كيف ترعى حق جارك ؟
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد..
قابلتُه فسلمتُ عليه، وتباشّ كلّ واحد منَّا في وجه صاحبه، وتحادثنا برهة، فلما حان وقت الوداع سألته: كيف حال جارك أبي محمد؟ قال لي: في الحقيقة أنا لم أره منذ فترة، ولعله يكون بخير..
فقلت له: يا رجل! ألا تعلم أن جارك في المستشفى منذ شهر تقريبًا، وقد أجريت له عملية جراحية، وهو الآن يتماثل للشفاء، وسوف يخرج قريبًا إن شاء الله..
قال لي: والله لا علم لي بذلك، ولعلي أزوره إن سمحت لي الظروف!!
أخي الحبيب! هذه القصة ليست من بنات الأفكار، ولا من نسيج الخيال، ولكنها تحكي واقع كثير من الناس ممن أهملوا حقوق جيرانهم، وانشغلوا بأنفسهم، وتركوا وصية ربهم ورسولهم ﷺ بجيرانهم..
فهذا الذي لا يعرف شيئًا عن جاره المريض، ألم يشعر بغيابه وهو يذهب إلى المسجد فلا يجده؟ ألم يفتقده وهو يرى سيارته واقفة أمام داره لا تتحرك؟
لماذا لم يكلف نفسه عناء الاتصال به هاتفيًا والسؤال عنه، إن كان في ذلك عناء؟!
أليس وجوده بجوار جاره في مرضه وشدته من العوامل المساعدة في التخفيف عنه وسرعة شفائه؟
أليس قيامه بحاجات بيت جاره المريض من دلائل حسن الجوار وعلامات الفتوة والرجولة؟
ألا يُدخل ذلك السرور على المريض وأهله على السواء؟
ألا يمكن أن يمرض هو ويصبح طريح الفراش؟ فهل كان يتمنى أن يعامله جاره بمثل معاملته؟!
الإسلام والجار
قال الدكتور محمد علي الهاشمي: إن للجار في الإسلام لحرمة مصونة، لم تعرفها قوانين الأخلاق ولا شرائع البشر، بل إن تلك القوانين والشرائع الوضعية لتستمرئ العبث بحرمه الجار وعرضه، إذ غالبًا ما يكون العبث بعرض الجار أسهل تناولاً وأقل كلفة وأسنح فرصة من العبث بأعراض غيره.
وما شاعت فينا تلك الأغاني المائعة التي تصف جار الشباك وغيره إلا حينما زايَلَتْنا أخلاق الفتوة والإيمان، وغشيتنا غواشٍ من ليل التقليد وموجات الغزو الفكري والحضاري، فبات الفتى الأرعن الرخيص فينا يتغنى بجارته ويتغزل بها، في حين لم يُعرف هذا عنا في جاهليتنا بَلْه إسلامنا، إذ كان شاعرنا الشهم الغيور على الأعراض يقول حينما يصادف جارته:
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي | ||
حتى يواري جارتي مأواها | ||
ولقد نمّى الإسلام هذا الخلق الإنساني النبيل فينا، إذ حشد تلك النصوص الضخمة في رعاية الجار، وصيانة عرضه، والحفاظ على شرفه، وستر عورته، وسد خلته، وغض البصر عن محارمه، والبعد عن كل ما يريبه ويسيء إليه([1]).
حقوق الجار في القرآن والسنة
والله سبحانه ذكر الإحسان إلى الجار بعد ذكر عبادته وحده لا شريك له، وبعد ذكر حقوق الوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين، فمما يدل على عِظم هذه الحقوق وتأكدها قوله تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [النساء: 36].
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى﴾ يعني الذي بينك وبينه قرابة، ﴿وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾ الذي ليس بينك وبينه قرابة([2]).
والنبي ﷺ أوصى بالجار، وبيَّن أن ذلك إنما هو بأمر الله عز وجل، فقال عليه الصلاة والسلام: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» [متفق عليه]؛ أي حتى ظننت أنه سيجعل له نصيبًا في الميراث، ويدخله في جملة الورثة!
وقال النبي ﷺ: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره» [متفق عليه].
إكرام الجار
وأمر النبي ﷺ بإكرام الجيران وتعاهدهم بالهدايا، فقال عليه الصلاة والسلام: «يا أبا ذر إذا طبخت مرقة، فأكثر ماءها، وتعاهد جيرانك» [رواه مسلم].
وفي روايةٍ أن أبا ذر قال: إن خليلي ﷺ أوصاني: «إذا طبخت مرقًا، فأكثر ماءه، ثم انظر أهل بيت من جيرانك، فأصبهم منها بمعروف» [رواه مسلم].
ولا ينبغي للجار أن يحتقر شيئًا يقدمه لجاره أو يقدمه له جاره؛ لأن الهدية ليست بقيمتها، بل بمعناها الدال على الود والمحبة والألفة، ولذلك قال ﷺ: «يا نساء المسلمات، لا تحقرن جارة لجارتها، ولو فرسن شاة» [متفق عليه].
تحريم إيذاء الجار
وإيذاء الجار من كبائر الذنوب وعظائم الخطايا التي حذر منها النبي ﷺ، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي ﷺ قال: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن» قيل: من يا رسول الله؟ قال: «الذي لا يَأْمَن جاره من بوائقه» [متفق عليه].
والبوائق: الشرور والغوائل.
وعنه - رضي الله عنه - أن النبي ﷺ قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره» [متفق عليه].
وبيَّن النبي ﷺ أن ذنب إيذاء الجار والاعتداء عليه يقع مضاعفًا؛ فعن المقداد بن الأسود أن النبي ﷺ سألهم عن الزنا، فقالوا: حرام، حرَّمه الله ورسوله، فقال: «لأن يزني الرجل بعشر نسوةٍ خير له من أن يزني بامرأة جاره».
وسألهم عن السرقة، فقالوا: حرام، حرَّمها الله ورسوله، فقال: «لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من بيت جاره» [رواه أحمد وصححه الألباني].
ويا لله العجب من أناس جعلوا إيذاء الجار من أهون الأمور على أنفسهم؛ فتراهم لا يقيمون للجار وزنًا, ولا يراعون له شعورًا، ولا يحفظون له حرمة، وكأن الشريعة قد جاءت بالحث علي إيذائه وترويعه والاعتداء عليه..
فكم من أناس تركوا ديارهم بسبب جيرانهم!
وكم من أناس باعوا بيوتهم بسبب جيرانهم!
وكم من أناس بكوا وسالت دموعهم بسبب ظلم جيرانهم!
وكم من أناس رفعوا أكف الضراعة أن يخلصهم الله من أذى جيرانهم.. والموعد الله جل وعلا.. ومن الناس من هو بارد الطبع، سلبي التصرف؛ يرى أبناءه يؤذون جيرانهم ويتعدون عليهم بالقول والفعل، ولا يحرك لذلك ساكنًا، وكأنه ورث الشارع عن أبيه أو عن أمه.. فإذا ما اشتكى جاره سوء خلق أبنائه، رأى أن ذلك حسد من جاره عليه، أو بغض منه لأبنائه.
فيا أيها الفضلاء! كُفوا عن إيذاء الجار، فإن عاقبة ذلك وخيمة.
يا أيها النجباء! راعوا حرمات جيرانكم، واحذروا دعوةً تُفتح لها أبواب السماء فتُفسد عليكم دنياكم وأخراكم.
يا أيها العقلاء! سيشهد عليكم جيرانكم يوم القيامة، فهذا يقول: ضربني، وهذا يقول: آذاني، وهذا يقول: شتمني، وهذا يقول: جحد متاعي، وهذا يقول: تجسس عليَّ، وهذا يقول: اطَّلع علي داري وأراد كشف حريمي، وهذا يقول: رآني على المنكر فما وعظني، وهذا يقول: وجدني في شدة فلم يساعدني، وهذا مرضت فما عادني.. وهذا يقول، وهذا يقول، فماذا سيكون جوابك أخي الحبيب؟! قال النبي ﷺ: «كم من جار متعلق بجاره يوم القيامة يقول: يا رب! هذا أغلق بابه دوني، فمنع معروفه» [أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وحسَّنه الألباني].
واعلم - أخي - أن إيذاء الجار قد يكون سببًا في اللعنة والعياذ بالله، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ فشكا إليه جارًا له، فقال النبي ﷺ - ثلاث مرات -: «اصبر» ثم قال له في الرابعة - أو الثالثة -: «اطرح متاعك في الطريق» ففعل، قال: فجعل الناس يمرون به ويقولون: مالك؟ فيقول: آذاني جاري، فجعلوا يقولون: لعنه الله، فجاء جاره فقال: رد متاعك، لا والله لا أوذيك أبدًا. [رواه أبو داود، وقال الألباني: حسن صحيح].
النار لمن آذى الجار
بيَّن النبي ﷺ أن إيذاء الجيران من أسباب دخول النار، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رجل: يا رسول الله، إن فُلانة تكثر من صلاتها وصدقتها وصيامها، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها! قال: «هي في النار» [رواه أحمد].
تكثر من الصلاة والنوافل، ومع ذلك.. «هي في النار»، تكثر من الصدقة والإنفاق، ومع ذلك.. «هي في النار»، تكثر من الصيام ومع ذلك.. «هي في النار».
لماذا؟ لأنها تؤذي جيرانها، فليس لصلاتها أثر في تعديل سلوكها، وليس لصيامها وصدقتها أثر في كفها عن المنكر وردعها عن ظلم الآخرين، فكان ذلك دليلاً على عدم صدقها في تلك العبادات التي تؤديها.
فلا تُعرِّض نفسك - أخي المسلم - أختي المسلمة - لهذا المصير، وقِفا حيث وقف الصالحون، واحفظا وصية رسول الله ﷺ: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» [متفق عليه].
مَن الجار؟
قال الحافظ ابن حجر: واسم الجار يشمل المسلم والكافر، والعابد والفاسق، والصديق والعدو، والغريب والبلدي، والنافع والضار، والقريب والأجنبي، والأقرب دارًا والأبعد، وله مراتب بعضها أعلى من بعض([3]). ا.هـ.
كيف تحفظ جارك؟
نقل الحافظ عن ابن أبي جمرة نصَّا جامعًا قال فيه: حفظ الجار من كمال الإيمان، وكان أهل الجاهلية يحافظون عليه!!
ويحصل امتثال الوصية به: بإيصال ضروب الإحسان إليه بحسب الطاقة؛ كالهدية، والسلام، وطلاقة الوجه عند لقائه، وتفقد حاله، ومعاونته فيما يحتاج إليه، إلى غير ذلك.
وكف أسباب الأذى عنه حسية كانت أو معنوية، وقد نفى ﷺ الإيمان عمن لم يأمن جاره بوائقه، وهي مبالغة تنبئ عن عظيم حق الجار، وأن إضراره من الكبائر.
قال: ويتفرق الحال في ذلك بالنسبة للجار الصالح وغير الصالح، والذي يشمل الجميع: إرادة الخير له، وموعظته بالحسنى، والدعاء له بالهداية، وترك الإضرار له بالقول والفعل.
والذي يخص الصالح جميع ما تقدم.
وغير الصالح: كفه عن الذي يرتكبه بالحسنى على حسب مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ويعظ الكافرَ بعرض الإسلام عليه، وتبيين محاسنه له، وترغيبه فيه برفق.
ويعظ الفاسق بما يناسبه بالرفق أيضًا، ويستر عليه زللـه عن غيره، وينهاه برفق، فإن أفاد فيه وإلا فيهجره؛ قاصدًا تأديبه على ذلك، مع إعلامه بالسبب([4]).
التكافل بين الجيران
ومن حقوق الجار أيضًا أن يسعى بعضهم في سد حاجة بعض، وتفريج كرب بعضهم بعضًا، فإذا كان محتاجًا واساه بماله وطعامه وشرابه وكسوته، فليس من المعقول في الإسلام أن يبيت الرجل شبعان وجاره جائع.
قال الدكتور الهاشمي: وتتسع دائرة التكافل في المجتمع المسلم، فتشمل الجيران الذي أكّد جبريل توصية الرسول الكريم ﷺ بهم، ومن هنا كان الفرد في المجتمع المسلم رافدًا لجاره، مسعفًا مواسيًا، لا يحتمل أن يرى جاره في ضيق وعسر وفاقة، وهو في بحبوحةٍ من العيش منعم مرفَّه.
وكيف يحتمل وجدانه الذي أرهفه الإسلام هذه المفارقة بينه وبين جاره، وهو يسمع قول الرسول ﷺ: «ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه، وهو يعلم» [رواه الطبراني وصححه الألباني]([5]).
قصة
رُوي أن رجلاً من ذوي اليسار كان يسكن في جوار قوم، فمات والدهم، وخلَّف لهم دارًا قيمة كبيرة، فاحتاجت الزوجة والأولاد إلى بيع الدار، فاشتراها ذلك الرجل، وأرسل بالمال إليهم، وكان ما يقارب عشرة آلاف درهم.
فلما كان المساء سمع ذلك الرجل بكاء الزوجة والأولاد، فقال لأهله: علام يبكي هؤلاء؟
قالت: على مفارقة دارهم التي عاشوا فيها وألِفوها.
فقال: ولم باعوها؟
قالت: من حاجتهم وفقرهم.
فقال الرجل: اذهبي إليهم وقولي لهم: الدار دارهم والمال لهم حلال([6])!
فهذه هي أخلاق الإسلام والمسلمين فأروني كيف كانت أخلاق غيرهم!
أنت أختي وأنت حرمة جاري | ||
وحقيق عليَّ حفظ الجوار | ||
إن للجار إن تغيَّب غيبًا | ||
حافظًا للمغيب والأسرار | ||
ما أبالي أكان للجار ستر | ||
مسبل أم بقي بغير ستار | ||
احتمال أذى الجار
وأنت - أخي الحبيب - يا من أساء إليك جارك بقول أو فعل أو تصرف، اصبر واحتسب، واعف واصفح، ولا تنتقم لنفسك، ولا تدع على جارك لأول خطأ أخطأ عليك فيه؛ بل ادع له بالهداية والتوفيق للصواب، فقد قال الحسن رحمه الله: ليس حسن الجوار كف الأذى، إنما حسن الجوار الصبر على الأذى.
فاحتمال أذى الجار، وترك مقابلته بالمثل من أرفع الأخلاق وأعلى الشيم([7]).
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الحافظين لحقوق الجار، المراعين لحرمته، الموفين بعهده، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
***