الإسلام دين كامل
ترجمات المادة
التصنيفات
- الدعوة إلى الله >> الدعوة إلى الإسلام >> تعريف الإسلام
- الدعوة إلى الله >> الدعوة إلى الإسلام >> حاجة البشرية إلى الإسلام
- الدعوة إلى الله >> الدعوة إلى الإسلام >> محاسن الإسلام وفضائله
- الدعوة إلى الله >> الدعوة إلى الإسلام >> دعوة غير المسلمين >> دعوة النصارى
- الدعوة إلى الله >> الدعوة إلى الإسلام >> دعوة غير المسلمين >> دعوة الهندوس
- الدعوة إلى الله >> الدعوة إلى الإسلام >> دعوة غير المسلمين >> دعوة الملاحدة
- الدعوة إلى الله >> الدعوة إلى الإسلام >> دعوة غير المسلمين >> دعوة اليهود
الوصف المفصل
آثَارُ الشَّيْخِ العَلَّامَةِ مُحَمَّد الأَمِيْن الشِّنْقِيطِيِّ (11) المُحَاضَرَاتُ للشّيْخِ العَلَّامَةِ مُحمَّدِ الأَمِين بْن محمَّد المخْتار الجكني الشِّنْقِيطِيِّ (1325 هـ - 1393 هـ) إشْرَاف بَكر بن عَبدِ اللهِ أَبُو زَيد دَارُ عَطَاءَاتِ العِلمِ - دار ابن حزم
(1/1)
- أ - مقَدّمة الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: فهذه مجموعة من المحاضرات التي ألقاها فضيلة الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله تعالى- وهي كالتالي بحسب ترتيبها هنا: 1 - الإسلام دين كامل ألقاها الشيخ في المسجد النبوي بحضور ملك المغرب محمد الخامس، شرح فيها قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة/ 3] وبين أن الإسلام لم يترك شيئًا يحتاج إليه الخلق إلا بيَّنه، وضرب لذلك مثلًا بعشر مسائل عِظَام. 2 - المصالح المرسلة وهي محاضرة أملاها الشيخ، وأُلقيت نيابة عنه في الموسم الثقافي بالجامعة الإسلامية لعام 1390. 3 - منهج التشريع الإسلامي وحكمته محاضرة ألقاها الشيخ في مفتتح الموسم الثقافي بالجامعة الإسلامية عام 1384. 4 - منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات محاضرة ألقاها بالجامعة الإسلامية بتاريخ 13/ رمضان/ 1382.
(1/2)
- ب - بيَّن فيها اعتقاد السلف في الأسماء والصفات، وردّ فيها على المخالفين عقلًا ونقلًا. 5 - المُثُل العليا في الإسلام محاضرة ألقاها في مفتتح الموسم الثقافي لعام 1385. وألحقنا بهذه المحاضرات ما يلي: 6 - فتوى في تحريم التعليم المختلط وهو جواب على سؤال وُجِّه إلى الشيخ -رحمه الله تعالى- من رئيس جمعية الإصلاح الاجتماعي بالكويت عام 1389 يسأل عن حكم الشرع في اختلاط الجنسين في الدراسة الجامعية. 7 - رسالة في الآيات المنسوخة في القرآن وهي شرح لأبيات السيوطي في "الإتقان": (2/ 66) التي نظم فيها الآيات المنسوخة، فشرحها الشيخ شرحًا مختصرًا وكتبها عنه الشيخ عطية سالم عام 1372، وألحقها بالجزء الأخير من "أضواء البيان" ورأينا إلحاقها بالمحاضرات تكميلًا للفائدة. 8 - محاضرة حول شبهة الرقيق في الإسلام وهي محاضرة كتبها الشيخ في عام 1385 وألقاها عنه تلميذه الشيخ محمد رشاد سالم وهو حاضر، ثم طبعت بعد ذلك في رسالة
(1/3)
- جـ - لطيفة مع مقدمة مطوّلة للشيخ محمد رشاد، وقد علق على بعض المواضع فيها فأثبتنا تعليقاته وختمناها بحرف [ع]. وهذه المحاضرة لم تكن في الطبعات السابقة، فألحقناها بهذه الطبعة، وقد أرسَلَتْها لي إحدى الأخوات الدارسات في مرحلة الدكتوراه جزاها الله خيرًا. وقد اعتمدنا في تصحيح هذه المحاضرات وما تبعها على أقدم الطبعات التي وقفنا عليها، مع تصحيح ما فيها من خطأ أو نحوه، مع الاهتمام بعلامات الترقيم وتوزيع النص، وقد حصلنا في المحاضرة الرابعة (منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات) على شريط مسجَّل واضح، فأثبتنا المحاضرة منه مستغنين به عن الطبعات. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه. علي بن محمد العمران 26/ 11/ 1436 هـ
(1/4)
المحَاضرة الأولى الإسلام دينٌ كاملٌ
(1/5)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين. وبعد؛ فهذه محاضرة ألقيتها في المسجد النبوي بطلب من ملك المغرب فطلب مني بعض إخواني تقييدها لنشرها، فلبيتُ طلبه راجيًا من الله أن ينفع بها. قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة/ 3]، ذلك اليوم يوم عرفة، وهو يوم الجمعة في حجة الوداع، نزلت هذه الآية الكريمة والنبي - صلى الله عليه وسلم - واقف بعرفات عشية ذلك اليوم، وعاش - صلى الله عليه وسلم - بعد نزولها إحدى وثمانين ليلة، وقد صرح الله تعالى في هذه الآية الكريمة أنه أكمل لنا ديننا فلا ينقصه أبدًا، ولا يحتاج إلى زيادة أبدًا، ولذلك ختم الأنبياء بنبينا، عليهم صلوات الله وسلامه جميعًا، وصرَّح فيها أيضًا بأنه رضي لنا الإسلام دينًا فلا يَسْخَطَه أبدًا، ولذا صرَّح بأنه لا يقبل غَيره من أحد، قال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران/ 85]. {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران/ 19]، وفي إكمال الدين وبيان جميع أحكامهِ كلُّ نِعَم الدارين، ولذا قال: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيكُمْ نِعْمَتِي}. وهذه الآية الكريمة نصٌّ صريح في أن دينَ الإسلام لم يترك شيئًا
(1/7)
يحتاج إليه الخلق في الدنيا ولا في الآخرة إلا أوضحه وبيَّنه كائنًا ما كان، وسنضرب لذلك المثل ببيان عشر مسائل عظام عليها مدار الدنيا من المسائل التي تهم العالم في الدارين، وفي البعض تنبيه لطيف على الكل. الأولى: التوحيد، الثانية: الوعظ، الثالثة: الفرق بين العمل الصالح وغيره، الرابعة: تحكيم غير الشرع الكريم، الخامسة: أحوال الاجتماع بين المجتمع، السادسة: الاقتصاد، السابعة: السياسة، الثامنة: مشكلة تسليط الكفار على المسلمين، التاسعة: مشكلة ضعف المسلمين عن مقاومة الكفار في العَدَدِ والعُدَدِ، العاشرة: مشكلة اختلاف القلوب بين المجتمع. ونوضح علاج تلك المشاكل من القرآن، وهذه إشارة خاطفة إلى بيان جميع ذلك بالقرآن تنبيهًا به على غيره. المسألة الأولى: وهي التوحيد. فقد عُلِم باستقراء القرآن أنه منقسم إلى ثلاثة أقسام: النوع الأول: توحيده جل وعلا في ربوبيته وهذا النوع من التوحيد جُبلَتْ عليه فطرُ العقلاء، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف / 87]، الآية، وقال: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} إلى قوله: {أَفَلَا تَتَّقُونَ (31)} [يونس / 31]، والآيات بنَحْوِ ذلك كثيرة. وإنكار فرعون لهذا النوع في قوله: {قَال فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ
(1/8)
الْعَالمِينَ (23)} [الشعراء / 23] = مكابرةٌ وتجاهل، بدليل قوله: {قَال لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء / 102] الآية، وقوله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل / 14]، ولهذا كان القرآن ينزل بتقرير هذا النوع من التوحيد بصيغة استفهام التقرير، كقوله: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} [إبراهيم / 10]، وقوله: {قُلْ أَغَيرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيءٍ} [الأنعام / 164] وقوله: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} [الرعد / 16] ونحو ذلك لأنهم يقرون به. وهذا النوع من التوحيد لم ينفع الكفار لأنهم لم يوحدوه جل وعلا في عبادته، كما قال: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)} [يوسف / 106]، {مَا نَعْبُدُهُمْ إلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر / 3]، {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ} [يونس / 18] الآية. النوع الثاني: توحيده جل وعلا في عبادته، وهو الذي وَقَعت فيه جميع المعاركِ بين الرسلِ والأمم، وهو الذي أُرْسلَت الرسل لتحقيقه، وحاصلُه هو معنى لا إله إلا الله، فهو مبنيٌّ على أصلين: هما النَّفيُ والإثبات من: (لا إله إلا الله) فمعنى النفي منها: خلع جميع أنواع المعبودات غير الله تعالى في جميع أنواع العبادة كائنة ما كانت، ومعنى الإثبات منها: هو إفراده جل وعلا وحده بجميع أنواع العبادة على الوجه الذي شرع أن يُعبدَ به، وجُلُّ القرآن في هذا النوع: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل / 36]، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلا نُوحِي إِلَيهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إلا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)}
(1/9)
[الأنبياء / 25]، {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة / 256]، الآية، {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)} [الزخرف / 45]، {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108)} [الأنبياء / 108]، والآيات في هذا كثيرة جدًّا. النوع الثالث: هو توحيده جل وعلا في أسمائه وصفاته، وهذا النوع من التوحيد ينبني على أصلين كما بينه جل وعلا. الأول: هو تنزيهه تعالى عن مشابهة صفات الحوادث. الثاني: هو الإيمان بكل ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - حقيقة لا مجازًا، على الوجه اللائق بكماله وجلاله، ومعلومٌ أنه لا يصفُ اللَّهَ أعلمُ بالله من الله ولا يصفُ اللهَ أعلمُ بالله من رسولِ الله، والله يقول عن نفسه: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة / 140]. ويقول عن رسوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم / 3 - 4]، فقد بين تعالى نفي المماثلة عنه بقوله: {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ} [الشورى / 11] , وبيَّن إثبات الصِّفات له على الحقيقة بقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} فأول الآية يقضي بعدم التعطيل، فيتضح من الآية أن الواجب إثبات الصفات حقيقة من غير تمثيل، ونفي المماثلة من غير تعطيل. وبَيَّنَ عجز الخلق عن الإحاطة به جل وعلا قال: {يَعْلَمُ مَا بَينَ أَيدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110} [طه / 110].
(1/10)
المسألة الثانية: التي هي الوعظ. فقد أجمع العلماء على أن الله تعالى لم يُنْزِلْ من السماء إلى الأرض واعظًا أكبَر ولا زاجرًا أعظم من موعظة المراقبة والعلم، وهي أن يُلاحظ الإنسان أن ربه جل وعلا رقيب عليه، عالم بكل ما يُخفي وما يُعْلِن. وضربَ العلماءُ لهذا الواعظ الأكبر والزاجر الأعظم مثلًا يصيرُ به المعقول كالمحسوس، قالوا: لو فرضنا ملكًا سفَّاكًا للدماء، قتَّالًا للرجال، شديدَ البطش والنكال، وسيَّافُه قائم على رأسه، والنطع مبسوط، والسيف يقطر دمًا، وحول ذلك الملك بناته وأزواجه، أيخطر في البال أن يهمَّ أحد من الحاضرين بريبة أو نيل حرام من بنات ذلك الملك وأزواجه وهو عالم به ناظر إليه؟ لا، وكلا، ولله المثل الأعلى، بل كل الحاضرين يكونون خائفين، خاضِعةً قلوبُهم، خاشعة عيونُهم، ساكنةً جوارحهم، غايةُ أمانيهم السلامةُ، ولا شك -ولله المثل الأعلى- أن الله جل وعلا أعظمُ اطلاعًا وأوسعُ علمًا من ذلك الملك، ولا شك أنه أعظم نكالًا وأشدُّ بطشًا وأفظعُ عذابًا، وحِماهُ في أرضه محارمُه، ولو علم أهلُ بلدٍ أن أميرَ البلد يُصبحُ عالمًا بكل ما فعلوه بالليل لباتوا خائفين وتركوا جميع المناكرِ خوفًا منه. وقد بيَّن تعالى أن الحكمةً التي خُلق الخلق من أجلها هي أن يَبْتَلِيَهُم أي: يختبرهم {أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)} [الكهف / 7]، قال في أول سورة هود: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود / 7] ولم يقل: أيكم
(1/11)
أكثر عملًا. وقال في الملك: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)} [الملك / 2]. وهاتان الآيتان تبينان المراد من قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات / 56]، ولما كانت الحكمة في خلق الخلائق الاختبار المذكور، أراد جبريل أن يُبيِّن للناس طريق النجاح في ذلك الاختبار، فقال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أخبرني عن الإحسان، أي وهو الذي خُلِق الخلْقُ لَأجل الاختبار فيه، فبين - صلى الله عليه وسلم - أن طريق الإحسان هيَ هذا الزاجر الأكبر، والواعظ الأعظم المذكور فقال: "هو أن تعبد الله كأنك تراه، فإنْ لم تَكُنْ تراه فإنه يراك" (1). ولهذا لا تَقْلب ورقةً من المصحف الكريم إلا وجدت فيها هذا الواعظ الأعظم: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق / 6]، {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلا لَدَيهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} [ق / 18]، {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)} [الأعراف / 7]، {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إلا كُنَّا عَلَيكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)} [يونس / 61]. {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)} [هود / 5]. ونحو هذا في كل موضع من القرآن. __________ (1) متفق عليه.
(1/12)
المسألة الثالثة: التي هي الفرق بين العمل الصالح وغيره. فقد بين القرآن العظيم أن العمل الصالح هو ما استكمل ثلاثة أمور، ومتى اختلَّ واحد منها فلا نفع فيه لصاحبه يوم القيامة. الأول: أن يكون مطابقًا لما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الله يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر / 7]، ويقول: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء / 80]، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران / 31] الآية، {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى / 21]، {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)} [يونس / 59]. الثاني: أن يكون خالصًا لوجهه تعالى؛ لأنه يقول: {وَمَا أُمِرُوا إلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة / 5] الآية، ويقول: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر / 11 - 15]. الثالث: أن يكون مبنيًّا على أساس العقيدة الصحيحة؛ لأن العمل كالسقف، والعقيدة كالأساس. قال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النساء / 124]، فقيَّد ذلك بقوله: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ}. وقال في غير المؤمن: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان / 23]. وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا
(1/13)
صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود / 16]، إلى غير ذلك من الآيات. المسألة الرابعة: التي هي تحكيم غير الشرع الكريم: فقد بين القرآن أنها كفر بواح وشرك بالله تعالى، ولما أوْحَى الشيطان إلى كفار مكة أن يسألوا نبينا - صلى الله عليه وسلم - عن الشاة تُصْبِحُ ميتة من قتلها؟ فقال: "الله قتلها"، فأوحى إليهم أن يقولوا له: ما ذبحتموه بأيديكم حلال، وما ذبحه الله بيده الكريمة حرام، فأنتم إذن أحسن من الله! أنزل الله: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)} [الأنعام / 121]. وعدم دخول الفاء على جملة: {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)} قرينة ظاهرة على تقدير لام توطئة القسم، فهو قَسَم من الله أقسم به -جل وعلا- في هذه الآية الكريمة على أن من أطاع الشيطان في تشريعه تحليلَ الميتة = أنه مشرك، وهو شرك أكبر مخرج عن الملة الإسلامية بإجماع المسلمين، وسيوبخ الله يوم القيامة مُرْتَكِبه بقوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)} [يس / 60 - 61]، وقال تعالى عن خليله: {يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيطَانَ إِنَّ الشَّيطَانَ} [مريم / 44] أي باتباعه في تشريع الكفر والمعاصي، وقال: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إلا شَيطَانًا مَرِيدًا (117)} [النساء / 117]، أي ما يعبدون إلا شيطانًا وذلك باتباعهم تشريعه. وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
(1/14)
قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام / 137] الآية. فسماهم: شركاء؛ لطاعتهم لهم في معصية الله بقتل الأولاد. ولما سأل عَدِيُّ بن حاتم رضي الله عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا} [التوبة / 31] أجابه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن معنى اتخاذِهم أربابًا: هو اتباعهم لهم في تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرمه، وهذا أمر لا نزاع فيه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)} [النساء / 60]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} [المائدة / 44]، {أَفَغَيرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَينَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)} [الأنعام / 114]. وقوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)} [الأنعام / 115] وقوله: {صِدْقًا} أي في الإخبار {وَعَدْلًا}، أي في الأحكام {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [المائدة / 50]. المسألة الخامسة: التي هي أحوال الاجتماع. فقد شفى فيها القرآن الغليل، وأنارَ فيها السبيل، فانظر إلى ما يأمر الرئيس الكبير أن يفعله مع مجتمعه {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء / 215]. {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاورْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران /159].
(1/15)
وانظر إلى ما يأمر المجتمع العام أن يفعله مع رؤسائه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء / 59]. وانظر إلى ما يأمُرُ الإنسان أن يفعله مع مجتمعه الخاص كأولاده وزوجته {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم / 6]. وانظر كيف ينبِّهه على الحذَرِ والحزْمِ من مجتمعه الخاص ويأمره إن عثر على ما لا ينبغي أن يعفو ويصفَحَ، فيأمره أولًا بالحزم والحذر، وثانيًا بالعفو والصفح: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)} [التغابن / 14]. وانظر إلى ما يأمر أفراد المجتمع العام أن يتعاملوا به فيما بينهم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)} [النحل / 90]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات / 12]، وقال تعالى: {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)} [الحجرات / 11]، وقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة / 2]، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات / 10]، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَينَهُمْ} [الشورى / 38]، إلى غير ذلك.
(1/16)
ولما كان المجتمعُ لا يَسْلَمُ فردٌ من أفراده كائنًا من كان مِنْ مُناوِئ يُناوئُه ومُعاد يُعاديه مِنْ مجتمعه الإنسيِّ والجنِّيِّ. ليس يخلو المرءُ من ضدّ ولو ... حاول العزلة في رأس الجبل وكان كل فرد محتاجًا إلى علاج هذا الداء الذي عمت به البلوى = أوضحَ تعالى علاجه في ثلاثة مواضع من كتابه، بين فيها أن علاج مُناوأةِ الإنسيِّ هو الإعراض عن إساءته ومُقابلتها بالإحسان، وإن شيطان الجن لا علاج لدائه إلا الإستعاذة بالله من شره. الموضع الأول: قولُه تعالى في أخريات الأعراف في الإنس: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} [الأعراف / 199]، وفي نظيره من شياطين الجن: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)} [الأعراف / 200]. الموضع الثاني: في سورة المؤمنون قال تعالى في الآية: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)} [المؤمنون / 96]، وفي نظيره الآخر: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)} [المؤمنون / 97 - 98]. الموضع الثالث: في فُصِّلَت، وقد زاد فيه تعالى التصريح بأن ذلك العلاج السماوي يقطع ذلك الداء الشيطاني، وزاد فيه أيضًا أن ذلك العلاج السماوي لا يُعْطَى لكل الناس، بل لا يُعطَاهُ إلا صاحبُ النَّصيب الأوفر والحظِّ الأكبرِ، قال فيه في الآية: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَينَكَ وَبَينَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا
(1/17)
يُلَقَّاهَا إلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} [فصلت / 34 - 35]. وقال في نظيره الآخر: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)} [فصلت / 36]. وبين في مواضع أخرى أن ذلك الرفق واللين لخصوص المسلمين دون الكافرين، قال: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة / 54]. وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَينَهُمْ} [الفتح / 29]، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيهِمْ} [التوبة / 73]، فالشدةُ في محلِّ اللين حُمقٌ وخَرَقٌ، واللينُ في محل الشدة ضعْفٌ وخَوَرٌ: إذا قيل: حِلْم قل فللحلم موضع ... وحِلْم الفتى في غير موضعه جهل المسألة السادسة: التي مسألة الاقتصاد: فقد أوضح القرآن أصولها التي يَرجعُ إليها جميع الفروع، وذلك أن مسائل الاقتصاد راجعة إلى أصلين: الأول: حسن النظر في اكتساب المال. الثاني: حسن النظر في صرفه في مصارفه. فانظر كيف فتح الله في كتابه الطرق إلى اكتساب المال بالأسباب المناسبة للمروءة والدين، وأنار السبيل في ذلك قال: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة / 10]، وقال: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل / 20]، وقال:
(1/18)
{لَيسَ عَلَيكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة / 198]، وقال: {إلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء /]، وقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيعَ} [البقرة / 275]، وقال: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} [الأنفال / 69]. إلى غير ذلك. وانظر كيف يأمر بالاقتصاد في الصرف: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء / 29]، {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَينَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)} [الفرقان / 67]، {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة / 219] الآية، وانظر كيف يَنْهَى عن الصَّرفِ في ما لا يحل الصرف فيه: {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال / 36]. المسألة السابعة: التي هي السياسة. فقد بين القرآن أصولها وأنارَ معالمها وأوضح طُرُقَها، وذلك أن السياسة التي هي مصدر "ساس يسوس" إذا دبَّر الأمور وأدار الشؤون تنقسم إلى قسمين: خارجية وداخلية. أما الخارجية فمدارها على أصلين: أحدهما: إعدادُ القوَّةِ الكافية لقمع العدو والقضاء عليه، وقد قال تعالى في هذا الأصل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال / 60]. الثاني: الوحدة الصحيحة الشاملة حول تلك القوة، وقد قال تعالى في ذلك: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران / 103]،
(1/19)
وقال: {لَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال / 46]. وقد أوضح القرآن ما يَتْبعُ ذلك من الصلح والهُدنة ونبذِ العهود إذا اقتضى الأمر ذلك، قال: {فَأَتِمُّوا إِلَيهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة / 4]، وقال: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة / 7]، وقال: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال / 58] الآية. وقال: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة / 3]. وأمرَ بالحذر والتحرّزِ مِنْ مكائدهم وانتهازهم الفُرَصَ فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء / 71]، الآية، وقال: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ} [النساء / 102] الآية، ونحو ذلك من الآيات. وأما السياسة الداخلية فمسائلها راجعة إلى نشر الأمن والطمأنينة داخل المجتمع، وكفِّ المظالم، وردِّ الحقوق إلى أهلها. والجواهر العظام التي عليها مدار السياسة الداخلية ستة: الأول: الدين، وقد جاء الشرع بالمحافظة عليه، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَن بدَّل دينه فاقتلوه"، وفي ذلك ردع بالغ عن تبديل الدين وإضاعته. الثاني: الأنفس، وقد شَرَع الله في القرآن القِصاص محافظة عليها: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة / 179] الآية، {كُتِبَ عَلَيكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة / 178] الآية، {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء / 33] الآية.
(1/20)
الثالث: العقول، وقد جاء القرآن بالمحافظة عليها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} [المائدة / 90]، وفي الحديث: "كُل مسكِر حرام، ما أسكر كثيرهُ فقليلُه حرام" ولأجل المحافظة على العقول وجبَ الحدُّ على شارب الخمر. الرابع: الأنساب، وللمحافظة عليها شرع الله حد الزنا: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور / 2] الآية. الخامسة. الأعراض، ولأجل المحافظة عليها شرع الله جلد القاذف ثمانين: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور / 4] الآية السادس: الأموال، ولأجل المحافظة عليها شرع الله قطع يد السارق: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} [المائدة / 38]. الآية. فتبين أنه من الواضح أن اتّباعَ القرآن كفيل للمجتمع بجميع مصالحه الداخلية والخارجية. المسألة الثامنة: التي هي تسليط الكفار على المسلمين: فقد استَشْكَلَها أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو موجود بين أظهرهم، وأفتى الله -جل وعلا- فيها بنفسه في كتابه فَتْوى سماويَّةٍ أزال بها ذلك الإشكال، وذلك أنه لما وقع بالمسلمين ما وقع يوم أحد استشكلوا ذلك، فقالوا: كيف يُدال منا المشركون ويُسَلَّطوا علينا ونحن على الحق وهم على الباطل؟! فأفتاهم الله في ذلك بقوله: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ
(1/21)
قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران / 165]. وقوله: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} أوضحه على التحقيق بقوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} [آل عمران / 152]، فبين في هذه الفتوى السماوية أن سبب تسليط الكفار عليهم جاءهم من قِبَل أنفسهم وأنه هو فشلُهُم وتنازُعُهم في الأمر وعصيان بعضهم الرسول ورغبتهم في الدنيا، وذلك أنّ الرُّماة الذين كانوا بسفَحِ الجبل يمنعون الكفار أن يأتوا المسلمين من جهة ظهورهم طمعوا في الغنيمة عند هزيمة المشركين في أوَّل الأمر، فتركوا أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأجْلِ رغبتهم في عَرَضِ من الدنيا يَنالونه. المسألة التاسعة: التي هي مسألة ضَعفِ المسلمين. وقِلَّة عددهم وعُددهم بالنسبة إلى الكفار، فقد أوضح الله جل وعلا علاجها في كتابه، فبيَّن أنه إن علم من قلوب عباده الإخلاص كما ينبغي كان من نتائج ذلك الإخلاص أن يقْهَرُوا ويغْلِبوا مَنْ هو أقوى منهم، ولِذا لمَّا علم جل وعلا من أهل بيعة الرضوان الإخلاص كما ينبغي ونوَّه بإخلاصهم في قوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح / 18] = بيَّن أنَّ من نتائج ذلك الإخلاص أنه تعالى يجعلهم قادرين على ما لم يقدروا عليه، قال: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} [الفتح / 21]، فصرَّح بأنهم غير قادرين عليها، وأنه أحاط بها، فأقْدَرَهُم عليها وجعلها غنيمة
(1/22)
لهم لِمَا عَلِمَ من إخلاصهم، ولذلك لما ضرب الكُفَّارُ على المسلمين في غزوة الأحزاب ذلك الحصارَ العسكريَّ العظيمَ المذكور في قوله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)} [الأحزاب / 10 - 11]، كان علاج هذا الضعف والحصار العسكري الإخلاص لله وقوَّة الإيمان به، قال تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)} [الأحزاب / 22]. فكان من نتائج ذلك الإخلاص ما ذكره الله بقوله: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَال وَكَانَ اللَّهُ قَويًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب / 25 - 27]. وهذا الذي نصرهم الله به ما كانوا يظنونه، وهو الملائكة والريح: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب / 9] الآية. ولأجل هذا كان من الأدلة على صحة دين الإسلام أن الطائفة القليلة الضعيفة المتمسكة به تغلبُ الكثيرة القويَّة الكافرة: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة / 249]، ولذلك سمى تعالى يوم بدر: آية، وبيِّنة، وفُرْقانًا؛ لدلالته على
(1/23)
صحة دين الإسلام. قال: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَينِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} [آل عمران / 13]، الآية. وذلك يوم بدر. وقال تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ} [الأنفال / 41] الآية. وذلك يوم بدر، وقال. {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال / 42] الآية. وذلك يوم بدو ما حققه بعضهم. ولا شكَّ أن غلبة الفئة القليلة الضعيفة المؤمنة للكثيرة القوية الكافرة دليلٌ على أنها على الحق، وأنَّ الله هو الذي نصرها، كما قال في وقعة بدر: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران / 123]، وقال: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال / 12] الآية. والمؤمنون الذين وعدهم الله بالنصر وبين الله تعالى صفاتهم وميزهم بها عن غيرهم قال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَويٌّ عَزِيزٌ (40)} [الحج / 40]، ثم ميزهم عن غيرهم بصفاتهم في قوله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} [الحج / 41]. وهذا العلاج الذي أشرنا إليه أنه علاج للحصار العسكري، أشار تعالى في سورة المنافقين إلى أنه -أيضًا- علاجٌ للحصار الاقتصادي، وذلك في قوله: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون / 7]. وهذا الذي أراد المنافقون أن يفعلوه بالمسلمين هو عين الحصار الاقتصادي، وقد أشار تعالى إلى أن علاجه قوةُ الإيمان به، وصدْقُ التوجُّهِ إليه جل وعلا بقوله: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7)} [المنافقون / 7]،
(1/24)
لأن من بيده خزائن السماوات والأرض لا يُضيع مُلْتجئًا إليه مطيعًا له: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق / 2 - 3]، وبين ذلك -أيضًا- بقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} [التوبة / 28]. المسألة العاشرة: التي هي مشكلة اختلاف القلوب. فقد بيَّن تعالى في سورة الحشر أن سببها عدم العقل بقوله: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر / 14]، ثم بين السبب بقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} [الحشر / 14]، ودواء ضعف العقل هو إنارته باتباع نور الوحي؛ لأن الوحي يُرْشدُ إلى المصالح التي تقصُرُ عنها العقول، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيتًا فَأَحْيَينَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام / 122]، فبين في هذه الآية أن نور الإيمان يحيا به من كان ميتًا، ويضيء له الطريق التي يمشي فيها. وقال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة / 257]، وقال: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَويًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك / 22]. إلى غير ذلك من الآيات. وبالجملة فالمصالح البشرية التي بها نظام الدنيا راجعة إلى ثلاثة أنواع. الأول: دَرْءُ المفاسد، المعروف عند أهل الأصول بالضروريات، وحاصله دفع الضرر عن الستة التي ذكرنا قبل، أعني: الدين والنفس، والعقل، والنسب، والعِرْضُ والمال.
(1/25)
الثاني: جلب المصالح، المعروف عند أهل الأصول بالحاجيَّات، ومن فروعه: البيوع على القول بذلك، والإجارات، وعامَّة المصالح المتبَادَلة بين أفراد المجتمع على الوجه الشرعي. الثالث: التحلي بمكارم الأخلاق والجري على محاسن العادات، المعروف عند أهل الأصول بالتحسينات والتتميمات، ومن فروعه خصال الفطْرةِ كإعفاء اللحية وقص الشارب إلخ. ومن فروعه أيضًا: تحريم المستقذرات ووجوب الإنفاق على الأقارب الفقراء. وكل هذه المصالح لا يمكن شيءٌ أشد محافظة عليها بالطرق الحكيمة السليمة من دين الإسلام: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)} [هود / 1]. وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. * * *
(1/26)