×
مقالة تذكر بأهمية تذكر آية النفس، لنعرف حقيقتها ونؤدي حق الله فيها ونشكره على نعمه الجليلة.


    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله القائل: }وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ{ [الذاريات: 20-22]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحق المبين، ذكر بآياته المؤمنين، ونبه الغافلين، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، سيد الخلق أجمعين، وأكثر الذاكرين، وإمام المبشرين ﷺ‬، كلما ازداد الإنسان بالنظر اعتبارًا وبالتفكير استذكارًا، وعلى آله وصحبه ومن سلم طريقه إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    أحبتي في الله تعالى: اتقوا الله }الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ{ [غافر: 64-66]. راقبوه في سركم، وراقبوه في جهركم، وراقبوه في شدتكم وفي رخائكم، }وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ{ [الحشر: 19]. ذكروا أنفسكم بأنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأنه الذي يبعث من في القبور، ويحصل ما في الصدور، وأنه العليم الخبير، واعمروا حياتكم بالتذكير؛ فإنه الخير في تذكير النفوس بربها الذي خلقها من عدم إلى وجود، وتكفل برزقها، وأسبغ عليها نعمه ظاهرة وباطنة، وتذكيرها بالاقتداء برسولها لتكون على صراط الله المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وتذكيرها بدينها الذي يقتضي الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك، والتبرؤ من أهله، وتذكيرها بكتابها لتقرأه وتعمل به وتصدق بخبره، وتطبق أحكامه.

    والتذكير بذلك أمر مطلوب؛ لأن الله تعالى أمر به فقال: }وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ{ [الذاريات: 55]، ولأن التذكير مهمة الرسول ﷺ‬. يقول تعالى: }فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى{ [الأعلى: 9]، ويقول: }فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ{ [الغاشية: 21]، ولأن القرآن جاء مذكرًا. يقول تعالى: }كَلا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ{ [المدثر: 54، 55] ولأن القرآن نزل من أجل التذكير والتدبر. يقول تعالى: }كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ{ [ص: 29].

    وفي التذكير حياة القلوب ونورها وسلامتها. يقول تعالى: }وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ{ [يس: 69، 70]، ويقول: }أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ{ [الزمر: 22].

    وفي التذكير سلامة من الغفلة التي نهى الله عنها فقال: }وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ{ [الأعراف: 205]، وذم أهلها فقال: }وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ{ [الأعراف: 179].

    والتذكير انتصار على الشيطان الذي يدعو إلى السيئات. قال تعالى: }وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ{ [الأنعام: 68].

    والتذكير حفظ للحياة من الضياع، وللشباب من الهوى والشهوة، وللصحة من اللهو واللعب، وللمال من الرياء والإسراف، وقد ذكرنا الله تعالى بآياته الشرعية والكونية التي تدل على وجوده، وعلى ربوبيته، وعلى ألوهيته، وهذه الآيات تذكر العبد بعبوديته لربه ليطيعه فلا يعصاه، ويَذكره فلا ينساه، ويشكره فلا يكفره، وتذكره بوظيفته التي من أجلها خلق.

    وإن أولى الآيات بالتذكر آية النفس؛ لتعرف حقيقتها وتؤدي حق الله فيها وتشكره على نعمه الجليلة، وقد ذكرنا الله بآية النفس في كتابه فقال تعالى: }وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ{ [الذاريات: 20، 21]، ويقول تعالى: }سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ{ [فصلت: 53]، وأول آيات النفس خَلْقُ أبينا آدم u؛ إذ خلقه الله من تراب، قبض قبضة من جميع الأرض؛ من بياضها وسوادها ومن حمرتها ومن سهلها وحزنها ومن طيبها وخبيثها، فجاء بنو آدم كذلك؛ فمنهم الأبيض، ومنهم الأحمر، ومنهم بين ذلك، ومنهم السهل، ومنهم الحزن، ومنهم الطيب، ومنهم الخبيث، ومنهم بين ذلك؛ يقول ﷺ‬: «إن الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والسهل والحزن والخبيث والطيب وبين ذلك... ولما أتم خلقه نفخ فيه من روحه، وأول ما وقعت عليه الروح رأسه، ثم عيناه، ثم أنفه، فعطس، ثم لسانه، فحمد الله، ثم مرت في جميع جسده، وكرمه الله بأربع خصال: خلقه بيده، وأسجد له ملائكته، ونفخ فيه من روحه، وعلمه الأسماء. يقول تعالى: }إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ{ [ص:71]، ويقول: }وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ{ [الروم: 20].

    وفي خلق آدم من تراب دلالة على قدرة الله تعالى وعلى عظمته، وأنه الذي يقول للشيء كن فيكون، وأنه الذي يفعل ما يريد؛ فقد جعل من التراب بشرًا سويًا، يأكل ويشرب ويتكلم ويبصر ويسمع ويمشي ويتحرك، وجعل خلافة الأرض فيه، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً، وسخر له ما في السموات والأرض، وفي خلقه من تراب دعوة إلى التواضع وترك التكبر والخيلاء؛ فإن من دواعي التراب الرزانة والثبات والسكينة والتواضع.

    ومن الآيات في النفس خلق الإنسان من قطرة ماء حقيرة تخرج من بين الصلب والترائب، وتجمع من الذكر والأنثى، وجعلها في قرار مكين في ظلمات ثلاث، حتى أصبحت قطعة لحم ليس فيها عظم، ولو بقيت كذلك ما استطاع الإنسان أن يقوم ولا يتحرك ولا يدفع عن نفسه ضرًا ولا يجلب لها نفعًا؛ ولكن الله تعالى خطط هذه اللحمة وقواها بالعظام التي قام بها الجسد وتحرك؛ فما من مكان في الجسد إلا وفيه عظام إلا البطن واللسان، وجعل في هذه العظام (360) مفصلاً ولو لم توجد هذه المفاصل لكان البدن كقطعة الحديد الواحدة التي لا تنثني ولا تتحرك ولا تفيد صاحبها ولا تفيد غيره، واعلم أن كل مفصل يطالبك كل يوم بصدقة ينبغي أداؤها وأنت مدين بها حتى تؤديها، يقول ﷺ‬: «يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة؛ فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ عن ذلك ركعتان تركعهما من الضحى».

    وأداء حسنة لكل مفصل كل يوم حفظ له وإدامة لشكره لربه وأداء لحق الله عليه، وقد أجرى من البدن (360) عرقًا تنقل الدم من القلب إلى بقية الجسد وتنقله من الجسد إلى القلب؛ إذ يضخ القلب إلى البدن (6500) لتر يوميًا، ويتضاعف مع الأم عند حملها؛ إذ يضخ في آخر الحمل (15.000) لتر يوميًا، ولو انسد أحد هذه العروق لأصيب الإنسان بالجلطة ولتعطلت حركته، والبدن لا ينمو إلا على الدم، والدم لا يتولد إلا من الطعام والشراب، وقد كان طعام الطفل في بطن أمه من طريق واحد وهو الحبل السري، فلما نزل من بطن أمه قطع سُرُّه وأصبح طعامه من طريقين هما ثديا أمه، حليبًا سائغًا للشاربين يجده باردًا في الحر دافئًا في البرد؛ فالطفل يشارك أمه طعامها وشرابها في بطنها وبعد وضعه، والويل له لو عقها، وضاعف الله له طريق الغذاء بعد كبره؛ إذ يتغذى من أربعة طرق هي الماء واللبن والخبز واللحم، ولو استقام على شرع الله ضاعف الله له الطريق؛ إذ يفتح له أبواب الجنة الثمانية: }وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ{ [البقرة: 261].

    يقول الله تعالى: }خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ{...الآية [الزمر: 6]، ويقول ﷺ‬: «إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم ينفخ فيه الروح، ثم يؤمر بأربع كلمات: يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد».

    ومن آيات الله في النفس اللسان؛ إذ هو قطعة لحم صغيرة أجرى الله فيه الكلام؛ إذ يتكلم بالساعات ولا يتعب، وفيه سبع عشرة عضلة تحركه في جميع الاتجاهات، وهو ترجمان البدن الذي ينطق عن كل جارحة ويظهر كل خافية، وبه يكتسب الإنسان الأجر، ويغفر الوزر، وبه يتميز الإنسان عن الحيوان؛ فللدواب ألسن أكبر من لسان الإنسان ولكنها لا تتكلم. فتصور عبد الله هذه القطعة الصغيرة من اللحم كيف تتكلم بأصوات مختلفة، وتَفكر كيف جعل الله اللسان في الفم خلف مغلاقين إحداهما من العظام القوية والآخر من اللحم المشدود، وتَفَكَّر كيف جعل الله فراشه في الفم أَلْين من الحرير، ولحافه أَلْين من الحرير، وكيف جعل لحمًا بلا عظم لتخف حركته ولا يتعب، وتفكر كيف جعل الله ماءه دائمًا لا ينقطع؛ ليبقى اللسان لينًا، وجعله حلوًا؛ ليكون الطعام والشراب لذيذًا، فاحرص على هذه النعمة فلا تضيعها، واعلم أن أطيب ما في جسدك لسانك وقلبك؛ فقد قال سيد للقمان : أعطني أطيب ما في الذبيحة. ثم قال: أعطني أخبث ما فيها. فأعطاه اللسان والقلب، وقال: هما طيبان إن طابا، وخبيثان إن خبثا.

    واجعله رطبًا بذكر الله طيبًا برضوان الله، قائدًا إلى الجنة، وقل به الخير أو اصمت، واجعل كلامه مضاعفة في الأجر ومغفرة للوزر وقربة للرب تعالى، واملك به الإسلام وأبواب الخير كلها.

    ومن آيات الله في النفس العين، آلة الإبصار ونافذة الجسد إلى المخلوقات الأخرى، وباب التدبر والاعتبار، جعلها الله لونين: لون أبيض ليجمع البصر، ولون أسود لينفذ البصر؛ وهذه حكمة عظيمة؛ إذ المألوف أن البياض هو النور والأسود هو الظلام، ولكنه في العين معكوس بقدرة العلي العظيم.

    والعين شحمة قوية لا تتأثر بالحر ولا بالبرد، أجرى الله فيها ماءً مالحًا ليحفظها وينظفها، ولو كان عذبًا مع حرارته لذابت العين من شدة حرارته.

    والعين تتكون من أربع طبقات هي: الصلبة، والقرنية، والمشيمة، والشبكية، وتتكون الشبكية من تسع طبقات؛ منها أعواد ومخروطات؛ عدد الأعواد ثلاثون مليون عودًًا، وعدد المخروطات ثلاثة ملايين مخروطًا، وفيها مستقبلات للضوء تقدر بمائة وثلاثين مليونًا، والعين أحد الشهود على العبد يوم القيامة. قال تعالى: }حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ{ [فصلت: 20]. وقد أمر الله بغضها فقال: }قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ{ [النور: 30]، وقال: }وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ{ [النور: 31]، وأمر الرسول ﷺ‬ بغضها فقال: «غض بصرك». وفي غض البصر عن المحرمات ثلاث كرامات:

    الكرامة الأولى: حلاوة الإيمان.

    والثانية: نور الإيمان.

    والثالثة: فرار الشيطان منه.

    والعين الطائعة لا تمسها النار. يقول ﷺ‬: «عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله».

    ومن آيات الله في النفس آية الأذن، وهي آلة السمع ونافذة المخلوفات إلى الجسم، وباب العلم والوعي، وقد جعلها الله عظمًا غضروفيًا أسطواني الشكل لا غطاء عليه؛ ليسمع به الإنسان من كل مكان، وأودع فيه مادة مُرة كريهة الرائحة؛ لحفظه من الأذى ومن دخول الدواب إليه.

    والأذن ثلاث: الخارجية والوسطى والداخلية. وفي الأذن مائة ألف خلية سمعية، والأذن إما أن تكون منفذ خير إلى الجسد إذا سمعت الخير ووعته وعملت به ودعت إليه، عملاً بقوله ﷺ‬: «نضر الله امرءًا سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها». وإما أن تكون منفذ شر إلى الجسد إذا فتحها صاحبها لغضب الله وسخطه.

    وأول تلقي الطفل للخير من أذنه عندما يؤذن في أذنه اليمنى إذا ولد، وقد تكون الأذن شاهدة على العبد إذا استعملها في سماع المعاصي من الغناء وما شابهه؛ لقوله تعالى: }حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ{ [فصلت: 20].

    ومن آيات الله في النفس الأنف الذي قسم الله به الوجه إلى نصفين، وهو مدخل الهواء إلى الجسم ومخرجه، وقد زينه بشعر من داخله لحفظه من الأتربة ونحوها؛ حتى لا تدخل على الجسم فتضر به، وأجرى فيه عينًا مرة لا تنقطع، ومن حكمة ذلك لتخفف الهواء البارد والحار إذا دخل إلى الجسم ليعتدل، فيستفيد منه الجسم ولا يتضرر، والأنف باب مفتوح دائمًا لا يغلق؛ لحاجة الإنسان إلى النفس؛ إذ يتنفس في اليوم أربعة وعشرين ألف نفس، وهو يغني عن فتح الفم، ولو لم يكن موجودًا لاحتاج الإنسان إلى فتح الفم دائمًا، ولدوام فتحه لا ينام الشيطان إلا فيه.

    ومن السنة الاستنثار عند القيام من النوم؛ لتطهيره من نوم الشيطان فيه، ومنها أن في الرقبة مجريين متجاورين؛ أحدهما للطعام وهو البلعوم والثاني للنفس وهو الحلقوم، وبينهما حارس يمنع دخول الهواء إلى مجرى الطعام ويمنع دخول الطعام إلى مجرى النفس، ولو دخل الطعام إلى مجرى النفس فقد يموت الشخص.

    ومنها الرأس الذي يشتمل على ثلاثة وعشرين عظمة، وفيه ثلاثة مخازن؛ الأولى للحفظ، والوسطى للتأمل والتفكر، والأخيرة للاستذكار، وتصور صغر حجم الرأس، وكم يحفظ من القرآن والأحاديث والآثار والأشعار }إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ{ [ق: 37].

    ومنها اليد التي هي قوة الإنسان وجيشه الذي يدافع عنه ويأخذ بها حقه؛ فما كأن في الجسد إلا اليد، ولذا استغنى القرآن بذكرها عن ذكر النفس في امتلاك المال وفي كسب العمل في الكثير من الآيات، يقول تعالى: }وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ{ [النساء: 36]، ويقول: }وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ{ [البقرة: 195]، وللجسم يدان؛ إحداهما أقوى من الأخرى، وكل يد تتكون من خمسة أصابع؛ أقواها الإبهام ثم المسبحة ثم الوسطى ثم البنصر ثم الخنصر، وكل إصبع به ثلاثة أنامل، وفيها الكف والساعد والعضد.

    ومن الآيات القدم؛ فللإنسان قدمان بسطهما الله لحمل الجسد واستقراره؛ فهي كالدابة للإنسان؛ جسمه راكب عليها وهي ناقلة له، وتصور كم وزن الجسم الذي قد يصل إلى مائة كيلو أو أكثر، تحمله القدمان صغيرتا الحجم دقيقتا الساقين، فسبحان الخالق العظيم.

    ومن الآيات المعدة مخزن الطعام والشراب وطاحون الجسم؛ يبقى الطعام فيها ما لا يقل عن أربع ساعات، تعجنه عجنًا مع أنها لحمة، ومع ذلك تكسر الأجسام الصلبة، وعلى جدرانها شعيرات دموية تنقل الغذاء بأمانة وعدل إلى جميع أجزاء الجسم، وتعطي كل جزء حقه من غير زيادة ولا نقصان، ولذلك ينمو الجسد معتدلاً متساويًا.

    وفي المعدة (35) مليون غدَّة للإفراز، وفي الجسم (25) مليون كرية دم حمراء لنقل الأكسجين للجسد، وفيه (25) مليار كرية دم بيضاء لمقاومة الجراثيم ولمناعة البدن.

    وليس هذا إلا نزر قليل وإشارة بسيطة، وإلا فما لم نذكره أكثر مما ذكرناه، فهل نتذكر وهل نعتبر وهل نستخدم هذا البدن في طاعة الله ونسخره في العمل الصالح، وهل نشكر به الخالق العظيم، وهل نأتمر بأمره وننتهي عن نهيه، ونراقبه ونؤدي حقه، ذلك أمر مطلوب يغفر الله به الذنوب ويستر به العيوب ويغذي القلوب، وبه يفوز بالمطلوب وينجو من المرهوب، وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد بن عبد الله.

    * * * *