×
في زمن الفتن، والمصائب والنكبات، أضحت حاجة الناس إلى الصبر لا تقل عن حاجتهم إلى الطعام بل تزيد عن الحاجة إلى الطعام والشراب والهواء، وهذه المقالة تبين حقيقة الصبر، وأنواعه ومراتبه، وبعض الأسباب المعينة عليه.


    بسم الله الرحمن الرحيم

    }وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ{

    في زمن الفتن، والمصائب والنكبات، أضحت حاجة الناس إلى الصبر لا تقل عن حاجتهم إلى الطعام بل تزيد عن الحاجة إلى الطعام والشراب والهواء، كيف لا؟ وللصبر وأهله منزلة عالية، وقدر جليل وثواب جزيل أليس هو خلق الأنبياء والصالحين؟

    إن الدنيا لا تخلو من المصائب والشدائد والكربات والعظائم، فالمؤمن مبتلى بقدر الله تعالى، والدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، والقابض على دينه كالقابض على الجمر.. ولما كان الصبر نصف الإيمان، وخلقاً فاضلاً من أخلاق النفس، وقائداً لها إلى طاعة الله، وصارفاً لها عن معصيته، كان من الضرورة أن يبين منزلته وحقيقته والأمور التي تقدح فيه، والأمور التي تعين عليه.

    حقيقة الصبر:

    الصبر هو حجز النفس عن الجزع، واللسان عن الشكوى، والجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحوها.

    وهو خلق فاضل من أخلاق النفس، يمنع صاحبه من فعل ما لا يحسن ولا يحمد، وبه صلاح النفس وقوام أمرها.

    والصبر للنفس بمنزلة الخطام والزمام، فهو الذي يقودها في سيرها إلى الجنة أو النار، فإن لم يكن للمطية خطام, ولا زمام شردت في كل مذهب.

    والصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذابه.

    فإن الصابرون بعز الدارين، لأنهم نالوا من الله معية، فهو معهم بهدايته ونصره وفتحه: }إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ{يضاعف لهم الأجر ويوافيهم إياه بغير حساب، وكل عمل يعرف ثوابه إلا الصبر }إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ{رغب الله تعالى فيه بقوله: }وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ{وأخبر أن الصبر خير لأهله }وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ{.

    وعلق الفلاح في الدنيا والآخرة بالصبر }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ{. قال عمر – رضي الله عنه – (وجدنا خير عيشنا بالصبر). وقال الحسن – رضي الله عنه – (الصبر كنز من كنوز الجنة، لا يعطيه الله إلا لعبد كريم عنده). وقال علي رضي الله عنه: (ألا إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قطع الرأس بار الجسد، ثم رفع صوته فقال: ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له).

    أنواع الصبر ثلاثة:

    صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله.

    أما الصبر على الطاعات، فهو صبر على الشدائد، لأن النفس تنفر عن كثير من العبادات كسلاً وإيثاراً للراحة.

    ويحتاج العبد للصبر على طاعة الله في ثلاثة أحوال:

    1- صبر قبل الشروع في الطاعة بتصحيح النية, وتجنب دواعي الرياء، ولذا قدمه الله تعالى على العمل }إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ{.

    2- الصبر حال العمل كي يحقق الإخلاص, ولا يغفل عن الله أثناء العمل، ولا يكسل عن تحقيق آدابه وسنته وأركانه.

    3- الصبر بعد الفراغ من العمل، الصبر عن إفشائه والتظاهر به تجنبا للرياء، والصبر عن الإعجاب به، أو الإتيان بما يبطله، فالطاعة تحتاج إلى صبر ومجاهدة.

    أما الصبر عن المعاصي فيكون بحبس النفس عن متابعة الشهوات, وعن الوقوع في المحرمات، وفي الحديث: «وحفت النار بالشهوات». لأن النفوس تشتهيها, والخير أن يحبس العبد نفسه عن كل معصية.

    أما الصبر على أقدار الله, فيكون بالرضا والتسليم لقدر الله تعالى، وحبس اللسان عن الشكوى لغير الله تعالى، وحبس القلب عن التسخط والجزع، وحبس الجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحو ذلك.

    مراتب الصبر: وهي ثلاثة:

    الأولى: الصبر بالله: ومعناه الاستعانة به، وإن صبر العبد بربه لا بنفسه }وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ{ فإن لم يوفقك الله له لم تصبر.

    الثانية: الصبر لله: غالبا حث على الصبر محبة الله وإرادة وجهه.

    الثالثة: الصبر مع الله: وهو دوران العبد مع مراد الله وأحكامه صابراً نفسه معها، وهذا صبر الصديقين.

    الصبر في القرآن الكريم:

    ذكر الصبر في القرآن في نحو تسعين موضعاً:

    1-الأمر به }وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ{.

    2-النهي عن ضده وهو الاستعجال والجزع }فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ{.

    3-الثناء على أهله }أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ{.

    4-تعليق الإمامة في الدين بالصبر واليقين }وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ{.

    5-ثناء الله على عباده الصابرين وحبه لهم }وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ{.

    الصبر في السنة:

    قال النبي ﷺ‬: «من تصبر يصبره الله, وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع له من الصبر».

    وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل قال: إذا ابتليت عبدي بإحدى حبيبتيه – أي عينيه – فصبر عوضته منها الجنة».

    أمور تقدح في الصبر:

    1-الشكوى إلى المخلوق: فيشكو من يرحمه إلى من لا يرحمه، ولا ينافي الصبر الشكوى إلى الله تعالى، كشكوى يعقوب عليه السلام }إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ{.

    2-ما يفعله الناس عند نزول المصيبة من شق الجيوب ولطم الخدود وخمش الوجوه، ونتف الشعر, والدعاء بالويل والثبور ورفع الصوت عند المصيبة، ولا ينافى الصبر البكاء من غير كلام محرم }وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ{، قال قتادة: كظيم على الحزن, فلم يقل إلا خيراً.

    3-إظهار المصيبة والتحدث بها للناس، فمن البر كتمان المصائب والأمراض والطاعات، وقيل كتمان المصائب رأس الصبر.

    4-الهلع والجزع عند ورود المصيبة، والمنع عند ورود النعمة }إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا{.

    أخي الحبيب.. إن من لوازم الإيمان أن ترضى عن ربك سبحانه، فترضى بأحكامه، وترضى بقضائه وقدره، خيره وشره.

    إن الانتفائية بالإيمان بالقضاء والقدر ليست صحيحة، وهي أن ترضى فحسب عند موافقة القضاء لرغباتك، وتسخط إذا خالف مرادك وميلك، فهذا ليس من شأن العبد.

    إن قوماً رضوا بربهم في الرخاء, وسخطوا في البلاء, وانقادوا في النعمة، وعاندوا وقت النقمة, فكان جزاؤهم: فإن أصابه خير اطمأن به, وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة.

    رضينا بك اللهم رباً وخالقاً

    وبالمصطفى المختار نوراً وهادياً

    فإما حياة نظم الوحي سيرها

    وإلا فموت لا يسر الأعاديا

    إن الرضا بوابة الديانة الكبرى، منها يلج المقربون إلى ربهم، الفرحون بهداه، المنقادون لأمره، المستسلمون لحكمه ([1]).

    الأسباب المعينة على الصبر:

    1- المعرفة بطبيعة الحياة الدنيا، وما جبلت عليه من الكدر والمشقة.

    2- معرفتك بأنك وما بيدك ملك لله تعالى، ومرجعك إليه.

    3- اليقين بحسن الجزاء عند الله تعالى.

    4- الثقة بحصول الفرج.

    5- الاستعانة بالله تعالى.

    6-الاقتداء بأهل الصبر.

    ***

    ([1]) لا تحزن د/عايض القرني.