إذا كنت تتقلب في نعمتي، وأنت تتقلب في معصيتي؛ فاحذرني لا أصرعك بين معاصيَّ»!
أيها المذنب! فتدارك أمرك.. وبادر إلى التوبة الصادقة.. فإن الأيام والليالي تطوي عمرك وأنت لا تشعر! والعاقل من استعد للقاء ربه تبارك وتعالى.. وتوقى سوء الخواتيم..
قال ابن رجب: «قال بعض السلف: أصبحتم في أمنية ناس كثير! يعني: أن الموتى كلهم يتمنون حياة ساعة ليتوبوا فيها، ويجتهدون في الطاعة، ولا سبيل لهم إلى ذلك»!
* يا من غره الذنب! إليك مصارع المذنبين!
أيها المذنب! سوء الخاتمة شر محطة.. وأسوأ منزل! وهذه طرف من خبر أقوام أصروا على الذنوب.. حتى اخترمهم الموت وهم لاهون فختم لهم بسوء الخواتيم!
* عن محمد بن عيينة الفزاري قال: سمعت أبا إسحاق الفزاري يقول لعبد الله بن المبارك: يا أبا عبد الرحمن كان رجل من أصحابنا جمع من العلم أكثر مما جمعت وجمعتُ، فاحتضر، فشهدته، فقيل له: قل لا إله إلا الله. فيقول: لا أستطيع أن أقولها! ثم تكلم، فيتكلم، قال ذلك مرتين، فلم يزل على ذلك حتى مات! قال: فسألت عنه فقيل: كان عاقًا بوالديه، فظننت أن الذي حُرم كلمة الإخلاص لعقوقه بوالديه!
* وقال بكر بن عبد الله المزني: جمع رجل من بني إسرائيل مالاً، فلما أشرف على الموت، قال لبنيه: أروني أصناف أموالي! فأتى بشيء كثير من الخيل والإبل، والرقيق، وغيره، فلما نظر إليه بكى تحسرًا عليه! فرآه ملك الموت وهو يبكي، فقال له: ما يبكيك؟! فوالذي خولك ما أنا بخارج من منزلك؛ حتى أفرق بين روحك وبدنك! قال: بالمهلة حتى أفرقه! قال: هيهات! انقطعت عنك المهلة! فهلاَّ كان ذلك قبل حضور أجلك؟! فقبض روحه.
* وقال الربيع بن برة: ورأيت بالشام رجلاً يقال له، وهو في الموت: قل لا إله إلا الله. فقال: اشرب واسقه!
* وهم هاشم عن أبي حفص قال: دخلت على رجل بالمصيصة وهو في الموت، فقلت: قل لا إله إلا الله، قال: هيهات! حيل بيني وبينها!
* وقال ابن رجب: «سمع بعض المحتضرين عند احتضاره، يلطم على وجهه ويقول: {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ}، وقال آخر عند احتضاره: سخرت بي الدنيا حتى ذهبت أيامي! وقال آخر عند موته: لا تغرنكم الحياة الدنيا كما غرتني»!
* وسكر بعض المتقدمين ليلة، فعاتبته زوجته على ترك الصلاة، فحلف بطلاقها ثلاثًا لا يصلي ثلاثة أيام، فاشتد عليه فراق زوجته، فاستمر على ترك الصلاة مدة الأيام الثلاثة، فمات فيها على حاله، وهو مُصِرٌّ على الخمر، تارك الصلاة!
* وكان بعض المصرين على الخمر يكنى أبا عمرو، فنام ليلة وهو سكران، فرأى في منامه قائلاً يقول له:
جد بك الأمر أبا عمرو | ||||
وأنت عاكف على الخمر | ||||
تشرب صهباء صُراخيّةً | ||||
سال بك السيل ولا تدري | ||||
فاستيقظ منزعجًا، وأخبر من عنده بما رأى، ثم غلبه سكره فنام، فلما كان وقت الصبح مات فجأة!
* وحكى عن بعض السماسرة: قالوا له عند الموت: قل لا إله إلا الله ، فجعل يقول: ثلاثة ونصف أربعة ونصف!
* وقيل لآخر: قل لا إله إلا الله. فجعل يقول: الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا، والجنان الفلاني اعملوا فيها كذا!
أيها المذنب! حاسب نفسك.. واصدق في محاسبتها.. وبادر إلى التوبة قبل فوات الأوان.. وتذكر الموت.. وتذكر أن المعاصي والذنوب طريق إلى سوء الخاتمة..
فاسع أيها المسكين إلى صلاح باطنك وظاهرك.. فإن الموت زائر قريب.. ومن خاف جد وهرب.. فاهرب من الذنوب إلى غفار الذنوب.. وابدأ حياة جديدة؛ مفتتحة بالتوبة.. ومختومة بالعمل الصالح.. عسى أن تكون من الناجين.. والسالمين من سوء الخواتيم..
والحمد لله تعالى أبدًا ودائمًا.. والصلاة والسلام على النبي والآل والأصحاب..