×
المراقبة، ذلك الأصل العظيم من أصول العمل الصَّالح، وقف عنده الصَّادقون، ودندن حوله العارفون، زينة الأعمال، وغاية الصِّدق في الأقوال والأفعال، وهذه المقالة تدور حول هذا المعنى.

 تذكر رقابة الله تعالى

الحمد لله تعالى هدى فأحسن الهداية.. ورزق حتى بلغ الكفاية.. والصلاة والسلام على نبي الهدى.. وعلى آله وأصحابه أعلام التقى.

وبعـد:

لقد أبصر حقًا من أبصر قلبه!

وعُدَّ في الأحياء من أبصر قلبه!

بصر القلب! يهدي إلى الهُدى.. ويسوق إلى التُّقى!

وفوق هذا كله؛ يقود إلى معرفة الله تعالى.. والوقوف على أعلام العبودية الصادقة!

وعندها يحدث التعظيم.. والخشية.. ثم المراقبة!

 أيها المذنب! أين أنت من هذا البصر؟!

الذنوب! غشاوة في البصر.. وحجاب عن أنوار الهدى!

وكما أن الطاعة تورث؛ البصر.. والنور..

فإن الذنوب تورث؛ العمى.. والظُّلمة!

وليس بعمى الأبصار.. ولكنه عمى القلوب!

فإنك لا تزال تأتي الذنب.. بعد الذنب.. حتى يظلم قلبك!

قال رسول الله ﷺ‬: «إن العبد إذا أخطأ خطيئة؛ نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزع، واستغفر، وتاب؛ صقل قلبه، وإن عاد؛ زيد فيها، حتى تعلو قلبه، وهو الران، الذي ذكر الله {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}». [رواه أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم/ صحيح الترمذي للألباني: 3334]

وإذا أظلم القلب بأدران الذنوب.. فمن أين للخير أن ينفذ فيه؟!

وإذا أظلم القلب بالذنوب؛ غدا فيها وراح.. وزال الوازع والرادع..: وصار القلب مشغولاً بهواه!

 أيها المذنب! أتدري من عصيت؟!

كم من راكب للذنب.. لم يلتفت إلى عظمة من يعصيه!

ولو أدرك المذنبون عظمة.. وجلال من عصوه؛ لوقفت القلوب دون ذلك.. وجِلةً.. تائبةً!

فيا صاحب الذنب! أتدري من عصيت؟!

لقد عصيت من بيده ملكوت كل شيء.. القوي.. ذا العزة والكبرياء.. ذا الانتقام.. ذا البطش الشديد.. من لا يفوته أحد!

{وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [آل عمران: 11].

{إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 52].

{إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102].

{إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج: 12].

أيها المذنب! فلا تغفلنَّ عن عظمة من يعلم السر وأخفى! فإن ربك تعالى لا يخفى عليه شيء من أمرك!

قال أبو سليمان الداراني: «كيف يخفى عليه ما في القلوب، ولا يكون في القلوب إلا ما يلقى بها؟! أفيخفى عليه ما هو منه؟!».

وقال بعض العارفين: «اتق الله أن يكون أهون الناظرين إليك»!.

 أيها المذنب! لا تنس أن الله يراك!

يا من بارزت ربك بالذنوب.. أنسيت أن الله تعالى يراك؟!

عجبًا! ما أقبح الغفلة!

كيف يصر على الذنوب من علم أن الله يراه؟!

وهل تذكر المذنبون أنهم في ملك من لا يخفى عليه شيء؟!

{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 235].

{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس: 61].

وها هو جبريل u - ينزل على رسول الله ﷺ‬ معلمًا لأصحابه الأطهار y هذا الركن العظيم (مراقبة الله تعالى)! فيسأل رسول الله ﷺ‬: «يا رسول الله، ما الإحسان؟ قال: أن تخشى الله كأنك تراه، فإنك إن لا تكن تراه، فإنه يراك». [رواه البخاري ومسلم، واللفظ لمسلم]

قال حميد الطويل لسليمان بن علي: عظني.

فقال: لئن كنت إذا عصيت خاليًا؛ ظننت أنه يراك، لقد اجترأت على أمر عظيم، ولئن كنت تظن أنه لا يراك، فلقد كفرت!

ورأى محمد بن المنكدر رجلاً واقفًا مع امرأة يكلمها، فقال: «إن الله يراكما، سترنا الله وإياكما»!

أيها المذنب! فهل تذكرت هذه الرقابة؟!

هل تذكرت أن الله يراك أينما كنت؟!

هل تذكرت أنه أقرب إليك من حبل الوريد؟!

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7].

جاء: أن أحد الشيوخ كان له جمع من التلاميذ، وكان قد خصَّ واحدًا منهم بمزيد من العناية، فسألوه قائلين: ما السبب في ذلك؟ فقال الشيخ: سأبينه لكم. وبعد حين أعطى كل واحد من التلاميذ طائرًا، وقال لكل منهم: اذبح هذا الطائر حيث لا يراك أحد! فمضى كل منهم إلى جهة، ثم رجع إلى شيخه، وقد ذبح الطائر، ما عدا ذلك التلميذ، فقد رجع إلى شيخه والطائر في يده، فسأله الشيخ: هل ذبحت هذا الطائر؟ فأجابه تلميذه: أنت أمرتني أن أذبح الطائر حيث لا يراني أحد، ولم أجد موضعًا لا يراني الله فيه!

فالتفت الشيخ إلى بقية التلاميذ، وقال: من أجل هذا خصصته بمزيد من العناية!

أيها المذنب! تذكر دائمًا هذه المراقبة.. فإنك في سلطان ملك الملوك.. من أحصى عليك نفسك.. وقدر رزقك.. وعلم أجلك!

 أيها المذنب! الله تعالى أحق من استحييت منه..

الحياء! ذلك الخلق النبيل.. والخصلة الزاكية!

وأهل الحياء؛ سالمون من منكر الأخلاق.. وذميم الخصال.. وإذا انعدم الحياء؛ أورث الرقاعة.. وصفاقة الوجه.. والمجاهرة بالقبائح!

وأرفع الحياء؛ الحياء من الله تعالى.. فإنه تبارك وتعالى أحق من استحيا منه العباد..

عن يعلي t أن رسول الله ﷺ‬ رأى رجلاً يغتسل بالبراز بلا إزار، فصعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: «إن الله عز وجل حيي ستير، يحب الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر».

[رواه أبو داود والنسائي/ صحيح أبي داود للألباني: 4011]

قال أبو بكر الصديق t وهو يخطب الناس: «يا معشر المسلمين، استحيوا من الله، فوالذي نفسي بيده إني لأظل حين أذهب الغائط في الفضاء متقنعًا بثوبي استحياء من ربي عز وجل»!

 أيها المذنب! فهل استحضرت الحياء من الله تعالى؟!

ما بالك تستتر من الناس.. وتنسى أن الله يراك؟!

{يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء: 108].

قال الفضيل بن عياض: «تغلق بابك، وترخي سترك، وتستحي من الناس، ولا تستحي من القرآن الذي في صدرك، ولا تستحي من الجليل الذي لا يخفى عليه خافية»!

 أيها المذنب! الحياءَ.. الحياءَ!

الحياء من علام الغيوب.. والمطلع على السرائر والعيوب!

قال الجراح بن عبد الله الحكمي: «تركت الذنوب حياء أربعين سنة، ثم أدركني الورع»!

وقال أحمد بن عاصم الأنطاكي: «أحب أن لا أموت حتى أعرف مولاي، وليس معرفته الإقرار به، لكن المعرفة؛ إذا عرفته استحييت منه».

فيا من ركبت الذنب.. بعد الذنب.. ألا حياء من الله تعالى يردك؟!

شديدٌ بك – أيها المذنب – ألا تستحي من الله تبارك وتعالى!

قال بعض السلف لابنه: «إذا دعتك نفسك إلى كبيرة؛ فارم ببصرك إلى السماء، واستح ممن فيها، فإن لم تفعل؛ فارم ببصرك إلى الأرض، واستح ممن فيها، فإن كنت لا ممن في السماء تخاف، ولا ممن في الأرض تستحي؛ فاعدد نفسك في عداد البهائم»!

أيها المذنب! الحياء دواء لفلتات النفس.. وكبح لجماحها..

وتذكر دائمًا أن أولى من استحببت منه الله تبارك وتعالى.. العالم بسرك وعلانيتك.. والمطَّلع على أمرك كله..

 أيها المذنب! الله قريب منك!

يا خاليًا بمعاصي الله مستترًا.. ومنتهكًا للحركات خاليًا.. أما علمت أن الله قريب منك؟!

فكم من مذنب غفل عن هذا القرب.. وكأن الله تعالا لا يطلع عليه!

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16].

عن أبي موسى الأشعري t قال: كنا مع رسول الله ﷺ‬، فكنا إذا أشرفنا على واد؛ هللنا وكبرنا، ارتفعت أصواتنا، فقال النبي ﷺ‬: «يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، إنه معكم، إنه سميع قريب، تبارك اسمه وتعالى جده». [رواه البخاري ومسلم/ واللفظ للبخاري]

أيها المذنب! من علم أن الله تعالى قريب منه. مطلع عليه.. حري به أن يراقبه في حركاته وسكناته.

فتذكر – أيها المذنب – أن الله قريب منك.. قد أحصى عليك الصغير والكبير! فتذكر جلال ملك الملوك.. ذا العظمة والكبرياء!

واعلم أنك إذا استحضرت قرب من تعصيه.. وجلال عظمته؛ ردك ذلك عن طريق الذنوب..

واعلم – أيها المذنب – أنك إن كنت من أهل الخشية لمن هو اقرب إليك من حبل الوريد؛ ظفرت بأعظم غنيمة.. وأغلى بضاعة!

قال سهل: «لم يتزين القلب بشيء أفضل ولا أشرف من علم العبد بأن الله شاهده حيث كان»!

واعلم – أيها المذنب – أيضًا: أنه لا أخسر.. ممن نسى قرب علام الغيوب.. واحترز من قرب الخلائق!

قال أبو سليمان الداراني: «الخاسر من أبدى للناس صالح عمله، وبارز بالقبيح من هو أقرب إليه من حبل الوريد»!

 أيها المذنب! الأنس بالله تعالى غنيمة أهل الطاعات!

شتان ما بين رجلين: رجل: في برد الطاعات.. آنسًا بالصالحات.. وناهلاً من لذائذ القربات..

ورجل: في وحل الموبقات.. مستوحشًا بالذنوب.. تعسًا بمعصية رب الخلائق!

فاختر لنفسك – أيها المسكين – أنس الطاعات.. ثم أنس بالله تعالى.. أو وحشة الذنوب.. وبعد القلب عن الله تعالى!

فأيهما تختار لنفسك أيها العاقل؟!

قال إبراهيم بن أدهم: «أعلى الدرجات أن تنقطع إلى ربك، وتستأنس إليه بقلبك، وعقلك، وجميع جوارحك، حتى لا ترجو إلا ربك، ولا تخاف إلا ذنبك، وترسخ محبته في قلبك، حتى لا تؤثر عليها شيئًا، فإذا كنت كذلك لم تبال في بر كنت أو في بحر، أو في سهل، أو في جبل، وكان شوقك إلى لقاء الحبيب شوق الظمآن إلى الماء البارد، وشوق الجائع إلى الطعام الطيب، ويكون ذكر الله عندك؛ أحلى من العسل، وأحلى من الماء العذب الصافي عند العطشان في اليوم الصائف»!

وقيل لمالك بن مغول، وهو جالس في بيته وحده: ألا تستوحش؟! قال: «أو يستوحش مع الله أحد»؟!

وكان حبيب أبو محمد يخلو في بيته، ويقول: «من لم تقر عينه بك؛ فلا قرت عينه، ومن لم يأنس بك، فلا أنس»!

وقال مسلم بن يسار: «ما تلذذ المتلذذون بمثل الخلوة بمناجاة الله عز وجل»!

وقال مسلم بن عابد: «ما يجد المطيعون لله لذة في الدنيا أحلى من الخلوة بمناجاة سيدهم، ولا أحسب لهم في الآخرة من عظيم الثواب أكبر في صدورهم، وألذ في قلوبهم من النظر إليه»! ثم غشي عليه..

فيا من تلذذت بمرارات الذنوب.. أولئك الرجال حقًا!

عرفوا طريق السعادة فلزموه.. وأبصروا أعلام الهُدى.. فشمَّروا نحوها..

لم تغرهم الدنيا ببريقها الكاذب.. ولا خدعتهم النفس عن جادة الطريق..

أنسوا بمولاهم تبارك وتعالى.. وتلذذوا بمناجاته.. فهم في نعيم.. قبل يوم النعيم!

إذا خلوا بمولاهم؛ أرسلوا دموع العيون مدرارًا.. ومرغوا الوجوه رقًا.. وخضعانًا..

غنيمتهم الطاعات.. ورأس مالهم الصالحات..

راقبوا مولاهم في المغيب والشهادة.. ولم يشغلوا ساعات عمرهم بغير وظائف العبادة..

فيا من ألهتك الذنوب عن الطاعات.. وصدك الهوى عن مراقبة مولاك في الخلوات!

هلا تأملت في تلك الصفات الزاكية؟!

وهلا اتعظت بتلك المفاخر السامية؟!

خلوت بالحرمات.. ولم تزجر النفس عن الموبقات!

نهارك غفلة.. وليلك لهو وهلكة!

لم يزجرك جلال الخالق عن هواك.. ولم ينهك كبرياؤه عن رداك!

أما كان أحرى بك أن تملأ القلب بحب مولاك؟!

وتشحن أيامك بصالحات تقودك إلى خيرك وهُداك؟!

أيها المذنب! تذكر رقابة من بيده أمرك كله.. وانصح لنفسك.. فاختر لها طريق الصالحات.. وادْنُ من باب مولاك تجده قريبًا لسؤلك.. مجيبًا للدعوات.. واحذر سطوة فاطر الأرض والسماوات..

والحمد لله تعالى.. والصلاة والسلام على النبي وآله والأصحاب..

أزهري أحمد محمود