×
دلت نصوص الشرع من الكتاب والسنة على حقارة الدنيا ودناءتها، ودلت الفطرة والعقل على فنائها وزوالها، ودلت التجارب والمشاهدة على تنكر أحوالها وأيامها. فليس العاقل من يبني عليها آماله، وليس اللبيب من يضيع فيها أعمالها، وليس الرشيد من يشتري بها في الجنة مآله. وهذه المقالة تبين حقيقة الدنيا، وحال المؤمنين فيها.


    المقدمة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:

    فقد ورد في القرآن الكريم آيات ظاهرة كثيرة تذم الدنيا والحرص عليها. قال تعالى: }زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ{([1]).

    وقال تعالى: }وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ{([2]).

    ولقد حث رسول الله ﷺ‬ المسلمين على الزهد في الدنيا، والإقبال على الآخرة، وبين ذلك في أحاديث كثيرة منها: وله ﷺ‬: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرًا شربة ماء»([3]).

    ولقد شاء الله جل وعلا أن تكون للدنيا شهوات مثيرة، تجذب الناظر وتفتنه، فإما يتقوى عليها ويصبر، وإما يسقط صريعًا في أحضانها.

    فهي فتنة وامتحان جعلها الله جل وعلا حلوة خضرة واستخلف فيها الإنسان لينظر هل يكفر أو يشكر، وهل يعبد أو يجحد.

    قال ﷺ‬: «إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء».

    أخي الكريم:

    تبلغ من الدنيا بأيسر زاد

    فإنك عنها راحل لمعاد

    وغضَّ عن الدنيا وزخرف أهلها

    جفونك وأكحلها بطيب مهاد

    وجاهد عن اللذات نفسك جاهدًا

    فإن جهاد النفس خير جهاد

    وما هي إلا دار لهو وفتنة

    وإن قصارى أهلها لنفاذ

    فما هي حقيقة الدنيا؟ وما هو حال المؤمنين فيها؟!

    حقيقة الدنيا

    أخي المسلم, تذكر أن فلاح الإنسان على وجه هذه البسيطة يرتكز على نقطتين اثنتين:

    الأولى: العلم بحقيقة الدنيا وكنهها.

    الثانية: العمل بمقتضى تلك الحقيقة وفق الثوابت الدينية والقواعد الربانية التي تدل على الفقه السليم لذلك المقتضى.

    فمن كان جاهلاً بحقيقة الدنيا فهو مغرور بأحوالها، منساق لشهواتها أسير للذاتها. ومن علم بحقيقتها وخالف علمه عمله فهو أجهل الجاهلين وأشقى الأشقياء فيها, فما هي حقيقتها؟

    هي ظل زائل، وأحلام ليل، وسحابة صيف، وأضغاث أحلام، كل ما فيها يبلى، وكل ما عليها يفنى، لذاتها حسرات، وشهواتها آفات، وحلالها حساب، وحرامها عذاب، من أغنته أفقرته، ومن أسرته أبكته، لا تدوم على حال، وكل من عليها إلى زوال.

    يا طالب الدنيا الدنية إنها

    شرك الردى وقرارة الأقذار

    دار متى ما أضحكت في يومها

    أبكت غدا تبًا لها من دار

    عن العلاء بن زياد، قال: رأيت في النوم عجوزًا كبيرة عليها من كل زينة، والناس عكوف عليها متعجبون، ينظرون إليها، فقلت: من أنت ويلك؟ قالت: أما تعرفني؟ قلت: لا، قالت: أنا الدنيا. فقلت: أعوذ بالله من شرك. قالت: إن أحببت أن تعاذ من شري بأبغض الدرهم.

    أخي: فإذا كانت دار الدنيا بهذه الأوصاف الدنية الهابطة السافلة، فلماذا خلقها الله إذن؟ أقول: خلقها الله جل وعلا ابتلاء وامتحانًا للإنسان، يبتليه فيها بالخير والشر، ليرى منه أعماله، وليراقب أفعاله، فمن شكر فقد ربح وفاز، ومن كفر فقد خاب وخسر, قال تعالى: }الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا{.

    إنما الدنيا إلى الجنة والنار طريق

    والليالي متجر الإنسان والأيام سوق

    قال يحيى بن معاذ: الدنيا دار اشتغال، والآخرة دار أهوال، ولا يزال العبد بين الاشتغال والأهوال حتى مستقر القرار، إما إلى جنة وإما إلى نار.

    فهي محطة استراحة رحلة الإنسان منذ ولادته إلى يوم مماته، أوجد الله له فيها مطمعًا ومشربًا وملبسًا ومنكحًا ومسكنًا، ثم أرسل له رسلاً، وأنزل له كتبًا وأمره فيها بطاعته وعبادته، ونهاه عن مخالفته ومعصيته، وعرفه بأعدائه كلهم ومنهم الدنيا والشيطان والنفس الأمارة بالسوء والهوى، وحذره من الاغترار بهؤلاء الأعداء, فإن أطاعه في أمره واتبع تحذيره في نهيه، نجا وربح وإن هو عصى وطغى، وشب نيران الوغى، لمتابعة الشيطان والدنيا، والنفس والهوى؛ فقد هلك هلاكًا مبينًا. قال تعالى: }وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ{.

    فهذه السورة على قلة كلماتها واختصار عباراتها قد اشتملت على قواعد الربح والخسران في الدنيا، ولكن أين من يعي ويسمع ويستجيب!

    فليس الربح بجمع المال، والإقبال على الدنيا، وليس الفوز ببناء القصور والتطاول في البنيان واللهث وراء حطام الدنيا, وإنما هو إيمان وعمل صالح، وتواص بالحق والصبر على ذلك فتأمل:

    قد نادت الدنيا على نفسها

    لو كان في العالم من يسمعُ

    كم واثق بالعمر أفنيتهُ

    وجامع بددتُ ما يَجْمعُ

    وهذا رسول الله ﷺ‬ يبين لأمته حقيقة الدنيا بعبارات بينة واضحة يفهمها العربي من لغته قال ﷺ‬: «مالي وللدنيا؟ إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب قال تحت شجرة، ثم راح وتركها»([4]).

    فتأمل حفظك الله استنكاره ﷺ‬ للدنيا «مالي وللدنيا؟!» وتأمل وصفه للإنسان فيها، فقد وصفه «بالراكب» دلالة على السفر والرحيل والمغادرة.

    وتأمل وصفه لطبيعة استراحة هذا المسافر تحت الشجرة التي شبابها بالدنيا.. إنها لحظات قيلولة، إشارة لضيق أيامها وقلتها فإن المعلوم أن القيلولة أقل من المبيت ليلاً، وفي هذا من بيان قصر عمر الدنيا ما يفزع الضمير والعقل للعمل من أجل الدار الآخرة الباقية فتأمل.

    واعلم أخي أن أحوالك ثلاث:

    - حال لم تكن فيها شيئًا، وهي قبل أن توجد.

    - وحال أخرى، وهي من ساعة موتك إلى ما لا نهاية له في البقاء السرمدي، فإن لنفسك بعد خروجها من بدنك، إما في الجنة أو النار، وهو الخلود الدائم.

    وبين هاتين الحالتين حالة متوسطة، وهي أيام حياتك في الدنيا، فانظر إلى مقدار ذلك، وانسبه إلى الحالتين، تعلم أنه أقل من طرفة عين في مقدار الدنيا ([5]).

    إنما الدنيا فناء

    ليس للدنيا ثبوت

    إنما الدنيا كبيت

    نسجته العنكبوت

    أخي: لقد دلت نصوص الشرع من الكتاب والسنة على حقارة الدنيا ودناءتها، ودلت الفطرة والعقل على فنائها وزوالها، ودلت التجارب والمشاهدة على تنكر أحوالها وأيامها.

    فليس العاقل من يبني عليها آماله، وليس اللبيب من يضيع فيها أعمالها، وليس الرشيد من يشتري بها في الجنة مآله.

    قال تعالى: }اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ{([6]).

    وقال تعالى: }وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ{([7]).

    ولذلك فقد أخبر الرسول ﷺ‬ أن الدنيا بما فيها من خيرات وشهوات، هي سجت المؤمن؛ لأنها بمقابل ما عند الله من الخير والفضل لا تساوي شيئًا. قال ﷺ‬: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكفار»([8]).

    فالكافر يتنعم فيها ولو كان أفقر الناس وأحوجهم، لأنه مقبل على عذاب ونكال وحميم فهو في جنة نسبة إلى ذلك العذاب. أما المؤمن فإن الله جل وعلا قد أعد له في الجنة مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر لذلك فهو في الدنيا في سجن يحبسه عن الوصول إلى ذلك النعيم، ولذلك إذا بشر في قبره بالنعيم والمنزلة قال: رب أقم الساعة، وأما الكافر، فيقول حين يبشر بالعذاب: رب لا تقم الساعة. وقد بين رسول الله ﷺ‬ حقارة الدنيا في جانب ما أعده الله للمؤمنين فقال: ما الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بم ترجه؟!([9])

    أخي: فلا تغرنك أحوالها، ولا يستهوينك شيطانها، ولا يفتنك كلابها [ فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ]([10]).

    يا من تمتع بالدنيا وبهجتها

    ولا تنام عن اللذات عيناه

    أفنيت عمرك فيما لست تدركه

    تقول لله ماذا حين تلقاهُ؟

    أحوال الناس مع الدنيا

    أخي الكريم: أما موقف الناس من الدنيا، فقد اختلف اختلافًا بينا بحسب اختلاف إيمانهم ويقينهم وعزائمهم وإن كان القلة القليلة هم من فقه حقيقتها وعمل على نجاته منها قال تعالى: }وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ{.

    إن لله عبادًا فطنًا

    طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا

    نظروا فيها فلما علموا

    أنها ليست لحي وطنا

    جعلوها لجة واتخذوا

    صالح الأعمال فيها سفنا

    وقد قسم رسول الله ﷺ‬ الناس إلى أربع بحسب موقعهم من الدنيا.

    فقد روى أبو كبشة عن النبي ﷺ‬ قال: «إنما الدنيا أربعة نفر:

    1- عبد رزقه الله مالاً وعلمًا، فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقًا فهذا بأفضل المنازل.

    2- وعبد رزقه الله علمًا ولم يرزقه مالاً، فهو صادق النية، فيقول: لو أن لي مالاً لعملتُ بعمل فلان، فهو بنيته فأجرهما سواء.

    3- وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علمًا فهو يتخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم فيه لله حقًا، فهذا بأخبث المنازل.

    4- وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علمًا وهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته فوزرهما سواء»([11]).

    وإن المتأمل في أحوال الناس ليدرك أن هذا التقسيم يشملهم من غير زيادة ولا نقص. قال سفيان: احذر سخط الله في ثلاث: احذر أن تقصر فيما أمرك واحذر أن يراك وأنت لا ترضى بما قسم لك، وأن تطلب شيئًا من الدنيا فلا تجد أن تسخط على ربك.

    أخي: فإن رمت النجاة في هذه الدنيا فكن شاكرًا إذا أنعم الله عليك، صابرًا إذا ابتلاك سالكًا طريق الرضا والاستسلام للمقدور أيا كان ومتى كان.

    من شاء عيشًا رحيبًا يستطيل به

    في دينه ثم في دنياه إقبالاً

    فلينظرن إلى من فوقه ورعًا

    ولينظرن إلى من دونه مالاً

    قال شميط بن عجلان: من جعل الموت نصب عينيه لم يبال بضيق الدنيا ولا بسعتها. وقال محمد بن سوقة: أمران لو لم نعذب إلا بهما لكنا مستحقين بهما العذاب، أحدنا يزداد في دنياه فيفرح فرحًا، ما علم الله منه قط أنه فرح بشيء قط زيد في دينه مثله، وأحدنا ينقص من دنياه فيحزن حزنًا ما علم الله منه قط أنه حزن على شيء نقصه من دينه مثله.

    إن كنت نلت من الحياة وطيبها

    مع حسن وجهك عفة وشبابًا

    فاحذر لنفسك أن ترى متمنيًا

    يوم القيامة أن تكون سرابًا

    هكذا حال المؤمن مع الدنيا

    وهنا أقف معك أخي الكريم وقفة متأملة في كلمة قالها الحسن البصري رحمه الله عن حال المؤمن مع الدنيا. قال رحمه الله: المؤمن في الدنيا كالأسير يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئًا حتى يلقى الله عز وجل.

    ويفهم من كلامه رحمه الله، أن الدنيا ليست بدار يرضى عنها المؤمن، ولا بدار يأمنها فيحلو له العيش والاستقرار، وإنما يعيش فيها على أحد من الجمر صابرًا على فتنتها راضيًا بها قسمه الله له فيها، محتاطًا حذرًا من شهواتها ومغرياتها منتظرًا وعد الله للمؤمنين، مشتاقًا لمنزله الذي وعده الله به في جنة الخلد والنعيم!

    عنت الدنيا لطالبها

    واستراح الزاهد الفطن

    كل ملك نال زخرفها

    حسبه مما حوى الكفن

    يقتني مالاً ويتركه

    في كلا الحالين مفتتنُ

    قال يحيى بن معاذ: يا ابن آدم: طلبت الدنيا طلب من لابد له منها، وطلبت الآخرة طلب من لا حاجة له بها، والدنيا قد كفيتها وإن لم لتطلبها، والآخرة بالطلب منك تنالها، فاعقل شأنك.

    ولا يمكن للمؤمن أن يصلح حاله في الدنيا إلا بالجهاد، فجهادها أفرض الجهاد وأوجبه وهو أشق على النفس من جهاد العدو وقتله، لأن شرورها خفية، تتسلل إلى النفس لحظة الغفلة والسهو، فتكون أصعب عند الجهاد والمجاهدة. فالموفق من رآها بعين الاحتقار، وسمع أخبارها بأذن الاستصغار، وطلب بمجاهدتها الجنة دار القرار.

    ميزت بين جمالها وفعالها

    فإذا الملاحة بالقباحة لا تفي

    حلفت لنا ألا تخون عهودنا

    فكأنها حلفت لنا أن لا تفي

    قال عبد الله بن مسعود: من أراد الدنيا أضر بالآخرة، ومن أراد الآخرة أضر بالدنيا يا قوم، فاضروا بالفاني للباقي.

    وقال أبو الدرداء: كنت تاجرًا في الجاهلية، فلما جاء الإسلام أخذت التجارة والعبادة، فلم يجتمعا لي، فأقبلت على العبادة.

    فالمؤمن يعلم أن الدنيا وإن كانت من حلال فهي مظنة الفتنة والغواية، وأن المال فيها فتنة، وسبب لطول الحساب يوم القيامة، هذا إذا كان حلالاً أما إذا كان حرامًا فهو عذاب ونكال والعياذ بالله، ولذلك كان عمر t إذا رأى الفتوح يبكي ويقول: ما حبس الله هذا من نبيه ﷺ‬ وعن أبي بكر لشرٍّ أراده بهما وأعطاه عمر إرادة الخير له.

    وقال يحيى بن معاذ: الدرهم عقرب، فإن لم تحسن رقيته فلا تأخذه، فإنه إن لدغك قتلك سمه. قيل: ما رقيته؟ قال: أخذه من حله ووضعه في حقه. وقال: مصيبتان للعبد في ماله عنه موته لا تسمع الخلائق بمثلهما، قيل: ما هما؟ قال: يؤخذ منه كله، ويسأل عنه كله.

    حاسب زمانك في حالي تصرفه

    تجده أعطاك أضعاف الذي سلبا

    نفسي التي تملك الأشياء ذاهبة

    فكيف أبكي على شيء إذا ذهبا

    ولذلك كان الزهد في الدنيا، والإقبال على الآخرة، من صفات المؤمن وخصائصه وشمائله، فلا يجتمع في قلب المؤمن إقبال على الله وحرص على الدنيا. فالمؤمن منافس في الخير مسارع إلى الفضل والبر زاهد في الدنيا وأوحالها.

    فإنما الدنيا جيفة مستحيلة

    عليها كلاب همهن اجتذابها

    فإن تجتنبها منت سلمًا لأهلها

    وإن تجتذبها نافستك كلابها

    وقد أخبر رسول الله ﷺ‬ أن سبب فساد الدين هو الحرص على المال والتنافس في نيله، قال ﷺ‬: «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدنيه»([12]).

    وليس الزهد في الدنيا أن يترك المؤمن العمل وطرق الكسب الحلال، فيعرض نفسه للمذلة والسؤال. وإنما كما قال ابن قدامة المقدسي: «يتلمح حظ النفس في المشتهى، فإن كان في حظها حفظها وما يقيمها ويصلحها وينشطها للخير، فلا يمنعها منه، وإن كان حظها وما يقيمها ويصلحها وينشطها للخير، فلا يمنعها منه، وإن كان حظها مجرد شهوة ليست متعلقة بمصالحها المذكورة فذلك حظ مذموم، والزهد فيه يكون ([13]). ولذلك كان السلف يستعينون بالسراء والسعة على عبادة الله جل وعلا، وهذا مشروط بمن رأى في نفسه التوفيق للشكر.

    قال أبو إسحاق السبيعي: كانوا يرون السعة عونًا على الدين. وقال سفيان: المال في زماننا هذا سلاح المؤمنين.

    وخلاصة الأمر، أن المؤمن الصادق يكفيه من الدنيا ما يكفيه لعيشه، وشد حاجته عن السؤال، فإذا أتاه الله من المال إكرامًا وإنعامًا عرف حق الله فيه واحتاط من فتنته وسأل الله الثبات.

    هي القناعة لا تبغي بها بديلاً

    فيها النعيم وفيها راحة البدن

    انظر لمن ملك الدنيا بأجمها

    هل راح منها بغير القطن والكفن

    أخي: خير ما أختم به هذا المقال وصية رسول الله ﷺ‬ لابن عمرو، قال رضي الله عنهما: أخذ رسول الله ﷺ‬ بمنكبي فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك ([14]).

    فاللهم لا عيش إلى عيش الآخرة ([15])، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    كتبه: أبو الحسن الصغيور

    ([1]) آل عمران 14، 15.

    ([2]) آل عمران 185.

    ([3]) رواه الترمذي وقال: حديث صحيح غريب.

    ([4]) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

    ([5]) مختصر منهاج القاصدين ص213.

    ([6]) الحديد، الآية: 20.

    ([7]) الزخرف، الآية: 35.

    ([8]) رواه مسلم.

    ([9]) رواه مسلم.

    ([10]) النجم، الآية 29، 30

    ([11]) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

    ([12]) رواه الترمذي والحديث صحيح.

    ([13]) منهاج القاصدين ص216.

    ([14]) رواه البخاري.

    ([15]) حديث مرفوع متفق عليه.