شفاء العليل في اختصار إبطال التحليل
التصنيفات
الوصف المفصل
- شفاء
العليل في اختصار إبطال التحليل
- مقدمة التحقيق
- توثيق نسبة الكتاب
- عنوان الكتاب
- تاريخ تأليف الكتاب
- موضوع الكتاب ومباحثه
- منهج المؤلف في الكتاب
- أهمية الكتاب
- موارد الكتاب
- وصف مخطوطات الكتاب
- طبعات الكتاب
- منهج التحقيق
- الباب الأول في تقدير المقادير قبل خلق السماوات والأرض
- الباب الثاني في تقدير الرب تبارك وتعالى شقاوةَ العباد وسعادتَهم وأرزاقَهم وآجالَهم وأعمالَهم قبل خلقهم، وهو تقدير ثانٍ بعد التقدير الأول
- الباب الثالث في ذكر احتجاج آدم وموسى في ذلك، وحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - لآدم صلوات الله وسلامه عليهم
- الباب الرابع في ذكر التقدير الثالث والجنين في بطن أمه، وهو تقدير شقاوته وسعادته ورزقه وأجله وعمله وسائر ما يلقاه، وذكر الجمع بين الأحاديث الواردة في ذلك (1)
- الباب الخامس في ذكر التقدير الرابع ليلة القدر
- الباب السادس في ذكر التقدير الخامس اليومي
- الباب السابع في أن سَبْق المقادير بالشقاوة والسعادة لا يقتضي ترك الأعمال، بل يقتضي الاجتهاد والحرص؛ لأنها إنما سبقت بالأسباب
- الباب الثامن في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}
- الباب التاسع في قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}
- الباب العاشر في مراتب القضاء والقدر التي مَن لم يؤمن بها لم يؤمن بالقضاء والقدر (1)
- الباب الحادي عشر في ذكر المرتبة الثانية، وهي مرتبة الكتابة
- الباب الثاني عشر في ذكر المرتبة الثالثة من مراتب القضاء والقدر، وهي مرتبة المشيئة
- الباب الثالث عشر في ذكر المرتبة الرابعة من مراتب القضاء والقدر، وهي مرتبة خَلْقِ الله سبحانه الأعمالَ وتكوينِه وإيجادِه لها (1)
- الباب الرابع عشر في الهدى والضلال ومراتبهما، والمقدور منهما للخلق وغير المقدور لهم
- الباب الخامس عشر في الطبع والختم والقفل والغَلّ والسدّ والغشاوة الحائل بين الكافر وبين الإيمان، وأن ذلك مجعول للربّ تبارك وتعالى
- الباب السادس عشر ما جاء من السنة في تفرد الرب تعالى بخلق أعمال العباد كما هو متفرد بخلق ذواتهم وصفاتهم
- الباب السابع عشر في الكَسْب والجَبْر ومعناهما لغة واصطلاحًا، وإطلاقهما نفيًا وإثباتًا، وما دلّ عليه السمع والعقل من ذلك
- الباب الثامن عشر في فَعَل وأفعلَ في القضاء والقدر والكسب، وذكر الفعل والانفعال
- الباب التاسع عشر في ذِكْر مناظرة جرت بين جبريّ وسنّي جمعهما مجلس مذاكرة
- الباب العشرون في ذِكْر مناظرة بين قدري وسُنّي
- الباب الحادي والعشرون في تنزيه القضاء الإلهي عن الشر ودخوله في المَقْضي
- الباب الثاني والعشرون في إثبات حكمة الربِّ تعالى في خَلْقه وأَمْره، وذِكْر الغايات المطلوبة له بذلك، والعواقب الحميدة التي يفعل لأجلها ويأمر لأجلها
- الباب الثالث والعشرون في استيفاء شُبَه النافين للحكمة والتعليل، وذِكْر الأجوبة عنها
شفاء العليل في اختصار إبطال التحليل
الكتاب: شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل [آثار الإمام ابن القيم الجوزية وما لحقها من أعمال (32)]
المؤلف: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (659 - 751)
تحقيق: زاهر بن سالم بَلفقيه
راجعه: سليمان بن عبد الله العمير - أحمد حاج عثمان
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) - دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الثانية، 1441 هـ - 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الأجزاء: 2
قدمه للشاملة: مؤسسة «عطاءات العلم»، جزاهم الله خيرا
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (32)
شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل
تأليف
الإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية
(691 هـ - 751 هـ)
تحقيق
زاهر بن سالم بَلفقيه
وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة
بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالى)
دار عطاءات العلم - دار ابن حزم
(المقدمة/1)
________________________________________
راجع هذا الجزء
سليمان بن عبد الله العمير
أحمد حاج عثمان
(المقدمة/3)
________________________________________
مقدمة التحقيق
الحمد لله حمدًا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وصلاةً وسلامًا دائمين على سيد الخلائق، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين.
أما بعد، فهذه مَعْلمة كبرى في سادس أركان الإيمان، ومصنَّف حافل في أصل عظيم من أصول العقيدة: القضاء والقدر، جمع فيه مؤلفه شمس الدين ابن قيِّم الجوزية رحمه الله ما تناثر من مباحث الباب، فلملم عيون مطالبه، وحرّر ما أشكلَ مِن مسائله، وجلّى ما خفي من غوامضه، وأجاب عما أُورِد فيه من شبهات، واستفرغ فيه جهده بما عُهِد عنه من التحقيق وطول النّفَس في تحرير دقائق المباحث وعويص المسائل.
ليجيء هذا السفر في ثلاثين بابًا، مشتملة على فصولٍ عديدة وأوجه ومقدمات، جامعة بين المنقول والمعقول، والبحث والتحرير، والمناقشة والترجيح، والمناظرة والتقرير، مشحونًا بالفوائد العزيزة، والاستطرادات النفيسة، على ما جرت به عادته رحمة الله عليه في عامة تواليفه.
حتى أضحى الكتاب من أوسع المصنفات في موضوعه ـ إن لم يكن أوسعها ــ، وأغزرها مادة، وأجمعها موردًا، وأكثرها نفعًا، ليصبح مرجعًا أصيلًا لا غنى عنه للباحثين، ويكون شفاء للعليل، ورواء للغليل، وبلاغًا لأهل السنة والدليل، وفي كلٍّ خير.
إن الكلام في مسائل القضاء والقدر مما نشأ مبكّرًا في التاريخ الإسلامي أواخر عصر الصحابة رضوان الله عليهم، ولم يزل شرخ الخلاف يتسع في الأمة شيئًا فشيئًا، حتى تعددت فيه الآراء، واضطربت الأفهام، وزلّت
(المقدمة/5)
________________________________________
الأقدام، ونبتت تلك الطوائف والفرق على اختلاف آرائها وتباين مشاربها، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا.
وقد وضع عدد من الأئمة المتقدمين في هذه المسألة الكبيرة مصنفات مفردة، كالإمام عبد الله بن وهب، والإمام البخاري، والإمام الفريابي وغيرهم.
وفي هذا العصر تزداد أهمية التحرير والبيان في أبواب القضاء والقدر ومدافعة ما يثار من شبهات؛ إذ باتت مسائل الإرادة والاختيار والحكمة والتعليل ووقوع الشر في الكون بوابةً للإلحاد، وذريعة للطعن في مقامات الربوبية، والتشكيك في وجود الخالق العظيم سبحانه، ولم يزل الملاحدة والمرجفون يدندنون حولها، ويقذفون بشبهاتهم بين ظَهْراني شباب المسلمين في وسائل التواصل الاجتماعي والفضاء الإلكتروني؛ ليُرْدوهم في دركات الشك ومهاوي الحيرة، والله المستعان (1).
وهذه مباحث بين يدي الكتاب مشتملة على:
- توثيق نسبة الكتاب
- عنوان الكتاب
- تاريخ تأليف الكتاب
- موضوع الكتاب ومباحثه
- منهج المؤلف في الكتاب
- أهمية الكتاب
_________
(1) ينظر: "مشكلة الشر" لسامي العامري (17 - 20).
(المقدمة/6)
________________________________________
- موارد الكتاب
- وصف مخطوطات الكتاب
- طبعات الكتاب
- منهج التحقيق
* * * *
(المقدمة/7)
________________________________________
توثيق نسبة الكتاب
تظافرت عدة أمور في إثبات نسبة الكتاب إلى مؤلفه شمس الدين ابن قيِّم الجوزية، نوجزها في الآتي:
* الإحالة فيه إلى كتبه:
جرت عادة المؤلفين ـ ومنهم ابن القيم ـ بإحالة القارئ إلى مؤلفاتهم الأخرى طلبًا للاختصار وعدم تكرار بعض المسائل والمناقشات؛ إذ كان المؤلف قد أشبعها بحثًا في الكتاب المحال إليه، أو كان العزم قد وقع على إفراد المسألة بمصنَّف مستقل، وقد أحال ابن القيم في هذا الكتاب إلى مؤلَّفين له صراحة هما: "مفتاح دار السعادة" و "أحكام أهل الملل"، واحتمالًا: "الصواعق المرسلة".
فمن الأول قوله في (1/ 415): "وقد بيّنا بطلانه من أكثر من خمسين وجهًا في كتاب "المفتاح"". وهذه الأوجه وزيادة في كتابه "مفتاح دار السعادة" (2/ 1017 - 1135).
ومنه أيضًا ما جاء في (2/ 441): "وليس المقصود ذكر هذه المسائل وما يصير به الطفل مسلمًا؛ فإنا قد استوفيناها في كتابنا في "أحكام أهل الملل""، وهو في المطبوع من "أحكام أهل الذمة" (2/ 893) وما بعدها.
ومن الضرب الثاني الإشارة إلى عزم المؤلف على إفراد كتاب يكشف فيه جناية المتأولين على الدنيا والدين في (1/ 273)، فهل يقصد بهذه الإحالة عزمه على إفراد هذا الباب بكتاب مستقل، أم هو وصف لما ضمّنه كتابه "الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة" (2/ 384 - 417)
(المقدمة/8)
________________________________________
من فصول في جناية التأويل على أديان الرسل، وأن خراب العالم وفساد الدنيا والدين بسبب فتح باب التأويل؟
* الإحالة في كتبه إليه:
أحال ابن القيم إلى "شفاء العليل" في كتابين له:
الأول: "إغاثة اللهفان" (1/ 94)، وذلك بعد إشارته إلى طرف من مباحث الإرادة الدينية والكونية ولوازم كل منهما، حيث قال: "وقد أشبعنا الكلام في ذلك في كتابنا الكبير في القدر"، ولا ريب أن هذا الوصف مطابق لما في الكتاب من إشباع لذيول هذه المسألة في الباب التاسع والعشرين (2/ 377) عدا ما نثره في أبواب أخر.
والثاني: "الفوائد" (36)، إذ قال بعد ذكره لشيء من مسائل تقدير الله تعالى المعاصي على بعض العباد وعدله فيهم: "وقد استوفينا الكلام في هذا في كتابنا الكبير في القضاء والقدر".
* الإشارة إلى شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية:
أشار إليه في أكثر من خمسة عشر موضعًا، منها ما وقع في (2/ 390): "قال شيخنا أبو العباس ابن تيمية: أحمد لم يذكر العهد الأول، وإنما قال: الفطرة الأولى التي فُطِر الناس عليها".
وقوله في مسألة فناء النار (2/ 327): "وكنت سألتُ عنها شيخ الإسلام ــ قدّس الله روحه ــ فقال لي: هذه مسألة عظيمة كبيرة، ولم يُجِب فيها بشيء".
وقوله (1/ 270): "قال شيخنا: ولما كان العبد في كل حال مفتقرًا إلى هذه الهداية في جميع ما يأتيه ويذره من أمور قد أتاها على غير الهداية، فهو
(المقدمة/9)
________________________________________
محتاج إلى التوبة منها، انتهى كلامه" والنقل من "بيان الدليل على بطلان التحليل" لشيخ الإسلام (ص 15).
* اشتراك بعض مباحثه مع كتبه الأخرى:
وهو كثير جدًّا في كتب ابن القيم، ومن أمثلته هنا: الاشتراك في مباحث حديث "كل مولود يولد على الفطرة" كما تراه في كتابنا هذا (2/ 413)، و"أحكام أهل الذمة" (2/ 893) وما بعدها.
ومنه إيراده حكاية عن شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابنا هذا (1/ 11)، وهي في "طريق الهجرتين" (185، 658) و "مدارج السالكين" (3/ 378).
ومثله ما وقع في قصة استقباح النمل للكذب بما تراه في (1/ 232) من الكتاب، والقصة بتمامها في "مفتاح دار السعادة" (2/ 690).
* النقل عنه:
وهو عزيز بحسب ما وسعه بحثي، فمنه ما جاء عند ابن حجر (852 هـ) في "فتح الباري" (3/ 349 - 350) عند شرح حديث "كل مولود يولد على الفطرة": "وقال ابن القيم: ليس المراد بقوله: "يولد على الفطرة" أنه خرج من بطن أمه يعلم الدين؛ لأن الله يقول: {قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا} [النحل: 78]، ولكن المراد أن فطرته مقتضية لمعرفة دين الإسلام ومحبته" الخ ما نقله بتصرف واختصار من "شفاء العليل" (2/ 407) فيما يظهر.
وأصرح منه ما أورده إبراهيم بن حسن الكوراني الشافعي (1101 هـ) في "شرح منظومة شيخه القشاشي" فيما نقله عنه السفاريني (1188 هـ) في "لوامع
(المقدمة/10)
________________________________________
الأنوار" (1/ 315 - 319): "قال الكوراني: وهذا الكتاب الذي ذكر فيه [يعني الجويني] آخر قوليه هو كتابه المترجم "بالنظامية" فيما وقفت على كلامه منقولًا عنه بلفظه في كتاب "شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل" للعلامة شمس الدين بن القيم في الباب السابع عشر منه، ولفظه ... ".
ثم قال الكوراني: "ثم وقفنا على كتاب "شفاء العليل" لابن القيم المنقول فيه كلام إمام الحرمين في "النظامية" فأعجبه ذلك، وأمر بإلحاقه بآخر "اختصار الانتصار"".
وكلام الجويني المشار إليه في (1/ 401) من كتابنا هذا.
ثم كثر النقل عن الكتاب في القرن الرابع عشر الهجري كما هو مشاهد في مؤلفات محمود شكري الألوسي (1342 هـ)، وسليمان بن سحمان (1349 هـ)، ومحمد أنور الكشميري (1352 هـ)، ومحمد رشيد رضا (1354 هـ) وغيرهم.
* عدّه ضمن مؤلفاته عند المترجمين له:
نسبه إليه ابن حجر في "الدرر الكامنة" (3/ 402) باسم "القضاء والقدر"، ومثله الشوكاني في "البدر الطالع" (2/ 144)، وصرّح باسمه الصريح صاحب "كشف الظنون" (2/ 1051).
* التصريح بنسبته في الأصول الخطية:
جاءت هذه النسبة صريحة على غلاف النسخة العتيقة المحفوظة بجامع أبي العباس المرسي.
(المقدمة/11)
________________________________________
عنوان الكتاب
درج ابن قيِّم الجوزية على تسمية كثير من مؤلفاته في مقدماتها بعنوانات مسجوعة مركّبة، تنبئ عن موضوع الكتاب، وتفصح عن مضمونه، بما يقطع اجتهادات النساخ وظنون الناشرين، وذلك في غالب مصنفاته.
كذلك صنع في هذا الكتاب، حيث قال في (1/ 14) من تقدمته: "وسمّيتُه: شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل".
وكذا جاء العنوان واضحًا على غلاف مخطوطتي جامع المرسي وتركيا.
وذكره كذلك صاحب "كشف الظنون" (2/ 1051)، والكوراني كما تقدمت الإشارة إليه.
بينما أورده ابن حجر والشوكاني في ترجمة المؤلف بعنوان موضوعه "القضاء والقدر" (1).
* * * *
_________
(1) ينظر: "ابن قيم الجوزية: حياته آثاره موارده" (266).
(المقدمة/12)
________________________________________
تاريخ تأليف الكتاب
لم يشر المؤلف إلى زمان تأليفه، ولم تسعفنا به الأصول الخطية، لكن ثمة علامات يُستأنس بها في ذلك.
ولعل أول إشارة يمكن أن تفيد في تاريخ تأليفه ما سطّره المؤلف في "تهذيب السنن" (3/ 205) ــ انتهى من تأليفه سنة 732 هـ ــ من عزمه على وضع مصنف في مسائل القدر، حيث قال: "وقد نظرت في أدلة إثبات القدر والرد على القدرية المجوسية فإذا هي تقارب خمسمائة دليل، وإن قدّر الله تعالى أفردتُ لها مصنفًا مستقلًّا"، فيمكن أن يكون الكتاب الذي بين أيدينا هو المصنف المفرد المشار إليه.
فيفيد هذا النص أن تأليفه لهذا الكتاب بعد سنة 732 هـ، وفيه ــ إن صح ــ دلالة على سبق اهتمامه بمسائل القضاء والقدر، وبكور نية التأليف فيها.
ومما يُستأنس به أيضًا أن "شفاء العليل" مسبوق بـ "مفتاح دار السعادة" و "أحكام أهل الملل"؛ إذ أحال المؤلف عليهما هنا كما سلف.
و "شفاء العليل" فيما يظهر ملحوق بـ "الصواعق المرسلة" و "إغاثة اللهفان" ــ وأقدم نسخه كُتِبت سنة (738 هـ) و "إغاثة اللهفان" مؤلَّف بعد "الصواعق" (1) ــ و "الفوائد"، كما تقدم بيانه.
فعلى هذه التقديرات يكون تأليف "شفاء العليل" بين الأعوام (733 - 738 هـ) ظنًّا، والعلم عند الله.
_________
(1) انظر: مقدمة تحقيق "إغاثة اللهفان" (1/ 8، 11).
(المقدمة/13)
________________________________________
موضوع الكتاب ومباحثه
قصد المؤلف بكتابه ــ كما هو ظاهر من عنوانه ــ جَمْع ما تفرق من مسائل القضاء والقدر، وما اتصل بها من مباحث حكمة الباري وتعليل أفعاله سبحانه، وبيان المذهب الحق في كل ذلك.
فاستهلّ كتابه بخطبة أبان فيها عن موضع الإيمان بالقضاء والقدر من الدين، وخطورة الانحراف عنه، مع إلماحة إلى نشأة الكلام في القدر، ومذاهب الناس فيه، واتساع الخُلْف بينهم، بين غالٍ في النفي وزائغٍ في الإثبات، خلا من اقتبس من مشكاة الوحيين وسلك طريق الأصحاب، ومن صلح من أسلافهم.
ليعرض بعدها إلى بواعث التأليف في الباب، والضرورة التي ألجأته إلى الخوض في هذا الميدان، في ثلاثين بابًا سرد عنواناتها تامة في هذه الخطبة.
وهذه الأبواب مختلفة في الطول والقصر، فبعضها لا يتجاوز الصفحتين كما تراه في الباب الخامس، وبعضها تربو على المائة كما في الباب الخامس عشر.
وقد خصص المؤلف الأبواب: الأول، والثاني، والرابع، والخامس، والسادس؛ في ذكر أنواع التقدير الإلهي، مُفْرِدًا كل نوع بباب مستقل، مستقصيًا ما جاء في هذا التقدير من أحاديث مرفوعة وآثار موقوفة، تارة يسوقها بإسنادها من مصادرها، وأخرى دون إسناد، مع حرصه الشديد على تتبع الألفاظ وتحريرها وإزالة التعارض بينها، وتوضيح وجه الدلالة منها، وربما تكلّم في طرقها تصحيحًا وتضعيفًا.
(المقدمة/14)
________________________________________
وقام بين ذلك بإفراد الباب الثالث في ذكر مرويات المحاجّة المشهورة في القدَر بين آدم وموسى عليهما السلام، وبيان اختلاف الناس في فهم الحديث وأوجه تفسيره، واستطرد في الدفاع عن صاحب "منازل السائرين" في كلام له موهِمٍ لباطل.
وفي الباب السابع ناقش المصنف أنّ سبق المقادير بالشقاوة والسعادة لا يقتضي ترك الأعمال، بل يقتضي الاجتهاد والحرص.
ودار الكلام في الباب الثامن حول تفسير قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]، وفي التاسع حول قوله سبحانه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، وما يتعلق بهما من فوائد واستنباطات.
ثم أعاد الحديث مرة أخرى في الأبواب: العاشر، والحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، في مراتب القضاء والقدر، واستقصاء ما جاء فيها من حجج نقلية ــ لم يسبق له إيرادها فيما تقدم من أبواب ــ وبراهين عقلية، وأرخى للقلم العنان في البحث والمناقشة.
ففي العاشر بسط النقاش في المرتبة الأولى: علم الرب سبحانه بالأشياء قبل كونها، والمرويات في ذلك، ولم يخل من استطراد في رد بعض شبه القدرية، والحديث عن حكمة الله سبحانه ومظاهر لطفه وفوائد وثمرات ابتلائه أحباءه.
وفي الباب الذي يليه ساق بعض ما فاته من نصوص القرآن والسنة الصحيحة الصريحة في المرتبة الثانية وهي مرتبة الكتابة.
(المقدمة/15)
________________________________________
وأما الباب الثاني عشر في المرتبة الثالثة من مراتب القضاء والقدر ــ وهي مرتبة المشيئة والإرادة ــ فقد حشد فيه رحمة الله عليه ما أمكنه من الآيات والأحاديث الدالة على هذه المرتبة بأصنافها وألفاظها، ثم عقد فصلًا بحث فيه علاقة المشيئة والإرادة بمحبة الله وأوامره.
وختم تلك المراتب في الباب الثالث عشر بذكر مرتبة خلق الله سبحانه الأعمال وتكوينه وإيجاده لها، وأطال النفس في تفنيد بعض أصول الأشاعرة وغيرهم في مسائل الجبر وتأثير القدرة وفروعها، والخلق والاختراع وذيولها، وبيان هدي القرآن والسنة فيها، وإيضاح سبيل المؤمنين، وقاده المقام للغوص في أسرار سورة الفاتحة المتعلقة بهذه المسائل العقدية.
ثم استكمل في الباب الرابع عشر مباحث الهدى والضلال ومراتبهما، وهذا الباب وصفه المصنّف بقوله: "هو قلب أبواب القدر ومسائله"، وعرض فيه مراتب الهدى والضلال في القرآن، كل مرتبة منها في فصل مستقلّ أشبع فيه الحديث حولها، واستطرد طويلًا في مرتبة التقدير والهداية بذكر نماذج من هداية الله تعالى لبعض المخلوقات كالنحلة والنملة والهدهد وغيرها، ثم استطرد مرة أخرى في المرتبة الثالثة من الهداية: هداية التوفيق والإلهام في توضيح جناية التأويل الفاسد على نصوص الوحيين لدى القدرية والجبرية.
وجمع المؤلف في الباب الخامس عشر الآيات الواردة في الطبع والختم والقفل ونحوها على وجه التفصيل، ثم ذكر أوجه ضلال القدرية والجبرية في تحريف هذه الآيات، وأطال النفس في الرد عليها آية آية، وهذا من أطول أبواب الكتاب.
(المقدمة/16)
________________________________________
وفي الباب السادس عشر استقصى ما جاء في السنة النبوية من تفرد الرب تعالى بخلق أعمال العباد، فجمع أحاديث الباب وتكلم عليها وعلى معانيها، ثم عرض للكلام على التوبة والاستغفار، وفقر العباد إلى الجبّار.
ومع أن المؤلف ناقش طرفًا من مذهب الأشاعرة في الكسب والجبر ضمن مباحث الباب الثالث عشر عَرَضًا؛ إلا أنه أعاد وأفرد هذه المباحث ومتعلقاتها في البابين: السابع عشر والثامن عشر بمزيد عناية وتفصيل، ذكر خلاله ما وقع بين الأشاعرة من خلاف واضطراب في مسائل القدر، ونقل فيه عن كبار محققيهم، ثم ناقش مفردات الباب كلمة كلمة: فَعَل وأفعلَ، والفعل والانفعال، وبيّن ضلال الطائفتيَن: القدرية والجبرية، وختم الباب باستطراد في مسألة طلاق السكران والغضبان.
ثم ساق المصنف في البابين: التاسع عشر والعشرين مناظرة مفترضة في مهمات مسائل القدر بين جبريّ وسنّي في الباب الأول منهما، وفي الثاني بين بين قدري وسُنّي ناقش فيها أنواع التعطيل وآثاره، ومباحث التسلسل وأنواعه ولوازمه، وأعاد البحث مع القدرية والجبرية في مسائل المشيئة والإرادة والأسباب والحكمة والتعليل.
وفي الباب الحادي والعشرين عرض للعلاقة بين القدر ووقوع الشر في الكون، وأجاب عما أشكل ودقّ من أسئلة الباب، بعد أن أصّل القواعد، وشيّد أركان مذهب أهل السنة والجماعة في الحكمة والتعليل.
ولم يكتف ابن قيم الجوزية رحمه الله بما سلف في هذا المبحث ــ أعني الحكمة والتعليل ــ بل عقد بابين كاملين بعد ذلك من أجلهما، استوعب في أحدهما نصوص الوحيين في اثنين وعشرين نوعًا، كل نوع في فصل مستقل،
(المقدمة/17)
________________________________________
وخصص الآخر لاستيفاء شُبَه النافين، وذِكْر الأجوبة عنها في عدة فصول وعشرات الأوجه، وحسبك أنه أجاب عن الحكمة في خلق الكفر والفسوق ونحوها من الشرور في أربعين وجهًا، ضمّن أحدها ما في الصلاة من حِكَم العبودية ومنازلها، وأورد في آخرَ شيئًا من أسرار الكون وغايات خلقه في المجرات والأفلاك، وعقد فصلًا مطوّلًا في المسألة الشهيرة: فناء الجنة والنار.
وهذا الباب الثالث والعشرون يعد أطول أبواب الكتاب، وقد استغرق نحوًا من مائة وثمانين صفحة من المطبوع.
وفي الباب الرابع والعشرين ــ وهو من أوجز الأبواب ــ بحث معنى قول السلف: "من أصول الإيمان: الإيمان بالقدر خيره وشرّه، حلوه ومرّه"، وجُلّ مسائله مما تقدمت مناقشته في الباب السابق.
وقريب منه في الإيجاز الباب الذي يليه: في امتناع إطلاق القول نفيًا وإثباتًا: "إن الربّ تعالى مريد للشرّ وفاعل له"، حيث أعاد المؤلف كثيرًا مما تقدم بسطه في الكتاب، كالكلام على المحبة والإرادة وأنواعهما.
وكذلك أوجز الحديث في البابين السادس والعشرين والسابع والعشرين، فشَرَح في الأول منهما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك"، وفي الثاني قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ماضٍ فيّ حكمك، عدلٌ فيّ قضاؤك"، وذَكَر ما تضمّنه كل منهما من قواعد وفوائد ولطائف.
أما البابان: الثامن والعشرون والتاسع والعشرون فقد عرض فيهما المصنف أحكام الرضا بالقضاء، واختلاف الناس في ذلك، وتحقيق القول فيه، وانقسام القضاء والحكم ونحوهما إلى كوني وديني، دون إسهاب.
(المقدمة/18)
________________________________________
ثم كانت خاتمة أبواب الكتاب الثلاثين بالحديث عن الفطرة التي فطر الله الناسَ عليها، والخلاف في المراد بها، وشرح حديث: "كل مولود يولد على الفطرة" وتتبع ألفاظه بتوسّع.
* * * *
(المقدمة/19)
________________________________________
منهج المؤلف في الكتاب
ثمة معالم رئيسة تشترك فيها سائر مصنفات ابن قيم الجوزية رحمه الله، وسمات متشابهة تنتظمها في عقد تأليفي واحد، لا تكاد تخطئها عين المطالع، وهذا الكتاب له منها نصيب وافر، يتجلّى في عامة أبوابه وطريقة سياقه، بناء ومحتوًى وأسلوبًا في العرض والصياغة، سنشير إلى بعضها في عجالة.
فمن تلك السمات التكوينية: تقسيمه الكتاب إلى أبواب، لكل باب مقصد مستقل وعنوان يضم مسائل من جنس واحد في عموم مباحثه، وربما دعته الحاجة إلى إبراز بعض المباحث داخل الباب بكلمة "فصل"، إما لأهمية المبحث، أو طوله، أو انفصاله عما قبله من حيث الفكرة، وليس هذا التقسيم بمطّرد.
وغالبًا ما يسوق الأجوبة على الشبهات والاعتراضات على هيئة أوجه متسلسلة الأرقام.
ومن أظهر سمات المصنف: انطلاقه في تقرير المسائل ومواطن الاستدلال من نصوص القرآن والسنة الصحيحة، فلا يكاد يخلو مبحث إلا وفيه احتجاج بآية أو حديث، وكثيرًا ما يحشد الآيات المتماثلة في موضع واحد، ويتتبع ألفاظ الرواية حرفًا حرفًا، وقد يسوق الطرق ويرفع الأسانيد، مع الكلام عليها؛ إذ شَرَط على نفسه أن لا يستدل إلا بما ثبت.
ويتصل بالأمر حرصه على تعضيد نصوص الوحيين بفهم السلف الصالح عليهم رحمة الله لهذه النصوص، وتعد كتبه مظنة لأقوال الصحابة في المسائل التي بسط القولَ في بحثها.
(المقدمة/20)
________________________________________
ومن سمات منهجه في هذا الكتاب ونظائره: استناده في حكاية أقوال الفرق وأرباب الطوائف على أصولهم المعتمدة مباشرة، قطعًا لدعوى التحريف والتصرّف في نصوص المخالفين، وكذلك الشأن في الإفادة من كتب الكلام دون واسطة في مواضع الحجاج واللجاج، وسيأتي تفصيل بعضه عند الحديث عن موارد الكتاب.
ومما يحسن ذكره هنا مقدرة المؤلف على توظيف الخلاف داخل المذهب الواحد، وإظهار اضطراب أصحابه، وعجز أتباعه؛ ليبين عواره وانحرافه، ويضرب حُجَجَهم بحُجَجِهم، ويبطل كلام المتكلمين بكلام المتكلمين.
ومن تلك المعالم البارزة: مراعاته لجنس الدليل في مقام الاحتجاج، ففي تأصيل القواعد يصدر عن الوحيين، وفي مواطن الجدال يقارع الحجة العقلية بمثلها، ويدفع الشبهة اللفظية بالمأثور من كلام الفصحاء وقريض الشعراء، وهكذا دواليك.
أما الإفادة من كتب شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية والاقتباس منها والاتّكاء عليها في المهمات والمعضلات العلمية فكثير، كما هو معهود عنه في سائر كتبه.
وربما استعان المؤلف في تقرير بعض المباحث والغوص في أعماقها والكشف عن مكنوناتها بأسلوب المناظرة، وهي طريق سلكها المصنف في بعض كتبه، فمنه ما في "أعلام الموقعين" (3/ 470) حيث عقد مجلس مناظرة بين مقلِّد وصاحبِ حُجة، وفي "روضة المحبين" (167) أفرد بابًا في مناظرة بين القلب والعين ولوم كل منهما صاحبه والحكم بينهما، أما في
(المقدمة/21)
________________________________________
كتابنا هذا فقد أفرد بابين للمناظرة، أحدهما بين جَبْري وسُنّي، والآخر بين قَدَري وسُنّي.
ثم إن المصنف على ما جرت به عادته قد يستطرد في فروع بعض المباحث وذيولها لأغراض مختلفة، كزيادة في التقرير، أو توسّع في التمثيل، ونحو ذلك.
وقريب من هذه السمة في صناعة التأليف لدى ابن قيم الجوزية رحمة الله عليه حرصه الشديد على الإحاطة بفروع المسائل، وعنايته البالغة باستيعاب النصوص والأقوال، وإطالة النفس في اشتقاق الأوجه، وتشقيق المجملات، وتفتيق الأجوبة، وتفتيت الشبهات، ولذا وقع التكرار في معالجة بعض مسائل الكتاب.
وهذه السمة الموسوعية قد ألمح إليها ابن حجر في "الدرر الكامنة" (3/ 402) بقوله: "وكل تصانيفه مرغوب فيها بين الطوائف، وهو طويل النفس فيها، يتعانى الإيضاح جهده فيسهب جدًّا".
ولأن مقام الربوية عظيم، والمتجرّئون في الكلام عليه كثير، والمتقحّمون في مسائله قد يغفلون عمّن يتحدثون، فربما استطالوا في التعبير، فافترضوا عليه الواجبات واللوازم والممتنعات، وأساؤوا الأدب مع الجبار القدير جل جلاله= من هنا ظهرت عناية المصنف رحمه الله في عدة مواضع بالتذكير بعظمة صاحب المقام، واستحضار قدسيته وجلاله، والالتفات إلى تعظيمه في النفوس، تبارك اسمه، وتقدّست أسماؤه.
* * * *
(المقدمة/22)
________________________________________
أهمية الكتاب
يستمد هذا الكتاب أهميته من جملة أمور، منها:
ما يتعلق بخطورة موضوعه: القضاء والقدر، وموضعه من أركان الدين، واتصال مباحثه بالحديث عن أفعال الرب جل شأنه، فضلًا عما أدخله عليه المتكلمون والمشّاؤون من دقائق علم المنطق والكلام، ومحارات العقول، مع شدة الحاجة إلى بيان الحق فيها، وتزييف الباطل، وهو ما عبّر عنه المؤلف في خطبة الكتاب: "ولما كانت معرفةُ الصواب في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل واقعةً في مرتبة الحاجة، بل في مرتبة الضرورة؛ اجتهدتُ في جمع هذا الكتاب وتهذيبه، وتحريره وتقريبه، فجاء فَرْدًا في معناه، بديعًا في مَغْزاه".
فإذا أضيف إلى ذلك قلة مصنفات أهل السنة والجماعة المفردة الجائية على هذا الطراز، الجامع بين الرواية والدراية، الحاوي للمنقول والمعقول= علت رتبة "الشفاء"، وتجلّت منزلته بين أضرابه، كـ "القدر" لابن وهب (197 هـ)، وأبي داود (275 هـ)، والفريابي (310 هـ)، والبيهقي (458 هـ)، وغيرها؛ إذ عامتها من كتب الرواية (1).
وهو مع هذه الخصّيصة من أبسط ما دوّن في بابه، وأغزره مادة، وأعزه فائدة، وأكثره تنوّعًا في أساليب العرض والمعالجة والرد على الشبهات، بما لا يكاد يوجد إلا فيه. وقد قصد المؤلف الاستيعاب ما وسعه ذلك، كما
_________
(1) ينظر في تواليف الباب المفردة: "معجم الموضوعات المطروقة في التأليف الإسلامي" للحبشي (1566 - 1568).
(المقدمة/23)
________________________________________
سلف بيانه عند الحديث عن منهج الكتاب.
أشار إلى ذلك حاجي خليفة في "كشف الظنون" (2/ 1051) بقوله: "بسط الكلام فيه كل البسط، وأطال كما هو دأبه".
وقال محمد رشيد رضا "تفسير المنار" (8/ 54) في أثناء مناقشته لمذاهب الناس في القدر: "وأكبر أنصار مذهب السلف في القرون الوسطى وأقواهم حجة شيخا الإسلام أحمد تقي الدين ابن تيمية وشمس الدين محمد ابن قيِّم الجوزية، ومن أوسع كتب الأخير في هذا الموضوع الذي يخوض في أعضل مسائله كتاب "مفتاح دار السعادة" وكتاب "شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل"".
وهذا الأمر أكّده المصنف عند إحالته للكتاب في "الفوائد" (36) بوصفه: "وقد استوفينا الكلام في هذا في كتابنا الكبير في القضاء والقدر".
وحُقّ لصاحب هذه الموسوعة العقدية أن يفخر بها في ديباجة الكتاب: "فيا أيُّها المتأمل له، الواقف عليه، لك غُنمه وعلى مؤلِّفه غُرمه، ولك فائدته وعليه عائدته، فلا تعجل بإنكار ما لم يتقدم لك أسباب معرفته، ولا يحملنّك شَنَآن مؤلفه وأصحابه على أن تُحرم ما فيه من الفوائد التي لعلك لا تظفر بها في كتاب، ولعل أكثر من تعظّمه ماتوا بحسرتها، ولم يصلوا إلى معرفتها، والله يقسم فضله بين خلقه بعلمه وحكمته، وهو العليم الحكيم، والفضل بيد الله يؤتيه مَن يشاء، والله ذو الفضل العظيم".
* * *
(المقدمة/24)
________________________________________
موارد الكتاب
من العسير في كتاب لمصنف في القرن الثامن تعيين جميع موارده، وما سيُذكر هاهنا لا يمثل جميع موارد المؤلف في كتابه.
والسمة الظاهرة في سائر مصنفات ابن قيم الجوزية وفي كتابنا هي كثرة الموارد وتنوعها في أصناف العلوم، وعلوّها وأصالتها في أبوابها.
ثم إنه رحمة الله عليه تارة ينقل مباشرة من المصدر، وأخرى ينقل بواسطة، يظهر هذا عند مقارنة الاقتباسات بمصادرها الأصيلة والوسيطة. وربما يسمّي الكتاب عند النقل، أو يكتفي باسم مؤلفه، أو يقتبس دون عزو، وقد يكتفي حينًا بالعزو في موضع واحد عند تعدده.
وفيما يأتي عرض مجمل لأبرز تلك الموارد بحسب مجيئها في كل فن، وتمامه في فهرست المصنفات والأعلام بملاحق الكتاب:
تقدمت الإشارة إلى اهتمام المؤلف بحشد الآيات القرآنية في مواطن الاستدلال وتأصيل القواعد، وكثيرًا ما يتبع تلك الآيات باقتباسات من تفسير الصحابة فمن بعدهم ومن بيان أهل اللسان؛ تعضيدًا لاستدلاله، ومورده الرئيس في علم التفسير هو كتاب "التفسير البسيط" لأبي الحسن الواحدي، ومع أن المصنف لم يصرّح باسم مؤلفه إلا مرتين فقط إلا أن مقابلة النقول المقتبسة وحكاية الأقوال، بل ومتابعته للواحدي في سياق الشواهد بحروفها تؤكد الأمر دون شك.
ولعل النقل من تفاسير مقاتل ومجاهد و "معاني القرآن" للفراء وابن
(المقدمة/25)
________________________________________
قتيبة في "تفسير الغريب القرآن" و"تهذيب اللغة" للأزهري ومن أبي علي الفارسي؛ كلها بواسطة الواحدي.
ويعد كتابا "معاني القرآن" للزجاج و "تفسير الطبري" من مصادره الرئيسة التي أكثر عنها مصرّحًا باسمي مؤلفيها.
ومن موارد التفسير التي ذكر أصحابها عند الاقتباس: "التحصيل لفوائد كتاب التفصيل" للمهدوي، و "الكشف والبيان" للثعلبي، و "معالم التنزيل" للبغوي، و "الكشاف" للزمخشري، و "زاد المسير" لابن الجوزي.
كما أن المصنف اقتبس كثيرًا في بيان المعاني وشرح الألفاظ من "الصحاح" للجوهري، تارة يسمي الكتاب وأخرى ينسبه إلى قائله.
وفي باب الرواية وسَوْق المرويات بأسانيدها وألفاظها عند الحاجة اعتمد المؤلف على أمّات كتب السنة المشهورة "مسند أحمد" و "إسحاق" والسنن الأربعة ــ وخاصة "الكبرى" للنسائي ــ وغيرها من دواوين الإسلام.
غير أنه في الأبواب الخمسة الأُوَل استند كثيرًا على كتابي "القدر" لابن وهب و "القدر" لأبي داود السجستاني ــ وهذا الأخير لم يصل إلينا ــ، و "القدر" و "الأسماء والصفات" كلاهما للبيهقي، وساق بعض المرويات بأسانيدها من كتابٍ لمحمد بن نصر المروزي، يظهر أنه كتاب خاص في القَدَر لم يصل إلينا، ونقل عددًا من الآثار من "تفسير ابن أبي حاتم" مصرّحًا باسمه.
وفي شروح السنة ومعاني الحديث استند على كتابي "الاستذكار" و"التمهيد" لابن عبد البر، مصدّرًا للنقل بقوله: "قال أبو عمر".
(المقدمة/26)
________________________________________
على أنه ربما حكى أقوال أبي عمر وتحريراته بواسطة "درء التعارض"، كما صنع ذلك في عدة مواضع أثناء بحثه لحديث "كل مولود يولد على الفطرة" في الباب الثلاثين (2/ 404) وما بعدها، وقد نبهت عليها في محالها.
وحين استطرد في بيان مظاهر هداية الحيوانات (1/ 222) اقتبس الكثير من "الحيوان" للجاحظ مصرّحًا باسمه في موضعين، ويظهر أن أكثر مباحث الباب مقتبس منه.
ومثل ذلك وقع عند ذكر ما في الكون وأجرامه من أسرار وغايات دالة على وجود الصانع، فقد أفاد فيما يظهر من "الدلائل والاعتبار" المنسوب للجاحظ، بيد أنه لم يسمّه.
أما موارده التي صرّح بها في علم الكلام ــ ومذهب الأشاعرة خصوصًا ــ ففي مقدمتها مؤلفات الرازي "المباحث المشرقية" و "الأربعين"، إضافة إلى "مقالات الإسلاميين" للأشعري، وتجريدها لابن فورك، و "النظامية" للجويني، و "شرح الإرشاد" للأنصاري وغيرها.
وهنالك عدة مواضع في تعريف "الكسب" وأقوال الناس فيه لم يفصح فيها عن مورده، ويغلب على الظن أنها من "نهاية الإقدام" للشهرستاني، و"المطالب العالية" للرازي.
وليس بغريب على ابن قيم الجوزية أن يكون معتمده في مواطن عديدة على مصنفات شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليهما إفادة واقتباسًا، "وهو الذي هذب كتبه ونشر علمه" (1).
_________
(1) "الدرر الكامنة" (3/ 401).
(المقدمة/27)
________________________________________
وأكثر كتب شيخه التي ظهر لي اعتماده عليها هنا "درء تعارض العقل والنقل"، كما تراه في شرح حديث "فحج آدم موسى"، وحديث "كل مولود يولد على الفطرة" وغيرها، ونقل مباحث من رسالة "الرد على من قال بفناء الجنة والنار"، وفي بعض هذه المواضع جاء التصريح بنسبتها إلى شيخه بقوله: "قال شيخنا" ونحو ذلك.
وتبقى مواضع استفادة أخرى مبثوثة في ثنايا الكتاب لم يعزها المؤلف يظهر أنها مستفادة من كتب شيخ الإسلام، كـ "منهاج السنة" في (2/ 70)، وفي (2/ 33) من "فصل في قوله تعالى: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} " ضمن "مجموع الفتاوى" (14/ 246 - 281)، وغيرها مما أمكن الوقوف عليه والتنبيه في حواشي الكتاب، والله أعلم.
* * *
(المقدمة/28)
________________________________________
وصف مخطوطات الكتاب
للكتاب خمس نسخ خطية في مكتبات العالم بحسب ما بلغه علمنا، يسّر الله تعالى الحصول على صور ثلاث منها، وهي الثلاث الأُول الآتي وصفها، وبقيت نسختان لم نتمكن من الحصول عليهما؛ لفقدان أصولهما من المكتبات التي تحتفظ بهما، وسنصفهما إجمالًا بالاعتماد على مَن وقف عليهما.
النسخة الأولى: نسخة جامع أبي العباس المرسي "م"
وهي محفوظة في مكتبة الجامع بالإسكندرية (المسمّاة بالمكتبة المركزية للمخطوطات الإسلامية بوزارة الأوقاف المصرية) برقم (عام: 3614 - خاص: 317)، عدد أوراقها (261) (1)، ومسطرتها (23) سطرًا.
والنسخة مخرومة الآخر، سقط منها نحو (80) ورقة من المطبوع، تمثّل جُلّ الباب الثلاثين مع الخاتمة، كما فُقِدت من مصوّرتها الملوّنة التي بين يدي الأوراق (79، 117) بترقيم المفهرس، وبها عدة بياضات يسيرة في أماكن متفرقة.
يطالعنا على الغلاف اسم الكتاب واسم مؤلفه بالمداد الأحمر، وتحته وقفية غير مقروءة بالمداد الأسود، ودون ذلك بأسفل الصفحة ختم وزارة الأوقاف المصرية.
_________
(1) وقع في بطاقة فهرسة الكتاب: (250) ورقة، وهو خطأ، منشؤه حدوث خلل في العدّ ابتداء من الورقة (98) حتى آخر الكتاب.
(المقدمة/29)
________________________________________
استخدم الناسخ المداد الأسود في متن الكتاب، والأحمر في عناوين الأبواب والفصول ونحوها، خطها معتاد واضح في عامته، يغلب عليها الإهمال، التزم ناسخها تدوين التعقيبة، وتظهر فيها علامات المقابلة والتصحيح، ومع ذلك لم تسلم من الوهم والسقط.
وقد عاثت الرطوبة والأرضة فيها فسادًا، فأحدثت خرومًا كثيرة متفرقة متفاوتة المقدار، وربما ذهبت بثلث الورقة، كما تراه في الألواح (67، 68، 95 - 99) (1).
ولا نعلم عن تاريخ نسخها ولا اسم ناسخها شيئًا؛ لخرم آخرها كما تقدم، وإن كان مظهرها وخطّها يشير إلى أنها نسخة قديمة قريبة العهد من مؤلف الكتاب.
كما توجد عبارات متفرقة بخط الناسخ يظهر من خلالها أنها منقولة من أصل المصنف، أو من نسخة منقولة منه، كقوله في طرة (221/ب): "في أصل المصنف بياض بعد: لا تثاب ولا تعاقب"، وفي (241/أ): "في الأصل بياض".
وفي الحواشي تعليقات نادرة بخطوط مختلفة بعضها استدراكات وتعقبات ولطائف أثبتُّ النافع منها، وبعضها شتائم وردود من بعض مطالعي الكتاب من الأشاعرة، ومناقشات للمصنف في مسائل الكسب أغفلتها كاملة،
_________
(1) يشار إلى أن مجاورة هذه المكتبة للبحر جعل مخطوطاتها عرضة للتلف بسبب الرطوبة العالية بحسب ما جاء في "فهرس مخطوطات أبي العباس المرسي" (1/ 16)، ولم أعثر على مخطوطة كتابنا في المجلدين المطبوعين من الفهارس، والله أعلم.
(المقدمة/30)
________________________________________
وتقع في الأوراق (5/ب، 105 - 108، 248/أ)، وفي الورقة (247) اعتراض ومنازعة في مسألة الإرادة بأبيات في عقيدة الأشاعرة.
وعلى وجه الإجمال تعتبر هذه النسخة أجود نسخ الكتاب التي وقفت عليها، لولا وجود النقص في آخرها، ويغلب على الظن أنها أقدمها، والعلم عند الله.
النسخة الثانية: نسخة دار الكتب "د"
وهي مسجلة في دار الكتب المصرية برقم عام (452234) وخاص (323 علم كلام)، وتقع في (226) ورقة، في كل صفحة (23 - 25) سطرًا.
مخرومة الأول بنحو (4) صفحات من المطبوع، ذهب الخرم بجزء من مقدمة الكتاب، وثمة خروم أخرى في صفحات متفرقة ذهبت بأجزاء من الكتاب كما في يمين الصفحة الأولى، وآخر ورقتين، وقد خُرِم حَرْد المتن في الورقة الأخيرة.
تبتدئ النسخة بقول المصنف: "والإيمان به قُطْب رحا التوحيد ... "، وفي أعلا هذه الصفحة ختمان مطموسان، وفي الطرة اليمنى قيد وقفية ذاهب بعضه، ونص ما بقي منه: "وقف هذا الكتاب فقير عفو الله ومغفرته أحمد الفوي على طلبة العلم الشريف، ينتفعون بذلك الانتفاع الشرعي، على الوجه الشرعي، وجعل مقره {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 181]، حُرِّر في أواسط ..... (1) ست وأربعين وألف"، وتحته ختم مطموس، بجانبه اسم لعله لصاحب الوقف
_________
(1) كلمة غير واضحة.
(المقدمة/31)
________________________________________
المذكور على هيئة تشبه الطغراء، وبحاشية الصفحة السفلى بيانات فهرست الكتاب، كما يوجد ختم غير واضح أيضًا في آخر ورقة منها.
النسخة مكتوبة بخط نسخي معتاد بمداد أسود، نشط الناسخ في إعجام أولها ثم بدأ يهمل كثيرًا حتى بات عزيزًا في نصفها الأخير، ويظهر أنه استعمل الحمرة في تدوين العناوين، لذا لم تظهر أجزاء كثيرة منها في مصورة النسخة التي بين يدي، وهي خلو من ترقيم الأوراق، وفي طرر النسخة علامات المقابلة والتصحيح والتعقيبة، وتوجد ردود على المؤلف بقلمين مختلفين في الورقة (20/أ) وفي (138/أ).
وهي نسخة صحيحة في مجملها، ولا تخلو مما وقع في نسخة جامع المرسي السابقة من أوهام وسقط، وأما البياضات فتتفق فيها مع نسخة الجامع، وتزيد عليها في موضع واحد.
لم نعرف الناسخ ولا تاريخ النسخ للخرم الذاهب بحَرْد المتن، وهي جزمًا منسوخة قبل سنة الوقفية المذكورة آنفًا (1046 هـ)، والله أعلم.
وعند النظر في الفروق الواقعة بين هذه النسخة ونسخة جامع المرسي والمقارنة بينها يظهر جليًّا الاختلاف بين النسختين؛ مما ينفي احتمال أن تكون إحداهما منسوخة من الأخرى، أو أن يكون أصلهما واحدًا، والله أعلم.
النسخة الثالثة: نسخة الجامعة "ج"
محفوظة بالمكتبة المركزية للمخطوطات بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض برقم (2082)، وتقع في (170) ورقة.
وهي نسخة بها نقص كبير، مخرومة الأول والوسط والآخر، سقط من أولها خطبة الكتاب وعامة الباب الأول، ثم سقط منها جل الباب الثاني إلى
(المقدمة/32)
________________________________________
قبيل الباب الثاني عشر، وعاد السقط في آخرها من نهاية الباب الحادي والعشرين حتى نهاية الكتاب، فما بقي من أبوابها الكاملة (10)، تمثل ثلث الكتاب فقط، وبها آثار بلل يسير.
بها عدة بياضات في مواضع متفرقة، كما في ورقة (168)، وعلّق في إحداها (70/ب): "هنا بياض في المنقول عنه".
مكتوبة بخط نسخ معتاد، من خطوط القرن الثاني عشر تقديرًا، مقابلة مصححة، استعمل الناسخ الحمرة في عناوين الأبواب والفصول والأوجه ونحوها.
بقي أن يقال: إن هذه النسخة تتفق مع نسختي "م" و "د" في بعض المواضع وربما وافقت إحداهما فقط، والأهم أنها انفردت بالصواب في عدة مواطن مشكلة.
النسخة الرابعة: نسخة تركيا "ت" (1)
_________
(1) نسخة يوسف آغا هذه بذلنا جهودًا مضنية في طلب تصويرها، أولًا من المكتبة نفسها في تركيا، فذهب إليهم في مقرّ المكتبة غير واحد منهم الصديق أبو الفضل القونوي فأفادت القيّمة على المكتبة بأنها غير موجودة، وسُرِق أصلها مع مخطوطات أخرى، وذهب إليهم مرة أخرى غير واحد ممن سعى معنا في محاولة جلبها والنتيجة واحدة!
ثم حاولنا تصويرها ممن صوّرها من مصدرها قبل أن تسرق (قبل سنة 1420 هـ) ومنهم محققي الكتاب في رسالتين علميتين ــ طبعت مؤخرًا عن دار الصميعي ــ فوعد أحدهما خيرًا، ولم نحصل على شيء حتى كتابة هذه الأسطر، وقد اجتهد معنا في التواصل معهما الشيخ عبد الرحمن بن صالح السديس جزاه الله خيرًا. ثم طلبناها من محقق ط. العبيكان الأخ الشيخ عمر الحفيان (إذ كان صورها قبل أن تسرق) سعى في ذلك الصديقُ الشيخ عبد العزيز بن فيصل الراجحي، فوعده خيرًا، لكن لم تمكّنه الظروف من تصويرها!
وقد أعلنّا مرارًا في وسائل مختلفة عن حاجتنا لهذه النسخة بمَنٍّ أو بثَمَن، فلم نفلح في الحصول على صورة منها. وما زلنا على أمل العثور على مصوّرتها. وقد كتبنا هذا التفصيل ليراه مَن عساه يهتمّ لأمر هذه النسخة فيسعى كما سعينا، فينال أجر الدلالة عليها، ويبلّ رحم العلم ببلالها. (علي العمران).
(المقدمة/33)
________________________________________
من مقتنيات مكتبة جامع يوسف آغا بقونية برقم (5440)، في (321) ورقة، في كل صفحة (23) سطراً، بخط نسخ واضح جميل، وهي النسخة الوحيدة الكاملة من الكتاب فيما نعلم.
كتبت فواصل المقدمة بالمداد الأحمر وكذا عناوين الأبواب ونحوها، ويظهر أنها نسخة منقولة من أصل المؤلف ومقابلة عليها، ولم تخل حواشيها من تصحيحات وتعليقات.
قلت: ويغلب على الظن أن هذه النسخة منقولة من نسخة جامع المرسي أو يشتركان في أصل واحد؛ لما بينهما من الاتفاق في غالب المواضع عند اختلاف نسخ الكتاب الأخرى، والله أعلم.
النسخة الخامسة: نسخة بغداد (1)
كان مستقر هذه النسخة في مكتبة الأوقاف العامة ببغداد برقم (7155)،
_________
(1) انظر: "فهرس المخطوطات العربية في مكتبة الأوقاف العامة في بغداد" (2/ 441)، ويظهر أن من فهرس المخطوط صحّف عنوانه إلى "شفاء الغليل ... "، واستدرك صانع الفهرس الصواب بين قوسين.
وقد حاولنا الحصول على صورة من هذه النسخة من بغداد بواسطة الأستاذ محمد كمال عبيد جزاه الله خيرًا، فأفاد القائمون على المكتبة بأنها فُقِدت مع مجموعة من الأصول، والله المستعان.
(المقدمة/34)
________________________________________
في (210) ورقة، في كل صفحة (19) سطرًا، وهي مخرومة الأول والوسط والآخر، وهي من أوقاف المدرسة المرجانية ببغداد.
كاتب هذه النسخة هو العلامة خير الدين نعمان بن محمود الآلوسي (1317 هـ)، كما نص على ذلك في الصفحة الأولى، ولم يذكر في هذه النسخة الأصل الذي نقلت عنه ولا تأريخ نسخها.
* * *
(المقدمة/35)
________________________________________
طبعات الكتاب
أولى طبعات "شفاء العليل" كانت قبل أزيد من قرن، وهي تلك التي اعتنى بها السيد محمد بدر الدين أبو فراس النعساني الحلبي (1) سنة (1323 هـ) بالمطبعة الحسينية على نفقة محمد أمين الخانجي وشركائه، في مجلد واحد.
أشار المصحح في آخر الكتاب (307) إلى الأصول الخطية التي اعتمد عليها في عمله، بقوله: "تم ولله الحمد طبع كتاب "شفاء العليل" ... وذلك بعد عناء تصحيح النصف الأول منه على نسخة وصلتنا من صاحب الفضيلة علامة العراق على الإطلاق آلوسي زاده السيد محمود شكري أفندي حفظه الله، مع مقابلة ذلك على النسخة المحفوظة بدار الكتب الخديوية بمصر، ومن ثم إلى آخر الكتاب على نسخة دار الكتب الخديوية فقط".
وهذان الأصلان تقدم وصفهما قريبًا، وبيان ما فيهما من خروم في أول الكتاب وآخره، ومن هنا وقع النقص في هذه الطبعة.
كما وقع أيضًا خلط في تعداد أبواب الكتاب ابتداء من الباب الثاني والعشرين (190)، إذ سقطت جملة بنهاية الباب الحادي والعشرين تسببت في اعتقاد سقوط الباب الثاني والعشرين، وهي قول المصنف: "وهذا الباب يتصل بـ الباب الثاني والعشرين في إثبات حكمة الربِّ تعالى في خلقه وأمره .. ما دلَّ عليه القرآن والسنة"، وموضعه في هذه الطبعة: "فصل الأصل
_________
(1) صاحب كتاب "التعليم والإرشاد" (ت 1362 هـ) ترجمته في "الأعلام" للزركلي (7/ 102).
(المقدمة/36)
________________________________________
الخامس"!
ومع أن المعتني بالكتاب رحمة الله عليه قد بذل جهدًا كبيرًا في إخراجه أول مرة بما أتيح لديه من أصول ومصادر في ذلك الزمان غير أنه وقعت بالنص عشرات الأخطاء والتصحيفات والزيادات بقصد إتمام السياق في كثير من الصفحات.
ولمّا كانت هذه الطبعة هي أصل أكثر الطبعات التي جاءت بعدها تابعتها أيضًا في أكثر ما وقع فيها من هنات، وربما زاد كل ناشر عليها مثلها.
ومن أهم تلك الطبعات: طبعة دار التراث بعناية الحساني حسن عبد الله، والذي حاول تصويب المتن ما أمكنه، ونبّه في آخر الكتاب (605) إلى وجود الخلل المشار إليه في الأبواب.
توالت بعد ذلك عدة طبعات تجارية، يجمعها الاعتماد على الطبعة الأولى، وعدم الرجوع إلى شيء من نسخه الخطية.
ثم صدرت طبعتان علميتان جيدتان إجمالًا:
إحداهما: سنة (1420 هـ) بتحقيق عمر بن سليمان الحفيان، عن مكتبة العبيكان، في مجلدين، اعتمد على النسخة التركية ونسخة جامع المرسي ونشرة النعساني.
وتمتاز هذه الطبعة بأنها الطبعة الكاملة للكتاب، وقد بذل محققها جهدًا مشكورًا في تصحيح النص، وتخريج الأحاديث المرفوعة. غير أنها خلت من عزو الآثار وتوثيق الأقوال والنصوص إلا اليسير، ولم تسلم من خطأ وتحريف وتصرّف في المتن بما يخالف الأصول الخطية، كما أنها لم تذيَّل
(المقدمة/37)
________________________________________
بفهارس لا لفظية ولا علمية.
والأخرى: سنة (1427 هـ) بتحقيق أحمد بن صالح الصمعاني وعلي بن محمد العجلان، عن دار الصميعي، في ثلاثة مجلدات، وأصلها رسالتان علميتان للمحققَيْن، نوقشت الأولى سنة (1414 هـ) والثانية سنة (1420 هـ)، طُبِعَتا بكامل ما فيهما من الحواشي الأكاديمية.
وتمتاز هذه الطبعة باعتمادها على ثلاث نسخ خطية: النسخة التركية ونسخة دار الكتب المصرية ــ وكلتا النسختين تشتمل على خاتمة ــ والنسخة العراقية، إضافة إلى اشتمالها على دراسة علمية للكتاب، وفهارس متنوعة.
ويؤخذ عليها كثرة الإقحامات في المتن بزيادة ألفاظ بين [] من مصادر أخرى لغير ضرورة، ووقوع جملة من التصحيفات والتحريفات والأخطاء.
ومن الغريب وقوع نقص في آخر هذه الطبعة بمقدار (6) صفحات من طبعتنا هذه، وهي من الوجه (17) في الباب الثلاثين إلى آخر الكتاب مع خاتمة المؤلف، وهو الموضع عينه الذي تنتهي فيه طبعة النعساني.
***
ولـ "شفاء العليل" مختصر في مجلد واحد بمقدار الثلث، اختصره خالد عبد الرحمن العك، وصدر عن دار المعرفة، سنة 1996 م.
ورسالة مقتطفة من الكتاب بعنوان: "مقادير الخلائق"، استلها سيد بن إبراهيم، وصدرت عن دار الحديث بالقاهرة، سنة 1414 هـ.
* * *
(المقدمة/38)
________________________________________
منهج التحقيق
اعتمدت في تحقيق الكتاب على ما توفّر لدي من الأصول الخطية التي تقدم وصفها: نسخة جامع المرسي "م"، نسخة دار الكتب "م"، نسخة جامعة الإمام "ج"، وهذه الأخيرة قابلت عليها الكثير من المواضع، والمشكلة منها على وجه الخصوص، واستعنت على إتمام بعض الخروم في أول الكتاب وآخره وكذا بعض المواضع المشكلة بقراءة محققي طبعتَي الصميعي والعبيكان لاعتمادهم على النسخة التركية "ت" الكاملة من الكتاب، وربما أشرت لقراءة الحساني في مواضع يسيرة برمز "ط"، خاصة إذا تابعه عليها من جاء بعده من الناشرين.
وأثبتّ أهم الفروق بين هذه النسخ، وخاصة ما كان منها مؤثرًا في المعنى، وأغفلت التنبيه على أوهام النساخ وتحريفاتهم البيّنة إلا اليسير عند الحاجة، ونبّهت على السقط الطويل كجملة ونحوها.
ثم قمت بخدمة النص بما يتطلبه ذلك من توزيع النص على فقرات، وضبط للمشكل من المصطلحات والأعلام ونحوها، وعزو للآيات، التي حافظت في رسمها على قراءة أبي عمرو البصري؛ قراءة أهل الشام في زمن المؤلف (1)، وتخريج موجز للأحاديث والآثار، وتوثيق ما استطعت من الأقوال والأشعار ونحوها من مصادرها الأصيلة، وربما مسّت الحاجة إلى
_________
(1) قال ابن الجزري (833 هـ) في "غاية النهاية" (1/ 292): "القراءة التي عليها الناس اليوم بالشام والحجاز واليمن ومصر هي قراءة أبي عمرو ... ولقد كانت الشام تقرأ بحرف ابن عامر إلى حدود الخمس مئة فتركوا ذلك".
(المقدمة/39)
________________________________________
التعريف بعلم أو بيان معنى أو إيضاح مبهم ونحوه.
متوخّيًا في جميع ذلك ما يحقق المقصود بأقصر عبارة، وأوجز إشارة، دون إثقال للحواشي بتتبع الطرق والروايات وصنوف العلل وتعداد للمصادر وتعريف بالأعلام والكتب.
هذا، ولمّا كان الغرض من التحقيق هو تقديم النص التراثي للقارئ أقرب ما يكون إلى ما تركه مؤلفه؛ فإني آثرت الحفاظ على ما اتفقت عليه الأصول الخطية وإثباته في المتن، حتى لو كان وهمًا أو خطأً أو تحريفًا، بشرط وجود قرينة ترجّح أن هذا الخلل من قلم المؤلف لا من وهم الناسخ أو تحريفه، والتزمت التنبيه عليها في الحواشي وبيان وجه الصواب منها ما وسعني ذلك، وتلك القرائن تختلف باختلاف المقام والتقدير، ومنها على سبيل المثال:
أن يكون الوهم في نسبة القول إلى غير قائله، كما وقع في (1/ 336): "قال لبيد ... "، ثم أنشد المصنف بيتًا مشهورًا لامرئ القيس، فلا يُتصوّر في مثله أن يتواطأ النسّاخ على الوهم عينه، أو يخلطون بين رسم "لبيد" و "امرئ القيس"، ليس هذا فحسب، بل عند الكشف عن مورد المؤلف هاهنا تبيّن أنه متابع للواحدي في هذه النسبة.
وقريب منه صنيعه في (1/ 333) حيث قال متابعة للواحدي أيضًا: "قال أبو عبيدة: يقال: ركست الشيء ... "، وهو تحريف محض، صوابه: أبو عبيد، وهو في "غريب الحديث" له.
ومن أظهر القرائن فيما نحن بصدده أن يكون الخطأ أو التحريف في رجال الأسانيد بإبدال أو زيادة أو سقط؛ فإن البصير بكتب الرواية يدرك ما في
(المقدمة/40)
________________________________________
الباب من أنواع الاحتمالات التي يصعب معها الجزم بتخطئة الناقلين عنها، ويزيده تأكيدًا هنا وقوع عين الوهم في مصنفات المؤلف الأخرى.
ويكفي ما جاء في (1/ 33) حين نقل ابن القيم رواية بإسنادها من "مسند إسحاق": "أخبرنا بقية ... عن راشد بن سعد، عن عبد الرحمن بن أبي قتادة"، وهو في أكثر المصادر: "عبد الرحمن بن قتادة"، غير أن بقية كان يضطرب في اسمه على الوجهين، يضاف إلى ذلك أن المؤلف متابع فيه لمصدره، كما سيأتي بيانه في موضعه.
ومما تكرر في الكتاب وغيره من كتب التراث أن يختصر المؤلف لفظ الحديث فيسقط بعض ألفاظه قصدًا في عدة مواضع، أو يسوقه بالمعنى، أو ينقل اللفظ بواسطة، فهذه قرينة أخرى شاهدة على ما نحن فيه، وهي غنية عن التمثيل لظهورها.
ومنه أيضًا أن يكون المثبت من التراكيب اللغوية غير الفصيحة التي يكثر استعمالها في عصر المؤلف وما بعده، كما يقع كثيرًا في الأعداد وتمييزها، والفاء في جواب الشرط وغير ذلك.
وعلى كل حال، فالمقصود هنا التنبيه بأمثلة تدل على المراد، سيأتي التنبيه على بعضها في محالّها، وقد كنت في غنى عن الإشارة إليها هنا لولا ما وقع في طبعات الكتاب القديمة والحديثة من عشرات الإصلاحات والتصرفات والزيادات في نص المؤلف داخل المتن، مخالفة للأصول الخطية، دون التفات للقرائن، أو انتفاع بالموارد.
وبعد؛ فقد بذلت جهدي في إخراج نص الكتاب وخدمته بما يليق به حتى يكون أقرب ما يكون لما تركه عليه مؤلفه، بحسب ما بلغته طاقتي
(المقدمة/41)
________________________________________
المحدودة وعلمي القاصر، والمأمول في قارئه أن يكون باذلًا للعلم ناصحًا، فلعلك تصلنا بما وجدت من خطأ أو ترشد إلى صواب؛ فإن العلم رحم بين أهله.
غفر الله لابن قيم الجوزية ولمحققه ولقارئه، وشملنا بواسع رحمته، إنه جواد كريم.
والحمد لله أولًا وآخرًا.
* * * *
(المقدمة/42)
________________________________________
نماذج من النسخ الخطية
(المقدمة/43)
________________________________________
صفحة العنوان من نسخة جامع أبي العباس المرسي (م)
(المقدمة/45)
________________________________________
الصفحة الأولى من نسخة جامع أبي العباس المرسي (م)
(المقدمة/46)
________________________________________
الصفحة الأخيرة من نسخة جامع أبي العباس المرسي (م)
(المقدمة/47)
________________________________________
الصفحة الأولى من نسخة دار الكتب (د)
(المقدمة/48)
________________________________________
الصفحة الأخيرة من نسخة دار الكتب (د)
(المقدمة/49)
________________________________________
الصفحة الأولى من نسخة الجامعة (ج)
(المقدمة/50)
________________________________________
الصفحة الأخيرة من نسخة الجامعة (ج)
(المقدمة/51)
________________________________________
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
الحمد لله ذي الإفضال والإنعام، والمِنن الجِسَام، والأيادي العِظَام، ذي الجلال والإكرام، الملك القدّوس السلام، الذي قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف عام.
فقدَّر أرزاقهم وآجالهم، وكتب آثارهم وأعمالهم، وقسم بينهم معايشهم وأموالهم ــ وعرشه على الماء ــ قبل خلق الليالي والأيام.
فأبرم القضيَّة، وقدَّر البريَّة، وقال للقلم: اكتب، فجرى بما هو كائن في هذا العالم على تعاقب السِّنين والأعوام.
ثم خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ثم استوى على عرشه المجيد بذاته، منفردًا بتدبير خلقه بالسَّعادة والشقاوة، والعطاء والمنع، والإحياء والإماتة، والخَفض والرَّفع، والإيجاد والإفناء، والنقضِ والإبرام.
{(28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي} [الرحمن:29]، فلا يشغله سَمْعٌ عن سَمْع، ولا تُغَلِّطُه المسائل، ولا يتبَرَّم بإلحاح الملحِّين على (1) الدوام. يسمع ضجيج الأصوات، باختلاف اللغات، على تَفنُّنِ الحاجات (2)، ويرى دبيبَ النملة السوداء، تحت الصَّخرة الصماء، في
_________
(1) "على" استدركت من "ت"، وكذلك المواضع الخمسة الآتيات، موضعها مخروم في "م".
(2) "تفنن الحاجات" من "ت".
(1/3)
________________________________________
الليلة (1) المدلهمَّة الشديدة الظلام.
لا تسقط ورقةٌ إلا بعلمه، ولا (2) تتحرك ذرَّة إلا بإذنه، ولا يقع حادثٌ إلا بمشيئته، ولا يخلو مقدورٌ عن حكمته، فله الحكمة الباهرة، والآيات الظاهرة، والحجَّة البالغة، والنعمة السابغة على جميع الأنام.
وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأوسع كل مخلوق فضلًا وجودًا وحلمًا، وقَهَر كلَّ شيءٍ (3) عزَّةً وحُكْمًا، فَعَنَت الوُجوهُ لجلال (4) وجهه، وعجزت العقولُ عن معرفة كُنْهِه، وقامت البراهين على استحالة (5) مثله وشِبْهِه. فهو الأول الذي ليس (6) قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، ذو الأسماء الحسنى، والصفات العُلى، وهو مُسْتوٍ على عرشه، مُسْتولٍ على خلقه، يسمع ويرى. كلَّم موسى تكليمًا، وتجلَّى للجبل فجعله دكًّا هشيمًا، فهو الحيُّ القيوم الذي لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام.
يخفض القِسْط ويرفعه، يُرفَع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سُبُحَاتُ وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.
_________
(1) "الليلة" من "ت".
(2) "م": "فولا"، والتصويب من "ت".
(3) "م": "وفهم كل منى"! والتصويب من "ت".
(4) "لجلال" من "ت".
(5) "البراهين على استحالة" خرم أكثرها في "م"، وأكملتها من "ت".
(6) "الذي ليس" من "ت".
(1/4)
________________________________________
فهو أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، وأعظم رقيب، وأرأف رحيم، حال دون النفوس، وأخذ بالنواصي، وكتب الآثار، ونسخ الآجال، فأزِمَّة الأمور بيديه، ومرجعها كلها إليه، فالقلوب له مُفْضِية، والسِّرُّ عنده علانية، والمستور لديه مكشوف، وكلُّ أحدٍ إليه فقير مَلْهوف على الدوام.
فسبحان مَن نفذ حكمُه في بريّته، وعدل بينهم في أقضيته، وعمَّهم برحمته، وصرَّفهم تحت مشيئته وحكمته، وأكرمهم بتوحيده ومعرفته، وجعل أهل ذكره أهل مجالسته، وأهل شكره أهل زيادته، وأهل طاعته أهل كرامته، وأهل معصيته لا يُقنطهم من رحمته، إن تابوا فهو حبيبهم، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ} [البقرة: 222]، وإن أصرُّوا فهو طبيبُهُم، يبتليهم بأنواع المصائب؛ ليطهّرهم من الدَّنَس والآثام.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ولا كُفُؤ له، ولا سَمِيَّ له، ولا صاحبة له، ولا ولد له، بل هو الأحد الصمد الذي تفرَّد بإلهيَّته، وتوحَّدَ بربوبيته، وتعالى عن مشابهة خليقته، وأنَّى يشبه العبدُ المخلوقُ الملكَ القدّوسَ السّلام.
وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، وسفيره بينه وبين عباده، أرسله رحمةً للعالمين، وقدوةً للعاملين، ومَحَجّة للسالكين، وحُجّة على العباد أجمعين.
أرسله على حين فترة من الرسل، ودروس من الكتب، وطموس من السُّبُل، حين انقطع خبر الوحي من السماء، وتاه الأدِلّاءُ في دياجي الظَّلماء، وغشيت الأرضَ ظلماتُ الكفر والشِّرك والعناد، واستولى عليها أئمةُ الكفر وعساكرُ الفساد، واستند كل قوم إلى ظلمات آرائهم، وحكموا على الله وبين
(1/5)
________________________________________
عباده بمقالاتهم الباطلة وأهوائهم.
فسُبُلُ الهدى عافيةٌ آثارها، مُنْحَطٌّ منارها، والضلالة قد تَضَرَّمَتْ نارُها، وتطاير في الآفاق شرارُها، وظهر في أقطار الأرض شعارها، وقد استحقَّ الناس أن يحلّ بساحتهم العذاب، وقد نظر الجبَّارُ إليهم فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب.
فأطلع الله شمس الرسالة في حَنَادِس تلك الظُّلَم، وأنعم بها على أهل الأرض، وكانت تلك النعمة عليهم أجلَّ النعم. فبعث رسوله - صلى الله عليه وسلم - للإيمان مناديًا، وإلى الجنة داعيًا، وبكل عُرْف آمِرًا، وعن كل نُكْرٍ ناهِيًا، فاستنقذ به الخليقةَ من تلك الظلمات، ونوَّرَ بصائرهم بالآيات البينات، وجلا عن قلوبهم صدأ تلك الشكوك والشبهات، وفتح به أعينًا عُميًا، وآذانًا صُمًّا، وقلوبًا غُلْفًا، فبلَّغ رسالات ربّه، وأدّى أمانته، ونصح أمته، ولم يدع بابًا من الهدى إلا فتحه، ولا مُشْكِلًا من الدين إلا أوضحه، ولا خيرًا إلا دلَّ الأمة عليه، ولا شرًّا إلا حذَّرهم منه؛ لئلا يصلوا إليه.
فأغنى الله به عن تكلُّف المتنطّعين، وآراء المُتَهَوِّكين، ومعقولات المتفلسفين، وخيالات المتصوِّفين، وجدل المتكلمين، وأقيسة المتكلِّفين.
فاكتفى بما جاء به العارفون، واستوحش من كثير منه الجاهلون، وعَدَلوا عنه إلى ما يناسب أعينهم الرُّمْد، وبصائرهم العُمْي، وظنوا أنهم بذلك يهتدون، {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الزمر: 49 - 50]، {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51].
(1/6)
________________________________________
أما بعد:
فإن القدر بحر محيط لا ساحل له، ولا خروج عنه لأحد من العالمين، والشرع فيه سفينة النجاة، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها فهو من المُغْرَقين، وهو قُدْرَةُ الله الذي هو على كل شيء قدير، وكل مخلوق فمنه ابتدأ وإليه يصير.
والإيمان (1) به قُطْب رحا التوحيد ونظامه، ومبدأ الإيمان وتمامه، فهو أحد أركان الإيمان، وقاعدة أساس الإحسان، والحكمة آخِيَّته (2) التي يرجع إليها، ويدور في جميع تصاريفه عليها، فالقدر مظهر المُلْك، والحكمة مظهر الحَمْد، والتوحيد متضمن لنهاية الحكمة وكمال التقدير.
فلا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، فبالقدر والحكمة ظهر خلقه وشرعه المبين، {لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54].
فصل
وقد سلك الناس في هذا الباب في كل واد، وأخذوا في كل طريق، وتولّجوا كل مَضِيق، وركبوا كل صعب وذلول، وقصدوا الوصول إلى معرفته من كل سبيل، وتكلمتْ فيه الأئمة (3) قديمًا وحديثًا، وساروا فيه بطيئًا
_________
(1) بداية "د".
(2) الآخِيّة ـ بالتشديد والتخفيف ـ: حبل ونحوه يثبت طرفاه في حائط أو أرض كالحلقة، تشد إليه الدابة. "الصحاح" (أخا) (6/ 2256).
(3) "د": "الأمم".
(1/7)
________________________________________
وقاصدًا وحثيثًا، وخاضتْ فيه الفرق على تباينها واختلافها، وصَنَّفتْ فيه الطوائف على تنوع أصنافها، فلا أحد إلا وهو يحدّث نفسه بهذا الشان، ويطلب الوصول فيه إلى حقيقة العرفان، فتراه إما ناظرًا مع نفسه، أو مناظرًا لبني جنسه.
وكلٌّ قد اختار لنفسه مذهبًا لا يعتقد الصواب في سواه، ولا يرتضي إلا إيّاه، وكلهم ــ إلا مَن اهتدى بالوحي ــ عن طريق الصواب مصدود، وباب الهدى في وجهه مسدود، قد قَمَّشَ علمًا غير طائل، وارتوى من ماء آجن، قد طاف على أبواب المذاهب، ففاز بأخسِّ الآراء والمطالب، فرح بما عنده من العلم الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، وقدّم آراء من أحسن به الظن على الوحي المنزّل والنص المرفوع.
حيران يأتمُّ بكل حيران، يحسب كل سراب شرابًا، فهو طول عمره ظمآن، يُنَادى إلى الصواب من مكان بعيد، ويُدعى إلى الهدى فلا يستجيب إلى يوم الوعيد، قد فرح بما عنده من الخيال، وتشبّع بأنواع الباطل وأصناف المُحال، منعه الكفر الذي في صدره ــ وليس هو ببالغه ــ عن الانقياد للهداة المهتدين، ولسان حاله أو قاله يقول: {أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53].
فصل
ولما كان الكلام في هذا الباب نفيًا وإثباتًا مداره على الخبر عن أسماء الله وصفاته وأفعاله وخلقه وأمره؛ كان أسعدُ الناس بالصواب فيه مَن تلقّى ذلك من مشكاة الوحي المبين، ورغب بعقله وفطرته وإيمانه عن آراء
(1/8)
________________________________________
المُتَهَوِّكين (1)، وتشكيكات المتكلمين، وتكلفات المُتنطّعين، واستمطر دِيَم الهداية من كلمات أعلم الخلق بربِّ العالمين، فإن كلماته الجوامع النوافع في هذا الباب وفي غيره كفَتْ وشفَتْ، وجمعتْ وفرَّقتْ، وأوضحتْ وبيَّنتْ، وحلَّتْ محل التفسير والبيان لما تضمنه القرآن.
ثم تلاه أصحابه من بعده على نهجه المستقيم، وطريقه القويم، فجاءت كلماتهم كافية شافية، مختصرة نافعة، لقرب العهد ومباشرة التلقي من تلك المشكاة، التي هي مظهر كل نور، ومنبع كل خير، وأساس كل هدى.
ثم سلك على آثارهم التابعون لهم بإحسان، فاقتفوا طريقهم، وركبوا منهاجهم، واهتدوا بهداهم، ودعوا إلى ما دعوا إليه، ومضوا على ما كانوا عليه.
ثم نبغ في عهدهم وأواخر عهد الصحابة مجوسُ هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر، وأنّ الأمر أُنُف، فمَن شاء هدى نفسه، ومَن شاء أضلها، ومَن شاء بخسها حظَّها (2) وأهملها، ومَن شاء وفّقها للخير وكمّلها، كل ذلك مردود إلى مشيئة العبيد، ومُقْتَطَع من مشيئة العزيز الحميد، فأثبتوا في ملكه ما لا يشاء، وفي مشيئته ما لا يكون.
ثم جاء خَلْفُ هذا السلف، فقرروا ما أسَّسَه أولئك من نفي القدر وسمّوه عدلًا، وزادوا عليه نفي صفاته سبحانه وحقائق أسمائه وسمّوه توحيدًا.
_________
(1) الحيرى المترددون، "القاموس" (هوك) (958).
(2) "م": "حقها"، والمثبت من "د" له نظائر من كلام المؤلف، وليس في "م": "وأهملها".
(1/9)
________________________________________
فالعدل عندهم إخراج أفعال الملائكة والإنس والجن وحركاتهم وأقوالهم وإراداتهم عن قدرته ومشيئته وخلقه، والتوحيد عند متأخريهم تعطيله عن صفات كماله، ونعوت جلاله، وأنه لا سمع له، ولا بصر، ولا قدرة، ولا حياة، ولا إرادة تقوم به، ولا كلام، ما تكلم ولا يتكلم، ولا أمَرَ ولا يأمر، ولا قال ولا يقول، إنْ ذلك إلا أصوات وحروف مخلوقة في الهواء، أو في محل مخلوق، ولا استوى على عرشه فوق سماواته، ولا تُرفع إليه الأيدي، ولا تَعرُج الملائكة والروح إليه، ولا ينزل الأمر والوحي من عنده، وليس فوق العرش إلهٌ يُعبد، ولا ربٌّ يُصلَّى له ويُسْجَد، ما فوقه إلا العدم المحض والنفي الصِّرْف، فهذا توحيدهم، وذاك عدلهم.
فصل
ثم نبغت طائفة أخرى من القدرية، فنفت فعل العبد وقدرته واختياره، وزعمت أن حركته الاختيارية ــ ولا اختيار ــ كحركة الأشجار عند هبوب الرياح، وكحركات الأمواج، وأنه على الطاعة والمعصية مجبور، وأنه غير مُيَسَّرٍ لما خُلِق له، بل هو عليه مَقْسور ومَجْبور.
ثم تلاهم أتباعهم على آثارهم مُقتدين، ولمنهاجهم مُقتفين، فقرّروا هذا المذهب، وانتموا إليه وحققوه، وزادوا عليه أن تكاليف الربّ تعالى لعباده كلها تكليفُ ما لا يُطاق، وأنها في الحقيقة كتكليف المُقْعَد أن يرقى إلى السبع الطِّباق، فالتكليف بالإيمان وشرائعه تكليف بما ليس من فعل العبد، ولا هو له بمقدور، وإنما هو تكليف بفعل مَن هو منفرد بالخلق، وهو على كل شيء قدير، فكلّف عباده بأفعاله، وليسوا عليها قادرين، ثم عاقبهم عليها، وليسوا في الحقيقة لها فاعلين.
(1/10)
________________________________________
ثم تلاهم على آثارهم محققوهم من العُبّاد، فقالوا: ليس في الكون معصية البتَّة؛ إذ الفاعل مطيع للإرادة موافق للمراد، كما قيل:
أصبحتُ مُنْفَعِلًا لما يختاره ... منِّي ففعلي كلُّه طاعاتُ (1)
ولاموا بعضَ هؤلاء على فعله، فقال: إن كنتُ عصيتُ أمره فقد أطعتُ إرادتَه، ومطيع الإرادة غير ملوم، وهو في الحقيقة غير مذموم.
وقرر محققوهم من المتكلمين هذا المذهب؛ بأن الإرادة والمشيئة والمحبّة في حق الرب سبحانه شيء واحد، فمحبته هي نفس مشيئته، وكل ما في الكون فقد أراده وشاءه، وكل ما شاءه فقد أحبّه.
وأخبرني شيخ الإسلام ــ قدَّس الله روحه ــ أنه لام بعضَ هذه الطائفة على محبّة ما يبغضه الله ورسوله، فقال له المَلوم: المحبة نار تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب، وجميع ما في الكون مراده، فأي شيء أُبْغِضُ منه؟!
قال الشيخ: فقلت له: إذا كان قد سخط على أقوام ولعنهم وذمّهم وغضب عليهم فواليتهم أنت وأحببتهم، وأحببت أفعالهم ورضيتها، تكون مواليًا له أو معاديًا؟
_________
(1) نسبه شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" (8/ 257) إلى نجم الدين محمد بن سوار بن إسرائيل، الفقير الشاعر الصوفي (677 هـ)، وانظر: "تاريخ الإسلام" (15/ 347).
وأورد البيت دون نسبة في: "منهاج السنة" (3/ 25) و"الفرقان" (237)، وسينشده المؤلف في (1/ 48) من هذا الكتاب، وفي: "طريق الهجرتين" (1/ 55، 352، 659)، و"مدارج السالكين" (1/ 504، 559، 635).
(1/11)
________________________________________
قال: فبُهِتَ الجبري، ولم ينطق بكلمة (1).
وزعمت هذه الفرقة أنهم بذلك للسنة ناصرون، وللقدر مثبتون، ولأقوال أهل البدع مبطلون.
هذا، وقد طووا بساط التكليف، وطفّفوا في الميزان غاية التطفيف، وحملوا ذنوبهم على الأقدار، وبرّؤوا نفوسهم في الحقيقة من فعل الذنوب والأوزار، وقالوا: إنها في الحقيقة فِعْل الخلَّاق العليم.
وإذا سمع المنزِّه لربِّه هذا قال: سبحانك هذا بهتان عظيم! فالشرّ ليس إليك، والخير كله في يديك.
ولقد ظنّت هذه الطائفة بالله أسوأ الظن، ونسبته إلى أقبح الظلم، وقالوا: إن أوامر الربّ ونواهيه كتكليف العبد أن يرقى فوق السماوات، أو كتكليف الميت إحياء الأموات، والله يعذب عباده أشدّ العذاب على فعل ما لا يقدرون على تركه، وعلى ترك ما لا يقدرون على فعله، بل يعاقبهم على نفس فعله الذي هو لهم غير مقدور، وليس أحدٌ منهم ميسَّر له، بل هو عليه مقهور، وترى العارف منهم ينشد مُترنّمًا، ومن ربّه مُتشكّيًا ومُتظلّمًا:
ألقاه في اليمّ مكتوفًا وقال له: ... إيّاك إيّاك أن تبتلَّ بالماءِ (2)
_________
(1) حكى المؤلف هذه المحاورة عن شيخ الإسلام ابن تيمية في "طريق الهجرتين" (185، 658) و"مدارج السالكين" (4/ 2793)، وانظر: "الاستقامة" (1/ 424) (2/ 78).
(2) البيت للحلاج في "ديوانه" ضمن الأعمال الكاملة (288)، ونسبه إليه في "وفيات الأعيان" (2/ 143)، وشكك الرافعي في تلك النسبة في "تاريخ آداب العرب" (3/ 133).
(1/12)
________________________________________
وليس عند القوم في نفس الأمر سبب ولا غاية ولا حكمة، ولا قوة في الأجسام ولا طبيعة ولا غريزة، فليس في الماء قوة التبريد، ولا في النار قوة التسخين، ولا في الأغذية قوة الغذاء، ولا في الأدوية قوة الدواء، ولا في العين قوة الإبصار، ولا في الأذن قوة السماع، ولا في الأنف قوة الشم، ولا في الحيوان قوة فاعلة، ولا قوة جاذبة، ولا ممسكة ولا دافعة.
والربّ تعالى لم يفعل شيئًا بشيء، ولا شيئًا لشيء، فليس في أفعاله باء تسبيب (1)، ولا لام تعليل، وما ورد من ذلك فمحمول على باء المصاحبة، ولام العاقبة.
وزادوا على ذلك أن الأفعال لا تنقسم في نفسها (2) إلى حَسَن وقبيح، ولا فرق في نفس الأمر بين الصدق والكذب، والبر والفجور، والعدل والظلم، والسجود للرحمن والسجود للشيطان، والإحسان إلى الخلق والإساءة إليهم، ومسبّة الخالق تعالى والثناء عليه، وإنما نعلم الحسن من ذلك من القبيح بمجرد الأمر والنهي، ولذلك يجوز النهي عن كل ما أمر به، والأمر بكل ما نهى عنه، ولو فعل ذلك لكان هذا قبيحًا وهذا حسنًا.
وزاد بعض محقّقيهم على هذا: أن الأجسام كلها متماثلة، فلا فرق في الحقيقة بين جسم النار وجسم الماء، ولا بين جسم الذهب وجسم الخشب، ولا بين المِسْك والرَّجِيع، وإنما تفترق بصفاتها وأعراضها، مع تماثلها في الحدّ والحقيقة.
_________
(1) "د": "تسبُّب" مقيدة، والمثبت من "م"، وانظر: "طريق الهجرتين" (1/ 235).
(2) "م": "أنفسها"، والمثبت من "د" وسيأتي نظيره.
(1/13)
________________________________________
وزادوا على ذلك بأن قالوا: الأعراض كلها لا تبقى زمانين، ولا تستقرّ وقتين. فإذا جمَعْتَ بين قولهم بعدم بقاء الأعراض، وقولهم بتماثل الأجسام، وتساوي الأفعال، وأن العبد لا فعل له البتَّة، وأنه لا سبب في الوجود ولا قوة ولا غريزة ولا طبيعة، وقولهم: إن الربَّ تعالى ليس له فعل يقوم به، وفعله عين مفعوله. وقولهم: إنه ليس بمباين لخلقه، ولا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصلًا به ولا منفصلًا عنه. وقولهم: إنه لا يتكلَّم ولا يُكلَّم، ولا قال ولا يقول، ولا سمع أحدٌ خطابَه ولا يسمعه، ولا يراه المؤمنون يوم القيامة جهرة بأبصارهم من فوقهم= أنتجَتْ لك هذه الأصول عقلًا يعارض السمع، ويناقض الوحي، وقد أوصاك الأشياخ عند التعارض بتقديم هذا المعقول، على ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
فلو أني بُلِيتُ بهاشميٍّ ... خؤولتُه بنو عبد المدان
لهان عليَّ ما ألقى ولكن ... تعالوا فانظروا بمن ابتلاني (1)
فصل
ولمّا كانت معرفةُ الصواب في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل واقعةً في مرتبة الحاجة، بل في مرتبة الضرورة؛ اجتهدتُ في جمع هذا الكتاب وتهذيبه، وتحريره وتقريبه، فجاء فَرْدًا في معناه، بديعًا في مَغْزاه، وسمّيتُه:
_________
(1) أنشدها دون نسبة في "الكامل" (2/ 980)، وفي "ديوان المعاني" (1/ 375).
وأشار محقق "الكامل" إلى مجيئها في بعض الأصول منسوبة لدعبل، ورجح الأشتر عدم صحة هذه النسبة في "ديوان دعبل" (429)، ونسبهما في "أخبار أبي تمام" (39) إلى زياد بن عبيد الله الحارثي، وفي "بهجة المجالس" (1/ 384) إلى أبي راسب.
(1/14)
________________________________________
(شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل)
وجعلتُه أبوابًا:
الباب الأول: في تقدير المقادير قبل خلق السماوات والأرض.
الباب الثاني: في تقدير الربِّ تعالى شقاوة العباد وسعادتهم وأرزاقهم وآجالهم قبل خلقهم، وهو تقدير ثانٍ بعد الأول.
الباب الثالث: في ذكر احتجاج آدم وموسى في ذلك، وحُكْم النبي - صلى الله عليه وسلم - لآدم.
الباب الرابع: في ذكر التقدير الثالث والجنين في بطن أمه.
الباب الخامس: في التقدير الرابع ليلة القدر.
الباب السادس: في ذكر التقدير الخامس اليومي.
الباب السابع: في أنَّ سَبْق المقادير بالشقاوة والسعادة لا يقتضي ترك الأعمال، بل يوجب الاجتهاد والحرص؛ لأنه تقدير بالأسباب.
الباب الثامن: في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101].
الباب التاسع: في قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49].
الباب العاشر: في مراتب القضاء والقدر التي من استكمل معرفتها والإيمان بها فقد آمن بالقدر، وذكر المرتبة الأولى.
الباب الحادي عشر: في ذكر المرتبة الثانية من مراتب القضاء والقدر، وهي مرتبة الكتابة.
(1/15)
________________________________________
الباب الثاني عشر: في ذكر المرتبة الثالثة، وهي مرتبة المشيئة.
الباب الثالث عشر: في ذكر المرتبة الرابعة، وهي مرتبة خلق الأعمال.
الباب الرابع عشر: في الهدى والضلال ومراتبهما.
الباب الخامس عشر: في الطَّبْع والخَتْم والقَفْل والغَلّ والسَّدّ والغشاوة ونحوها، وأنه مفعول للربّ.
الباب السادس عشر: في تفرّد الربّ بالخلق للذوات والصفات والأفعال.
الباب السابع عشر: في الكسب والجبر، ومعناهما لغةً واصطلاحًا، وإطلاقهما نفيًا وإثباتًا.
الباب الثامن عشر: في فَعَل وأَفْعَل في القضاء والقدر، وذكر الفعل والانفعال.
الباب التاسع عشر: في ذكر مناظرة جرت بين جبريّ وسنّي.
الباب العشرون: في ذكر مناظرة بين قدريّ وسنّي.
الباب الحادي والعشرون (1): في تنزيه القضاء الإلهي عن الشر، ودخوله في المَقْضِي.
الباب الثاني والعشرون: في طرق إثبات حكمة الربّ تعالى في خلقه وأمره، وإثبات الغايات المطلوبة، والعواقب الحميدة، التي فعل وأمر لأجلها، وهو من أجلّ أبواب الكتاب.
_________
(1) "م": "والعشرين"، وتكررت في الأبواب الآتية.
(1/16)
________________________________________
الباب الثالث والعشرون: في استيفاء شُبَه نفاة الحكمة، وذكر الأجوبة المفصّلة عنها.
الباب الرابع والعشرون: في معنى قول السلف في الإيمان بالقدر خيره وشرِّه، وحلوه ومرِّه.
الباب الخامس والعشرون: في بيان بطلان قول من قال: إن الربَّ تعالى مريدٌ للشرِّ وفاعلٌ له، وامتناع إطلاق ذلك نفيًا وإثباتًا.
الباب السادس والعشرون: فيما دلَّ عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من عقوبتك، وأعوذ بك منك"؛ من تحقيق القدر وإثباته، وأسرار هذا الدعاء.
الباب السابع والعشرون: في دخول الإيمان بالقضاء والقدر والعدل والتوحيد تحت قوله: "ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك"، وما تضمنه الحديث من قواعد الدين.
الباب الثامن والعشرون: في أحكام الرضا بالقضاء، واختلاف الناس في ذلك، وتحقيق القول فيه.
الباب التاسع والعشرون: في انقسام القضاء والإرادة والكتابة والحكم والأمر والإذن والجَعْل والكلمات والبعث والإرسال والتحريم والعطاء والمنع= إلى كونيٍّ يتعلق بخلقه، وديني يتعلق بأمره، وما في تحقيق ذلك من إزالة اللبس والإشكال.
الباب الموفي ثلاثين: في الفطرة الأولى التي فطر الله عباده عليها، وبيان أنها لا تنافي القضاء والقدر (1)، بل توافقه وتجامعه.
_________
(1) "د": "والعدل".
(1/17)
________________________________________
وهذا حين الشروع في المقصود، فما كان فيه من صواب فمن الله وحده، هو المانّ به. وما كان فيه من خطأ فمنّي ومن الشيطان، والله بريءٌ منه ورسوله.
فيا أيّها المتأمل له، الواقف عليه، لك غُنمه، وعلى مؤلِّفه غُرمه، ولك فائدته، وعليه عائدته. فلا تعجل بإنكار ما لم يتقدم لك أسباب معرفته، ولا يحملنّك شَنَآن مؤلفه وأصحابه على أن تُحرم ما فيه من الفوائد، التي لعلك لا تظفر بها في كتاب، ولعل أكثر من تعظّمه ماتوا بحسرتها، ولم يصلوا إلى معرفتها، والله يقسم فضله بين خلقه بعلمه وحكمته، وهو العليم الحكيم، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
* * * *
(1/18)
________________________________________
الباب الأول في تقدير المقادير قبل خلق السماوات والأرض
عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وعرشه على الماء" رواه مسلم في "الصحيح" (1).
وفيه دليل على أنّ خلق العرش سابق على خلق القلم، وهذا أصحّ القولين؛ لما روى أبو داود في "سننه" (2) عن أبي حفص الشامي قال: قال عبادة بن الصامت: يا بنيّ، إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب. قال: ربِّ، وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة". يا بنيّ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَن مات على غير هذا فليس مني".
وكتابة القلم للقدر كان في الساعة التي خُلِق فيها؛ لما رواه الإمام أحمد
_________
(1) برقم (2653).
(2) برقم (4700) وفي إسناده ضعف، أبو حفص وأبو حفصة الشامي ـ واسمه: حبيش الحبشي ـ تابعي مقل، أورده ابن حبان في "الثقات" (4/ 190)، واختلف عليه في إسناده، وقد تابعه عطاء بإسناد ضعيف عند الترمذي (2155، 3319) وقال في الموضع الثاني منهما: "حسن صحيح غريب"، وللحديث متابعات وشواهد يصح بها، سيذكر المؤلف بعضها.
(1/19)
________________________________________
في "مسنده" (1) من حديث عبادة بن الوليد، قال: حدثني أبي، قال: دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت، فقلت: يا أبتاه، أوصني واجتهد لي. فقال: أجلسوني. فلما أجلسوه قال: يا بنيّ، إنك لن تجد طعم الإيمان، ولن تبلغ حق حقيقة العلم بالله تبارك وتعالى؛ حتى تؤمن بالقدر خيره وشره. قلت: يا أبتاه، وكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره؟ قال: تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك. يا بنيّ، إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن أول ما خلق الله تعالى القلم، ثم قال: اكتبْ. فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة". يا بنيّ، إنْ مِتَّ ولستَ على ذلك دخلتَ النار.
وهذا الذي كتبه القلم هو القَدَر؛ لما رواه ابن وهب (2): أخبرني عمر بن محمد، أن سليمان بن مهران حدثه قال: قال عبادة بن الصامت: ادعوا لي ابني ــ وهو يموت ــ لعلي أخبره بما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3) يقول: "إن أول شيء خلقه الله من خلقه القلم، فقال له: اكتبْ. فقال: يا ربِّ، ماذا أكتب؟ قال: القدر"، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار".
وعن عبد الله بن عباس قال: كنت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - يومًا، فقال لي: "يا
_________
(1) برقم (22705)، والفريابي في "القدر" (72)، بإسناد ليّن، فيه أيوب بن زياد روى عنه جماعة ولم يوثقه سوى ابن حبان في "الثقات" (6/ 58)، ويقويه ما قبله وما بعده من متابعات وشواهد.
(2) "القدر" (26)، وإسناده منقطع؛ الأعمش لم يدرك عبادة، ويحسن بغيره.
(3) "سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ساقطة من "د".
(1/20)
________________________________________
غلام، إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله. واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعت الأقلام، وجفّت الصحف" رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح" (1).
وعن أبي هريرة قال: قلت: يا رسول الله، إني رجل شاب، وأنا أخاف على نفسي العَنَت، ولا أجد ما أتزوج به النساء. فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك، فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك (2) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا هريرة، جفَّ القلم بما أنت لاق، فاخْتَصِ على ذلك أو ذَرْ" رواه البخاري في "صحيحه" (3)، فقال: ثنا (4) أصبغ: ثنا ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة.
ورواه ابن وهب في "كتاب القَدَر" (5) وقال فيه: فأْذَنْ لي أن أختصي. فقال: قال (6): فسكت عني حتى قلت ذلك ثلاث مرات، فقال: "جفَّ القلم
_________
(1) برقم (2516)، وأحمد (2669) من طرق عن قيس بن الحجاج، عن حنش، عن ابن عباس، قال ابن منده في "التوحيد" (2/ 107): "هذا إسناد مشهور، رواه ثقات، وقيس بن الحجاج مصري روى عنه جماعة، ولهذا الحديث طرق عن ابن عباس، وهذا أصحها"، وانظر: "جامع العلوم والحكم" (1/ 460).
(2) من قوله: "فسكت عني" ـ الثانية ـ إلى هنا ساقط من "م"، انتقال نظر.
(3) برقم (5076) معلّقًا، ووصله الفريابي في "القدر" (437).
(4) كذا في "د" "م": "ثنا" خطأ، صوابه: "قال"؛ فإنه معلّق في "الصحيح".
(5) برقم (16)، ومن طريقه أبو عوانة (4007) بإسناد صحيح.
(6) كذا في "د" "م": "فقال: قال"، صوابه بالفعل الثاني فقط، كما في مصدر الرواية.
(1/21)
________________________________________
بما أنت لاق".
وقال أبو داود الطيالسي (1): ثنا عبد المؤمن ـ هو ابن عبد الله (2) ـ قال: كنا عند الحسن فأتاه بُرَيْد بن أبي مريم السلولي يتوكأ على عصا، فقال: يا أبا سعيد، أخبرني عن قول الله عز وجل: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22]. فقال الحسن: نعم والله، إن الله ليقضي القَضِيّة في السماء، ثم يضرب لها أجلًا أنه كائن في يوم كذا وكذا، في ساعة كذا وكذا في الخاصة والعامة (3)، حتى إن الرجل ليأخذ العصا ما يأخذها إلا بقضاء وقدر. قال: يا أبا سعيد، والله لقد أخذتها وإنّي عنها لغني، ثم لا صبر لي عنها. قال الحسن: أفلا تَرَى.
واختُلِف في الضمير في قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا}، فقيل: هو عائد على الأنفس؛ لقُرْبها منه.
وقيل: هو عائد على الأرض.
وقيل: عائد على المصيبة.
والتحقيق أن يقال: هو عائد على البَريّة التي تعمّ هذا كله، ودلّ عليه السياق، وقوله: "نبرأها"، فتنتظم التقادير الثلاثة انتظامًا واحدًا، والله أعلم.
_________
(1) لم أقف عليه من هذا الوجه، وأخرجه ابن بطة في "الإبانة الكبرى" (2/ 194) من طريق أبي داود السجستاني، عن محمد بن عيسى، عن عبد المؤمن بنحوه، وعزاه في "الدر المنثور" (14/ 285) إلى ابن المنذر بقريب منه.
(2) كذا في "د" "م": "ابن عبد الله" تحريف، صوابه: "ابن عبيد الله" وهو السدوسي، من رجال "التهذيب" (18/ 444).
(3) "م": "أو العامة"، والمثبت موافق لمصدرَيْ التخريج الآنفَيْن.
(1/22)
________________________________________
وقال ابن وهب (1): أخبرني عمر بن محمد، أن سليمان بن مهران حدثه قال: قال عبد الله بن مسعود: إن أول شيء خلقه الله عز وجل من خلقه القلم، فقال له: اكتبْ. فكتب كل شيء يكون في الدنيا إلى يوم القيامة، فيجمع بين الكتاب الأول وبين أعمال العباد، فلا يخالف ألفًا ولا واوًا ولا ميمًا.
وعن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله عز وجل خلق خلقه في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور شيء اهتدى، ومن أخطأه ضلَّ".
قال عبد الله بن عمرو (2): فلذلك أقول: جفَّ القلم بما هو كائن. رواه الإمام أحمد (3).
وقال أبو داود (4):
حدثنا عباس بن الوليد بن مَزْيَد، قال: أخبرني أبي، قال: سمعت الأوزاعي، قال: حدثني ربيعة بن يزيد ويحيى بن أبي عمرو
_________
(1) "القدر" (29)، وفيه انقطاع، سليمان ـ هو الأعمش ـ لم يدرك ابن مسعود.
(2) "د": "عمر"، وطمست في "م".
(3) برقم (6644) بنحوه، وهو جزء من حديث طويل يشتمل على ثلاثة أخبار سيأتي قريبًا، وأخرجه بتمامه الفريابي في "القدر" (70)، والحاكم (83).
وأخرج القدر الذي أورده المؤلف ابن أبي عاصم في "السنة" (241)، والترمذي (2642) وحسنه، والفريابي في "القدر" (67)، وصححه ابن حبان (6169).
(4) هو السجستاني في كتابه "القدر".
والحديث أخرجه من طريق العباس بن الوليد بأطول منه الحاكم في "المستدرك" (83).
(1/23)
________________________________________
السَّيْباني، قال: حدثني عبد الله بن فيروز الديلمي، قال: دخلت على عبد الله ابن عمرو بن العاص ـ وهو في حائط له بالطائف يقال له: الوَهْط ـ فقلت: خصال بلغتني عنك تحدث بها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من شرب الخمر لم تُقبل توبته أربعين صباحًا، وأن الشقِيّ مَن شَقِي في بطن أمه"، قال: وسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله خلق خلقه في ظلمة، ثم ألقى عليهم مِن نوره، فمن أصابه من ذلك النور يومئذ اهتدى، ومن أخطأه ضلَّ"، فلذلك أقول: جفَّ القلم على علم الله.
ورواه الإمام أحمد في "مسنده" (1) أطول من هذا، عن عبد الله بن فيروز الديلمي، قال: دخلت على عبد الله بن عمرو، وهو في حائط له بالطائف يقال له: الوَهْط، وهو مُخَاصِر (2) فتى من قريش يُزَنّ (3) بشرب الخمر، فقلت: بلغني عنك حديث أنه: "من شرب شَرْبة خمر لم يقبل الله له توبة أربعين صباحًا، وأن الشقِيّ مَن شَقِي في بطن أمه، وأنه من أتى بيت المقدس لا يَنْهَزُهُ إلا الصلاة فيه خرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمه"، فلما سمع الفتى ذكر الخمر اجتذب يده من يده، ثم انطلق، فقال عبد الله بن عمرو: إني لا أُحِلُّ لأحد أن يقول عليَّ ما لم أقل، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من شرب من الخمر شَرْبة لم تُقْبل له (4) صلاةٌ أربعين صباحًا، فإن تاب تاب الله عليه"، فلا
_________
(1) برقم (6644)، وتقدم الكلام عليه.
(2) "د" "م": "محاضر" تصحيف، والمثبت من مصادر التخريج، وخاصر الرجل صاحبه إذا أمسك بيده، انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (خصر) (1/ 308).
(3) يقال: زنّه بكذا وأزنه إذا اتهمه به وظنّه فيه، "النهاية في الغريب" (زنن) (2/ 316).
(4) "م": "الله" تحريف.
(1/24)
________________________________________
أدري في الثالثة أو في الرابعة قال: "فإن عاد كان حقًّا على الله أن يسقيه من رَدْغة الخبال (1) يوم القيامة".
قال: وسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله عز وجل خلق خلقه في ظلمة، ثم ألقى عليهم مِن نوره، فمَن أصابه مِن نوره يومئذ اهتدى، ومَن أخطأه ضلَّ"، فلذلك أقول: جفَّ القلم على علم الله.
وسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن سليمان بن داود سأل الله عز وجل ثلاثًا فأعطاه اثنتين، ونحن نرجو أن تكون لنا (2) الثالثة: سأل الله حُكْمًا يصادف حُكْمه؛ فأعطاه الله إياه، وسأله ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده؛ فأعطاه إياه، وسأله أيما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد خرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمه، فنحن نرجو أن يكون الله عز وجل، يعني: قد أعطانا (3) إيّاه"، ورواه الحاكم في "صحيحه" (4)، وقال: "هو على شرط الشيخين، ولا علة له".
* * * *
_________
(1) هي عصارة أهل النار كما في "مسلم" (2002)، وأصل الرَّدْغة: الطين والوحل الكثير، انظر: "النهاية في الغريب" (ردغ) (2/ 215).
(2) في "المسند" ومصادر التخريج: "له"، وجاءت عند ابن كثير موافقة لما هنا في "التفسير" (7/ 72)، و"البداية والنهاية" (2/ 341).
(3) في "د" و"المسند" ومصادر التخريج: "أعطاه"، والمثبت من "م" وهو المتسق مع ما تقدم في الحاشية السابقة.
(4) (1/ 84)، ولفظه: "هذا حديث صحيح قد تداوله الأئمة، وقد احتجا بجميع رواته، ثم لم يخرجاه، ولا أعلم له علة".
(1/25)
________________________________________
الباب الثاني في تقدير الرب تبارك وتعالى شقاوةَ العباد وسعادتَهم وأرزاقَهم وآجالَهم وأعمالَهم قبل خلقهم، وهو تقدير ثانٍ بعد التقدير الأول
عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: كنّا في جنازة في بَقِيع الغَرْقَد، فأتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقعد وقعدنا حوله، ومعه مِخْصَرة (1)، فنكَّسَ فجعل يَنْكُتُ بمِخْصَرته، ثم قال: "ما منكم من أحد، ما من نفس مَنْفُوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة". قال: فقال رجل: يا رسول الله، أفلا نمكث على كتابنا، وندع العمل؟ فقال: "من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومَن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة"، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ} [الليل:5 - 10].
وفي لفظ: "اعملوا فكل ميسَّر، أما أهل السعادة فيُيَسَّرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فيُيَسَّرون لعمل أهل الشقاوة"، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ} (2).
وعن عمران بن حُصين قال: قيل: يا رسول الله، أَعُلِم أهلُ الجنة من
_________
(1) المِخْصَرة: ما يختصره الإنسان بيده فيمسكه أو يتكئ عليه من عصا أو عكازة ونحوها، "النهاية في الغريب" (خصر) (2/ 36).
(2) أخرجه البخاري (1362)، ومسلم (2647) واللفظ له.
(1/26)
________________________________________
أهل النار؟ فقال: "نعم"، قيل: ففيم يعمل العاملون؟ قال: "كل ميسَّر لما خُلِق له" متفق عليه (1).
وفي بعض طرق البخاري: "كل يعمل لما خُلِق له، أو لما يُسِّر له" (2).
وعن أبي الأسود الدُّؤَلي قال: قال لي عمران بن حصين: أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه، أشيء قُضِي عليهم، ومضى عليهم من قَدَرٍ قد سبق، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم، وثبتت الحجة عليهم؟ فقلت: بل شيء قُضِي عليهم، ومضى عليهم. قال: فقال: أفلا يكون ظلمًا؟ قال: ففزعت من ذلك فزعًا شديدًا، وقلت: كل شيء خَلْقُ الله، ومُلْكُ يده، فلا يُسأل عما يفعل وهم يسألون. قال: فقال لي: يرحمك الله، إني لم أرد بما سألتك إلا لأحزر عقلك، إنّ رجلين من مُزَينة أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالا: يا رسول الله، أرأيت ما يعمل الناس اليوم، ويكدحون فيه، أشيء قُضِي عليهم، ومضى فيهم من قَدَرٍ قد سبق، أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم، وثبتت الحجة عليهم؟ فقال: "بل شيء قُضِي عليهم، ومضى فيهم، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7 - 8] ". رواه مسلم في "صحيحه" (3).
وعن شُفَي الأصبحي، عن عبد الله بن عمرو قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي يده كتابان، فقال: "أتدرون ما هذان الكتابان؟ " قال: قلنا: لا، إلا أن
_________
(1) أخرجه البخاري (7551)، ومسلم (2646) واللفظ له.
(2) برقم (6596).
(3) برقم (2650).
(1/27)
________________________________________
تخبرنا يا رسول الله. قال للذي في يده اليمنى: "هذا كتابٌ من ربّ العالمين تبارك وتعالى بأسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أُجْمِل على آخرهم (1)، لا يُزاد فيهم، ولا يُنْقص أبدًا"، ثم قال للذي في يساره: "هذا كتاب أهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أُجْمِل على آخرهم، لا يُزاد فيهم، ولا يُنْقص منهم أبدًا"، فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فلأي شيء نعمل إن كان هذا أمرٌ قد فُرِغ منه؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سدّدوا وقاربوا؛ فإنَّ صاحب الجنة يُخْتم له بعمل الجنة وإنْ عمل أيَّ عمل، وإنَّ صاحب النار يُخْتم له بعمل النار وإنْ عمل أيَّ عمل"، ثم قال بيده فقبضها، ثم قال: "فرغ ربكم عز وجل من العباد"، ثم قال باليمنى فنبذَ بها، فقال: "فريق في الجنة"، ونبذ باليسرى، فقال: "فريق في السعير". رواه الترمذي عن قتيبة، عن ليث، عن أبي قَبِيل، عن شُفَيّ. وعن قتيبة، عن بكر بن نصر (2)، عن أبي قَبِيل به، وقال: "حديث حسن صحيح غريب"، ورواه النسائي، والإمام أحمد، وهذا السياق له (3).
_________
(1) أي أحصوا وجمعوا، من أجملت الحساب إذا جمعت آحاده وكمّلت أفراده، "النهاية في الغريب" (جمل) (1/ 298).
(2) كذا في "د" "م": "ابن نصر"، صوابه: "ابن مُضر"، من رجال الشيخين كما في "تهذيب الكمال" (4/ 227)، وكذلك وقعت محرّفة في الأصول الخطية لـ "مدارج السالكين" (2/ 147) كما أشار إليه المحقق، وكأن هذا التحريف كان واقعًا بنفس الأصل الذي ينقل منه المؤلف.
(3) الترمذي (2141)، وأحمد (6563)، والنسائي في "الكبرى" (11409)، من طرق عن أبي قَبِيل حُيي بن هانئ به، وأبو قبيل وثقه جماعة وتكلم فيه آخرون، وحسّن إسناده ابن حجر في "الفتح" (1/ 291).
(1/28)
________________________________________
وفي "صحيح الحاكم" (1) وغيره من حديث أبي جعفر الرازي، حدثنا الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أُبي بن كعب في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ (2)} قال: "جَمَعهم له يومئذ جمعًا، ما هو كائن إلى يوم القيامة، فجعلهم أرواحًا، ثم صوّرهم واستنطقهم، فتكلموا، وأخذ عليهم العهد والميثاق، {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا يَقُولُوا تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ يَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا (3) فَعَلَ} [الأعراف: 172 - 173]، قال: فإني أُشْهِد عليكم السماوات السبع، والأرضين السبع، وأُشْهِد عليكم أباكم آدم، أن تقولوا يوم القيامة: لم نعلم، أو تقولوا: إنا كنا عن هذا غافلين، فلا تشركوا بي شيئًا، فإني أرسل إليكم رسلي، يذكّرونكم عهدي وميثاقي، وأنزل عليكم كتبي. فقالوا: نشهد أنك ربُّنا وإلهنا، لا ربَّ لنا غيرُك، ورُفِع لهم أبوهم آدم فرأى فيهم الغني والفقير، وحَسَن الصورة وغير ذلك، فقال: ربّ، لو سوَّيتَ بين عبادك؟ فقال: إني أحب أن أُشكر. ورأى فيهم الأنبياء مثل السُرُج" وذكر تمام الحديث.
_________
(1) برقم (3255)، وأخرجه الفريابي في "القدر" (51)، وعبد الله في زوائد "المسند" (21232)، وابن أبي حاتم في "التفسير" (5/ 1615).
(2) "م": "ذريتهم" قرأ به عاصم وغيره، والمثبت من "د"، قراءة نافع وابن عامر وأبي عمرو ـ قراءة الشاميين في عصر المؤلف ـ، وستتكرر هذه القراءة في سائر الكتاب، انظر: "الحجة للقراء السبعة" (4/ 104).
(3) من أول الآية إلى هنا محله في "د": "إلى قوله".
(1/29)
________________________________________
وفي "صحيحه" و"جامع الترمذي" (1) من حديث هشام بن زيد (2)، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لما خلق الله آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة أمثال الذر، ثم جعل بين عيني كلِّ إنسان منهم وَبِيصًا (3) من نور، ثم عرضهم على آدم، فقال: من هؤلاء يا ربِّ؟ قال: هؤلاء ذريتك. فرأى فيهم رجلًا أعجبه وَبِيص ما بين عينيه، فقال: يا ربِّ مَن هذا؟ قال: ابنك داود، يكون في آخر الأمم. قال: كم جعلت له من العمر؟ قال: ستين سنة. قال: يا ربِّ، زده من عمري أربعين سنة. قال الله: إذن يُكتب ويُختم فلا يُبدّل. فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت، قال: أَوَ لَم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال له: أولم تجعلها لابنك داود؟! قال: فجحد فجحدت ذريته، ونسي فنسيت ذريته، وخَطِئ فخَطِئت ذريته"، قال: "هذا على شرط مسلم".
وفي "الموطأ" (4): مالك، عن زيد بن أبي أُنَيْسة، أن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أخبره، عن مسلم بن يسار الجهني، أن
_________
(1) "المستدرك" (3257)، "جامع الترمذي" (3076) وقال: "حسن صحيح".
(2) كذا في "م": "زيد"، وفي "د": "يزيد" سبق قلم من المؤلف؛ فإنه وقع كذلك في جميع الأصول الخطية لكتاب "الروح" (2/ 455)، صوابه: "سعد" كما في مصادر التخريج.
(3) الوبيص: البريق، "النهاية في الغريب" (وبص) (5/ 146).
(4) (2/ 898)، ومن طريقه أبو داود (4703)، والنسائي في "الكبرى" (11126)، والترمذي (3075) وقال: "هذا حديث حسن، ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر، وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وبين عمر رجلًا"، وسيتكلم المؤلف على الحديث وبيان علّته.
(1/30)
________________________________________
عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سُئل عن هذه الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ (1)}، فقال عمر: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُئل عنها، فقال: "إن الله خلق آدم، ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقتُ هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون". فقال رجل: يا رسول الله، ففيم العمل؟ فقال: "إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار، فيدخله النار"، قال الحاكم: "هذا الحديث على شرط مسلم" (2).
وليس كما قاله، بل هو حديث منقطع، قال أبو عمر: "هو حديث منقطع؛ فإن مسلم بن يسار هذا لم يلق عمر بن الخطاب، بينهما نعيم بن ربيعة، هذا إن صح؛ لأن (3) الذي رواه عن زيد بن أبي أُنَيْسة ــ فذكر فيه نعيم بن ربيعة (4) ــ ليس هو بأحفظ من مالك، ولا ممن يُحتج به إذا خالفه مالك، ومع ذلك فإن نعيم بن ربيعة ومسلم بن يسار جميعًا مجهولان غير معروفين بحمل العلم ونقل الحديث، وليس هو مسلم بن يسار البصري العابد، وإنما هو رجل مدني (5) مجهول".
_________
(1) "م": "ذريتهم"، وقد تقدم بيانه قريبًا.
(2) "المستدرك" (1/ 80).
(3) "د": "أن"، والمثبت من "م" موافق للأصل المنقول منه.
(4) "م": "بن أبي ربيعة".
(5) "م": "بدوي" تحريف.
(1/31)
________________________________________
ثم ذكر من "تاريخ ابن أبي خيثمة" (1) قال: قرأت على يحيى بن معين حديث مالك هذا، فكتب بيده على مسلم بن يسار: لا يُعرف.
قال أبو عمر: "هذا الحديث وإن كان عليل الإسناد فإن معناه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد روي من وجوه كثيرة، من حديث عمر بن الخطاب وغيره، وممن روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - معناه في القدر: علي بن أبي طالب، وأبيُّ بن كعب، وابن عباس، وابن عمر، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، وأبو سَرِيحة الغفاري، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وذو اللحية الكلابي، وعمران بن حصين، وعائشة، وأنس بن مالك، وسراقة بن جُعْشُم، وأبو موسى الأشعري، وعبادة بن الصامت" (2).
قلت: وحذيفة بن اليمان، وزيد بن ثابت، وجابر بن عبد الله، وحذيفة بن أَسِيد (3)، وأبو ذر، ومعاذ بن جبل، وهشام بن حكيم، وأبو عبد الله رجل من الصحابة، روى عنه أبو نَضْرة، وعبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وأبو الدرداء، وعمرو بن العاص، وعائشة أم المؤمنين، وعبد الله بن الزبير، وأبو أمامة الباهلي، وأبو الطفيل، وعبد الرحمن بن عوف، وبعض أحاديثهم موقوفة، وستمر بك جميعها متفرقة في أبواب الكتاب إن شاء الله عز وجل.
_________
(1) (3/ 227).
(2) "الاستذكار" (8/ 260)، وبنحوه في "التمهيد" (6/ 3)، وانظر: "المراسيل" (210) لابن أبي حاتم، "علل الدارقطني" (2/ 221 - 223)، "تفسير ابن كثير" (3/ 503).
(3) في حاشية "م": "حذيفة بن أسيد هو أبو سريحة الغفاري"، وهو كما قال؛ فلا وجه لاستدراكه على أبي عمر، انظر: "الاستيعاب" (4/ 1667).
(1/32)
________________________________________
وقال إسحاق بن راهويه: أخبرنا بقية بن الوليد، قال: أخبرني الزُّبَيْدي محمد (1) بن الوليد، عن راشد بن سعد، عن عبد الرحمن بن أبي قتادة (2)، عن أبيه، عن هشام بن حكيم بن حزام أن رجلًا قال: يا رسول الله، أَتُبْتَدأ الأعمال أم قد قُضِي القضاء؟ فقال: "إن الله لما أخرج ذرية آدم من ظهره، أشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كفيه، فقال: هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار، فأهل الجنة ميسَّرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ميسَّرون لعمل أهل النار" (3).
قال إسحاق: وأخبرنا عبد الصمد، حدثنا حماد، حدثنا الجُرَيري، عن أبي نَضْرة أن رجلًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقال له: أبو عبد الله، دخل عليه أصحابه يعودونه وهو يبكي، فقالوا له: ما يبكيك؟ قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله قبض قبضة بيمينه، وأخرى بيده الأخرى، قال: هذه لهذه،
_________
(1) "م": "الزبيدي بن محمد" بإقحام "ابن".
(2) هكذا في الأصول الخطية، وكذلك هو في "مسند ابن راهويه" كما في الكتب الصادرة عنه، وليس تحريفًا أو خطأ، فقد كان بقية يضطرب في اسمه، نص عليه البخاري في "التاريخ الكبير" (5/ 341)، وابن حبان في "الثقات" (7/ 75)، والوجه فيه: "عبد الرحمن بن قتادة" النصري.
(3) هو في "مسند إسحاق" ـ كما في "المطالب العالية" (12/ 470) ـ، ومن طريقه البيهقي في "القضاء والقدر" (226)، وأخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (5/ 342) (8/ 192)، والفريابي في "القدر" (22، 23، 24) من طرق عن راشد بن سعد، واختلفوا عنه إسنادًا ومتنًا، وبالاضطراب أعله ابن السكن كما في "تعجيل المنفعة" (1/ 891)، وابن عبد البر في "الاستيعاب" (2/ 851)، ولأصل الحديث عدة شواهد ستأتي.
(1/33)
________________________________________
وهذه لهذه، ولا أبالي"، فلا أدري في أيّ القبضتين أنا (1).
أخبرنا عمرو بن محمد، حدثنا إسماعيل بن رافع، عن المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله تعالى خلق آدم من تراب، ثم جعله طينًا، ثم تركه، حتى إذا كان صلصالًا كالفخّار كان إبليس يمر به فيقول: خُلِقت لأمر عظيم! ثم نفخ الله فيه من روحه، قال: يا ربِّ، ما ذريتي؟ قال: اختر يا آدم. قال: أختار يمين ربي ــ وكلتا يدي ربي يمين ــ. فبسط الله كفّه، فإذا كلّ من هو كائن من ذرّيته في كفّ الرحمن" (2).
أخبرنا النضر، أخبرنا أبو معشر، عن سعيد المقبري ونافع مولى الزبير، عن أبي هريرة قال: "لما أراد الله أن يخلق آدم ــ فذكر خلق آدم ــ فقال له: يا آدم، أيُّ يديّ أحب إليك أن أريك ذرّيتك فيها؟ قال: يمين ربِّي -وكلتا يدي ربي يمين-، فبسط يمينه، وإذا فيها ذرّيته كلهم ما هو خالق إلى يوم القيامة، الصحيح على هيئته، والمبتلى على هيئته، والأنبياء على هيئاتهم، فقال: ألا أعفيتَهم كلهم؟ فقال: إني أحببتُ أن أشكر" وذكر الحديث (3).
_________
(1) أخرجه أحمد (17593) بإسناد صحيح. قال الهيثمي في "المجمع" (7/ 185): "رجاله رجال الصحيح"، وفي الباب عن معاذ وأنس وغيرهما.
(2) أخرجه من هذا الوجه مبسوطًا أبو يعلى (6580)، وإسماعيل بن رافع ضعيف صاحب مناكير، كما في "المجروحين" (1/ 124)، واختلف فيه أصحاب المقبري واضطربوا في لفظه، قال الترمذي (3368) بعد أن أخرجه من طريق آخر: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "، وانظر: "السنن الكبرى" للنسائي (9/ 90 - 93).
(3) جزء من حديث طويل أخرجه ابن بشران في "الأمالي" (1/ 287)، وعزاه في "الدر المنثور" (1/ 251) إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(1/34)
________________________________________
وقال محمد بن نصر المروزي: حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا سعيد بن أبي مريم، أخبرنا الليث بن سعد، حدثني ابن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، عن عبد الله بن سلام قال: "خلق الله آدم، ثم قال بيده فقبضها، فقال: اختر يا آدم. فقال: اخترت يمين ربي ــ وكلتا يديك يمين ــ. فبسطها فإذا فيها ذريته، فقال: مَن هؤلاء يا رب؟ قال: مَن قضيتُ أن أخلق من ذريتك من أهل الجنة إلى أن تقوم الساعة" (1).
قال: وحدثنا إسحاق بن راهويه (2)، حدثنا جعفر بن عون، أخبرنا هشام ابن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبي هريرة (3)، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لمّا خلق الله آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة" وذكر الحديث (4).
وقال إسحاق: حدثنا المُلائي، حدثنا المسعودي، عن علي بن بَذِيمة، عن سعيد، عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ} [الأعراف: 172] قال: "إن الله أخذ على آدم ميثاقه أنه ربّه، وكتب أجله ورزقه ومصيباته، ثم أخرج من ظهره ولده كهيئة الذر، فأخذ عليهم
_________
(1) أخرجه مطوّلًا الفريابي في "القدر" (1)، ومختصرًا ـ دون ذكر موضع الشاهد ـ النسائي في "الكبرى" (9976)، وهو بإسناده ومتنه في "الروح" (2/ 460).
(2) "بن راهويه" من "د".
(3) كذا في الأصول: "زيد بن أسلم، عن أبي هريرة"، وكذلك وقع في "الروح" (2/ 460)، وتقدم الإسناد قريبًا بإدخال أبي صالح بينهما؛ فإن زيدًا لم يسمع من أبي هريرة، ذكره ابن معين في "التاريخ" برواية الدوري (3/ 244).
(4) تقدم تخريجه في (30).
(1/35)
________________________________________
الميثاق أنه ربهم، وكتب أجلهم ورزقهم ومصيباتهم" (1).
قال: وثنا وكيع، ثنا الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ابن عباس قال: "مسح الله ظهر آدم، فأخرج كل طيب في يمينه، وفي يده الأخرى كل خبيث" (2).
وقال محمد بن نصر: حدثنا الحسن بن محمد الزَّعْفَراني، وحدثنا (3) حجاج، عن ابن جريج، عن الزبير بن موسى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "إن الله ضرب منكبه الأيمن، فخرجت كل نفس مخلوقة للجنة بيضاء نقية، فقال: هؤلاء أهل الجنة. ثم ضرب منكبه الأيسر، فخرجت كل نفس مخلوقة للنار سوداء، فقال: هؤلاء أهل النار. ثم أخذ عهده على الإيمان والمعرفة له والتصديق له وبأمره من بني آدم كلهم، وأشهدهم على أنفسهم، فآمنوا وصدقوا وعرفوا وأقرّوا" (4).
حدثنا إسحاق، حدثنا روح بن عبادة، ثنا محمد بن عبد الملك، عن أبيه، عن الزبير بن موسى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس بهذا الحديث،
_________
(1) أخرجه الدارمي في "الرد على الجهمية" (256)، والفريابي في "القدر" (57)، والطبري (10/ 550).
(2) أخرجه الطبري (10/ 549).
(3) كذا في "د" "م": "وحدثنا" خطأ، صوابه: "حدثنا"؛ فإن ابن نصر لم يدرك حجاجًا، وجاء على الوجه عند ابن بطة في "الإبانة الكبرى" (1340)، وانظر: "الروح" (2/ 461).
(4) أخرجه الفريابي في "القدر" (58)، والطبري (10/ 556).
(1/36)
________________________________________
وزاد: قال ابن جريج: وبلغني أنه أخرجهم على كفّه أمثال الخردل (1).
قال إسحاق: وأخبرنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ}، قال: "أخذهم كما يؤخذ بالمشط" (2).
وفي "تفسير أسباط": عن السدي، عن أصحابه أبي مالك (3) وأبي صالح (4)، عن ابن عباس، وعن مُرّة الهَمْداني، عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} الآية، قال: "لما أخرج الله آدم من الجنة ــ قبل أن يهبطه من السماء ــ مسح صفحة ظهر آدم اليمنى، فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ، وكهيئة الذر، فقال لهم: ادخلوا الجنة برحمتي. ومسح صفحة ظهره اليسرى، فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر، فقال: ادخلوا النار ولا أبالي. فذلك حين يقول: {أَصْحَابُ اُلْيَمِينِ} و {أَصْحَابُ اُلشِّمَالِ}. ثم أخذ منهم الميثاق، فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى.
فأعطاه طائفةٌ طائعين، وطائفةٌ كارهين على وجه التَّقِيّة، فقال هو والملائكة: {شَهِدْنَا أَنْ يَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ يَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ} الآية [الأعراف: 172 - 173]، فلذلك ليس أحد من
_________
(1) أخرجه الطبري (10/ 556)، وابن منده في "الرد على الجهمية" (35).
(2) أخرجه الطبري (10/ 553)، وابن أبي حاتم في "التفسير" (5/ 1613).
(3) في "م": "أن مالك" تحريف، وهو أبو مالك غزوان الغفاري الكوفي، انظر: "تهذيب الكمال" (23/ 100).
(4) في "د": "وابن صالح"، وفي "م": "وابن أبي صالح" كلاهما خطأ، وهو أبو صالح باذام مولى أم هانئ، انظر: "تهذيب الكمال" (4/ 6).
(1/37)
________________________________________
ولد آدم إلا وهو يعرف أن ربه الله، ولا مشرك إلا وهو يقول: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]، فذلك قوله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ}، وذلك حين يقول: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83]، وذلك حين يقول: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149]، قال: يعني يوم أخذ الميثاق" (1).
وقال إسحاق: حدثنا وكيع، حدثنا فِطْر، عن ابن سابط، قال: قال أبو بكر - رضي الله عنه -: "خلق الله الخلق قبضتين، فقال لمن في يمينه: ادخلوا الجنة بسلام. وقال لمن في يده الأخرى: ادخلوا النار ولا أبالي" (2).
وأخبرنا جرير، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن رجل من الأنصار من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - قال: "لما خلق الله الخلق قبضتين (3) بيده، فقال لمن في يمينه: أنتم أصحاب اليمين. وقال لمن في اليد الأخرى: أنتم أصحاب الشمال. فذهبت إلى يوم القيامة" (4).
_________
(1) أخرجه بهذا السياق ابن عبد البر في "التمهيد" (18/ 85)، ومفرّقًا الطبري (10/ 560 - 562)، وأورده المصنف في "أحكام أهل الذمة" (2/ 996)، وفي "الروح" (2/ 462) مصدّرًا إياه بقوله: "وذكر محمد بن نصر من تفسير السدي"، وطعن شيخ الإسلام في هذا الأثر لجملة: "وطائفة كارهين على وجه التَقِيّة" "درء التعارض" (8/ 423)، وسيأتي في الباب الثلاثين الكلام عليه (2/ 427).
(2) أخرجه معمر في "الجامع" (20094)، والدارمي في "النقض على المريسي" (1/ 268)، وابن بطة في "الإبانة الكبرى" (1335).
(3) كذا في الأصول الخطية، والأليق بالسياق بعده: "قبض قبضتين".
(4) لم أقف عليه.
(1/38)
________________________________________
وقال عبد الله بن وهب في "كتاب القدر" (1): أخبرني جرير بن حازم، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة قال: "إن الله عز وجل لما خلق آدم أخرج ذريته، ثم نثرهم في كفه، ثم أفاضهم، فألقى التي في يمينه عن يمينه، والتي في يده الأخرى عن شماله، ثم قال: هؤلاء لهذه ولا أبالي، وهؤلاء لهذه ولا أبالي. وكتب أهل النار وما هم عاملون، وأهل الجنة وما هم عاملون، وطوى الكتاب، ورفع القلم".
وقال أبو داود: ثنا مُسَدَّد، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي صالح فذكره (2).
قال ابن وهب: وأخبرني عمرو بن الحارث، وحيوة بن شُرَيح، عن ابن أبي أسيد ــ هكذا قال ــ، عن أبي فراس حدثه، أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول: "إن الله عز وجل لما خلق آدم نفضه نفض المِزْوَد (3)، فأخرج من ظهره ذريته أمثال النَّغَف (4)، فقبضهم قبضتين، ثم ألقاهما، ثم قبضهما، فقال: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7] " (5).
قال ابن وهب: وأخبرني يونس بن يزيد، عن الأوزاعي، عن عبد الله بن
_________
(1) برقم (12)، ومن طريقه ابن بطة في "الإبانة الكبرى" (1344).
(2) هو في "مسند مسدد" كما في "المطالب العالية" (12/ 481)، ومن طريق أبي داود أخرجه ابن بطة في "الإبانة الكبرى" (1343).
(3) المِزْوَد: وعاء يجعل فيه الزاد، انظر: "الصحاح" (زود) (2/ 481).
(4) النغف: دود يكون في أنوف البهائم، انظر: "الصحاح" (نغف) (4/ 1435).
(5) "القدر" (15)، ومن طريقه الحربي في "غريب الحديث" (3/ 989)، والطبري (20/ 471).
(1/39)
________________________________________
عمرو بن العاص قال: "من كان يزعم أن مع الله قاضيًا أو رازقًا، أو يملك لنفسه ضرًّا أو نفعًا، أو موتًا أو حياة أو نشورًا؛ لقي الله فأدحض حجته، وأحرق (1) لسانه، وجعل صلاته وصيامه هباءً (2)، وقطع به الأسباب، وأكبّه الله على وجهه في النار".
وقال: "إن الله خلق الخلق، فأخذ منهم الميثاق، وكان عرشه على الماء" (3).
وذكر أبو داود: ثنا يحيى بن حبيب، ثنا معتمر، ثنا أبي، عن أبي العالية في قوله عز وجل: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)} [آل عمران: 106 - 107]، قال: صاروا فريقين، وقال لمن سوَّد وجوههم وعَيَّرهم (4): {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}، قال: هو الإيمان الذي كان حيث كانوا أمة واحدة مسلمين" (5).
قال أبو داود: وحدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا حماد، ثنا أبو نعامة السعدي قال: كنا عند أبي عثمان النهدي، فحمدنا الله عز وجل، فذكرناه
_________
(1) في بعض المصادر: "وأخرق"، وفي أخرى: "وأخرس".
(2) بعده في "م": "منثورًا"، وليست في مصدر الرواية الآتي.
(3) "القدر" (24)، ومن طريقه ابن بطة في "الإبانة الكبرى" (1642)، ورواه بنحوه (1643) من كلام عبد الله بن عمر.
(4) هكذا في الأصول وتفسير الطبري: "وعيرهم".
(5) أخرجه ابن أبي حاتم في "التفسير" (3/ 730)، والطبري (3/ 623) (5/ 665) من وجه آخر عن أبي العالية، عن أبي بن كعب قوله.
(1/40)
________________________________________
ودعوناه، فقلت: لأنا بأول هذا الأمر أشد فرحًا مني بآخره. فقال أبو عثمان: ثبَّتك الله، كنا عند سلمان، فحمدنا الله عز وجل وذكرناه ودعوناه، فقلت: لأنا بأول هذا الأمر أشدّ فرحًا مني بآخره. فقال سلمان: ثَبَّتَك الله، إن الله تبارك وتعالى لما خلق آدم مسح ظهره، فأخرج من ظهره ما هو ذارئ (1) إلى يوم القيامة، فخلق الذكر والأنثى، والشّقْوَة والسعادة، والأرزاق والآجال والألوان، ومِنْ عَلَم السعادة فِعْلُ الخير ومجالسُ الخير (2)، ومِنْ عَلَم الشقاوة فِعْلُ الشر ومجالسُ الشر (3).
وقال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، أخبرنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "مسح ربك تعالى ظهر آدم، فأخرج منه ما هو ذارئ (4) إلى يوم القيامة، أخذ (5) عهودهم ومواثيقهم".
قال سعيد: فيرون أن القلم جَفَّ يومئذ (6).
_________
(1) في "م": "كائن"، والمثبت من "د"، موافقة لما في "الإبانة" و"الشريعة"، وذارئ: خالق.
(2) يعني من علامة السعادة فعل الخير، وضبط "علم" من "د" "م".
(3) أخرجه من طريق أبي داود به ابن بطة في "الإبانة الكبرى" (1342)، وهو في "القدر" للفريابي (51)، ومن طريقه الآجري في "الشريعة" (430).
(4) "م": "كائن".
(5) كذا في الأصول على الاستئناف: "أخذ".
(6) أخرجه من طريق عطاء بنحوه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (1/ 29)، والطبري (10/ 548).
(1/41)
________________________________________
وقال الضحاك: خرجوا كأمثال الذر، ثم أعادهم (1).
فهذه الآثار (2) وغيرها تدل على أن الله سبحانه قدَّر أعمال بني آدم وأرزاقهم وآجالهم وسعادتهم وشقاوتهم عقيب خلق أبيهم، وأراهم لأبيهم آدم صورهم وأشكالهم وحلاهم، وهذا ــ والله أعلم ــ أمثالهم وصورهم.
وأما تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} الآية به ففيه ما فيه، وحديث عمر ــ لو صح ــ لم يكن تفسيرًا للآية، وبيان أن ذلك هوالمراد بها، فلا يدل الحديث عليه، ولكن الآية دلت على أن هذا الأخذ من بني آدم لا من آدم، وأنه من ظهورهم لا من ظهره، وأنهم ذرياتهم أمة بعد أمة، وأنه إشهاد تقوم به عليهم الحجة له سبحانه، فلا يقول الكافر يوم القيامة: كنت غافلًا عن هذا، ولا يقول الولد المشرك (3): أشرك أبي وتبعته؛ فإن ما فطرهم الله عليه من الإقرار بربوبيته، وأنه ربهم وخالقهم وفاطرهم؛ حجة عليهم.
ثم دلّ حديث عمر وغيره على أمر آخر لم تدل عليه الآية، وهو القدر السابق والميثاق الأول، وهو سبحانه لا يحتج عليهم بذلك، وإنما يحتج عليهم برسله، وهو الذي دلت عليه الآية.
فتضمنت الآية والأحاديث إثبات القدر والشرع، وإقامة الحجة، والإيمان بالقدر، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سُئل عنها بما يحتاج العبد إلى معرفته والإقرار به معها، وبالله التوفيق.
_________
(1) أخرجه بنحوه ابن أبي حاتم (5/ 1615).
(2) "الآثار" ساقطة من "د".
(3) "المشرك" ساقطة من "د".
(1/42)
________________________________________
الباب الثالث في ذكر احتجاج آدم وموسى في ذلك، وحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - لآدم صلوات الله وسلامه عليهم
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "احتجّ آدم وموسى، فقال موسى: يا آدم، أنت أبونا خيّبتنا وأخرجتنا من الجنة. فقال له آدم: أنت موسى اصطفاك الله بكلامه، وخطّ لك التوراة بيده، أتلومني على أمر قدَّره الله عليَّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ ".
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فحجّ آدمُ موسى، فحج آدمُ موسى".
وفي رواية: "كتب لك التوراة بيده".
وفي لفظ آخر: "تحاجَّ آدم وموسى، فحجّ آدمُ موسى، فقال له موسى: أنت آدم الذي أغويت الناس، وأخرجتهم من الجنة. فقال آدم: أنت موسى الذي أعطاه الله علم كل شيء، واصطفاه على الناس برسالته؟ قال: نعم. قال: أفتلومني على أمرٍ قُدِّر عليَّ قبل أن أُخلق".
وفي لفظ آخر: "احتجّ آدم وموسى عند ربهما، فحجّ آدمُ موسى، فقال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك في جنته، ثم أهبطتَ الناس بخطيئتك إلى الأرض. قال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء، وقرَّبك نَجِيًّا، فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أُخلق؟
(1/43)
________________________________________
قال موسى: بأربعين عامًا. قال آدم: هل وجدت فيها: "وعصى آدم ربه فغوى"؟ قال: نعم. قال: أفتلومني على أن عملتُ عملًا كَتَبه الله عليَّ أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟! " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فحجّ آدمُ موسى".
وفي لفظ آخر: "احتجّ آدم وموسى، فقال له موسى: أنت آدم الذي أخرَجَتْنا خطيئَتُك من الجنة" وذكر الحديث، متفق على صحته (1).
وهذا التقدير بعد التقدير الأول السابق لخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.
وقد رَدَّ هذا الحديث مَن لم يفهمه من المعتزلة كأبي علي الجُبّائي (2)، ومَن وافقه على ذلك، وقال: لو صَحَّ لبطلت نبوات الأنبياء؛ فإن القدر إذا كان حجة للعاصي بطل الأمر والنهي، فإن العاصي بترك الأمر، أو فعل النهي، إذا صحت له الحجة بالقدر السابق ارتفع اللوم عنه.
وهذا من ضلال فريق الاعتزال، وجهلهم بالله ورسوله وسنته؛ فإن هذا حديث صحيح متفق على صحته، لم تزل الأمة تتلقاه بالقبول مِن عهد نبيها، قرنًا بعد قرن، وتقابله بالتصديق والتسليم، ورواه أهل الحديث في كتبهم، وشهدوا به على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قاله، وحكموا بصحته، فما لأجهل الناس بالسنة، ومَن عُرف بعداوتها وعداوة حملتها، والشهادة عليهم بأنهم مجسّمة
_________
(1) أخرجه البخاري (3409، 4736، 4738، 6614، 7515)، ومسلم (2652) والألفاظ المذكورة له.
(2) انظر: "المنية والأمل" (69)، "مجموع الفتاوى" (8/ 304).
(1/44)
________________________________________
مشبّهة حشوية نوابت= وهذا الشأن!
ولم يزل أهل الكلام الباطل المذموم موكّلين برد أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي تخالف قواعدهم الباطلة، وعقائدهم الفاسدة، كما ردوا أحاديث الرؤية، وأحاديث علو الله على خلقه، وأحاديث صفاته القائمة به، وأحاديث الشفاعة، وأحاديث نزوله إلى سمائه، ونزوله إلى الأرض للفصل بين عباده، وأحاديث تكلّمه بالوحي كلامًا يسمعه مَن شاء مِن خلقه حقيقة، إلى أمثال ذلك.
وكما ردَّت الخوارج والمعتزلة أحاديث خروج أهل الكبائر من النار بالشفاعة وغيرها، وكما ردَّت الرافضة أحاديث فضائل الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة، وكما ردَّت المعطلة أحاديث الصفات والأفعال الاختيارية، وكما ردَّت القدرية المجوسية أحاديث القضاء والقدر السابق.
وكل مَن أصّل أصلًا لم يؤصّله الله ورسوله قاده قسرًا إلى ردِّ السنة أو تحريفها عن مواضعها، فلذلك لم يؤصّل حزب الله ورسوله أصلًا غير ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فهو أصلهم الذي عليه يعوّلون، وآخِيّتهم التي إليها يرجعون.
ثم اختلف الناس في فهم هذا الحديث، ووجه الحجة التي توجّهت لآدم على موسى (1).
_________
(1) انظر: "أعلام الحديث" (3/ 1555)، "درء التعارض" (8/ 418)، "منهاج السنة" (3/ 79).
(1/45)
________________________________________
فقالت فرقة: إنما حَجَّه لأن (1) آدم أبوه، فحجَّه كما يحجُّ الرجلُ ابنَه.
وهذا كلام لا تحصيل فيه البتَّة؛ فإن حجة الله يجب المصير إليها مع الأب كانت أو مع الابن أو العبد أو السيد، ولو حجَّ الرجل أباه بحقٍّ وجب المصير إلى الحجة.
وقالت فرقة: إنما حَجَّه لأن (2) الذنب كان في شريعة، واللوم في شريعة.
وهذا من جنس ما قبله؛ إذ لا تأثير لهذا في الحجة بوجه، وهذه الأمةُ تلوم الأممَ المخالفة لرسلها المتقدمة عليها، وإن كان لم تجمعهم شريعة واحدة، ويقبل الله شهادتهم عليهم، وإن كانوا من غير أهل شريعتهم.
وقالت فرقة أخرى: إنما حَجَّه لأنه كان قد تاب من الذنب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، ولا يجوز لومه.
وهذا وإن كان أقرب مما قبله، فلا يصح لثلاثة أوجه:
أحدها: أنّ آدم لم يذكر ذلك بوجه، ولا جعله حجَّة على موسى، ولم يقل: أتلومني على ذنب قد تبت منه.
الثاني: أنّ موسى أعرف بالله سبحانه وبأمره ودينه من أن يلوم على ذنب قد أخبره الله سبحانه أنه قد تاب على فاعله، واجتباه بعده وهداه؛ فإن هذا لا يجوز لآحاد المؤمنين أن يفعله، فضلًا عن كليم الرحمن.
الثالث: أنّ هذا يستلزم إلغاء ما عَلَّق به النبي - صلى الله عليه وسلم - وجه الحجة، واعتبار ما
_________
(1) "د": "حجته أن".
(2) "د": "أن".
(1/46)
________________________________________
ألغاه، فلا يُلتفت إليه.
وقالت فرقة أخرى: إنما حَجَّه لأنه لامه في غير دار التكليف، ولو لامه في دار التكليف لكانت الحجة لموسى عليه.
وهذا أيضًا فاسد من وجهين:
أحدهما: أنّ آدم لم يقل له: لُمتني في غير دار التكليف، وإنما قال: أتلومني على أمر قد قُدِّر عليَّ قبل أن أُخلق. فلم يتعرّض للدار، وإنما احتج بالقدر السابق.
الثاني: أنّ الله سبحانه يلوم الملومين من عباده في غير دار التكليف، فيلومهم بعد الموت، ويلومهم يوم القيامة.
وقالت فرقة أخرى: إنما حَجَّه لأن آدم شهد الحُكْمَ وجريانه على الخليقة، وتفرُّدَ الربّ سبحانه بالربوبية، وأنه لا تتحرك ذرة إلا بمشيئته وعلمه، وأنه لا رادّ لقضائه وقدره، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
قالوا: ومشاهدةُ العبدِ الحُكْمَ لا يدع له استقباح سيئة؛ لأنه يشهد نفسه عدمًا محضًا، والأحكام جارية عليه، مُصَرِّفة له، وهو مقهور مربوب مُدَبَّر، لا حيلة له، ولا قوة له.
قالوا: ومَن شهد هذا المشهد سقط عنه اللوم.
وهذا المسلك أبطل مسلك سُلِك في هذا الحديث، وهو شرٌّ من مسلك القدرية في رده، وهم إنما ردّوه إبطالًا لهذا القول، وردًّا على قائليه، وأصابوا (1) في
_________
(1) "م": "وأجادوا".
(1/47)
________________________________________
ردهم عليهم وإبطال قولهم، وأخطؤوا في ردّ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن هذا المسلك لو صحّ لبطلت الديانات جملة، وكان القدر حجَّة لكل مشرك وكافر وظالم، ولم يبق للحدود معنى، ولا يُلام جانٍ على جنايته، ولا ظالم على ظلمه، ولا يُنْكَر منكرٌ أبدًا.
ولهذا قال شيخ الملحدين ابن سينا في "إشاراته": "العارف لا يُنْكِر منكرًا؛ لاستبصاره بسرِّ الله في القدر" (1).
وهذا كلام منسلخ من الملل، ومتابعة الرسل.
وأعرف خلق الله به رسلُه وأنبياؤه، وهم أعظم الناس إنكارًا للمنكر، وإنما أُرْسِلوا بإنكار (2) المنكر، فالعارف أعظم الناس إنكارًا للمنكر؛ لبصيرته بالأمر والقدر، فإن الأمر يوجب عليه الإنكار، والقدر يعينه عليه، ويُنْفِذُه له، فيقوم في مقام: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، وفي مقام: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123]، فيعبده بأمره وقدره، ويتوكلُ عليه في تنفيذ أمره بقدره. فهذا حقيقة المعرفة، وصاحب هذا المقام هو العارف بالله، وعلى هذا أجمعت الرسل من أولهم إلى خاتمهم.
وأما مَن يقول:
أصبحتُ مُنْفَعِلًا لما يختارهُ ... منِّي ففعلي كلّه طاعات (3)
_________
(1) بمعناه في "الإشارات" (4/ 104)، وحكاها المصنف بمثل ما في المتن دون نسبة في "مدارج السالكين" (4/ 3015)، و"طريق الهجرتين" (1/ 184) (2/ 735).
(2) "م": "لإنكار".
(3) تقدمت نسبته في (11).
(1/48)
________________________________________
ويقول: أنا وإنْ عصيتُ أمرَه فقد أطعتُ إرادتَه ومشيئتَه.
ويقول: العارف لا يُنْكِر منكرًا؛ لاستبصاره بسِرِّ الله في القدر.
فخارج عما عليه الرسل قاطبة، وليس هو من أتباعهم.
وإنما حكى الله سبحانه الاحتجاج بالقدر عن المشركين أعداء الرسل، فقال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ (1) الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 148 - 149]. وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النحل: 35]، وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يس: 47]، وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف: 20].
فهذه أربع مواضع (2) حكى فيها الاحتجاج بالقدر عن أعدائه، وشيخهم وإمامهم في ذلك عدو الله (3) الأحقر إبليس، حيث احتجَّ عليه بقضائه فقال:
_________
(1) "د" "م": "فعل"، وصححها في هامش "م".
(2) كذا في "د" "م": "أربع مواضع"، ومثله في "عدة الصابرين" (134)، والوجه: "أربعة مواضع".
(3) "م": "عدوه".
(1/49)
________________________________________
{رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39].
فإن قيل: قد عُلِم بالنصوص والمعقول صحة قولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا}، و {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا}، و {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ}، فإنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وقد قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 112]، وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13]، فكيف أكذبهم ونفى عنهم العلم، وأثبت لهم الخَرْص فيما هم فيه صادقون؟ وأهل السنة جميعًا يقولون: لو شاء الله ما أشرك به مشرك، ولا كفر به كافر، ولا عصاه أحدٌ من خلقه، فكيف يُنْكِر عليهم ما هم فيه صادقون؟
قيل: بل أنكر سبحانه عليهم ما هم فيه أكذب الكاذبين، وأفجر الفاجرين، ولم ينكر عليهم صدقًا ولا حقًّا، بل أنكر عليهم أبطل الباطل؛ فإنهم لم يذكروا ما ذكروه إثباتًا لقدره وربوبيته ووحدانيته، وافتقارًا إليه، وتوكلًا عليه، واستعانة به، ولو قالوه كذلك لكانوا مصيبين، وإنما قالوه معارضين به لشرعه، ودافعين به لأمره، فعارضوا شرعه وأمره، ودفعوه بقضائه وقدره، ووافقهم على ذلك كل من عارض الأمر ودفعه بالقدر.
وأيضًا فإنهم احتجوا بمشيئته العامة وقدره على محبته لما شاءه، ورضاه به، وإذنه فيه، فجمعوا بين أنواع من الضلال: معارضة الأمر بالقدر، ودفعه به، والإخبار عن الله أنه يحب ذلك منهم ويرضاه حيث شاءه وقضاه، وأن لهم الحجة على الرسل بالقضاء والقدر.
وقد ورثهم في هذا الضلال وتبعهم عليه طوائف من الناس ممن يدّعي
(1/50)
________________________________________
التحقيق والمعرفة، أو يُدَّعَى فيه ذلك، وقالوا: العارف إذا شاهد الحُكْم سقط عنه اللوم.
وقد وقع في كلام شيخ الإسلام أبي إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري ما يوهم ذلك ــ وقد أعاذه الله منه ــ، فإنه قال في باب التوبة من "منازل السائرين" (1): "ولطائفُ أسرار التوبة ثلاثةُ أشياء:
أولها: أن تنظر بين الجنايةِ والقَضيَّةِ، فتعرف مُرادَ الله فيها إذ خلَّاك وإتيانَها، فإن الله تعالى إنما يُخلّي العبدَ والذنْبَ لأجل معنيين (2):
أحدهما: أن يعرف عزّته في قضائه، وبرّه في ستره، وحلمه في إمهال راكِبه، وكَرَمَه في قبول العُذر منه، وفضله في مغفرته.
والثاني: ليقيم على العبد حجة عدله، فيعاقبه على ذنبه بحجَّته.
واللطيفة الثانية: أنْ يعلم أنَّ طلب (3) البصير الصادق سيّئتَه لم يُبْقِ له حسنة بحال؛ لأنه يسير بين مشاهدة المنّة، وتطلّب عيب النفس والعمل.
واللطيفة الثالثة: أنّ مشاهدةَ العبدِ الحُكْمَ لم تدع له استحسانَ حسنةٍ، ولا استقباحَ سيئةٍ؛ لصُعوده من جميع المعاني إلى معنى الحُكْم".
فهذا الكلام الأخير ظاهره يبطل استحسان الحسن واستقباح القبيح،
_________
(1) "منازل السائرين" (14)، وانظر: "مدارج السالكين" (1/ 587 - 632).
(2) في "م" و"المنازل" وبعض نسخ "المدارج" (1/ 587): "لأحد معنيين"، والمبثت من "د" ونسخ "المدارج" الأخرى، وهو الأشبه بالسياق.
(3) في "مدارج السالكين" (1/ 587): "نظر"، والمثبت من الأصول الخطية، و"المنازل".
(1/51)
________________________________________
والشرائع كلها مبناها على استحسان هذا، واستقباح هذا، بل مشاهدة الحُكْم تزيد البصير استحسانًا للحسن، واستقباحًا للقبيح، وكلما ازدادت معرفته بالله وأسمائه وصفاته وأمره قوي استحسانه واستقباحه؛ فإنه يوافق في ذلك ربه ورسله، ومقتضى الأسماء الحسنى والصفات العُلى.
وقد كان حال شيخ الإسلام في ذلك موافقًا للأمر، وغضبه لله ولحدوده ومحارمه ومقاماته في ذلك شهيرة عند الخاصة والعامة، وكلامه المتقدم بيِّنٌ في رسوخ قدمه في استقباح ما قبَّحه الله، واستحسان ما حسَّنه، وهو كالمُحْكَم فيه؛ وهذا متشابه، فيُرد إلى مُحْكَم كلامه (1).
والذي يليق به ما ذكره شيخنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم الواسطي - رحمه الله - في شرحه، فذكر قاعدة في الفناء والاصطلام، فقال: "الفناء: عبارة عن اصطلام العبد لغلبة وجود الحق، وقوة العلم به في العبد، فيزيد بذلك يقينه به، ومعرفته به، وبصفاته سبحانه، فيذهل بذلك كما يذهل الإنسان في أمر عظيم دهمه، فإنه ربما غاب عن شعوره بما دهمه من الأمور المهمة.
مثاله: رجل وقف بين يدي سلطان عظيم قاهر من ملوك الأرض، فأذهله عظمة ما يلاحظه من هيبته وسلطانه عن كثير مما يشعر به. وهذا تقريب، والأمر فوق ذلك.
فكيف بمن أشهده الله عز وجل فَرْدانيته، حيث كان ولا شيء معه، فرأى الأشياء مواتًا لا قوام لها إلا بقدرته، فشهدها خيالًا كالهباء بالنسبة إلى وجود الحق تعالى.
_________
(1) انظر: "مدارج السالكين" (1/ 632 - 642)، "مجموع الفتاوى" (8/ 230، 339) (14/ 354)، "جامع الرسائل" (2/ 110).
(1/52)
________________________________________
وذلك في البصائر القلبية بالكشف الصحيح بعد التصفية، والتدرب في القيام بأعباء الشريعة، وحمل أثقالها، والتخلّق بأخلاقها، يصفِّي الله عز وجل عبده من درنه، ويكشف لقلبه، فيرى حقائق الأشياء.
فمتى تجلّت على العبد أنوار المشاهدة الحقيقية الروحية الدالّة على عظمة الفَرْدانية؛ تلاشى الوجود الذي للعبد واضْمَحَلَّ، كما يتلاشى الليل إذا أسفر عليه الصباح، ويكون العبد في ذلك آكلًا شاربًا، فلا يظهر عليه شيءٌ مغاير لما اعتاده، لكن يزداد إيمانه ويقينه، حتى ربما غطى إيمانُه عن قلبه كلَّ شيء في أوقات سكره، ويبقى وجوده كالخيال، قائمًا بالعبودية في حضرة ذي الجلال.
وتعود عليه البصائر الصحيحة في معرفة الأشياء عند صحوه، ثم يزول عنه عدم التمييز، ويقوى على حاله فيتصرف فيه، وذلك هو البقاء، بحيث يتصرف في الأشياء، ولا تحجب (1) عنه ما وجده من الإيمان والإيقان في حال البقاء، بل يعود عليه شعوره الأول بوجود آخر يتولّاه الله عز وجل، يُشْهِده فيه (2) قيامه عليه بتدبيره، ويصل إلى مقام المراد بعد عبوره على (3) مقام المريد، فيصير به يسمع (4)، وبه ينطق، كما جاء في الحديث الصحيح (5).
_________
(1) إعجام تاء المضارعة من "د".
(2) "م": "شهد فيه"، والمثبت من "د".
(3) "م": "عثوره"، وأهملها في "د"، والمثبت أليق بالسياق؛ فمقام المريد قنطرة لمقام المراد، ووقع في "م": "إلى" بدل "على".
(4) "د": "فيصر به ويسمع"، ولعلها: "فيبصر به ويسمع"، والمثبت من "م".
(5) يشير إلى الحديث القدسي الذي أخرجه البخاري (6502) من حديث أبي هريرة، وفيه: "وما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها".
(1/53)
________________________________________
ووجه آخر: وهو أن الفاني في حال فنائه قبل أن يبلغ إلى مقام البقاء والصحو والتمييز يستتر من قلبه محل الزهد والصبر والورع، لا بمعنى أن تلك المقامات (1) ذهبت وارتفع عنها العبد، لكن بمعنى أن الشهود (2) ستر محلها من القلب، وانطوت واندرجت في ضمن ما وجده اندراج الحال النازل في الحال العالي، فصارت فيما (3) وجده الواجد من وجود الحق ضمنًا وتبعًا، وصار القلب مشتغلًا بالحال الأعلى عن الحال الأدنى، بحيث لو فُتش قلبُ العبد لوُجِدَ فيه الزهدُ والورعُ، وحقائقُ الخوف والرجاءِ مستورًا بأمثال الجبال من الأحوال الوجودية التي يضيق القلب عن الاتساع لمجموعها، ثم في حال البقاء والصحو والتمييز تعود عليه تلك المقامات بالله، لا بوجود نفسه.
إذا علمت ذلك انحلَّ إشكال قوله: "إنّ مشاهدةَ العبد الحُكْم (4) لم تدع له استحسان حسنة، ولا استقباح سيئة؛ لصعوده إلى معنى الحُكْم"، أي أن صفة حُكْم الله حَشَأت (5) بصيرته وملأتها، فشهد قيام الله تعالى على الأشياء
_________
(1) "د": "العايات" دون إعجام، والمثبت من "م"، وسيأتي ما يؤكده.
(2) "م": "المشهود"، وما أثبت من "د" هو الأشبه بعبارات القوم.
(3) "م": "كما" تحريف.
(4) "الحكم" ساقطة من "م".
(5) "د": "خَسَأَت" مجوّدة، ورسمها كذلك في "م" مهملة بزيادة سن رابعة، وعلَّق في الحاشية: "حسان"! وجميع ما تقدم يأباه السياق، وكأنها كانت مشكلة في نسخة المصنف فاجتهد في رسمها النساخ، وفي طبعة "النعساني" (17): "حشت" وتابعه عليها من جاء بعده، والمثبت هو الصحيح إنْ شاء الله؛ لاستقامة معناه وقربه من رسم النساخ، يقال: "حشأتُه: إذا أدخلته جوفه، وإذا أصبت حشاه" "تاج العروس" (حشأ) (1/ 192).
(1/54)
________________________________________
وتصرفه فيها وحكمه عليها، فرأى الأشياء كلها منه (1)، صادرة عن نفاذ حكمه وتقديره وإرادته القدرية، فغاب بما لاحظ من الجمع عن التمييز والفرق، ويُسمى هذا جمعًا؛ لأن العبد اجتمع نظره إلى مولاه في كل حكم وقع في الكون، وفي ملاحظة هذا الحكم الذي صدرت عنه المتفرقات (2) اجتمع قلبه، ولضعف قلبه حين حضر (3) هذا الاجتماع (4) لم يتسع (5) للتمييز الشرعي بين (6) الحسن والقبيح، بمعنى أنه انطوى حكم معرفته بالحسن والقبيح في طي هذه المعرفة الساترة له عن التمييز، لا بمعنى أنه ارتفع عن قلبه حكم التحسين والتقبيح، بل اندرج في مشهده وانطوى بحيث لو فُتش لوُجِد حكم التحسين والتقبيح مستورًا في طيّ مشهده ذلك، وبالله التوفيق".
وتلخيص ما ذكره شيخنا - رحمه الله - أن للفعل وجهين: وجه هو قائم بالربّ تعالى، وهو قضاؤه، وقدره له، وعلمه به، ومشيئته النافذة فيه الموجدة له، ووجه هو قائم بالعبد، وهو كسبه له، وفعله واختياره.
_________
(1) "م": "مسنه" مهملة، والمبثت من "د".
(2) "م": "التفرقات" تحريف، وانظر: "مدارج السالكين" (5/ 3930).
(3) "م": "حبر" تحريف، والمثبت أشبه بالسياق.
(4) من قوله: "الذي صدرت" إلى هنا ساقط من "د".
(5) "م":"يقع"، وفي حاشيتها: "ظ: يتسع"، وهو المثبت من "د".
(6) "د" "م": "من"، تحريف ظاهر.
(1/55)
________________________________________
والعبد له ملاحظتان: ملاحظة للوجه الأول، وملاحظة للوجه الثاني، والكمال أن لا يغيب بإحدى الملاحظتين عن الأخرى، بل يشهد قضاء الربّ تعالى وقدره ومشيئته، ويشهد مع ذلك فعله وجنايته وطاعته ومعصيته. فيشهد الربوبية والعبودية، فيجتمع في قلبه معنى قوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 28]، مع قوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29]، وقوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا يَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 29 - 30]، وقوله تعالى: {إِنَّهُ (1) تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [المدثر: 54 - 56].
فمن الناس من يتسع قلبه لهذين الشهودين، ومنهم من يضيق قلبه عن اجتماعهما بقوة الوارد عليه، وضعف المحل، فيغيب بشهود العبودية والكسب وجهة الطاعة والمعصية عن شهود الحكم القائم بالربّ تعالى من غير إنكار له، فلا يظهر عليه إلا أثر الفعل وحكمه الشرعي، وهذا لا يضره إذا كان الإيمان بالحكم قائمًا في قلبه.
ومنهم من يغيب بشهود الحكم وسبقه وأولية الربّ تعالى وسبقه للأشياء عن جهة عبوديته وكسبه وطاعته ومعصيته، فيغيب بشهود الحكم عن شهود المحكوم به، فضلًا عن صفته، فإذا لم يشهد له فعلًا، فكيف يشهد كونه حسنًا أو قبيحًا؟
وهذا أيضًا لا يضره إذا كان علمه بحسن الفعل وقبحه قائمًا في قلبه، وإنما توارى عنه لاستيلاء شهود الحكم على قلبه، وبالله التوفيق.
_________
(1) "د" "م": "إن هذه".
(1/56)
________________________________________
فأين هذا من احتجاج أعداء الله بمشيئته وقدره على إبطال أمره ونهيه؟
وعُبَّاد هؤلاء الكفرة يشهدون أفعالهم كلها طاعات؛ لموافقتها المشيئة السابقة، ولو أغضبهم غيرُهم وقصَّر في حقوقهم لم يشهدوا فعله طاعة، مع أنه وافق فيه المشيئة، فما احتج بالقدر على إبطال الأمر والنهي إلا مَن هو مِن أجهل الناس وأظلمهم وأتبعهم لهواه.
وتأمّل قوله سبحانه بعد حكايته عن أعدائه احتجاجَهم بمشيئته وقدره (1) على إبطال ما أمرهم به رسوله، وأنه لولا محبته ورضاه به لما شاءه منهم: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 49]، فأخبر سبحانه أن الحجة له عليهم برسله وكتبه، وبيان ما ينفعهم ويضرهم، ويمكّنهم من الإيمان بمعرفة أدلته وبراهينه، وإعطائهم الأسماع والأبصار والعقول، فثبتت حجته البالغة عليهم بذلك، واضمحلّت حجتهم الباطلة عليه بمشيئته وقضائه.
ثم قرر تمام الحجة بقوله: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}، فإن هذا يتضمن أنه المنفرد بالربوبية والملك والتصرف في خلقه، وأنه لا ربّ غيره، ولا إله سواه، فكيف يعبدون معه إلهًا غيره؟!
فإثبات القدر والمشيئة من تمام حجته البالغة عليهم، وأن الأمر كله لله، وأن كل شيء ما خلا الله باطل، فالقضاء والقدر والمشيئة النافذة من أعظم أدلة التوحيد؛ فَجَعَلها الظالمون الجاحدون حجة لهم على الشرك، فكانت حجة الله هي البالغة، وحجتهم هي الداحضة، وبالله التوفيق.
_________
(1) "م": "وقدرته".
(1/57)
________________________________________
إذا عُرف هذا، فموسى صلوات الله عليه وسلامه أعرف بالله وأسمائه وصفاته من أن يلوم على ذنب قد تاب منه فاعله، واجتباه ربّه بعده وهداه واصطفاه، وآدم صلوات الله عليه وسلامه أعرف بربّه من أن يحتج بقضائه وقدره (1) على معصيته، بل إنما لام موسى آدمَ على المصيبة التي نالت الذرية بخروجهم من الجنّة، ونزولهم إلى دار الابتلاء والمحنة، بسبب خطيئة أبيهم، فَذَكر الخطيئة تنبيهًا على سبب المصيبة والمحنة التي نالت الذرية، ولهذا قال له: "أخرجتنا ونفسك من الجنة"، وفي لفظ: "خيبتنا"، فاحتج آدم بالقدر على المصيبة، وقال: إن هذه المصيبة التي نالت الذرية بسبب خطيئتي كانت مكتوبة مقدّرة قبل خلقي. والقدر يُحتج به في المصائب دون المعائب، أي: أتلومني على مصيبة قُدّرت عليّ وعليكم قبل خلقي بكذا وكذا سنة؟
هذا جواب شيخنا - رحمه الله - (2).
وقد يتوجه جواب آخر: وهو أن الاحتجاج بالقدر على الذنب ينفع في موضع، ويضر في موضع، فينفع إذا احتُجَّ به بعد وقوعه والتوبة منه وتَرْك معاودته، كما فعل آدم عليه السلام، فيكون في ذكر القدر إذ ذاك من التوحيد ومعرفة أسماء الربّ وصفاته وذكرها ما ينتفع به الذاكر والسامع؛ لأنه لا يَدفع بالقدر أمرًا ونهيًا؛ ولا يُبْطِل به شريعة، بل يُخبر بالحق المحض على وجه التوحيد، والبراءة من الحول والقوة.
_________
(1) "د": "وقدرته".
(2) انظر: "درء التعارض" (8/ 418 - 420)، "مجموع الفتاوى" (8/ 303 - 307) وغيرهما.
(1/58)
________________________________________
يوضحه أن آدم عليه السلام قال لموسى: "أتلومني على أن عملتُ عملًا كان مكتوبًا عليَّ قبل أن أُخلق؟ "، فإذا أذنب الرجل ذنبًا ثم تاب منه توبة نصوحًا، وزال أثره وموجبه حتى كأن لم يكن، فأنَّبه مؤنِّب عليه ولامه= حَسُنَ منه أن يحتج بالقدر بعد ذلك، ويقول: هذا أمر كان قد قُدِّر عليَّ قبل أن أُخلق، فإنه لم يَدفع بالقدر حقًّا، ولا ذكره حجة له على الباطل، فلا محذور في الاحتجاج به.
وأما الموضع الذي يضرّ الاحتجاج به ففي الحال أو المستقبل؛ بأن يرتكب فعلًا محرمًا، أو يترك واجبًا فيلومه عليه لائم، فيحتج بالقدر على إقامته عليه وإصراره، فيُبطل بالاحتجاج به حقًّا، ويرتكب باطلًا، كما احتجَّ به المُصِرّون على شركهم وعبادتهم غير الله فقالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} [الأنعام: 148]، و {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:20]، فاحتجوا به مُصَوِّبين لما هم عليه، وأنهم لم يندموا على فعله، ولم يعزموا على تركه، ولم يقروا بفساده، فهذا ضدُّ احتجاج مَن تبين له خطأ نفسه، وندم وعزم كل العزم على أن لا يعود، فإذا لامه لائم بعد ذلك قال: كان ما كان بقدر الله.
ونكتة المسألة: أن اللوم إذا ارتفع صحَّ الاحتجاج بالقدر، وإذا كان اللوم واقعًا فالاحتجاج بالقدر باطل.
فإن قيل: فقد احتجَّ عليٌّ بالقدر في ترك قيام الليل، وأقرَّه النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما في "الصحيح" (1) عن علي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طَرَقه وفاطمة ليلًا، فقال لهم:
_________
(1) أخرجه البخاري (7347)، ومسلم (775).
(1/59)
________________________________________
"ألا تصلون؟ " قال علي: فقلت: يا رسول الله، إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثها بعثها. فانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قلت له ذلك ولم يرجع إليّ شيئًا، ثم سمعته وهو مدبر يضرب فخذه، وهو يقول: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54].
قيل: علي لم يحتج بالقدر على ترك واجب ولا فعل محرم، وإنما قال: إن نفسه ونفس فاطمة بيد الله، فإذا شاء أن يوقظهما ويبعث أنفسهما بعثها.
وهذا موافق لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة باتوا (1) في الوادي: "إن الله قبض أرواحنا حيث شاء، وردها حيث شاء" (2).
وهذا احتجاج صحيح، صاحبه معذور فيه؛ فإن النائم غير مفرّط، واحتجاج غير المفرّط بالقدر صحيح.
وقد أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - (3) إلى الاحتجاج بالقدر في الموضع الذي ينفع العبد الاحتجاج به، فروى مسلم في "صحيحه" (4) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أنِّي فعلتُ لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل؛ فإن
_________
(1) "م": "ناموا".
(2) أخرجه البخاري (595) بلفظ: "إن الله قبض أرواحكم حين شاء، وردها عليكم حين شاء"، ومسلم (681) من طرق عن أبي قتادة.
(3) "م": "أرشد الله النبي - صلى الله عليه وسلم - " بزيادة لفظ الجلالة، والمعنى لا يساعده.
(4) برقم (2664).
(1/60)
________________________________________
لو تفتح عمل الشيطان".
فتضمن هذا الحديث الشريف أصولًا عظيمة من أصول الإيمان:
أحدها: أن الله سبحانه موصوف بالمحبة، وأنه يحب حقيقة.
الثاني: أنه يحب مقتضى أسمائه وصفاته وما يوافقها، فهو القويُّ ويحب المؤمن القويَّ، وهو وِترٌ يحب الوتر، وجميل يحب الجمال، وعليم يحب العلماء، ونظيف يحب النظافة، ومؤمن يحب المؤمنين، ومحسن يحب المحسنين، وصابر يحب الصابرين، وشاكر يحب الشاكرين.
ومنها: أن محبته للمؤمنين تتفاضل، فيحب بعضهم أكثر من بعض.
ومنها: أن سعادة الإنسان في حرصه على ما ينفعه في معاشه ومعاده، والحرص هو بذل الجهد واستفراغ الوسع، فإذا صادف ما ينتفع به الحريص كان حرصه محمودًا، وكماله كله في مجموع هذين الأمرين: أن يكون حريصًا، وأن يكون حرصه على ما ينتفع به، فإنْ حرص على ما لا ينفعه، أو فعل ما ينفعه بغير حرص؛ فاته من الكمال بحسب ما فاته من ذلك، فالخير كله في الحرص على ما ينفع.
ولما كان حرص الإنسان وفعله إنما هو بمعونة الله ومشيئته وتوفيقه، أمره أن يستعين بالله؛ ليجتمع له مقام: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، فإنَّ حرصه على ما ينفعه عبادة لله، ولا تتم إلا بمعونته، فَأَمَره بأن يعبده وأن يستعين به.
ثم قال: "ولا تعجز" فإن العجز ينافي حرصه على ما ينفعه، وينافي استعانته بالله، فالحريص على ما ينفعه، المستعين بالله: ضدُّ العاجز.
(1/61)
________________________________________
فهذا إرشاد له قبل وقوع المقدور (1) إلى ما هو من أعظم أسباب حصوله، وهو الحرص عليه مع الاستعانة بمن أزِمَّة الأمور بيديه، ومصدرها منه، ومردّها إليه.
فإن فاته ما لم يُقدَّر له، فله حالتان: حالة عجز، وهي مفتاح عمل الشيطان، فيلقيه العجز إلى "لو"، ولا فائدة في "لو" ههنا، بل هي مفتاح اللوم والجزع والسخط والأسف والحزن، وذلك كله من عمل الشيطان، فنهاه - صلى الله عليه وسلم - عن افتتاح عمله بهذا المفتاح، وأمره بالحالة الثانية، وهي النظر إلى القدر وملاحظته، وأنه لو قُدِّر له لم يفته، ولم يغلبه عليه أحد، فلم يبق له ههنا أنفع من شهود القدر، ومشيئة الربّ النافذة التي توجب وجود المقدور (2)، وإذا انتفت امتنع وجوده، فلهذا قال: "فإن غلبك أمرٌ، فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا، ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل" (3). فأرشده إلى ما ينفعه في الحالتين: حالة حصول مطلوبه، وحالة فواته.
فلهذا كان هذا الحديث مما لا يستغني عنه العبد أبدًا، بل هو أشد شيء إليه ضرورة، وهو يتضمن إثبات القدر والكسب والاختيار، والقيام بالعبودية ظاهرًا وباطنًا في حالتي حصول المطلوب وعدمه، وبالله التوفيق.
* * * *
_________
(1) "د": "القدر".
(2) "د": "المعدوم".
(3) أخرجه بهذا اللفظ أحمد (8791)، وابن ماجه (4168).
(1/62)
________________________________________
الباب الرابع في ذكر التقدير الثالث والجنين في بطن أمه، وهو تقدير شقاوته وسعادته ورزقه وأجله وعمله وسائر ما يلقاه، وذكر الجمع بين الأحاديث الواردة في ذلك (1)
عن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ــ وهو الصادق المصدوق ــ: "إنَّ أحدكم يُجمَعُ خلقه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله إليه المَلك، فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكَتْب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، فوالذي لا إله غيره؛ إنَّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكونُ بينه وبينها إلا ذراعٌ، فيسبقُ عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراعٌ، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها" متفق عليه (2).
وعن حذيفة بن أَسِيد يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يدخل المَلَك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين أو خمس وأربعين ليلة، فيقول: يا ربِّ، أشقي أم سعيد؟ فيكتبان، فيقول: أي ربِّ، أذكر أم أنثى؟ فيكتبان، ويكتب عمله وأثره وأجله ورزقه، ثم تُطوى الصحيفة فلا يزاد فيها ولا ينقص" رواه
_________
(1) ينظر: "تهذيب السنن" (3/ 195 - 205).
(2) البخاري (3208)، ومسلم (2643).
(1/63)
________________________________________
مسلم (1).
وعن عامر بن واثلة، أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول: الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد مَن وُعِظ بغيره. فأتى رجلًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقال له: حذيفة بن أَسِيد الغفاري، فحدَّثه بذلك من قول ابن مسعود فقال: وكيف يشقى رجل بغير عمل؟ فقال له الرجل: أتعجب من ذلك؟ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا مرّ بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكًا فصوّرها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا ربِّ، أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب المَلَك، ثم يقول: يا ربِّ، أجله؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب المَلَك، ثم يقول: يا ربِّ، رزقه؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب المَلَك، ثم يخرج المَلَك بالصحيفة في يده، فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص".
وفي لفظ آخر: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأذنيَّ هاتين يقول: "إن النطفة تقع في الرَّحم أربعين ليلة، ثم يتسوّر عليها المَلَك" ــ قال زهير بن معاوية: أحسبه قال: "الذي يخلقها" ــ "فيقول: يا ربِّ، أذكر أم أنثى؟ فيجعله الله ذكرًا أو أنثى، ثم يقول: يا ربِّ، سَوِيّ أو غير سَوِيّ؟ فيجعله الله سَويًّا أو غير سَوِيٍّ، ثم يقول: يا ربِّ، ما رزقُه، وما أجَلُه، وما خُلُقُه؟ ثم يجعله الله عز وجل شقيًا أو سعيدًا".
وفي لفظ آخر: "إن ملَكًا موكلًا بالرحم، إذا أراد الله أن يخلق شيئًا بإذن الله، لبضعٍ وأربعين ليلة" ثم ذكر نحوه.
_________
(1) برقم (2644).
(1/64)
________________________________________
وهذا الحديث بطرقه انفرد به مسلم (1).
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله عز وجل قد وكَّل بالرحم ملكًا، فيقول: أي ربِّ، نطفةً. أي ربِّ، علقة. أي ربِّ، مضغة. فإذا أراد الله أن يقضي خلقًا، قال المَلَك: أي ربِّ، ذكر أو أنثى، شقي أو سعيد، فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب كذلك في بطن أمه" متفق عليه (2).
وقال ابن وهب: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، أن عبد الرحمن [بن] (3) هنيدة حدثهم، أن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أراد الله أن يخلق النَّسَمة، قال مَلَك الأرحام مُعْرِضًا (4): يا ربِّ، أذكر أم أنثى؟ فيقضي الله أمره، ثم يقول: يا ربِّ، شقي أم سعيد؟ فيقضي الله أمره، ثم يكتب بين عينيه ما هو لاقٍ حتى النكبة ينكبها" (5).
قال ابن وهب: وأخبرني عبد الله بن لَهِيعة، عن بكر بن سوادة الجُذَامي، عن أبي تميم الجَيْشاني، عن أبي ذر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا دخَلَتْ ــ يعني
_________
(1) برقم (2645).
(2) البخاري (6595)، ومسلم (2646) واللفظ له.
(3) زيادة لازمة، سقطت من "د" "م".
(4) "م": "معها" تحريف، وسقطت من "د"، والمثبت من مصدر الخبر، وفي بعض الطرق: "معترضًا" وفي أخرى: "وهو معرض"، جميعها بمعنى، انظر: "النهاية في الغريب" (عرض) (3/ 215).
(5) "القدر" لابن وهب (30) ـ ومن طريقه ابن حبان (6178) ـ، وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" (183)، واختلف عن الزهري فيه وقفًا ورفعًا، وصحح الدارقطني رفعه في "العلل" (13/ 133).
(1/65)
________________________________________
النطفة ــ في الرحم أربعين، أتى ملك النفس فعرج إلى الربِّ، فقال: يا ربِّ، عبدك أذكر أو أنثى؟ فيقضي الله بما هو قاض. أشقي أم سعيد؟ (1) فيكتب ما هو كائن"، وذكر بقية الحديث (2).
وقال ابن وهب: أخبرني ابن لَهِيعة، عن كعب بن علقمة، عن عيسى بن هلال، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: "إذا مكثت النطفة في رحم المرأة أربعين ليلة، جاءها ملك فاختلجها (3)، ثم عرج بها إلى الله عز وجل، فقال: اخْلُقْ يا أحسن الخالقين. فيقضي الله فيها بما يشاء من أمره، ثم تُدْفَع إلى الملك، فيسأل الملك (4) عند ذلك فيقول: يا ربِّ، أسَقَطٌ أم يَتِمّ؟ فيبيِّنُ له، ثم يقول: يا ربِّ، أواحد أو توأم؟ فيبيِّنُ له، ثم يقول: يا ربِّ، أذكر أم أنثى؟ فيبيِّنُ له، ثم يقول: يا ربِّ، أناقص الأجل أم تام الأجل؟ فيبيِّنُ له، ثم يقول: يا ربِّ، اقْطَعْ رزقه مع خلقه (5). فيقضيهما جميعًا (6)، فوالذي نفس
_________
(1) هكذا في "د" "م"، متابعة لما في مصدر الرواية الآتي، وفي "القدر" للفريابي (123): "ثم يقول: يارب، أشقي أم سعيد؟ ".
(2) "القدر" لابن وهب (36)، والدارمي في "الرد على الجهمية" (94)، وأخرجه من طرق عن ابن لهيعة موقوفًا: ابن سلام في "التفسير" (1/ 355)، والفريابي في "القدر" (123)، ولا يصح إسناده، مداره على ابن لهيعة، وفي لفظه ما يُسْتنكر، وقد اضطرب في رفعه ووقفه، انظر: "الفوائد المجموعة" بتعليق المعلمي (451).
(3) يعني نزعها وجذبها، "النهاية في الغريب" (خلج) (2/ 59).
(4) "د": "فيسأل الله"، والمثبت من "م" موافق لمصدر الخبر.
(5) في "القدر" للفريابي (146): "اقطع رزقه. فيقطع له رزقه مع خلقه".
(6) الظاهر أن ضمير التثنية عائد على: رزقه وخلقه، وعند الفريابي: "فيهبط بهما جميعًا".
(1/66)
________________________________________
محمد بيده؛ لا ينال إلا ما قُسِم له يومئذٍ، إذا أكل رزقه قُبِض" (1).
وقال عبد الله بن أحمد: أخبرنا أحمد بن العلاء، ثنا أبو الأشعث، ثنا أبو عامر، عن الزبير بن عبد الله، حدثني جعفر بن مصعب، قال: سمعت عروة بن الزبير يحدث، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله سبحانه حين يريد أن يخلق الخلق، يبعث ملكًا فيدخل الرحم، فيقول: أي ربِّ، ماذا؟ فيقول: غلام أو جارية أو ما شاء أن يخلق في الرحم. فيقول: أي ربِّ، أشقي أم سعيد؟ فيقول: شقي أو سعيد. فيقول: أي ربِّ، ما أجله؟ فيقول: كذا وكذا. فيقول: ما خلقه، ما خلائقه؟ فيقول: كذا وكذا. فما شيء إلا وهو يُخْلق معه في الرحم" (2).
وفي "المسند" (3) من حديث إسماعيل بن عبيد الله ـ وهو ابن أبي المهاجر ـ، أن أم الدرداء حدثته، عن أبي الدرداء، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فرغ الله عز وجل إلى كل عبد من خمس: من أجله، ورزقه، ومضجعه، وأثره، وشقي أم سعيد".
_________
(1) "القدر" لابن وهب (45) ـ ومن طريقه ابن بطة في "الإبانة الكبرى" (1418) ـ، وأخرجه اللالكائي في "شرح أصول أهل السنة" (1236)، والفريابي (146).
(2) أخرجه ابن راهويه في "المسند" (2/ 345)، والبزار كما في "كشف الأستار" (2151)، وإسناده منكر، آفته الزبير بن عبد الله، قال ابن عدي في "الكامل" (5/ 152) بعد أن أخرج الحديث: "وأحاديث زبير هذا منكرة المتن والإسناد، لا تروى إلا من هذا الوجه".
(3) برقم (21723) دون لفظ: "ومضجعه"، وهو فيه من وجه آخر برقم (21722)، وأخرجه بهذا اللفظ عبد الله من طريق والده في "السنة" (859)، ورواه ابن أبي عاصم في "السنة" (307)، وصححه ابن حبان (6150).
(1/67)
________________________________________
وقال ابن حميد: ثنا يعقوب بن عبد الله، عن سعيد بن جبير (1)، عن ابن عباس قال: "إذا وقعت النطفة في الرحم مكثت أربعة أشهر وعشرًا، ثم تُنفخ فيها الروح، ثم مكثت أربعين ليلة، ثم يُبعث إليها ملكٌ، فنَقَفَها في نُقْرة القفا (2)، وكتب شقيًا أو سعيدًا" (3).
وروى ابن أبي خيثمة: حدثنا عبد الرحمن بن المبارك، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "السعيد من سعد في بطن أمه" (4).
رواه أبو داود في "القدر" (5)، عن عبد الرحمن، عن حماد، عن هشام (6) [بن حسان]، عن محمد.
_________
(1) كذا في "د" "م": "يعقوب ... عن سعيد"، سقط بينهما جعفر بن أبي المغيرة، كما في مصدر الرواية.
(2) يعني ضربها ضربة يسيرة في الحفيرة الصغيرة الواقعة بأعلى العنق مما يلي الرأس، انظر: "المحكم" لابن سيده (نقف) (6/ 446)، "المصباح المنير" (نقر) (237).
(3) أخرجه اللالكائي في "شرح الأصول" (1060)، وإسناده ضعيف، ابن حميد هو محمد بن حميد الرازي في حديثه نظر، وانظر: "جامع العلوم والحكم" (1/ 163).
(4) أخرجه من طريق ابن أبي خيثمة به اللالكائي في "شرح الأصول" (1054)، ومحمد هو ابن سيرين.
(5) وأخرجه الطبراني في "الأوسط" (8465)، والبزار كما في "كشف الأستار" (2150) من طرق عن عبد الرحمن به، وصحح إسناده البوصيري في "إتحاف الخيرة" (1/ 169).
(6) في "د": "عن هناد" تحريف، بعده بياض بمقدار كلمة، والمثبت من مصادر التخريج، وسقطت من "م" جملة: "عن هشام ... محمد".
(1/68)
________________________________________
وقال أحمد بن عبيد: أخبرنا علي بن عبد الله بن مُبَشِّر، ثنا عبد الحميد بن بيان، ثنا خالد بن عبد الله، عن يحيى بن عبيد الله، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من سعد في بطن أمه" (1).
وقال سعيد (2): عن ابن إسحاق (3)، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود قال: "الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وُعِظ بغيره" (4).
وقال شعبة: عن مُخَارِق، عن طارق، عن عبد الله بن مسعود قال (5): "إن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشرّ الأمور محدثاتها، فاتبعوا ولا تبتدعوا، فإن الشقيَّ من شقي في بطن أمه، والسعيد من وُعِظ بغيره"، وكان عبد الله بن مسعود إذا كان ليلة الجمعة، قام فقال: "إن أصدق الحديث كتاب الله، وإن أحسن الهدي هدي محمد، وإن الشقيَّ من
_________
(1) أخرجه من طريق أحمد بن عبيد به اللالكائي في "شرح الأصول" (1057)، ورواه مسدد كما في "إتحاف الخيرة" (1/ 169)، والآجري في "الشريعة" (366) من طرق عن خالد به، إسناده ضعيف من أجل يحيى بن عبيد الله القرشي فقد ضعفه جماعة، وفي أبيه جهالة، ويحسن بما قبله من الطرق.
(2) كذا في "د" "م": "سعيد"، صوابه: "شعبة" كما في مصادر التخريج.
(3) كذا في "د" "م": "ابن إسحاق"، صوابه: "أبي إسحاق" كما في مصادر التخريج.
(4) أخرجه من طريق أبي داود به ابن بطة في "الإبانة الكبرى" (1421)، ورواه الفريابي في "القدر" (130) من طريق آخر عن شعبة به، وهو في "صحيح مسلم" (2645) من وجه آخر عن ابن مسعود بسياق أطول.
(5) من قوله: "الشقي من شقي" إلى هنا ساقط من "د".
(1/69)
________________________________________
شقي في بطن أمه، والسعيد مَن وُعِظ بغيره، وإن شرَّ الرَّوَايا رَوَايا الكذب (1)، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكل ما هو آت قريب"، رواهن أبو داود في "القدر" (2).
وذكر الطبراني من رواية أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عنه أنه كان يجيء كل يوم خميس، يقوم قائمًا لا يجلس، فيقول: "إنما هما اثنتان: فأحسن الهدي هدي محمد، وأصدق الحديث كتاب الله، وشرُّ الأمور محدثاتها، وكلُّ محدَث ضلالة، إن الشقيَّ مَن شقي في بطن أمه، وإن السعيد مَن وُعِظ بغيره، ألا فلا يطولنّ عليكم الأمد، ولا يلهينّكم الأمل، فإن كلَّ ما هو آت قريب، وإنما البعيد ما ليس آتيًا، وإن من شرار الناس بَطّال النهار جِيفة الليل، وإنّ قَتْل المؤمن كفر، وإن سِبَابه فسوق، ولا يحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، ألا إن شرّ الرَّوَايا رَوَايا الكذب، وإنه لا يصلح من الكذب جدٌّ ولا هزل، ولا أن يَعِد الرجلُ صبيه ثم لا ينجزه، ألا وإنَّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الصادق يقال له: صدق وبرّ، وإن الكاذب يقال له: كذب وفجر، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن العبد ليصدق فيكتب عند الله صديقًا، وإنه ليكذب حتى يكتب عند الله كذابًا". ألا هل تدرون ما
_________
(1) الرَّوَايا جمع رَوِيّة: ما يفكّر فيه الإنسان من القول والفعل، وقيل غيره، انظر: "النهاية في الغريب" (2/ 279).
(2) أخرج شطره الأول ابن بطة في "الإبانة الكبرى" (1423)، واللالكائي في "شرح الأصول" (1215) من طريق أبي داود به، وأخرج الدارمي (213) قريبًا من شطره الثاني.
والشطران في "صحيح البخاري" (6098، 7277) بسياق أخصر منه.
(1/70)
________________________________________
العِضَةُ؟ هي النميمة التي تفسد بين الناس" (1)، وهذا متواتر عن عبد الله.
وبلغ معاوية أن الوباء اشتد بأهل داب (2) فقال: "لو حولناهم عن مكانهم، فقال له أبو الدرداء: وكيف لك يا معاوية بأنفس قد حضرت آجالها؟! فكأنّ معاوية وَجَدَ على أبي الدرداء، فقال له كعب: يا معاوية، لا تجد على أخيك؛ فإن الله سبحانه (3) لم يدع نفسًا حين تستقر نطفتها في الرحم أربعين ليلة إلا كتب: خَلْقها وخُلُقها وأجلها ورزقها، ثم لكل نفس ورقة خضراء معلقة بالعرش، فإذا دنا أجلها خَلُقَت (4) تلك الورقة حتى تيبس، ثم تسقط، فإذا يبست سقطت تلك النفس وانقطع أجلها ورزقها"، ذكره أبو داود عن محمود بن خالد، ثنا مروان، ثنا معاوية بن سلّام، حدثني أخي زيد بن سلّام، عن جده ابن سلّام (5) قال: بلغ معاوية فذكره (6).
وقال أبو داود: ثنا واصل بن عبد الأعلى، ثنا ابن فضيل، عن الحسن بن عمرو الفُقَيْمي، عن الحكم، عن مجاهد في قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ
_________
(1) "المعجم الأوسط" (7871)، و"الكبير" (8522)، وأخرجه معمر في "الجامع" (20076)، والبغوي في "شرح السنة" (3575)، وروى مسلم (2606) تعريف العضة وبعض المرفوع منه، وقد جمع الطبراني في "الكبير" (9/ 98 - وما بعدها) طرق هذه الخطبة وألفاظها في عنوان مستقل: "خطبة ابن مسعود ومن كلامه".
(2) كذا في "د" "م" و"الإبانة"، ولم أهتد إليها.
(3) من قوله: "وكيف لك يا معاوية" إلى هنا ساقط من "د".
(4) أي أصبحت قديمة بالية، انظر: "الصحاح" (خلق) (4/ 1472).
(5) كذا في "د" "م": "ابن سلام" تحريف، صوابه: "أبي سلام"، وهو أبو سلام ممطور الحبشي، انظر: "تهذيب الكمال" (28/ 484)، ووقع على الوجه في "الإبانة".
(6) ومن طريق أبي داود أخرجه ابن بطة في "الإبانة الكبرى" (1817).
(1/71)
________________________________________
طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13]، قال: "ما من مولود يولد إلا في عنقه ورقة مكتوب فيها: شقيٌّ أو سعيد" (1).
وفي "الصحيحين" (2) عن أُبيّ بن كعب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الغلام الذي قتله الخضر طُبِع يوم طُبِع كافرًا، ولو عاش لأرهق أبويه طغيانًا وكفرًا".
وفي "صحيح مسلم" (3) عن عائشة قالت: توفي صبيٌّ من الأنصار، فقلت: طوبى له، عصفور من عصافير الجنّة، لم يعمل السوء ولم يدركه. فقال: "أو غير ذلك يا عائشة! إن الله خلق للجنة أهلًا، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلًا، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم".
ولا يناقض هذا حديث سمرة بن جندب، الذي رواه البخاري في "صحيحه" (4) من رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - أطفال المشركين حول إبراهيم الخليل في الروضة؛ فإن الأطفال منقسمون إلى شقي وسعيد كالبالغين، فالذين رآهم حول إبراهيم السعداء من أطفال المسلمين والمشركين، وأنكر على عائشة شهادتها للطفل المعيَّن بأنه عصفور من عصافير الجنة، وقد يكون من القسم الآخر، كالشهادة للبالغين، وبالله التوفيق.
_________
(1) ومن طريق أبي داود أخرجه ابن بطة في "الإبانة الكبرى" (1743)، وأخرجه الطبري (14/ 520) عن واصل به.
(2) اللفظ لـ "مسلم" (2661)، وليس بهذا السياق عند البخاري، بل بمعناه في قصة الخضر وموسى عليه السلام في عدة مواضع، انظر على سبيل المثال: (4726).
(3) برقم (2662).
(4) برقم (1386).
(1/72)
________________________________________
فاجتمعت هذه الأحاديث والآثار على تقدير رزق العبد وأجله وشقاوته وسعادته وهو في بطن أمه، واختلفت في وقت هذا التقدير، وهذا تقدير بعد التقدير الأول السابق على خلق السماوات والأرض، وبعد التقدير الذي وقع يوم استخراج الذرية بعد خلق أبيهم آدم.
ففي حديث ابن مسعود أن هذا التقدير يقع بعد مائة وعشرين يومًا من حصول النطفة في الرحم، وحديث أنس غير مؤقت، وأما حديث حذيفة بن أَسيد فقد وقَّت فيه التقدير بأربعين يومًا، وفي لفظ: بأربعين ليلة (1)، وفي لفظ: ثنتين وأربعين ليلة، وفي لفظ: بثلاث وأربعين ليلة، وهو حديث انفرد به مسلم ولم يروه البخاري.
وكثير من الناس يظن التعارض بين الحديثين، ولا تعارض بينهما بحمد الله؛ فإن الملك الموكل بالنطفة يكتب ما يقدره الله سبحانه على رأس الأربعين الأولى، حتى تأخذ في الطور الثاني وهو العلقة، وأما الملك الذي ينفخ فيه الروح فإنما ينفخها بعد الأربعين الثالثة، فيؤمر عند نفخ الروح فيه بكَتْب: رزقه، وأجله، وعمله، وشقاوته وسعادته، وهذا تقدير آخر غير التقدير الذي كتبه الملك الموكل بالنطفة، ولهذا قال في حديث ابن مسعود: "ثم يرسل إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات"، وأما الملك الموكل بالنطفة، فذاك راتب معها ينقلها بإذن الله من حال إلى حال، فتقدير الله سبحانه شأن النطفة حين تأخذ في مبدأ التخليق وهو العلق، وتقدير شأن الروح حين تتعلق بالجسد بعد مائة وعشرين يومًا، فهو تقدير بعد تقدير.
_________
(1) جملة: "وفي لفظ: بأربعين ليلة" ساقطة من "م".
(1/73)
________________________________________
فاتفقت أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصدَّق بعضها بعضًا، ودلّت كلها على إثبات القدر السابق، ومراتب التقدير، وما يؤتى أحدٌ إلا من غلط في الفهم، أو غلط في الرواية، ومتى صحَّت الرواية وفُهمت كما ينبغي تبين أن الأمر كله من مشكاة واحدة صادقة متضمنة لنفس الحق، وبالله التوفيق.
* * * *
(1/74)
________________________________________
الباب الخامس في ذكر التقدير الرابع ليلة القدر
قال الله تعالى: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدخان: 1 - 5]، وهذه هي ليلة القدر قطعًا؛ لقوله تعالى: {أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)} [القدر: 1]، ومَن زعم أنها ليلة النصف من شعبان فقد غلط.
قال سفيان: عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "ليلة القدر ليلة الحكم" (1).
وقال سفيان: عن محمد بن سُوقَة، عن سعيد بن جبير: "يؤذن للحُجّاج في ليلة القدر، فيكتبون بأسمائهم وأسماء آبائهم، فلا يغادر منهم أحد، ولا يزاد فيهم، ولا ينقص منهم" (2).
وقال ابن علية: حدثنا ربيعة بن كلثوم قال: قال رجل للحسن ــ وأنا أسمع ــ: أرأيت ليلة القدر، في كل رمضان هي؟ قال: نعم، والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي كل رمضان، وإنها لليلة القدر، يُفْرَقُ فيها كل أمر حكيم، فيها يقضي الله كل أجل وعمل ورزق إلى مثلها (3).
_________
(1) أخرجه عبد الرزاق في "التفسير" (3664)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (8784)، وسفيان هو الثوري.
(2) أخرجه الطبري (24/ 544).
(3) أخرجه الطبري (24/ 544).
(1/75)
________________________________________
وذكر يوسف بن مهران، عن ابن عباس قال: "يُكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من موت وحياة ورزق ومطر حتى الحُجّاج، يقال: يحج فلان، ويحج فلان" (1).
وذكر عنه سعيد بن جبير في هذه الآية: "إنك لترى الرجل يمشي في الأسواق وقد وقع اسمه في الموتى" (2).
وقال مقاتل: "يُقَدّر الله في ليلة القدر أمر السنة في بلاده وعباده إلى السنة القابلة" (3).
وقال أبو عبد الرحمن السلمي: "يُقَدّر أمر السنة كلها في ليلة القدر" (4).
وهذا هو الصحيح: أن القدر مصدر قَدَّر الشيء يقدّره قدرًا، فهي ليلة الحكم والتقدير.
وقالت طائفة: ليلة القدر ليلة الشرف والعظمة، من قولهم: لفلان قَدْرٌ في الناس.
فإن أراد صاحب هذا القول أن لها قدرًا وشرفًا مع ما يكون فيها من
_________
(1) أخرجه ابن نصر في "قيام الليل-مختصره" (250)، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" (13/ 249) إلى ابن أبي حاتم وابن المنذر.
(2) أخرجه الحاكم (3678)، وبنحوه الطبري (21/ 10).
(3) بنحوه في "تفسير مقاتل" (3/ 817)، والمؤلف صادر عن "البسيط" للواحدي (24/ 190) في هذا الموضع والذي يليه.
(4) أخرجه الطبري (21/ 8)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (3390)، وهو في "التفسير" المنسوب إلى مجاهد (597).
(1/76)
________________________________________
التقدير فقد أصاب، وإن أراد أن معنى القدر فيها هو الشرف والخطر فقط فقد غلط؛ لأن الله سبحانه أخبر أن فيها يُفْرق كل أمر حكيم، أي: يُفصل ويُبَيّن، ويُبْرم كل أمر حكيم.
* * * *
(1/77)
________________________________________
الباب السادس في ذكر التقدير الخامس اليومي
قال الله تعالى: {(28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي} [الرحمن: 29]، ذكر الحاكم في "صحيحه" (1) من حديث أبي حمزة الثُّمَالي، عن سعيد ابن جبير، عن ابن عباس: "إن مما خلق الله لوحًا محفوظًا من درة بيضاء، دَفّتاه من ياقوتة حمراء، قلمه نور، وكتابه نور، ينظر فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة أو مَرَّة، ففي كل نظرة منها يخلق، ويرزق، ويحيي، ويميت، ويعزُّ، ويذلّ، ويفعل ما يشاء، فذلك قوله: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي} ".
وقال مجاهد والكلبي وعبيد بن عمير وأبو ميسرة وعطاء ومقاتل: "من شأنه أنه يحيي ويميت، ويرزق ويمنع، وينصر، ويعزّ ويذلّ، ويفك عانيًا، ويشفي مريضًا، ويجيب داعيًا، ويعطي سائلًا، ويتوب على قوم، ويكشف كربًا، ويغفر ذنبًا، ويضع أقوامًا، ويرفع آخرين"، دخل كلام بعضهم في بعض (2).
وقد ذكر الطبراني في "المعجم" و"السُّنَّة"، وعثمان بن سعيد الدارمي في كتابه "الرد على المَرِيسي" (3)، عن عبد الله بن مسعود قال: "إن ربكم عز
_________
(1) برقم (3917)، وأخرجه عبد الرزاق في "التفسير" (2/ 263)، والطبري (22/ 215).
(2) انظر: "البسيط" (21/ 161).
(3) "المعجم الكبير" (8886) واللفظ له، "الرد على المريسي" (1/ 475)، وأخرجه أبو داود في "الزهد" (168)، وفي إسناده مجهولان، وبذلك أعله البيهقي في "الأسماء والصفات" (674).
(1/78)
________________________________________
وجل ليس عنده ليل ولا نهار، نور السماوات والأرض من نور وجهه، وإن مقدار كل يوم من أيامكم عنده ثنتي عشرة ساعة (1)، فتعرض عليه أعمالكم بالأمس أول النهار اليوم، فينظر فيها ثلاث ساعات، فيطلع فيها على ما يكره، فيغضبه ذلك، وأول من يعلم غضبه حملة العرش، يجدونه يثقل عليهم، فيسبحه حملة العرش، وسُرَادِقات العرش (2)، والملائكة المقربون، وسائر الملائكة، ثم ينفخ جبريل في القرن فلا يبقى شيء إلا سمع صوته، فيسبحون الرحمن عزَّ وجل ثلاث ساعات حتى يمتلئ الرحمن عز وجل رحمة، فتلك ستّ ساعات، ثم يؤتى بالأرحام، فينظر فيها ثلاث ساعات، فذلك قوله في كتابه: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} [آل عمران: 6]، وقوله: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49 - 50]، فتلك تسع ساعات، ثم يؤتى بالأرزاق فينظر فيها ثلاث ساعات، فذلك قوله في كتابه: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الشورى: 12]، و {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي} [الرحمن: 29]، قال: هذا من شأنكم وشأن ربكم تبارك وتعالى".
قال الطبراني: حدثنا بشر بن موسى، ثنا يحيى بن إسحاق، حدثنا حماد ابن سلمة عن أبي عبد السلام، عن عبد الله ــ أو عبيد الله ــ بن مِكْرَز، عن ابن
_________
(1) "م": "سنة" تحريف، والمثبت من "د" موافق لما في مصادر التخريج.
(2) واحدها سُرَادِق: وهو كل ما أحاط بشيء من حائط ونحوه، انظر: "النهاية في الغريب" (سردق) (2/ 359).
(1/79)
________________________________________
مسعود فذكره.
وقال عثمان بن سعيد الدارمي: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد ابن سلمة، عن الزبير أبي عبد السلام، عن أيوب بن عبد الله الفهري، أن ابن مسعود قال: "إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار"، فذكر الحديث إلى قوله: "فيسبحه حملة العرش، وسُرَادِقات العرش، والملائكة المقربون، وسائر الملائكة".
فهذا تقدير يومي، والذي قبله تقدير حولي، والذي قبله تقدير عمري عند تعلّق (1) النفس به، والذي قبله كذلك، لكن (2) عند أول تخليقه وكونه مضغة، والذي قبله تقدير سابق على وجوده، لكن بعد خلق السماوات والأرض، والذي قبله تقدير سابق على خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكل واحد من هذه التقادير كالتفصيل من التقدير السابق.
وفي ذلك دليل على كمال علم الربِّ وقدرته وحكمته، وزيادة تعريف لملائكته وعباده المؤمنين بنفسه وأسمائه وصفاته.
وقد قال تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29]. وأكثر المفسرين على أن هذا الاستنساخ من اللوح المحفوظ، فتستنسخ الملائكة ما يكون من أعمال بني آدم قبل أن يعملوها، فيجدون ذلك موافقًا لما يعملونه، فيثبت الله منه ما فيه ثواب أو عقاب، ويطرح منه اللغو.
_________
(1) "د": "تعليق".
(2) "لكن" من "د".
(1/80)
________________________________________
وذكر ابن مردويه في "تفسيره" (1) من طرق إلى بقية، عن أرطاة بن المنذر، عن مجاهد، عن ابن عمر يرفعه: "إن أول ما خلق الله القلم، فأخذه بيمينه ـ وكلتا يديه يمين ـ، فكتب الدنيا وما يكون فيها من عمل معمول، من برٍّ أو فجور، رطب أو يابس، فأحصاه عند الذِّكر (2)، وقال: اقرؤوا إن شئتم: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29]، فهل تكون النسخة إلا من شيء قد فُرِغ منه".
وقال آدم: حدثنا ورقاء، عن عطاء بن السائب، عن مِقْسَم، عن ابن عباس: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29] قال: "تستنسخ الحفظة من أم الكتاب ما يعمل بنو آدم، فإنما يعمل الإنسان على ما استنسخ الملك من أم الكتاب" (3).
وفي "تفسير الأشجعي": عن سفيان، عن منصور، عن مِقْسَم، عن ابن عباس قال: "كَتَب في الذكر عنده كل شيء هو كائن، ثم بَعَث الحفظة على
_________
(1) عزاه إليه في "الدر المنثور" (13/ 305)، وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" (106)، والطبراني في "مسند الشاميين" (673)، والآجري في "الشريعة" (339) من طرق عن بقية به، وإسناده جيد، بقية صرح بالتحديث عند ابن أبي عاصم وغيره، وقد تابعه غير واحد.
(2) كذا في "د" "م": "فأحصاه عند الذكر"، والصواب: "فأحصاه عنده في الذكر" كما في مصدر الرواية ومصادر التخريج الأخرى، وبه يستقيم المعنى.
(3) هو في التفسير المنسوب إلى مجاهد (600) من طريق آدم به، ومن هذا الوجه أخرجه البيهقي في "القضاء والقدر" (40)، وعزاه في "الدر المنثور" (13/ 306) إلى ابن مردويه.
(1/81)
________________________________________
آدم وذريته، ووكَّلَ ملائكته ينسخون من الذكر ما يعمل العباد"، ثم قرأ: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29] (1).
وفي "تفسير الضحاك": عن ابن عباس في هذه الآية قال: "هي أعمال أهل الدنيا: الحسنات والسيئات، تنزل من السماء كل غداة وعشية، ما يصيب الإنسان في ذلك اليوم أو الليلة، الذي يُقْتل، والذي يغرق، والذي يقع من فوق بيت، والذي يتردّى من جبل، والذي يقع في بئر، والذي يُحرَق بالنار، فيحفظوا عليه ذلك كله، وإذا كان المساء صعدوا به إلى السماء، فيجدونه كما في السماء، مكتوبًا في الذكر الحكيم" (2).
* * * *
_________
(1) عزاه في "الدر المنثور" (13/ 306) إلى ابن مردويه، وأخرجه من وجه آخر عن مِقْسَم بنحوه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (8/ 262).
(2) قال في "الدر المنثور" (13/ 306): "أخرج ابن مردويه بسند ضعيف عن ابن عباس".
(1/82)
________________________________________
الباب السابع في أن سَبْق المقادير بالشقاوة والسعادة لا يقتضي ترك الأعمال، بل يقتضي الاجتهاد والحرص؛ لأنها إنما سبقت بالأسباب
يسبق إلى أفهام كثير من الناس أن القضاء والقدر إذا كان قد سبق فلا فائدة في الأعمال؛ فإن ما قضاه الربُّ سبحانه وقدَّره لابدَّ من وقوعه، فتوسُّط العمل لا فائدة فيه.
وقد سبق إيراد هذا السؤال من الصحابة - رضي الله عنهم - على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأجابهم بما فيه الشفاء والهدى.
ففي "الصحيحين" (1) عن علي بن أبي طالب قال: "كُنّا في جنازة في بَقِيع الغَرْقَد، فأتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومعه مِخْصَرة، فنكَّسَ فجعل يَنْكُتُ بمِخْصَرَته، ثم قال: "ما منكم من أحد، ما من نفس مَنْفوسة، إلا كُتِبَ مكانُها من الجنة والنار، وإلّا قد كُتِبت شقية أو سعيدة"، فقال رجل: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فمن كان منَّا من أهل السعادة، فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومَن كان مِن أهل الشقاوة، فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة. فقال: "اعملوا فكل ميسّرٌ، أما أهل السعادة فيُيَسّرون إلى عمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فيُيَسّرون لعمل أهل الشقاوة". ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ
_________
(1) تقدم تخريجه في (26).
(1/83)
________________________________________
} [الليل: 5 - 10].
وفي بعض طرق البخاري: أفلا نتكل على كتابنا، وندع العمل؟ فمَن كان منَّا من أهل السعادة، فسيصير إلى أهل السعادة، ومَن كان من أهل الشقاوة، فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة.
وعن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: جاء سراقة بن مالك بن جُعْشُم، فقال: يا رسول الله، بَيِّن لنا ديننا كأننا خُلِقنا الآن، فيم العمل اليوم؟ أفيما جَفَّت به الأقلام، وجرت به المقادير، أم فيما نستقبل؟ قال: "لا، بل فيما جَفّت به الأقلام، وجرت به المقادير"، قال: ففيم العمل؟ فقال: "اعملوا فكلٌّ ميسَّر" رواه مسلم (1).
وعن عمران بن حصين قال: قيل: يا رسول الله، أعُلِم أهلُ الجنَّة من أهل النَّار؟ فقال: "نعم"، قيل: ففيم يعمل العاملون؟ فقال: "كُلٌّ ميسَّرٌ لما خُلِق له" متفق عليه.
وفي بعض طرق البخاري: "كلٌّ يعمل لما خُلِق له، أو لما يُسِّرَ له" (2).
ورواه الإمام أحمد أطول من هذا فقال: حدثنا صفوان بن عيسى، ثنا عروة (3) بن ثابت، عن يحيى بن عُقَيل، عن ابن نعيم (4)، عن أبي الأسود
_________
(1) برقم (2648).
(2) تقدم تخريجهما في (27).
(3) كذا في "د" "م": "عروة" تحريف، صوابه: "عَزْرَة"، كما في مصدر الرواية وكتب الرجال.
(4) كذا في "د" "م": "ابن نعيم" تحريف، صوابه: "ابن يَعْمر"، كما في مصدر الرواية وكتب الرجال، وهو يحيى بن يعمر البصري.
(1/84)
________________________________________
الدُّؤلي قال: غدوتُ على عمران بن حصين يومًا من الأيام، فقال: إنَّ رجلًا من جهينة أو مزينةَ أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه، شيء قُضِي عليهم، أو مضى عليهم في قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم، واتُّخِذَت عليهم به الحجة؟ قال: "بل شيء قُضِي عليهم، ومضى عليهم"، قال: فلِمَ يعملون إذن يا رسول الله؟ قال: "من كان الله عز وجل خلقه لواحدة من المنزلتين يهيئه لعملها، وتصديق ذلك في كتاب الله {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7 - 8] " (1).
وقال المحاملي: ثنا أحمد بن المقدام، ثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت أبا سفيان يحدث عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر، أنه قال: نزل: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105]، فقال عمر: يا نبي الله، على ما نعمل: على أمر قد فُرِغ منه، أم لم يُفْرَغ منه؟ قال: "لا، على أمر قد فُرِغ منه، وجرت به الأقلام، ولكن كل امرئ ميسّر، {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ} [الليل: 5 - 10] " (2).
_________
(1) "المسند" (19936)، وأخرجه من طرق عن عزرة به الطيالسي (881)، وابن أبي عاصم في "السنة" (174)، ومسلم (2650).
(2) ومن طريق المحاملي أخرجه اللالكائي في "شرح الأصول" (1067)، ورواه عبد بن حميد "المنتخب" (20)، وابن أبي عاصم في "السنة" (170)، والترمذي (3111) من طرق عن أبي سفيان سليمان بن سفيان به، وقال: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، لا نعرفه إلا من حديث عبد الملك بن عمرو"، وأبو سفيان منكر الحديث لم يرو سوى بضعة أحاديث كما في "الكامل" (5/ 248)، واختلف عنه أيضًا فيما أشار إليه الدارقطني في "العلل" (2/ 68)، وللحديث متابعات وشواهد يصح بها، انظر: "ظلال الجنة" (163).
(1/85)
________________________________________
فاتفقت هذه الأحاديث ونظائرها على أن القدر السابق لا يمنع العمل، ولا يوجب الاتكال عليه، بل يوجب الجد والاجتهاد.
ولهذا لمّا سمع بعض الصحابة ذلك قال: "ما كنت أشدّ اجتهادًا مني الآن" (1)، وهذا مما يدل على جلالة فقه الصحابة، ودقة أفهامهم، وصحة علومهم؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرهم بالقدر السابق وجريانه على الخليقة بالأسباب، وأن العبد ينال ما قُدِّر له بالسبب الذي أُقْدِر عليه، ومُكِّن منه، وهُيِّئ له، فإذا أتى بالسبب أوصله إلى القدر الذي سبق له في أم الكتاب، وكلما ازداد اجتهادًا في تحصيل السبب كان حصول المُقَدَّر له أدنى إليه.
وهذا كما إذا قُدِّر له أن يكون من أعلم أهل زمانه، فإنه لا ينال ذلك إلا بالاجتهاد والحرص على التعلم وأسبابه، وإذا قُدِّر له أن يُرزق الولد لم ينل ذلك إلا بالنكاح أو التسرّي والوطء، وإذا قُدِّر له أن يستغل من أرضه من المغلِّ كذا وكذا لم ينله إلا بالبذر وفعل أسباب الزرع، وإذا قُدِّر له الشبع والري والدفء فذلك موقوف على الأسباب المحصلة لذلك من الأكل والشرب واللبس، وهذا شأن أمور المعاش والمعاد، فمن عطّل العمل اتكالًا على القدر السابق، فهو بمنزلة من عطّل الأكل والشرب والحركة في المعاش وسائر أسبابه اتكالًا على ما قُدِّر له.
_________
(1) أخرجه من قول سراقة بن جعشم به مسدد كما في "إتحاف الخيرة" (1/ 168)، ونُقِل معناه عن غير واحد من الصحابة، انظر: "فتح الباري" (11/ 497).
(1/86)
________________________________________
وقد فطر الله سبحانه عباده على الحرص على الأسباب التي بها قوام معايشهم ومصالحهم الدنيوية، بل فطر على ذلك سائر الحيوانات، فهكذا الأسباب التي بها مصالحهم الأخروية في معادهم، فإنه سبحانه ربّ الدنيا والآخرة، وهو الحكيم بما نصبه من الأسباب في المعاش والمعاد، وقد يسَّر كُلًّا من خَلْقه لما خَلَقَه له في الدنيا والآخرة، فهو مُهيَّأ له مُيسَّر له.
فإذا علم العبد أن مصالح آخرته مرتبطة بالأسباب الموصلة إليها كان أشّد اجتهادًا في فعلها والقيام بها منه في أسباب معاشه ومصالح دنياه.
وقد فَقِه هذا كل الفقه مَن قال: "ما كنت أشد اجتهادًا مني الآن"، فإن العبد إذا علم أن سلوك هذا الطريق يفضي به إلى رياض مونقة، وبساتين معجبة، ومساكن طيبة، ولذة ونعيم لا يشوبه نكد ولا تعب، كان حرصه على سلوكها، واجتهاده في السير فيها بحسب علمه بما يفضي إليه.
ولهذا قال أبو عثمان النهدي لسلمان: "لأنا بأول هذا الأمر أشد فرحًا مني بآخره"، وذلك لأنه إذا كان قد سبق له من الله سابقة، وهيّأه ويسّره للوصول إليها كان فرحه بالسابقة التي سبقت له من الله أعظم من فرحه بالأسباب التي تأتي بها، فإنها سبقت له من الله قبل الوسيلة منه، وعلمها الله وشاءها وكتبها وقدرها، وهيأ له أسبابها؛ ليوصله إليها، فالأمر كله من فضله وجوده السابق، فسبق له من الله سابقة السعادة ووسيلتها وغايتها، فالمؤمن أشد فرحًا بذلك من كون أمره مجعولًا إليه، كما قال بعض السلف: "والله ما أحب أن يجعل أمري إليّ، إنه إذا كان بيد الله خيرًا (1) من أن يكون بيدي".
_________
(1) هكذا في "د" "م": "كان بيد الله خيرًا" بنصب "خير"، والأشبه الرفع؛ اسم لـ "كان".
(1/87)
________________________________________
فالقدر السابق معين على الأعمال، وباعث عليها، ومقتضٍ لها، لا أنه منافٍ لها، وصادّ عنها، وهذا موضع مزلة قدم، من ثبتت قدمه عليه فاز بالنعيم المقيم، ومن زلَّت قدمه عنه هوى إلى قرار الجحيم.
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أرشد الأمة في القدر إلى أمرين، هما سببا السعادة: الإيمان والإقرار به، فإنه نظام التوحيد. والإتيان بالأسباب التي توصل إلى خيره، وتحجز عن شره، وذلك نظام الشرع.
فأرشدهم إلى نظام التوحيد والأمر، فأبى المنحرفون إلا القدح بإنكاره في أصل التوحيد، أو القدح بإثباته في أصل الشرع، ولم تتسع عقولهم ــ التي لم يُلقِ الله عليها مِن نوره ــ للجمع بين ما جمعت الرسل جميعهم بينه، وهو القدر والشرع، والخلق والأمر {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213]، والنبي - صلى الله عليه وسلم - شديد الحرص على جمع هذين الأمرين للأمة، وقد تقدم قوله: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز" (1)، وأن العاجز مَن لم يتسع للأمرين، وبالله التوفيق.
* * * *
_________
(1) تقدم تخريجه في (60).
(1/88)
________________________________________
الباب الثامن في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}
قد تقدمت الأحاديث بوقوع أهل السعادة في إحدى القبضتين، وكتابتهم بأسمائهم، وأسماء آبائهم في ديوان السعداء قبل خلقهم.
وفي "صحيح الحاكم" (1) من حديث الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما نزلت: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] قال المشركون: فالملائكة وعيسى وعزير يُعْبَدون من دون الله! قال: فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101]. وهذا إسناد صحيح.
وقال علي بن المديني: ثنا يحيى بن آدم، ثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم قال: أخبرني أبو رَزِين، عن أبي يحيى، عن ابن عباس أنه قال: آية لا يسأل الناس عنها، لا أدري أعرفوها فلم يسألوا عنها، أو جهلوها فلا يسألون عنها. فقيل له: وما هي؟ فقال: لما نزلت: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}، شَقَّ ذلك على قريش، وعلى أهل
_________
(1) برقم (3449) وقال: "صحيح الإسناد" ـ ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (40/ 328) ـ، وأخرجه الطبري (16/ 418)، والطحاوي في "شرح المشكل" (985) من وجه آخر عن ابن عباس.
(1/89)
________________________________________
مكة، وقالوا: يشتم آلهتنا. قال: فجاء ابن الزِّبَعْرى فقال: ما لكم؟ قالوا: يشتم آلهتنا. قال: وما قال؟ قالوا: قال: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}. قال: ادعوه لي. فلما دُعِيَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: يا محمد، هذا شيء لآلهتنا خاصة، أم لكل من عُبِدَ من دون الله؟ فقال: "لا، بل لكل من عُبِدَ من دون الله"، قال: فقال ابن الزِّبَعْرى: خُصِمتَ وربِّ هذه البَنِيّة ــ يعني الكعبة ــ، ألستَ تزعم أن الملائكة عبادٌ صالحون، وأن عيسى عبد صالح، وأن عُزيرًا عبد صالح، وهذه بنو مُلَيْح تعبد الملائكة، وهذه النصارى تعبد عيسى، وهذه اليهود تعبد عزيرًا.
قال: فضجّ أهلُ مكة، فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} ــ الملائكة وعزير وعيسى ــ {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء: 101 - 102] قال: ونزلت: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: 57] قال: هو الضجيج (1).
وهذا الإيراد الذي أورده ابن الزِّبَعْرى لا يَرِد على الآية؛ فإنه سبحانه قال: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ولم يقل: "ومَن تعبدون من
_________
(1) أخرجه من طريق ابن المديني به الطبراني في "الكبير" (12739)، والواحدي في "أسباب النزول" (101)، ومن طريق ابن آدم أخرجه الطحاوي في "شرح المشكل" (986)، ورواه أحمد (2920) بسياق مختلف من طريق عاصم، ولا بأس بإسناده، ويعضده رواية ابن عباس السابقة، وحسنه ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" (2/ 174).
وأبو يحيى هو الأعرج اسمه مصدع، وأبو رزين اسمه مسعود بن مالك، وعاصم بن أبي النجود القارئ.
(1/90)
________________________________________
دون الله"، و"ما" لما لا يعقل، فلا يدخل فيها الملائكة والمسيح وعزير، وإنما ذلك للأحجار ونحوها التي لا تعقل.
وأيضًا فإن السورة مكية، والخطاب فيها لعبَّاد الأصنام، فإنه قال: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} فلفظة "إنكم" ولفظة "ما" تبطل سؤاله، وهو رجل من فُصَحاء العرب لا يخفى عليه ذلك، ولكن إيراده إنما كان من جهة القياس والعموم المعنوي، الذي يعم الحكم فيه بعموم علته، أي: إنْ كان كونه معبودًا يوجب أن يكون حصب جهنم، فهذا المعنى بعينه موجود في الملائكة وعزير والمسيح، فأُجيب بالفارق، وذلك من وجوه:
أحدها: أن الملائكة والمسيح وعزيرًا ممن سبقت لهم من الله الحسنى، فهم سعداء لم يفعلوا ما يستوجبون به النار، فلا يُعذَّبون بعبادة غيرهم، مع بغضهم ومعاداتهم لهم، فالتسوية بينهم وبين الأصنام أقبح من التسوية بين البيع والربا، والميتة والمذكَّى، وهذا شأن أهل الباطل، وإنما يسوّون بين ما فرّق الشرع والعقل والفطرة بينه، ويفرّقون بين ما سَوَّى الله ورسوله بينه.
الفرق الثاني: أن الأوثان حجارة غير مكلفة ولا ناطقة، فإذا حُصِبَت بها جهنم إهانةً لها ولعابديها؛ لم يكن في ذلك تعذيب مَن لا يستحق العذاب، بخلاف الملائكة والمسيح وعزير، فإنهم أحياء ناطقون، فلو حُصِبَت بهم النَّار كان ذلك إيلامًا وتعذيبًا لهم.
الثالث: أن من عَبَدَ هؤلاء بزعمه فإنه لم يعبدهم في الحقيقة؛ فإنهم لم يدعوا إلى عبادتهم، وإنما عَبَدَ المشركون الشياطين، وتوهّموا أن العبادة لهؤلاء، فإنهم عبدوا بزعمهم مَن ادعى أنه معبود مع الله، وأنه معه إله، وقد برَّأ الله سبحانه ملائكته والمسيح وعزيرًا من ذلك، وإنما ادعى ذلك
(1/91)
________________________________________
الشياطين، وهم بزعمهم يعتقدون أنهم يرضون بأن يكونوا معبودين مع الله، ولا يرضى بذلك إلا الشياطين، ولهذا قال سبحانه: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَا إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ: 40 - 41]، وقال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس: 60]، وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّيَ إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 26 - 29]، فما عُبِدَ غيرُ الله إلا الشيطان.
وهذه الأجوبة مأخوذة (1) من قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى}، فتأمل الآية تجدها تلوح في صفحات ألفاظها، وبالله التوفيق.
والمقصود: ذكر الحسنى التي سبقت من الله لأهل السعادة قبل وجودهم.
وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: ثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد، ثنا أبو عامر العقدي، ثنا عروة (2) بن ثابت الأنصاري، ثنا الزهري، عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، أن عبد الرحمن بن عوف مرض مرضًا
_________
(1) "م": "منتزعة".
(2) كذا في "د" "م": "عروة" تحريف، صوابه: "عَزْرَة"، كما في مصدر الرواية وكتب الرجال، وقد تقدم نظيره.
(1/92)
________________________________________
شديدًا، أغمي عليه (1)، فأفاق، فقال: أُغمي عليَّ؟ قالوا: نعم، قال: إنه أتاني رجلان غليظان فأخذا بيدي، فقالا: انطلق نحاكمك إلى العزيز الأمين. فانطلقا بي، فتلقاهما رجل فقال: أين تريدان به؟ قالا: نحاكمه إلى العزيز الأمين. فقال: دعاه؛ فإن هذا ممن سبقت له السعادة، وهو في بطن أمه (2).
وقال عبد الله بن محمد البغوي: ثنا داود بن رشيد، ثنا ابن علية، حدثني محمد بن محمد القرشي، عن عامر بن سعد قال: أقبل سعدٌ من أرض له، فإذا الناس عُكوف على رجلٍ، فاطّلع فإذا هو يسبُّ طلحة والزبير وعليًّا، فنهاه، فكأنما زاده إغراء، فقال: ويلك، تريد أن تسبَّ (3) أقوامًا هم خير منك؟! لتنتهِينّ أو لأدعونّ عليك. فقال (4): كأنما يخوفني نبيٌّ من الأنبياء. فانطلق فدخلَ دارًا فتوضأ، ودخل المسجد، ثم قال: اللهم إنْ كان هذا قد سَبَّ أقوامًا قد سبق لهم منك خير (5)، أسخطك سَبّه إياهم، فأرني اليوم آية تكون آية للمؤمنين. قال: وتخرج بُخْتِيّة (6) من دار بني فلان نادّة لا يردها
_________
(1) كذا في "د" "م" و"شرح الأصول": "أغمي عليه"، والأليق بالسياق إضافة حرف عطف قبلها: "فأغمي عليه" ونحو ذلك.
(2) أخرجه من طريق ابن أبي حاتم به اللالكائي في "شرح الأصول" (1220)، ومن طرق عن الزهري رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 134)، وابن أبي الدنيا في "المحتضرين" (352).
(3) كذا في "م"، وفي مصدر الخبر: "ما تريد إلى أن تسب" على وجه التعجب، وهي أليق بالسياق.
(4) من قوله: "ويلك" إلى هنا ساقط من "د"، انتقال نظر.
(5) "د": "الحسنى"، والمثبت من "م" موافق لمصدر الخبر.
(6) البُخْتِيّة: الأنثى من الجمال البُخْت، وهي جمال طوال الأعناق، واللفظة معربة، "النهاية في الغريب" (1/ 101).
(1/93)
________________________________________
شيء، حتى تنتهي إليه، ويتفرق الناس، وتجعله بين قوائمها وتطأه حتى طفي، قال: فأنا رأيت سعدًا يتبعه الناس، يقولون: استجاب الله لك يا أبا إسحاق، استجاب الله لك يا أبا إسحاق (1).
وقال تعالى: {فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ} [الحج: 78]، أي: الله سمَّاكم المسلمين من قبل القرآن وفي القرآن، فسبقت تسمية الحق سبحانه لهم مسلمين قبل إسلامهم وقبل وجودهم.
وقال تعالى: {وَلَقَد سَّبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171 - 173].
وقال ابن عباس في رواية الوالبي عنه في قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس: 2]، قال: "سبقت لهم السعادة في الذكر الأول" (2).
وهذا لا يخالف قول مَن قال: إنه الأعمال الصالحة التي قدموها. ولا قول مَن قال: إنه محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه سبق لهم من الله في الذكر الأول السعادة بأعمالهم على يد محمد - صلى الله عليه وسلم -، فهو خيرٌ تقدم لهم من الله، ثم قدمه لهم على
_________
(1) أخرجه من طريق البغوي به أبو طاهر في "المخلصيات" (2/ 349)، واللالكائي في "شرح الأصول" (2361)، وأخرجه الطبراني في "الكبير" (307) وابن الأعرابي في "المعجم" (936) من طرق عن عامر بنحوه.
(2) أخرجه الطبري (12/ 110)، وابن أبي حاتم في "التفسير" (6/ 1922).
(1/94)
________________________________________
يد رسوله، ثم يقدمهم عليه يوم لقائه.
وقد قال تعالى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذتُّمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68]. وقد اختلف السلف في هذا الكتاب السابق (1).
فقال جمهور المفسرين من السلف ومَن بعدهم: لولا قضاء من الله سبق لكم يا أهل بدر في اللوح المحفوظ أن الغنائم حلال لكم؛ لعاقبكم.
وقال آخرون: لولا كتاب من الله سبق أنه لا يعذب أحدًا إلا بعد الحجّة؛ لعاقبكم.
وقال آخرون: لولا كتاب من الله سبق (2) لأهل بدر أنهم مغفور لهم ــ وإن عملوا ما شاؤواـ؛ لعاقبهم.
وقال آخرون ــ وهو الصواب ــ: لولا كتاب من الله سبق بهذا كلِّه؛ لمسّكم فيما أخذتم عذاب عظيم. والله أعلم.
* * * *
_________
(1) انظر: "جامع البيان" (11/ 276 - 283)، "زاد المسير" (3/ 381 - 382).
(2) من قوله: "أنه لا يعذب" إلى هنا ساقط من "م".
(1/95)
________________________________________
الباب التاسع في قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}
قال سفيان: عن زياد بن إسماعيل المخزومي، حدثنا محمد بن عباد بن جعفر، حدثنا أبو هريرة قال: جاء مشركو قريش إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخاصمون في القدر، فنزلت هذه الآية: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 47 - 49] رواه مسلم (1).
وروى الدارقطني من حديث حبيب بن عمرو (2) الأنصاري، عن أبيه قال (3): قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: أين خصماء الله؟ وهم القدرية" (4)، ولكن حبيب هذا قال الدارقطني: "مجهول، والحديث
_________
(1) برقم (2656)، وأخرجه ابن ماجه (83)، والترمذي (2157) واللفظ له.
(2) كذا في "د" "م": "عمرو" تحريف، صوابه: "عمر" كما في كتب التخريج والرجال.
(3) كذا في "د" "م" بسقوط جملة: "عن ابن عمر، عن أبيه"، كما في مصادر التخريج، والحديث من مسند عمر وليس في شيء من الطرق إسناده إلى عمر الأنصاري.
(4) أورده الدارقطني في "العلل" (2/ 71)، وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" (336)، وابن راهويه وأبو يعلى كما في "المطالب العالية" (2979)، والطبراني في "الأوسط" (6510) وقال: "لا يروى هذا الحديث عن عمر إلا بهذا الإسناد، تفرد به بقية"، وقال أبو حاتم في "العلل" (2810): "هذا حديث منكر، وحبيب بن عمر ضعيف الحديث مجهول، لم يرو عنه غير بقية"، وانظر: "مسند الفاروق" (3/ 28)، "السلسلة الضعيفة" (5581).
(1/96)
________________________________________
مضطرب الإسناد، ولا يثبت" (1).
والمخاصمون في القدر نوعان:
أحدهما: مَن يبطل أمر الله ونهيه بقضائه وقدره، كالذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} [الأنعام: 148].
والثاني: مَن ينكر قضاءه وقدره السابق. والطائفتان خصماء الله.
قال عوف: "من كذَّب بالقدر فقد كذَّبَ بالإسلام، إن الله تبارك وتعالى قدَّر أقدارًا، وخلق الخلق بقدر، وقسم الآجال بقدر، وقسم الأرزاق بقدر، وقسم البلاء بقدر، وقسم العافية بقدر، وأمر ونهى (2) " (3).
وقال الإمام أحمد: "القدرُ قدرة الله" (4).
واستحسن ابن عقيل هذا الكلام جدًّا، وقال: "هذا يدل على دقة علم
_________
(1) بنحوه في "العلل" (2/ 71).
(2) جملة: "وأمر ونهى" سقطت من "م"، و"بقدر" سقطت من "د"، والمثبت منهما موافق لمصادر الخبر.
(3) لم أقف عليه من قول عوف بن أبي جميلة، ورواه الفريابي في "القدر" (295) ـ ومن طريقه الآجري في "الشريعة" (462) ـ، وابن بطة في "الإبانة الكبرى" (1676) من طرق عن عوف، عن الحسن قوله.
(4) "مسائل أحمد برواية ابن هانئ" (1868) ـ ومن طريقه الخلال في "السنة" (904) ـ، ويروى من قول عمر في "الإبانة الكبرى" (1562)، ومن قول زيد بن أسلم عند الفريابي في "القدر" (207).
ووقعت العبارة في "د": "القدر قدرُهُ".
(1/97)
________________________________________
أحمد، وتبحره في معرفة أصول الدين" (1).
وهو كما قال أبو الوفاء، فإن إنكار القدر إنكار لقدرة الربّ على خلق أعمال العباد وكتابتها وتقديرها.
وسَلَفُ القدرية كانوا ينكرون علمه بها، وهم الذين اتفق سلف الأمة على تكفيرهم، وسنذكر ذلك فيما بعد إن شاء الله.
وفي تفسير علي بن أبي طلحة: عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] قال: "الذين يقولون: إن الله على كلِّ شيء قدير" (2).
وهذا من فقه ابن عباس وعلمه بالتأويل، ومعرفته بحقائق الأسماء والصفات، فإن أكثر أهل الكلام لا يوفّون هذه الجملة حقَّها، وإن كانوا يقرون بها. فمنكرو القدر، وخلق أفعال العباد لا يقرون بها على وجهها، ومنكرو أفعال الربِّ تعالى القائمة به لا يقرون بها على وجهها، بل يصرِّحون أنه لا يقدر على فعل يقوم به.
ومَن لا يقر بأن الله سبحانه كل يوم في شأن يفعل ما يشاء؛ لا يقر بأن الله على كل شيء قدير، ومَن لا يقرّ بأن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلّبها كيف يشاء، وأنه سبحانه مقلب القلوب حقيقة، وأنه إن شاء أن يقيم القلب أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه= لا يقر بأن الله على كل شيء قدير.
_________
(1) انظر: "طريق الهجرتين" (1/ 196).
(2) أخرجه اللالكائي في "شرح الأصول" (945)، والطبري (19/ 364) بلفظ: "الذين يعلمون".
(1/98)
________________________________________
ومن لا يقرّ بأنه استوى على عرشه بعد أن خلق السماوات والأرض، وأنه ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا يقول: "من يسألني فأعطيه، مَن يستغفرني فأغفر له"، وأنه نزل إلى الشجرة فكلم موسى كليمَه منها، وأنه ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة حين تخلو من سكانها، وأنه يجيء يوم القيامة فيفصل بين عباده، وأنه يتجلى لهم يضحك، وأنه يريهم نفسه المقدسة، وأنه يضع رجله على النار فتضيق بأهلها، وينزوي بعضها إلى بعض، إلى غير ذلك من شؤونه وأفعاله، التي مَن لم يقرَّ بها= لم يقرّ بأنه على كل شيء قدير.
فيا لها كلمة من حَبْر الأمة وترجمان القرآن - رضي الله عنه -.
وقد كان ابن عباس شديدًا على القدرية، وكذلك الصحابة، كما سنذكر ذلك إن شاء الله.
* * * *
(1/99)
________________________________________
الباب العاشر في مراتب القضاء والقدر التي مَن لم يؤمن بها لم يؤمن بالقضاء والقدر (1)
وهي أربع مراتب:
المرتبة الأولى: علم الربِّ سبحانه بالأشياء قبل كونها.
المرتبة الثانية: كتابته لها قبل كونها.
المرتبة الثالثة: مشيئته لها.
الرابعة: خلقه لها.
فأما المرتبة الأولى وهي العلم السابق، فقد اتفق عليه الرسل من أولهم إلى خاتمهم، واتفق عليه جميع الصحابة، ومَن تبعهم من الأمة، وخالفهم في ذلك مجوس الأمة.
وكتابته السابقة تدلّ على علمه بها قبل كونها، وقد قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّيَ أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30].
قال مجاهد: "عَلِم من إبليس المعصية، وخلقه لها، وعلم من آدم الطاعة، وخلقه لها" (2).
_________
(1) من قوله: "التي من لم يؤمن" إلى هنا ليس في "د".
(2) أسنده الطبري (1/ 509)، وابن بطة في "الإبانة الكبرى" (1393)، وشطره الأول في التفسير المنسوب إلى مجاهد (199)، وهو عند سعيد بن منصور في "التفسير" (184).
(1/100)
________________________________________
وقال قتادة: "كان في علمه أنه سيكون من تلك الخليفة (1) أنبياء ورسل، وقوم صالحون، وساكنو الجنة" (2).
وقال ابن مسعود: "أعلم ما لا تعلمون من شأن إبليس" (3).
وقال مجاهد أيضًا: "علم من إبليس أنه لا يسجد لآدم" (4).
وقال تعالى: {اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ وَيُنزِلُ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)} [لقمان: 34].
وفي "المسند" (5) من حديث لقيط بن عامر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: يا
_________
(1) هكذا وقعت في الأصول موافقة لمصدر القول الآتي.
(2) أسنده الطبري (1/ 510)، وابن أبي حاتم في "التفسير" (335).
(3) أسنده الطبري (1/ 507).
(4) أسنده الطبري (1/ 508).
(5) برقم (16206) من زوائد عبد الله، وأخرجه في "السنة" (1120)، وابن أبي عاصم في "السنة" (636)، وابن أبي خيثمة في "التاريخ الكبير" (2165)، وغيرهم في سياق طويل، وصححه الحاكم في "المستدرك" (8683)، والمؤلف في عدة مواضع من كتبه، ومنه قوله في "الصواعق" ـ المختصر ـ (461): "هذا حديث كبير مشهور، جلالة النبوة بادية على صفحاته، تنادي عليه بالصدق"، ثم نقل تصحيحه عن بعض الحفاظ، وفي تصحيحه بهذا السياق نظر، فقد تفرد به سلسلة من أشباه المجاهيل ممن لا يحتمل تفردهم بما هو دون هذا المتن، قال ابن كثير في "البداية والنهاية" (7/ 339): "هذا حديث غريب جدًّا، وألفاظه في بعضها نكارة".
(1/101)
________________________________________
رسول الله، ما عندك من علم الغيب؟ فقال: "ضَنَّ ربك بمفاتيح خمسٍ من الغيب لا يعلمها إلا الله"، وأشار بيده، فقلتُ: ما هُنّ؟ قال: "عِلْمُ المَنِيّة، قد عَلِم متى مَنِيّة أحدكم ولا تعلمونه، وعِلْمُ المَنِيِّ حين يكون في الرحم، قد علمه ولا تعلمونه، وعِلْمُ ما في غد، قد علم ما أنت طاعم ولا تعلمه، وعِلْمُ يومِ الغيث، يشرف عليكم آزِلِين (1) مشفقين، فيظل يضحك، قد علم أن غَوْثكم إلى قريب ــ قال لقيط: لن نَعدم من ربٍّ يضحك خيرًا ــ، وعِلْمُ يومِ الساعة".
وقد تقدم حديث علي المتفق على صحته: "ما منكم من نفس منفوسة، إلا وقد عُلِم مكانُها من الجنة والنار" (2).
وقال البزار: حدثنا محمد بن عمر بن هياج الكوفي، حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا فضل (3) بن مرزوق، عن عطية، عن أبي سعيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحسبه قال: "يُؤتى بالهالك في الفترة، والمعتوه، والمولود، فيقول الهالك في الفترة: لم يأتني كتابٌ ولا رسولٌ. ويقول المعتوه: أي ربِّ، لم تجعل لي عقلًا أعقل به خيرًا ولا شرًّا. ويقول المولود: ربِّ، لم أدرك العمل. قال: فتُرفعُ لهم نار، فيُقالُ لهم: رِدُوها، أو قال: ادخلوها. فَيَرِدُها من كان في علم الله سعيدًا أن لو أدرك العمل، قال: ويُمسك عنها من كان في علم الله شقيًّا أن
_________
(1) من الأزل: الشدة والضيق، "النهاية في الغريب" (أزل) (1/ 46).
(2) تقدم تخريجه بسياق مشابه في (26)، ولفظ المؤلف هنا في "الإبانة الكبرى" (1413) وغيرها.
(3) كذا في "د" "م": "فضل"، صوابه: "فضيل" كما في مصادر التخريج، وانظر حاشية تحقيق "الجرح والتعديل" (3/ 5).
(1/102)
________________________________________
لو أدرك العمل، فيقول تبارك وتعالى: إياي عصيتم، فكيف برسلي بالغيب" (1).
وفي "الصحيحين" (2) عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدانه أو يُنَصِّرانه أو يُمَجِّسانه، كما تُنْتَج البهيمةُ جَمْعاء، هل تحسون فيها من جَدْعاء؟ (3) حتى تكونوا أنتم تجدعونها"، قالوا: يا رسول الله، أفرأيت مَن يموت منهم وهو صغير؟ قال: "الله أعلم بما كانوا عاملين".
ومعنى الحديث: الله أعلم بما كانوا عاملين لو عاشوا.
وقد قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23]، قال ابن عباس: "عَلِم ما يكون قبل أن يخلقه" (4).
وقال أيضًا: "على علم قد سبق عنده" (5).
_________
(1) أخرجه البزار كما في "كشف الأستار" (2176)، وابن الجعد (2038) ـ ومن طريقه اللالكائي في "شرح الأصول" (1076) ـ، وفي إسناده عطية العوفي ضعيف.
وفي الباب عن أبي هريرة وأنس ومعاذ والأسود بن سريع ـ وهو أمثلها ـ تشد أصل الحديث، ورد ابن عبد البر طرق الباب كلها رواية ودراية في "التمهيد" (18/ 130)، وانظر: "القضاء والقدر" للبيهقي (361 - 362)، "السلسلة الصحيحة" (2468).
(2) البخاري (6599)، ومسلم (2658) مع اختلاف يسير.
(3) البهيمة الجمعاء هي التي لم يذهب من بدنها شيء، والجدعاء المقطوعة الأذن، انظر: "فتح الباري" (3/ 250).
(4) حكاه الواحدي في "البسيط" (20/ 148).
(5) أخرجه ابن بطة في "الإبانة الكبرى" (1622).
(1/103)
________________________________________
وقال أيضًا: "يريد الأمر الذي سبق له في أم الكتاب" (1).
وقال سعيد بن جبير ومقاتل: "على علمه فيه" (2).
وقال أبو إسحاق: "أي على ما سبق في علمه أنه ضال قبل أن يخلقه" (3).
وهذا الذي ذكره جمهور المفسرين.
قال الثعلبي: "على علم منه بعاقبة أمره" (4).
قال: "وقيل: على ما سبق في علمه أنه ضال قبل أن يخلقه" (5).
وكذلك ذكر البغوي (6)، وأبو الفرج بن الجوزي قال: "على علمه السابق منه أنه لا يهتدي" (7).
وذكر طائفة منهم المهدوي وغيره قولين في الآية، هذا أحدهما.
قال المهدوي: "فأضلّه الله على عِلْم علمه منه.
وقيل: المعنى: أضلّه عن الثواب على عِلْم منه بأنه لا يستحقه.
_________
(1) حكاه الواحدي في "البسيط" (20/ 149).
(2) حكاه عنهما الواحدي في "البسيط" (20/ 148)، وانظر: "تفسير مقاتل" (3/ 839).
(3) "معاني القرآن وإعرابه" (4/ 433).
(4) "الكشف والبيان" (8/ 363).
(5) لم أجده في "الكشف والبيان"، وقد تقدمت قريبًا من قول الزجاج، وإليه نسبها الواحدي في "الوسيط" (4/ 99).
(6) "معالم التنزيل" (7/ 245).
(7) "زاد المسير" (7/ 362)، وفيه: "علمه السابق فيه".
(1/104)
________________________________________
قال: وقيل: على عِلْم من عابد الصنم أنه لا ينفع ولا يضر" (1).
وعلى الأول يكون {عَلَى عِلْمٍ} حال من الفاعل، المعنى: أضله الله عالمًا بأنه من أهل الضلال في سابق علمه.
وعلى الثاني: حال من المفعول، أي أضله الله في حال عِلْم الكافر بأنه ضال.
قلت: وعلى الوجه الأول فالمعنى: أضله الله عالمًا به، وبأقواله وما يناسبه ويليق به، ولا يصلح له غيره، قبل خلقه وبعده، وأنه أهل للضلال، وليس أهلًا أن يُهدى، وأنه لو هُديَ لكان قد وضعَ الهدى في غير محلّه، وعند مَن لا يستحقه، والربُّ تعالى حكيم، إنما يضع الأشياء في محالها اللائقة بها.
فانتظمت الآية على هذا القول: إثباتَ القدر والحكمة التي لأجلها قُدّر عليه الضلال، وذِكْرَ العلم؛ إذ هو الكاشف المبين لحقائق الأمور، ووضعِ الشيء في موضعه، وإعطاءِ الخير من يستحقه، ومنعِهِ من لا يستحقه؛ فإن هذا لا يحصل بدون العلم، فهو سبحانه أضله على علمه بأحواله التي تناسب ضلاله وتقتضيه وتستدعيه.
وهو سبحانه كثيرًا ما يذكر ذلك مع إخباره بأنه الذي أضل الكافر، كما قال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125]، وقال تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ
_________
(1) "التحصيل لفوائد كتاب التفصيل" (6/ 113).
(1/105)
________________________________________
مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ} [البقرة: 26 - 27]، وقال تعالى: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الصف: 7]، {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ} [الصف: 5]، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3]، {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 27]، {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} [غافر: 34]، {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35]، {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 59].
وقد أخبر سبحانه أنه يفعل ذلك عقوبة لأرباب هذه الجرائم، وهذا إضلال ثانٍ بعد الإضلال الأول، كما قال تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ (1) فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:88]، وقال تعالى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ إِنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 109 - 110]، وقال تعالى: {(4) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ} [الصف: 5]، وقال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10]، وقال: {(23) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ} [الأنفال: 24]، أي إن تركتم الاستجابة لله ورسوله عاقبكم بأن يحول بينكم وبين قلوبكم، فلا
_________
(1) "د" "م": {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155]، وكأنه خلط بين آية البقرة والنساء.
(1/106)
________________________________________
تقدرون على الاستجابة بعد ذلك.
ويشبه هذا ــ إن لم يكن هو بعينه ــ قوله: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا جَّاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا (1)} [يونس: 13]، وفي موضع آخر: {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَد جَّاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ (2) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 101].
وفي هذه الآية ثلاثة أقوال، هذا أحدها، قال أبو إسحاق: هذا إخبار عن قوم لا يؤمنون، كما قال عن قوم (3) نوح: {نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ} [هود: 36]، واحتج على هذا بقوله: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 101]. قال: وهذا يدل على أنه قد طبع على قلوبهم (4).
وقال ابن عباس: "فما كان أولئك الكفار ليؤمنوا عند إرسال الرسل بما كذبوا يوم أخذ ميثاقهم، حين أخرجهم من ظهر آدم فآمنوا كُرْهًا، وأقرّوا باللسان، وأضمروا التكذيب" (5).
وقال مجاهد: "فما كانوا ــ لو أحييناهم بعد هلاكهم ــ ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل هلاكهم" (6).
_________
(1) "د" "م": {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ}، كأنه انتقال نظر للآية الآتية.
(2) في "د" "م": {بما كذبوا به من قبل} بزيادة "به" سهوًا.
(3) "قوم" ساقطة من "م"، والجملة مسوقة بتصرف من المصدر.
(4) "معاني القرآن وإعرابه" (2/ 361).
(5) حكاه الثعلبي في "الكشف والبيان" (4/ 265)، وانظر: "معالم التنزيل" (3/ 261).
(6) أورده في "الكشف والبيان" (4/ 266)، والتعليق الذي يليه من كلام مجاهد في تفسيره، انظر: التفسير المنسوب إلى مجاهد (340)، "جامع البيان" (10/ 338).
(1/107)
________________________________________
قلت: وهو نظير قوله: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28].
وقال آخرون: لما جاءتهم رسلهم بالآيات التي اقترحوها وطلبوها، ما كانوا ليؤمنوا بعد رؤيتها ومعاينتها بما كذبوا به من قبل رؤيتها، فمنعهم تكذيبهم السابق بالحق لما عرفوه من الإيمان به بعد ذلك، وهذه عقوبة مَن ردَّ الحق إذا عُرِض عليه (1) فلم يقبله، فإنه يُصْرَف عنه، ويُحال بينه وبينه، ويُقْلب قلبه عنه، فهذا إضلال العقوبة، وهو من عدل الربِّ تعالى في عبده.
وأما الإضلال السابق الذي ضلّ به عن قبوله أوّلًا والاهتداء به: فهو إضلال ناشئ عن علم الله السابق في عبده أنه لا يصلح للهدى ولا يليق به، وأن محله غير قابل له، فالله أعلم حيث يضع هداه وتوفيقه، كما هو أعلم حيث يجعل رسالاته، فهو أعلم حيث يجعلها أصلًا وميراثًا.
وكما أنه ليس كل محل أهلًا لتحمل الرسالة عنه، وأدائها إلى الخلق؛ فليس كل محل أهلًا لقبولها والتصديق بها، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53]، أي: ابتلينا واختبرنا بعضهم ببعض، فابتلى الرؤساء والسادة بالأتباع والموالي والضعفاء، فإذا نظر الرئيس والمطاع إلى المولى والضعيف قد آمن، حمي أنفه، وأنفَ أن يسلم، وقال: أهذا يمُنّ الله عليه بالهدى والسعادة دوني؟! قال الله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}، وهم الذين يعرفون النعمة وقدرها، ويشكرون الله عليها بالاعتراف والذل والخضوع والعبودية، فلو كانت
_________
(1) تحتمل في "م": "أو اعترض عليه"، والمثبت من "د" أشبه بالسياق.
(1/108)
________________________________________
قلوبكم مثل قلوبهم، تعرفون قدر نعمتي، وتشكروني عليها، وتذكروني بها، وتخضعون لي كخضوعهم، وتحبوني كحبهم= لمننتُ عليكم كما مننتُ عليهم، ولكن لمِنَني ونعمي محالٌّ لا تليق إلا بها، ولا تحسن إلا عندها.
ولهذا يقرن سبحانه كثيرًا أو مطردًا بين التخصيص والعلم، كقوله ههنا: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}، وقوله: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ (1)} [الأنعام: 124]، وقوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [القصص: 68 - 69]، أي: هو سبحانه المنفرد بالخلق والاختيار مما خلق، وهو الاصطفاء والاجتباء، ولهذا كان الوقف التام على قوله: {وَيَخْتَارُ}.
ثم نفى عنهم الاختيار (2) الذي اقترحوه بإراداتهم، وأن ذلك ليس إليهم، بل إلى الخلّاق العليم، الذي هو أعلم بمحالّ الاختيار ومواضعه، لا مَن قال: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].
فأخبر سبحانه أنه لا يبعث الرسل باختيارهم، وأن البشر ليس لهم أن يختاروا على الله، بل هو الذي يخلق ما يشاء ويختار، ثم نفى سبحانه أن تكون لهم الخِيَرة، كما ليس لهم الخلق.
_________
(1) هكذا في "د" "م" بالجمع، قرأ بها الجمهور ابن عمرو وغيره كما في "النشر" (5/ 1692)، وانظر: "الحجة" (133).
(2) من قوله: "ولهذا كان الوقف" إلى هنا ساقط من "م".
(1/109)
________________________________________
ومَن زعم أن "ما" مفعول "يختار" فقد غلط (1)؛ إذْ لو كان هذا هو المراد لكانت "الخِيَرة" منصوبة على أنها خبر "كان"، ولا يصح أن يُقال: المعنى "ما كان لهم الخيرة فيه"، وحُذِف العائد؛ فإن العائد ههنا مجرور بحرف لم يُجَرَّ الموصول بمثله، فلو حُذِف مع الحرف لم يكن عليه دليل، فلا يجوز حذفه.
وكذلك لم يفهم معنى الآية مَن قال: إن "الاختيار" ههنا هو الإرادة، كما يقول المتكلمون: إنه سبحانه فاعل بالاختيار؛ فإن هذا اصطلاح حادث منهم، لا يُحْمَل عليه كلام الله، بل لفظ الاختيار في القرآن مطابق لمعناه في اللغة، وهو اختيار الشيء على غيره، وهو يقتضي ترجيح ذلك المختار وتخصيصه وتقديمه على غيره (2)، وهذا أمر أخص من مطلق الإرادة والمشيئة.
قال في "الصحاح" (3): "الخِيْرَةُ الاسم من قولك: خَارَ الله لك في هذا الأمر، والخِيَرَةُ أيضًا، تقول: محمدٌ خِيَرَةُ الله من خَلْقه، وخِيْرَةُ الله أيضًا ـ بالتسكين ـ، والاختيَارُ: الاصطفاء، وكذلك التَخَيُّرُ.
والاستخارة: طلب الخِيَرَة، يقال: اسْتَخرِ الله يَخِرْ لك، وخَيّرْتُهُ بين الشيئين: فَوَّضتُ إليه الخِيارَ". انتهى.
فهذا هو الاختيار في اللغة، وهو أخصّ مما اصطلح عليه أهل الكلام.
_________
(1) اختار هذا القول ابن جرير (18/ 299)، وانظر في المسألة: "معاني القرآن وإعرابه" (4/ 151)، "البحر المحيط" (8/ 320).
(2) من قوله: "وهو يقتضي ترجيح" إلى هنا ساقط من "م"، انتقال نظر.
(3) (2/ 652) باختصار يسير.
(1/110)
________________________________________
ومن هذا قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، وقوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا} [الأعراف: 155]، أي: اختار منهم.
وبهذا يحصل جواب السؤال الذي تورده القدرية، وهو: ما تقولون في الكفر والمعاصي: هل هي واقعة باختيار الله أم بغير اختياره؟
فإن قلتم: باختياره؛ فكل مختار مرضي مصطفى محبوب، فتكون مرضية محبوبة.
وإن قلتم: بغير اختياره؛ لم تكن بمشيئته واختياره.
وجوابه أن يقال: ما تعنون بالاختيار؟ تعنون به الاختيار العام في اصطلاح المتكلمين، وهو المشيئة والإرادة، أم تعنون به الاختيار الخاص الواقع في القرآن والسنة وكلام العرب؟
فإن أردتم بالاختيار الأول، فهي واقعة باختياره بهذا الاعتبار، ولكن لا يجوز أن يُطلق ذلك عليها؛ لما في لفظ الاختيار من معنى الاصطفاء والمحبة، بل يُقال: واقعة بمشيئته وقدرته.
وإن أردتم بالاختيار معناه في القرآن ولغة العرب، فهي غير واقعة باختياره بهذا المعنى، وإن كانت واقعة بمشيئته.
فإن قيل: فهل تقولون: إنها واقعة بإرادته، أم لا تطلقون ذلك؟
قيل: لفظ الإرادة في كتاب الله نوعان:
إرادة كونية شاملة لجميع المخلوقات، كقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ... }
(1/111)
________________________________________
[البروج: 16]، وقوله: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} [الإسراء: 16]، وقوله: {لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34]، ونظائر ذلك.
وإرادة دينية أمرية، لا يجب وقوع مرادها، كقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ} [البقرة: 185]، وقوله: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 27]، فهي مرادة بالمعنى الأول، غير مرادة بالمعنى الثاني.
وكذلك إن قيل: هل هي واقعة بإذنه أم لا؟
فالإذن أيضًا نوعان:
كوني، كقوله: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102].
وديني أمري، كقوله: {قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} [يونس: 59]، وقوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39].
ولفظ الاختيار مشتق من الخير المخالف للشر، ولما كان الأصل في الحي أنه يريد ما ينفعه، وما هو خير سُمّيت الإرادة اختيارًا، وهذا يتضمن أن الإرادة لا ترجِّح نوعًا على نوع إلا لترجُّح ذلك النوع عند الفاعل.
والمقصود أنه سبحانه يذكر العِلْم عند المخصَّصات، كقوله تعالى: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان: 32]، لا خلاف بين الناس أن المعنى: على علم منّا بأنهم أهل للاختيار، فالجملة في موضع نصب على الحال، أي: اخترناهم عالِمِين بهم وبأحوالهم، وما يقتضي اختيارهم من قبل خلقهم، فَذَكر سبحانه اختيارهم وحكمته في اختياره إياهم، وذَكَر علمه الدال على مواقع حكمته واختياره.
(1/112)
________________________________________
ومن هذا قوله سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء: 51]، وأصحّ الأقوال في الآية أن المعنى: من قبل نزول التوراة، فإنه سبحانه قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء: 48]، ثم قال: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} [الأنبياء: 50]، ثم قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ}، أي من قبل ذلك، ولهذا قُطِعتْ "قبل" عن الإضافة وبُنِيت؛ لأن المضاف مَنْوِي معلوم، وإن كان غير مذكور في اللفظ، وذكر سبحانه هؤلاء الثلاثة وهم أئمة الرسل، وأكرم الخلق عليه، وهم: محمد وإبراهيم وموسى صلوات الله عليهم وسلامه.
وقد قيل: {مِنْ قَبْلُ} أي: في حال صغره قبل البلوغ، وليس في اللفظ ما يدل على هذا، والسياق إنما يقتضي من قبل ما ذُكِر.
وقيل: المعنى بقوله: {مِنْ قَبْلُ} أي: في سابق علمنا. وليس في الآية أيضًا ما يدل على ذلك، ولا هو أمر مختص بإبراهيم، بل كل مؤمن فقد قَدَّرَ الله هداه في سابق علمه.
والمقصود قوله: {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ}، قال البغوي: "إنه أهل للهداية والنبوة" (1).
وقال أبو الفرج: "أي: عالِمِين بأنه موضع لإيتاء الرشد" (2).
_________
(1) "معالم التنزيل" (5/ 322).
(2) "زاد المسير" (5/ 357).
(1/113)
________________________________________
وقال صاحب "الكشاف": "ومعنى "علمه به": أنه علم منه أحوالًا بديعة، وأسرارًا عجيبة، وصفات قد رَضِيَها وأحمدها، حتى أهّلَهُ لمخالّته ومخالصته، وهذا كقولك في خَيِّر من الناس: أنا عالم بفلان، فكلامك هذا من الاحتواء على محاسن الأوصاف" (1).
وهذا كقوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ} [الأنعام: 124]، وقوله: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ} [الدخان: 32]، ونظير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران: 33 - 34]، وقريب من قوله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [الأنبياء: 81]، فلما ذكر ما خصّ به نبيه سليمان، وخصّ به الأرض التي بارك فيها قال: {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ}، حيث وضعنا هذا التخصيص في المحل الذي يليق به من الأماكن والأناسي.
فصل
وهو سبحانه كما هو العليم الحكيم في اختيار مَن يختار من خلقه، وإضلاله مَن يضله منهم؛ فهو العليم الحكيم بما في أمره وشرعه من العواقب الحميدة، والغايات العظيمة، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]، بيَّن سبحانه أن ما أمرهم به
_________
(1) "الكشاف" (3/ 121).
(1/114)
________________________________________
يعلم ما فيه من المصلحة والمنفعة لهم التي اقتضت أنه يختاره، ويأمرهم به، وهم قد يكرهونه؛ إما لعدم العلم، وإما لنفور الطبع، فهذا علمه بما في عواقب أمره مما لا يعلمونه، وذاك علمه بما في اختياره من خلقه مما لا يعلمونه، فهذه الآية تضمنت الحض على التزام أمر الله وإن شق على النفوس، وعلى الرضا بقضائه وإن كرهته النفوس.
وفي حديث الاستخارة: "اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلمُ ولا أعلم، وأنت علَّام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم هذا الأمر خيرًا لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري؛ فاقدره لي، ويَسِّره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلمه شرًا لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري؛ فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضِّني به" (1).
ولما كان العبد محتاجًا في فعل ما ينفعه في معاشه ومعاده إلى عِلْمٍ بما فيه من المصلحة، وقدرةٍ عليه، وتيسيرٍ له، وليس له من نفسه شيء من ذلك، بل عِلْمه ممن علَّم الإنسان ما لم يعلم، وقدرته منه؛ فإن لم يقدره عليه وإلا فهو عاجز، وتيسيره منه؛ فإن لم ييسره عليه وإلا فهو متعسر عليه بعد إقداره= أرشده النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى محض العبودية، وهو طلب الخيرة من العالم بعواقب الأمور وتفاصيلها وخيرها وشرها، وطلب القدرة منه؛ فإنه إن لم يقدره وإلا فهو عاجز، وطلب فضله منه؛ فإنه إن لم ييسره له، ويهيئه له، وإلا فهو متعذر عليه، ثم إذا اختاره له بعلمه، وأعانه عليه بقدرته، ويسَّره له من فضله؛ فهو
_________
(1) أخرجه البخاري (6382، 7390) وغيره بألفاظ متقاربة من حديث جابر.
(1/115)
________________________________________
يحتاج إلى أن يبقيه عليه، ويديمه بالبركة (1) التي يضعها فيه، والبركة تتضمن ثبوته ونموه، وهذا قَدْرٌ زائدٌ على إقداره عليه وتيسيره له، ثم إذا فعل به ذلك كله فهو محتاج إلى أن يرضِّيه به، فإنه قد يجيء له ما يكرهه، فيظل ساخطًا له وقد خار الله له فيه.
قال عبد الله بن عمر: "إن الرجل ليستخير الله فيختار له، فيسخط على ربه، فلا يلبث أن ينظر في العاقبة، فإذا هو قد خِير له" (2).
وفي "المسند" (3) من حديث سعد بن أبي وقاص، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من سعادة ابن آدم استخارته الله عز وجل، ومن سعادة ابن آدم رضاه بما قضاه الله، ومن شِقْوة ابن آدم تركه استخارة الله عز وجل، ومن شِقْوة ابن آدم سخطه بما قضى الله".
فالمقدور يكتنفه أمران: الاستخارة قبله، والرضا بعده، فمن توفيق الله لعبده وإسعاده إياه أن يختار قبل وقوعه، ويرضى بعد وقوعه، ومن خذلانه له أن لا يستخيره قبل وقوعه، ولا يرضى به بعد وقوعه.
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "لا أبالي أصبحت على ما أحب أو على ما أكره؛ لأني لا أدري: الخير فيما أحب أو فيما أكره" (4).
_________
(1) "د": "بالذكر" وكذلك في الموضع الآتي، تحريف.
(2) أخرجه ابن أبي الدنيا في "الرضا عن الله بقضائه" (56).
(3) برقم (1444)، وأخرجه الترمذي (2151)، وقال: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن أبي حميد ... وليس هو بالقوي عند أهل الحديث".
(4) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (425)، وأبو داود في "الزهد" (103).
(1/116)
________________________________________
وقال الحسن: "لا تكرهوا النقمات الواقعة، والبلايا الحادثة، فلرُبَّ أمر تكرهه فيه نجاتك، ولرُبَّ أمر تؤثره فيه عطبك" (1).
فصل
ومما يناسب هذا قوله تعالى: {لَّقَد صَّدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 27]، بيَّن سبحانه وتعالى حكمة ما كرهوه عام الحديبية من صَدِّ المشركين لهم عن البيت، حتى رجعوا ولم يعتمروا، وبيَّن لهم أن مطلوبهم يحصل بعد هذا، فحصل في العام القابل.
وقال سبحانه: {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} وهو صلح الحديبية، وهو أول الفتح المذكور في قوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1]، فإنه (2) بسببه حصل من مصالح الدين والدنيا، والنصر، وظهور الإسلام، وبطلان الكفر، ما لم يكونوا يرجونه قبل ذلك، ودخل الناس بعضهم في بعض، وتكلم المسلمون بكلمة الإسلام وبراهينه وأدلته جهرة لا يخافون، ودخل في ذلك الوقت في الإسلام قريب ممن دخل فيه من أوله إلى ذلك الوقت. وظهر لكل أحد بَغْيُ المشركين وعدوانهم وعنادهم، وعَلِمَ الخاص والعام أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أولى بالحق والهدى، وأن أعداءهم ليس بأيديهم إلا العدوان والعناد، فإن البيت الحرام لم يُصَدَّ عنه حاجٌّ ولا
_________
(1) أورده الثعلبي في "الكشف والبيان" (3/ 138).
(2) "د" "م": "فإن".
(1/117)
________________________________________
معتمر من زمن إبراهيم عليه السلام، فتحققت العرب عناد قريش وعدوانهم، وكان ذلك داعية لبشر كثير إلى الإسلام، وزاد عناد القوم وطغيانهم، وذلك من أكبر العون على نفوسهم، وزاد صبر المؤمنين واحتمالهم والتزامهم بحكم الله وطاعة رسوله، وذلك من أعظم أسباب نصرهم، إلى غير ذلك من الأمور التي علمها الله سبحانه ولم يعلمها الصحابة، ولهذا سَمَّاه فتحًا، وسُئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أفتح هو؟ قال: "نعم" (1).
فصل
ويشبه هذا قول يوسف الصديق: {يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَد جَّعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِيَ إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف: 100]، فأخبر أنه يلطف لما يريده، فيأتي به بطرق خفية لا يعلمها الناس.
واسمه "اللطيف" يتضمن علمه بالأشياء الدقيقة وإيصاله الرحمة بالطرق الخفية، ومنه التلطف، كما قال أهل الكهف: {وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} [الكهف: 19]، فكان ظاهر ما امتحن به يوسف من مفارقة أبيه، وإلقائه في السجن (2)، وبيعه رقيقًا، ثم مراودة التي هو في بيتها له عن نفسه، وكذبها عليه، وسجنه = محنًا ومصائب، وباطنها نعمًا ومنحًا، جعلها الله سببًا لسعادته في الدنيا والآخرة.
_________
(1) أخرجه بتمامه البخاري (3182)، ومسلم (1785) من حديث سهل بن حنيف.
(2) "م": "وإلقائه الجب في السجن" سبق قلم، والمثبت من "د".
(1/118)
________________________________________
ومن هذا الباب ما يبتلي به عباده من المصائب، ويأمرهم به من المكاره، وينهاهم عنه من الشهوات، هي طرق يوصلهم بها إلى سعادتهم في العاجل والآجل، وقد حُفّت الجنّة بالمكاره، وحُفّت النار بالشهوات، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له، إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيرًا له، وليس ذلك إلا للمؤمن" (1)، فالقضاء كله خيرٌ لمن أُعْطِي الشكر والصبر، جالبًا ما جلب.
وكذلك ما فعله بآدم وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم، من الأمور التي هي في الظاهر مِحَنٌ وابتلاء، وهي في الباطن طُرق خفية أوصلهم بها بلطفه إلى غاية كمالهم وسعادتهم.
فتأمل قصة موسى عليه السلام، وما لطف له من إخراجه في وقت ذبح فرعون الأطفال، ووحيه إلى أمه أن تلقيه في اليم، وسوقه بلطفه إلى دار عدوه الذي قدّر هلاكه على يديه، وهو يذبح الأطفال في طلبه (2)، فربّاه في بيته وحجره على فراشه، ثم قَدَّرَ له سببًا أخرجه به من مصر، وأوصله به إلى موضع لا حكم لفرعون عليه، ثم قَدَّر له سببًا أوصله به إلى النكاح والغنى بعد العزوبة والعَيْلة، ثم ساقه إلى بلد عدوه فأقام عليه به حجَّته، ثم أخرجه وقومه في صورة الهاربين الفارين منه، وكان ذلك عين نصرتهم على أعدائهم وإهلاكهم وهم ينظرون.
وهذا كلّه مما يبيّن أنه سبحانه يفعل ما يفعله لما يريده من العواقب
_________
(1) أخرجه أحمد (18934)، ومسلم (2999) من حديث صهيب بقريب منه.
(2) أي: كان فرعون يذبح الأطفال طلبًا في ذبح موسى، وفي "الفوائد" (59): "كم ذبح فرعون في طلب موسى من ولد! ".
(1/119)
________________________________________
الحميدة، والحكم العظيمة التي لا تدركها عقول الخلق، مع ما في ضمنها من الرحمة التامة، والنعمة السابغة، والتعرف إلى عباده بأسمائه وصفاته.
فكم في أكل آدم من الشجرة التي نُهي عنها، وإخراجه بسببها من الجنة، مِن حكمة بالغة لا تهتدي العقول إلى تفاصيلها.
وكذلك ما قدَّره لسيد ولده من الأمور التي أوصله بها إلى أشرف غاياته، وأوصله بالطرق الخفية فيها إلى أحمد العواقب.
وكذلك فِعله بعباده وأوليائه، يوصل إليهم نعمه، ويسوقهم إلى كمالهم وسعادتهم في الطرق الخفية التي لا يهتدون إلى معرفتها إلا إذا لاحت لهم عواقبها.
وهذا أمر يضيق الجنان عن معرفة تفاصيله، ويحصر اللسان عن التعبير عنه، وأعرف خلق الله به أنبياؤه ورسله، وأعرفهم به خاتمهم وأفضلهم، وأمته في العلم به على مراتبهم ودرجاتهم ومنازلهم من العلم بالله وأسمائه وصفاته، وهو سبحانه قد أحاط علمًا بذلك كله قبل خلق السماوات والأرض، وقدّره وكتبه عنده.
ثم يأمر الملائكة بكتابة ذلك من الكتاب الأول قبل خلق العبد، فيُطابِق حاله وشأنه لما كُتِب في الكتاب، ولما كتبته الملائكة، لا يزيد شيئًا ولا ينقص مما كتبه سبحانه وأثبته عنده، كان في علمه قبل أن يكتبه، ثم كتبه كما في علمه، ثم وُجِدَ كما كتبه. قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70].
والله سبحانه قد علم قبل أن يوجد عباده أحوالهم، وما هم عاملون، وما
(1/120)
________________________________________
هم إليه صائرون، ثم أخرجهم إلى هذه الدار ليظهر معلومه الذي علمه فيهم كما علمه، وابتلاهم من الأمر والنهي والخير والشر بما أظهر معلومه، فاستحقوا المدح والذم، والثواب والعقاب بما قام بهم من الأفعال والصفات المطابِقة للعلم السابق، ولم يكونوا يستحقون ذلك، وهي في علمه قبل أن يعملوها، فأرسل رسله، وأنزل كتبه، وشرع شرائعه إعذارًا إليهم، وإقامة للحجة عليهم؛ لئلا يقولوا: كيف تعاقبنا على علمك فينا، وهو لا يدخل تحت كسبنا وقدرتنا؟ فلما ظهر علمه فيهم بأفعالهم حصل العقاب على معلومه الذي أظهره الابتلاء والاختبار.
وكما ابتلاهم بأمره ونهيه ابتلاهم بما زيَّنَه لهم من الدنيا، وبما ركَّب فيهم من الشهوات، فذلك ابتلاء بشرعه وأمره، وهذا ابتلاء بقضائه وقدره، قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7]، وقال تعالى: {الَّذِي (1) خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]، وقال: {وَهْوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7]، فأخبر في هذه الآية أنه خلق السماوات والأرض ليبتلي عباده بأمره ونهيه، وهذا من الحق الذي خلق به خلقه، وأخبر في الآية التي قبلها أنه خلق الموت والحياة ليبتليهم أيضًا، فأحياهم ليبتليهم بأمره ونهيه، وقدّر عليهم الموت الذي ينالوا (2) به عاقبة ذلك الابتلاء من الثواب والعقاب.
_________
(1) "د" "م": "هو الذي".
(2) كذا في "د" "م": "ينالوا" بحذف النون دون أداة خفض أو نصب.
(1/121)
________________________________________
وأخبر في الآية الأولى أنه زيَّن لهم ما على الأرض ليبتليهم به أيهم يؤثره على ما عنده فيكون حظه، أو يؤثر ما عنده عليه، وابتلى بعضهم ببعض، وابتلاهم بالنعم والمصائب، فأظهر هذا الابتلاء علمه السابق فيهم موجودًا عيانًا بعد أن كان غيبًا في علمه.
فابتلى أبوي الإنس والجن كل منهما بالآخر، فأظهر ابتلاء آدم ما علمه منه، وأظهر ابتلاء إبليس ما علمه منه، فلهذا قال للملائكة: {إِنِّيَ أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30].
واستمر هذا الابتلاء في الذرية إلى يوم القيامة، فابتلى الأنبياء بأممهم، وابتلى أممهم بهم، وقال لعبده ورسوله وخليله: "إني مبتليك ومبتلٍ بك" (1)، وقال: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]، وقال: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} [الفرقان: 20].
وفي الحديث الصحيح (2) أن ثلاثةً أراد الله أن يبتليهم، أبرص وأقرع وأعمى، فأظهر الابتلاء حقائقهم التي كانت في علمه قبل أن يخلقهم.
فأما الأعمى فاعترف بإنعام الله عليه، وأنه كان أعمى فقيرًا، فأعطاه الله البصر والغنى، وبَذَل للسائل ما طلبه شكرًا لله.
وأما الأقرع والأبرص فكلاهما جحد ما كان عليه قبل ذلك من سوء الحال والفقر، وقال في الغنى: إنما أوتيته كابرًا عن كابر.
وهذا حال أكثر الناس، لا يعترف بما كان عليه أولًا من نقص وجهل وفقر
_________
(1) أخرجه مسلم (2865) بمعناه من حديث عياض المجاشعي.
(2) أخرجه البخاري (3464)، ومسلم (2964) من حديث أبي هريرة.
(1/122)
________________________________________
وذنوب، وأن الله سبحانه نقله من ذلك إلى ضدّ ما كان عليه، وأنعم بذلك عليه.
ولهذا ينبه سبحانه الإنسان على مبدأ خَلْقه الضعيف من الماء المهين، ثم نَقْله في أطباق خَلْقه وأطواره من حال إلى حال، حتى جعله بشرًا سويًّا، يسمع ويبصر ويعقل وينطق ويبطش ويعلم، فنسي مبدأه وأوله، وكيف كان، ولم يعترف بنعم ربه عليه، كما قال تعالى: {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} [المعارج: 38 - 39].
وأنت إذا تأملت ارتباط إحدى هاتين الجملتين بالأخرى وجدتَ تحتهما كنزًا عظيمًا من كنوز المعرفة والعلم، فأشار سبحانه بمبدأ خلقهم {مِمَّا يَعْلَمُونَ} من النطفة وما بعدها إلى موضع الحجة والآية الدال على وجود الله ووحدانيته وكماله وتفرده بالربوبية والإلهية، وأنه لا يحسن به مع ذلك أن يتركهم سدى، لا يرسل إليهم رسولًا، ولا ينزل عليهم كتابًا، وأنه لا يعجز مع ذلك أن يخلقهم بعد ما أماتهم خلقًا جديدًا، ويبعثهم إلى دار يوفيهم فيها أعمالهم من الخير والشر، فكيف يطمعون في دخول الجنة وهم يكذِّبوني، ويُكذِّبون رسلي، ويعدلون بي خلقي، وهم يعلمون من أي شيء خلقتهم!
ويشبه هذا قوله: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ} [الواقعة: 57]، وهم كانوا مصدقين بأنه خالقهم، ولكن احتج عليهم بخلقه لهم على توحيده ومعرفته وصدق رسله، فدعاهم منهم ومن خلقهم إلى الإقرار بأسمائه وصفاته وتوحيده وصدق رسله (1) والإيمان بالمعاد.
_________
(1) من قوله: "فدعاهم" إلى هنا ساقط من "م"، انتقال نظر، وجملة: "منهم ومن خلقهم" لم يظهر لي وجهها في السياق، فلعلها تحرّفت عن: "هم ومَن خلفهم".
(1/123)
________________________________________
وهو سبحانه يذكّر عباده بنعمه عليهم، ويدعوهم بها إلى معرفته ومحبته وتصديق رسله والإيمان بلقائه، كما تضمنته سورة النعم ــ وهي سورة النحل ــ من قوله: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} إلى قوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسلمون} [النحل: 4 - 81]، فذكّرهم بأصول النعم وفروعها، وعدَّدها عليهم نعمة نعمة، وأخبر أنه أنعم بذلك عليهم؛ ليسلموا له، فتكمل نعمه عليهم بالإسلام الذي هو رأس النعم، ثم أخبر عمن كفره ولم يشكر نعمه بقوله: {(82) نِعْمَتَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ} [النحل: 83] قال مجاهد: "المساكن والأنعام وسرابيل الثياب والحديد، يعرفه كفار قريش ثم ينكرونه، بأن يقولوا: هذا كان لآبائنا ورثناه عنهم" (1).
وقال عون بن عبد الله: "يقولون: لولا فلان لكان كذا" (2).
وقال الفراء وابن قتيبة: "يعرفون أن النعم من الله، ولكن يقولون: هذه بشفاعة آلهتنا" (3).
وقالت طائفة: النعمة ههنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإنكارها جحد نبوته، وهذا يُروى عن مجاهد والسدّي (4).
_________
(1) التفسير المنسوب إلى مجاهد (424)، وأسنده الطبري (14/ 326).
(2) أسنده الطبري (14/ 326).
(3) "معاني القرآن" للفراء (2/ 112)، "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة (248).
(4) أسنده الخلال في "السنة" (212)، والطبري (14/ 325) عن السدي، ولم أقف على نسبته إلى مجاهد.
(1/124)
________________________________________
وهذا أقرب إلى حقيقة الإنكار؛ فإنه إنكار لما هو من أجلِّ النعم أن تكون نعمة.
وأما على القول الأول والثاني والثالث فإنهم لما أضافوا النعمة إلى غير الله فقد أنكروا نعمة الله بنسبتها إلى غيره، فإن الذي قال: "إنما كان هذا لآبائنا، ورثناه كابرًا عن كابر"؛ جاحد لنعمة الله عليه، غير معترف بها، وهو كالأبرص والأقرع اللذيْن ذكَّرَهُما المَلَكُ بنعم الله عليهما فأنكرا، وقالا: "إنما ورثنا هذا كابرًا عن كابر". فقال: "إن كنتما كاذبَيْن فصيّركما الله إلى ما كنتما"، وكونها موروثة عن الآباء أبلغ في إنعام الله عليهم؛ إذ أنعم بها على آبائهم، ثم ورثهم إياها، فتمتعوا هم وآباؤهم بنعمه.
وأما قول الآخر: "لولا فلان لما كان كذا"، فيتضمن قطع إضافة النعمة إلى مَنْ لولاه لم تكن، وإضافتها إلى مَن لا يملك لنفسه ولا لغيره ضرًا ولا نفعاً، وغايته أن يكون جزءًا من أجزاء السبب (1)، أجرى الله نعمته على يديه، والسبب (2) لا يستقل بالإيجاد، وجَعْله سببًا هو من نعم الله، فهو المنعم بتلك النعمة، وهو المنعم بما جعله من أسبابها، فالسبب والمسبّب من إنعامه، وهو سبحانه قد ينعم بذلك السبب، وقد ينعم بدونه، فلا يكون له أثر، وقد يسلبه سَبَبيتَه، وقد يجعل لها معارضًا يقاومها، وقد يرتب على السبب (3) ضدَّ مقتضاه، فهو وحده المنعم على الحقيقة.
وأما قول القائل: "بشفاعة آلهتنا" فيتضمن الشرك، مع إضافة النعمة إلى
_________
(1) "م": "المسبب"، والمثبت من "د" متسق مع السياق، وسيأتي من كلام المؤلف بيانه.
(2) "م": "المسبب".
(3) "م": "المسبب".
(1/125)
________________________________________
غير وليّها، فالآلهة التي تُعبد من دون الله أحقر وأذل من أن تشفع عند الله، وهي مُحْضَرة في العذاب والهوان مع عابديها، وأقرب الخلق إلى الله وأحبهم إليه لا يشفع عنده إلا من بعد إذنه لمن ارتضاه، فالشفاعة بإذنه من نعمه، فهو المنعم بالشفاعة، وهو المنعم بقبولها، وهو المنعم بتأهيل المشفوع له، إذ ليس كل أحد أهلًا أن يُشْفَع له، فمَن المنعم على الحقيقة سواه؟
قال تعالى: {بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ} [النحل: 53]، فالعبد لا خروج له عن نعمته وفضله ومنّته وإحسانه طرفة عين، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
ولهذا ذَمَّ الله سبحانه مَن آتاه شيئًا من نعمه فقال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِيَ} [القصص:78]، وفي الآية الأخرى: {فَإِذَا (1) مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} [الزمر: 49].
قال البغوي: "على علم من الله أني له أهل" (2).
وقال مقاتل: "على خير علمه الله عندي" (3).
وقال آخرون: على علم من الله أني له أهل. ومضمون هذا القول أن الله آتانِيه على علمه بأني أهله.
وقال آخرون: بل العلم له نفسه. ومعناه: أوتيته على علم مني بوجوه المكاسب. قاله قتادة وغيره (4).
_________
(1) "د" "م": "وإذا".
(2) "معالم التنزيل" (7/ 124).
(3) "تفسير مقاتل" (3/ 356)، والمؤلف صادر في هذا الموضع عن البغوي.
(4) انظر: "المحرر الوجيز" (12/ 549).
(1/126)
________________________________________
وقيل: المعنى: قد علمتُ أني لمّا أوتيتُ هذا في الدنيا فلي عند الله منزلة وشرف، وهذا معنى قول مجاهد: "أوتيته على شرف" (1).
قال تعالى: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} [الزمر: 49]، أي: النعم التي أوتيها فتنة نختبره فيها، ومحنة نمتحنه بها، لا يدل ذلك على اصطفائه واجتبائه، وأنه محبوب لنا، مقرب عندنا.
ولهذا قال في قصة قارون: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا} [القصص: 78]، فلو كان إعطاء المال والقوة والجاه يدل على رضا الله سبحانه عمن آتاه ذلك، وشرف قدره وعلو منزلته عنده؛ لما أهلك من آتاه من ذلك أكثر مما آتى قارون. فلما أهلكهم مع سعة هذا العطاء وبسطه عُلِم أن عطاءه إنما كان ابتلاء وفتنة ومحنة، لا محبة ورضا واصطفاء لهم على غيرهم.
ولهذا قال في الآية الأخرى: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ}، أي: النعم فتنة لا كرامة، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}.
ثم أكد هذا المعنى بقوله: {قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} [الزمر: 50 - 51]، أي: قد قال هذه المقالة الذين مِن قبلهم لما آتيناهم نعمنا.
قال ابن عباس: "كانوا قد بطروا نعمة الله، إذ آتاهم الدنيا وفرحوا بها وطغوا، وقالوا: هذه كرامة من الله لنا" (2).
_________
(1) "تفسير مجاهد" (580).
(2) لم أقف عليه.
(1/127)
________________________________________
وقوله: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} المعنى: أنهم ظنوا أن ما آتيناهم لكرامتهم علينا، ولم يكن كذلك؛ لأنهم وقعوا في العذاب، ولم يُغْنِ عنهم ما كسبوا شيئًا، وتبيّن أن تلك النعم لم تكن لكرامتهم علينا، وهوان مَن منعناه إياها (1).
وقال أبو إسحاق: معنى الآية أن قولهم: "إنما آتانا الله ذلك لكرامتنا عليه، وإنا أهله"؛ أحبط أعمالهم (2)، فكنَّى عن إحباط العمل بقوله: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}، ثم أبطل سبحانه هذا الظن الكاذب منهم بقوله: {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الزمر: 52].
والمقصود أن قوله: {عَلَى عِلْمٍ عِندِيَ} [القصص: 78] إن أريد به علمه نفسه، كان المعنى: أوتيته على ما عندي من العلم والخبرة والمعرفة التي توصلتُ بها إلى ذلك وحصلتُه بها. وإن أريد به علم الله؛ كان المعنى: أوتيتُه على ما علم الله عندي من الخير والاستحقاق وأني أهله، وذلك من كرامتي عليه. وقد يترجح هذا القول بقوله: "أوتيته"، ولم يقل: حَصّلته واكتسبته بعلمي ومعرفتي، فدلّ على اعترافه بأن غيره آتاه إيّاه.
ويدل عليه قوله سبحانه: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} أي: محنة واختبار، والمعنى: أنه لم يؤت (3) هذا لكرامته علينا، بل أوتيه امتحانًا وابتلاءً واختبارًا: هل يشكر فيه أم يكفر؟
_________
(1) انظر: "الوسيط" للواحدي (3/ 586).
(2) انظر: "معاني القرآن" (4/ 357).
(3) "د": "لم يوجب".
(1/128)
________________________________________
وأيضًا فهذا يوافق قوله: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّيَ أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّيَ أَهَانَنِ} [الفجر: 15 - 16]، فهو قد اعترف بأن ربه هو الذي آتاه ذلك، ولكن ظنَّ أنه (1) لكرامته عليه.
فالآية على التقدير الأول تتضمن ذم من أضاف النعم إلى نفسه وعلمه وقوته، ولم يضفها إلى فضل الله وإحسانه، وذلك محض الكفر بها؛ فإن رأس الشكر الاعتراف بالنعمة، وأنها من المنعم وحده، فإذا أضيفت إلى غيره كان جحدًا لها، فإذا قال: أوتيته على ما عندي من العلم والخبرة التي حصلت بها ذلك؛ فقد أضافها إلى نفسه، وأُعْجِب بها، كما أضافها إلى قدرته الذين قالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15]، فهؤلاء اغتروا بقوتهم، وهذا اغتر بعلمه، فما أغنى عن هؤلاء قوتهم، ولا عن هذا علمه.
وعلى التقدير الثاني: يتضمن ذمّ من اعتقد أن إنعام الله عليه لكونه أهلًا ومستحقًا لها، فقد جعل سبب النعمة ما قام به من الصفات التي يستحق بها على الله أن ينعم عليه، وأن تلك النعمة جزاء له على إحسانه وخيره، فقد جعل سببها ما اتصف به هو، لا ما قام بربِّه من الجود والإحسان والفضل والمنة، ولم يعلم أن ذلك ابتلاء واختبار له: أيشكر أم يكفر، ليس ذلك جزاء له على ما منه، ولو كان ذلك جزاء على عمل عمله، أو خير قام به، فالله سبحانه هو المنعم عليه بذلك السبب، فهو المنعم بالسبب والجزاء، والكل محض منّته وفضله وجوده، وليس للعبد من نفسه مثقال ذرة من الخير.
_________
(1) "د": "ربه هو الذي أراد ذلك، ولكن ضن به".
(1/129)
________________________________________
وعلى التقديرين فهو لم يضف النعمة إلى الربّ من كل وجه، وإن أضافها إليه من وجه دون وجه، وهو سبحانه وحده المنعم من جميع الوجوه على الحقيقة بالنعم وأسبابها، فأسبابها مِن نعمه على العبد وإن حصلت بكسبه، فكسبه من نعمه، فكل نعمة فمن الله وحده، حتى الشكر فإنه نعمة وهي منه سبحانه، فلا يطيق أحد أن يشكره إلا بنعمته، وشكره نعمة منه عليه، كما قال داود عليه الصلاة والسلام: "يا ربِّ، كيف أشكرك وشكري لك نعمة من نعمك عليّ تستوجب شكرًا آخر؟ فقال: الآن شكرتني يا داود" ذكره الإمام أحمد (1).
وذكر أيضًا عن الحسن قال: قال داود: "إلهي، لو أن لكل شعرة من شعري لسانين يذكرانك بالليل والنهار، والدهر كله؛ لما أدّوا ما لك عليَّ من حق نعمة واحدة" (2).
والمقصود أن حال الشاكر ضد حال القائل: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِيَ} [القصص: 78].
ونظير ذلك قوله تعالى: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} [فصلت: 49 - 50]، قال ابن عباس: "يريد من عندي" (3).
_________
(1) بنحوه في "الزهد" (375)، وأخرجه ابن أبي حاتم بقريب منه كما في "تفسير ابن كثير" (6/ 501).
(2) بنحوه في "الزهد" (361)، وأخرجه ابن أبي شيبة (32551).
(3) نسبه إليه الواحدي في "البسيط" (19/ 475).
(1/130)
________________________________________
وقال مقاتل: "يعني أنا أحق بهذا" (1).
وقال مجاهد: "هذا بعملي، وأنا محقوق به" (2).
وقال الزجاج: "هذا واجب، بعملي استحققتُه" (3).
فوصَفَ الإنسان بأقبح صفتين: إن مسّه الشرُّ صار إلى حال القانط، ووجم وجوم الآيس، فإذا مسّه الخيرُ نسي أن الله هو المنعم عليه المتفضل بما أعطاه، فبطر وظنَّ أنه هو المستحق لذلك، ثم أضاف إلى ذلك تكذيبه بالبعث فقال: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً}، ثم أضاف إلى ذلك ظنَّه الكاذب: أنه إن بُعِثَ كان له عند الله الحُسنى، فلم يدع هذا للجهل والغرور موضعًا.
فصل
وفي قوله تعالى: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23] قول آخر أنه على علم عند الضّال، كما قيل: على علم منه أن معبوده لا ينفع ولا يضر، فيكون المعنى: أضله الله مع علمه الذي تقوم به عليه الحجة، لم يضلّه على جهل وعدم علم.
وهذا يشبه قوله: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]، وقوله: {فَصَدَّهُمْ (4) عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت: 38]، وقوله:
_________
(1) "تفسير مقاتل" (3/ 748).
(2) التفسير المنسوب إلى مجاهد (587)، وأسنده الطبري (20/ 458).
(3) "معاني القرآن وإعرابه" (4/ 391).
(4) "د" "م": "وصدهم".
(1/131)
________________________________________
{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14]، وقوله: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} [الإسراء: 59]، وقول موسى لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء: 102]، وقوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146]، وقوله: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]، وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115]، ونظائره كثيرة.
وعلى هذا التقدير فهو ضال عن سلوك طريق رشده، وهو يراها عيانًا كما في الحديث: "أشد الناس عذابًا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه" (1)، فإن الضّال عن الطريق قد يكون متبعًا لهواه، عالمٌ (2) بأن الرشد والهدى في خلاف ما يعمل.
ولما كان الهدى هو معرفة الحق والعمل به، كان له ضدَّان: الجهل بالحق، وترك العمل به، فالأول ضلال في العلم، والثاني ضلال في القصد والعمل.
فقد وقع قوله: {عَلَى عِلْمٍ} في قوله تعالى: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ} [الدخان: 32]، وفي قوله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23]، وفي قوله: {قَالَ إِنَّمَا
_________
(1) أخرجه الدينوري في "المجالسة" (90)، والطبراني في "الصغير" (507)، وابن عدي في "الكامل" (8/ 26) من حديث أبي هريرة، وفي إسناده عثمان البري؛ متهم شديد الضعف، انظر: "الميزان" (3/ 56).
(2) كذا في "د" "م" بالرفع على الاستئناف.
(1/132)
________________________________________
أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} [القصص: 78]، فالأول يرجع العلم فيه إلى الله سبحانه قولًا واحدًا، والثاني والثالث فيهما قولان، والراجح في قوله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} أن يكون كالأول، وهو قول عامة السلف، والثالث فيه قولان محتملان، وقد ذُكِر توجيهُهما، والله أعلم.
والمقصود ذكر مراتب القضاء والقدر علمًا، وكتابةً، ومشيئةً، وخلقًا.
* * * *
(1/133)
________________________________________
الباب الحادي عشر في ذكر المرتبة الثانية، وهي مرتبة الكتابة
وقد تقدم في أول الكتاب ما دَلَّ على ذلك من نصوص القرآن والسنة الصحيحة الصريحة، فنذكر هنا بعض ما لم نذكره.
قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء: 105 - 106]، فالزبور هنا جميع الكتب المنزلة من السماء، لا تختص بزبور داود، والذكر أم الكتاب الذي عند الله، والأرض هي الدنيا، وعباده الصالحون أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، هذا أصح الأقوال في هذه الآية.
وهي عَلَمٌ من أعلام نبوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه أخبر بذلك بمكة وأهل الأرض كلهم كفار أعداء له ولأصحابه، والمشركون قد أخرجوهم من ديارهم ومساكنهم وشتتوهم في أطراف الأرض، فأخبرهم ربهم تبارك وتعالى أنه كتب في الذكر الأول أنهم يرثون الأرض من الكفار، ثم كتب ذلك في الكتب التي أنزلها على رسله.
والكتاب الأول قد أُطْلِق عليه الذكرُ في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق على صحته: "كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء" (1)، فهذا هو الذكر الذي كُتِب فيه أن الدنيا تصير لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
_________
(1) أخرجه البخاري وحده (3191) من حديث عمران بن حصين.
(1/134)
________________________________________
والكتبُ المنزّلة قد أُطْلِق عليها الزُّبُر في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا يُوحَى إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} [النحل: 43 - 44]، أي: أرسلناهم بالآيات الواضحات، والكتب التي فيها الهدى والنور، والذكر ههنا: الكتابان اللذان أنزلا قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهما التوراة والإنجيل.
والذكر في قوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] هو القرآن، ففي هذه الآية علمه بما كان قبل كونه، وكتابته له بعد علمه.
وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12]، فجمع بين الكتابين: الكتاب السابق لأعمالهم قبل وجودهم، والكتاب المقارِن لأعمالهم.
فأخبر سبحانه أنه يحييهم بعد ما أماتهم للبعث، ويجازيهم بأعمالهم، ونبّه بكتابته لها على ذلك.
قال مقاتل: " {نكتب مَا قَدَّمُوا} من خير أو شر فعلوه في حياتهم، {وَآثَارَهُمْ} ما سَنُّوا من سُنّة خير أو شر فاقتُدِي بهم فيها بعد موتهم" (1).
وقال ابن عباس في رواية عطاء: " {وَآثَارَهُمْ} ما أثروا من خير أو شر" (2). كقوله: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة: 13].
فإن قلت: فقد استفيد هذا من قوله: {مَا قَدَّمُوا}، فما أفاد قوله: {وَآثَارَهُمْ} على قوله؟
_________
(1) "تفسير مقاتل" (3/ 574).
(2) نسبه إليه الواحدي في "البسيط" (18/ 460).
(1/135)
________________________________________
قلت: أفاد فائدة جليلة، وهو أنه سبحانه يكتب ما عملوه، وما تولد من أعمالهم، فيكون المتولد عنها كأنهم عملوه في الخير والشر، وهو أثر أعمالهم (1)، فآثارهم هي آثار أعمالهم المتولدة عنها، وهذا القول أعم من قول مقاتل، وكأن مقاتلًا أراد التمثيل والبيان على عادة السلف في تفسير اللفظة العامة بنوع أو فرد من أفراد مدلولها تقريبًا وتمثيلًا، لا حصرًا وإحاطة.
وقال أنس وابن عباس في رواية عكرمة: نزلت هذه الآية في بني سَلِمة، أرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد، وكانت منازلهم بعيدة، فلما نزلت قالوا: بل نمكث مكاننا (2).
واحتج أرباب هذا القول بما في "صحيح البخاري" (3) من حديث أبي سعيد الخدري قال: كانت بنو سَلِمة في ناحية المدينة، فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد، فنزلت هذه الآية: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا بني سَلِمة، ديارَكم تُكتب آثارُكم".
_________
(1) من قوله: "فيكون المتولد" إلى هنا ساقط من "د" انتقال نظر.
(2) رواية عكرمة عن ابن عباس أخرجها ابن ماجه (785)، وابن جرير (19/ 410) بإسناد جيد، ولم أقف على قول أنس مسندًا، والفقرة بحروفها في "البسيط" (18/ 460).
وأخرجه عن أنس دون التصريح بسبب النزول البخاري (656).
(3) كذا عزاه إلى "الصحيح" من حديث أبي سعيد سهوًا، وهو فيه من حديث أنس ــ وسيأتي ــ، وحديث أبي سعيد أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (1982)، والترمذي (3226) وقال: " هذا حديث حسن غريب من حديث الثوري"، وفي إسناده طريف السعدي ضعيف، وقد أخطأ فيه، انظر: "فتح الباري" لابن رجب (6/ 29).
(1/136)
________________________________________
وقد روى مسلم نحوه من حديث جابر وأنس (1).
وفي هذا القول نظر؛ فإن سورة "يس" مكية، وقصة بني سَلِمة بالمدينة، إلا أن يقال: هذه الآية وحدها مدنية.
وأحسن من هذا أن تكون ذُكِرت عند هذه القصة ودلَّت عليها، وذُكِّروا بها عندها، إما من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من جبريل عليه السلام، فأطلق على ذلك: النزول، ولعل هذا مراد من قال في نظائر ذلك: نزلت مرتين.
والمقصود: أن خُطاهم إلى المساجد من آثارهم التي يكتبها الله لهم.
قال عمر بن عبد العزيز: "لو كان الله سبحانه تاركًا لابن آدم شيئًا لترك له ما عفت عليه الرياح من أثره" (2).
وقال مسروق: "ما خطا رجل خطوة إلا كُتِبت حسنة أو سيئة".
والمقصود أن قوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} وهو اللوح المحفوظ، وهو أم الكتاب، وهو الذكر الذي كتب فيه كل شيء، يتضمن كتابة أعمال العباد قبل أن يعملوها، والإحصاء في الكتاب يتضمن علمه بها، وحفظه لها، والإحاطة بقدرها (3)، وإثباتها فيه.
وقال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا
_________
(1) أخرجه مسلم (665) من حديث جابر، وحديث أنس انفرد به البخاري (656) وليس فيه التصريح بسبب النزول.
(2) أخرجه وتاليه عبد الرزاق في "التفسير" (3/ 140).
(3) "م": "بعددها".
(1/137)
________________________________________
فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38]، وقد اختُلِف في الكتاب ههنا: هل هو القرآن أو اللوح المحفوظ؟ على قولين:
فقالت طائفة: المراد به القرآن، قالوا: وهذا من العام المراد به الخاص، أي: ما فرطنا فيه من شيء يحتاجون إلى ذكره وبيانه، كقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89].
ويجوز أن يكون من العام المراد عمومه، والمراد أن كل شيء ذُكِر فيه مجملًا ومفصّلًا، كما قال ابن مسعود ــ وقد لعن الواصلة والمستوصلة ــ: ما لي لا ألعن من لعنه الله في كتابه؟! فقالت امرأة: لقد قرأت القرآن فما وجدته. فقال: إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] ولعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الواصلة والمستوصلة (1).
وقال الشافعي: "ما تنزل بأحد من المسلمين نازلة إلا وفي كتاب الله سبيل الدلالة عليها" (2).
وقال طائفة: المراد بالكتاب في الآية اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه كل شيء. وهذا إحدى الروايتين عن ابن عباس (3).
_________
(1) أخرجه أحمد (3945)، والبخاري (4886)، ومسلم (2125).
وهذه الفقرة وسابقتها مقتبسة من "البسيط" (8/ 118) وسياقه أوضح.
(2) "الرسالة" (20) بتصرف.
(3) أخرجه الطبري (11/ 345)، وابن أبي حاتم في "التفسير" (7259).
(1/138)
________________________________________
وكأن هذا القول أظهر في الآية، والسياق يدل عليه، فإنه قال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ}، وهذا يتضمن أنها أمم أمثالنا في الخلق والرزق والأجل والتقدير الأول، وأنها لم تُخلق سدى، بل هي معبّدة مذلّلة، قد قَدّر خلقها وأجلها ورزقها وما تصير إليه، ثم ذَكَر عاقبتها ومصيرها بعد فنائها، فقال: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} فذكر مبدأها ونهايتها، وأدخل بين هاتين الحالتين قوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}، أي: كلها قد كُتِبت وقُدِّرت وأُحْصِيت قبل أن توجد، فلا يناسب هذا ذكر كتاب الأمر والنهي، وإنما يناسب ذكر الكتاب الأول.
ولمن نصر القول الأول أن يجيب عن هذا بأن في ذكر القرآن ههنا الإخبار عن تضمنه لذكر ذلك والإخبار به، فلم نفرط فيه من شيء، بل أخبرناكم بكل ما كان، وما هو كائن إجمالًا وتفصيلًا.
ويرجحه أمر آخر، وهو أن هذا ذُكِر عقيب قوله: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 37]، فنبههم على أعظم الآيات وأدلها على صدق رسوله، وهو الكتاب الذي يتضمن تبيان كل شيء، ولم يفرط فيه من شيء، ثم نبههم بأنهم أمة من جملة الأمم التي في السماوات والأرض، وهذا يتضمن التعريف بوجود الخالق سبحانه، وكمال قدرته وعلمه، وسعة ملكه، وكثرة جنوده، والأمم التي لا يحصيها غيره، وهذا يتضمن أنه لا إله غيره، ولا ربَّ سواه، وأنه ربُّ العالمين، فهذا دليل على وحدانيته وصفات كماله من جهة خلقه وقدره. وإنزال الكتاب الذي لم يفرط فيه من شيء دليل من جهة أمره وكلامه، فهذا
(1/139)
________________________________________
استدلال بأمره وذاك بخلقه، {لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54].
ويشهد لهذا أيضًا قوله: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 50 - 51].
ولمن نصر أن المراد بالكتاب اللوح المحفوظ أن يقول: لما سألوا الآية أخبرهم سبحانه بأنه لم يترك إنزالها لعدم قدرته على ذلك، فإنه قادر على ذلك، وإنما لم ينزلها لحكمته ورحمته بهم، وإحسانه إليهم؛ إذ لو أنزلها على وفق اقتراحهم لعُوجلوا بالعقوبة إن لم يؤمنوا.
ثم ذكر ما يدل على كمال قدرته بخلق الأمم العظيمة التي لا يحصي عددها إلا هو، فمن قدر على خلق هذه الأمم مع اختلاف أجناسها وأنواعها وصفاتها وهيئاتها؛ كيف يعجز عن إنزال آية؟
ثم أخبر عن كمال قدرته وعلمه بأن هؤلاء الأمم قد أحصاهم، وكَتَبَهم، وقدَّر أرزاقهم وآجالهم وأحوالهم في كتاب لم يفرط فيه من شيء، ثم يميتهم، ثم يحشرهم إليه.
{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا (1) صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام: 39]، عن النظر والاعتبار الذي يؤديهم إلى معرفة ربوبيته ووحدانيته وصدق رسله.
ثم أخبر أن الآيات لا تستقل بالهدى؛ ولو أنزلها على وفق اقتراح البشر،
_________
(1) "د" "م": "بآياته".
(1/140)
________________________________________
بل الأمر كله له، {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، فهذا أظهر القولين، والله أعلم.
وقال تعالى: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 1 - 4]، قال ابن عباس: "في اللوح المحفوظ الذي عندنا" (1).
قال مقاتل: "يقول: إن نسخته في أصل الكتاب، وهو اللوح المحفوظ" (2).
وأمّ الكتاب: أصل الكتاب، وأمّ كل شيء: أصله.
والقرآن كتبه الله في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض، كما قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 21 - 22].
وأجمع الصحابة والتابعون وجميع أهل السنة والحديث أن كل كائن إلى يوم القيامة فهو مكتوب في أم الكتاب.
وقد دلّ القرآن على أن الربّ تبارك وتعالى كتب في أم الكتاب ما يفعله وما يقوله، فكتب في اللوح فِعاله وكلامه، فـ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} في اللوح المحفوظ قبل وجود أبي لهب.
وقوله: {لَدَيْنَا} يجوز فيه أن تكون من صلة {أُمِّ الْكِتَابِ}، أي: أنه
_________
(1) أخرجه بنحوه ابن جرير (20/ 547)، وانظر: "الوسيط" للواحدي (4/ 63).
(2) "تفسير مقاتل" (3/ 789).
(1/141)
________________________________________
في أم الكتاب الذي عندنا، وهذا اختيار ابن عباس (1).
ويجوز أن يكون من صلة الخبر: أنه عليٌّ حكيم عندنا، ليس هو كما عند المكذبين به، أي: وإن كذبتم به وكفرتم فهو عندنا في غاية الارتفاع والشرف والإحكام.
وقال تعالى: {خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ} [الأعراف: 37]، قال سعيد بن جبير ومجاهد وعطية: أي ما سبق لهم في الكتاب من الشقاوة والسعادة، ثم قرأ عطية: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمِ الضَّلَالَةُ} [هود: 30] (2).
والمعنى أن هؤلاء أدركهم ما كُتِب لهم من الشقاوة، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء، قال: "يريد ما سبق عليهم في علمي في اللوح المحفوظ" (3).
فالكتاب على هذا القول الكتاب الأول، ونصيبهم ما كُتِب لهم فيه من الشقاوة وأسبابها.
وقال ابن زيد والقرظي والربيع بن أنس: ينالهم ما كُتِب لهم من الأرزاق والأعمال والأعمار، فإذا فني نصيبهم واستكملوه جاءتهم رسلنا يتوفونهم (4).
_________
(1) تقدم تخريجه قريبًا.
(2) أسندها الطبري (10/ 169 - 170)، وانظر: "البسيط" (9/ 115).
(3) نسبها إليه في "البسيط" (9/ 115).
(4) أسندها الطبري (10/ 174 - 175)، وانظر: "البسيط" (9/ 116).
(1/142)
________________________________________
ورجَّح بعضُهم هذا القول؛ لمكان "حتى" التي هي للغاية، يعني: أنهم يستوفون أرزاقهم وأعمارهم إلى الموت.
ولمن نصر القول الأول أن يقول: "حتى" في هذا الموضع هي التي تدخل على الجُمل، وينصرف الكلام فيها إلى الابتداء كـ "أما"، كقوله:
فيا عجبًا حتى كليبٌ تسبّني (1)
والصحيح أن نصيبهم من الكتاب يتناول الأمرين، فهو نصيبهم من الشقاوة، ونصيبهم من الأعمال التي هي أسبابها، ونصيبهم من الأعمار التي هي مدة اكتسابها، ونصيبهم من الأرزاق التي استعانوا بها على ذلك، فعمَّت الآية هذا النصيب كلّه، وذكر هؤلاء بعضه، وهؤلاء بعضه.
هذا على القول الصحيح، وأن المراد بالكتاب ما سبق لهم في أم الكتاب.
وقالت طائفة: المراد بالكتاب القرآن.
قال الزجاج: "معنى {أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ}: ما أخبر الله عز وجل من جزائهم، نحو قوله: {(13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا} [الليل: 14]، وقوله: {نَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} [الجن: 17]، ونظائره" (2).
قال أرباب هذا القول: وهذا هو الظاهر؛ لأنه ذَكَر عذابهم في القرآن في مواضع، ثم أخبر أنه ينالهم نصيبُهم منه.
_________
(1) صدر بيت للفرزدق، انظر: "الديوان" بشرح الفاعور (361).
(2) "معاني القرآن وإعرابه" (2/ 334).
(1/143)
________________________________________
والصحيح القول الأول، وهو نصيبهم الذي كُتِبَ لهم أن ينالوه قبل أن يُخلقوا، ولهذا القول وجه حسن، وهو أن نصيب المؤمنين منه الرحمة والسعادة، ونصيب هؤلاء منه العذاب والشقاء، فنصيب كل فريق منه ما اختاروه لأنفسهم، وآثروه على غيره. كما أن حظَّ المؤمنين منه كان الهُدى والرحمة، فحظ هؤلاء منه الضلال والخيبة، فكان حظهم من هذه النعمة أن صارت نقمة وحسرة عليهم.
وقريب من هذا قوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82]، أي: تجعلون حظكم من هذا الرزق الذي به حياتكم التكذيبَ به.
قال الحسن: "تجعلون حظّكم ونصيبكم من القرآن أنكم تكذبون"، قال: "وخسر عبد لا يكون حظه من كتاب الله إلا التكذيب به" (1).
وقال تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} [القمر: 52]، قال عطاء ومقاتل: "كل شيء فعلوه مكتوب عليهم في اللوح المحفوظ" (2).
وروى حماد بن زيد، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} قال: "كُتِب عليهم قبل أن يعملوه" (3).
وقالت طائفة: المعنى أنه مُحصى عليهم في كتب أعمالهم.
وجمع أبو إسحاق بين القولين، فقال: "مكتوب عليهم قبل أن يفعلوه،
_________
(1) عزاهما إليه في "البسيط" (21/ 256)، وأسند الثاني منهما عبد الرزاق في "التفسير" (3/ 273)، وابن جرير (22/ 372).
(2) عزاه إلى عطاء في "البسيط" (21/ 127)، وانظر: "تفسير مقاتل" (4/ 185).
(3) أورده بهذا السياق ابن عبد البر في "التمهيد" (3/ 139).
(1/144)
________________________________________
ومكتوب لهم وعليهم إذا فعلوه للجزاء" (1)، وهذا أصح. وبالله التوفيق.
وفي "الصحيحين" (2) من حديث ابن عباس قال: ما رأيت شيئًا أشبه باللّمَم مما قال أبو هريرة: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله كتب على ابن آدم حظّه من الزنا، أدرَك ذلك لا محالة: فزنا العينين النَّظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تمنَّى وتشتهي، والفَرْجُ يصدِّق ذلك أو يكذبه".
وفي "الصحيحين" (3) أيضًا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كُتِبَ على ابن آدم نصيبُه من الزنا، مدركٌ ذلك لا محالة: فالعينان زناهما النَّظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخُطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدّق الفرج ذلك كله ويكذِّبه".
وفي "صحيح البخاري" (4) وغيره عن عمران بن حصين قال: دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعقلت ناقتي بالباب، فأتاه ناس من بني تميم فقال: "اقبلوا البشرى يا بني تميم"، قالوا: قد بشرتنا فأعطنا ـ مرتين ـ. ثم دخل عليه ناس من اليمن، فقال: "اقبلوا البشرى يا أهل اليمن، إذ (5) لم يقبلها بنو تميم". قالوا: قد قبِلنا يا رسول الله. قالوا: جئنا لنسألك عن هذا الأمر؟ قال: "كان الله
_________
(1) "معاني القرآن وإعرابه" (5/ 92).
(2) "البخاري" (6243)، و"مسلم" (2657) واللفظ له.
(3) "مسلم" (2657)، وعلق إسناده البخاري دون متن عقب الحديث (6612)، وانظر: "تغليق التعليق" (5/ 191).
(4) تقدم تخريجه في (134).
(5) بداية نسخة "ج".
(1/145)
________________________________________
ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض". فنادى منادٍ: ذهبت ناقتك يا ابن الحصين، فانطلقت، فإذا هي ينقطع دونها السراب، فو الله لوددت أني كنت تركتها.
فالربّ سبحانه وتعالى كتب ما يقوله وما يفعله، وما يكون بقوله وفعله، وكتب مقتضى أسمائه وصفاته وآثارها، كما في "الصحيحين" (1) من حديث أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لما قضى الله الخلق كتب في كتابه، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي".
* * * *
_________
(1) "البخاري" (3194)، و"مسلم" (2751).
(1/146)
________________________________________
الباب الثاني عشر في ذكر المرتبة الثالثة من مراتب القضاء والقدر، وهي مرتبة المشيئة
وهذه المرتبة قد دلَّ عليها إجماعُ الرسل من أولهم إلى آخرهم، وجميعُ الكتب المنزلة من عند الله، والفطرةُ التي فَطَر عليها خلقه، وأدلةُ العقول (1) والعيان.
وليس في الوجود موجِب ومقتضٍ على الحقيقة إلا مشيئة الله وحده، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، هذا عمودُ التوحيد الذي لا يقوم إلا به، والمسلمون من أولهم إلى آخرهم مجمعون على أنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
وخالفهم في ذلك من ليس منهم في هذا الموضع، وإن كان منهم في موضع آخر، فجوزوا أن يكون في الوجود ما لا يشاء الله، وأن يشاء ما لا يكون.
وخالفَ الرسلَ كلَّهم وأتباعَهم مَن نفى مشيئة الله بالكلية، ولم يثبت له سبحانه مشيئة واختيارًا أوجد بها الخلق، كما يقوله طوائف من أعداء الرسل من الفلاسفة وأتباعهم.
والقرآن والسنّةُ مملوءان بتكذيب الطائفتين، كقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ
_________
(1) "م": "المعقول".
(1/147)
________________________________________
اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253]، وقال تعالى: {كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران: 40]، وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112]، وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99]، وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود: 118]، وقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام: 35]، وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13]، وقال: {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ} [محمد: 4]، وقال: {قَلِيلًا (85) وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي} [الإسراء: 86]، وقال: {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى: 24]، وقال: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا} [النساء: 133]، وقال: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27].
وقال عن نوح إنه قال لقومه: {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ} [هود: 33]، وقال إمام الحنفاء وأبو الأنبياء لقومه: {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الأنعام: 80]، وقال الذبيح له: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102]، وقال خطيب الأنبياء شعيب: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} [الأعراف: 89]، وقال الصديق الكريم ابن الكريم ابن الكريم: {اَدْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف: 99]، وقال حمو موسى: {وَمَا
(1/148)
________________________________________
أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص: 27]، وقال كليم الرحمن للخضر: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} [الكهف: 69]، وقال قوم موسى له: {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة: 70]، وقال لسيد ولد آدم وأكرمهم عليه صلوات الله وسلامه عليه: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 - 24]، وقال: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [يونس: 49]، وقال: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى: 6 - 7]، وقال عن أهل الجنة: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 108] وعن أهل النار كذلك؛ ليبين أن الأمر راجع إلى مشيئته، ولو شاء لكان غير ذلك.
وقال: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} [الإسراء: 54]، وقال: {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 129]، وقال: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الإسراء: 30]، وقال: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنزِلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 27]، وقال: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39]، وقال: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ [لِيُبَيِّنَ لَهُمْ] (1)
فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهْوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم: 4]، وقال: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]، وقال: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا}
_________
(1) قوله تعالى: {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} ساقط من "د" "م"، وألحقها في حاشية "ج" مصحِّحًا ..
(1/149)
________________________________________
[الشورى: 52]، وقال: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142]، وقال: {أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا إِلَى يَقُولَ الرَّسُولُ} [البقرة: 213]، وقال: {(15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ} [يونس: 16]، وقال: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا} [الإنسان: 28]، وقال: {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [المدثر: 56]، وفي الآية الأخرى: {وَمَا يَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30]، فأخبر أن مشيئتهم وفعلهم موقوفان (1) على مشيئته لهم هذا وهذا.
وقال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26]، وقال: {(24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ إِلَى إِلَى صِرَاطٍ} [يونس: 25]، وقال: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَا أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [الأحزاب: 24].
وقوله: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 74]، وقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور: 21]، وقوله: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 261]، وقوله: {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ} [يوسف: 56]، وقوله: {نَرْفَعُ دَرَجَاتِ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام: 83]، وقوله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [الجمعة: 4]، وقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11]، وقوله: {فَنُجِي مَنْ نَشَاءُ} [يوسف: 110]، وقوله: {فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ}
_________
(1) "موقوفان" ساقطة من "د"، واستدرك موضعها الناسخ بلحق لم أتمكن من قراءته.
(1/150)
________________________________________
[الروم: 48]، وقوله: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ} [يوسف: 100]، وقوله: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 269]، وقوله: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} [يس: 66]، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} [البقرة: 20]، وقوله: {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ} [الشورى: 33]، وقوله: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} [الواقعة: 65]، {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} [الواقعة: 70]، وقوله: {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} [التوبة: 28]، وقوله: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ} [الأنعام: 133]، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ} [البقرة: 220]، وقوله: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ} [الشورى: 13]، وقوله عن كليمه موسى أنه قال: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} [الأعراف: 155].
وهذه الآيات ونحوها تتضمن الرد على طائفتي الضلال: نفاة المشيئة بالكلية، ونفاة مشيئة أفعال العباد وحركاتهم وهداهم وضلالهم.
وهو سبحانه تارة يخبر أن كل ما في الكون بمشيئته، وتارة أن ما لم يشأ لم يكن، وتارة أنه لو شاء لكان خلاف الواقع، وأنه لو شاء لكان خلاف المقدر (1) الذي قدره وكتبه، وأنه لو شاء لما عُصِيَ، وأنه لو شاء لجمع خلقه على الهدى وجعلهم أمة واحدة، فتضمن ذلك أن الواقع بمشيئته، وأن ما لم يقع فهو لعدم مشيئته.
وهذا حقيقة الربوبية، وهو معنى كونه ربّ العالمين، وكونه القيّوم القائم
_________
(1) "م" "ج": "القدر"، والمثبت من "د".
(1/151)
________________________________________
بتدبير عباده، فلا خلق، ولا رزق، ولا عطاء، ولا منع، ولا قبض، ولا بسط، ولا موت، ولا حياة، ولا إضلال، ولا هدى، ولا سعادة، ولا شقاوة، إلا من بعد إذنه، وكل ذلك بمشيئته وتكوينه؛ إذ لا مالك غيره، ولا مدبّر سواه، ولا ربَّ غيره.
قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68]، وقال: {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ} [الحج: 5]، وقال: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 8]، وقال: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} [الشورى: 49 - 50]، وقال: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور: 35].
وقد تقدم (1) من حديث حذيفة بن أَسِيد في "صحيح مسلم" في شأن الجنين: "فيقضي ربك ما يشاء، ويكتب الملك".
وفي "الصحيحين" (2) من حديث أبي موسى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء".
وفي "صحيح البخاري" (3) من حديث علي بن أبي طالب، حين طرقه النبي - صلى الله عليه وسلم - وفاطمة ليلًا فقال: "ألا تصليان؟ " فقال علي: إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثها بعثها.
__________
(1) في (64).
(2) "البخاري" (1432) واللفظ له، "مسلم" (2627).
(3) تقدم تخريجه في (59).
(1/152)
________________________________________
وفي "صحيحه" (1) أيضًا في قصة نومهم في الوادي عنه - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله قبض أرواحكم حين شاء، وردها حين شاء".
وفي حديث ابن مسعود الذي في "المسند" (2) وغيره في قصة رجوعهم من الحديبية، ونومهم عن صلاة الصبح، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لو شاء لم تناموا عنها، ولكن أراد أن تكون لمن بعدكم، فهكذا لمن نام ونسي"، وفي لفظ آخر: "إن الله سبحانه لو شاء أيقظنا، ولكنه أراد أن يكون لمن بعدكم" (3).
وفي "مسند الإمام أحمد" (4) عن طُفَيل بن سَخْبرة أخي عائشة لأمها أنه رأى فيما يرى النائم كأنه مرَّ برهط من اليهود، فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن اليهود. قال: إنكم أنتم القوم، لولا أنكم تزعمون أن عزيرًا ابن الله. فقالت اليهود: وأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. ثم مرّ برهط من النصارى، فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن النصارى. قال: إنكم أنت القوم، لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله. قالوا: وأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبح أخبر بها من أخبر، ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره،
_________
(1) تقدم تخريجه في (60).
(2) برقم (3710)، وأخرجه ابن ماجه (2118)، والطيالسي (377)، والنسائي في "الكبرى" (8854)، والبيهقي في "الكبرى" (3182) واللفظ له، وفي إسناده عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي اختلط بأخرة، وللحديث شواهد تقويه.
(3) أخرجه بهذا اللفظ البيهقي في "الأسماء والصفات" (290).
(4) برقم (20694)، وأخرجه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2743)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (292)، وصححه الحاكم (5945).
(1/153)
________________________________________
قال: "هل أخبرت أحدًا؟ " قال: نعم، فلما صلّوا خَطَبهم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "إن طفيلًا رأى رؤيا، فأخبر بها من أخبر منكم، وإنكم تقولون كلمةً كان يمنعني الحياءُ منكم (1) ــ زاد البيهقي: ـــ فلا تقولوها، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده، لا شريك له".
وروى جعفر بن عون، عن الأجلح، عن يزيد بن الأصم، عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فكلّمه في بعض الأمر، فقال الرجل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما شاء الله وشئت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أجعلتني لله عدلًا؟! بل ما شاء الله وحده" (2).
وروى شعبة، عن منصور، عن عبد الله بن يسار، عن حذيفة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان: ولكن قولوا: ما شاء الله، ثم شاء فلان" (3).
قال الشافعي ـ في رواية الربيع عنه ـ: "المشيئة إرادة الله، قال الله عز وجل: {وَمَا يَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30]، فأعلم الله خلقه أن المشيئة له دون خلقه، وأن مشيئتهم لا تكون إلا أن يشاء الله، فيقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما شاء الله ثم شئتَ، ولا يُقال: ما شاء الله وشئت. قال: ويقال: من
_________
(1) تكملة الخبر: "أن أنهاكم عنها".
(2) أخرجه من هذا الوجه البيهقي في "الأسماء والصفات" (293)، ورواه أحمد (1839)، والنسائي في "الكبرى" (10759)، وابن ماجه (2117) بنحوه، بإسناد لا بأس به.
(3) أخرجه أحمد (23265)، وأبو داود (4980)، والنسائي في "الكبرى" (10755) بإسناد صحيح.
(1/154)
________________________________________
يطع الله ورسوله، فإن الله تعبَّدَ العباد بأن فرض عليهم طاعة رسوله، فإذا أطيع رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقد أُطيع الله بطاعة رسوله" (1).
وفي "صحيح مسلم" (2) من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد يصرِّفها كيف يشاء"، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا مصرِّف القلوب، صرِّفْ قلوبنا على طاعتك".
وفي حديث النواس بن سمعان، سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من قلب إلا بين أصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه"، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللهم يا مقلِّب القلوب، ثبِّت قلوبنا على دينك، والميزان بيد الرحمن، يرفع أقوامًا ويخفض آخرين إلى يوم القيامة" (3).
وفي "الصحيحين" (4) من حديث عبد الله بن عمر، سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو قائم على المنبر يقول: "إنما بقاؤكم فيما سلف من الأمم قبلكم، كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس ــ فذكر الحديث، وقال في آخره ــ: فذلك فضلي أوتيه من أشاء".
_________
(1) "الأم" (1/ 416)، وأسنده البيهقي في "الأسماء والصفات" (295)، ومنه اقتبس المؤلف.
(2) برقم (2654)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (298) ولفظه أقرب لسياق المؤلف.
(3) أخرجه أحمد (17630)، والنسائي في "الكبرى" (7691)، وابن ماجه (199)، وصححه ابن حبان (943).
(4) هو في البخاري وحده برقم (7467).
(1/155)
________________________________________
وفي "صحيح البخاري" (1) مرفوعًا: "مثل الكافر كمثل الأَرْزَة: صَمّاء (2) معتدلة، حتى يقصمها الله إذا شاء".
وقال عبد الرزاق: عن معمر، عن همام، هذا ما حدثنا أبو هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قال الله تبارك وتعالى: لا يقل ابن آدم: يا خيبةَ الدّهرِ؛ فإني أنا الدهر، أرسل الليل والنهار، فإذا شئت قبضتهما" (3).
قال الشافعي: "تأويله ــ والله أعلم ــ: أن العرب كان شأنها أن تذم الدهر، وتسبَّه عند المصائب التي تنزل بهم من موت أو هدم أو تلف أو غير ذلك، فيقولون: إنما يهلكنا الدهر، وهو الليل والنهار، ويقولون: أصابتهم قوارع الدهر، وأبادهم الدهرُ، فيجعلون الليل والنهار اللذين يفعلان ذلك، فيذمون الدهر بأنه الذي يفنينا ويفعل بهم (4)، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسبوا الدهر" على أنه يفنيكم، والذي يفعل بكم هذه الأشياء؛ فإنكم إذا سببتم فاعل هذه الأشياء فإنما تسبون الله تبارك وتعالى، فإنه فاعل هذه الأشياء" (5).
وفي حديث أنس يرفعه: "اطلبوا الخير دهركم كله، وتعرضوا لنفحات
_________
(1) برقم (7466) من حديث أبي هريرة.
(2) تحرفت في "د" "م" إلى: "حما"، وجاءت على الصواب في "ج".
(3) أخرجه بهذا السياق من طريق عبد الرزاق به أحمد (8232)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (305)، وهو في البخاري (6181)، ومسلم (2246) من طرق عن أبي هريرة بألفاظ متقاربة.
(4) كذا في الأصول، وفي مصدر القول: "يفنينا ويفعل بنا".
(5) أورده البيهقي في "الأسماء والصفات" عقب الحديث (305)، وفي "مناقب الشافعي" (1/ 336)، وانظر: "شأن الدعاء" (108).
(1/156)
________________________________________
رحمة الله، فإن لله عز وجل نفحات من رحمته، يصيب بها من يشاء من عباده، وسلوا الله أن يستر عوراتكم، ويؤمّن روعاتكم" (1).
وفي "الصحيحين" (2) من حديث عبادة بن الصامت قال: كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، فمن وفَّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به، فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله، فهو إلى الله: إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له".
وفيهما أيضًا (3) في حديث احتجاج الجنة والنار، قول الله للجنة: "أنت رحمتي أرحم بك من أشاء"، وللنار: "أنت عذابي أعذب بك من أشاء".
وفيهما أيضًا (4) من حديث أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، وارحمني إن شئت، وارزقني إن شئت. ليعزم مسألته؛ إنه يفعل ما شاء، لا مُكْرِه له".
وفي "صحيح مسلم" (5) عنه يرفعه: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله،
_________
(1) أخرجه الطبراني في "الكبير" (720)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (306) واللفظ له، وإسناده ضعيف، فيه عيسى بن موسى ضعيف، كما في "الميزان" (3/ 325)، ووقع فيه اختلاف أيضًا، انظر: "العلل" للدارقطني (12/ 97).
(2) "البخاري" (18)، و"مسلم" (1709).
(3) "البخاري" (4850)، و"مسلم" (2846) من حديث أبي هريرة.
(4) "البخاري" (7477)، و"مسلم" (2679).
(5) تقدم تخريجه في (60).
(1/157)
________________________________________
ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، [ولكن] (1) قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان".
وفي حديث أبي ذر: "يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته ... " الحديث، وفي آخره: "ذلك بأني جواد ماجد، أفعل ما أشاء، عطائي كلام، فإذا أردت شيئًا فإنما أقول له: كن، فيكون" (2).
وفي حديث أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما أنعم الله على عبد من نعمة، من أهلٍ وولدٍ، فيقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، فيرى فيه آفة دون الموت" (3).
وهذا الحديث الصحيح مشتق من قوله تعالى: {وَلَوْلَا إِذ دَّخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف: 39].
وفي حديث الشفاعة: "فإذا رأيتُ ربي وقعت له ساجدًا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني" (4).
وفي حديث آخرِ أهل الجنة دخولًا إليها: "فيسكت ما شاء الله أن يسكت،
_________
(1) زيادة لازمة من مصدر الخبر.
(2) أخرجه بهذا السياق أحمد (21367)، والترمذي (2495) وحسنه، وابن ماجه (4257)، ومداره على شهر بن حوشب وفيه ضعف، وأصله عند مسلم (2577) بسياق آخر ليس فيه موضع الشاهد.
(3) أخرجه ابن أبي الدنيا في "الشكر" (1)، والطبراني في "الأوسط" (4261)، وأبو يعلى كما في "إتحاف الخيرة" (4/ 460) وضعفه الأزدي كما في "تفسير ابن كثير" (5/ 159)، وانظر: "فيض القدير" (5/ 429).
(4) أخرجه البخاري (7410)، ومسلم (193) من حديث أنس.
(1/158)
________________________________________
ــ وفيه قوله سبحانه: ــ لا أهزأ بك، ولكني على ما أشاء قادر" (1)، والحديثان في "الصحيحين".
وفيهما من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لكل نبي دعوة، فأريد ـ إن شاء الله ـ أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة" (2).
وقال: "لا يدخل النار ـ إن شاء الله ـ مِن أصحاب الشجرة الذين بايعوا تحتها أحد" (3).
وقال: "إني لأطمع أن يكون حوضي ــ إن شاء الله ــ أوسع ما بين أيلة إلى كذا" (4).
وقال في المدينة: "لا يدخلها الطاعون ولا الدجال ــ إن شاء الله ــ" (5).
وقال في زيارة المقابر: "وإنَّا ــ إن شاء الله ــ بكم لاحقون" (6).
وقال لما حاصر الطائف: "إنا قافلون غدًا ــ إن شاء الله ــ " (7).
_________
(1) أخرجه البخاري (6573)، ومسلم (182) من حديث أبي هريرة، وموضع الشاهد عند مسلم (187) من حديث ابن مسعود.
(2) أخرجه البخاري (7474)، ومسلم (198) من حديث أبي هريرة.
(3) أخرجه مسلم (2496) من حديث أم مبشر.
(4) أخرجه من حديث أبي هريرة به الطبراني في "مسند الشاميين" (3342)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (350)، وأصله عند مسلم (2496) من وجه آخر.
(5) أخرجه البخاري (7134)، ومسلم (2943) ـ وليس فيه موضع الشاهد ـ، والترمذي (2242) من حديث أنس.
(6) أخرجه مسلم (249) من حديث أبي هريرة.
(7) أخرجه البخاري (6086)، ومسلم (1778) من حديث ابن عمر.
(1/159)
________________________________________
وقال لما قدم مكة: "منزلنا غدًا ــ إن شاء الله ــ بخَيْف بني كنانة" (1).
وقال في يوم بدر: "هذا مصرع فلان غدًا ــ إن شاء الله ــ، وهذا مصرع فلان ــ إن شاء الله ــ " (2).
وقال في بعض أسفاره: "إنكم تسيرون عشيتكم وليلتكم، ثم تأتون الماء غدًا ــ إن شاء الله ــ " (3).
وقال للأعرابي الذي عاده من الحمى: "لا بأس طهور ــ إن شاء الله ــ " (4).
وأخبر عن سليمان بن داود أنه قال: "لأطوفنَّ الليلة على سبعين امرأة، كل واحدة تأتي بفارس يقاتل في سبيل الله، فقال له المَلَك: قُل: إن شاء الله. فلم يقل، فطاف عليهن جميعًا، فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة، جاءت بشق رجل. وايم الذي نفس محمد بيده، لو قال: إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله فرسانًا أجمعون" (5).
وقال: "مَن حَلَف فقال: إن شاء الله، فإن شاء مضى، وإن شاء رجع غير
_________
(1) أخرجه البخاري (1589)، ومسلم (1314) من حديث أبي هريرة.
(2) أخرجه مسلم (2873) من حديث أنس.
(3) أخرجه مسلم (681)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (350) ــ واللفظ له ــ من حديث أبي قتادة.
(4) أخرجه البخاري (3616) من حديث ابن عباس.
(5) أخرجه البخاري (3424)، ومسلم (1654) من حديث أبي هريرة.
(1/160)
________________________________________
حَنِث" (1).
وقال: "لأغزونَّ قريشًا"، ثم قال في الثالثة: "إن شاء الله" (2).
وقال: "ألا مشمّر للجنة؟ " فقال الصحابة: نحن المشمّرون لها يا رسول الله. فقال: "قولوا: إن شاء الله" (3).
وقال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24]، قال الحسن: "إذا نسيت أن تقول: إن شاء الله" (4).
وهذا هو الاستثناء الذي كان يجوّزه ابن عباس متراخيًا (5)، ويتأول عليه الآية، لا الاستثناء في الإقرار واليمين والطلاق والعِتَاق، وهذا من كمال علم ابن عباس وفقهه في القرآن.
_________
(1) أخرجه أبو داود (3262)، والترمذي (1531) وحسنه، والنسائي (3793)، وابن ماجه (2105)، وصححه ابن حبان (4340)، واختلف في إسناده وقفًا ورفعًا، انظر: "العلل" للدارقطني (2986).
(2) أخرجه أبوداود (3285)، وأبو يعلى (2674)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (1928)، وابن حبان (4343) من طرق عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس به، واضطرب فيه سماك وصلًا وإرسالًا، ورجح غير واحد من الحفاظ إرساله، انظر: "العلل" لابن أبي حاتم (1322)، "الكامل" (3/ 532).
(3) أخرجه ابن ماجه (4332)، وابن أبي عاصم في "الجهاد" (1)، وابن أبي الدنيا في "صفة الجنة" (2)، وإسناده ضعيف، مداره على الضحاك المعافري مجهول، كما في "الميزان" (2/ 327).
(4) أسنده الطبري (15/ 226)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (366).
(5) أسنده الطبري (15/ 225)، والطبراني في "الأوسط" (119).
(1/161)
________________________________________
وقد أجمع المسلمون على أن الحالف إذا استثنى في يمينه متصلًا بها، فقال: لأفعلن كذا، أو لا أفعله إن شاء الله؛ أنه لا يحنث إذا خالف ما حلف عليه؛ لأن من أصل أهل الإسلام أنه لا يكون شيء إلا بمشيئة الله، فإذا علّق الحالف الفعل أو الترك بالمشيئة لم يحنث عند عدم المشيئة، ولا تجب عليه الكفارة.
ولو ذهبنا نذكر كل حديث أو أثر جاء فيه لفظ المشيئة، وتعليق فعل الربِّ تعالى بها لطال الكتاب جدًّا.
وأما الإرادة فورودها في نصوص القرآن والسنة معلوم أيضًا، كقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [البروج: 16]، {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [الكهف: 82]، {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} [الإسراء: 16]، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ} [البقرة: 185]، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة: 41]، وقول نوح: {(33) وَلَا نُصْحِيَ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ} [هود: 34]، وقوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125]، وقوله: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ} [الرعد: 11]، وقوله: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 27 - 28].
وأخبر أنه إذا لم يرد تطهير قلوب عباده لم يكن لهم سبيل إلى تطهيرها،
(1/162)
________________________________________
فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 41].
وقال: {وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ} [الحج: 16]، وقال: {إِنَّ (1) اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1]، وقال: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6]، وقوله: {فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [المائدة: 17]، وقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب: 33]، وقوله: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} [الأحزاب: 17]، وقول صاحب يس: {(22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا} [يس: 23]، وقوله: {أَفَرَءَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ إِللَّهِ إِنء أَرَادَنِيَا للَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتٌ ضُرَّهُ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتٌ رَّحْمَتَهُ} [الزمر: 38]، وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ} [آل عمران: 176]، وقوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء: 18].
والنصوص النبوية في إثبات إرادة الله سبحانه أكثر من أن تحصر، كقوله: "مَن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين" (2)، "من يرد الله به خيرًا يُصِب منه" (3)،
_________
(1) "د" "م": (وإن).
(2) أخرجه البخاري (71)، ومسلم (1037) من حديث معاوية.
(3) أخرجه البخاري (5645) من حديث أبي هريرة.
(1/163)
________________________________________
"إذا أراد الله بالأمير خيرًا جعل له وزير صدق" (1)، "إذا أراد الله رحمة أمة قبض نبيها قبلها، وإذا أراد الله هلكة أمة عذبها ونبيها حي، فأقر عينه بهلكتها" (2)، "إذا أراد الله بعبد خيرًا عجَّل له العقوبة في الدنيا"، "إذا أراد الله بعبد شرًّا أمسك عنه بذنبه، حتى يوافي به يوم القيامة كأنه عَيْر" (3)، "إذا أراد الله قَبْض عبد بأرض جعل له إليها حاجة" (4)، "إذا أراد الله بأهل بيت خيرًا أدخل عليهم باب الرفق" (5)، "إذا أراد الله بقوم عذابًا أصاب مَن كان فيهم، ثم بعثوا على نياتهم" (6).
والآثار النبوية في ذلك أكثر من أن نستوعبها.
فصل
وههنا أمر يجب التنبيه عليه، والتنبه له، وبمعرفته تزول إشكالات كثيرة
_________
(1) أخرجه أحمد (24414)، وأبو داود (2932)، والنسائي (4204) من حديث عائشة، وصححه ابن حبان (4494).
(2) أخرجه مسلم (2288) من حديث أبي موسى.
(3) هذا وسابقه جزء من حديث أخرجه بنحوه أحمد (16806)، والطبراني في "الكبير" (11842) من حديث عبد الله بن مغفل، وصححه ابن حبان (2911).
وقوله: "كأنه عير" أراد جبل عير بالمدينة، شبه عظم ذنوبه به، وقيل: العير هنا الحمار الوحشي، انظر: "النهاية في الغريب" (3/ 328).
(4) أخرجه أحمد (15539)، والترمذي (2147) من حديث يسار بن عبد، وصححه الترمذي، وابن حبان (6151).
(5) أخرجه أحمد (24734)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 416) من حديث عائشة.
(6) أخرجه البخاري (7108)، ومسلم (2879) من حديث ابن عمر، وفيهما: "يبعثون على أعمالهم"، ولفظ المؤلف أخرجه أبو يعلى (5696) وغيره.
(1/164)
________________________________________
تعرض لمن لم يُحط به علمًا.
وهو أن الله سبحانه له الخلق والأمر، وأمره سبحانه نوعان: أمرٌ كوني قدري، وأمر ديني شرعي.
فمشيئته سبحانه متعلقة بخلقه وأمره الكوني، ولذلك تتعلق بما يحبه وبما يكرهه، كله داخل تحت مشيئته، كما خلق إبليس وهو يبغضه، وخلق الشياطين والكفار والأعيان والأفعال المسخوطة له وهو يبغضها، فمشيئته سبحانه شاملة لذلك كله.
وأما محبته ورضاه فمتعلقة بأمره الديني (1)، وشرعه الذي شرعه على ألسنة رسله، فما وُجِد منه تعلقت به المحبة والمشيئة جميعًا، فهو محبوب للربّ واقعٌ بمشيئته، كطاعات الملائكة والأنبياء والمؤمنين. وما لم يوجد منه تعلقت به محبته وأمره الديني، ولم تتعلق به مشيئته. وما وُجِد من الكفر والفسوق والمعاصي تعلقت به مشيئته، ولم تتعلق به محبته ولا رضاه ولا أمره الديني. وما لم يوجد منها لم تتعلق به مشيئته ولا محبته.
فلفظ المشيئة كوني، ولفظ المحبة ديني شرعي، ولفظ الإرادة ينقسم إلى: إرادة كونية فتكون هي المشيئة، وإرادة دينية فتكون هي المحبة.
إذا عُرِف هذا؛ فقوله تعالى: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7]، وقوله: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205]، وقوله: {الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ} [البقرة: 185]، لا يناقض نصوص القدر، والمشيئة العامة الدالة على وقوع ذلك بمشيئته
_________
(1) زاد سهوًا في "م": "وشرعه الديني".
(1/165)
________________________________________
وقضائه وقدره؛ فإن المحبة غير (1) المشيئة، والأمر غير (2) الخلق.
ونظير هذا لفظ الأمر، فإنه نوعان: أمر تكوين، وأمر تشريع، والثاني قد يُعصى ويخالَف، بخلاف الأول، فقوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء: 16]، لا يناقض قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف: 28]، ولا حاجة إلى تكلّف تقدير: أمرنا مترفيها بالطاعة فعصونا وفسقوا فيها، بل الأمر ههنا أمر تكوين وتقدير لا أمر تشريع؛ لوجوه:
أحدها: أن المستعمل في مثل هذا التركيب أن يكون ما بعد الفاء هو المأمور به، كما تقول: أمرته فقام، وأمرته فأكل، كما لو صرح بلفظة "افعل"، كقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} [البقرة: 34]، وهذا كما تقول: دعوته فأقبل، قال تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 52].
الثاني: أن الأمر بالطاعة لا يختص بالمترفين، فلا يصح حمل الآية عليه، بل تسقط فائدة ذكر المترفين؛ فإن جميع المبعوث إليهم مأمورون بالطاعة، فلا يصح أن يكون أَمْر المترفين علة إهلاك جميعهم.
الثالث: أن هذا النسق العجيب، والتركيب البديع، مقتضٍ ترتب ما بعد الفاء على ما قبلها ترتب المسبَّب على سببه، والمعلول على علته. ألا ترى أن الفسق علة "حق القول عليهم"، و"حق القول عليهم" علة لتدميرهم،
_________
(1) "م": "عين".
(2) "د" "م": "عين" تصحيف، وجاءت على الصواب في "ج"، هذا والأشبه بسياق الجملة وما بعدها أن تكون: "والإرادة غير الخلق".
(1/166)
________________________________________
فهكذا الأمر سبب لفسقهم ومقتضٍ له، وذلك هو أمر التكوين لا التشريع.
الرابع: أن إرادته سبحانه لإهلاكهم إنما كانت بعد معصيتهم ومخالفتهم لرسله، فمعصيتهم ومخالفتهم قد تقدمت، فأراد الله سبحانه هلاكهم فعاقبهم بأن قدّر عليهم الأعمال التي تحتّم معها هلاكهم.
فإن قيل: فمعصيتهم السابقة سببٌ لهلاكهم، فما الفائدة في قوله: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا}، وقد تقدم الفسق منهم؟
قيل: المعصية السابقة ــ وإن كانت سببًا للهلاك ــ، لكن يجوز تخلف الهلاك عنها ولا يتحتم، كما هو عادة الربّ تعالى المعلومة في خلقه: أنه لا يحتم هلاكهم بمعاصيهم، فإذا أراد هلاكهم ولابُدَّ أحدث سببًا آخر يتحتم معه الهلاك.
ألا ترى أن ثمودًا لم يهلكهم بكفرهم السابق حتى أخرج لهم الناقة فعقروها، فأهلكوا حينئذ.
وقوم فرعون لم يهلكهم بكفرهم السابق بموسى حتى أراهم الآيات المتتابعات، واستحكم بغيهم وعنادهم، فحينئذ أهلكوا.
وكذلك قوم لوط لما أراد إهلاكهم أرسل الملائكة إلى لوط في صورة الأضياف، فقصدوهم بالفاحشة، ونالوا من لوط وتواعدوه (1).
وكذلك سائر الأمم إذا أراد الله هلاكها أحدث لها بغيًا وعدوانًا وظلمًا
_________
(1) كذا في الأصول: "تواعدوه"، والأشبه بالسياق: "توعّدوه"؛ فإن الأولى تستعمل في الوعد بالخير، والثانية للتهديد، انظر: "تاج العروس" (9/ 308 - 309).
(1/167)
________________________________________
فأخذها على أثره.
وهذه عادته مع عباده عمومًا وخصوصًا، فيعصيه العبد وهو يحلم عنه ولا يعاجله، حتى إذا أراد أخذه قَيَّضَ له عملًا يأخذه به مضافًا إلى أعماله الأُوَل، فيظن الظان أنه أخذه بذلك العمل وحده، وليس كذلك، بل حق عليه القول بذلك العمل، وكان قبل ذلك لم يحق عليه القول، فأعماله الأُوَل تقتضي ثبوت الحق عليه، ولكن لم يحكم به أحكم الحاكمين، ولم يُمضِ الحكم، فإذا عمل بعد ذلك ما يقرر غضب الربّ عليه أمضى حكمه عليه وأنفذه.
قال تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55]، وقد كانوا قبل ذلك أغضبوه بمعصية رسوله، ولكن لم يكن غضبه سبحانه قد استقرَّ واستحكم عليهم؛ إذ كان بصدد أن يزول بإيمانهم، فلما أيس من إيمانهم تقرر الغضبُ واستحكم، فحلت العقوبة.
وهذا الموضع من أسرار القرآن، وأسرار التقدير الإلهي، وفِكْر العبد فيه من أنفع الأمور له؛ فإنه لا يدري أي المعاصي هي الموجبة التي يتحتم عندها عقوبته فلا يُقال بعدها، والله المستعان.
وسنعقد لهذا الفصل بابًا في الفرق بين القضاء الكوني والديني، نشبع الكلام فيه ـ إن شاء الله ـ لشدة الحاجة إليه (1)؛ إذ المقصود في هذا الباب ذِكْرُ مشيئة الربّ تعالى، وأنها الموجبة لكل موجود، كما أن عدم مشيئته موجب
_________
(1) الباب التاسع والعشرون (2/ 377).
(1/168)
________________________________________
لعدم وجود الشيء، فهما الموجبتان، ما شاء الله وجب وجوده (1)، وما لم يشأ وجب عدمه وامتناعه، وهذا أمر يعم كل مقدور من الأعيان والأفعال والحركات والسكنات.
فسبحانه أن يكون في مملكته ما لا يشاء، أو أن يشاء شيئًا فلا يكون، وإن كان فيها ما لا يحبه ولا يرضاه، وإن كان يحب الشيء فلا يكون لعدم مشيئته له، ولو شاءه لوُجِد.
* * * *
_________
(1) من قوله: "كما أن عدم" إلى هنا ساقط من "م".
(1/169)
________________________________________
الباب الثالث عشر في ذكر المرتبة الرابعة من مراتب القضاء والقدر، وهي مرتبة خَلْقِ الله سبحانه الأعمالَ وتكوينِه وإيجادِه لها (1)
وهذا أمر متفق عليه بين الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، وعليه اتفقت الكتب الإلهية، ودلت عليه أدلة العقول والفطر والاعتبار، وخالف في ذلك مجوس الأمة، فأخرجت طاعات ملائكته وأنبيائه ورسله وعباده المؤمنين ــ وهي أشرف ما في العالم ــ عن ربوبيته وتكوينه ومشيئته، بل جعلوهم هم الخالقون (2) لها، ولا تعلق لها بمشيئته، ولا تدخل تحت قدرته، وكذلك قالوا في جميع أفعال الحيوانات الاختيارية.
فعندهم أنه سبحانه لا يقدر أن يهدي ضالًّا، ولا يُضِلّ مهتديًا، ولا يقدر أن يجعل المسلم مسلمًا، والكافر كافرًا، والمصلي مصليًا، وإنما ذلك بجعلهم أنفسهم كذلك، لا بجعله تعالى.
وقد نادى القرآن ــ بل الكتب السماوية كلها ــ والسنة وأدلة التوحيد والعقول (3) على بطلان قولهم، وصاح بهم أهل العلم والإيمان من أقطار الأرض، وصَنَّف يَزَكُ الإسلام (4) وعصابةُ الرسول وعسكره التصانيف في
_________
(1) انظر: "مجموع الفتاوى" (2/ 119) (8/ 386).
(2) كذا في الأصول: "الخالقون" بالرفع، والأقرب فيها النصب: "الخالقين".
(3) "م": "المعقول"محتملة.
(4) يعني طلائع جيش الإسلام ومقدمة حراسه، لفظة فارسية، ينظر: "جامع الأصول" (10/ 348)، "محيط المحيط" (992)، "تكملة المعاجم" (11/ 118).
وقد تكررت هذه الكلمة في عدة مواضع من كتب المؤلف، واضطرب في رسمها أكثر النساخ والمحققين، وتصحّفت في "م": "ترك"، وجاءت معجمة على الصواب في "د" و"ج".
(1/170)
________________________________________
الردِّ عليهم، وهي أكثر من أن يحصيها إلا الله.
ولم تزل أيدي السلف وأئمة السنة في أقفيتهم، ونواصيهم تحت أرجلهم، إذ كانوا يردّون باطلهم بالحق المحض، وبدعتهم بالسنة، والسنة لا يقوم لها شيء. فكانوا معهم كأهل الذمة مع المسلمين.
إلى أن نبغت نابغة ردّوا بدعتهم ببدعة تقابلها، وقابلوا باطلهم بباطل من جنسه، وقالوا: العبد مجبور على أفعاله (1)، مقهور عليها، لا تأثير له في وجودها البتَّة، ولا هي واقعة بإرادته واختياره.
وغَلا غلاتهم فقالوا: بل هي عين أفعال الله، ولا تنسب إلى العبد إلا على وجه المجاز، والله سبحانه وتعالى يلوم العبد، ويعاقبه، ويخلده في النار على ما لم يكن للعبد فيه صنع، ولا هو فعله، بل محض فعل الله. وهذا قول الجبرية، وهو إن لم يكن شرًّا من قول القدرية فليس هو بدونه في البطلان، وإجماع الرسل واتفاق الكتب الإلهية وأدلة العقول والفطر والعيان يكذب هذا القول ويرده، والطائفتان في عمى عن الحق والصراط المستقيم.
ولما رأى (2) القاضي وغيره بطلان هذا القول ومناقضته للشرائع والعدل والحكمة قالوا: قدرة العبد وإن لم تؤثر في وجود الفعل فهي مؤثرة
_________
(1) "د": "أفعال له".
(2) "د": "تبين"، من لحق بالحاشية، والقاضي هو ابن الباقلاني.
(1/171)
________________________________________
في صفة من صفاته، وتلك الصفة تسمّى كسبًا، وهي متعلَّق الأمر والنهي والثواب والعقاب، فإن الحركة التي هي طاعة، والحركة التي هي معصية، قد اشتركتا في نفس الحركة، وامتازت إحداهما عن الأخرى بالطاعة والمعصية، فذات الحركة ووجودها واقع بقدرة الله وإيجاده، وكونها طاعة ومعصية واقع بقدرة العبد وتأثيره.
وهذا وإن كان أقرب إلى الصواب، فالقائل به لم يوفّه حقه؛ فإن كونها طاعة ومعصية هو موافقة الأمر ومخالفته، فهذه الموافقة والمخالفة إما أن تكون فعلًا للعبد تتعلق بقدرته واختياره، أو لا تكون كذلك، فإن كان الأول ثبت أن فعل العبد واقع بقدرته واختياره، وإن كان الثاني لم يكن للعبد اختيار ولا فعل ولا كسب البتَّة، فلم يثبت هؤلاء من الكسب أمرًا معقولًا.
ولهذا يقال: محالات الكلام ثلاثة: كسب الأشعري، وأحوال أبي هاشم، وطفرة النظّام (1).
ولما رأى طائفة فساد هذا قالوا: المؤثّر في وجود الفعل هو قدرة الربِّ على سبيل الاستقلال، وقدرة العبد على سبيل الاستقلال، قالوا: ولا يمتنع اجتماع المؤثّرين على أثر واحد.
ولم يستوحش هؤلاء من القول بوقوع مفعول بين فاعلين، ولا مقدور بين قادرين، قالوا: كما لم يمتنع وقوع معلوم بين عالمَيْن، ومراد بين مريدَيْن، ومحبوب بين مُحبَّين، ومكروه بين كارِهَيْن (2).
_________
(1) انظر: "مجموع الفتاوى" (8/ 128).
(2) "د"، ولحق بحاشية "م" دون تصحيح: "محبوبين" و"مكروهين" بصيغة المفعول، ورسمهما في "ج" بمثل ذلك، ثم ضرب عليهما وكتب الصواب داخل المتن.
(1/172)
________________________________________
قالوا: ونحن نشاهد قادرَيْن مستقلَّيْن كل منهما يمكنه أن يستقل بالفعل، يقع بينهما مفعول واحد يشتركان في فعله والتأثير فيه.
قالوا: وليس معكم ما يبطل هذا إلّا قولكم: إنَّ إضافته إلى أحدهما على سبيل الاستقلال يمنع إضافته إلى الآخر، فإضافته إليهما تمنع إضافته إليهما.
وهذه الحجة فيها إجمال لابدّ من تفصيله، فيجوز وقوع مفعول بين فاعلَيْن لا يستقل أحدهما به، كالمتعاونَيْن على أمر لا يقدر عليه أحدهما وحده. ويجوز وقوع مفعول بين فاعلَيْن، كل منهما يستقل به على سبيل البدل، وهذا ظاهر أيضًا. ويجوز وقوع مفعول بين فاعلَيْن يشتركان فيه، وكل منهما يقدر عليه حال (1) الانفراد، كمحمول يحمله اثنان، كل منهما يمكنه أن يستقل بحمله وحده، فكل هذه الأقسام ممكنة، بل واقعة.
بقي قسم واحد، وهو: مفعول بين فاعلَيْن كل منهما فَعَله على سبيل الاستقلال، فهذا محال؛ فإن استقلال كل منهما بفعله ينفي فعل الآخر له، فاستقلالهما ينافي استقلالهما.
وأكثر الطوائف يقر بوقوع مقدور بين قادرين، وإن اختلفوا في كيفية وقوعه.
فقالت طائفة: الفعل يضاف إلى قدرة الله سبحانه على وجه الاستقلال بالتأثير، ويضاف إلى قدرة العبد لكنها غير مستقلة، فإذا انضمت قدرة الله إلى قدرة العبد صارت قدرة العبد مؤثرة على سبيل الاستقلال، بتوسط إعانة
_________
(1) "د": "مثال" دون إعجام.
(1/173)
________________________________________
قدرة الله، وجَعْل قدرة العبد مؤثّرة.
والقائل بهذا لم يتخلص من الخطأ، حيث زعم أن قدرة العبد مستقلة بإعانة قدرة الله له، فعاد الأمر إلى اجتماع مؤثّرين على أثر واحد، لكن قدرة أحدهما وتأثيره مستند إلى قدرة الآخر وتأثيره.
وكأنه ــ والله أعلم ــ أراد أن قدرة الربِّ تعالى مستقلة بالتأثير في إيجاد قدرة العبد، ثم قدرة العبد مستقلة بالتأثير في إيجاد الفعل. وهذا قد قاله طائفة من العقلاء.
وقائل هذا لم يتخلص من الخطأ؛ حيث جعل قدرة العبد مستقلة بالتأثير في إيجاد المقدور، وهذا باطل؛ إذ غاية قدرة العبد أن تكون سببًا، بل جزءًا من السبب، والسبب لا يستقل بحصول المسبَّب ولا يوجبه، وليس في الوجود ما يوجب حصول المقدور إلا بمشيئة الله وحده.
وأصحاب هذا القول زعموا أن الله سبحانه أعطى العبد قدرة وإرادة، وفوَّض إليه بهما الفعل والترك، وخلّاه وما يريد، فهو يفعل ويترك بقدرته وإرادته اللتَيْن فوض إليه الفعل والترك بهما.
وقالت طائفة أخرى: مقدور العبد هو عين مقدور الربّ، بشرط أن يفعله العبد إذا تركه الربّ ولم يفعله، لا على أنه يفعله والربّ له فاعل؛ لاستحالة خلق بين خالقَيْن. وهذا هو بعينه مذهب مَن يقول بوقوع مفعول بين فاعلَيْن على سبيل البدل، وهذا مذهب كثير من القدرية، منهم الشحَّام وغيره.
وقالت طائفة: يجوز وقوع فعل بين فاعلَيْن بنسبتين مختلفتين: أحدهما
(1/174)
________________________________________
يكون مُحْدِثًا، والآخر يكون كاسبًا. وهذا مذهب النجار، وضرار بن عمرو، ومحمد بن عيسى، وحفص.
والفرق بين هذا المذهب ومذهب الأشعري من وجهين:
أحدهما: أنَّ أصحاب هذا المذهب يقولون: العبد فاعلٌ حقيقة وإن لم يكن مُحْدِثًا مخترعًا للفعل. والأشعري يقول: العبد ليس بفاعل وإن نُسِبَ إليه الفعل، وإنما الفاعل في الحقيقة هو الله، فلا فاعل سواه.
الثاني: أنهم يقولون: الربّ هو المُحْدِث، والعبد هو الفاعل.
وقالت فرقة: بل أفعال العباد فعل الله على الحقيقة، وفعل العبد (1) على المجاز، وهذا أحد قولي الأشعري.
وقالت فرقة أخرى ــ منهم القَلانِسي وأبو إسحاق في بعض كتبه ــ: إنها فعل لله (2) على الحقيقة، وفعل للإنسان (3) على الحقيقة، لا على معنى أنه أحدثها، بل على معنى أنها كسب له.
وقالت طائفة أخرى ــ وهم جهم وأتباعه ــ: إنّ القادر على الحقيقة هو الله وحده، وهو الفاعل حقًّا، ومن سواه ليس بفاعل على الحقيقة ولا كاسب أصلًا، بل هو مضطر إلى جميع ما فيه من حركة وسكون، وقول القائل: قام، وقعد، وأكل، وشرب؛ مجاز بمنزلة قوله: مات، وكبر، ووقع، وطلعت الشمس وغربت. وهذا قول الجبرية الغلاة.
_________
(1) "د": "للعبد".
(2) "م": "الله".
(3) "م" "ج": "الإنسان".
(1/175)
________________________________________
وقابله طائفة أخرى فقالوا: العباد موجدون لأفعالهم، مخترعون لها بقدرتهم (1) وإرادتهم، والربّ تعالى لا يوصف بالقدرة على مقدور العبد، ولا تدخل أفعالهم تحت قدرته، كما لا يوصف العباد بمقدور الربّ، ولا تدخل أفعاله تحت قُدَرهم. وهذا قول جمهور القدرية، وكلهم متفقون على أن الله سبحانه غير فاعل لأفعال العباد.
واختلفوا: هل يوصف بأنه مخترعها ومحدثها، وأنه قادر عليها وخالق لها؟
فجمهورهم نفوا ذلك، ومن يقرب منهم إلى السنة أثبت كونها مقدورة لله، وأن الله سبحانه قادر على أعيانها، وأن العباد أحدثوها بإقدار الله لهم على إحداثها، وليس معنى قدرة الله عليها عندهم أنه قادر على فعلها، هذا عندهم عين المحال، بل قدرته عليها إقدارهم على إحداثها، فإنما أحدثوها بقدرته وإقداره وتمكينه، وهؤلاء أقرب القدرية إلى السنة.
وأرباب هذه المذاهب مع كل طائفة منهم خطأ وصواب، وبعضهم أقرب إلى الصواب، وبعضهم أقرب إلى الخطأ، وأدلة كل منهم وحججه إنما تنهض على بطلان خطأ الطائفة الأخرى، لا على إبطال ما أصابوا فيه.
فكل دليل صحيح للجبرية إنّما يدلّ على إثبات قدرة الرب تعالى ومشيئته، وأنه لا خالق غيره، وأنه على كل شيء قدير، لا يُستثنى من هذا العموم فرد واحد من أفراد الممكنات (2)، وهذا حق، ولكن ليس معهم دليل
_________
(1) "د": "بقدرهم".
(2) "د" "م": "الكتاب" والمثبت من "ج".
(1/176)
________________________________________
صحيح ينفي أن يكون العبد قادرًا مريدًا فاعلًا بمشيئته وقدرته، وأنه هو الفاعل حقيقة، وأفعاله قائمة به، وأنها فعل له لا لله، وأنها قائمة به لا بالله.
وكل دليل صحيح يقيمه القدرية فإنما يدل على أن أفعال العباد فعل لهم، قائم بهم، واقع بقدرتهم ومشيئتهم وإرادتهم، وأنهم مختارون لها غير مضطرين ولا مجبورين، وليس معهم دليل صحيح ينفي أن يكون الله سبحانه قادرًا على أفعالهم، وهو الذي جعلهم فاعِلِين.
فأدلة الجبرية متظافرة صحيحة على من نفى قدرة الرب تعالى على كل شيء من الأعيان والأفعال، ونفى عموم مشيئته وخلقه لكل موجود، وأثبت في الوجود شيئًا بدون مشيئته وخلقه.
وأدلة القدرية متظافرة صحيحة على من نفى فعل العبد وقدرته ومشيئته واختياره، وقال: إنه ليس بفاعل شيئًا، والله يعاقبه على ما لم يفعله (1)، ولا له قدرة عليه، بل هو مضطر إليه، مجبور عليه.
وأهل السنة وحزب الرسول وعسكر الإيمان لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، بل هم مع هؤلاء فيما أصابوا فيه، ومع هؤلاء فيما أصابوا فيه، فكل حق مع طائفة من الطوائف فهم يوافقونهم فيه، وهم بُرآء من باطلهم، فمذهبهم جَمْعُ حق الطوائف بعضه إلى بعض، والقول به، ونصرُهُ، وموالاة أهله من ذلك الوجه، ونَفْيُ باطل كل طائفة من الطوائف وكسرُهُ، ومعاداةُ أهله من هذا الوجه (2)، فهم حُكَّام بين الطوائف لا يتحيزون إلى فئة منهم
_________
(1) "د": "ما يفعله".
(2) من قوله: "ونفي باطل" إلى هنا ساقط من "د".
(1/177)
________________________________________
على الإطلاق، ولا يردّون حق طائفة من الطوائف، ولا يقابلون بدعة ببدعة، ولا يردّون باطلًا بباطل، ولا يحملهم شنآن قوم يعادونهم ويكفرونهم على أن لا يعدلوا فيهم، بل يقولون فيهم الحق، ويحكمون في مقالاتهم بالعدل.
والله تعالى أمر رسوله أن يعدل بين الطوائف، فقال: {(14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15]، فأمره سبحانه أن يدعو إلى دينه وكتابه، وأن يستقيم في نفسه كما أمره، وأن لا يتبع هوى أحد من الفرق، وأن يؤمن بالحق جميعه، لا يؤمن ببعضه دون بعض، وأن يعدل بين أرباب المقالات والديانات.
وأنت إذا تأملت هذه الآية وجدت أهل الكلام الباطل وأهل الأهواء والبدع من جميع الطوائف أبخس الناس منها حظًّا، وأقلهم منها نصيبًا، ووجدت حزب الله ورسوله وأنصار سنته هم أحق بها وأهلها، وهم في هذه المسألة وغيرها من المسائل أسعد بالحق من جميع الطوائف، فإنهم يثبتون قدرة الله على جميع الموجودات من الأعيان والأفعال، ومشيئته العامة، وينزّهونه أن يكون في ملكه ما لا يقدر عليه، ولا هو واقعٌ تحت مشيئته، ويثبتون القدر السابق، وأن العباد يعملون على ما قدره الله وقضاه وفرغ منه، وأنه لا يشاؤون إلا أن يشاء الله لهم، ولا يفعلون إلا من بعد مشيئته، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا تخصيص عندهم في هاتين القضيتين بوجه من الوجوه.
والقدر عندهم قدرة الله تعالى وعلمه ومشيئته وخلقه، فلا تتحرك ذرة فما فوقها إلا بمشيئته وعلمه وقدرته.
(1/178)
________________________________________
فهم المؤمنون بلا حول ولا قوة إلا بالله على الحقيقة إذا قالها غيرهم على المجاز؛ إذ العالم علويّه وسفليّه، وكل حي يفعل فعلًا؛ فإنه يفعله بقوة فيه على الفعل، وهو في حول، مِن تَرْك إلى فعل، ومن فعل إلى تَرْك، ومن فعل إلى فعل، وذلك كله بالله تعالى لا بالعبد.
ويؤمنون بأنه من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأنه هو الذي يجعل المسلم مسلمًا، والكافر كافرًا (1)، والمصلي مصليًا، والمتحرك متحركًا، وهو الذي يسيِّر عبده في البر والبحر، فهو المسيِّر والعبد السائر، وهو المحرِّك والعبد المتحرك، وهو المقيم والعبد القائم، وهو الهادي والعبد المهتدي، كما أنه المطعم والعبد الطاعم، وهو المحيي المميت، والعبد الذي يحيى ويموت، ويثبتون مع ذلك قدرة العبد وإرادته واختياره وفعله حقيقة لا مجازًا.
وهم متفقون على أن الفعل غير المفعول، كما حكاه عنهم البغوي وغيره، فحركاتهم واعتقاداتهم أفعال لهم حقيقة، وهي مفعولة لله سبحانه، مخلوقة له حقيقة، والذي قام بالرب عز وجل علمه وقدرته ومشيئته وتكوينه، والذي قام بهم هو فعلهم وكسبهم وحركاتهم وسكناتهم، فهم المسلمون المصلّون القائمون القاعدون حقيقة، وهو سبحانه المُقْدِر لهم على ذلك، القادر عليه، الذي شاءه منهم وخلقه لهم، فمشيئتهم (2) وفعلهم بعد مشيئته، فما يشاؤون إلا أن يشاء، وما يفعلون إلا أن يشاء.
_________
(1) "والكافر كافرًا" ساقط من "د" "م".
(2) "م": "بمشيئتهم"، "ج": "ومشيئتهم".
(1/179)
________________________________________
وإذا وازنت بين هذا المذهب وبين ما عداه من المذاهب، وجدته هو المذهب الوسط، والصراط المستقيم، ووجدت سائر المذاهب خطوطًا عن يمينه وعن شماله، فقريب منه وبعيد وبين ذلك.
وإذا أعطيت الفاتحة حقّها وجدتها من أولها إلى آخرها منادية على ذلك، دالة عليه، صريحة فيه؛ فإن كمال حمده لا يقتضي غير ذلك، وكذلك كمال ربوبيته للعالمين لا يقتضي غير ذلك، فكيف يكون الحمد كلّه لمن لا يقدر على مقدور أهل سماواته وأرضه من الملائكة والجن والإنس والطير والوحش، بل يفعلون ما لا يقدر عليه ولا يشاؤه، ويشاء ما لا يفعله كثير منهم، فيشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء، وهل يقتضي كمال حمده ذلك، وهل يقتضيه كمال ربوبيته؟
ثم قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مبطل لقول الطائفتين المنحرفتين عن قصد السبيل؛ فإنه يتضمن إثبات فعل العبد، وقيام العبادة به حقيقة، فهو العابد على الحقيقة، وأن ذلك لا يحصل له إلا بإعانة ربِّ العالمين عز وجل له، فإن لم يُعِنْه، ولم يُقْدِره، ولم يشأ له العبادة؛ لم يتمكن منها، ولم توجد منه البتَّة، فالفعل منه، والإقدار والإعانة من الربِّ عز وجل.
ثم قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] يتضمن طلب الهداية ممن هو قادر عليها، وهي بيده إن شاء أعطاها عبده، وإن شاء منعه إياها، والهداية معرفة الحق والعمل به، فمن لم يجعله الله تعالى عالمًا بالحق عاملًا به لم يكن له سبيل إلى الاهتداء، فهو سبحانه المتفرد بالهداية الموجبة للاهتداء التي لا يتخلف عنها، وهي جَعْل العبد مريدًا للهدى، محبًّا له،
(1/180)
________________________________________
مُؤْثِرًا له، عاملًا به.
فهذه الهداية ليست إلى مَلَك مقرب ولا نبي مرسل، وهي التي قال سبحانه فيها: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56]، مع قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، فهذه هداية الدعوة والتعليم والإرشاد، وهي التي هدى بها ثمود، فاستحبوا العمى عليها (1)، وهي التي قال تعالى فيها: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115]، فهداهم هدى البيان الذي تقوم به حجته عليهم، ومنعهم الهداية الموجبة للاهتداء التي لا يضل من هداه بها، فذاك عدله فيهم، وهذا حكمته، فأعطاهم ما تقوم به الحجة عليهم، ومنعهم ما ليسوا له بأهل، ولا يليق بهم.
وسنذكر في الباب الذي بعد هذا ــ إن شاء الله تعالى ــ ذكر الهدى والضلال ومراتبهما وأقسامهما؛ فإن عليه مدار مسائل القدر.
والمقصود ذكر بعض ما يدل على إثبات هذه المرتبة الرابعة من مراتب القضاء والقدر، وهي خلق الله تعالى لأفعال المكلفين، ودخولها تحت قدرته ومشيئته، كما دخلت تحت علمه وكتابه (2)، قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهْوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر: 62]، وهذا عام محفوظ لا يخرج عنه شيء من العالم: أعيانه وأفعاله وحركاته وسكناته، وليس مخصوصًا بذاته وصفاته؛ فإنه الخالق بذاته وصفاته، وما سواه مخلوق له.
_________
(1) "د": "على الهدى" سبق قلم، وكتبها في "ج" كذلك، ثم ضرب عليها وكتب المثبت.
(2) "م": "وكتابته".
(1/181)
________________________________________
واللفظ قد فرق بين الخالق والمخلوق، وصفاته سبحانه داخلة في مسمى اسمه؛ فإن الله سبحانه اسم للإله الموصوف بكل صفة كمال، المنزَّه عن كل صفة نقص ومثال.
والعالَم قسمان: أعيان وأفعال، فهو الخالق لأعيانه وما يصدر عنها من الأفعال، كما أنه العالم بتفاصيل ذلك، فلا يخرج شيء منه عن علمه، ولا عن قدرته، ولا عن خلقه ومشيئته.
قالت القدرية: نحن نقول: إن الله خالق أفعال العباد، لا على معنى أنه محدثها ومخترعها، لكن على معنى أنّه مقدّرها؛ فإن الخلق: التقدير، كما قال تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]، وقال الشاعر:
ولأنت تَفْري ما خلقتَ وبعـ ... ـضُ القوم يخلق ثم لا يَفْري (1)
أي أنت تمضي ما قدّرته، وتنفذه بعزمك وقدرتك، وبعض القوم يقدّر ثم لا قوة له ولا عزيمة على إنفاذ ما قدّره وأمضاه.
فالله تعالى مقدّر أفعال العباد وهم الذين أوجدوها وأحدثوها.
قال أهل السنة: قدماؤكم ينكرون تقدير الله سبحانه وتعالى لأعمال العباد البتة، فلا يمكنهم أن يجيبوا بذلك، ومن اعترف منكم بالتقدير فهو تقدير لا يرجع إلى تأثير، وإنما هو مجرد العلم بها والخبر عنها، وليس التقدير عندكم جعلها على قدر (2) كذا وكذا، وصفة كذا وكذا؛ فإن هذا عندكم غير مقدور للربِّ ولا مصنوع له، وإنما هو صنع العبد وإحداثه،
_________
(1) البيت لزهير بن أبي سلمى، "شعر زهير" صنعة الشنتمري (119).
(2) "د": "تقدير".
(1/182)
________________________________________
فرجع التقدير إلى مجرد العلم والخبر، وهذا لا يسمى خلقًا في لغة أمة من الأمم، ولو كان هذا خلقًا لكان من علم شيئًا وعلم أسماءه وصفاته وأخبر عنه بذلك= خالقًا له.
فالتقدير الذي أثبتموه إن كان متضمنًا للتأثير في إيجاد الفعل فهو خلاف مذهبكم، وإن لم يتضمن تأثيرًا في إيجاده فهو راجع إلى محض العلم والخبر.
قالت القدرية: قوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62]، من العام المراد به الخاص، ولاسيما فإنكم قلتم: إن القرآن لم يدخل في هذا العموم، وهو من أعظم الأشياء وأجلّها، فخصصنا منه أفعال العباد بالأدلة الدالة على كونها فعلهم وصنعهم.
قال أهل السنة: القرآن كلام الله سبحانه، وكلامه صفة من صفاته، وصفات الخالق وذاته لم تدخل في المخلوق؛ فإن الخالق غير المخلوق، فليس ههنا تخصيصًا (1) البتة، بل الله سبحانه بذاته وصفاته الخالق، وكل ما عداه مخلوق، وذلك عموم لا تخصيص فيه بوجه؛ إذ ليس إلا الخالق والمخلوق، والله وحده الخالق، وما سواه كله مخلوق.
وأما الأدلة الدالة على أن أفعال العباد صنع لهم، وأنها أفعالهم القائمة بهم، وأنهم هم الذين فعلوها؛ فكلها حق نقول بموجبها، ولكن لا ينبغي أن تكون أفعالًا لهم ومخلوقة مفعولة لله تعالى؛ فإن الفعل غير المفعول، ولا نقول: إنها فعل لله، والعبد مضطر مجبورٌ عليها، ولا نقول: إنها فعل للعبد،
_________
(1) كذا في الأصول بالنصب: "تخصيصًا"، والجادة الرفع.
(1/183)
________________________________________
والله غير قادر عليها، ولا جاعل العبد (1) فاعلًا لها (2)، ولا نقول: إنها مخلوقة بين خالقين مستقلين بالإيجاد والتأثير، وكل هذه أقوال باطلة.
قالت القدرية: معنى قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} مما لا يقدر عليه غيره، وأما الأفعال التي يقدر عليها العباد فإضافتها إليهم تنفي إضافتها إليه، وإلا لزم وقوع مفعول بين فاعلَيْن، وهو محال.
قال أهل السنة: إضافتها إليهم فعلًا وكسبًا لا ينفي إضافتها إليه سبحانه خلقًا ومشيئة، فهو سبحانه الذي شاءها وخلقها، وهم الذين فعلوها وكسبوها حقيقة، فلو لم تكن مضافة إلى مشيئته وقدرته وخلقه لاستحال وقوعها منهم؛ إذ العباد أعجز وأقل من أن يفعلوا ما لم يشأه الله، ولم يقدر عليه، ولا خلقه.
فصل
ومما يدل على قدرته سبحانه على أفعالهم قوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحشر: 6]، واعتراض القدرية على الاستدلال بذلك، والجواب عنه نظير الاعتراض على قوله: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وجوابه.
ونزيده تقريرًا: إن أفعالهم أشياء ممكنة، والله تعالى قادر على كل ممكن، فهو الذي جعلهم فاعلين بقدرته ومشيئته، ولو شاء لحال بينهم وبين الفعل، مع سلامة آلة الفعل منهم، كما قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ
_________
(1) "م" "ج": "للعبد" خطأ.
(2) من قوله: "ولا نقول إنها فعل للعبد" إلى هنا ساقط من "د".
(1/184)
________________________________________
الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253]، وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 112]، وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99]، فهو سبحانه يحول بين المرء وقلبه، وبين اللسان ونطقه، وبين اليد وبطشها، وبين الرجل ومشيها، فكيف يُظن به ظنَّ السوء، ويُجعل له مَثَل السوء: أنه لا يقدر على ما يقدر عليه عباده، ولا تدخل أفعالهم تحت قدرته؟! تعالى الله عما يقول الجاهلون به والجاحدون لقدرته علوًّا كبيرًا.
نعم، ولا نظن به ظن السوء، ونجعل له مَثَل السوء: أنه يعاقب عباده على ما لم يفعلوه، ولا قدرة لهم على فعله، بل على ما فعله هو دونهم، واضطرهم إليه، وجبرهم عليه، وذلك بمنزلة عقوبة الزَّمِن إذا لم يطر إلى السماء، وعقوبة أَشلّ اليدين على ترك الكتابة، وعقوبة الأخرس على ترك الكلام.
فتعالى الله عن هذين المذهبين الباطلين المنحرفين عن سواء السبيل.
فصل
ومن الدليل على خلق أعمال العباد قوله سبحانه: {(80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} [النحل: 81]، فأخبر أنه هو الذي جعل السرابيل، وهي الدروع والثياب المصنوعة، ومادتها لا تسمى سرابيل، ولا تسمى بذلك إلا بعد أن تحلها صنعة الآدميين وعملهم، فإذا كانت
(1/185)
________________________________________
مجعولة لله فهي مخلوقة له بجملتها: صورتها ومادتها وهيئاتها.
ونظير هذا قوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعَنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} [النحل: 80]، فأخبر سبحانه أن البيوت المصنوعة المستقرة والمنتقلة مجعولة له، وهي إنما صارت بيوتًا بالصنعة الآدمية.
ونظيره قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [يس: 41 - 42]، فأخبر سبحانه أنه خالق الفلك المصنوع للعباد، وأبعد مَن قال: إنّ المراد بمثله هو الإبل؛ فإنه إخراج للمماثل حقيقة، واعتبار لما هو بعيد عن المماثلة.
ونظير ذلك قوله تعالى حكاية عن خليله أنه قال لقومه: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 95 - 96]، فإن كانت "ما" مصدرية ــ كما قدره بعضهم ــ فالاستدلال ظاهر وليس بقوي؛ إذ لا تناسب بين إنكاره عليهم عبادة ما ينحتونه بأيديهم وبين إخبارهم بأن الله خلق أعمالهم من عبادة تلك الآلهة ونحتها وغير ذلك، فالأولى أن تكون "ما" موصولة، أي: والله خلقكم وخلق آلهتكم التي عملتموها بأيديكم، فهي مخلوقة له، لا آلهة شركاء معه، فأخبر أنه خلق معمولهم وقد حَلّه عملهم وصنعهم، ولا يقال: المراد مادته؛ فإن مادته غير معمولة لهم، وإنما يصير معمولًا بعد عملهم.
فصل
وقد أخبر سبحانه أنه هو الذي جعل أئمة الخير يدعون إلى الهدى،
(1/186)
________________________________________
وأئمة الشر يدعون إلى النار، فتلك الإمامة والدعوة بجعله، فهي مجعولة له وفعل لهم، قال تعالى عن آل فرعون: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص: 41]، وقال عن أئمة الهدى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئمَّةٌ يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء: 73]، فأخبر أن هذا وهذا بجعله مع كونه كسبًا وفعلًا للأئمة.
ونظير ذلك قول الخليل عليه السلام: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة: 128]، فأخبر الخليل أن الله سبحانه هو الذي يجعل المسلم مسلمًا، وعند القدرية هو الذي جعل نفسه مسلمًا، لا أن الله جعله مسلمًا (1)، ولا جعله إمامًا يهدي بأمره، ولا جعل الآخر إمامًا يدعو إلى النار على الحقيقة، بل هم الجاعلون لأنفسهم كذلك حقيقة، ونسبة هذا الجعل إلى الله مجاز بمعنى التسمية، أي: سمِّنا مسلمين لك، وكذلك {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئمَّةٌ} أي: سميناهم كذلك، وهم جعلوا أنفسهم أئمة رشد وضلال، فمنهم الحقيقة، ومنه تعالى المجاز والتعبير.
فصل
ومن ذلك إخباره سبحانه بأنه هو الذي يُلْهِمُ العبد فجوره وتقواه، والإلهام: الإلقاء في القلب، لا مجرد البيان والتعليم، كما قاله طائفة من المفسرين؛ إذ لا يقال لمن بيّن لغيره شيئًا وعلّمه إيّاه: إنه قد ألهمه ذلك. هذا لا يُعرف في اللغة البتّة، بل الصواب ما قاله ابن زيد، قال: "جعل فيها فجورها وتقواها" (2).
_________
(1) من قوله: "وعند القدرية" إلى هنا ساقط من "م".
(2) أسنده الطبري (24/ 442)، وانظر: "البسيط" (24/ 55).
(1/187)
________________________________________
وعليه دل حديث عمران بن حصين أن رجلًا من مزينة أو من جهينة أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، أرأيت ما يعمل الناس فيه ويتكادحون، أشيءٌ قُضِيَ عليهم ومضى عليهم من قدر سبق، أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم؟ قال: "بل شيء قُضِيَ عليهم ومضى"، قال: ففيم العمل؟ قال: "من خلقه الله لإحدى المنزلتين استعمله بعمل أهلها، وتصديق ذلك في كتاب الله {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7 - 8] " (1).
فقراءة هذه الآية عقيب إخباره بتقدم القضاء والقدر السابق يدل على أن المراد بالإلهام استعمالها فيما سبق لها، لا مجرد تعريفها؛ فإن التعريف والبيان لا يستلزم وقوع ما سبق به (2) القضاء والقدر.
ومن فَسَّرَ الآية من السلف بالتعليم والتعريف فمراده: تعريف مستلزم لحصول ذلك، لا تعريف مجرد عن الحصول، فإنه لا يُسمّى إلهامًا، والله أعلم.
فصل
ومن ذلك قوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 13 - 14]، وذات الصدور كلمة جامعة لما يشتمل عليه الصدر من الاعتقادات والإرادات والحب والبغض، أي: صاحبة الصدور، فإنها لما كانت فيها قائمة بها، نُسِبت إليها نسبة الصحبة والملازمة.
_________
(1) تقدم تخريجه في (27).
(2) "د": "من".
(1/188)
________________________________________
وقد اختُلِف في إعراب {مَنْ خَلَقَ} هل هو الرفع أو النصب؟
فإن كان مرفوعًا فهو استدلال على علمه بذلك بخلقه له، والتقدير: إنه يعلم ما تضمنته الصدور، وكيف لا يعلم الخالق ما خلقه. وهذا الاستدلال في غاية الظهور والصحة؛ فإن الخلق يستلزم حياة الخالق وقدرته وعلمه ومشيئته.
وإن كان منصوبًا فالمعنى: ألا يعلم مخلوقه، وذكر لفظة "مَنْ" تغليبًا؛ ليتناول العَلَم العاقل وصفاته.
وعلى التقديرين؛ فالآية دالةٌ على خلق ما في الصدور، كما هي دالة على علمه سبحانه به.
وأيضًا فإنه سبحانه خَلْقه لما في الصدور دليلًا (1) على علمه بها، فقال: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} أي: كيف يخفى عليه ما في الصدور وهو الذي خَلَقه، فلو كان ذلك غير مخلوق له بطل الاستدلال به على العلم، فخَلْقه سبحانه للشيء من أعظم الأدلة على علمه به، فإذا انتفى الخلق انتفى دليل العلم، فلم يبق معكم ما يدل على علمه بما تنطوي عليه الصدور إذا كان غير خالق لذلك.
وهذا من أعظم الكفر برب العالمين، وجَحْد لما اتفقت عليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، وعُلِم بالضرورة أنهم ألقوه إلى الأمم كما ألقوا إليهم أنه إله واحد لا شريك له.
_________
(1) كذا في الأصول بالنصب، والأشبه بالسياق الرفع، وفي الجملة شيء.
(1/189)
________________________________________
فصل
ومن ذلك قوله تعالى حكاية عن خليله إبراهيم أنه قال: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 40]، وقوله: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37]، وقوله تعالى: {فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} [الحديد: 27]، وقوله تعالى حكاية عن زكريا أنه قال عن ولده: {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم: 6] أي: مرضيًا.
وقال في الطرف الآخر: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة: 13]، وقال: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الأنعام: 25]، وهذه الأكنّة والوقر هي شدة البغض والنفرة والإعراض التي لا يستطيعون معها سمعًا ولا عقلًا.
والتحقيق أن هذا ناشئ عن الأكنّة والوقر، فهو موجَب ذلك ومقتضاه، فمن فسَّر الأكنة والوقر به فقد فسَّرهما بموجَبهما ومقتضاهما.
وبكل حال فتلك النفرة والإعراض والبغض من أفعالهم، وهي مجعولة لله سبحانه، كما أن الرأفة والرحمة وميل الأفئدة إلى بيته هو من أفعالهم، والله جاعله، فهو الجاعل للذوات وصفاتها وأفعالها وإراداتها واعتقاداتها، فذلك كله مجعول مخلوق له، وإن كان العبد فاعلًا له باختياره وإرادته.
فإن قيل: هذا كله معارَض بقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} [المائدة: 103]، والبَحِيرة والسائبة إنما صارت كذلك بجَعْل العباد لها، فأخبر سبحانه أن ذلك لم يكن بجَعْله.
(1/190)
________________________________________
قيل: لا تعارض بحمد الله بين نصوص الكتاب بوجهٍ ما، والجَعْل ههنا جَعْل شرعي أمري، لا كوني قدري؛ فإنّ الجَعْل في كتاب الله ينقسم إلى هذين النوعين، كما ينقسم إليهما الأمر والإذن والقضاء والكتابة والتحريم كما سيأتي بيانه إن شاء الله، فنفى سبحانه عن البَحِيرة والسائبة جَعْله الديني الشرعي، أي: لم يشرع ذلك ولا أمر به، ولكن الذين كفروا افتروا عليه الكذب، وجعلوا ذلك دينًا له بلا علم.
ومن ذلك قوله تعالى: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 53]، فأخبر سبحانه أن هذه الفتنة الحاصلة بما ألقى الشيطان هي بجَعْله سبحانه، وهذا جَعْل كوني قدري.
ومن هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وابن حبان في "صحيحه" (1): "اللهم اجعلني لك شكّارًا، لك ذكّارًا، لك رهّابًا، لك مِطْواعًا، لك مخبتًا، إليك أوّاهًا منيبًا"، فسأل ربه أن يجعله كذلك، وهذه كلها أفعال اختيارية واقعة بإرادة العبد واختياره.
وفي هذا الحديث: "وسدّد لساني"، فتسديد اللسان جَعْله ناطقًا بالسداد من القول.
ومثله قوله في الحديث الآخر: "اللهم اجعلني لك مخلصًا" (2).
_________
(1) "المسند" (1997)، "صحيح ابن حبان" (947)، وأخرجه أيضًا أبو داود (1511)، والترمذي (3551)، وابن ماجه (3830) من حديث عبد الله بن عباس، وقال الترمذي: "حسن صحيح".
(2) أخرجه أحمد (19293)، وأبو داود (1508)، والنسائي في "الكبرى" (9929) من حديث زيد بن أرقم، وفي إسناده داود الطفاوي: ضعيف، وأبو مسلم البجلي: لا يعرف، كما في "الميزان" (2/ 7) (4/ 573).
(1/191)
________________________________________
ومثله قوله: "اللهم اجعلني أُعْظِم شكرك، وأُكْثِر ذكرك، وأَتْبَع نصيحتك، وأحفظ وصيتك" (1).
ومثله قول المؤمنين: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} [البقرة: 250]، فالصبر وثبات الأقدام فعلان اختياريان، ولكن التصبير والتثبيت فعل الرب تعالى، وهو المسؤول، والصبر والثبات فعلهم القائم بهم حقيقة.
ومثله قوله: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} [النمل: 19]، قال ابن عباس والمفسرون بعده: ألهمني (2).
قال أبو إسحاق: "وتأويله في اللغة: كفّني عن الأشياء إلا عن شكر نعمتك" (3).
ولهذا يقال في تفسير المُوزَع أنه المُولَع، ومنه الحديث: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُوزَعًا بالسواك (4)، أي مُولَعًا به، كأنه كُفّ ومُنِع إلا منه.
_________
(1) أخرجه أحمد (8101)، والطيالسي (2676) من حديث أبي هريرة، وفي إسناده الفرج بن فضالة فيه ضعف، كما في "الميزان" (3/ 344).
(2) انظر: "جامع البيان" (18/ 28)، "تفسير ابن أبي حاتم" (9/ 2858).
(3) "معاني القرآن وإعرابه" (4/ 112).
(4) لم أقف عليه مسندًا، وإن كان متداولًا في كتب اللغة والغريب، ينظر: "العين" (2/ 207)، "الغريبين" (6/ 1995).
(1/192)
________________________________________
وقال في "الصحاح" (1): "وزَعْتُه أزَعُه وَزْعًا: كففته، فاتّزَعَ عنه، أي: كَفَّ، وأوْزَعْتُه بالشيء: أغريته به، فأوزع به، فهو مُوزَع به، أي: مُغْرى به. واستوزعت الله شكره فأوزعني، أي: استلهمته فألهمني".
فقد دار معنى اللفظة على معنى: ألهمني ذلك، واجعلني مُغْرى به، وكفّني عما سواه.
وعند القدرية أن هذا غير مقدور للرب، بل هو عَين مقدور العبد.
فصل
ومن ذلك قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7]، فتحبيبه سبحانه الإيمان إلى عباده المؤمنين هو إلقاء محبته في قلوبهم، وهذا لا يقدر عليه سواه، وأما تحبيب العبد الشيء إلى غيره فإنما هو بتزيينه وذكر أوصافه وما يدعو إلى محبته، فأخبر سبحانه أنه جعل في قلوب عباده المؤمنين الأمرين: حبّه وحُسْنه الداعي إلى حبّه، وألقى في قلوبهم كراهة ضده من الكفر والفسوق والعصيان، وأن ذلك محض فضله ومنّته عليهم، حيث لم يكلهم إلى أنفسهم، بل تولى هو سبحانه هذا التحبيب والتزيين، وتكريه ضده، فجاد عليهم به فضلًا منه ونعمة، والله عليم بمواقع فضله، ومن يصلح له ومن لا يصلح، حكيم بجعله في مواضعه.
ومن ذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ
_________
(1) (3/ 1297).
(1/193)
________________________________________
إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 62 - 63]، وقال: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]، وتأليف القلوب جعل بعضها يألف بعضًا، ويميل إليه ويحبه، وهو من أفعالها الاختيارية، وقد أخبر سبحانه أنه هو الذي فعل ذلك لا غيره.
ومن ذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} [المائدة: 11]، أخبر سبحانه بفعلهم وهو الهَمّ، وبفعله وهو كفّهم عما همّوا به، ولا يصح أن يقال: إنه سبحانه أَشلّ أيديهم أو أماتهم، أو أنزل عليهم عذابًا حال بينهم وبين ما هموا به، بل كفّ قُدَرهم وإراداتهم مع سلامة حواسهم وبنيتهم، وصحة آلات الفعل منهم.
وعند القدرية هذا محال، بل هم الذين يكفون أنفسهم، والقرآن صريح في إبطال قولهم.
ومثله قوله تعالى: {وَهْوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 24]، فهذا كفّ أيدي الفريقين مع سلامتها وصحتها، وهو بأن حال بينهم وبين الفعل فكفّ بعضهم عن بعض.
ومن ذلك قوله تعالى: {بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ} [النحل: 53]، والإيمان والطاعة من أجلِّ النعم، بل هما أجل النعم على الإطلاق، فهما منه سبحانه تعليمًا وإرشادًا وإلهامًا وتوفيقًا ومشيئة وخلقًا، ولا يصح أن يقال: إنهما منه أمرًا وبيانًا فقط، فإن ذلك حاصل بالنسبة إلى الكفار والعصاة، فتكون نعمته على أكفر الخلق كنعمته على أهل الإيمان والطاعة والبر منهم، إذ نعمة البيان
(1/194)
________________________________________
والإرشاد مشتركة، وهذا قول القدرية، وقد صَرَّح به كثير منهم، ولم يجعلوا لله على العبد نعمة في مشيئته له، وخَلْقه فِعْله وتوفيقه إيّاه حتى فعله، وهذا من قولهم الذي باينوا به جميع الرسل والكتب.
وطردوا ذلك حتى لم يجعلوا لله على العبد مِنّة في إعطائه الجزاء، بل قالوا: ذلك محض حقِّه الذي لا مِنّة لله عليه فيه، واحتجوا بقوله: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [فصلت: 8]، قالوا: أي: غير ممنون به عليهم، إذ هو جزاء أعمالهم وأجورها.
قالوا: والمِنّة تكدّر النعمة والعطية.
ولم يدع هؤلاء للجهل بالله موضعًا، وقاسوا مِنّته على مِنّة المخلوق، فإنهم مشبّهة في الأفعال، معطّلة في الصفات.
وليست المِنّة في الحقيقة إلا لله، فهو المانُّ بفضله، وأهل سماواته وأهل أرضه في محض مِنّته عليهم، قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17]، وقال تعالى لكليمه موسى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} [طه: 37]، وقال: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} [الصافات: 114]، وقال: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئمَّةٌ وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5].
ولما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنصار: "ألم أجدكم ضلّالًا فهداكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي؟ " قالوا: الله ورسوله أمنّ (1).
_________
(1) أخرجه البخاري (4330)، ومسلم (1061) من حديث عبد الله بن زيد.
(1/195)
________________________________________
وقالت الرسل لقومهم: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11].
فمِنّته سبحانه محض إحسانه وفضله ورحمته، وما طاب عيش أهل الجنة فيها إلا بمنَّته عليهم، ولهذا قال أهلها وقد أقبل بعضهم على بعض يتساءلون: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور: 26 - 27]، فأخبروا ــ لمعرفتهم بربهم وحقه عليهم ــ أن نجاتهم من عذاب السموم بمحض مِنّته عليهم.
وقد قال أعلم الخلق بالله، وأحبهم إليه، وأقربهم منه، وأطوعهم له: "لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله". قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمّدني الله برحمة منه وفضل".
وقال: "إن الله لو عذَّب أهل سماواته وأرضه لعذّبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيرًا من أعمالهم"، والأول في "الصحيح" (1)، والثاني في "المسند" و"السنن"، وصححه الحاكم وغيره (2).
فأخبر سيد العالمين والعاملين أنه لا يدخل الجنة بعمله.
وقالت القدرية: إنهم يدخلونها بأعمالهم؛ لئلا يتكدر نعيمهم عليهم بمِنّة الله، بل يكون ذلك النعيم عوضًا.
_________
(1) أخرجه البخاري (6463)، ومسلم (2816) من حديث أبي هريرة.
(2) أخرجه أحمد (21589)، وأبو داود (4699)، وابن ماجه (77) من حديث أبي بن كعب، وصححه ابن حبان (727)، ولم أعثر عليه في "المستدرك"، ولم أجد من عزاه إليه من المخرّجين، والله أعلم.
(1/196)
________________________________________
وما رمى السلفُ ــ من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم ــ القدريةَ عن قوسٍ واحدة إلا لعظم بدعتهم، ومنافاتها لما بعث الله به أنبياءه ورسله.
فلو أتى العباد بكل طاعة، وكانت أنفاسهم كلها طاعات لله؛ لكانوا في محض مِنّته وفضله، وكانت له المِنّة عليهم، وكلما عظمت طاعة العبد كانت مِنّة الله عليه أعظم، فهو المانّ بفضله، فمن أنكر مِنّته فقد أنكر إحسانه.
وأما قوله تعالى: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [فصلت: 8]، فلم يختلف أهل العلم بالله ورسوله وكتابه أن معناه: غير مقطوع، ومنه: {رَيْبَ الْمَنُونِ}، وهو الموت؛ لأنه يقطع العمر.
فصل
ومن ذلك قوله تعالى: {فَأَغْرَيْنَا (1) بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة: 14]، وقوله: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة: 64]، وهذا الإغراء والإلقاء محض فعله سبحانه، والتعادي والتباغض أثره، وهو محض فعلهم.
وأصل ضلال القدرية والجبرية من عدم اهتدائهم إلى الفرق بين فعله سبحانه وفعل العبد، فالجبرية جعلوا التعادي والتباغض فعل الرب تعالى دون المتعادين والمتباغضين، والقدرية جعلوا ذلك محض فعلهم الذي لا صنع لله فيه ولا قدرة ولا مشيئة، وأهل الصراط السويّ جعلوا ذلك فعلهم، وهو أثر فعل الله وقدرته ومشيئته.
_________
(1) في جميع الأصول: (وأغرينا).
(1/197)
________________________________________
كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس: 22]، فالتسيير فعله، والسير فعل العباد، وهو أثر التسيير، وكذلك الهدى والإضلال فعله، والاهتداء والضلال أثر فعله، وهما أفعالنا القائمة بنا، فهو الهادي، والعبد المهتدي، وهو الذي يضل من يشاء، والعبد ضال، وهذا حقيقة وهذا حقيقة.
فالطائفتان عن الصراط المستقيم ناكبتان.
فصل
ومن ذلك قوله تعالى عن خليله إبراهيم أنه قال: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35]، فههنا أمران: تجنيب عبادتها، واجتنابه، فسأل الخليل ربه أن يجنّبه وبنيه عبادتها؛ ليحصل منهم اجتنابها، فالاجتناب فعلهم، والتجنيب فعله، ولا سبيل إلى فعلهم إلا بعد فعله.
ونظير ذلك قول يوسف الصديق: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف: 33 - 34]، وصرف كيدهن هو صرف دواعي قلوبهن، ومكرهن بألسنتهن وأعمالهن، وتلك أفعال اختيارية، وهو سبحانه الصارف لها، فالصرف فعله، والانصراف أثر فعله، وهو فعل النسوة.
ومن ذلك قوله سبحانه لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: {(73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا} [الإسراء: 74]، فالتثبيت فعله سبحانه، والثبات فعل رسوله، فهو سبحانه المثبّت، وعبده الثابت.
(1/198)
________________________________________
ومثله قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]، فأخبر سبحانه أن تثبيت المؤمنين، وإضلال الظالمين فعله، فإنه يفعل ما يشاء (1)، وأما الثبات والضلال فمحض أفعالهم.
ومن ذلك قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 13]، فأخبر أنه هو الذي قسّى قلوبهم حتى صارت قاسية، فالقساوة وصفها وفعلها، وهي أثر فعله، وهو جعلها قاسية، وذلك أثر معاصيهم ونقضهم ميثاقهم، وتركهم بعض ما ذكّروا به، فالآية مبطلة لقول القدرية والجبرية.
فصل
ومن ذلك قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الشعراء: 57 - 58]، وهم إنما خرجوا باختيارهم، وقد أخبر أنه هو الذي أخرجهم، فالإخراج فعله حقيقة، والخروج فعلهم حقيقة، ولولا إخراجه لما خرجوا.
وهذا بخلاف قوله: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} [نوح: 17 - 18]، وقوله: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر: 2]، وقوله: {وَاَللَّهُ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ} [النحل: 78]، فإن هذا إخراج لا صُنْع لهم فيه؛ فإنه بغير اختيارهم وإرادتهم.
_________
(1) من قوله: "فأخبر سبحانه" إلى هنا ساقط من "م".
(1/199)
________________________________________
وأما قوله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} [الأنفال: 5]، فيحتمل أن يكون إخراجًا بقدره ومشيئته فيكون من الأول، ويحتمل أن يكون إخراجًا بوحيه وأمره فلا يكون من هذا، فيكون الإخراج في كتاب الله ثلاثة أنواع:
أحدها: إخراج الخارج باختياره ومشيئته.
والثاني: إخراجه قهرًا وكرهًا.
والثالث: إخراجه أمرًا وشرعًا.
فصل
وقد ظن طائفة من الناس أن من هذا الباب قوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]، وجعلوا ذلك من أدلتهم على القدرية، ولم يفهموا مراد الآية، وليست من هذا الباب؛ فإن هذا خطاب لهم في وقعة بدر، حيث أنزل الله سبحانه ملائكته فقتلوا أعداءه، فلم ينفرد المسلمون بقتلهم، بل قتلتهم الملائكة.
وأما رمية النبي - صلى الله عليه وسلم - فمقدوره كان هو الحَذْف والإلقاء، وأما إيصال ما رمى به إلى وجوه العدو مع البعد، وإيصال ذلك إلى وجوه جميعهم؛ فلم يكن من فعله، ولكنه فعل الله وحده، فالرمي يُراد به الحَذْف والإيصال، فأثبت له الحَذْف بقوله: {إِذْ رَمَيْتَ}، ونفى عنه الإيصال بقوله: {وَمَا رَمَيْتَ}.
فصل
ومن ذلك قوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم: 43]، والضحك والبكاء فعلان اختياريان للعبد، فهو سبحانه المضحك المبكي حقيقة،
(1/200)
________________________________________
والعبد هو الضاحك الباكي حقيقة، وتأويل الآية بخلاف ذلك إخراج للكلام عن ظاهره بغير موجِب.
ولا منافاة بين ما يُذكر من تلك التأويلات وبين ظاهره؛ فإن إضحاك الأرض بالنبات، وإبكاء السماء بالمطر، وإضحاك العبد وإبكاءه بخلق آلات الضحك والبكاء له= لا ينافي حقيقة اللفظ وموضوعه ومعناه، من أنه جاعل الضحك والبكاء فيه، بل الجميع حق.
فصل
ومن ذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الرعد: 12]، ورؤية البرق أمر واقع باختيارهم، فالإراءة فعله، والرؤية فعلنا، ولا يُقال: إراءة البرق خَلْقه؛ فإنّ خَلْقه لا يُسمّى إراءة، ولا يستلزم رؤيتنا له، بل إراءتنا له جَعْلنا نراه، وذلك فعله سبحانه.
ومن ذلك قول الخضر لموسى: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا} [الكهف: 82]، فبلوغ الأشُدّ ليس من فعلهما، واستخراج الكنز من أفعالهما الاختيارية، وقد أخبر أن كليهما بإرادته سبحانه.
ومن ذلك قوله تعالى عن السحرة: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102]، وليس إذنه ههنا أمره وشرعه، بل قضاؤه وقدره ومشيئته، فهو إذن كوني قدري، لا ديني أمري.
فصل
ومن ذلك قوله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح: 26]، وكلمة التقوى هي الكلمة التي يُتّقى الله بها، وأعلى أنواع هذه
(1/201)
________________________________________
الكلمة هي قول: لا إله إلا الله، ثم كل كلمة يُتّقى الله بها بعدها فهي من كلمة التقوى، وقد أخبر سبحانه أنه ألزمها عباده المؤمنين، فجعلها لازمة لهم لا ينفكون عنها، فبإلزامه التزموها، ولولا إلزامه لهم إيّاها لما التزموها، والتزامها فعل اختياري تابع لإرادتهم واختيارهم، فهو المُلزِم وهم الملتزمون.
فصل
ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 19 - 21]، وهذا تفسير الهلوع، والهَلَع شدة الحرص الذي يترتب عليه الجزع والمنع، فأخبر سبحانه أنه خلق الإنسان كذلك، وذلك صريح في أن هَلَعه مخلوق لله، كما أن ذاته مخلوقة، فالإنسان بجملته ذاته وصفاته وأفعاله وأخلاقه مخلوق لله، ليس فيه شيء خَلْق لله وشيء خَلْق لغيره، بل الله خالق الإنسان بجملته وأحواله كلها، فالهَلَع فعله حقيقة، والله خالق ذلك فيه حقيقة، فليس الله سبحانه بهلوع، ولا العبد هو الخالق لذلك.
فصل
ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [يونس: 100]، وإذنه ههنا قضاؤه وقدره، لا مجرد أمره وشرعه، كذلك قال السلف في تفسير هذه الآية.
قال ابن المبارك، عن الثوري: "بقضاء الله" (1).
_________
(1) أسنده الطبري (12/ 300).
(1/202)
________________________________________
وقال محمد بن جرير: "يقول جل ذكره لنبيه: وما كان لنفس خلقتُها من سبيل إلى أن تصدقك إلا بأن آذن لها في ذلك، فلا تُجْهِدنّ نفسك في طلب هداها، وبلِّغها وعيد الله، ثم خلِّها، فإن هداها بيد خالقها" (1).
وما قبل الآية وما بعدها لا يدل إلا على ذلك، فإنه سبحانه قال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [يونس: 99 - 100]، أي: لا تكفي دعوتك في حصول الإيمان حتى يأذن الله لمن دعوته أن يؤمن، ثم قال: {قُلُ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101].
قال ابن جرير: "يقول تعالى: يا محمد، قل لهؤلاء المشركين السائليك الآيات على صحة ما تدعو إليه من توحيد الله وخلع الأنداد والأوثان: انظروا ــ أيها القوم ــ ماذا في السماوات من الآيات الدالة على حقيقة ما أدعوكم إليه من توحيد الله، من شمسها وقمرها، واختلاف ليلها ونهارها، ونزول الغيث بأرزاق العباد من سحابها، وفي الأرض من جبالها، وتصدّعها بنباتها وأقوات أهلها، وسائر صنوف عجائبها، فإن في ذلك لكم ــ إن عقلتم وتدبّرتم ــ عِظة ومعتبَرًا، ودلالة أن ذلك من فعل من لا يجوز أن يكون له في ملكه شريك، ولا له على حفظه وتدبيره ظهير يغنيكم عما سواها من الآيات. وما يغني ذلك عن قوم قد سبق لهم من الله الشقاء، وقُضي عليهم في أم الكتاب أنهم من أهل النار، فهم لا يؤمنون بشيء من ذلك، ولا يصدقون به، ولو جاءتهم
_________
(1) "جامع البيان" (12/ 299).
(1/203)
________________________________________
كل آية حتى يروا العذاب الأليم" (1).
فصل
ومن ذلك قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} [الإسراء: 13]، قال ابن جرير: "وكل إنسان ألزمناه ما قُضِيَ له أنه عامله، وما هو صائر إليه من شقاء أو سعادة بعمله في عنقه لا يفارقه" (2)، وهذا يجمع ما قاله الناس في الآية، وهو ما طار له من الشقاء والسعادة، وما طار عنه من العمل.
ثم ذكر عن ابن عباس قال: "طائره: عمله وما قُدِّر عليه، فهو ملازمه أينما كان، وزائل معه أينما زال".
وكذلك قال ابن جريج وقتادة ومجاهد: "هو عمله"، زاد مجاهد: "وما كتب الله له"، وقال قتادة أيضًا: "سعادته وشقاوته بعمله" (3).
قال ابن جرير: "فإن قال قائل: فكيف قال: {أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} إن كان الأمر على ما وصفت، ولم يقل: في يديه، أو رجليه، أو غير ذلك من أعضاء الجسد؟
قيل: لأن العنق هي موضع السِّمَات، وموضع القلائد والأطوقة، وغير ذلك مما يزين أو يشين، فجرى كلام العرب بنسبة الأشياء اللازمة لبني آدم وغيرهم إلى أعناقهم، وكثر استعمالهم ذلك حتى أضافوا الأشياء اللازمة
_________
(1) "جامع البيان" (12/ 300 - 301) باختصار.
(2) "جامع البيان" (14/ 518).
(3) أسند هذه الآثار في "جامع البيان" (14/ 520).
(1/204)
________________________________________
سائر الأبدان إلى الأعناق، كما أضافوا جنايات أعضاء الأبدان إلى اليد، فقالوا: ذلك بما كسبت يداه، وإن كان الذي جرَّ عليه لسانه أو فرجه، فكذلك قوله: {أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} " (1).
وقال الفراء: "الطائر معناه عندهم: العمل" (2).
قال الأزهري: "والأصل في هذا: أنَّ الله سبحانه لما خلق آدم علم المطيعَ من ذريته والعاصي، فكتب ما علمه منهم أجمعين، وقضى بسعادة من علمه مطيعًا، وشقاوة من علمه عاصيًا، فطار لكل ما هو صائر إليه عند خلقه وإنشائه" (3).
وأما قوله: "في عنقه" فقال أبو إسحاق: "إنّما يقال للشيء اللازم: هذا في عنق فلان، أي: لزومه له كلزوم القلادة من بين ما يلبس في العنق" (4).
قال أبو علي: "هذا مثل قولهم: طوّقْتُك كذا، وقلّدْتُك كذا، أي: صرفته نحوك وألزمتك إيّاه، ومنه: قلّده السلطان كذا، أي: صارت الولاية في لزومها له في موضع القلادة، ومكان الطوق" (5).
وقيل: إنما خص العنق؛ لأن عمله لا يخلو إما أن يكون خيرًا أو شرًّا،
_________
(1) "جامع البيان" (14/ 521).
(2) "معاني القرآن" (2/ 118) بمعناه.
(3) "تهذيب اللغة" (14/ 11) باختصار.
(4) "معاني القرآن وإعرابه" (3/ 230) بتصرف.
(5) "الحجة للقراء السبعة" (5/ 89).
(1/205)
________________________________________
وذلك مما يزين أو يشين، كالحُلي والغُلّ، فأضيف إلى الأعناق (1).
قالت القدرية: إلزامه ذلك: وسْمُه به وتعليمه بعلامة تُعرّف الملائكة أنه سعيد أو شقي، والخبر عنه بذلك، لا أنه ألزمه العمل فجعله لازمًا له.
قال أهل السنة: هذه طريقة لكم معروفة في تحريف الكلم عن مواضعه، سلكتموها في الختم والطبع والقفل، وهذا لا يعرفه أهل اللغة، وهو خلاف حقيقة اللفظ، وما فسّره به أعلم الأمة بالقرآن، ولا يُعرف ما قلتموه عن أحد من سلف الأمة البتَّة، ولا فَسَّر الآية به غيركم، ولا يصح حمل الآية عليه؛ فإن الخبر عنه بذلك، والعلامة التي أعلم بها؛ إنما حصل بعد طائره اللازم له من عمله، فلما لزمه ذلك الطائر ولم ينفك عنه أخبر عنه بذلك، وصارت عليه علامته وسمته.
ونحن قد أريناكم أقوال أئمة الهدى وسلف الأمة في الطائر، فأرونا قولكم عن واحد منهم قاله قبلكم.
وكل طائفة من أهل البدع تجرّ القرآن إلى بدعتها وضلالتها، وتفسّره بمذاهبها وآرائها، والقرآن بريء من ذلك، وبالله التوفيق.
فصل
ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ} [الحجر: 11 - 13]، وقد وقع هذا المعنى في القرآن في موضعين: هذا أحدهما، والثاني في سورة الشعراء في
_________
(1) من جملة: "وقال الفراء" إلى هنا مقتبس من "البسيط" للواحدي (13/ 277 - 279).
(1/206)
________________________________________
قوله: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [الشعراء: 198 - 201]، قال ابن عباس: "سلك الشرك في قلوب المكذبين، كما سلك الخرزة في الخيط" (1).
وقال أبو إسحاق: "أي: كما فعل بالمجرمين الذين استهزؤوا بمن تقدم من الرسل، كذلك سلك الضلال في قلوب المجرمين" (2).
واختلفوا في مفسّر الضمير في قوله: {نَسْلُكُهُ}، فقال ابن عباس: "سلكنا الشرك". وهو قول الحسن.
وقال الزجاج وغيره: "هو الضلال".
وقال الربيع: "يعني: الاستهزاء".
وقال الفراء: "التكذيب" (3).
وهذه الأقوال ترجع إلى شيء واحد، والتكذيب والاستهزاء والشرك كل ذلك فعلهم حقيقة، وقد أخبر أنه سبحانه هو الذي سلكه في قلوبهم.
وعندي في هذه الأقوال شيء؛ فإن الظاهر أن الضمير في قوله: {لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ} هو الضمير في قوله "سلكناه" فلا يصح أن يكون المعنى: لا يؤمنون بالشرك والتكذيب والاستهزاء.
_________
(1) نسبه إليه في "البسيط" (12/ 551).
(2) "معاني القرآن وإعرابه" (3/ 174).
(3) الفقرة مقتبسة من "البسيط" (12/ 550).
(1/207)
________________________________________
فلا تصحّ تلك الأقوال إلا باختلاف مفسّر الضميرين، والظاهر اتحاده، فالذي لا يؤمنون به هو الذي سلكه في قلوبهم وهو القرآن.
فإن قيل: فما معنى سَلْكه إيّاه في قلوبهم وهم ينكرونه؟
قيل: سَلْكه في قلوبهم بهذه الحال، أي: سلكناه غير مؤمنين به، فدخل في قلوبهم مكذَّبًا به، كما دخل في قلوب المؤمنين مصدَّقًا به، وهذا مراد من قال: إنّ الذي سَلَكه في قلوبهم هو التكذيب والضلال، ولكن فَسَّر الآية بالمعنى، فإنه إذا دخل في قلوبهم مكذبين به، فقد دخل التكذيب والضلال في قلوبهم.
فإن قيل: فما معنى إدخاله في قلوبهم وهم لا يؤمنون به؟
قيل: لتقوم عليهم بذلك حجة الله، فدخل في قلوبهم وعلموا أنه حق وكذبوا به، فلم يدخل في قلوبهم دخول مُصدَّق به مؤمن به مرضي به، وتكذيبهم به بعد دخوله في قلوبهم أعظم كفرًا من تكذيبهم به قبل أن يدخل في قلوبهم؛ فإن المكذب بالحق بعد معرفته له شر من المكذب به ولم يعرفه، فتأمله فإنه من فقه التفسير، والله الموفق للصواب.
فصل
ومن ذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم: 83]، فالإرسال ههنا إرسال كوني قدري، كإرسال الرياح، وليس بإرسال ديني شرعي، فهو إرسال تسليط، بخلاف قوله في المؤمنين: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]، فهذا السلطان المنفي عنه على المؤمنين، هو الذي أرسل به جنده على الكافرين.
قال أبو إسحاق: "ومعنى الإرسال ههنا التسليط، تقول: قد أرسلت
(1/208)
________________________________________
فلانًا على فلان إذا سلّطته عليه، كما قال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} فأعلم أن من اتبعه هو مسلَّط عليه" (1).
قلت: ويشهد له قوله تعالى: {يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ} [النحل: 100]، وقوله: {تَؤُزُّهُمْ أَزًّا}، فالأزّ في اللغة: التحريك والتهييج، ومنه يقال لغليان القدر: الأزيز؛ لتحرك الماء عند الغليان.
وفي الحديث: كان لصدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أزيز كأزيز المِرْجَل من البكاء (2).
وعبارات السلف تدور على هذا المعنى.
قال ابن عباس: "تغريهم إغراء" (3)، وفي رواية أخرى عنه: "تشْلِيهم إشلاء" (4)، وفي رواية أخرى: "تحرضهم تحريضًا"، وفي أخرى: "تزعجهم إلى المعاصي إزعاجًا"، وفي أخرى: "توقدهم إيقادًا، أي: كما يتحرك الماء بالوقود (5) تحته" (6).
_________
(1) "معاني القرآن وإعرابه" (3/ 345).
(2) أخرجه أحمد (16312)، وأبو داود (904)، والنسائي (1214) من حديث عبد الله بن الشخير، وصححه ابن خزيمة (900)، وابن حبان (753).
(3) أسنده في "جامع البيان" (15/ 627).
(4) من أشليته إذا دعوته وأغريته، انظر: "مقاييس اللغة" (شلو) (3/ 209).
(5) "د": "بالعود"، وفي "البسيط": "بالإيقاد".
(6) أورد هذه الروايات الواحدي في "البسيط" (14/ 325) منسوبة لأصحابها، وليست جميعها لابن عباس ـ كما يظهر من صنيع المؤلف ـ خلا الأول والأخير منها.
(1/209)
________________________________________
قال أبو عبيدة: "الأزيز الالتهاب والحركة، كالتهاب النار في الحطب، يقال: أُزَّ قدْرَكَ، أي: ألْهِب تحتها النار، وائْتَزَّت القدر إذا اشتد غليانها" (1)، وهذا اختيار الأخفش (2).
والتحقيق أن اللفظة تجمع المعنيين جميعًا.
قالت القدرية: معنى {أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ} خلّينا بينهم وبين الكافرين، وليس معناه التسليط.
قال أبو علي: "الإرسال يستعمل بمعنى التخلية بين المرسل وما يريد، فمعنى الآية: خلينا بين الشياطين وبين الكافرين، ولم نمنعهم منهم، ولم نعذهم، بخلاف المؤمنين الذين قيل فيهم: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} " (3).
قال الواحدي: "وإلى هذا الوجه تذهب القدرية في معنى الآية"، قال: "وليس المعنى على ما ذهبوا إليه" (4).
وقال أبو إسحاق: "والمختار أنهم أُرسلوا عليهم، وقُيِّضوا لهم بكفرهم، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهْوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36]، وقال: {لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}
_________
(1) حكاه في "تهذيب اللغة" (أزز) (13/ 281)، وفي "مجاز القرآن" (2/ 11) تفسير آخر.
(2) حكاه في "البسيط" (14/ 324)، وليس هو في نشرة "معاني القرآن" للأخفش.
(3) حكاه في "البسيط" (14/ 321).
(4) "البسيط" (14/ 322).
(1/210)
________________________________________
[فصلت: 25] وإنما معنى الآية التسليط" (1).
قلت: وهذا هو المفهوم من معنى الإرسال، كما في الحديث: "إذا أرسلتَ كلبك المُعَلَّم" (2) أي: سلَّطته، ولو خَلَّى بينه وبين الصيد من غير إرسال منه لم يُبَح صيده.
وكذلك قوله: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمِ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات: 41]، أي: سلّطناها وسخّرناها عليهم.
وكذلك قوله: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ} [الفيل: 3]، وكذلك قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً} [القمر: 31].
والتخلية بين المُرْسَل وبين ما أُرْسِل عليه من لوازم هذا المعنى، ولا يتم التسليط إلا به، فإذا أُرْسِل الشيء الذي من طبعه وشأنه أن يفعل فعلًا ولم يمنعه من فعله فهذا هو التسليط.
ثم إنّ القدرية تناقضوا في هذا القول، فإنهم إن جوَّزوا منعهم منهم وعصمتهم وإعاذتهم فقد نقضوا أصلهم؛ فإنّ مَنْع المختار من فعله الاختياري مع سلامة آلته وصحة بنيته يدل على أن فعله وتركه مقدور للربّ، وهذا عين قول أهل السنة.
وإن قالوا: لا يقدر على منعهم وعصمتهم منهم وإعاذتهم، فقد جعلوا قدرتهم ومشيئتهم بفعل ما لا يقدر الرب على المنع منه، وهذا أبطل الباطل.
_________
(1) "معاني القرآن وإعرابه" (3/ 345)، وفيه: "معنى الإرسال ههنا التسليط".
(2) أخرجه البخاري (175)، ومسلم (1929) من حديث عدي بن حاتم.
(1/211)
________________________________________
ثم قالت القدرية: معنى {تَؤُزُّهُمْ أَزًّا}: تأمرهم بالمعاصي أمرًا. وحكوا ذلك عن الضحاك.
وهذا لا يُلتفت إليه؛ إذ لا يُقال لمن أَمَر غيره بشيء: قد أزّه. ولا تساعد اللغة على ذلك، ولو كان ذلك صحيحًا لكانت تؤز المؤمنين أيضًا؛ فإنها تأمرهم بالمعاصي أكثر من أمر الكافرين؛ فإن الكافر سريع الطاعة والقبول من الشيطان، فلا يحتاج من أمره إلى ما يحتاج إليه من أمر المؤمنين، بل يأمر الكافر مرّة، ويأمر المؤمن مرات، فلو كان الأزّ الأمر لم يكن له اختصاص بالكافرين.
فصل
ومن ذلك قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس: 1 - 6]، وقوله: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 97 - 98]، وقوله: {يَعْمَلُونَ (97) فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ} [النحل: 98]، ومن المعلوم أن الإعاذة من الشيطان الرجيم ليست بإماتته، ولا تعطيل آلات كيده وشرّه، وإنّما هي بأن يَعْصم المستعيذ من أذاه له، ويحول بينه وبين فعله الاختياري به، فدلّ على أنَّ فعله مقدور له سبحانه، إن شاء سلَّطه على العبد، وإن شاء حال بينه وبينه.
وهذا على أصول القدرية باطل، فلا يثبتون حقيقة الإعاذة، وإن أثبتوا حقيقة الاستعاذة من العبد، وجعلوا الآية ردًّا على الجبرية. والجبرية أثبتوا
(1/212)
________________________________________
حقيقة الإعاذة، ولم يثبتوا حقيقة الاستعاذة من العبد، بل الاستعاذة فعل الربِّ حقيقة، كما أن الإعاذة فعله.
وقد ضَلَّت الطائفتان عن الصراط المستقيم، وأصابت كل طائفة منهما فيما أثبتته من الحق.
فصل
ومن ذلك قوله تعالى: {(126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: 127]، وقول هود عليه السلام: {وَمَا تَوْفِيقِيَ إِلَّا بِاللَّهِ} [هود: 88]، ومعلوم أن الصبر والتوفيق فعل اختياري للعبد، وقد أخبر أنه به سبحانه لا بالعبد، وهذا لا ينفي أن يكون فعلًا للعبد حقيقة، ولهذا أمر به وهو لا يأمر عبده بفعل نفسه سبحانه، وإنما يؤمر العبد بفعله هو، ومع هذا فليس فعله واقعًا به، وإنّما هو بالخالق لكل شيء، الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فالتصبير منه سبحانه وهو فعله، والصبر هو القائم بالعبد، وهو فعل العبد.
ولهذا أثنى على من سأله أن يصبِّره فقال تعالى: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 250 - 251]، ففي الآية أربعة أدلة:
أحدها: قولهم: {أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا}، والصبر فعلهم الاختياري، فسألوه لمن (1) هو بيده ومشيئته وإذنه إن شاء أعطاهموه، وإن شاء منعهموه.
_________
(1) كذا في الأصول: "فسألوه لمن"، ولم يظهر لي وجهها، فلعلها: "فسألوا من".
(1/213)
________________________________________
الثاني: قولهم: {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا}، وثبات الأقدام فعل اختياري، ولكن التثبيت فعله، والثبات فعلهم، ولا سبيل إلى فعلهم إلا بعد فعله.
الثالث: قولهم: {وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}، فسألوه النصر، وذلك بأن يقوّي عزائمهم ويشجعهم ويصبرهم ويثبتهم، ويلقي في قلوب أعدائهم الخور والخوف والرعب، فيحصل النصر.
وأيضًا فإنّ كون الإنسان منصورًا على غيره إما أن يكون بأفعال الجوارح، وهو واقع بقدرة العبد واختياره، وإما أن يكون بالحجة والبيان والعلم، وذلك أيضًا فعل العبد، وقد أخبر سبحانه أنّ النصر بجملته من عنده، وأثنى على من طلبه منه، وعند القدرية لا يدخل تحت مقدور الربّ.
الرابع: قوله: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ}، وإذنه ههنا هو الإذن الكوني القدري، أي: بمشيئته وقضائه وقدره، ليس هو الإذن الشرعي الذي هو بمعنى الأمر؛ فإن ذلك لا يستلزم الهزيمة، بخلاف إذنه الكوني وأمره الكوني، فإنّ المأمور المكوَّن (1) لا يتخلف عنه البتة.
فصل
ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الكهف: 28]، وفي الآية ردٌّ ظاهر على الطائفتين وإبطال لقولهما، فإنه سبحانه أغفل قلب العبد عن ذكره فغفل هو، فالإغفال فعل الله، والغفلة فعل العبد، ثم أخبر عن اتباعه هواه، وذلك فعل العبد حقيقة.
_________
(1) "م": "الكوني".
(1/214)
________________________________________
والقدرية تحرّف هذا النص وأمثاله بالتسمية والعلم، فيقولون: معنى أغفلنا قلبه: سميناه غافلًا أو وجدناه غافلًا، أي: علمناه كذلك، وهذا من تحريفهم، بل أغفلتُه مثل: أقمتُه وأقعدتُه وأغنيتُه وأفقرتُه، أي: جعلتُه كذلك.
وأما أفعلتُه إذا أوجدتُه كذلك، كأحمدتُه وأجبنتُه وأبخلتُه وأعجزتُه؛ فلا يقع في أفعال الله البتّة، وإنّما يقع في أفعال العاجز أن يجعل غيره جبانًا وبخيلًا وعاجزًا، فيكون معناه صادفتُه كذلك.
وهل يخطر بقلب الداعي: "اللهم أقدرني وأوزعني وألهمني" أي: سمِّني وأعلمني كذلك؟! وهل هذا إلا كذب عليه وعلى المدعو سبحانه، والعقلاء يعلمون علمًا ضروريًا أنّ الداعي إنما سأل الله أن يخلق له ذلك، ويشاءه له، ويقدره عليه، حتى القدري إذا غابت عنه بدعته وما تقلده عن أشياخه وأسلافه، وبقي وفطرته؛ لم يخطر بقلبه سوى ذلك.
وأيضًا فلا يمكن أن يكون العبد هو المُغْفِل لنفسه عن الشيء؛ فإنّ إغفاله نفسَه عنه مشروط بشعوره به، وذلك مضاد لغفلته عنه، بخلاف إغفال الربِّ تعالى له، فإنه لا يضاد علم الربّ بما يغفل عنه العبد، وبخلاف غفلة العبد، فإنها لا تكون إلا مع عدم شعوره بالمغفول عنه، وهذا ظاهر جدًّا، فثبت أن الإغفال فعل الله بعبده، والغفلة فعل العبد.
فصل
ومن ذلك قوله تعالى إخبارًا عن نبيه شعيب أنه قال لقومه: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} [الأعراف: 89]، وهذا يبطل تأويلَ القدريةِ المشيئةَ في مثل ذلك بمعنى
(1/215)
________________________________________
الأمر، فقد علمت الرسل أنه من الممتنع على الله أن يأمر بالدخول في ملة الكفر والشرك به، ولكن استثنوا بمشيئته التي يضل بها من يشاء، ويهدي من يشاء.
ثم قال شعيب: {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}، فردَّ الأمر إلى مشيئته وعلمه، فإن له سبحانه في خلقه علم محيط (1) ومشيئة نافذة وراء ما يعلمه الخلائق، فامتناعنا من العَوْد فيها هو مبلغ علومنا ومشيئتنا، ولله علم آخر ومشيئة أخرى وراء علومنا ومشيئتنا، فلذلك ردَّ الأمر إليه.
ومثله قول إبراهيم عليه السلام: {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا} [الأنعام: 80]، فأعادت الرسل ــ بكمال معرفتها بالله ــ أمورها إلى مشيئة الربّ وعلمه.
ولهذا أمر الله رسوله أن لا يقول لشيء: إنه فاعله؛ حتى يستثني بمشيئة الله؛ فإنه إن شاء فعله، وإن شاء لم يفعله. وقد تقدم تقرير هذا المعنى.
وبالجملة، فكل دليل في القرآن على التوحيد فهو دليل على القدر وخلق أعمال العباد، ولهذا كان إثبات القدر أساس التوحيد، قال ابن عباس: "الإيمان بالقدر نظام التوحيد، فمن كَذَّب بالقدر نقض تكذيبُه توحيدَه" (2).
* * * *
_________
(1) كذا في الأصول بالرفع في الكلمتين: "علم محيط"، والجادة النصب بإنّ.
(2) أخرجه عبد الله في "السنة" (925)، والفريابي في "القدر" (205) بنحوه.
(1/216)
________________________________________
الباب الرابع عشر في الهدى والضلال ومراتبهما، والمقدور منهما للخلق وغير المقدور لهم
هذا الباب (1) هو قلب أبواب القدر ومسائله؛ فإن أفضل ما يقدِّر الله لعبده وأجلّ ما يقسمه له: الهدى، وأعظم ما يبتليه به، ويقدِّره عليه: الضلال، وكل نعمة دون نعمة الهدى، وكل مصيبة دون مصيبة الضلال.
وقد اتفقت رسل الله من أولهم إلى آخرهم، وكتبه المنزّلة عليهم على أنه سبحانه يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، وأنه من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأن الهدى والإضلال بيده، لا بيد العبد، وأنّ العبد هو الضالّ أو المهتدي، فالهداية والإضلال فعله سبحانه وقدره، والاهتداء والضلال فعل العبد وكسبه.
ولابدَّ قبل الخوض في تقرير ذلك من ذكر مراتب الهدى والضلال في القرآن.
فأما مراتب الهدى فأربعة:
إحداها: الهدى العام، وهو هداية كل نفس إلى مصالح معاشها وما يقيمها، وهذا أعم مراتبه.
المرتبة الثانية: الهدى بمعنى البيان والدلالة والتعليم والدعوة إلى
_________
(1) ما عدا "ج": "المذهب".
(1/217)
________________________________________
مصالح العبد في معاده، وهذا خاص بالمكلفين، وهذه المرتبة أخصّ من المرتبة الأولى، وأعم من الثالثة.
المرتبة الثالثة: الهداية المستلزمة للاهتداء، وهي هداية التوفيق ومشيئة الله لعبده الهداية، وخلقه دواعي الهدى وإرادته والقدرة عليه للعبد، وهذه الهداية التي لا يقدر عليها إلا الله عز وجل.
المرتبة الرابعة: الهداية يوم المعاد إلى طريق الجنة والنار.
فصل
فأما المرتبة الأولى فقد قال سبحانه: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 1 - 3]، فذكر سبحانه أربعة أمور عامة: الخلق والتسوية والتقدير والهداية، وجعل التسوية من تمام الخلق، والهداية من تمام التقدير.
قال عطاء: {خَلَقَ فَسَوَّى}: "أحسن ما خلقه" (1)، وشاهده قوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} [السجدة: 7].
فإحسان خلقه يتضمن تسويته، وتناسب خلقه وأجزائه، بحيث لم يحصل بينها تفاوت يخل بالتناسب والاعتدال، فالخلق: الإيجاد، والتسوية: إتقانه وإحسان خلقه.
وقال الكلبي: "خَلَق كل ذي روح، فجمع خلقه وسواه باليدين (2)
_________
(1) نسبه إليه في "البسيط" (23/ 431).
(2) كذا في الأصول: "باليدين"، وفي مصدر النقل: "اليدين"، وهو الأشبه.
(1/218)
________________________________________
والعينين والرجلين" (1).
وقال مقاتل: "خلق لكل دابة ما يصلح لها من الخلق" (2).
وقال أبو إسحاق: "خلق الإنسان مستويًا" (3)، وهذا تمثيل، وإلا فالخلق والتسوية شامل للإنسان وغيره، قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 7]، وقال: {السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة: 29]، فالتسوية شاملةٌ لجميع مخلوقاته: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك: 3]، وما يوجد من التفاوت وعدم التسوية فهو راجع إلى عدم إعطاء التسوية للمخلوق؛ فإن التسوية أمرٌ وجودي يتعلق بالتأثير والإبداع، فما عُدِم منها فلعدم إرادة الخالق للتسوية، وذلك أمر عدمي يكفي فيه عدم الإبداع والتأثير.
فتأمل ذلك؛ فإنه يزيل عنك الإشكال في قوله: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ}، فالتفاوت حاصل بسبب عدم مشيئة التسوية، كما أنّ الجهل والصمم والعمى والخرس والبكم يكفي فيها عدم مشيئة خلقها وإيجادها، وتمام هذا يأتي ــ إن شاء الله ــ في باب دخول الشر في القضاء الإلهي عند قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "والشر ليس إليك" (4).
والمقصود أن كل مخلوق فقد سوّاه خالقه سبحانه في مرتبة خلقه، وإن
_________
(1) نسبه إليه في "البسيط" (23/ 431)، ومثله في "تفسير البغوي" (8/ 400).
(2) نسبه إليه في "البسيط" (23/ 431)، ونسبت إلى عطاء في "الكشف والبيان" (10/ 183) وغيره.
(3) "معاني القرآن وإعرابه" (5/ 315).
(4) (2/ 81).
(1/219)
________________________________________
فاتته التسوية من وجه آخر لم يُخلق له.
فصل
وأما التقدير والهداية فقال مقاتل: "قَدّر خلق الذكر والأنثى من الدواب، فهدى الذكر للأنثى كيف يأتيها" (1)، وقاله ابن عباس والكلبي (2).
وكذلك قال عطاء: "قدر من النسل ما أراد، ثم هدى الذكر للأنثى" (3).
واختار هذا القول صاحب "النظم" (4) فقال: "معنى "هدى" هداية الذكر لإتيان الأنثى كيف يأتيها؛ لأن إتيان ذُكران الحيوان لإناثه مختلف لاختلاف الصور والخلق والهيئات، فلولا أنه سبحانه جبل كل ذكر على معرفة كيف يأتي أنثى جنسه لما اهتدى لذلك" (5).
وقال مقاتل أيضًا: "هداه لمعيشته ومرعاه" (6).
وقال السدي: "قَدَّر مدة الجنين في الرحم، ثم هُدِي للخروج" (7).
_________
(1) "تفسير مقاتل" (4/ 669) بنحوه، وبنصها في "البسيط" (23/ 433).
(2) أخرج أثر ابن عباس بمعناه الطبري (16/ 79)، وأثر الكلبي بمعناه عبد الرزاق في "التفسير" (1815)، وانظر: "البسيط" (23/ 433).
(3) نسبه إليه في "البسيط" (23/ 432).
(4) "نظم القرآن" لأبي علي الحسن بن يحيى الجرجاني من علماء القرن الرابع، انظر: "تاريخ جرجان" (187).
(5) انظر: "البسيط" (23/ 433).
(6) "تفسير مقاتل" (3/ 29).
(7) نسبه إليه في "البسيط" (23/ 434).
(1/220)
________________________________________
وقال مجاهد: "هدى الإنسان لسبيل الخير والشر، والسعادة والشقاوة" (1).
وقال الفرّاء: "التقدير: فهدى وأضل، فاكتفى من ذكر أحدهما بالآخر" (2).
قلت: الآية أعمّ من هذا كله، وأضعف الأقوال فيها قول الفرّاء؛ إذ المراد ههنا الهداية العامة لمصالح الحيوان في معاشه، وليس المراد هداية الإيمان والضلال بمشيئته، وهي نظير قوله: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50]، فإعطاؤه الخلق: إيجاده في الخارج، والهداية: التعليم والدلالة على سبيل بقائه وما يحفظه ويقيمه.
وما ذكره مجاهد فهو تمثيل منه، لا تفسير مطابق للآية؛ فإن الآية شاملة لهداية الحيوان كله: ناطقه وبهيمه، طيره ودوابه، فصيحه وأعجمه.
وكذلك قول من قال: "إنه هداية الذكر لإتيان الأنثى"، تمثيل أيضًا، وهو فرد واحد من أفراد الهداية التي لا يحصيها إلا الله.
وكذلك قول من قال: "هداه للمرعى"، فإن ذلك من الهداية، فأين الهداية إلى التِقام الثدي عند خروجه من بطن أمه؟ والهداية إلى معرفته أمه دون غيرها حتى يتبعها أين ذهبت؟ والهداية إلى قصد ما ينفعه من المرعى دون ما يضره منه، وهداية الطير والوحش والدواب إلى الأفعال العجيبة التي
_________
(1) بنحوه في التفسير المنسوب إليه (722)، وأسنده الطبري (24/ 311)، وانظر: "البسيط" (23/ 433).
(2) "معاني القرآن" (3/ 256).
(1/221)
________________________________________
يعجز عنها الإنسان، كهداية النحل إلى سلوك السُّبُل التي فيها مراعيها على تباينها (1)، ثم عودها إلى بيوتها من الشجر والجبال وما يعرش بنو آدم.
وأمر النحل في هدايتها من أعجب العجب، وذلك أن لها أميرًا ومدبّرًا وهو اليَعْسوب، وهو أكبر جسمًا من جميع النحل، وأحسن لونًا وشكلًا.
وإناث النحل تلد في إقبال الربيع، وأكثر أولادها يكنّ إناثًا، وإذا وقع فيها ذكرٌ لم تدعه بينها (2)، بل إما أن تطرده، وإما أن تقتله، إلا طائفة يسيرة منها تكون حول الملك، وذلك أن الذكر منها لا يعمل شيئًا ولا يكسب.
ثم تجتمع الأمهات وفراخها عند الملك، فيخرج بها إلى المرعى من المروج والرياض والبساتين والمرابع في أقصد الطرق وأقربها، فتجتني منها كفايتها، فيرجع بها الملك، فإذا انتهوا إلى الخلايا وقف على بابها، ولم يدع ذكرًا ولا نحلة غريبة تدخلها.
فإذا تكامل دخولها دخل بعدها، وقد أخذت النحل مقاعدها وأماكنها، فيبتدئ الملك بالعمل كأنه يعلّمها إيّاه، فيأخذ النحل في العمل ويتسارع إليه، ويترك الملكُ العملَ ويجلس ناحية بحيث يشاهد النحل، فيأخذ النحل في إيجاد الشمع من لزوجات الأوراق والأنوار.
ثم تقتسم النحل فرقًا، فمنها فرقة تلزم الملك ولا تفارقه ولا تعمل ولا تكسب، وهم حاشية الملك من الذكورة.
_________
(1) "ج": "بابها"، وفي "د" دون إعجام، وطمست في "م"، والمثبت أشبه.
(2) "م": "لم تدعه يدخل بيتها".
(1/222)
________________________________________
ومنها فرقة تهيئ الشمع وتصفّيه، والشمع هو ثُفْل العسل (1)، وفيه حلاوة كحلاوة التين، وللنحل به عناية شديدة فوق عنايتها بالعسل، فينظفه النحل ويصفّيه ويخلّصه مما يخالطه من أبوالها وغيرها.
وفرقة تبني البيوت، وفرقة تسقي الماء، وتحمله على متونها، وفرقة تكنس الخلايا وتنظفها من الأوساخ والجيف والزبل.
وإذا رأت بينها نحلة مَهِينة بطّالة قطعتها وقتلتها حتى لا تفسد عليهن بقية العمال، وتعديهن ببطالتها ومهانتها.
وأول ما تبني في الخلية مقعد الملك وبيته، فتبني له بيتًا مربّعًا يشبه السرير والتخت، فيجلس عليه ويستدير حوله طائفة من النحل شبه الأمراء والخدم والخواص لا يفارقنه، ويجعل النحل بين يديه شيئًا يشبه الحوض، يصب فيه من العسل أصفى ما يقدر عليه، ويملأ منه الحوض، يكون ذلك طعامًا للملك وخواصه.
ثم يأخذن في بناء البيوت على خطوط متساوية كأنها سِكَك ومَحَال، وتبني بيوتها مسدّسة الأشكال، متساوية الأضلاع، كأنها قرأت كتاب إقليدس، حتى عرفت أوفق الأشكال لبيوتها؛ لأن المطلوب من بناء الدور هو الوثاقة والسَّعة، والشكل المسدّس ــ دون سائر الأشكال ــ إذا انضمت بعض أشكاله إلى بعض صارت شكلًا مستديرًا كاستدارة الرحى، ولا يبقى فيه فروج ولا خلل، ويشدّ بعضه بعضًا، حتى يصير طبقًا واحدًا محكمًا، لا
_________
(1) ما استقر أسفل العسل من بقايا وكدر ونحوها، انظر: "تاج العروس" (ثفل) (28/ 154).
(1/223)
________________________________________
يدخل بين بيوته رؤوس الإبر.
فتبارك الذي ألهمها أن تبني بيوتها هذا البناء المحكم، الذي يعجز البشر عن صنع مثله، فعلمت أنها محتاجة إلى أن تبني بيوتها من أشكال موصوفة بصفتين:
إحداهما (1): أن لا تكون زواياها ضيقة، حتى لا يبقى الموضع الضيق معطلًا.
الثاني (2): أن تكون تلك البيوت مشكلة بأشكال إذا انضم بعضها إلى بعض امتلأت العَرْصة (3) منها، ولا يبقى شيء منها ضائعًا.
ثم إنها علمت أن الشكل الموصوف بهاتين الصفتين هو المسدّس فقط؛ فإن المثلثات والمربعات وإن أمكن امتلاء العَرْصة منها إلا أن زواياها ضيقة، وأما سائر الأشكال وإن كانت زواياها واسعة إلا أنها لا تمتلئ العَرْصة منها، بل يبقى فيما بينها فروج خالية ضائعة، وأما المسدس فهو موصوف بهاتين الصفتين.
فهداها سبحانه إلى (4) بناء بيوتها على هذا الشكل، من غير تسطير ولا آلة ولا مثال يُحْتَذى عليه، وأصنعُ بني آدم لا يقدر على بناء البيت المسدّس إلا بالآلات الكثيرة.
_________
(1) "د": "أحدها".
(2) كذا في الأصول: "الثاني"، والوجه: "الثانية".
(3) البقعة الواسعة بين الدور الخالية من البناء، انظر: "الصحاح" (عرص) (3/ 1044).
(4) في الأصول: "على" خطأ.
(1/224)
________________________________________
فتبارك الذي هداها أن تسلك سبل مراعيها على قوتها (1)، وتأتيها ذللًا لا تستعصي عليها ولا تضل عنها، وأن تجتني أطيب ما في المرعى وألطفه، وأن تعود إلى بيوتها الخالية فتصب فيها شرابًا مختلفًا ألوانه فيه شفاء للناس، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 69].
فإذا فرغت من بناء البيوت خرجت خِمَاصًا تسيح سهلًا وجبلًا، فأكلت من الحلاوات المرتفعة على رؤوس الأزهار، وورق الأشجار، فترجع بِطَانًا، وجعل سبحانه في أفواهها حرارة منضجة تنضج ما جَنَتْه، فتفيده حلاوة ونضجًا، ثم تمجّه في البيوت، حتى إذا امتلأت ختمتها وسدت رؤوسها بالشمع المصفّى، فإذا امتلأت تلك البيوت عمدت إلى مكان آخر ــ إن صادفته ــ فاتخذت فيه بيوتًا، وفعلت كما فعلت في البيوت الأولى.
فإذا برد الهواء، وأخلف المرعى (2)، وحيل بينها وبين الكسب، لزمت بيوتها، واغتذت بما ادخرته من العسل.
وهي في أيام الكسب والسعي تخرج بكرة، وتسيح في المراتع، وتشتغل كل فرقة منها بما يخصّها من العمل، فإذا أمست رجعت إلى بيوتها.
وإذا كان وقت رجوعها وقف على باب الخلية بوّاب منها ومعه أعوان له، فكل نحلة تريد الدخول يشمها البوّاب ويتفقدها؛ فإن وجد منها رائحة منكرة، أو رأى بها لطخة من قذر منعها من الدخول، وعزلها ناحية إلى أن
_________
(1) "قوتها" من "ج"، ومثلها في "د" مهملة، وفي "م": "قربها"، وفي المعنى شيء.
(2) أخلف النبات: أخرج الخلفة، وهو الذي يخرج بعد الورق الأول في الصيف، انظر: "تاج العروس" (خلف) (23/ 272)، وفي "م": "واختلف".
(1/225)
________________________________________
يدخل الجميع، فيرجع إلى المعزولات الممنوعات من الدخول فيتفقدهنّ، ويكشف أحوالهنّ مرة ثانية، فمن وجده قد وقع على شيء مُنْتِن أو نجس قَدَّه نصفين، ومن كانت جنايته خفيفة تركه خارج الخلية، هذا دأب البوّاب كل عشية.
وأما الملك فلا يكثر الخروج من الخلية إلا نادرًا، إذا اشتهى التنزّه فيخرج ومعه أمراء النحل والخدم، فيطوف في المروج والرياض والبساتين ساعة من النهار، ثم يعود إلى مكانه.
ومن عجيب أمره أنه ربما لحقه أذى من النحل أو من صاحب الخلية أو من خدمه، فيغضب ويخرج من الخلية، ويتباعد عنها، ويتبعه جميع النحل، وتبقى الخلية خالية، فإذا رأى صاحبها ذلك، وخاف أن يأخذ النحل ويذهب بها إلى مكان آخر احتال لاسترجاعه وطلب رضاه، فيتعرف موضعه الذي صار إليه بالنحل، فيعرفه باجتماع النحل إليه، فإنها لا تفارقه، وتجتمع عليه حتى تصير عليه عنقودًا، وهو إذا خرج غضبان جلس على مكان مرتفع من الشجرة، وطافت به النحل، وانضمت إليه، حتى تصير كالكرة، فيأخذ صاحب النحل رمحًا أو قصبة طويلة، ويشدّ على رأسها حزمةً من النبات الطيب الرائحة العَطِر النظيف، ويدنيه إلى محل الملك، ويكون معه إما مِزْهَر (1) أو يَراع أو شيء من آلات الطرب، فيحركه وقد أدنى إليه ذلك الحشيش، فلا يزال كذلك إلى أن يرضى الملك، فإذا رضي وزال غضبه طَفَر
_________
(1) المِزْهَر: العود الموسيقية التي يضرب بها، ينظر: "تاج العروس" (زهر) (11/ 480)، "تكملة المعاجم" (7/ 339).
(1/226)
________________________________________
ووقع على ذلك الضِّغْث (1)، وتبعه خدمه وسائر النحل، فيحمله صاحبه إلى الخلية، فينزل ويدخلها هو وجنوده.
ولا يقع النحل على جيفة ولا حيوان ولا طعام.
ومن عجيب أمرها أنها تقتل الملوك الظلمة المفسدة، ولا تدين بطاعتها.
والنحل الصغار المجتمعة الخلق هي العَسّالة، وهي تحاول مقاتلة الطوال القليلة النفع، وإخراجها ونفيها عن الخلايا، وإذا فعلت ذلك جاد العسل، وتجتهد أن تقتل ما تريد قتله خارج الخلية؛ صيانة للخلية عن جيفته.
ومنها صنف قليلة النفع كبيرة الجسم، وبينها وبين العَسّالة حرب، فهي تقصدها وتغتالها، وتفتح عليها بيوتها، وتقصد هلاكها، والعَسَّالة شديدة التيقظ والتحفظ منها، فإذا هجمت عليها بيوتها صاولتها (2) وألجأتها إلى أبواب البيوت، فتتلطّخ بالعسل، فلا تقدر على الطيران، ولا يفلت منها إلا كل طويل العمر، فإذا انقضت الحرب، وبرد القتال عادت إلى القتلى فحملتها، وألقتها خارج الخلية.
وقد ذكرنا أن الملك لا يخرج إلا في الأحايين، وإذا خرج خرج في جموع من الفراخ والشباب، وإذا عزم على الخروج ظلّ قبل ذلك بيوم أو يومين يعلّم الفراخ، وينزلها منازلها ويرتبها، فيخرج ويخرجن معه على ترتيب ونظام قد دبّره معهن، لا يخرجن عنه.
_________
(1) طَفَر: وثَب، والضِّغْث: قبضة حشيش مختلطة الرطب باليابس، ينظر: "الصحاح" (ضغث) (1/ 258) (طفر) (2/ 726).
(2) تحرفت في الأصول إلى: "حاولتها".
(1/227)
________________________________________
وإذا تولدت عنده ذكران عرف أنهن يطلبن الملك، فيجعل كل واحد منهم على طائفة من الفراخ، ولا يقتل ملكٌ منها ملكًا آخر؛ لما في ذلك من فساد الرعية وهلاكها وتفرقها.
وإذا رأى صاحب الخلية الملوك قد كثرت في الخلية، وخاف من تفرق النحل بسببهم؛ احتال عليهم وأخذ الملوك كلها إلا واحدًا، ويحبس الباقي عنده في إناء، ويدع عندهم من العسل ما يكفيهم، حتى إذا حدث بالملك المنصوب حدث من مرض أو موت أو كان مفسدًا فقتلته النحل؛ أخذ من هؤلاء المحبوسين واحدًا، وجعله مكانه؛ لئلا يبقى النحل بلا ملك فيتشتّت أمرها.
ومن عجيب أمرها أن الملك إذا خرج متنزِّهًا ومعه الأمراء والجنود ربما لحقه إعياء فتحمله الفراخ.
وفي النحل كرام عمّال لها سعي وهمة واجتهاد، وفيها لئام كسالى قليلة النفع مؤثرة للبطالة، فالكرام دائمًا تطردها وتنفيها عن الخلية، ولا تساكنها خشية أن تعدي كرامها وتفسدها.
والنحل من أنظف الحيوان وأنقاه، ولذلك لا تلقي زِبْلها إلا وهي تطير، وتكره النتن والروائح الخبيثة.
وأبكارها وفراخها أحرص وأشد اجتهادًا من الكبار، وأقل لسعًا وأجود عسلًا، ولسعها إذا لسعت أقل ضررًا من لسع الكبار.
ولما كانت النحل من أنفع الحيوان وأبركه ـ وقد خُصَّت من وحي الربِّ تعالى وهدايته بما لم يشركها فيه غيرها ـ وكان الخارج من بطونها مادة الشفاء من الأسقام والنور الذي يضيء في الظلام بمنزلة الهداة من الأنام= كانت
(1/228)
________________________________________
أكثر الحيوان أعداء، وكان أعداؤها من أقل الحيوان منفعة وبركة، وهذه سنة الله في خلقه، وهو العزيز الحكيم.
فصل (1)
وهذه النمل من أهدى الحيوانات، وهدايتها من أعجب شيء؛ فإنَّ النملة الصغيرة تخرجُ من بيتها وتطلب قوتَها وإن بَعُدت عليها الطريق، فإذا ظفرت به حملته وساقته في طرق مُعْوَجّة بعيدة، ذات صعود وهبوط، في غاية من التوعّر حتى تصل إلى بيوتها، فتخزّن فيها أقواتها في وقت الإمكان، فإذا خزنتها عمدت إلى ما ينبت منها ففلقته فلقتين لئلا ينبت، فإن كان ينبت مع فَلْقه باثنتين فلقته بأربعة، فإذا أصابه بلل وخافت عليه العفن والفساد انتظرت به يومًا ذا شمس، فخرجت به فنشرته على أبواب بيوتها، ثم أعادته إليها، ولا تتغذى منها نملة على ما جمعه غيرها.
ويكفي في هداية النمل ما حكاه الله سبحانه في القرآن عن النملة التي سمع سليمان كلامها وخطابها لأصحابها بقولها: {يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل: 18]، فاستفتحت خطابها بالنداء الذي يسمعه من خاطبته، ثم أتت بالاسم المبهم، ثم أتبعته بما بيَّنه من اسم الجنس إرادة للعموم، ثم أمرتهم بأن يدخلوا مساكنهم فيتحصنون من العسكر، ثم أخبرت عن سبب هذا الدخول، وهو خشية أن يصيبهم مَعَرّة الجيش (2)، فيحطمهم سليمان وجنوده، ثم اعتذرت عن نبي
_________
(1) سيقتبس المؤلف في هذا الفصل كثيرًا من "الحيوان" للجاحظ (4/ 5 - 36).
(2) المعرّة: الأمر القبيح المكروه والأذى، "النهاية في الغريب" (عرر) (3/ 205).
(1/229)
________________________________________
الله وجنوده بأنهم لا يشعرون بذلك، وهذا من أعجب الهداية.
وتأمل كيف عظَّم الله سبحانه شأن النمل بقوله: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل: 17]، ثم قال: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ}، فأخبر أنهم بأجمعهم مروا على ذلك الوادي، ودلَّ على أن ذلك الوادي كان معروفًا بالنمل، كوادي السِّباع ونحوه، ثم أخبر عمَّا دل على شدة فطنة هذه النملة، ودقة معرفتها، حيث أمرتهم أن يدخلوا مساكنهم المختصة بهم، فقد عرفت هي والنمل أن لكل طائفة منها مسكنًا لا يدخل عليهم فيه سواهم، ثم قالت: لا يحطمنكم سليمان، فجمعت بين اسمه وعينه، وعرَّفته بهما، وعرفت جنوده وقائدها، ثم قالت: وهم لا يشعرون، فكأنها جمعت بين الاعتذار عن مَعَرَّة الجيش بكونهم لا يشعرون، وبين لوم أمة النمل حيث لم يأخذوا حِذْرهم، ويدخلوا مساكنهم، ولذلك تبسّم نبي الله سليمان ضاحكًا من قولها، وإنه لموضع تعجّب وتبسّم.
وقد روى الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس أن رسول الله نهى عن قتل أربع: النملة، والنحلة، والهدهد، والصُّرَد (1).
وفي "الصحيح" عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "نزل نبيٌّ من الأنبياء تحت شجرة فقرصته نملة، فأمر بجهازه فأخرج، وأمر بقرية النمل فأحرقت، فأوحى الله إليه: أمن أجل أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبّح؟!
_________
(1) أخرجه عبد الرزاق (8415)، ومن طريقه أحمد (3066)، وأبو داود (5267)، وابن ماجه (3224)، وصححه ابن حبان (5646).
والصُّرَد طائر أكبر من العصفور ضخم الرأس والمنقار يصيد صغار الحشرات وربما صاد العصفور، وكانوا يتشاءمون به، انظر: "المعجم الوسيط" (1/ 512).
(1/230)
________________________________________
فهلّا نملة واحدة! " (1).
وذكر هشام بن حسان أن أهل الأحنف بن قيس لقوا من النمل شدّة، فأمر الأحنف بكرسي فوضع عند بيوتهن فجلس عليه، ثم تشهّد، ثم قال: لتنتهنّ أو لنحرقنّ عليكن ونفعل ونفعل، قال: فذهبن (2).
وروى عوف بن أبي جميلة، عن قَسَامَة بن زهير، قال: قال أبو موسى الأشعري: إن لكل شيء سادة، حتى إن للنمل سادة (3).
ومن عجيب هدايتها، أنها تعرف ربّها بأنه فوق سماواته على عرشه، كما رواه الإمام أحمد في "كتاب الزهد" (4) من حديث أبي هريرة يرفعه قال: "خرج نبي من الأنبياء بالناس يستسقون، فإذا هم بنملة رافعة قوائمها إلى السماء تدعو، مستلقية على ظهرها، فقال: ارجعوا فقد كفيتم أو سقيتم بغيركم".
ولهذا الأثر عدَّة طُرق، ورواه الطحاوي في "التهذيب" (5) وغيره.
وقال الإمام أحمد: حدثنا [وكيع، حدثنا مسعر، عن زيد العَمِّي، عن أبي
_________
(1) أخرجه البخاري (3319)، ومسلم (2241).
(2) أورده الجاحظ في "الحيوان" (4/ 18)، وأسنده من أوجه أخرى أحمد في "مسائل عبد الله" (1620)، و"الزهد" (1296).
(3) "الحيوان" (4/ 19)، وأسنده الحارث كما في "بغية الباحث" (799).
(4) لم أقف عليه في مطبوعته، وأخرجه الدارقطني في "السنن" (1797)، وأبو الشيخ في "العظمة" (5/ 1753)، من طرق لينة تشد بعضها بعضًا، وصححه الحاكم (1215).
(5) لعله يقصد "كشف مشكل الآثار" (875)، فإني لم أقف عليه في "شرح المعاني" له.
(1/231)
________________________________________
الصدّيق الناجي] (1) قال: "خرج سليمان بن داود يستسقي، فرأى نملة مستلقية على ظهرها، رافعة قوائمها إلى السماء، وهي تقول: اللهم إنّا خلق من خلقك، ليس بنا غنى عن سقياك ورزقك، فإمّا أن تسقينا وترزقنا، وإما أن تهلكنا، فقال: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم" (2).
وقد حدثني مَن أثق به أن نملة خرجت من بيتها، فصادفت شِقّ جرادة، فحاولت أن تحمله فلم تطق، فذهبت وجاءت معها بأعوان يحملنه معها، قال: فرفعْتُ ذلك من الأرض، فطافت في مكانه فلم تجده، فانصرفوا وتركوها، قال: فوضعْتُه، فعادت تحاول حمله فلم تقدر، فذهبت وجاءت بهم، فرفعْتُه، فطافت فلم تجده، فانصرفوا، قال: فعلتُ ذلك مرارًا، فلما كان في المرة الأخيرة استدار النمل حلقة، ووضعوها في وسطها، وقطعوها عضوًا عضوًا.
قال شيخنا ــ وقد حكيت له هذه الحكاية ــ: "هذه النمل فطرها الله سبحانه على قبح الكذب وعقوبة الكذاب" (3).
والنمل من أحرص الحيوان، ويُضرب بحرصه المثل.
ويُذكر أن سليمان بن داود ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ لما رأى حرص النملة، وشدَّة ادخارها للغذاء؛ استحضر نملة وسألها: كم تأكل النملة من
_________
(1) زيادة من مصدر الخبر، موضعه بياض في الأصول.
(2) "الزهد" (449)، وأخرجه ابن أبي شيبة (30101)، والجاحظ في "الحيوان" (4/ 19) واللفظ له.
(3) انظر: "مفتاح دار السعادة" (2/ 690).
(1/232)
________________________________________
الطعام كل سنة؟ قالت: ثلاث حبّات من الحنطة. فأمر بإلقائها في قارورة، وسَدَّ فم القارورة، وجعل معها ثلاث حبّات حنطة، وتركها سنة بعد ما قالت (1)، ثم أمر بفتح القارورة عند فراغ السنة، فوجد فيها حبَّة ونصف حبة، فقال: أنتِ زعمتِ أن قُوتك كل سنة ثلاث حبات! فقالت: نعم، ولقد صدقتك، ولكن لما رأيتك مشغولًا بمصالح أبناء جنسك، حَسَبْتُ الذي معي فوجدته أكثر من المدة المضروبة، فاقتصرت على نصف القوت، واستبقيت نصفه استبقاء لنفسي.
فعجب سليمان من شدة حرصها، وهذا من أعجب الهداية والفطنة.
ومن حرصها أنها تكدّ طوال الصيف، وتجمع للشتاء، علمًا منها بإعواز الطلب في الشتاء، وتعذر الكسب فيه.
وهي على ضعفها شديدة القوى؛ فإنها تحمل أضعاف أضعاف وزنها، وتجره إلى بيتها.
ومن عجيب أمرها أنك إذا أخذت عضو جرادة يابسًا فأدنيته إلى أنفك لم تشم له رائحة، فإذا وضعته على الأرض أقبلت النملة من مكان بعيد إليه فاحتملته، فإن عجزت عن حمله ذهبت وأتت معها بصف (2) من النمل يحملونه، فكيف وجدت رائحة ذلك من جوف بيتها حتى أقبلت بسرعة إليه!
فهي تدرك بالشم من البعد ما يدركه غيرها بالبصر أو بالسمع، فتأتي من مكان بعيد إلى موضعٍ أَكَلَ فيه الإنسان، وبقي فيه فتات من الخبز أو غيره،
_________
(1) "بعد ما قالت" زيادة من "د".
(2) "م": "بصنف".
(1/233)
________________________________________
فتحمله وتذهب به، وإن كان أكبر منها، فإن عجزت عن حمله، ذهبت إلى جحرها وجاءت معها بطائفة من أصحابها، فجاؤوا كخيط أسود يتبع بعضهم بعضًا، حتى يتساعدوا على حمله ونقله.
وهي تأتي إلى السنبلة فتشمها، فإن وجدتها حنطة قطعتها وفرّقتها وحملتها، وإن وجدتها شعيرًا تركتها.
فلها أولًا صدق الشم، وبُعْد الهمة، وشدة الحرص، والجرأة على محاولة نقل ما هو أضعاف أضعاف وزنها (1).
وليس للنمل قائد ورئيس يدبرها كما يكون للنحل، إلا أن لها رائدًا يطلب الرزق، فإذا وقف عليه أخبر أصحابه فيخرجن مجتمعات.
وكل نملة تجتهد في صلاح العامة منها، غير مختلسة من الحَبّ شيئًا لنفسها دون صواحباتها.
ومن عجيب أمرها أنّ الرجل إذا أراد أن يحترز من الذّر لا يسقط في عسل أو نحوه، فإنه يحفر حُفَيرة ويجعل حولها ماء، أو يتخذ إناء كبيرًا ويملؤه ماء، ثم يضع فيه ذلك الشيء، فيأتي الذّر يطيف به فلا يقدر عليه، فيتسلق في الحائط، ويمشي على السقف، إلى أن يحاذي ذلك الشيء، فتلقي نفسها عليه، وجربنا نحن ذلك.
وأحمى صانعٌ مرَّة طوقًا بالنار، ورماه على الأرض ليبرد، واتفق أن أسفل الطوق نمل، فتوجه في الجهات ليخرج فلحقه وهج النار، فلزم المركز
_________
(1) انظر: "الحيوان" (4/ 6 - 7).
(1/234)
________________________________________
ووسط الطوق وكان فيه، وكان (1) ذلك مركزًا له، وهو أبعد مكان من المحيط.
فصل
وهذا الهدهد من أهدى الحيوان وأبصره بمواضع الماء تحت الأرض حيث لا يراه غيره.
ومن هدايته ما حكاه الله سبحانه عنه في كتابه أنه قال لنبي الله سليمان، وقد فقَدَهُ وتواعده (2)، فلمَّا جاءه بَدَرَه بالعُذر قبل أن يبْدره سليمان بالعقوبة، وخاطبه خطابًا هيّجه به على الإصغاء إليه، والقبول منه، فقال: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل: 22]، وفي ضمن هذا: أنّي أتيتك بأمر قد عرفتُه حق المعرفة بحيث أحطتُ به، وهو خبر عظيم له شأن، فلذلك قال: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأَ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: 22]، والنبأ هو الخبر الذي له شأن، والنفوس متطلّعة إلى معرفته، ثم وصفه بأنه نبأ يقين لا شك فيه ولا ريب، فهذه مقدمة بين يدي إخباره لنبي الله بذلك النبأ، استفرغتْ قلب المخبر لتلقّي الخبر وقبوله، وأوجبت له التشوّف التام إلى سماعه ومعرفته، وهذا نوع من براعة الاستهلال وخطاب التهييج.
ثم كشف له عن حقيقة الخبر كشفًا مؤكدًا بأداة (3) التأكيد، فقال: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} [النمل: 23].
_________
(1) "وكان" زيادة من "م"، وفي السياق شيء.
(2) كذا في الأصول: "تواعده"، والأشبه بسياق القصة: "توعّده"؛ وقد سلف التنبيه عليه.
(3) "د": "بأدلة" تحريف.
(1/235)
________________________________________
ثم أخبر عن شأن تلك الملكة، وأنها من أجلّ الملوك، بحيث أوتيت من كل شيء يصلح أن تؤتاه الملوك، ثم زاد في تعظيم شأنها بذكر عرشها التي تجلس عليه، وأنه عرش عظيم.
ثم أخبره بما يدعوه إلى قصدهم وغزوهم في عقر دارهم بعد دعوتهم إلى الله، فقال: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [النمل: 24]، وحذف أداة العطف من هذه الجملة، وأتى بها مستقلة غير معطوفة على ما قبلها؛ إيذانًا بأنها هي المقصودة وما قبلها توطئة لها، ثم أخبر عن المُغوي لهم، الحامل لهم على ذلك، وهو تزيين الشيطان لهم أعمالهم حتى صدّهم عن السبيل المستقيم، وهو السجود لله وحده، ثم أخبر أن ذلك الصدّ حال بينهم وبين الهداية للسجود لله الذي لا ينبغي السجود إلا له.
ثم ذكر من أفعاله سبحانه إخراج الخَبْء في السماوات والأرض، وهو المخبوء فيهما من المطر والنبات والمعادن، وأنواع ما ينزل من السماء، وما يخرج من الأرض.
وفي ذكر الهدهد هذا الشأن من أفعال الرب تعالى بخصوصه إشعار بما خصَّه الله به من إخراج الماء المخبوء تحت الأرض.
قال صاحب "الكشاف": "وفي إخراج الخَبْء أمارة على أنه من كلام الهدهد؛ لهندسته ومعرفته الماء تحت الأرض، وذلك بإلهام من يُخرج الخَبْء في السماوات والأرض، جلّت قدرته ولطف علمه، ولا يكاد يخفى على ذي الفراسة الناظر بنور الله مخايل كل مختص بصناعة أو فن من العلم في رُوَائه (1)
_________
(1) الرُّوَاء: حسن المنظر، "الصحاح" (رأى) (6/ 2347).
(1/236)
________________________________________
ومنطقه وشمائله، فما عمل آدمي عملًا إلا ألقى الله عليه رداء عمله" (1).
فصل (2)
وهذا الحمام من أعجب الحيوان هداية، حتى قال الشافعي: "أعقل الطير الحمام" (3).
وبُرُد الحمام ـ وهي التي تحمل الرسائل والكتب ـ ربما زادت قيمة الطير منها على قيمة المملوك والعبد؛ فإن الغرض الذي يحصل به لا يحصل بمملوك ولا بحيوان غيره؛ لأنه يذهب ويرجع إلى مكانه من مسيرة ألف فرسخ فما دونها، وينهي (4) الأخبار والأغراض والمقاصد التي تتعلق بها مهمات الممالك والدول.
والقيِّمون بأمرها يعتنون بأنسابها اعتناءً عظيمًا، فيفرّقون بين ذكورها وإناثها وقت السِّفاد، وتنقل الذكور عن إناثها إلى غيرها، والإناث عن ذكورها، ويخافون عليها من فساد أنسابها وحملها من غيرها، ويتعرفون صحة طرقها ومحلها؛ لأنهم لا يأمنون أن يَسْفِد (5) الأنثى ذكرٌ (6) من عرض الحمام فتعتريها الهُجْنة.
_________
(1) "الكشاف" (3/ 362).
(2) انظر: "الحيوان" (3/ 144 - 298)، وجل مادة هذا الفصل مقتبسة منه.
(3) بنحوه في "الأم" (3/ 507)، وبنصه أورده ابن العربي في "أحكام القرآن" (3/ 472).
(4) "م": "ويرى".
(5) "د" "م": "يفسد"، والمثبت من "ج"، والسياق يعضده.
(6) في الأصول: "ذكرًا" خطأ مفسد للمعنى، والفقرة بقريب منها في "الحيوان" (3/ 213).
(1/237)
________________________________________
والقيّمون بأمرها لا يحفظون أرحام نسائهم ويحتاطون لها كما يحفظون أرحام حمامهم ويحتاطون لها.
والقيّمون بأمرها لهم في ذلك قواعد وطرق يعتنون بها غاية الاعتناء، بحيث إذا رأوا حمامًا ساقطًا لم يَخْفَ عليهم حسبُها ونسبُها وبلدُها.
ويعظّمون صاحب التجربة والمعرفة، وتسمح أنفسهم بالجُعْل الوافر له.
ويختارون لحمل الكتب والرسائل الذكور منها، ويقولون: هو أحنُّ إلى بيته لمكان أنثاه، وهو أشدّ متنًا، وأقوى بدنًا، وأحسن اهتداءً.
وطائفة منهم يختار لذلك الإناث، ويقولون: الذكر إذا سافر وبعد عهده حَنَّ إلى الإناث، وتاقت نفسه إليهن، فربما رأى أنثى في طريقه ومجيئه فلا يصبر عنها، فتَرَكَ المسير، ومال إلى قضاء وطره منها.
وهداية الحمام على قدر التعليم والتوطين.
والحمام موصوف باليُمن والإلف والتأنّس، ويحب الناس ويحبونه، ويألف المكان، ويثبت على العهد والوفاء لصاحبه وإن أساء إليه، ويعود إليه من مسافات شاسعة، وربما صُدّ واختُزِل (1) عن وطنه عشر حجج (2)، وهو ثابت على الوفاء، حتى إذا وجد فرصة واستطاعة عاد إليه.
والحمام إذا أراد السِّفاد تلطّف للأنثى غاية التلطّف، فيبدأ بنشر ذنبه
_________
(1) من الاختزال وهو الانقطاع والانفراد، كما في "تاج العروس" (خزل) (28/ 406)، وفي "د": "وافترك" دون إعجام، وفي "ج": "فترك"، والمثبت من "م".
(2) "ج": "سنين".
(1/238)
________________________________________
وإرخاء جناحيه، ثم يدنو من الأنثى، فيهْدِر لها ويقبّلها ويزُقُّها (1) وينتفش ويرفع صدره، ثم يعتريه ضرب من الحكّة والتفَلّي، والأنثى في ذلك مرسلة جناحها وكتفها (2) على الأرض، فإذا قضى حاجته منها، ركبته الأنثى! وليس ذلك في شيء من الحيوان سواه.
وإذا علم الذكر أنه أودع رحم الأنثى ما يكون منه الولد، تقدّم هو والأنثى بطلب القصب والحشيش وصغار العيدان، فيعملان منه أُفْحُوصة (3)، وينسجاها (4) نسجًا متداخلًا في الموضع الذي يكون بقدر جثمان الحمامة، ويجعلان حروفها شاخصة مرتفعة؛ لئلا يتدحرج عنها البيض، ويكون حصنًا للحاضن، ثم يتعاودان ذلك المكان، ويتعاقبان الأُفْحُوص يسخِّنانه ويطيّبانه، وينفيان طباعه الأُوَل ويحدثان فيه طبعًا آخر، مشتقًا ومستخرجًا من طباع أبدانهما ورائحتهما؛ لكي تقع البيضة إذا وقعت في مكان هو أشبه المواضع بأرحام الحمام، ويكون على مقدار من الحر والبرد والرخاوة والصلابة.
ثم إذا ضربها المخاض بادرت إلى ذلك المكان ووضعت فيه البيض. فإن أفزعها رعد قاصف رمت بالبيضة دون ذلك المكان الذي هيّأته، كالمرأة التي تُسْقِط من الفزع.
_________
(1) من الزَّقّ وهو إطعام الطائر فراخه بفيه، "الصحاح" (زقق) (4/ 1492).
(2) "الحيوان" (3/ 158): "وكفيها".
(3) الأفحوصة: الموضع الذي تضع فيه الحمام بيضها؛ لأنها تفحص الموضع، ثم تبيض فيه، ينظر: "تاج العروس" (فحص) (18/ 63).
(4) "ج": "ينسجانها"، والمثبت من "د" "م" موافق لما في "الحيوان" (3/ 149).
(1/239)
________________________________________
فإذا وضعت البيض في ذلك المكان لم يزالا يتعاقبان الحَضْن، حتى إذا بلغ الحَضْن (1) مداه وانتهت أيّامه، انصدع عن الفرخ فأعاناه على خروجه، فيبدآن أولًا بنفخ الريح في حلقه حتى تتسع حوصلته، علمًا منهما بأن الحوصلة تضيق عن الغذاء، فتتسع الحوصلة بعد التحامها، وتنفتق بعد ارتتاقها. ثم يعلمان أن الحوصلة وإن كانت قد اتسعت شيئًا فإنها في أول الأمر لا تحتمل الغذاء، فيزُقّانه بلعابهما المختلط بالغذاء وفيه قُوى الطعم، ثم يعلمان أن طبع الحوصلة تضعف عن استمرار الغذاء، وأنها تحتاج إلى دفع وتقوية لتكون لها بعض المتانة، فيلقطان من أصول الحيطان الحب اللين الرخو ويزُقّانه الفرخ، ثم يزُقّانه بعد ذلك الحب الذي هو أقوى وأشدّ، ولا يزالان يزُقّانه بالحب والماء على تدريج بحسب قوة الفرخ، وهو يطلب ذلك منهما، حتى إذا علما أنه قد أطاق اللقط منعاه بعض المنع ليحتاج إلى اللقط ويعتاده.
وإذا علما أن أدواته قد قويت وتمّت، وأنهما إن فطماه فطمًا تامًا قوي على اللقط وتبلَّغ لنفسه؛ ضرباه إذا سألهما الزّقّ ومنعاه، ثم تُنزع تلك الرحمة العجيبة منهما، وينسيان ذلك التعطّف المتمكّن حين يعلمان أنه قد أطاق القيام بنفسه والتكسب، ثم يبتدئان العمل ابتداء على ذلك النظام.
والحمام مُشاكِل للناس في أكثر طباعه ومذاهبه؛ فإن في إناثه أنثى لا تريد إلا زوجها، وفيه أخرى لا تردّ يد لامس، وأخرى لا تُنال إلا بعد الطلب الحثيث، وأخرى تُركَب من أول وهلة وأول طلب (2)، وأخرى لها ذكر
_________
(1) "الحيوان" (3/ 151): "حتى إذا بلغ ذلك البيض مداه".
(2) من قوله: "وأخرى لا تنال" إلى هنا ساقط من "م".
(1/240)
________________________________________
معروف بها، وهي تمكّن ذكرًا آخر منها عند غيبة ذكرها لا تعدوه، قد اتخذته خِدْنًا، وأخرى مسافحة إذا غاب زوجها لم تمتنع ممن ركبها، وأخرى تمكّن من نفسها غير زوجها وهو يراهما ويشاهدهما ولا تبالي بحضوره، وأخرى تقْمُط (1) الذكر وتدعوه إلى نفسها، وأنثى تركب أنثى وتساحقها، وذكر يركب ذكرًا ويعشقه، وكل حالة توجد في الناس ذكورهم وإناثهم توجد في الحمام.
وفيها من لا تبيض، وإن باضت أفسدت البيضة، كالمرأة التي لا تريد الولد، كيلا يشغلها عن شأنها.
وفي إناث الحمام من إذا عرض لها ذكر ــ أي ذكر كان ــ أسرعت هاربة ولا تواتي غير زوجها البتّة، بمنزلة المرأة الحرة، ومنها ما يأخذ أنثى يتمتع بها مدة ثم ينتقل عنها إلى غيرها، وكذلك الأنثى توافق ذكرًا آخر غير زوجها وتنتقل عنه، وإن كانوا جميعًا في بُرج واحد، ومنها ما يتصالح على الأنثى منها ذكران أو أكثر فتعاشرهم كلهم، حتى إذا غلب واحد منهم لرفيقه وقهره مالت إليه، وأعرضت عن المغلوب.
وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى حمامة (2) تتبع حمامة فقال: "شيطان يتبع شيطانة" (3).
_________
(1) في الأصول: "تعمط" تحريف والمعنى لا يساعده، ففي "القاموس" (679): "عمط عرضه: عابه، وثلبه"، وأما القَمْط فهو سفاد الطائر كما في "مقاييس اللغة" (5/ 27)، وكذلك هي في مصدر المؤلف: "الحيوان" (3/ 165).
(2) كذا في الأصول: "حمامة" سبق قلم، وضبب عليها في "م" وكتب في الحاشية: "رجلًا" وهو الصواب كما في مصادر التخريج.
(3) أخرجه أحمد (8543)، وأبو داود (4940)، وابن ماجه (3765) من حديث أبي هريرة، وصححه ابن حبان (5874)، وقد اختلف في إسناده، وصوّب الدارقطني المرسل في "العلل" (3648).
(1/241)
________________________________________
ومنها ما يزُقّ فراخه خاصّة، ومنها ما فيه شفقة ورحمة بالغة يزُقّ فراخه وغيرها.
ومن عجيب هدايتها أنها إذا حملت الرسائل سلكت الطرق البعيدة عن القرى ومواضع الناس؛ لئلا يعرض لها من يصدّها، ولا تَرِد مياههم، بل تَرِد المياه التي لا يَرِدها الناس.
ومن هدايته أيضًا أنه إذا رأى البازي في الهواء فيعرف (1) أي البزاة هو، وأي نوع من الأنواع صيده (2)؛ فيخالف فعله ليسلم منه.
ومن كيسه أنه في أول نهوضه يعقل ويميّز بين النسر والعقاب، وبين الرَّخَم والبازي، وبين الغراب والصقر، فيعرف من يقصده ومن لا يقصده، وإن رأى الشاهين فكأنه رأى السم الناقع، ويأخذه تحيّر كما يأخذ الشاةَ عند رؤية الذئب، والحمارَ عند مشاهدة الأسد.
ومن هداية الحمام أن الذكر والأنثى يتقاسمان أمر الفراخ، فتكون الحضانة والتربية والكفالة على الأنثى، وجلب القوت والزّقّ على الذكر، فإن الأب هو صاحب العيال والكاسب لهم، والأمّ هي التي تحبل وتلد وترضع.
_________
(1) "د": "فعرف" والمثبت من "م"، والأقرب حذف الفاء.
(2) "د": "صده" مهملة، وطمست في "م"، والمثبت من "ج" موافقة للـ "الحيوان" (3/ 187) وعبارته: "الحمام لا يخفى عليه في أوّل ما يرى البازي في الهواء أيّ البزاة هو، وأيّ نوع صيده، فيخالف ذلك".
(1/242)
________________________________________
ومن عجيب أمرها ما ذكره الجاحظ: أن رجلًا كان له زوج حمام مقصوص، وزوج حمام طيّار، وللطيار فرخان، قال: ففتحتُ لهما في أعلى الغرفة كَوَّة للدخول والخروج وزقّ فراخهما.
قال: فحبسني السلطان فجأة، فاهتممت بشأن المقصوص غاية الاهتمام، ولم أشك في موتهما؛ لأنهما لا يقدران على الخروج من الكَوَّة، وليس عندهما ما يأكلان ويشربان.
قال: فلما خُلّي سبيلي لم يكن لي هَمّ غيرهما، ففتحت البيت فوجدت الفرخين قد كبرا، ووجدت المقصوصين على أحسن حال، فتعجبت، فلم ألبث أن جاء الزوج الطيار، فدنا الزوج المقصوص إلى أفواههما يستطعمانهما كما يستطعم الفرخ، فزقّاهما (1).
فانظر إلى هذه الهداية، فإن المقصوصين لما شاهدا تلطف الفراخ للأبوين وكيف يستطعمانهما، واشتد بهما الجوع والعطش، فعلا كفعل الفرخين فأدركتهما رحمة الطياريْن، فزقّاهما كما يزقّان فرخيهما.
ونظير ذلك ما ذكره الجاحظ وغيره ـ قال الجاحظ: وهو أمر مشهور عندنا بالبصرة ــ: أنه لما وقع الطاعون الجارف أتى على أهل دار، فلم يشك أهل تلك المحلّة أنه لم يُبْقِ منهم أحدًا، فعمدوا إلى باب الدار فسدوه، وكان قد بقي صبي صغير يرضع ولم يفطنوا له.
فلما كان بعد ذلك بمدة تحول إليها بعض ورثة القوم، ففتح الباب، فلما
_________
(1) "الحيوان" (2/ 156 - 157).
(1/243)
________________________________________
أفضى إلى عَرْصة الدار إذا هو بصبي يلعب مع جِراء كلبة قد كانت لأهل الدار، فراعه ذلك، فلم يلبث أن أقبلت كلبة قد كانت لأهل الدار، فلما رآها الصبي حبا إليها فأمكنته من أَطْبائها فمصّها.
وذلك أن الصبي لما اشتدّ جوعه، ورأى جِراء الكلبة يرتضعون من أَطْبائها حبا إليها، فعطفت عليه، فلما سقته مرّة أدامت له ذلك، وأدام هو الطلب.
ولا يُستبعد هذا وما هو أعجب منه؛ فإن الذي هدى المولود إلى مص إبهامه ساعة يولد، ثم هداه إلى التقام حلمة ثدي لم يتقدم له به عادة، كأنه قد قيل له: هذه خزانة طعامك وشرابك التي كأنك لم تزل بها عارفًا= في هدايته للحيوان إلى مصالحه ما هو أعجب من ذلك (1).
ومن ذلك أن الديك الشاب إذا أُلْقِي له حَبٌّ لم يأكله حتى يفرقه، فإذا هرم وشاخ أكله من غير تفريق، كما قال المدائني (2): إن إياس بن معاوية مَرَّ بديك ينقر حبًّا ولا يفرقه، فقال: ينبغي أن يكون هَرِمًا؛ فإن الديك الشاب يفرق الحبَّ لتجتمع الدجاج حوله فيصبن منه، والهَرِم قد فنيت رغبته فيهن، فليس له همة إلا نفسه. قال إياس: والديك الشاب يأخذ الحبة فيؤثر بها الدجاجة حتى يلقيها من فِيه، والهرم يبتلعها ولا يلقيها للدجاجة (3).
_________
(1) "الحيوان" (2/ 150، 152).
(2) علي بن محمد أبو الحسن البصري المدائني الأخباري (225 هـ)، "تاريخ الإسلام" (5/ 638).
(3) "الحيوان" (2/ 155 - 156).
(1/244)
________________________________________
وذكر ابن الأعرابي قال: أكلت حيّةٌ بيض مُكَّاء (1)، فجعل المُكَّاء يشوّش (2) ويطير على رأسها ويدنو منه، حتى إذا فتحت فاها وهمّت به ألقى فيه حَسَكة، فأخذت بحلقها حتى ماتت.
وأنشد أبو عمرو الشيباني في ذلك قول الأسدي:
إن كنت أبصرتني عَيلًا ومصطلمًا ... فربما قتل المكَّاءُ ثعبانًا (3)
وهداية الحيوانات إلى مصالح معاشها كالبحر، حدِّث عنه ولا حرج.
ومن عجيب هدايتها أن الثعلب إذا امتلأ من البراغيث أخذ صوفة بفمه، ثم عمد إلى ماء رقيق، فنزل فيه قليلًا قليلًا، حتى ترتفع البراغيث إلى الصوفة، فيلقيها في الماء ويخرج (4).
ومن عجيب أمره أن ذئبًا أكل أولاده، وكان للذئب أولاد، وهناك زُبْيَة (5)، فعمد الثعلب وألقى نفسه فيها، وحفر فيها سردابًا يخرج منه، ثم عمد إلى أولاد الذئب فقتلهم، وجلس ناحية ينتظر الذئب، فلما أقبل وعرف أنها فِعْلَته هرب قدّامه وهو يتبعه، فألقى نفسه في الزُبْيَة، ثم خرج من
_________
(1) طائر له صفير حسن، وتصعيد في الجو وهبوط، من فصيلة القنابر، ينظر: "معجم الحيوان" لمعلوف (146).
(2) من التشويش وهو الخلط واللبس، وفي "الحيوان" (7/ 23): "يشرشر"، والشرشرة كالرفرفة بالجناح، انظر: "التقفية" (432).
(3) الحكاية والشاهد في "الحيوان" (7/ 23)، وفيه: "أبصرتني فذًّا" أي: فردًا، وقوله: "مصطلمًا" يعني مقطوعًا وحيدًا.
(4) "الحيوان" (6/ 306).
(5) الزبية: حفرة لاصطياد السبع تحفر في موضع عال، "الصحاح" (زبى) (6/ 2366).
(1/245)
________________________________________
السَّرَب (1)، فألقى الذئب نفسه وراءه فلم يجده، ولم يطق الخروج، فقتله أهل الناحية.
ومن عجيب أمره أن رجلًا كان معه دجاجتان، فاختفى له (2) وخطف إحداهما وفَرَّ، ثم أعمل فكره في أخذ الأخرى، فتراءى لصاحبها من بعيد، وفي فمه شبيه بالطائر، وأطمعه في استنقاذها بأن تركه وفرّ، فظن الرجل أنها الدجاجة فأسرع نحوها، ويخالفه الثعلب (3) إلى أختها، فأخذها وذهب (4).
ومن عجيب أمره أنه أتى إلى جزيرة فيها طير، فأعمل الحيلة كيف يأخذ منها شيئًا، فلم يطق، فذهب وجاء بضِغْث من حشيش وألقاه في مجرى الماء الذي نحو الطير، ففزع الطير منه، فلما عرفت أنه حشيش رجعت إلى أماكنها، فعاد لذلك مرة ثانية، وثالثة، ورابعة، حتى توطنت الطير على ذلك وألفته، فعمد إلى جُرْزَة (5) أكبر من ذلك فدخل فيها وعبر إلى الطير، فلم يشك الطير أنه من جنس ما قبله فلم تنفر منه، فوثب على طائر منها وعدا به.
ومن عجيب أمر الذئب أنه عرض لإنسان يريد قتله، فرأى معه قوسًا
_________
(1) "السرب": الطريق والقناة والجُحْر، "تاج العروس" (سرب) (3/ 49 - 50).
(2) كذا في الأصول: "فاختفى له"، والأشبه بالسياق: "فاختبأ له".
(3) "ج": "وأسرع يخالفه الثعلب".
(4) جرت للإمام الشافعي حكاية مماثلة أوردها ياقوت في "معجم الأدباء" (6/ 2407) من طريق الآبري عن المزني بها، وليست في القدر المطبوع من "مناقب الشافعي" للآبري.
(5) الجرزة: الحزمة من الحشيش ونحوها، "المخصص" (3/ 35)، والضِّغْث: قبضة حشيش مختلطة الرطب باليابس.
(1/246)
________________________________________
وسهامًا، فذهب وجاء بعظم رأس جمل في فيه، وأقبل نحو الرجل، فجعل الرجل كلما رماه بسهم اتقاه بذلك العظم، حتى أعجزه وعاين نفاذ سهامه، فصادف من استعان به على طرد الذئب.
ومن عجيب أمر القرد ما ذكره البخاري في "صحيحه" (1) عن عمرو بن ميمون الأودي قال: "رأيت في الجاهلية قردًا وقردة زنيا، فاجتمع عليهما القرود فرجموهما حتى ماتا"، فهؤلاء القرود أقاموا حدَّ الله حين عطَّله بنو آدم.
وهذه البقر يُضرب ببلادتها المثل، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رجلًا بَيْنا هو يسوق بقرة إذ ركبها، فقالت: إنا لم نخلق لهذا، فقال الناس: سبحان الله، بقرة تتكلم! فقال: "فإني أؤمن بهذا أنا وأبو بكر وعمر" وما هُما ثَمَّ، قال: وبينا رجل يرعى غنمًا له، إذ عدا الذئب على شاة منها فاستنقذها منه، فقال الذئب: يا هذا، استنقذتها مني! فمن لها يوم السَّبُعِ، يوم لا راعي لها غيري؟ فقال الناس: سبحان الله، ذئب يتكلم! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنّي أؤمن بهذا أنا وأبو بكر وعمر" وما هما ثَمَّ (2).
ومن هداية الحمار ــ الذي هو من أبلد الحيوان ــ أن الرجل يسير به، ويأتي به إلى منزله من البُعْد في ليلة مظلمة، فيعرف المنزل، فإذا خُلّي جاء إليه، ويفرق بين الصوت الذي يُستوقَف به، والصوت الذي يُحث به على السير.
_________
(1) برقم (3849) بنحوه.
(2) أخرجه البخاري (3471)، ومسلم (2388) من حديث أبي هريرة.
(1/247)
________________________________________
ومن عجيب أمر الفأر أنها إذا شربت من الزيت الذي في أعلى الجرّة فنقص، وعَزَّ عليها الوصول إليه؛ ذهبت وحملت في أفواهها ماء، وصبته في الجرّة حتى يرتفع الزيت فتشربه.
والأطباء تزعم أن الحُقْنة أُخِذت من طائر طويل المنقار، إذا تعسّر عليه الذَّرَق جاء إلى البحر المالح وأخذ بمنقاره منه، واحتقن به، فيخرج الذَّرَق بسرعة (1).
وهذا الثعلب إذا اشتدَّ به الجوع انتفخ ورمى بنفسه في الصحراء كأنه جيفة، فتدنو منه الطير، فلا يُظهر حركة ولا نفَسًا، فلا تشك أنه ميت، حتى إذا نقرته بمنقارها وثب عليها، فضمّها ضمة الموت (2).
وهذا ابن عِرْس والقنفذ إذا أكلا الأفاعي والحيّات عمدا إلى الصَّعْتَر البرّي، فأكلاه كالترياق لذلك (3).
ومن عجيب أمر الثعلب أنه إذا أصاب القنفذ قَلَبَه لظهره لأجل شوكه، فيجتمع القنفذ حتى يصير كُبّة شوك، فيبول الثعلب على بطنه، ما بين مَغْرِز عَجْبه إلى فكّيه، فإذا أصابه بوله اعتراه الأُسْر (4) فانبسط، فيسلخه الثعلب من
_________
(1) انظر: "الحيوان" (7/ 32)، والذرق خرء الطائر، "الصحاح" (ذرق) (4/ 1478).
(2) انظر: "الحيوان" (2/ 290).
(3) انظر: "الحيوان" (7/ 33).
(4) الأسر: احتباس البول، وفي "الحيوان": "الأسن"، يقال: أسن الرجل إذا دخل البئر فأصابته ريح منتنة فغشي عليه، أو دار رأسه، وهذا المعنى أليق بالسياق، ينظر: "الصحاح" (2/ 578) (5/ 2070).
(1/248)
________________________________________
بطنه، ويأكل مسلوخه (1).
فصل
وكثير من العقلاء يتعلم من الحيوان البهيم أمورًا تنفعه في معاشه وأخلاقه، وصناعته، وحربه، وحزمه، وصبره.
وهداية الحيوان فوق هداية أكثر الناس، قال تعالى: {أَمْ تَحْسِبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان: 44]، قال أبو جعفر الباقر: "والله ما اقتصر على تشبيههم بالأنعام حتى جعلهم أضلّ سبيلًا منها" (2).
فمَن هدى الأنثى من السباع إذا وضعت ولدها أن ترفعه في الهواء أيامًا، تهرب به من الذرِّ والنمل؛ لأنها تضعه كفِدْرَة (3) من لحم، فهي تخاف عليه الذرَّ والنمل، فلا تزال ترفعه وتضعه، وتحوّله من مكان إلى مكان حتى يشتد؟ (4).
وقال ابن الأعرابي: قيل لشيخ من قريش: من علمك هذا كله، وإنما يعرف مثله أصحاب التجارب والتكسب؟
قال: علمني الله ما علّم الحمامة تقليب بيضها حتى تعطي الوجهين
_________
(1) انظر: "الحيوان" (7/ 33).
(2) لم أقف عليه.
(3) الفدرة: القطعة من اللحم إذا كانت مجتمعة، "الصحاح" (2/ 779).
(4) انظر: "الحيوان" (7/ 36)، وفيه: "ومن علّم الدب ... ".
(1/249)
________________________________________
جميعًا نصيبهما من حضانتها، ولِخَوف (1) طباع الأرض على البيض إذا استمر على جانب واحد (2).
وقيل لآخر: ما علّمك اللَّجَاج في الحاجة والصبر عليها وإن استعصت حتى تظفر بها؟
قال: من علّم الخنفساء إذا صعدت في الحائط تسقط، ثم تصعد، ثم تسقط مرارًا عديدة، حتى تستمر صاعدة (3).
وقيل لآخر: من علّمك البكور في حوائجك أول النهار لا تُخلّ به؟
قال: مَن علّم الطير تغدو خِماصًا كل بكرة في طلب أقواتها على قربها وبعدها، لا تسأم ذلك، ولا تخاف ما يعرض لها في الجو والأرض.
وقيل لآخر: مَن علّمك السكون والتحفظ والتماوت حتى تظفر بأربك، فإذا ظفرت به، وثبت وثوب الأسد على فريسته؟
فقال: الذي علم السِّنَّوْر أن ترصد جُحر الفأرة، فلا تتحرك ولا تمور (4) ولا تختلج، كأنها ميتة، حتى إذا برزت لها الفأرة وثبت عليها كالأسد.
وقيل لآخر: من علّمك الصبر والجلد والاحتمال وعدم الشكوى؟
قال: مَن علَّم أبا أيوب (5) صبره على الأثقال والأحمال الثقيلة، والمشي
_________
(1) "د" "م": "وتخوف"، والمثبت من "ج" موافق لما في "الحيوان".
(2) انظر: "الحيوان" (7/ 35).
(3) ينظر في لجاج الخنفساء: "الحيوان" (3/ 340).
(4) "ولا تمور" من "م"، وفي "د" "ج": "ننوى" مهملة، ولعلها: "ولا تموء".
(5) هي كنية الجمل، ويكنى أيضًا أبا صفوان، كما في "ثمار القلوب" (251).
(1/250)
________________________________________
بها على ظهره من بلد إلى بلد، مادًّا عنقه مستسلمًا، صابرًا على الجوع والعطش والتعب، وغِلْظة الجمَّال وضربه، فالثقل والكَلّ على ظهره، ومرارة الجوع والعطش في كبده، وجهد التعب والمشقة ملء جوارحه، ولا مُعوَّل له غير الصبر.
وقيل لآخر: مَن علَّمك حسن الإيثار والسماحة بالبذل؟
قال: مَن علَّم الديك يصادف الحبة في الأرض وهو محتاج إليها فلا يأكلها، بل يستدعي الدجاج، ويطلبهن طلبًا حثيثًا، حتى تجيء الواحدة منهن فتلقطها، وهو مسرور بذلك طيب النفس به، وإذا وُضِع له الحبّ الكثير فرَّقه ههنا وههنا وإن لم يكن هناك دجاج؛ لأن طبعه قد ألف البذل والجود، فهو يرى من اللؤم أن يستبد وحده بالطعام.
وقيل لآخر: مَن علّمك هذا التحيّل في طلب الرزق، ووجوه تحصيله؟
قال: مَن علّم الثعلب تلك الحيل التي يعجز العقلاء عن علمها وعملها، وهي أكثر من أن تذكر؟
ومَن علّم الأسد إذا مشى وخاف أن يُقتص أثره ويُطلب، عفا (1) على أثر مشيته بذنبه، ومَن علمه أن يأتي إلى شبله في اليوم الثالث من وضعه فينفخ في منخريه فيتحرك؛ لأن اللبوة تضعه خَوِرًا كالميت، فلا تزال تحرسه حتى يأتي أبوه فيفعل به ذلك، ومن ألهَم كرام الأسود وأشرافها أن لا تأكل إلا من فريستها، وإذا مر بفريسة غيره لم يدن منها ولو جهده الجوع؟
ومَن علَّم الأسد أن يخضع للبَبْر، ويذلّ له إذا اجتمعا حتى ينجو منه،
_________
(1) كذا في الأصول: "عفا"، والأقرب: "أن يعفو".
(1/251)
________________________________________
ومن عجيب أمره أنه إذا استعصى (1) عليه شيء من السّباع دعا الأسد فأجابه إجابة المملوك لمالكه، ثم أمره فربض بين يديه فيبول في أذنه، فإذا رأت السباع ذلك أذعنت للبَبْر بالطاعة والخضوع؟
ومن علَّم الثعلب إذا اشتد به الجوع أن يستلقي على ظهره، ويختلس (2) نفسه إلى داخل بدنه حتى ينتفخ، فيظن الطير (3) أنه ميتة، فيقع عليه، فيثب على من انقضى عمره منها؟
ومن علَّمه إذا أصابه صدع أو جرح أن يأتي إلى صبغ معروف، فيأخذ منه ويضعه على جرحه كالمرهم؟
ومن علَّم الدب إذا أصابه كَلْم أن يأتي إلى نبت قد عرفه، وجهله صاحب الحشائش، فيتداوى به فيبرأ؟
ومن علّم الأنثى من الفيلة إذا دنا وقت ولادها أن تأتي إلى الماء فتلده فيه؛ لأنها ــ دون سائر الحيوانات ــ لا تلد إلا قائمة؛ لأن أوصالها على خلاف أوصال الحيوان (4)، وهي عالية، فتخاف أن تُسْقِطه على الأرض فيتصدّع أو ينشق، فتأتي إلى ماء وسط تضعه فيه، يكون كالفراش الليّن، والوِطَاء الناعم؟
ومن علَّم الذباب إذا سقط في مائع أن يتقي بالجناح الذي فيه الداء دون الآخر؟
_________
(1) في الأصول: "عصى"، تحريف، والصواب المثبت.
(2) هكذا رسمت في "د" "م": "ويختلس" مهملة، والاختلاس استلاب الشيء.
(3) "د": "الظان".
(4) في "حياة الحيوان" للدميري (2/ 309): "ولا فواصل لقوائمها".
(1/252)
________________________________________
ومن علّم الكلب إذا عاين الظِّباء أن يعرف المُعْتلّ من غيره، والذكر من الأنثى؛ فيقصد الذكر مع علمه بأن عَدْوَه أشدّ وأبعد وثبة، ويدع الأنثى على نقصان عَدْوها؛ لأنه قد علم أن الذكر إذا عدا شوطًا أو شوطين حَقِب ببوله (1)، وكلّ حيوان إذا اشتدّ فزعه فإنه يدركه الحَقَب، وإذا حَقِب الذكر لم يستطع البول مع شدة العدو، فيقل عدوه فيدركه الكلب، وأما الأنثى فإنها تحذف بولها لِسَعَة القبل، وسهولة المخرج، فيدوم عَدْوها (2)؟
ومن علّمه أنه إذا كسا الثلجُ الأرضَ أن يتأمل الموضع الرقيق الذي قد انخسف، فيعلم أن تحته جُحْر الأرنب، فينبشه ويصطادها، علمًا منه بأن حرارة أنفاسها تذيب بعض الثلج فيرق (3)؟
ومن علَّم الذئب إذا نام أن يجعل النوم نُوَبًا بين عينيه، فينام بإحداهما حتى إذا تعبت الأخرى نام بها وفتح النائمة، حتى قال فيه بعض العرب:
ينام بإحدى مُقْلَتيه ويتقي ... بأخرى المنايا فهو يقظان هاجعُ (4)
ومن علّم العصفورة إذا سقط فرخها أن تستغيث، فلا يبقى عصفور بجوارها حتى يجيء، فيطيرون حول الفرخ ويحركونه بأفعالهم، ويحدثون له قوة وهمَّة وحركة حتى يطير معهم؟
قال بعض الصيادين: ربما رأيت العصفور على الحائط فأومئ بيدي
_________
(1) الحقب احتباس البول، ينظر: "الصحاح" (1/ 114).
(2) انظر: "الحيوان" (2/ 117 - 118).
(3) انظر: "الحيوان" (2/ 118 - 119).
(4) البيت لحميد بن ثور الهلالي، وهو في "ديوانه" (105)، وانظر: "الحيوان" (6/ 467).
(1/253)
________________________________________
كأنني أرميه فلا يطير، وربما أهويت إلى الأرض كأني أتناول شيئًا فلا يتحرك، فإن مسست بيدي أدنى حصاة أو حجر أو نواة طار قبل أن تتمكن منها يدي (1).
ومن علّم الحمامة إذا حملت أن تأخذ هي والأب في بناء العش، وأن يقيما له حروفًا تشبه الحائط، ثم يسخناه ويحدثا فيه طبيعة أخرى، ثم يقلبان البيض في الأيام؟
ومن قسم بينهما الحضانة والكد؟ فأكثر ساعات الحضانة على الأنثى، وأكثر ساعات جلب القوت على الأب.
وإذا خرج الفرخ علما ضيق حوصلته عن الطعام فنفخا في فيه نفخًا متداركًا حتى تتسع حوصلته، ثم يزُقّانه اللعاب أول شيء قبل الطعام، وهو كاللِّبَأ للطفل، ثم يعلمان احتياج الحوصلة إلى دباغ، فيزُقّانه من أصل الحيطان من شيء بين الملح والتراب، تندبغ به الحوصلة، فإذا اندبغت زقَّاه الحبَّ، فإذا علما أنه أطاق اللقط منعاه الزقّ على التدريج، فإذا تكاملت قوته وسألهما الكفالة ضرباه.
ومن علّمهما إذا أرادا السِّفاد أن يبتدئ الذكر بالدعاء، فتتطارد له الأنثى قليلًا لتذيقه حلاوة المواصلة، ثم تطمعه في نفسها، ثم تمتنع بعض التمنّع ليشتد طلبه وحبه، ثم تتهادى وتتكسل، وتريه معاطفها، وتعرض محاسنها، ثم يحدث بينهما من التغزّل والعشق والتقبيل والترشّف ما هو مشاهد بالعيان؟
_________
(1) انظر: "الحيوان" (2/ 329).
(1/254)
________________________________________
ومن علّم المُرْسَلة منها إذا سافرت ليلًا أن تستدل ببطون الأودية، ومجاري المياه والجبال، ومهاب الرياح ومطلع الشمس ومغربها، فتستدل بذلك وبغيره إذا ضلّت، فإذا عرفت الطريق مرّت مرَّ الريح؟
ومن علّم الليث ــ وهو صنف من العناكب ــ أن يلطأ بالأرض ويجمع نفسه، فيُرِي الذبابة أنه لاهٍ عنها، ثم يثب عليها وثوب الفهد؟
ومن علّم العنكبوت نَسْج تلك الشبكة الرفيعة المحكمة، ويجعل في أعلاها خيطًا، ثم يتعلق به، فإذا تعرقلت البعوضة في الشبكة نزل إليها فاصطادها؟
ومن علّم الظبي أنه لا يدخل كِنَاسه إلا مستدبرًا؛ ليستقبل بعينيه ما يخافه على نفسه وخُشْفه؟ (1).
ومن علَّم السِّنّور إذا رأت فأرة في السقف أن ترفع يديها كالمشيرة إليها بالعود، ثم تشير إليها بالرجوع، وإنما تريد أن ترهبها فتزلق فتسقط؟ (2).
ومن علّم اليَرْبوع أن يحفر بيته في سفح الوادي، حيث يرتفع عن مجرى السيل؛ ليسلم من مِدَقّ الحافر، ومجرى الماء، ويعمّقه، ثم يتخذ في زواياه أبوابًا عديدة، ويجعل بينها وبين وجه الأرض حاجزًا رقيقًا، فإذا أحسَّ بالشرِّ فتح بعضها بأيسر شيء وخرج منه؟
_________
(1) الخشف ـ مثلثة الخاء ـ: ولد الظبي أول ما يولد، انظر: "تاج العروس" (23/ 209)، والفقرة في "الحيوان" (6/ 44).
(2) سياقه في "الحيوان" (5/ 252): "فيقول السّنّور بيده كالمشير بيساره: ارجع. فإذا رجعت أشار بيمينه: أن عد فيعود. وإنما يطلب أن تعيا أو تزلق أو يُدار بها".
(1/255)
________________________________________
ولما كان كثير النسيان لم يحفر بيته إلا عند أكمة أو صخرة أو شجرة، علامة له على البيت إذا ضلّ عنه.
ومن علّم الفهد إذا سمن أن يتوارى لثقل الحركة عليه، حتى يذهب ذلك السمن، ثم يظهر؟
ومن علّم الإيَّل إذا سقط قرنه أن يتوارى؛ لأن سلاحه قد ذهب فيسمن لذلك، فإذا كمل نبات قرنه تعرّض للشمس والريح، وأكثر الحركة؛ ليشتد لحمه، ويزول السمن المانع له من العدو؟ (1)
وهذا باب واسع جدًّا، ويكفي فيه قوله سبحانه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 38 - 39].
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها" (2)، وهذا يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون إخبارًا عن أمر غير ممكن فعله، وهو أن الكلاب أمة لا يمكن إفناؤها لكثرتها في الأرض، فلو أمكن إعدامها من الأرض لأمَرْتُ بقتلها.
_________
(1) انظر: "الحيوان" (7/ 42).
(2) أخرجه أحمد (16788)، وأبو داود (2845)، والترمذي (1486)، والنسائي (4280)، وابن ماجه (3205) من حديث عبد الله بن مغفل، وقال الترمذي: "حسن صحيح".
(1/256)
________________________________________
والثاني: أن يكون مثل قوله: "أمن أجل أن قرصتك نملةٌ أحرقت أمة من الأمم تسبّح" (1)، فهي أمة مخلوقة لحكمة ومصلحة، فإعدامها وإفناؤها يناقض ما خُلِقت له، والله أعلم بما أراد رسوله.
قال ابن عباس في رواية عطاء {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ}: يريد يعرفونني ويوحدونني ويسبحونني ويحمدونني، مثل قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]، ومثل قوله تعالى: {(40) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41]، فعلى هذا جُعِلت أممًا أمثالنا في التوحيد والمعرفة بربها وتسبيحه (2).
ويدل على هذا قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ} [الحج: 18]، وقوله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ} [النحل: 49]، ويدل عليه قوله تعالى: {يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [سبأ: 10]، ويدل عليه قوله: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68]، وقوله: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ} [النمل: 18]، وقول سليمان عليه السلام: {عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} [النمل: 16].
وقال مجاهد: " {أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} أصناف مصنفة تعرف بأسمائها" (3).
وقال الزجاج: " {أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} في أنها تبعث" (4).
_________
(1) تقدم تخريجه في (231).
(2) الفقرة مقتبسة من "البسيط" (8/ 112 - 113).
(3) أسنده الطبري (9/ 233).
(4) بمعناه في "معاني القرآن وإعرابه" (2/ 245).
(1/257)
________________________________________
وقال ابن قتيبة: "أمم أمثالنا في طلب الغذاء، وابتغاء الرزق، وتوقّي المهالك" (1).
وقال سفيان بن عيينة: "ما في الأرض آدمي إلا وفيه شبه من البهائم، فمنهم من يهتصر اهتصار الأسد، ومنهم من يعدو عدو الذئب، ومنهم من ينبح نباح الكلب، ومنهم من يتطوّس كفعل الطاووس، ومنهم من يشبه الخنازير التي لو ألقي إليها الطعام الطيب عافته، فإذا قام الرجل عن رجيعه ولغت فيه، فكذلك تجد من الآدميين من لو سمع خمسين حكمة لم يحفظ واحدة منها، وإن أخطأ رجل تروّاه وحفظه" (2).
قال الخطابي: "ما أحسن ما تأول سفيان هذه الآية، واستنبط منها هذه الحكمة، وذلك أن الكلام إذا لم يكن حكمه مطاوعًا لظاهره، وجب المصير إلى باطنه، وقد أخبر الله تعالى عن وجود المماثلة بيننا وبين كل طائر ودابة، وذلك ممتنع من جهة الخلقة والصورة، وعدم من جهة المنطق والمعرفة، فوجب أن يكون منصرفًا إلى المماثلة في الطباع والأخلاق، وإذا كان الأمر كذلك فاعلم أنك إنما تعاشر البهائم والسباع، فليكن حذرك منهم ومباعدتك إياهم على حسب ذلك" (3)، انتهى كلامه.
والله سبحانه قد جعل بعض الدواب كسوبًا محتالًا، وبعضها متوكّلًا غير محتال، وبعض الحشرات يدخر لنفسه قوت سنته، وبعضها يتكل على الثقة
_________
(1) بنحوه في "تأويل مشكل القرآن" (445).
(2) رواه الخطابي في "العزلة" (55)، ومن طريقه الواحدي في "البسيط" (8/ 117).
(3) "العزلة" (55).
(1/258)
________________________________________
بأن له في كل يوم قدر كفايته رزقًا مضمونًا، وأمرًا مقطوعًا، وبعضها يدخر، وبعضها يُكتسب له (1)، وبعض الذكورة يعول ولده، وبعضها لا يعرف ولده البتة، وبعض الإناث تكفل ولدها لا تعدوه، وبعضها تضيّع ولدها وتكفل ولد غيرها، وبعضها لا تعرف ولدها إذا استغنى عنها، وبعضها لا تزال تعرفه وتعطف عليه.
وجعل بعض الحيوانات يُتْمها من قبل أمهاتها، وبعضها يُتْمها من قبل آبائها، وبعضها لا يلتمس الولد، وبعضها يستفرغ الهم في طلبه.
وبعضها يعرف الإحسان ويشكره، وبعضها لا يؤَثّر ذلك عنده شيئًا، وبعضها يؤْثِر على نفسه، وبعضها إذا ظفر بما يكفي أمّة من جنسه لم يدع أحدًا يدنو منه.
وبعضها يحب السِّفاد ويكثر منه، وبعضها لا يفعله في السنة إلا مرة، وبعضها يقتصر على أنثاه، وبعضها لا يعفّ عن أنثى، ولو كانت أمه أو أخته، وبعضها لا تمكّن غير زوجها من نفسها، وبعضها لا تردّ يد لامس.
وبعضها يألف بني آدم ويأنس بهم، وبعضها يستوحش منهم، وينفر غاية النفار.
وبعضها لا يأكل إلا الطيب، وبعضها لا يأكل إلا الخبائث، وبعضها يجمع بين الأمرين.
وبعضها لا يؤذي من بالغ في أذاها، وبعضها يؤذي من لا يؤذيها، وبعضها حقود لا ينسى الإساءة، وبعضها لا يذكرها البتَّة، وبعضها لا
_________
(1) في "الحيوان" (2/ 114):"وبعضه يتكسّب".
(1/259)
________________________________________
يغضب، وبعضها يشتد غضبه فلا يزال يُسترضى حتى يرضى.
وبعضها عنده علم ومعرفة بأمور دقيقة لا يهتدي إليها أكثر الناس، وبعضها لا معرفة له بشيء من ذلك البتة، وبعضها يستقبح القبيح وينفر منه، وبعضها الحسن والقبيح عنده سواء، وبعضها يقبل التعليم بسرعة، وبعضها مع الطول، وبعضها لا يقبل ذلك بحال.
وهذا كله من أدل الدلائل على الخالق لها سبحانه، وعلى إتقان صنعه، وعجيب تدبيره، ولطيف حكمته، فإن فيما أودعها من غرائب المعارف، وغوامض الحيل وحسن التدبير والتأتّي لما تريده= ما يستنطق الأفواه بالتسبيح، ويملأ القلوب من معرفته ومعرفة حكمته وقدرته، وما يعلم به كل عاقل أنه لم يُخلق عبثًا، ولا يُترك (1) سُدى، وأن لله سبحانه في كل مخلوق حكمًا باهرة، وآيات ظاهرة، وبرهانًا قاطعًا، يدل على أنه ربّ كلّ شيء ومليكه، وأنه المنفرد بكل كمال دون خلقه، وأنه على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم (2).
فصل
فلنرجع إلى ما ساقنا إلى هذا الموضع، وهو الكلام على الهداية العامة، التي هي قرينة الخلق في الدلالة على الرب تبارك وتعالى وأسمائه وصفاته وتوحيده.
قال تعالى إخبارًا عن فرعون أنه قال: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي
_________
(1) عدا "م": "ولم يترك".
(2) إزاءه بحاشية "م" دون لحق: "وله في كل شيء آية تدل على أنه واحد".
(1/260)
________________________________________
أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 49 - 50]، قال مجاهد: "أعطى كل شيء خَلْقه، لم يعط الإنسان خَلْق البهائم، ولا البهائم خَلْق الإنسان" (1).
وأقوال أكثر المفسرين تدور على هذا المعنى.
قال عطية ومقاتل: "أعطى كل شيء صورته" (2).
وقال الحسن وقتادة: "أعطى كل شيء صلاحه" (3).
ومعنى هذا: أعطاه من الخلق والتصوير ما يصلح به لما خُلِق له، ثم هداه لما خُلِق له، وهداه لما يصلحه من معيشته ومطعمه ومشربه ومنكحه وتقلبه وتصرفه.
هذا هو القول الصحيح الذي عليه جمهور المفسرين، فيكون نظير قوله: {قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 3].
وقال الكلبي والسدّي: "أعطى الرجلَ المرأة، والبعيرَ الناقة، والذكرَ الأنثى من جنسه" (4)، ولفظ السدي: "أعطى الذكرَ الأنثى مثل خَلْقه، ثم هدى إلى الجماع".
_________
(1) أسنده بنحوه الطبري (16/ 81).
(2) انظر: "تفسير مقاتل" (3/ 29)، "البسيط" (14/ 414).
(3) رواه عبد الرزاق في "التفسير" (3/ 17) عن الحسن، ورواه في "جامع البيان" (16/ 81) عن قتادة.
(4) رواه عبد الرزاق في "التفسير" (3/ 17) عن الكلبي، ورواه في "جامع البيان" (16/ 80) عن السدي، وانظر: "البسيط" (14/ 415).
(1/261)
________________________________________
وهذا القول اختيار ابن قتيبة (1) والفرّاء، قال الفرّاء: "أعطى الذكرَ من الناس امرأة مثله، والشاةَ شاة، والثورَ بقرة، ثم ألهم الذكر كيف يأتيها" (2).
قال أبو إسحاق: "وهذا التفسير جائز؛ لأنا نرى الذكر من الحيوان يأتي الأنثى ولم يَرَ ذكرًا قد أتى أنثى قبله، فألهمه الله ذلك وهداه إليه، قال: والقول الأول ينتظم هذا المعنى؛ لأنه إذا هداه لمصلحته فهذا داخل في المصلحة" (3).
قلت: أرباب هذا القول هضموا الآية معناها؛ فإن معناها أجل وأعظم مما ذكروه، وقوله: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ} يأبى هذا التفسير؛ فإن حَمْل كل شيء على ذكور الحيوان وإناثه خاصّة ممتنع لا وجه له، وكيف يخرج من هذا اللفظ الملائكة والجن، ومَن لم يتزوج من بني آدم، ومن لم يسافد من الحيوان؟ وكيف يُسمى الحيوان الذي يأتيه الذكر خلقًا له؟ وأين نظير هذا في القرآن؟
وهو سبحانه لما أراد التعبير عن هذا المعنى الذي ذكروه ذكره بأدلّ عبارة عليه وأوضحها، فقال: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [النجم: 45]، وقال: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [الليل: 3]، وقال: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [القيامة: 39]، فحمْلُ قوله: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} على هذا المعنى غير صحيح، فتأمله.
_________
(1) "تأويل مشكل القرآن" (444).
(2) "معاني القرآن" (2/ 181).
(3) "معاني القرآن وإعرابه" (3/ 359).
(1/262)
________________________________________
وفي الآية قول آخر قاله الضحاك، قال: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} قال (1): "أعطى اليد البطش، والرجل المشي، واللسان النطق، والعين البصر، والأذن السمع" (2). ومعنى هذا القول: أعطى كلّ عضو من الأعضاء ما خُلِق له، والخَلْق على هذا بمعنى المفعول، أي: أعطى كل عضو مخلوقه الذي خلقه له؛ فإن هذه المعاني كلها مخلوقة لله تعالى، أودعها الأعضاء.
وهذا المعنى وإن كان صحيحًا في نفسه، لكن معنى الآية أعم، والقول هو الأول، وأنه سبحانه أعطى كل شيء خَلْقه المختص به، ثم هداه لما خُلِق له، ولا خالق سواه سبحانه ولا هادي غيره، فهذا الخلق وهذه الهداية من آيات ربوبيته ووحدانيته، فهذا وجه الاستدلال على عدو الله فرعون.
ولهذا لما علم فرعون أن هذه حجة قاطعة لا مطعن فيها بوجه من الوجوه، عدل إلى سؤال فاسد غير وارد فقال: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} [طه: 51]، أي: فما للقرون الأولى لم تُقرّ بهذا الربّ ولم تعبده، بل عبدت دونه الأوثان، والمعنى: لو كان ما تقوله حقًّا لم يخفَ على القرون الأولى، ولم يهملوه، فاحتج عليه موسى عليه السلام بما يشاهده هو وغيره من آثار ربوبية رب العالمين، فعارضه عدو الله بكفر الكافرين به وشرك المشركين، وهذا شأن كل مبطل (3).
ولهذا صار هذا ميراثًا في ورثته، يعارضون نصوص الأنبياء بأقوال
_________
(1) كذا في الأصول بإعادة "قال".
(2) نسبه إليه في "البسيط" (14/ 415)، والفقرة وما يليها مقتبسة منه.
(3) "ج": "معطل".
(1/263)
________________________________________
الزنادقة والملاحدة، وأفراخ الفلاسفة والصابئة والسحرة، ومبتدعة الأمة، وأهل الضلال منهم.
فأجابه موسى عن معارضته بأحسن جواب فقال: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} [طه: 52]، أي: أعمال تلك القرون وكفرهم وشركهم معلوم لربي قد أحصاه وحفظه وأودعه في كتاب، فيجازيهم عليه يوم القيامة، ولم يودعه في الكتاب خشية النسيان والضلال؛ فإنه سبحانه لا يضلّ ولا ينسى، وعلى هذا فالكتاب ههنا كتاب الأعمال.
وقال الكلبي: "يعني به اللوح المحفوظ" (1)، وعلى هذا فهو كتاب القدر السابق، والمعنى على هذا: أنه سبحانه قد علم أعمالهم وكتبها عنده قبل أن يعملوها، فيكون هذا من تمام قوله: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50]، فتأمله.
فصل
وهو سبحانه في القرآن كثيرًا ما يجمع بين الخلق والهداية، كقوله في أول سورة أنزلها على رسوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5]، وقوله: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 1 - 4]، وقوله: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 8 - 10]، وقوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ
_________
(1) نسبه إليه في "البسيط" (14/ 417).
(1/264)
________________________________________
السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 2 - 3]، وقوله: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} الآيات [النمل: 60]، ثم قال: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [النمل: 63]، فالخلق إعطاء الوجود العيني الخارجي، والهدى إعطاء الوجود العلمي الذهني، فهذا خلقه، وهذا هداه وتعليمه.
فصل
المرتبة الثانية من مراتب الهداية: هداية الإرشاد والبيان للمكلفين، وهذه الهداية لا تستلزم حصول التوفيق واتباع الحق، وإن كانت شرطًا فيه أو جزء سبب، وذلك لا يستلزم حصول المشروط والمسبَّب، بل قد يتخلف عنه المقتضي إما لعدم كمال السبب، أو لوجود مانع، ولهذا قال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17]، وقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115]، فهداهم هدى البيان والدلالة فلم يهتدوا، فأضلهم عقوبة لهم على ترك الاهتداء أولًا بعد أن عرفوا الهدى فأعرضوا عنه، فأعماهم عنه بعد أن أراهموه.
وهذا شأنه سبحانه في كل من أنعم عليه بنعمة فكفرها، فإنه يسلبه إياها بعد أن كانت نصيبه وحظه، كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال: 53]، وقال تعالى عن قوم فرعون: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]، أي: جحدوا بآياتنا بعد أن تيقنوا صحتها، وقال: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ
(1/265)
________________________________________
إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 86].
وهذه الهداية هي التي أثبتها لرسوله، حيث قال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، ونفى عنه ملك الهداية الموجِبة، وهي هداية التوفيق والإلهام بقوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "بُعثت داعيًا ومبلّغًا، وليس إليّ من الهداية شيء، وبُعث إبليس مزيّنًا ومغويًا، وليس إليه من الضلالة شيء" (1).
قال تعالى: {(24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ إِلَى إِلَى صِرَاطٍ} [يونس: 25]، فجمع سبحانه بين الهدايتين: العامة والخاصة، فعمّ بالدعوة حجة منه وعدلًا، وخَصّ بالهداية نعمة منه وفضلًا.
وهذه المرتبة أخص من المرتبة التي قبلها، فإنها هداية تختص المكلفين، وهي حجة الله على خلقه التي لا يعذب أحدًا إلا بعد إقامتها عليه، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وقال: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وقال: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر: 56 - 57]، وقال:
_________
(1) أخرجه الدولابي في "الأسماء والكنى" (2017)، وابن بطة في "الإبانة الكبرى" (1283) من حديث عمر بن الخطاب، وهو حديث باطل لا أصل له، في إسناده خالد بن عبد الرحمن أبو الهيثم، قال العقيلي في "الضعفاء" (1/ 570): "ليس بمعروف بالنقل، وحديثه غير محفوظ، ولا يعرف له أصل"، وانظر: "الموضوعات" (529).
(1/266)
________________________________________
{كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَد جَّاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} [الملك: 8 - 9].
فإن قيل: فكيف تقوم حجته عليهم وقد منعهم من الهدى، وحال بينهم وبينه؟
قيل: حُجَّته قائمة عليهم بتخليته بينهم وبين الهدى، وبيان الرسل لهم، وإراءتهم الطريق المستقيم حتى كأنهم يشاهدونه عيانًا، وأقام لهم أسباب الهداية ظاهرًا وباطنًا، ولم يحل بينهم وبين تلك الأسباب، ومن حال بينه وبينها منهم بزوال عقل أو صغر لا تمييز معه، أو كونه بناحية من الأرض لم تبلغه دعوة رسله= فإنه لا يعذبه حتى يقيم عليه حجته، فلم يمنعهم من هذا الهدى، ولم يحل بينهم وبينه.
نعم، قطع عنهم توفيقه، ولم يرد من نفسه إعانتهم والإقبال بقلوبهم إليه، فلم يحل بينهم وبين ما هو مقدور لهم، وإن حال بينهم وبين ما لا يقدرون عليه، وهو فعله ومشيئته وتوفيقه، فهذا غير مقدور لهم، وهو الذي مُنِعوه، وحيل بينهم وبينه، فتأمل هذا الموضع، واعرف قدره، والله المستعان.
فصل
المرتبة الثالثة من مراتب الهداية: هداية التوفيق والإلهام، وخلق المشيئة المستلزمة للفعل.
وهذه المرتبة أخصُّ من التي قبلها، وهي التي ضلّ جهال القدرية بإنكارها، وصاح عليهم سلف الأمة وأهل السنة منهم من نواحي الأرض عصرًا بعد عصر إلى وقتنا هذا، ولكن الجبرية ظلمتهم ولم تنصفهم، كما
(1/267)
________________________________________
ظلموا أنفسهم بإنكار الأسباب والقُوَى، وإنكار فعل العبد وقدرته، وأن يكون له تأثير في الفعل البتة، فلم تهتد القدرية بقول (1) هؤلاء، بل زادهم ضلالًا على ضلالهم، وتمسّكًا بما هم عليه.
وهذا شأن المبطل إذا دعا مبطلًا آخر إلى أن يترك مذهبه لقوله ومذهبه الباطل، كالنصراني إذا دعا اليهودي إلى التثليث وعبادة الصليب وأن المسيح إله تام غير مخلوق، إلى أمثال ذلك من الباطل الذي هو عليه.
وهذه المرتبة تستلزم أمرين:
أحدهما: فعل الرب تعالى وهو الهدى.
والثاني: فعل العبد وهو الاهتداء، وهو أثر فعله سبحانه، فهو الهادي والعبد المهتدي، قال تعالى: {مَن يَهْدِ اِللَّهُ فَهْوَ اَلْمُهْتَدِ} [الكهف: 17]، ولا سبيل إلى وجود الأثر إلا بمؤثّره التام، فإن لم يحصل فعله لم يحصل فعل العبد.
ولهذا قال تعالى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُهْدَى مَنْ يُضِلُّ} [النحل: 37]، وهذا صريح في أن هذا الهدى ليس إليه - صلى الله عليه وسلم - ولو حرص عليه، ولا إلى أحد غير الله، وأن الله سبحانه إذا أضل عبدًا لم يكن لأحد سبيلٌ إلى هدايته، كما قال تعالى: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ} [الأعراف: 186]، وقال تعالى: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39]، وقال تعالى: {(7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَأَىهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ
_________
(1) "د": "فلم يهتدوا بقول".
(1/268)
________________________________________
يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8]، وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَّكَّرُونَ} [الجاثية: 23]، وقال تعالى: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [الروم: 29]، وقال: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 272]، وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13]، وقال: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد: 31]، وقال: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125]، وقال أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا
لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43]، ولم يريدوا أن بعض أنواع الهدى منه وبعضها منهم، بل الهدى كلّه منه، ولولا هدايته لهم لما اهتدوا.
وقال تعالى: {(35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي} [الزمر: 36 - 37]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهْوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم: 4]، وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} [النحل: 36]، وقال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:
(1/269)
________________________________________
27]، وقال تعالى: {بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ} [المدثر: 31]، وقال: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا} [البقرة: 26]، وقال: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 16].
وأمر سبحانه عباده كلهم أن يسألوه هدايتهم الصراط المستقيم كل يوم وليلة في الصلوات الخمس، وذلك يتضمن الهداية إلى الصراط، والهداية فيه، كما أن الضلال نوعان: ضلال عن الصراط، فلا يهتدي إليه، وضلال فيه، فالأول ضلال عن معرفته، والثاني ضلال عن تفاصيله أو بعضها.
قال شيخنا: "ولما كان العبد في كل حال مفتقرًا إلى هذه الهداية في جميع ما يأتيه ويذره من أمور قد أتاها على غير الهداية، فهو محتاج إلى التوبة منها، وأمور هُدِي إلى أصلها دون تفصيلها، أو هُدِي إليها من وجه دون وجه، فهو محتاج إلى تمام الهداية فيها، ليزداد هدى، وأمور هو محتاج إلى أن يحصل له من الهداية فيها في المستقبل مثل ما حصل له في الماضي، وأمور هو خال عن اعتقاد فيها، فهو محتاج إلى الهداية فيها، وأمور لم يفعلها فهو محتاج إلى فعلها على وجه الهداية، إلى غير ذلك من أنواع الهدايات= فرض الله عليه أن يسأله هذه الهداية في أفضل أحواله وهي الصلاة، مرات متعددة في اليوم والليلة" (1)، انتهى كلامه.
ولا يتم المقصود إلا بالهداية إلى الطريق والهداية فيها؛ فإن العبد قد
_________
(1) "بيان الدليل على بطلان التحليل" (15).
(1/270)
________________________________________
يهتدي إلى طريق قَصَده، وتتميز له عن غيرها، ولا يهتدي إلى تفاصيل سيره فيها، وأوقات السير من غيره، وزاد المسير، وآفات الطريق.
ولهذا قال ابن عباس في قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]، قال: "سبيلًا وسُنة" (1)، وهذا التفسير يحتاج إلى تفسير، فالسبيل الطريق وهي المنهاج، والسنة الشِّرْعة وهي تفاصيل الطريق وحَزُوناته وكيفية السير فيه وأوقات السير، وعلى هذا فقوله: سبيلًا وسنة، تكون السبيل: المنهاج، والسنة: الشِّرْعة، فالمقدَّم في الآية للمؤخَّر في التفسير، وفي لفظ آخر: "سنة وسبيلًا" (2)، فيكون المقدَّم للمقدَّم والمؤخَّر للثاني.
فصل
ومن هذا إخباره سبحانه بأنه طَبَع على قلوب الكافرين وخَتَم عليها، وأنه أصمها عن الحق، وأعمى أبصارها عنه، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَانْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 6 - 7]، والوقف تام هنا، ثم قال: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7]، كقوله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية: 23]، وقال تعالى: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155]، وقال تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ
_________
(1) أخرجه عبد الرزاق في "التفسير" (1/ 192).
(2) أخرجه الطبري (8/ 496).
(1/271)
________________________________________
اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 101]، {كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} [يونس: 74]، {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [الأعراف: 100].
وأخبر سبحانه أن على بعض القلوب أقفالًا تمنعها من أن تنفتح لدخول الهدى إليها، وقال: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَهْوَ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت: 44]، فهذا الوقر والعمى حال بينهم وبين أن يكون لهم هدى وشفاء.
وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الكهف: 57]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصَدَّ عَنِ السَّبِيلِ} [غافر: 37]، قرأها الكوفيون "وَصُدَّ" بضم الصاد حملًا على "زُيِّن".
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر: 28]، وقال: {وَاَللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258]، ومعلوم أنه لم ينفِ هدى البيان والدلالة الذي تقوم به الحجة، فإنه حجته على عباده.
والقدرية تردّ هذا كله إلى المتشابه، وتجعله من متشابه القرآن، وتتأوله على غير تأويله، بل تتأوله بما يقطع ببطلانه وعدم إرادة المتكلم له، كقول بعضهم: المراد من ذلك تسمية الله تعالى العبد مهتديًا وضالًا، فجعلوا هداه وإضلاله مجرد تسمية العبد بذلك.
وهذا مما يُعلم قطعًا أنه لا يصح حمل هذه الآيات عليه، وأنت إذا تأملتها وجدتها لا تحتمل ما ذكروه البتة، وليس في لغة أمة من الأمم، فضلًا عن أفصح اللغات وأكملها؛ هداه بمعنى: سَمَّاه مهتديًا، وأضلّه: سَمَّاه ضالًا، وهل يصح أن يقال: علّمه إذا سمّاه عالمًا، وفهّمه إذا سمّاه فَهِمًا؟
(1/272)
________________________________________
وكيف يصح هذا في مثل قوله: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 272]؟ فهل فهم أحدٌ غير القدرية المحرِّفة للقرآن من هذا: ليس عليك تسميتهم مهتدين، ولكن الله يسمّي من يشاء مهتديًا؟!
وهل فهم أحد قط من قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] لا تسميه مهتديًا، ولكن الله يسميه بهذا الاسم؟! (1).
وهل فهم أحد من قول الداعي: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]، وقوله: "اللهم اهدني من عندك" (2)، ونحوه: اللهم سمنّي مهتديًا؟!
وهذا من جناية القدرية على القرآن ومعناه، نظير جناية إخوانهم من الجهمية على نصوص الصفات، وتحريفها عن مواضعها، وفتحوا للزنادقة والملاحدة جنايتهم على نصوص المعاد وتأويلها بتأويلات إن لم تكن أقوى من تأويلاتهم لم تكن دونها، وفتحوا للقرامطة والباطنية تأويل نصوص الأمر والنهي بنحو تأويلاتهم.
فتأويل التحريف الذي سلكته (3) هذه الطوائف أصل فساد الدنيا والدين، وخراب العالم، وسنفرد إن شاء الله كتابًا نذكر فيه جناية المتأولين على الدنيا والدين (4).
_________
(1) من قوله: "وهل فهم أحد قط" إلى هنا ساقط من "م".
(2) هو جزء من حديث أخرجه الطبراني في "الكبير" (940)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (133) من حديث أنس بن مالك، وإسناده تالف، فيه نافع السلمي متروك الحديث كما في "الميزان" (1/ 501).
(3) "د": "سلسلته".
(4) كأنه يشير إلى ما ضمّنه كتابه "الصواعق المرسلة" من مباحث في الموضوع، كما سلف الكلام عليه في مقدمة التحقيق.
(1/273)
________________________________________
وأنت إذا وازنت بين تأويلات القدرية والجهمية والرافضة لم تجد بينها وبين تأويلات الملاحدة والزنادقة من القرامطة والباطنية وأمثالهم كبير فرق.
والتأويل الباطل يتضمن تعطيل ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والكذب على المتكلم أنه أراد ذلك المعنى، فيتضمن إبطال الحق وتحقيق الباطل، ونسبة المتكلم إلى ما لا يليق به من التلبيس والإلغاز، مع القول عليه بلا علم أنه أراد هذا المعنى.
فالمتأول عليه أن يبين صلاحية اللفظ للمعنى الذي ذكره أولًا، واستعمال المتكلم به في ذلك المعنى في أكثر المواضع، حتى إذا استعمله فيما يحتمل غيره حُمِل على ما عُهِد منه استعماله فيه، وعليه أن يقيم دليلًا سالمًا عن المعارض على الموجِب لصرف اللفظ عن ظاهره وحقيقته إلى مجازه واستعارته، وإلا كان ذلك مجرد دعوى منه فلا تقبل.
وتأوّلَ بعضهم هذه النصوص على أن المراد بها هداية البيان والتعريف لا خلْق الهدى في القلب، فإن الله سبحانه لا يقدر على ذلك عند هذه الطائفة.
وهذا التأويل من أبطل الباطل، فإن الله سبحانه يخبر أنه قسم هدايته للعبد قسمين: قسمًا لا يقدر عليه غيره، وقسمًا مقدورًا للعباد، فقال في القسم المقدور للبشر: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، وقال في غير المقدور للبشر: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]، وقال: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ} [الأعراف: 186].
(1/274)
________________________________________
ومعلوم قطعًا أن البيان والدلالة قد تحصل له ولا تنفى عنه، وكذلك قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُهْدَى مَنْ يُضِلُّ} [النحل: 37]، لا يصح حمله على هداية الدعوة والبيان، فإن هذا يُهدى ــ وإن أضله الله ــ بالدعوة والبيان.
وكذا قوله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية: 23]، هل يجوز حمله على معنى: فمن يدعوه إلى الهدى، ويبين له (1) ما تقوم به حجة الله عليه، وكيف يصنع هؤلاء بالنصوص التي فيها أنه سبحانه هو الذي أضلهم، أيجوز لهم حملها على أنه دعاهم إلى الضلال؟!
فإن قالوا: ليس ذلك معناها، وإنما معناها ألفاهم ووجدهم كذلك، أو أعلم ملائكته ورسله بضلالهم، أو جعل على قلوبهم علامة تعرف الملائكة بها أنهم ضُلّال.
قيل: هذا (2) من جنس قولكم: إن هُداه سبحانه وإضلالهم بتسميتهم مهتدين وضالين.
فهذه أربع تحريفات لكم، وهي: أنه سمّاهم بذلك، وعلَّمهم بعلامة تعرفهم بها الملائكة، وأخبر عنهم بذلك، ووجدهم كذلك.
فالإخبار من جنس التسمية، وقد بينا أن اللغة لا تحتمل ذلك، وأن النصوص إذا تأملها المتأمل وجدها أبعد شيء عن هذا المعنى.
_________
(1) من هنا يبدأ خرم لوح كامل في "م"، وستأتي نهايته.
(2) "هذا" سقطت من "د" "ج"، واستدركت من "ت".
(1/275)
________________________________________
وأما العلامة فيا عجبًا لفرقة التحريف، وما جنت على القرآن والإيمان، ففي أي لغة وأي لسان يدل على أن معنى (1) قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]، أي: إنك لا تعلمه بعلامة، ولكن الله هو الذي يعلمه بها؟!
وقوله: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ} [الأعراف: 186]، مَن يعلمه الله بعلامة الضلال لم يعلمه غيره بعلامة الهدى.
وقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13] لعلمناها بعلامة الهدى الذي خلقته هي لنفسها وأعطته نفسها.
ومن (2) أي لغة يفهم من قول الداعي {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]، علِّمنَا بعلامة تعرف الملائكة بها أننا مهتدون؟
وقولهم: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8] لا تعلِّمنَا بعلامة أهل الزيغ.
وقوله: "يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك"، "يا مصرف القلوب، صرف قلبي على طاعتك" (3) وأمثال ذلك من النصوص، ففي أي لغة، وأي لسان يفهم من هذا علِّمنا بعلامة الثبات والتصريف على طاعتك؟
وفي أي لغة يكون معنى قوله: {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة: 13]، علَّمناها بعلامة القسوة أو وجدناها كذلك؟
_________
(1) "على أن معنى" ساقطة من "د" "ج"، واستدركت من "ت".
(2) "ج": "قيل: أي".
(3) تقدم تخريجهما في (155).
(1/276)
________________________________________
نعم، لو نزل القرآن بلغة القدرية والجهمية وأهل البدع لأمكن حمله على ذلك، وكان الحق تبعًا لأهوائهم، وكانت نصوصه تبعًا لبدع المبتدعين، وآراء المتحيرين.
وأنت تجد جميع هذه الطوائف تنزل القرآن على مذاهبها وبدعها وآرائها، فالقرآن عند الجهمية جهمي، وعند المعتزلة معتزلي، وعند القدرية قدري، وعند الرافضة رافضي، وكذلك هو عند جميع أهل الباطل، {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنفال: 34].
وأما تحريفهم هذه النصوص وأمثالها بأن المعنى: ألفاهم ووجدهم كذلك؛ ففي أي لسان، وأي لغة وجدتم: هديت الرجل إذا وجدته مهتديًا؟ وختم الله على قلبه وسمعه، وجعل على بصره غشاوة وجده كذلك؟ وهل هذا إلا افتراء محض على القرآن واللغة؟!
فإن قالوا: نحن لم نقل هذا في نحو ذلك، وإنما قلنا في نحو: {أَضَلَّهُ اللَّهُ} [الجاثية: 23] أي: وجده ضالًا، كما يقال: أحمدت الرجل وأبخلته وأجبنته، إذا وجدته كذلك، أو نسبته إليه.
فيقال لفرقة التحريف: هذا إنما ورد في ألفاظ معدودة نادرة، وإلا فوضع هذا البناء على أنك فعلت ذلك به، ولاسيما إذا كانت الهمزة للتعدية من الثلاثي كقام وأقمته، وقعد وأقعدته، وذهب وأذهبته، وسمع وأسمعته، ونام وأنمته، وكذا ضلّ وأضله الله، وأسعده وأشقاه، وأعطاه وأخزاه، وأماته وأحياه، وأزاغ قلبه، وأقامه إلى طاعته، وأيقظه من غفلته، وأراه آياته، وأنزله منزلًا مباركًا، وأسكنه جنته، إلى أضعاف ذلك، هل تجد فيها لفظًا واحدًا
(1/277)
________________________________________
معناه أنه وجده كذلك، تعالى الله عما يقول المحرفون.
ثم انظر في كتاب "فعل وأفعل" هل تظفر فيه بـ "أفعلتُه" بمعنى وجدته ــ مع سعة الباب ــ إلّا في الحرفين أو الثلاثة نقلًا عن أهل اللغة؟
ثم انظر هل قال أحد من الأولين والآخرين من أهل اللغة: إن العرب وضعت أضلّه الله وهداه، وختم على سمعه وقلبه، وأزاغ قلبه وصرفه على طاعته ونحو ذلك، بمعنى وجده كذلك؟
ولما أراد سبحانه الإبانة عن هذا المعنى قال: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى: 7]، ولم يقل: وأضلك، وقال في حق من خالف الرسول وكفر بما جاء به: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ}، ولم يقل: ووجده الله ضالًّا.
ثم أي توحيد وتمدُّح وتعريف للعباد أن الأمر كله لله وبيده، وأنه ليس لأحد من أمره شيء في مجرد التسمية والعلامة ومصادفة الربّ تعالى عباده كذلك، ووجوده (1) لهم على هذه الصفات من غير أن يكون له فيها صنع، أو خلق، أو مشيئة؟ وهل يعجز البشر عن التسمية والمصادفة والوجود كذلك؟ فأي مدحة وأي ثناء يحسن على الرب تعالى بمجرد ذلك؟
فأنتم وإخوانكم من الجبرية لم تمدحوا الرب بما يستحق أن يُمْدح به، ولم تثنوا عليه بأوصاف كماله، ولم تقدروه حق قدره، وأتباع الرسول وحزبه وخاصته بريئون منكم ومنهم في باطلكم وباطلهم، وهم معكم ومعهم فيما عندكم من الحق، لا يتحيّزون إلى فئة غير الرسول وما جاء به، ولا
_________
(1) من هذا الموضع ينتهي الخرم في "م".
(1/278)
________________________________________
ينحرفون عنه نصرة لآراء الرجال المختلفة وأهوائهم المتشتتة (1)، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
قال ابن مسعود: علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشهد في الصلاة والتشهد في الحاجة: "إن الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله"، ويقرأ ثلاث آيات: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} الآية [آل عمران: 102]، {اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَّاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} الآية [الأحزاب: 70]، قال الترمذي: "هذا حديث صحيح" (2).
وقال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيان، عن خالد الحذاء، عن عبد الأعلى، عن عبد الله بن الحارث، قال: خطب عمر بن الخطاب بالجابية، فحمد الله وأثنى عليه، وعنده جاثَلِيق (3) يُتَرْجَم له ما يقول، فقال: من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. فنفض جبينه كالمنكر لما يقول، قال عمر: ما يقول؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، يزعم أن الله لا يضل أحدًا. قال عمر: كذبت أي عدو الله، بل الله خلقك وقد أضلك، ثم يدخلك النار، أما والله لولا عهد لك لضربت عنقك، إن الله عز وجل خلق أهل الجنة وما
_________
(1) "م": "المتشبثة"، "د" لم ينقط سوى الشين، والمثبت من "ج" أشبه بالمعنى.
(2) أخرجه أحمد (3721)، وأبو داود (2118)، والترمذي (1105)، والنسائي (3277)، وابن ماجه (1892).
(3) هو مقدم الأساقفة عند بعض طوائف المسيحية الشرقية، "المعجم الوسيط" (1/ 107).
(1/279)
________________________________________
هم عاملون، وخلق أهل النار وما هم عاملون، فقال: هؤلاء لهذه، وهؤلاء لهذه. قال: فتفرق الناس وما يختلفون في القدر (1).
فصل
المرتبة الرابعة من مراتب الهداية: الهداية إلى الجنة والنار يوم القيامة، قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 22 - 23]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} [محمد: 4 - 5]، فهذه هداية بعد قتلهم.
فقيل: المعنى: سيهديهم إلى طريق الجنة، ويصلح حالهم في الآخرة بإرضاء خصومهم، وقبول أعمالهم.
وقال ابن عباس: "سيهديهم إلى أرشد الأمور، ويعصمهم أيام حياتهم في الدنيا" (2)، واستُشْكِل هذا القول؛ لأنه أخبر عن المقتولين في سبيله بأنه سيهديهم، واختاره الزجاج، وقال: يصلح بالهم في المعاش، وأحكام الدنيا، قال: وأراد أنه يجمع لهم خير الدنيا والآخرة (3)، وعلى هذا القول فلابد من حمل قوله: {قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} على معنى يصح معه إثبات الهداية وإصلاح البال.
* * * *
_________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب "القدر" كما في "تهذيب الكمال" (16/ 358)، والفريابي في "القدر" (54)، وبإسناد أبي داود مختصرًا الدارمي في "الرد على الجهمية" (257).
(2) نسبه إليه في "البسيط" (20/ 223).
(3) بمعناه في "معاني القرآن" (5/ 7)، وانظر: "البسيط" (20/ 223).
(1/280)
________________________________________
الباب الخامس عشر في الطبع والختم والقفل والغَلّ والسدّ والغشاوة الحائل بين الكافر وبين الإيمان، وأن ذلك مجعول للربّ تبارك وتعالى
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَانذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 6 - 7]، وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَّكَّرُونَ} [الجاثية: 23]، وقال تعالى: {وَقَوْلِهِمْ (1) قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155]، وقال: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 101]، وقال: {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [الأعراف: 100]، وقال: {(23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ} [محمد: 24]، وقال: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهْيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سُدٍّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سُدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَانْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [يس: 7 - 10].
وقد ضلَّ (2) بهذه الآيات ونحوها طائفتا القدرية والجبرية: فحرّفها القدرية بأنواع من التحريف المبطل لمعانيها وما أريد منها. وزعمت الجبرية
_________
(1) في النسخ الخطية: {وقالوا}.
(2) "د": "دخل".
(1/281)
________________________________________
أن الله أكرهها على ذلك، وقهرها عليه، وأجبرها من غير فعل منها ولا إرادة ولا اختيار ولا كسب البتّة، بل حال بينها وبين الهدى ابتداء من غير ذنب ولا سبب من العبد يقتضي ذلك، بل أمَرَه وحال ــ مع أمره ــ بينه وبين الهدى، فلم ييسِّر له إليه سبيلًا، ولا أعطاه عليه قدرة، ولا مكّنه منه بوجه، وزاد بعضهم: بل أحب له الضلال والكفر والمعاصي، ورضيه منه.
وهدى الله أهل السنة والحديث وأتباع الرسول لما اختلف فيه هاتان الطائفتان من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
قالت القدرية: لا يجوز حمل هذه الآيات على أنه منعهم من الإيمان، وحال بينهم وبينه، إذ تكون لهم الحجة على الله، ويقولون: كيف تأمرنا بأمر ثم تحول بيننا وبينه، وتعاقبنا عليه وقد منعتنا من فعله؟! وكيف تكلفنا بأمر لا قدرة لنا عليه؟! وهل هذا إلا بمثابة مَنْ أمرَ عبده بالدخول من باب، ثم سَدّ عليه ذلك الباب سدًّا محكمًا لا يمكنه الدخول معه البتّة، ثم عاقبه أشد العقوبة على عدم الدخول؟! وبمنزلة مَنْ أمره بالمشي إلى مكان، ثم قيده بقيد لا يمكنه معه نقل قدمه، ثم أخذ يعاقبه على ترك المشي؟!
وإذا كان هذا قبيحًا في حق المخلوق الفقير المحتاج، فكيف يُنسب إلى الرب تعالى مع كمال غناه وعلمه وإحسانه ورحمته؟!
قالوا: وقد كذَّب الله سبحانه الذين قالوا: قلوبنا غُلفٌ، وفي أكنة، وإنها قد طُبع عليها، وذمَّهم على هذا القول، فكيف يُنسب إليه تعالى؟!
ولكن القوم لما أعرضوا وتركوا الاهتداء بهداه الذي بعث به رسله حتى صار ذلك الإعراض والنفار كالإلف والطبيعة والسجيّة؛ أشبه حالهم حال من مُنِع عن الشيء وصُدّ عنه، وصار هذا وقرًا في آذانهم، وختمًا على قلوبهم،
(1/282)
________________________________________
وغشاوةً على أعينهم، فلا يخلص إليها الهدى، وإنما أضاف الله تعالى ذلك إليه لأن هذه الصفة قد صارت في تمكنها وقوة ثباتها كالخلقة التي خُلق عليها العبد.
قالوا: ولهذا قال تعالى: {كَلَّا بَل رَّانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]، وقال: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155]، وقال: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، وقال: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77].
ولعمر الله، إن الذي قاله هؤلاء حقّه أكثر من باطله، وصحيحه أكثر من سقيمه، ولكن لم يوفّوه حقّه، وعظَّموا الله من جهة وأخلّوا بتعظيمه من جهة؛ فعظموه بتنزيهه عن الظلم وخلاف الحكمة، وأخلّوا بتعظيمه من جهة التوحيد وكمال القدرة ونفوذ المشيئة.
والقرآن يدل على صحة ما قالوه في الران والطبع والختم من وجه، وعلى بطلانه من وجه.
فأمَّا صحته فإنه سبحانه جعل ذلك عقوبة لهم، وجزاء على كفرهم وإعراضهم عن الحق بعد أن عرفوه، كما قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ} [الصف: 5]، وقال: {كَلَّا بَل رَّانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]، وقال: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110]، وقال: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [التوبة: 127].
وقد اعترف بعض القدرية بأن ذلك خلق لله تعالى، ولكنه عقوبة على
(1/283)
________________________________________
كفرهم وإعراضهم السابق، فإنه سبحانه يعاقب على الضلال المقدور بإضلال بعده، ويثيب على الهدى بهدى بعده، كما يعاقب على السيئة بسيئة مثلها، ويثيب على الحسنة بحسنة مثلها، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17]، وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [الأحزاب: 70 - 71]، وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]، ومن الفرقان الهدى الذي يُفرَّق به بين الحق والباطل، وقال في ضد ذلك: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} [النساء: 88]، وقال: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10]، وقال: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [التوبة: 127].
وهذا الذي ذهب إليه هؤلاء حق، والقرآن دلَّ عليه، وهو موجب العدل، والله سبحانه ماضٍ في العبد حكمُه، عدلٌ في عبده قضاؤُه، فإنه إذا دعا عبده إلى معرفته ومحبته وذكره وشكره فأبى العبد إلا إعراضًا وكفرًا؛ قضى عليه بأن أغفل قلبه عن ذكره، وصدَّه عن الإيمان به، وحال بين قلبه وبين قبول الهدى، وذلك عدلٌ منه فيه، وتكون عقوبته بالختم والطبع والصدّ عن الإيمان كعقوبته له بذلك في الآخرة مع دخول النار، كما قال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ} [المطففين: 15 - 16]، فحجابهم عنه إضلال لهم (1)، وصدٌّ عن رؤيته وكمال معرفته، كما عاقب قلوبهم في هذه الدار بصدِّها عن الإيمان، وكذلك عقوبته لهم بصدهم عن
_________
(1) "د": "إضلالهم".
(1/284)
________________________________________
السجود له يوم القيامة مع الساجدين هو جزاء امتناعهم من السجود له في الدنيا، وكذلك عماهم عن الهدى في الآخرة عقوبة لهم على عماهم في الدنيا عنه، ولكن الفرق أن أسباب هذه الجرائم في الدنيا كانت مقدورة لهم (1)، واقعة باختيارهم وإرادتهم وفعلهم، فإذا وقعت عقوبات (2) لم تكن مقدورة، بل قضاء جارٍ عليهم ماضٍ عدل فيهم. قال تعالى: {(71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ فَهْوَ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ} [الإسراء: 72].
ومن ههنا ينفتح للعبد باب واسع عظيم النفع جدًّا في قضاء الله (3) المعصية والكفر والفسوق على العبد، وأن ذلك محض عدله فيه.
وليس المراد بالعدل ما يقوله الجبرية أنه الممكن، وكل ما يمكن فعله بالعبد فهو عندهم عدل، والظلم هو الممتنع لذاته، فهؤلاء قد سدّوا على أنفسهم باب الكلام في الأسباب والحِكَم.
ولا المراد به ما تقوله القدرية النفاة أنه إنكار عموم قدرة الله (4) على أفعال عباده وهدايتهم وإضلالهم، وعموم مشيئته لذلك، وأن الأمر إليهم لا إليه.
وتأمل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك" (5)، كيف
_________
(1) "د" "م": "له".
(2) كذا في الأصول: "عقوبات"، ولعل الأقرب للمعنى: "عقوباتها"، والله أعلم.
(3) "م": "إمضاء الله".
(4) "م" "ج": "قدرة الله ومشيئته" بزيادة "ومشيئته"، والسياق بدونها أكثر اتساقًا.
(5) أخرجه ابن أبي شيبة (29930)، وأحمد (3712)، وأبو يعلى (5297) من طرق عن فضيل بن مرزوق، ثنا أبو سلمة الجهني، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود به، وأعل باثنتين: الاختلاف في تعيين الجهني، وسماع القاسم من أبيه، وله متابعة وشاهد ضعيف من حديث أبي موسى، وصححه ابن حبان (972)، وقال الحاكم (1877): "هذا حديث صحيح على شرط مسلم إن سلم من إرسال عبد الرحمن بن عبد الله، عن أبيه فإنه مختلف في سماعه عن أبيه"، وتعقبه الذهبي بقوله: "قلت: وأبو سلمة لا يدرى من هو، ولا رواية له في الكتب الستة"، وحسنه بمتابعته وشاهده ابن حجر في "نتائج الأفكار" (4/ 100)، وانظر: "علل الدارقطني" (819)، حاشية محققي "مسند أحمد" (6/ 247).
(1/285)
________________________________________
ذكر العدل في القضاء مع الحكم النافذ، وفي ذلك ردٌّ لقول الطائفتين القدرية والجبرية؛ فإن العدل الذي أثبتته القدرية منافٍ للتوحيد، معطّل لكمال قدرة الربّ، وعموم مشيئته. والعدل الذي أثبتته الجبرية منافٍ للحكمة والرحمة، ولحقيقة العدل.
والعدل الذي هو اسمه وصفته ونعته سبحانه خارج عن هذا وهذا، ولم تعرفه إلا الرسل وأتباعهم، ولهذا قال هود - صلى الله عليه وسلم - لقومه: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56]، فأخبر عن عموم قدرته، ونفوذ مشيئته، وتصرفه في خلقه كيف شاء، ثم أخبر أنه في هذا التصرف والحكم على صراط مستقيم.
قال أبو إسحاق: "أي: هو سبحانه وإن كانت قدرته تنالهم بما شاء، فهو لا يشاء إلا العدل" (1).
وقال ابن الأنباري: "لما قال: {هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} كان في معنى: لا يخرج عن قبضته، وأنه قاهر بعظيم سلطانه لكل دابة، فأتبع قوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى
_________
(1) "معاني القرآن وإعرابه" (3/ 58).
(1/286)
________________________________________
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي: على الحق، قال: وهذا نحو كلام العرب إذا وصفوا رجلًا بحسن السيرة والعدل والإنصاف قالوا: فلان على طريقة حسنة، وليس ثَمَّ طريق.
ثم ذكر وجهًا آخر، فقال: لما ذكر أن سلطانه قد قهر كل دابة أتبع هذا قوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، أي: أنه لا يخفى عليه مشتبه، ولا يعدل عنه هارب، فذكر الصراط المستقيم، وهو يعني به الطريق الذي لا يكون لأحد مسلك إلا عليه، كما قال: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14] " (1).
قلت: فعلى القول الأول يكون المراد أنه في تصرفه في ملكه يتصرف بالعدل ومجازاة المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ولا يظلم مثقال ذرة، ولا يعاقب أحدًا بما لم يجنه، ولا يهضمه ثواب ما عمله، ولا يحمل عليه ذنب غيره، ولا يأخذ أحدًا بجريرة أحد، ولا يكلف نفسًا ما لا تطيقه، فيكون من باب {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ} [التغابن: 1]، ومن باب "ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك"، ومن باب {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]، أي: كما أنه ربّ العالمين المتصرف فيهم بقدرته ومشيئته فهو المحمود على هذا التصرف، وله الحمد على جميعه.
وعلى القول الثاني فالمراد به التهديد والوعيد، وأن مصير العباد إليه، وطريقهم عليه لا يفوته منهم أحد، كما قال تعالى: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} [الحجر: 41]، قال الفرّاء: "يقول: مرجعهم إليَّ فأجازيهم، كقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14]، قال: وهذا كما تقول في الكلام: طريقك
_________
(1) نقله الواحدي في "البسيط" (11/ 448)، وعنه المؤلف.
(1/287)
________________________________________
عليّ، وأنا على طريقك، لمن أوعدته" (1)، وكذلك قال الكلبي والكسائي (2).
ومثل قوله: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} [النحل: 9]، على أحد القولين في الآية، قال مجاهد: "الحق يرجع إلى الله، وعليه طريقه" (3)، {وَمِنْهَا} أي: ومن السبيل ما هو جائر عن الحق، {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}، فأخبر عن عموم مشيئته وقدرته، وأن طريق الحق عليه، موصلة إليه، فمن سلكها فإليه يصل، ومن عدل عنها فإنه يضل عنه.
والمقصود أن هذه الآيات تتضمن عدل الرب تعالى وتوحيده، وأنه يتصرف في خلقه بملكه وحمده وعدله وإحسانه، فهو على صراط مستقيم في قوله وفعله وشرعه وقدره وثوابه وعقابه، يقول الحق، ويفعل العدل، {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهْوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4].
فهذا العدل والتوحيد الذي دلّ عليه القرآن لا يتناقضان، وأما توحيد أهل القدر والجبر وعدلهم، فكل منهما يبطل الآخر ويناقضه.
فصل
ومن سلك من القدرية هذه الطريق فقد توسط بين الطائفتين، لكنه يلزمه الرجوع إلى قول مثبتي القدر قطعًا، وإلا تناقض أبين تناقض، فإنه إذا زعم أن
_________
(1) "معاني القرآن" (2/ 89).
(2) انظر: "البسيط" (12/ 607).
(3) بنحوه في "تفسير مجاهد" (420)، و"جامع البيان" (14/ 178)، وانظر: "البسيط" (13/ 23).
(1/288)
________________________________________
الضلال والطبع والختم والقفل والوقر، وما يحول بين العبد وبين الإيمان مخلوق لله، وهو واقع بقدرته ومشيئته؛ فقد أعطى أن أفعال العبد مخلوقة لله، وأنها واقعة بمشيئته، فلا فرق بين الفعل الابتدائي والفعل الجزائي إن كان هذا مقدورًا لله واقعًا بمشيئته فالآخر كذلك، وإن لم يكن ذاك مقدورًا، ولا يصح دخوله تحت المشيئة فهذا كذلك، والتفريق بين النوعين تناقض محض.
وقد حَكَى هذا التفريق عن بعض القدرية أبو القاسم الأنصاري في "شرح الإرشاد" فقال: "ولقد اعترف طوائف من القدرية بأن الختم والطبع موانع، غير أنها عقوبات من الله تعالى لأصحاب الجرائم، قال: وممن صار إلى هذا المذهب: عبد الواحد بن زيد البصري، وبكر ابن أخته، قال: وسبيل المعاقبين بذلك سبيل المعاقبين بالنار" (1)، وهؤلاء بقي عليهم درجة واحدة وقد تحيزوا إلى أهل السنة والحديث.
فصل
وقالت طائفةٌ منهم: الكافر هو الذي طَبَع على قلب نفسه في الحقيقة، وخَتَم على قلبه، والشيطانُ أيضًا فعل ذلك، ولكن لما كان الله سبحانه هو الذي أقدر العبد والشيطان على ذلك نسب الفعل إليه؛ لإقداره للفاعل على ذلك، لا لأنه هو الذي فعله.
قال أهل السنة والعدل: هذا الكلام فيه حق وباطل، فلا يُقبل مطلقًا ولا يُرد مطلقًا، فقولكم: "إن الله سبحانه أقدر الكافر والشيطان على الطبع
_________
(1) "شرح الإرشاد" نسخة أيا صوفيا (ق 180/أ) باختصار.
(1/289)
________________________________________
والختم" كلام باطل؛ فإنه لم يقدره إلا على التزيين والوسوسة والدعوة إلى الكفر، ولم يقدره على خلق ذلك في قلب العبد البتَّة، وهو أقل من ذلك وأعجز، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "بُعِثت داعيًا ومبلّغًا، وليس إليَّ من الهداية شيء، وخُلِق إبليس مُزيّنًا، وليس إليه من الضلالة شيء" (1)، فمقدور الشيطان أن يدعو العبد إلى فعل الأسباب التي إذا فعلها ختم الله على قلبه وسمعه وطبع عليه، كما يدعوه إلى الأسباب التي إذا فعلها (2) عاقبه الله بالنار، فعقابه بالنار كعقابه بالختم والطبع، وأسباب العقاب فعله، وتزيينها وتحسينها فعل الشيطان، والجميع مخلوق لله.
وأما ما في هذا الكلام من الحق فهو أن الله سبحانه أقدر العبد على الفعل الذي أوجب الطبع والختم على قلبه، فلولا إقدار الله له على ذلك لم يفعله.
وهذا حق، لكن القدرية لم توفِ هذا الموضع حقه، وقالت: أقدره قدرة تصلح للضدين، فكان فعْل أحدهما باختياره ومشيئته التي لا تدخل تحت مقدور الرب، وإن دخلت قدرته الصالحة لهما تحت مقدوره سبحانه، فمشيئته واختياره وفعله غير واقع تحت مقدور الرب، وهذا من أبطل الباطل، فإن كل ما سواه مخلوق له، داخل تحت قدرته، واقع بمشيئته، فلو لم يشأه لم يكن.
_________
(1) تقدم تخريجه في (266).
(2) من قوله: "ختم الله" إلى هنا ساقط من "م" انتقال نظر.
(1/290)
________________________________________
قالت القدرية: لما أعرضوا عن التدبّر، ولم يصغوا إلى التذكّر (1)، وكان ذلك مقارنًا لإيراد الله سبحانه حجته عليهم؛ أضيفت أفعالهم إلى الله؛ لأن حدوثها إنما اتفق عند إيراد الحجة عليهم.
قال أهل السنة: هذا من أمحل المحال أن يضيف الربُّ إلى نفسه أمرًا لا يُضاف إليه البتَّة؛ لمقارنته ما هو من فعله، ومن المعلوم أن الضدّ يقارن الضدّ، فالشر يقارن الخير، والحق يقارن الباطل، والصدق يقارن الكذب، وهل يُقال: إن الله سبحانه يحب الكفر والفسوق والعصيان لمقارنتها ما يحبه من الإيمان والطاعة، وإنه يحب إبليس لمقارنة وجوده لوجود الملائكة؟!
فإن قيل: قد يُنسب الشيء إلى الشيء لمقارنته له وإن لم يكن له فيه تأثير، كقوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَت سُّورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 124 - 125]، ومعلوم أن السورة لم تُحْدِث لهم زيادة الرِّجْس، بل قارن زيادة رِجْسهم لنزولها فنُسِب إليها.
قيل: لم ينحصر الأمر في هذين الأمرين اللذين ذكرتموهما، وهما: إحداث السورة الرِّجْس، والثاني: مقارنته لنزولها، بل ههنا أمر ثالث، وهو أن السورة لما أُنزلت اقتضى نزولها الإيمان بها، والتصديق والإذعان لأوامرها ونواهيها، والعمل بما فيها، فوطّن المؤمنون أنفسهم على ذلك، فازدادوا إيمانًا بسببها، فنُسِبت زيادة الإيمان إليها؛ إذ هي السبب في زيادته، وكذّب بها الكافرون وجحدوها، وكذبوا من جاء بها، ووطّنوا أنفسهم على مخالفة ما
_________
(1) "د": "الذكر".
(1/291)
________________________________________
تضمنته وإنكاره، فازدادوا بذلك رِجْسًا، فنُسِب إليها؛ إذ كان نزولها ووصولها إليهم هو السبب في تلك الزيادة.
فأين هذا من نسبة الأفعال القبيحة عندكم التي لا تجوز نسبتها إلى الله عند دعوتهم إلى الإيمان وتدبر آياته؟!
على أن أفعالهم القبيحة لا تُنْسب إلى الله سبحانه، وإنما هي منسوبة إليهم، والمنسوب إليه سبحانه أفعاله الحسنة الجميلة، المتضمّنة للغايات المحمودة، والحكم المطلوبة، فالختم والطبع والقفل والإضلال أفعال حسنة من الله، وضَعها في أليق المواضع بها، إذ لا يليق بذلك المحل الخبيث غيرها. والشرك والكفر والمعاصي والظلم أفعالهم القبيحة التي لا تُنْسب إلى الله فعلًا، وإن نُسِبت إليه خلقًا، فخَلْقها غيرها، والخلق غير المخلوق، والفعل غير المفعول، والقضاء غير المقضي، والقدر غير المقدور، وستمر بك هذه المسألة مستوفاة ــ إن شاء الله ــ في باب: اجتماع الرضا بالقضاء (1) وسخط الكفر والفسوق والعصيان، إن شاء الله (2).
قالت القدرية: لما بلغوا في الكفر إلى حيث لم يبق طريق إلى تحصيل الإيمان لهم إلا بالقسر والإلجاء، ولم تقتض حكمته تعالى أن يقسرهم على الإيمان؛ لئلا تزول حكمة التكليف= عبّر عن ترك الإلجاء والقسر بالختم والطبع؛ إعلامًا بأنهم انتهوا في الكفر والإعراض إلى حيث لا ينتهون عنه إلا بالقسر، وتلك الغاية في وصف لجاجهم وتماديهم في الكفر.
_________
(1) "م": "بالقدر".
(2) (2/ 370).
(1/292)
________________________________________
قال أهل السنة: هذا كلام باطل؛ فإنه سبحانه قادر على أن يخلق فيهم مشيئة الإيمان وإرادته ومحبته، فيؤمنون بغير قسر ولا إلجاء، بل إيمان اختيار وطاعة، كما قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99]، وإيمان القسر والإلجاء لا يسمّى إيمانًا، ولهذا يؤمن الناس كلهم يوم القيامة، ولا يسمّى ذلك إيمانًا؛ لأنه عن إلجاء واضطرار.
وقال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13]، وما يحصل للنفوس من المعرفة والتصديق بطريق الإلجاء والاضطرار والقسر لا يسمّى هدى، وكذلك قوله: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد: 31].
فقولكم: لم يبق طريق إلى إيمانهم إلا بالقسر: باطل؛ فإنه بقي إلى إيمانهم طريق لم يُرِهم الله إياه، وهو مشيئته وتوفيقه وإلهامه، وإمالة قلوبهم إلى الهدى، وإقامتها على الصراط المستقيم، وذلك أمر لا يعجز عنه ربّ كل شيء ومليكه، بل هو القادر عليه كقدرته على خلق ذواتهم وصفاتهم وذرّاتهم، ولكن منعهم ذلك لحكمته وعدله فيهم، وعدم استحقاقهم وأهليتهم لبذل ذلك لهم، كما منع السُّفْل خصائص العلو، ومنع الحار خصائص البارد، ومنع الخبيث خصائص الطيب.
ولا يقال: فلم فعل هذا؟ فإن ذلك من لوازم ملكه وربوبيته، ومن مقتضيات أسمائه وصفاته، وهل يليق بحكمته أن يسوّي بين الطيب والخبيث، والحسن والقبيح، والجيد والرديء؟ ومن لوازم الربوبية خلق الزوجين، وتنويع المخلوقات وأخلاقها.
(1/293)
________________________________________
فقول القائل: لِمَ خَلَق الرديء والخبيث واللئيم؟ سؤال جاهل بأسمائه وصفاته وملكه وربوبيته، وهو سبحانه قد فرّق بين خلقه أعظم تفريق، وذلك من كمال قدرته وربوبيته، فجعل منه ما يقبل جميع الكمال الممكن، ومنه ما لا يقبل شيئًا منه، وبين ذلك درجات متفاوتة لا يحصيها إلا الخلاق العليم، وهدى كل نفس إلى حصول ما هي قابلة له، والقابل والمقبول والقَبول كله مفعوله ومخلوقه، وأثر فعله وخلقه، وهذا هو الذي ذهب عن الجبرية والقدرية ولم يهتدوا إليه، وبالله التوفيق.
قالت القدرية: الختم والطبع هو شهادته سبحانه عليهم بأنهم لا يؤمنون، وعلى أسماعهم وعلى قلوبهم (1).
قال أهل السنة: هذا هو قولكم بأن الختم والطبع هو الإخبار عنهم بذلك، وقد تقدم فساد هذا بما فيه كفاية، وأنه لا يقال في لغة من لغات الأمم لمن أخبر عن غيره بأنه مطبوع على قلبه، وأن عليه ختمًا: إنه قد طَبَع على قلبه وخَتَم عليه، بل هذا كذب على اللغات وعلى القرآن.
وكذلك قول من قال: إن ختمه على قلوبهم اطّلاعه على ما فيها من الكفر. وكذلك قول من قال: إنه إحصاؤه عليهم حتى يجازيهم به. وقول من قال: إنه إعلامها بعلامة تعرفها بها الملائكة. وقد بيَّنا بطلان ذلك بما فيه كفاية.
قالت القدرية: لا يلزم من الطبع والختم والقفل أن تكون مانعةً من الإيمان، بل يجوز أن يجعل الله فيهم ذلك من غير أن يكون منعهم من
_________
(1) هكذا وقعت الجملة في الأصول.
(1/294)
________________________________________
الإيمان، بل يكون ذلك من جنس الغفلة والبلادة والعَشَا في البصر، فيورث ذلك إعراضًا عن الحق وتعاميًا عنه، ولو أنعم النظر، وتفكر وتدبر؛ لما آثر على الإيمان غيره.
وهذا الذي قالوه يجوز أن يكون في أول الأمر، فإذا تمكن واستحكم من القلب ورسخ فيه امتنع معه الإيمان، ومع هذا فهو أثر فعله وإعراضه وغفلته، وإيثار شهوته وكبره على الحق والهدى، فلما تمكّن فيه واستحكم صار صفة راسخة وطبعًا وختمًا وقفلًا ورانًا، فكان مبدؤه غير حائل بينهم وبين الإيمان، والإيمان ممكن معه، لو شاؤوا لآمنوا مع مبادئ تلك الموانع، فلما استحكمت لم يبق إلى الإيمان سبيل.
ونظير هذا أن العبد يستحسن ما يهواه فيميل إليه بعض الميل، ففي هذه الحال يمكن صرف دواعيه وعشقه له، إذ الأسباب لم تستحكم، فإذا استمر على ميله، واستدعى أسبابه، واستحكمت لم يمكنه صرف قلبه عن الهوى والمحبة، فيطبع على قلبه، ويختم عليه، فلا يبقى فيه محل لغير ما يهواه ويحبه، فكان الانصراف عن السعي مقدورًا له في أول الأمر، فلما تمكنت أسبابه لم يبق مقدورًا له، كما قال الشاعر:
تولّع بالعشق حتى عشق ... فلما استقل به لم يُطِقْ
رأى لُجّةً ظنّها موجةً ... فلما تمكّن منها غرق (1)
_________
(1) من أربعة أبيات لأبي الحسين محمد بن المظفر بن نحرير البغدادي (455 هـ) أسندها ابن الجوزي في "ذم الهوى" (586)، وهي في ترجمته من "تاريخ الإسلام" (10/ 65).
وأوردها المؤلف في "الداء والدواء" (498)، و"روضة المحبين" (225)، و"الكلام على مسألة السماع" (248).
(1/295)
________________________________________
فلو أنهم بادروا في مبدأ الأمر (1) إلى مخالفة الأسباب الصادة عن الهدى لسهل عليهم، ولمَا استعصى عليهم، ولقدروا عليه.
ونظير ذلك: المبادرة إلى إزالة العلّة قبل استحكام أسبابها، ولزومها للبدن لزومًا لا ينفك منها، فإذا استحكمت العلة، وصارت كالجزء من البدن عزَّ على الطبيب استنقاذ العليل منها.
ونظير ذلك: المتوحِّل في حَمْأة، فإنه ما لم يدخل لجّتها فهو قادر على التخلص، فإذا توسط معظمها عَزّ عليه وعلى غيره إنقاذه.
فمبادئ الأمور مقدورة للعبد، فإذا استحكمت (2) أسبابها منه وتمكنت لم يبق الأمر مقدورًا له، فتأمل هذا الموضع حق التأمل، فإنه من أنفع الأشياء في باب القدر، والله الموفق للصواب.
والله سبحانه جاعل ذلك كله وخالقه فيهم بأسباب منهم، وتلك الأسباب قد تكون أمورًا عدمية يكفي فيها عدم مشيئة أضدادها، فلا يشاء سبحانه أن يخلق للعبد أسباب الهدى، فيبقى على العدم الأصلي. وإن أراد من عبده الهداية فهي لا تحصل حتى يريد من نفسه إعانته وتوفيقه، فإذا لم يرد سبحانه من نفسه (3) ذلك لم تحصل الهداية.
_________
(1) "م": "أول الأمر".
(2) "د" "م": "تحكمت".
(3) "د": "عبده".
(1/296)
________________________________________
فصل
ومما ينبغي أن يعلم أنه لا يمتنع مع الطبع والختم والقفل حصول الإيمان، بأن يفك الذي خُتِم على القلب، وطُبِع عليه، وضُرِب عليه القفل ذلك الختم والطابع والقفل، ويهديه بعد ضلالته، ويعلمه بعد جهله، ويرشده بعد غَيِّه، ويفتح قفل قلبه بمفاتيح توفيقه التي هي بيده، حتى لو كتب على جبينه الشقاوة والكفر، لم يمتنع أن يمحوها، ويكتب عليه السعادة والإيمان.
وقرأ قارئ عند عمر بن الخطاب: {(23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ} [محمد: 24]، وعنده شاب فقال: اللهم عليها أقفالها، ومفاتيحها بيدك، لا يفتحها سواك. فعرفها له عمر، وزادته عنده خيرًا (1).
وكان عمر - رضي الله عنه - يقول في دعائه: "اللهم إن كنت كتبتني شقيًا فامحني واكتبني سعيدًا، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت" (2).
_________
(1) لم أقف عليه بهذا السياق.
وأخرج اللالكائي في "أصول الاعتقاد" (972)، والبيهقي في "القضاء والقدر" (386) عن سهل بن سعد قال: تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: {(23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ}، وغلام جالس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: بلى والله يا رسول الله، إن عليها لأقفالها ولا يفتحها إلا الذي أقفلها. فلما ولي عمر طلبه ليستعمله، وقال: لم يقل ذلك إلا من عقل. وفي إسناده المقدام بن داود وذؤيب بن عمامة: ضعيفان كما في "الميزان" (4/ 176)، وله شاهد من مرسل عروة أخرجه إسحاق كما في "إتحاف الخيرة" (5821)، والطبري (21/ 217).
(2) أخرجه الطبري (13/ 564)، وابن بطة في "الإبانة الكبرى" (1565)، وأُثِر عن غير واحد من السلف نحوه.
(1/297)
________________________________________
فالرب تعالى فعَّالٌ لما يريد، لا حَجْر عليه.
وقد ضلّ ههنا فريقان:
القدرية: حيث زعمت أن ذلك ليس مقدورًا للربِّ، ولا يدخل تحت فعله؛ إذ لو كان مقدورًا له ومنعه العبد لناقض جودَه ولطفَه.
والجبرية: حيث زعمت أنه سبحانه إذا قدّر قدرًا، أو علم شيئًا فإنه لا يغيره بعد هذا، ولا يتصرف فيه بخلاف ما قدره وعلمه.
والطائفتان حَجَرت على من لا يدخل تحت حَجْر أحد أصلًا، وجميع خلقه تحت حَجْره شرعًا وقدرًا.
وهذه المسألة من أكبر مسائل القدر، وسيمر بك ــ إن شاء الله ــ في باب المحو والإثبات ما يشفيك فيها (1).
والمقصود أنه مع الطبع والختم والقفل لو تعرض العبد لفَكِّ ذلك الختم والطابع، وفَتْح ذلك القفل لفتحه من بيده مفاتيح كل شيء، وأسباب الفتح مقدورة للعبد غير ممتنعة عليه، وإن كان فكُّ الختم وفَتْحُ القفل غير مقدور له، كما أن شرب الدواء مقدور له، وزوال العلة وحصول العافية غير مقدور له، فإذا استحكم به المرض، وصار صفة لازمة له لم يكن له عذر في تعاطي ما إليه من أسباب الشفاء، وإن كان غير مقدور له، ولكن لمّا ألف العلة وساكَنها، ولم يحب زوالها، ولا آثر ضدها عليها، مع معرفته بما بينها (2) وبين ضدها من التفاوت= فقد سدّ على نفسه باب الشفاء بالكلية.
_________
(1) لم يفرد المؤلف بابًا لذلك، فلعل قصده مباحث النسخ الآتية في (2/ 120 - 124).
(2) "م": "وبينه".
(1/298)
________________________________________
والله سبحانه يهدي عبده إذا كان ضالًّا وهو يحسب أنه على هدى، فإذا تبيّن له الهدى لم يعدل عنه لمحبته له، وملاءمته لنفسه. فإذا عرف الهدى فلم يحبه، ولم يرض به، وآثر عليه الضلال، مع تكرر تعريفه منفعة هذا وخيره، ومضرة هذا وشره؛ فقد سدّ على نفسه باب الهدى بالكلية.
فلو أنه في هذه الحال تعرّض وافتقر إلى من بيده هداه، وعلم أنه ليس إليه هدى نفسه، وأنه إن لم يهده فهو ضالّ، وسأل الله أن يُقْبِل بقلبه، وأن يقيه شر نفسه= لوفّقه وهداه، بل لو علم الله منه كراهيةً لما هو عليه من الضلال، وأنه مرض قاتل له إن لم يشفه منه أهلكه؛ لكانت كراهته له وبغضه إياه مع كونه مبتلى به من أسباب الشفاء والهداية، ولكن من أعظم أسباب الشقاء والضلال محبته له، ورضاه به، وكراهته للهدى والحق.
فلو أن المطبوع على قلبه، المختوم عليه، كره ذلك ورغب إلى الله في فكِّ ذلك عنه وفعل مقدوره؛ لكان هداه أقرب شيء إليه، ولكن إذا استحكم الطبع والختم حال بينه وبين كراهة ذلك، وسؤال الرب فكّه وفتح قلبه.
فصل
فإن قيل: فإذا جوّزتم أن يكون الطبع والختم والقفل عقوبة وجزاء على الجرائم والإعراض والكفر السابق؛ فكيف يمكنكم طرد ذلك في الختم والطبع السابق على فعل الجرائم؟
قيل: هذا موضع يغلط فيه أكثر الناس، ويظنون بالله سبحانه خلاف موجَب أسمائه وصفاته، والقرآن من أوله إلى آخره إنما يدل على أنّ الطبع والختم والغشاوة لم يفعلها الربّ سبحانه بعبده من أول وهلة حين أمره
(1/299)
________________________________________
بالإيمان وبيَّنه له، وإنما فعله بعد تكرر الدعوة منه سبحانه، والتأكيد في البيان والإرشاد، وتكرر الإعراض منهم، والمبالغة في الكفر والعناد، فحينئذ يطبع على قلوبهم، ويختم عليها، فلا تقبل الهدى بعد ذلك، والإعراض والكفر الأول لم يكن مع ختمٍ وطبعٍ، بل كان اختيارًا، فلما تكرر منهم صار طبيعة وسجيّة.
فتأمل هذا المعنى في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَانْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 6 - 7]، ومعلوم أن هذا ليس حكمًا يعم جميع الكفار، بل الذين آمنوا وصدقوا الرسول كان أكثرهم كفارًا قبل ذلك، ولم يختم على قلوبهم وأسماعهم.
فهذه الآيات في حق أقوام مخصوصين من الكفار، فعل الله بهم ذلك عقوبة منه لهم في الدنيا بهذا النوع من العقوبة العاجلة، كما عاقب بعضهم بالمسخ قردة وخنازير، وبعضهم بالطمس على أعينهم، فهو سبحانه يعاقب بالطمس على القلوب، كما يعاقب بالطمس على الأعين، وهو سبحانه قد يعاقب بالضلال عن الحق عقوبة دائمة مستمرة، وقد يعاقب به إلى وقت، ثم يعافي عبده ويهديه، كما يعاقب بالعذاب كذلك.
فصل
وههنا عدة أمور عاقب بها الكفار بمنعهم من الإيمان، وهي: الختم، والطبع، والأكنّة، والغطاء، والغلاف، والحجاب، والوَقْر، والغشاوة، والران، والغل، والسد، والقفل، والصمم، والبكم، والعمى، والصدّ، والصرف،
(1/300)
________________________________________
والشد على القلب، والضلال، والإغفال، والمرض، وتقليب الأفئدة، والحَوْل بين المرء وقلبه، وإزاغة القلوب، والخذلان، والإركاس، والتثبيط، والتزيين، وعدم إرادة هداهم وتطهيرهم، وإماتة (1) قلوبهم بعدم خلق الحياة فيها، فتبقى على الموت الأصلي، وإمساك النور عنها فتبقى في الظلمة الأصلية، وجعل القلب قاسيًا لا ينطبع فيه مثال الهدى وصورته، وجعل الصدر ضيّقًا حرجًا لا يقبل الإيمان.
وهذه الأمور منها ما يرجع إلى القلب، كالختم والطبع والقفل والأكنّة والإغفال والمرض ونحوها، وما يرجع إلى رسوله الموصِل إليه الهدى كالصمم والوَقْر، ومنها ما يرجع إلى طليعته ورائده كالعمى والغشاء (2)، ومنها ما يرجع إلى ترجمانه ورسوله المبلغ عنه كالبَكَم النطقي، وهو نتيجة البَكَم القلبي، فإذا بَكَم القلب بَكَم اللسان.
ولا تصغ إلى قول من يقول: إن هذه مجازات واستعارات، فإنه قال بحسب مبلغه من العلم والفهم عن الله ورسوله، وكأن هذا القائل حقيقة القفل عنده أن يكون من حديد، والختم أن يكون بشمع أو طين، والمرض أن يكون حمّى بنافض أو قَوْلَنْجًا (3) أو غيرهما من أمراض البدن، والموت هو مفارقة الروح للبدن ليس إلا، والعمى ذهاب ضوء العين الذي تبصر به.
وهذه الفرقة من أغلظ الناس حجابًا؛ فإن هذه الأمور إذا أضيفت إلى
_________
(1) "م": "وإمالة".
(2) من قوله: "ومنها ما يرجع" إلى هنا ساقط من "د".
(3) مرض معوي مؤلم يصعب معه خروج البراز والريح، وسببه التهاب القولون، وفي ضبطه عدة أوجه، انظر: "محيط المحيط" (763)، "المعجم الوسيط" (2/ 767).
(1/301)
________________________________________
محالها كانت بحسب تلك المحال، فنسبة قفل القلب إلى القلب كنسبة قفل الباب إليه، وكذلك الختم والطابع الذي عليه هو بالنسبة إليه كالختم والطابع الذي على الباب والصندوق ونحوهما، وكذلك نسبة الصمم والعمى إليه كنسبة الصمم والعمى إلى الأذن والعين، وكذلك موته وحياته نظير موت البدن وحياته، بل هذه أمور ألزم للقلب منها للبدن.
فلو قيل: إنها حقيقة في ذلك، مجاز في الأجسام (1) المحسوسة؛ لكان مثل قول هؤلاء وأقوى منه، وكلاهما باطل، فالعمى في الحقيقة والبكم والموت والقفل للقلب.
ثم قال تعالى: {لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} [الحج: 46]، وهذا النفي يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون المعنى: إن أبصارهم لم تعمَ عن رؤية آياتنا، بل رأوها عيانًا، ولكن عميت قلوبهم عنها.
ويدل عليه قوله تعالى: {يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا} [الحج: 46]، ثم قال: {لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ} أي: قد رأوا وأبصروا، ولكن عميت قلوبهم ولم يبصروا.
الوجه الثاني: أن يكون المعنى: أنه ليس العمى في الحقيقة عمى البصر إذا كان القلب مبصرًا، وإنما العمى الحقيقي عمى القلب الذي في الصدر، والمعنى: أنه معظم العمى وأصله.
_________
(1) "د": "الأقسام".
(1/302)
________________________________________
وهذا كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الربا في النسيئة" (1)، وقوله: "إنما الماء من الماء" (2)، وقوله: "ليس الغنى عن كثرة العَرَض، إنما الغنى غنى النفس" (3)، وقوله: "ليس المسكين الطوّاف الذي تردّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، إنما المسكين الذي لا يجد ما يغنيه، ولا يُفْطَن له فيُتصدّق عليه" (4)، وقوله: "ليس الشديد بالصُّرَعَة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" (5)، ولم يرد نفي الاسم عن هذه المسميات، إنما أراد أن هؤلاء أولى بهذه الأسماء وأحق ممن يسمونه بها، فهكذا قوله: {تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)}، وقريب من هذا قوله تعالى: {لَيْسَ اَلْبِرُّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية [البقرة: 177]، وعلى التقديرين فقد أثبت للقلب عمى حقيقة، وهكذا جميع ما نُسِب إليه.
ولما كان القلب ملك الأعضاء وهي جنوده، وهو الذي يحركها ويستعملها، والإرادة والقوى والحركة الاختيارية منه تنبعث؛ كانت هذه الأشياء له أصلًا، وللأعضاء (6) تبعًا، فلنذكر هذه الأمور مفصلة ومواقعها في
_________
(1) أخرجه البخاري (2178)، ومسلم (1596) ـ واللفظ له ـ من حديث أسامة بن زيد.
(2) أخرجه البخاري (180)، ومسلم (343) ـ واللفظ له ـ من حديث أبي سعيد الخدري.
(3) أخرجه البخاري (6446)، ومسلم (1051) من حديث أبي هريرة.
(4) أخرجه البخاري (1479)، ومسلم (1039) من حديث أبي هريرة.
(5) أخرجه البخاري (6114)، ومسلم (2609) من حديث أبي هريرة.
(6) "د" و"م": "والأعضاء".
(1/303)
________________________________________
القرآن.
فقد تقدم الختم، قال الأزهري: "وأصله التغطية، وخَتَمَ البذرَ في الأرض إذا غَطَّاه" (1).
وقال أبو إسحاق: "معنى: خَتَم وطَبَعَ في اللغة واحد، وهو: التغطية على الشيء والاستيثاق منه، فلا يدخله شيء، كما قال تعالى: {الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ} [محمد: 24]، وكذلك قوله: {طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [محمد: 16] " (2).
قلت: الختم والطبع يشتركان فيما ذُكِر، ويفترقان في معنى آخر، وهو: أن الطبع ختم يصير سجية وطبيعة، فهو تأثير لازم لا يفارق.
وأما الأكنّة ففي قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} [الإسراء: 46]، وهي جمع كِنَان، كعِنَان وأعِنّة، وأصله من الستر والتغطية، ويقال: كَنّهُ وأكنّهُ، وليسا بمعنى واحد، بل بينهما فرق، فأكنّهُ إذا ستره وأخفاه، كقوله تعالى: {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 235]، وكَنّهُ إذا صانه وحفظه، كقوله: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ} [الصافات: 49]، ويشتركان في الستر، والكِنَان ما أكنَّ الشيء وسَتَره، وهو كالغلاف، وقد أقرّوا على أنفسهم بذلك فقالوا: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5]، فذكروا غطاء القلب وهي الأكنّة، وغطاء الأذن وهو الوَقْر، وغطاء العين وهو الحجاب، والمعنى: لا نفقه كلامك، ولا نسمعه، ولا نراك، والمعنى: إنا في ترك القبول منك بمنزلة من لا يفقه ما تقول، ولا يسمعه، ولا يراك.
_________
(1) "تهذيب اللغة" (7/ 316).
(2) "معاني القرآن وإعرابه" (1/ 82).
(1/304)
________________________________________
قال ابن عباس: " {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ} مثل الكنانة التي فيها السهام" (1).
وقال مجاهد: "كجَعْبة النّبْل" (2).
وقال مقاتل: "عليها غطاء فلا تفقه ما تقول" (3).
فصل
وأما الغطاء فقال تعالى: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} [الكهف: 100 - 101]، وهذا يتضمن معنيين:
أحدهما: أن أعينهم في غطاء عما تضمنه الذكر من آيات الله وأدلة توحيده وعجائب قدرته.
والثاني: أن أعين قلوبهم في غطاء عن فهم القرآن وتدبره والاهتداء به، وهذا الغطاء للقلب أولًا، ثم يسري منه إلى العين.
فصل
وأما الغلاف فقال تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 88]، وقد اختلف في معنى قولهم: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ}.
فقالت طائفة: المعنى: قلوبنا أوعية للحكمة والعلم، فما بالها لا تفهم عنك ما أتيت به؟ أو لا تحتاج إليك، وعلى هذا فيكون "غلفٌ" جمع غلاف.
_________
(1) نسبه إليه في "البسيط" (19/ 419).
(2) أسنده عبد الرزاق في "التفسير" (2688)، وانظر: التفسير المنسوب إلى مجاهد (585).
(3) نسبه إليه في "البسيط" (19/ 419)، وانظر: "تفسير مقاتل" (3/ 735).
(1/305)
________________________________________
والصحيح قول أكثر المفسرين أن المعنى: قلوبنا لا تفقه ولا تفهم ما تقول، وعلى هذا فهو جمع "أَغْلف" كأَحْمر وحُمْر.
قال أبو عبيدة: "كل شيء في غلاف فهو أغلف، كما يقال: سيف أغلف، وقوس غَلْفاء، ورجل أغلف غير مختون" (1).
قال ابن عباس وقتادة ومجاهد: على قلوبنا غشاوة، فهي في أوعية، فلا تعي ولا تفقه ما تقول (2).
وهذا هو الصواب في معنى الآية؛ لتكرر نظائره في القرآن، كقولهم: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ} [فصلت: 5]، وقوله تعالى: {كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي} [الكهف: 101]، ونظائر ذلك.
وأما قول من قال: هي أوعية للحكمة، فليس في اللفظ ما يدل عليه البتة، وليس له في القرآن نظير يُحمل عليه، ولا يقال مثل هذا اللفظ في مدح الإنسان نفسه بالعلم والحكمة، فأين وجدتم في الاستعمال قول القائل: قلبي غلاف، وقلوب المؤمنين العالمين غُلْف، أي: أوعية للعلم؟
والغلاف قد يكون وعاء للجيد والرديء، فلا يلزم من كون القلب غلافًا أن يكون داخله العلم والحكمة، وهذا ظاهر جدًا.
فإن قيل: فالإضراب بـ "بل" على هذا القول الذي قوّيْتموه ما معناه؟ وأما على القول الآخر فظاهر، أي: ليست قلوبكم محلًا للعلم والحكمة، بل مطبوع عليها.
_________
(1) "مجاز القرآن" (1/ 46).
(2) انظر: "جامع البيان" (2/ 228)، "البسيط" (3/ 134).
(1/306)
________________________________________
قيل: وجه الإضراب في غاية الظهور، وهو أنهم احتجوا بأن الله لم يفتح لهم الطريق إلى فهم ما جاء به الرسول ومعرفته، بل جعل قلوبهم داخلة في غُلْف فلا تفقهه، فكيف تقوم به عليهم الحجة، وكأنهم ادعوا أن قلوبهم (1) خلقت في غُلْف، فهم معذورون في عدم الإيمان، فأكذبهم الله سبحانه وقال: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155]، وقال في الآية الأخرى: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 88].
فأخبر سبحانه أن الطبع والإبعاد عن توفيقه وفضله إنما كان بكفرهم الذي اختاروه لأنفسهم، وآثروه على الإيمان، فعاقبهم عليه بالطبع واللعنة، والمعنى: لم نخلق قلوبهم غلفًا لا تعي ولا تفقه ثم نأمرهم بالإيمان وهم لا يفهمونه ولا يفقهونه، بل اكتسبوا أعمالًا عاقبناهم عليها بالطبع على القلوب والختم عليها.
فصل
وأما الحجاب ففي قوله تعالى حكاية عنهم: {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5]، وقوله: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء: 45]، على أصح القولين، والمعنى: جعلنا بين القرآن ــ إذا قرأته ــ وبينهم حجاب (2)، يحول بينهم وبين فهمه وتدبره والإيمان به، ويبينه قوله: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الأنعام: 25]، وهذه الثلاثة هي الثلاثة المذكورة في قوله: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا
_________
(1) من قوله: "داخلة" إلى هنا ساقط من "د".
(2) كذا في الأصول: "حجاب" دون تنوين، والوجه النصب على المفعولية.
(1/307)
________________________________________
إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5]، فأخبر سبحانه أن ذلك جَعْله، فالحجاب يمنع عن رؤية الحق، والأكنّة تمنع من فهمه، والوَقْر يمنع من سماعه.
وقال الكلبي: "الحجاب ههنا مانع يمنعهم عن الوصول إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأذى من الرعب ونحوه مما يصدهم عن الإقدام عليه" (1).
ووصفه بكونه مستورًا، فقيل: بمعنى ساتر، وقيل: على النسب، أي: ذو ستر، والصحيح: أنه على بابه، أي: مستورًا عن الأبصار فلا يُرى، ومجيء مفعول بمعنى فاعل لا يثبت، والنسب في مفعول لم يُشتق من فعله، كمكان مهول، أي: ذي هول، ورجل مرطوب، أي: ذي رطوبة، فأما مفعول فهو جار على فعله، فهو الذي وقع عليه الفعل، كمضروب ومجروح ومستور (2).
فصل
وأما الران فقد قال تعالى: {كَلَّا بَل رَّانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]، قال أبو عبيدة: "غلب عليها، والخمر تَرِين على عقل السكران، والموت يَرِين على الميت فيذهب به" (3).
ومن هذا حديث أُسَيْفِع جهينة، وقول عمر: "فأصبح قد رِينَ به" (4)، أي غلب عليه، وأحاط به الرَّيْن.
_________
(1) لم أقف عليه.
(2) انظر: "البسيط" (13/ 348).
(3) "مجاز القرآن" (2/ 289).
(4) أخرجه مالك (2/ 770)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (11/ 71).
(1/308)
________________________________________
وقال أبو معاذ النحوي: "الرَّيْن: أن يسْوَدّ القلب من الذنوب، والطبع: أن يُطْبع على القلب، وهو أشد من الرَّيْن، والإقفال أشد من الطبع، وهو أن يُقْفل على القلب" (1).
وقال الفراء: "كثرت الذنوب والمعاصي منهم، فأحاطت بقلوبهم، فذلك الرَّيْن عليها" (2).
وقال أبو إسحاق: "ران: غَطَّى، يقال: ران على قلبه الذنب، يَرِين رَيْنًا، أي: غشيه، قال: والرَّيْن كالغشاء يغشى القلب، ومثله الغَيْن" (3).
قلت: أخطأ أبو إسحاق، فالغين ألطف شيء يكون وأرقّه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنه ليُغَان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة" (4)، وأما الرَّيْن والران فهو من أغلظ الحجب على القلب، وأكثفها.
قال مجاهد: "هو الذنب على الذنب حتى تحيط الذنوب بالقلب وتغشاه، فيموت القلب" (5).
وقال مقاتل: "غَمَرت القلوبَ أعمالُهم الخبيثةُ" (6).
_________
(1) نقله في "تهذيب اللغة" (15/ 224).
(2) "معاني القرآن" (3/ 246).
(3) بنحوه في "معاني القرآن وإعرابه" (5/ 299).
(4) أخرجه مسلم (2702) من حديث الأغر المزني.
(5) أسنده بنحوه الطبري (24/ 201)، وانظر: التفسير المنسوب إلى مجاهد (711)، "البسيط" (23/ 325).
(6) حكاه في "البسيط" (23/ 325).
(1/309)
________________________________________
وفي "سنن النسائي" و"الترمذي" (1)، من حديث أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن العبد إذا أخطأ خطيئة نُكِت في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزع واستغفر وتاب صُقِل قلبه، وإن عاد زِيد فيها حتى تعلو قلبه، وهو الران الذي ذكره الله: {كَلَّا بَل رَّانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} " قال الترمذي: "هذا حديث صحيح".
وقال عبد الله بن مسعود: "كلما أذنب، نُكِت في قلبه نكته سوداء، حتى يَسْوَدّ القلب كله" (2).
فأخبر سبحانه أن ذنوبهم التي كسبوها أوجبت لهم رَيْنًا على قلوبهم، فكان سبب الران منهم، وهو خلق الله فيهم، فهو خالق السبب ومسبَّبه، لكن السبب باختيار العبد، والمسبَّب خارج عن قدرته واختياره.
فصل
وأما الغل فقال تعالى: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهْيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سُدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سُدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [يس: 7 - 9]، قال الفراء: "حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله" (3).
_________
(1) النسائي في "الكبرى" (10179)، والترمذي (3334)، وأخرجه أحمد (7952)، وابن ماجه (4244).
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (30958)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (6809).
(3) "معاني القرآن" (2/ 373).
(1/310)
________________________________________
وقال أبو عبيدة: "منعناهم عن الإيمان بموانع" (1).
ولما كان الغل مانعًا للمغلول من التصرف والتقلب كان الغل الذي على القلب مانعًا من الإيمان.
فإن قيل: فالغل المانع من الإيمان هو الذي في القلب، فكيف ذكر الغل الذي في العنق؟
قيل: لما كان عادة الغل أن يوضع في العنق ناسب ذكره ذكر محله، والمراد به القلب، كقوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13].
ومن هذا قولهم: إثمي في عنقك، وهذا في عنقك.
ومن هذا قوله: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29]، شبّه الإمساك عن الإنفاق باليد إذا غُلّت إلى العنق.
ومن هذا قال الفراء: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا}: "حبسناهم عن الإنفاق".
قال أبو إسحاق: "وإنما يقال للشيء اللازم: هذا في عنق فلان، أي: لزومه له كلزوم القلادة من بين ما يلبس في العنق" (2).
قال أبو علي: "هذا مثل قولهم: طوّقتك كذا وقلَّدتك كذا، ومنه قلّده السلطان كذا، أي: صارت الولاية في لزومها له في موضع القلادة ومكان
_________
(1) نسبه إليه في "البسيط" (18/ 455).
(2) "معاني القرآن وإعرابه" (3/ 230) بتصرف.
(1/311)
________________________________________
الطوق" (1).
قلت: ومن هذا قولهم: قلّدت فلانًا حكم كذا وكذا، كأنك جعلته طوقًا في عنقه.
وقد سمّى سبحانه التكاليف الشاقّة أغلالًا في قوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]، فشبّهها بالأغلال لشدتها وصعوبتها.
قال الحسن: "هي الشدائد التي كانت في العبادة، كقطع أثر البول، وقتل النفس في التوبة (2)، وقطع الأعضاء الخاطئة، وتتبع العروق من اللحم" (3).
وقال ابن قتيبة: "هي تحريم الله سبحانه عليهم كثيرًا مما أطلقه لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وجعلها أغلالًا؛ لأن التحريم يمنع، كما يقبض الغل اليد" (4).
وقوله: {فَهْيَ إِلَى الْأَذْقَانِ} قالت طائفة: الضمير يعود على الأيدي وإن لم تذكر؛ لدلالة السياق عليها.
قالوا: لأن الغل يكون في العنق فتُجْمع إليه اليد، ولذلك سُمّي جامِعَة.
وعلى هذا فالمعنى: فأيديهم أو فأيمانهم مضمومة إلى أذقانهم. هذا قول الفرّاء والزجاج.
_________
(1) "الحجة للقراء السبعة" (5/ 89).
(2) "د": "النفس"، سبق قلم.
(3) لم أقف عليه، ونسبه في "البسيط" (9/ 401) إلى المفسرين، وانظر: "جامع البيان" (10/ 495).
(4) "تأويل مشكل القرآن" (148).
(1/312)
________________________________________
وقالت طائفة: الضمير يرجع إلى الأغلال، وهذا هو الظاهر، وقوله: {فَهْيَ إِلَى الْأَذْقَانِ} أي: واصلة ومَلْزُوزة إليها (1)، فهو غلّ عريض قد أحاط بالعنق حتى وصل إلى الذقن.
وقوله: {فَهُمْ مُقْمَحُونَ} قال الفراء والزجاج: "المُقْمَح هو الغاضّ بصره بعد رفع رأسه" (2).
ومعنى الإقماح في اللغة: رفع الرأس وغض البصر، يقال: أقمح البعير رأسه، وقمح.
وقال الأصمعي: "بعير قامح إذا رفع رأسه عن الحوض، ولم يشرب" (3).
قال الأزهري: "لما غُلّت أيديهم إلى أعناقهم رَفَعتِ الأغلالُ أذقانَهم ورؤوسهم صعدًا، كالإبل الرافعة رؤوسها" (4)، انتهى.
فإن قيل: فما وجه التشبيه بين هذا وبين حبس القلب عن الهدى والإيمان؟
قيل: أحسن وجه وأبينه؛ فإن الغلّ إذا كان في العنق واليد مجموعة إليها مَنَع اليد عن التصرف والبطش، فإذا كان عريضًا قد ملأ العنق ووصل إلى الذقن مَنَع الرأس من تصويبه، وجعل صاحبه شاخص الرأس منتصبه لا
_________
(1) من لزّ الشيء إذا شدّه وألصقه إليه، "الصحاح" (3/ 894).
(2) "معاني القرآن" للفراء (2/ 373)، "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج (4/ 279).
(3) بنحوه في "الأضداد" (16)، وانظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (2/ 303).
(4) "تهذيب اللغة" (4/ 82)، وانظر: "البسيط" (18/ 456).
(1/313)
________________________________________
يستطيع له حركة.
ثم أكد هذا المنع والحبس بقوله: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سُدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سُدًّا} [يس: 9]، قال ابن عباس: "منعهم من الهدى لما سبق في علمه" (1).
والسد الذي جُعِل من بين أيديهم ومن خلفهم هو الذي سدّ عليهم طريق الهدى، فأخبر سبحانه عن الموانع التي منعهم بها من الإيمان عقوبة لهم، ومثّلها أحسن تمثيل وأبلغه، وذلك حال قوم قد وُضِعت الأغلال العريضة الواصلة إلى الأذقان في أعناقهم، وضُمّت أيديهم إليها، وجُعِلوا بين سدين لا يستطيعون النفوذ من بينهما، وأغشيت أبصارهم فهم لا يرون شيئًا.
وإذا تأملت حال الكافر الذي عرف الحق وتبين له، ثم جحده وكفر به وعاداه أعظم معاداة؛ وجدت هذا المثل مطابقًا له أتم مطابقة، وأنه قد حيل بينه وبين الإيمان، كما حيل بين هذا وبين التصرف، والله المستعان.
فصل
وأما القفل، فقال تعالى: {(23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ} [محمد: 24]، قال ابن عباس: "يريد على قلوب هؤلاء أقفال" (2).
وقال مقاتل: "يعني الطبع على القلب" (3).
فكأن القلب بمنزلة الباب المُرْتَج الذي قد ضُرِب عليه قفل، فإنه ما لم
_________
(1) نسبه إليه في "البسيط" (18/ 458).
(2) نسبه إليه في "البسيط" (20/ 255).
(3) "تفسير مقاتل" (4/ 49).
(1/314)
________________________________________
يفتح القفل (1) لا يمكن فتح الباب والوصول إلى ما وراءه، كذلك ما لم يُرفع الختم والقفل عن القلب لم يدخله الإيمان والقرآن.
وتأمل تنكير القلوب وتعريف الأقفال، فإن تنكير القلوب يتضمن إرادة قلوب هؤلاء، وقلوب من هم بهذه الصفة، ولو قال: (أم على قلوبهم) لم تدخل قلوب غيرهم في هذه الجملة.
وفي قوله: {قُلُوبٍ} بالتعريف: نوع تأكيد، فإنه لو قال (أقفال) لذهب الوهم إلى ما يُعْرف بهذا الاسم، فلما أضافها إلى القلوب عُلِم أن المراد بها ما هو للقلب بمنزلة القفل للباب، فكأنه أراد أقفالها المختصة بها التي لا تكون لغيرها، والله أعلم.
فصل
وأما الصمم والوَقْر، ففي قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18]، وقوله: {(22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى} [محمد: 23]، وقوله: {وَلَقَد ذَّرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ (2) بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَهْوَ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ} [فصلت: 44]، قال ابن عباس: "في آذانهم صمم عن استماع القرآن، {وَهْوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} أعمى الله قلوبهم فلا
_________
(1) "م": "القلب".
(2) في جميع الأصول: "لا يعقلون".
(1/315)
________________________________________
يفقهونه، {أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ} مثل البهيمة التي لا تفهم إلا دعاء ونداء" (1).
وقال مجاهد: "بعيد من قلوبهم" (2).
وقال الفراء: "تقول للرجل الذي لا يفهم كلامك: أنت تُنادَى من مكان بعيد"، قال: "وجاء في التفسير: كأنما ينادون من السماء فلا يسمعون" (3) انتهى.
والمعنى: أنهم لا يسمعون ولا يفهمون، كما أن من دُعي من مكان بعيد لم يسمع ولم يفهم.
فصل
وأما البَكَم فقال تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18]، والبُكْم جمع أبكم، وهو الذي لا ينطق، والبَكَم نوعان: بَكَم القلب، وبَكَم اللسان، كما أن النطق نطقان: نطق القلب، ونطق اللسان، وأشدهما بَكَم القلب، كما أن عماه وصممه أشد من عمى العين وصمم الأذن. فوصفهم سبحانه بأنهم لا يفقهون الحق، ولا تنطق به ألسنتهم.
والعلم يدخل إلى العبد من ثلاثة أبواب: من سمعه، وبصره، وقلبه، وقد سُدّت عليهم هذه الأبواب الثلاثة، فسُدّ السمعُ بالصمم، والبصرُ
_________
(1) نسبه إليه في "البسيط" (19/ 470 - 471).
(2) أسنده الطبري (20/ 451).
(3) "معاني القرآن" (3/ 20).
(1/316)
________________________________________
بالعمى، والقلبُ بالبَكَم، ونظيره قوله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 179]، وقد جمع سبحانه بين الثلاثة في قوله: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [الأحقاف: 26].
فإذا أراد الله سبحانه هداية عبد فتح قلبه وسمعه وبصره، وإذا أراد ضلاله أصمّه وأعماه وأبكمه، وبالله التوفيق.
فصل
وأما الغشاوة فهو غطاء العين، كما قال تعالى: {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية: 23]، وهذا الغطاء سرى إليها من غطاء القلب؛ فإن ما في القلب يظهر على العين من الخير والشر، فالعين مرآة القلب تُظْهِر ما فيه، وأنت إذا أبغضت رجلًا بغضًا شديدًا، وأبغضت كلامه ومجالسته؛ تجد على عينيك غشاوة عند رؤيته ومخاطبته (1)، فتلك أثر البغض والإعراض عنه.
وغُلّظت على الكفار عقوبة لهم على إعراضهم ونفورهم عن الرسول، وجاءت الغشاوة عليها تشعر بالإحاطة على ما تحته كالعمامة.
ولما عَشَوا عن ذكره الذي أنزله صار ذلك العَشَا غشاوة على أعينهم فلا تبصر مواقع الهدى.
_________
(1) "د" "ج": "ومخالطته".
(1/317)
________________________________________
فصل
وأما الصدّ فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصَدَّ عَنِ السَّبِيلِ} [غافر: 37]، قرأها أهل الكوفة: {وَصُدَّ} على البناء للمفعول حملًا على (زُيّن)، وقرأ الباقون: {وَصَدَّ} بفتح الصاد، ويحتمل وجهين:
أحدهما: أعرَض، فيكون لازمًا.
والثاني: صَدَّ غيره، فيكون متعديًا.
والقراءتان كالآيتين لا تتناقضان.
وأما الشَدّ على القلب ففي قوله تعالى: {(87) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِيَضِلُّوا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس: 88 - 89]، فهذا الشّد على القلب هو الصدّ والمنع، ولهذا قال ابن عباس: "يريد امنعها" (1)، والمعنى: قسِّها واطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان.
وهذا مطابق لما في التوراة، أن الله سبحانه قال لموسى: "اذهب إلى فرعون فإني سَأقسّي قلبه، فلا يؤمن حتى تظهر آياتي وعجائبي بمصر" (2).
وهذا الشَّدُّ والتقسية من كمال عدل الربّ تعالى في أعدائه، جَعَله عقوبة لهم على كفرهم وإعراضهم، كعقوبته لهم بالمصائب، ولهذا كان محمودًا
_________
(1) نسبه إليه في "البسيط" (11/ 295).
(2) انظر: "العهد القديم: سفر الخروج" (الإصحاح 10/ 1).
(1/318)
________________________________________
عليه، وهو حسن منه سبحانه، وأقبح شيء منهم، فإنه عدل منه وحكمة، وهو ظلم منهم وسفه.
فالقضاء والقدر فِعْلُ عادلٍ حكيم غني عليم، يضع الخير والشر في أليق المواضع بهما، والمَقْضي المُقدَّر يكون ظلمًا وجورًا وسفهًا، وهو فِعْلُ جاهلٍ ظالم سفيه.
فصل
وأما الصرف، فقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَت سُّورَة نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 127]، فأخبر سبحانه عن فعلهم وهو الانصراف، وعن فعله فيهم وهو صرف قلوبهم عن القرآن وتدبره؛ لأنهم ليسوا أهلًا له، فالمحلّ غير صالح ولا قابل، فإن صلاحية المحل بشيئين: حسن فهم، وحسن قصد، وهؤلاء قلوبهم لا تفقه، وقصودهم سيئة.
وقد صرَّح سبحانه بهذا في قوله: {(22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ} [الأنفال: 23]، فأخبر سبحانه عن عدم قابلية الإيمان فيهم، وأنهم لا خير فيهم يدخل بسببه الإيمان إلى قلوبهم، فلم يُسْمِعهم سماع إفهام ينتفعون به، وإن سمعوه سماعًا تقوم به عليهم حجته، فسماع الفهم الذي سمعه به المؤمنون لم يحصل لهم.
ثم أخبر سبحانه عن مانع آخر قام بقلوبهم يمنعهم من الإيمان لو أسمعهم هذا السماع الخاص، وهو الكبر والتولي والإعراض، فالأول مانع من الفهم، والثاني مانع من الانقياد والإذعان، فأفهام سيئة وقصود رديئة،
(1/319)
________________________________________
وهذه نسخة الضلال وعَلَمُ الشقاء، كما أن نسخة الهدى وعَلَم السعادة فهمٌ صحيح وقصد صالح، والله المستعان.
وتأمل قوله سبحانه: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}، كيف جعل هذه الجملة الثانية ـ سواء كانت خبرًا أو دعاء ـ عقوبة لانصرافهم، فعاقبهم عليه بصرْفٍ آخر غير الصرْف الأول، فإن انصرافهم كان لعدم إرادته سبحانه ومشيئته لإقبالهم؛ لأنه لا صلاحية فيهم ولا قبول، فلم يشأ لهم الإقبال والإذعان، فانصرفت قلوبهم بما فيها من الجهل والظلم عن القرآن، فجازاهم على ذلك صرفًا آخر غير الصرف الأول، كما جازاهم على زيغ قلوبهم عن الهدى إزاغة أخرى غير الزيغ الأول، كما قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، وهكذا إذا أعرض العبد عن ربه جازاه سبحانه بأن يعرض بقلبه عنه، فلا يمكّنه من الإقبال عليه.
ولتكن قصة إبليس منك على ذكر، تنتفع بها أتمَّ انتفاع، فإنه لما عصى ربّه تعالى ولم ينقد لأمره، وأصرَّ على ذلك؛ عاقبه بأن جعله داعيًا إلى كل معصية، فعاقبه على معصيته الأولى بأصول المعاصي وفروعها، صغيرها وكبيرها، وصار هذا الإعراض والكفر منه عقوبة لذلك الإعراض والكفر السابق، فمن عقاب السيئة السيئة بعدها، كما أن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها.
فإن قيل: فكيف يلتئم إنكاره سبحانه عليهم الانصراف والإعراض وهو منه، وقد قال تعالى: {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 32]، و {فَأَنَّى (1) تُؤْفَكُونَ}
_________
(1) في الأصول الخطية: "أنى".
(1/320)
________________________________________
[الأنعام: 95]، وقال: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49]، فإذا كان هو الذي صرفهم وجعلهم معرضين ومأفوكين؛ فكيف ينبغي إنكار ذلك عليهم؟!
قيل: هم دائرون بين عدله فيهم وحجته عليهم، فمكّنهم وفتح لهم الباب، ونهج لهم الطريق، وهيَّأ لهم الأسباب، وأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، ودعاهم على ألسنة رسله، وجعل لهم عقولًا تميّز بين الخير والشر، والنافع والضار، وأسباب الرّدى، وأسباب الفلاح، وجعل لهم أسماعًا وأبصارًا، فآثروا الهوى على التقوى، واستحبوا العمى على الهدى، وقالوا: معصيتك آثر عندنا من طاعتك، والشرك بك أحب إلينا من توحيدك، وعبادة سواك أنفع لنا في دنيانا من عبادتك، فأعرضت قلوبهم عن ربهم وخالقهم ومليكهم، وانصرفت عن طاعته ومحبته وتوحيده، وأفكت عن هداه، فلما رآها سبحانه كذلك عدل فيها بأن صرفها، وأعرض بها عنه، وصدَّها عن الإقبال عليه وعن معرفته ومحبته، فهذا عدله فيهم، وتلك حجته عليهم.
فهم سدوا على نفوسهم باب الهدى إرادة منهم واختيارًا، فسدّه عليهم اضطرارًا، فخلاهم وما اختاروا لأنفسهم، وولّاهم ما تولوه، ومكّنهم مما ارتضوه، وأدخلهم من الباب الذي استبقوا إليه، وأغلق عنهم الباب الذي تولوا عنه وهم معرضون، فلا أقبح من فعلهم، ولا أحسن من فعله.
ولو شاء لخلقهم على غير هذه الصفة، ولأنشأهم غير هذه النشأة، ولكنه سبحانه خالق العلو والسُّفل، والنور والظلمة، والنافع والضار، والطيب والخبيث، والملائكة والشياطين، والشاء والذئاب، ومعطيها آلاتها
(1/321)
________________________________________
وصفاتها، وقواها وأفعالها، ومستعملها فيما خُلِقت له، فبعضها بطباعها وبعضها بإرادتها ومشيئتها، وكل ذلك جار على وفق حكمته، وهو موجَب حمده، ومقتضى كماله المقدس وملكه التام، ولا نسبة لما علمه الخلق من ذلك إلى ما خفي عنهم بوجه ما، إن هو إلا كنقرة عصفور من البحر.
فصل
وأما الإغفال فقال تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].
سُئل أبو العباس ثعلب عن قوله: {أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} فقال: "مَن جعلناه غافلًا، قال: ويكون في الكلام: أغفلته سميته غافلًا، ووجدته غافلًا" (1).
قلت: الغُفْل: الشيء الفارغ، والأرض الغُفْل: التي لا علامة بها، والكتاب الغُفْل: الذي لا شكل عليه، فأغفلناه تركناه غُفْلًا عن الذكر، فارغًا منه، فهو إبقاء له على العدم الأصلي؛ لأنه سبحانه لم يشأ له الذكر، فبقي غافلًا، فالغفلة وصفه، والإغفال فعل الله فيه بمشيئته لغفلته وعدم مشيئته لتذكره، فكل منهما مقتضٍ لغفلته، فإذا لم يشأ له التذكر لم يتذكر، وإذا شاء غفلته امتنع منه التذكر.
فإن قيل: فهل تضاف الغفلة والكفر والإعراض ونحوها إلى عدم مشيئة الربّ أضدادها أم إلى مشيئته لوقوعها؟
_________
(1) انظر: "تهذيب اللغة" (8/ 136)، "البسيط" (13/ 600).
(1/322)
________________________________________
قيل: القرآن قد نطق بهذا وهذا، قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة: 41]، وقال: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ} [المائدة: 41]، {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ} [الأنعام: 125].
فإن قيل: فكيف يكون عدم السبب المقتضي موجِبًا للأثر؟
قيل: الأثر إن كان وجوديًا فلا بدّ له من مؤثِّر وجودي، وأما العدم فيكفي فيه عدم سببه وموجِبه، فيبقى على العدم الأصلي، فإذا أضيف إليه كان من باب إضافة الشيء إلى دليله، فعدم السبب دليل على عدم المسبَّب، وإذا سُمّي موجِبًا ومقتضيًا بهذا الاعتبار فلا مشاحة في ذلك، وأما أن يكون العدم أثرًا ومؤثّرًا فلا، وهذا الإغفال ترتب عليه اتباع هواه، وتفريطه في أمره.
قال مجاهد: " {كَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} أي: ضياعًا" (1).
وقال قتادة: "أضاع أكبر الضيعة" (2).
وقال السُّدِّي: "هلاكًا" (3).
وقال أبو الهيثم: "أمرٌ فُرطٌ، أي: متهاون به، مُضيَّع" (4)، والتفريط تقديم العجز.
_________
(1) التفسير المنسوب إليه (447)، وأسنده الطبري (15/ 242).
(2) نسبه إليه في "البسيط" (13/ 600).
(3) نسبه إليه في "البسيط" (13/ 600).
(4) انظر: "تهذيب اللغة" (13/ 332).
(1/323)
________________________________________
قال أبو إسحاق: "من قدم العجز في أمر أضاعه وأهلكه" (1).
قال الليث: "الفُرُط: الأمر الذي تفرّط فيه، تقول: كل أمر فلان فُرُط" (2).
قال الفراء: "فُرُطًا: متروكًا" (3).
ففرّط فيما لا ينبغي التفريط فيه، واتبع ما لا ينبغي اتباعه، وغفل عما لا يحسن الغفلة عنه.
فصل
وأما المرض فقال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10]، وقال: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32]، وقال: {إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ} [المدثر: 31].
ومرض القلوب خروجها عن كمال صحتها واعتدالها، فإن صحتها أن تكون عارفة بالحق، محبة له، مؤثرة له على غيره، فمرضها إما بالشك فيه،
_________
(1) كذا نسب المصنف العبارة إلى أبي إسحاق وليست له، بل هي من تعليق الواحدي الذي ينقل عنه المصنف هنا، قال في "البسيط" (13/ 600) بعد أن حكى قول أبي الهيثم: "و [يـ]ـشبه أن يكون أصل هذا من التفريط، وهو تقديم العجز، وهذا بمعنى قول أبي إسحاق. ومن قدّم العجز في أمره أضاعه وأهلكه"، ونص أبي إسحاق: "أي كان أمره التفريط، والتفريط تقديم العجز" "معاني القرآن وإعرابه" (3/ 281).
(2) "العين" (7/ 420).
(3) "معاني القرآن" (2/ 140).
(1/324)
________________________________________
وإما بإيثار غيره عليه، فمرض المنافقين مرض شك وريب، ومرض العصاة مرض غيّ وشهوة، وقد سمَّى الله سبحانه كلًّا منهما بالمرض.
قال ابن الأنباري: "أصل المرض في اللغة: الفساد، مرض فلان فسد جسمه وتغيرت حاله، ومرضت الأرض تغيرت وفسدت" (1).
قالت ليلى الأَخْيَلية:
إذا هبط الحجاج أرضًا مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها (2)
وقال آخر:
ألم تر أن الأرض أضحت مريضة ... لفَقْد الحسين (3) والبلاد اقشعرّت (4)
والمرض يدور على أربعة أشياء: فساد، وضعف، ونقصان، وظلمة، ومنه: مَرَّضَ الرجل في الأمر: إذا ضعف فيه ولم يبالغ، وعين مريضة النظر، أي: فاترة ضعيفة، وريح مريضة إذا ضعف هبوبها، كما قال:
راحت لأرْبُعكِ الرياح مريضة (5)
_________
(1) حكاه في "البسيط" (2/ 144)، وفي "الزاهر" (1/ 457) معنى آخر.
(2) "الديوان" جمع عطية (121) من عشرة أبيات في مدح الحجاج، وهي في "الكامل" (1/ 242).
(3) كذا في "البسيط" وعنه المؤلف: "الحسين" ولا يستقيم به الوزن، وفي سائر المصادر: "حسين".
(4) من قصيدة لسليمان بن قَتّة يرثي الحسين بن علي - رضي الله عنهما -، أنشدها في "نسب قريش" (41)، و"مقاتل الطالبيين" (121).
(5) صدر بيت للبحتري من قصيدة يمدح فيها إسحاق المصعبي، وعجزه:
وأصاب مغناكِ الغمامُ الصِّيّبُ
انظر: "ديوان البحتري" جمع الصيرفي (1/ 72)، و"الصناعتين" (329).
(1/325)
________________________________________
أي: ليّنة ضعيفة حتى لا تعفي أثرَها.
وقال ابن الأعرابي: "أصل المرض النقصان، ومنه بدن مريض: ناقص القوة، وقلب مريض: ناقص الدين، ومَرَّض في حاجتي إذا نقصتْ حركتُه فيها" (1).
وقال الأزهري، عن المنذري، عن بعض أصحابه: المرض إظلام الطبيعة واضطرابها بعد صفائها، قال: والمرض الظلمة، وأنشد:
وليلة مَرِضتْ من كل ناحية ... فما يضيء لها شمس ولا قمر (2)
هذا أصله في اللغة، ثم الشك والجهل، والحيرة والضلال، وإرادة الغي، وشهوة الفجور في القلب، تعود إلى هذه الأمور الأربعة، فيتعاطى العبد أسباب المرض حتى يمرض، فيعاقبه الله بزيادة المرض؛ لإيثاره أسبابه وتعاطيه لها.
فصل
وأما تقليب الأفئدة فقال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ
_________
(1) انظر: "تهذيب اللغة" (12/ 34).
(2) "تهذيب اللغة" (12/ 34 - 35)، وفيه: "وأنشد أبو العباس"، والمؤلف صادر عن "البسيط" (2/ 146) ومتابع له في هذا.
والبيت لأبي حية النميري في "ديوانه" جمع الجبوري (148)، وفيه: "نجم" بدل "شمس"، والأخيرة رواية الأزهري والواحدي.
(1/326)
________________________________________
يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110]، وهذا عطف على {إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109]، أي: نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم تلك الآية فلا يؤمنون.
واختُلِف في قوله: {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، فقال كثير من المفسرين: المعنى نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم الآية، كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرَّة.
قال ابن عباس في رواية عطاء عنه: "ونقلب أفئدتهم وأبصارهم حتى يرجعوا إلى ما سبق عليهم من علمي، قال: وهذا كقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ} [الأنفال: 24] " (1).
وقال آخرون: المعنى: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم لتركهم الإيمان به أول مرة، فعاقبناهم بتقليب أفئدتهم وأبصارهم (2). وهذا معنى حسن؛ فإن كاف التشبيه تتضمن نوعًا من التعليل، كقوله: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77]، وقوله: {(150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي} [البقرة: 151 - 152]، والذي حَسَّن اجتماع التعليل والتشبيه الإعلامُ بأن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر.
والتقليب: تحويل الشيء من وجه إلى وجه، وكان الواجب من مقتضى
_________
(1) نسبه إليه في "البسيط" (8/ 358).
(2) انظر: "البسيط" (8/ 362).
(1/327)
________________________________________
إنزال الآية ووصولها إليهم كما سألوا أن يؤمنوا إذا جاءتهم؛ لأنهم رأوها عيانًا وعرفوا دلالتها، وتحققوا صدقها، فإذا لم يؤمنوا كان ذلك تقليبًا لقلوبهم وأبصارهم عن وجهها الذي ينبغي أن تكون عليه.
وقد روى مسلم في "صحيحه" (1) من حديث عبد الله بن عمرو أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد يصرفه كيف يشاء"، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم مصرّف القلوب، صرف قلوبنا على طاعتك".
وروى الترمذي (2) من حديث أنس، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول: "يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك"، فقلت: يا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: "نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله، يقلبها كيف يشاء"، قال: "هذا حديث حسن".
وروى حماد، عن أيوب وهشام ويعلى (3) بن زياد، عن الحسن قال: قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: دعوة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يدعو بها: "يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك"، فقلت: يا رسول الله، دعوة كثيرًا ما تدعو بها! قال: "إنه ليس من عبد إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله، فإذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه" (4).
_________
(1) برقم (2654).
(2) برقم (2140)، وأخرجه أحمد (12107)، وصححه الحاكم (1927).
(3) كذا في الأصول: "أيوب وهشام ويعلى"، صوابه: "يونس وهشام ومعلّى" كما في مصادر التخريج.
(4) أخرجه أحمد (24604)، والنسائي في "الكبرى" (7690)، والآجري في "الشريعة" (321)، وفي سماع الحسن من عائشة كلام، كما في "تحفة التحصيل" (74)، لكن الحديث يصح بما قبله من شواهد.
(1/328)
________________________________________
وقوله: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}، قال ابن عباس: "أخذُلُهم وأدعهم في ضلالتهم يتمادون" (1).
فصل
وأما إزاغة القلوب، فقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، وقال عن عباده المؤمنين أنهم سألوه: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8].
وأصل الزيغ الميل، ومنه زاغت الشمس إذا مالت، فإزاغة القلب إمالته، وزيغه ميله عن الهدى إلى الضلال، والزيغ يوصف به القلب والبصر، كما قال تعالى: {وَإِذ زَّاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10].
قال قتادة ومقاتل: "شَخَصتْ فَرَقًا" (2)، وهذا تقريب للمعنى؛ فإن الشخوص غير الزيغ، وهو أن يفتح عينيه ينظر إلى الشيء فلا يطرف، ومنه شَخَص بصرُ الميت.
ولما مالت الأبصار عن كل شيء فلم تنظر إلا إلى هؤلاء الذين أقبلوا إليهم من كل جانب؛ اشتغلت عن النظر إلى شيء آخر فمالت عنه، وشخصت بالنظر إلى الأحزاب.
_________
(1) أخرجه مختصرًا الطبري (1/ 323)، وابن أبي حاتم في "التفسير" (149)، وهو بنصه في "البسيط" (8/ 363).
(2) أخرجه عن قتادة بنحوه الطبري (19/ 35)، وهو في "تفسير مقاتل" (3/ 476).
(1/329)
________________________________________
قال الكلبي: "مالت أبصارهم إلا من النظر إليهم" (1).
وقال الفراء: "زاغت عن كل شيء، فلم تلتفت إلا إلى عدوها متحيّرة تنظر إليه" (2).
قلت: القلب إذا امتلأ رعبًا شغله ذلك عن ملاحظة ما سوى المَخُوف، فزاغ البصر عن الوقوع عليه وهو مقابِلُه.
فصل
وأما الخذلان، فقال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران: 160]، وأصل الخذلان: الترك والتخلية، ويقال للبقرة والشاة إذا تخلّفت مع ولدها في المرعى، وتركت صواحباتها: خَذُول.
قال محمد بن إسحاق في هذه الآية: "إن ينصرك الله فلا غالب لك من الناس، ولن يضرك خذلان من خذلك، وإن يخذلك فلن ينصرك الناس، أي: لا تترك أمري للناس، وارفضِ الناسَ لأمري" (3).
فالخذلان أن يخلّي الله تعالى بين العبد وبين نفسه ويكله إليها، والتوفيق ضده: أن لا يدعه ونفسه ولا يكله إليها، بل يصنع له ويلطف به، ويعينه ويدفع عنه، ويكلؤه كلاءة الوالد الشفيق للولد العاجز عن نفسه، فمن خلّى بينه وبين نفسه، فقد هلك كل الهلاك.
_________
(1) نسبه إليه في "البسيط" (18/ 186).
(2) "معاني القرآن" (2/ 336).
(3) أسنده ابن المنذر في "التفسير" (1123)، وانظر: "سيرة ابن هشام" (3/ 159).
(1/330)
________________________________________
ولهذا كان من دعائه - صلى الله عليه وسلم -: "يا حيّ، يا قيوم، يا بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك" (1).
فالعبد مطروح بين الله وبين عدوه إبليس، فإن تولاه الله لم يظفر به عدوه، وإن خذله وأعرض عنه افترسه الشيطان كما يفترس الذئبُ الشاةَ إذا خلّى الراعي بينه وبينها، فالشيطان ذئب الإنسان.
فإن قيل: فما ذنب الشاة إذا خلّى الراعي بين الذئب وبينها، وهل يمكنها أن تقوى على الذئب وتنجو منه؟
قيل: لعمر الله، إن الشيطان ذئب الإنسان كما قاله الصادق المصدوق، ولكن لم يجعل الله لهذا الذئب اللعين على هذه الشاة سلطانًا مع ضعفها، فإذا أعطت بيدها، وسالمت الذئب، ودعاها فلبت دعوته، وأجابت أمره ولم تتخلف، بل أقبلت نحوه سريعة مطيعة، وفارقت حمى الراعي الذي ليس للذئاب عليه سبيل، ودخلت في محل الذئاب الذي من دخله كان صيدًا لهم، فهل الذنب كل الذنب إلا للشاة، فكيف والراعي يحذّرها، ويخوّفها وينذرها، وقد أراها مصارع الشَّاء التي انفردت عن الراعي، ودخلت وادي الذئاب.
قال أحمد بن مروان المالكي في كتاب "المجالسة" (2): "سمعت ابن
_________
(1) لم أقف عليه بهذا السياق، وأخرجه مختصرًا النسائي في "الكبرى" (10330)، والبزار (6368) بإسناد جيد من طريق عثمان بن موهب عن أنس بن مالك، وصححه الحاكم (2000).
(2) (5/ 193)، من طريق ابن أبي الدنيا في "الإشراف في منازل الأشراف" (397).
(1/331)
________________________________________
أبي الدنيا يقول: إن لله سبحانه من العلوم ما لا يحصى، يعطي كل واحد من ذلك ما لا يعطي غيره.
لقد حدثنا أبو عبد الله أحمد بن محمد بن سعيد الطائي، ثنا عبد الله بن بكر السهمي، عن أبيه: أن قومًا كانوا في سفر، فكان فيهم رجل يمر الطائر فيقول: أتدرون ما تقول هذه؟ فيقولون: لا. فيقول: تقول كذا وكذا. فيحيلنا على شيء لا ندري أصادق هو أم كاذب.
إلى أن مروّا على غنم وفيها شاة قد تخلّفت على سَخْلة لها، فجعلت تحنو عنقها إليها وتثغو، فقال: أتدرون ما تقول هذه الشاة؟ قلنا: لا. قال: تقول للسَّخْلة: الحقي، لا يأكلك الذئب كما أكل أخاك عام أول في هذا المكان. قال: فانتهينا إلى الراعي، فقلنا له: ولدت هذه الشاة قبل عامك هذا؟ قال: نعم، ولدت سَخْلة عام أول، فأكلها الذئب بهذا المكان.
ثم أتينا على قوم فيهم ظعينة على جمل لها، وهو يرغو ويحنو عنقه إليها، فقال: أتدرون ما يقول هذا البعير؟ قلنا: لا. قال: فإنه يلعن راكبته، ويزعم أنها رحلته على مِخْيَط، وهو في سنامه. قال: فانتهينا إليهم، فقلنا: يا هؤلاء، إن صاحبنا هذا يزعم أن هذا البعير يلعن راكبته، ويزعم أنها رحلته على مِخْيَط، وأنه في سنامه. قال: فأناخوا البعير، وحَطّوا عنه، فإذا هو كما قال".
فهذه شاة قد حذَّرت سَخْلتها من الذئب مرة فحذرت، وقد حذر الله سبحانه ابن آدم من ذئبه مرة بعد مرة، وهو يأبى إلا أن يستجيب له إذا دعاه، ويبيت معه ويصبح، {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ
(1/332)
________________________________________
فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ أَشْرَكْتُمُونِ أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ} [إبراهيم: 22].
فصل
وأما الإركاس، فقال تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 88]، قال الفرَّاء: "أركسهم: رَدَّهم إلى الكفر" (1).
قال أبو عبيدة (2): "يقال: ركست الشيء وأركسته ــ لغتان ــ إذا رددته" (3).
والرَّكْس قلب الشيء على رأسه (4)، أو رَدُّ أوله على آخره، والارتكاس: الارتداد، قال أمية:
فأركسوا في حميم النار إنهم ... كانوا عصاة وقالوا الإفك والزورا (5)
ومن هذا يقال للروث: الرِّكْس؛ لأنه رُدّ إلى حال النجاسة، ولهذا
_________
(1) "معاني القرآن" (1/ 281).
(2) كذا في الأصول: "أبو عبيدة"، متابعة لما في "البسيط" (7/ 28)، صوابه: "أبو عبيد".
(3) "غريب الحديث" (1/ 275).
(4) "م": "نفسه".
(5) البيت بهذا الوزن وهذه الألفاظ في "جامع البيان" (7/ 281)، و"البسيط" (7/ 128)، وانظر: "ديوان أمية" صنعة السطلي (408).
(1/333)
________________________________________
المعنى سمّي رجيعًا، والرَّكْس والنَّكْس والمركوس (1) والمنكوس بمعنى واحد.
قال الزَّجّاج: "أركسهم: نكّسهم وردهم" (2).
والمعنى: أنه ردهم إلى حكم الكفار من الذلّ والصغار، وأخبر سبحانه عن حكمه وقضائه فيهم وعدله، وأن إركاسهم كان بسبب كسبهم وأعمالهم، كما قال: {كَلَّا بَل رَّانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14].
فهذا توحيده وهذا عدله، لا ما تقوله القدرية المعطلة أن التوحيد إنكار الصفات، والعدل التكذيب بالقدر.
فصل
وأما التثبيط، فقال تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46]، والتثبيط ردّ الإنسان عن الشيء الذي يفعله.
قال ابن عباس: "يريد خذلهم وكسّلهم عن الخروج" (3).
وقال في رواية أخرى: "حَبَسهم" (4).
قال مقاتل: "وأوحى إلى قلوبهم: اقعدوا مع القاعدين" (5).
_________
(1) من قوله: "لأنه رد" إلى هنا ساقط من "م".
(2) "معاني القرآن" (2/ 88).
(3) نسبه إليه في "البسيط" (10/ 462).
(4) أخرجها ابن أبي حاتم في "التفسير" (10087).
(5) بمعناه في "تفسير مقاتل" (2/ 173).
(1/334)
________________________________________
وقد بَيَّن سبحانه حكمته في هذا التثبيط والخذلان قبل وبعد، فقال: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ} ـ يعني: في التخلف عنك ـ {الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 45 - 46].
فلما تركوا الإيمان به وبلقائه وارتابوا بما لا ريب فيه، ولم يريدوا الخروج في طاعته، ولم يستعدوا له، ولا أخذوا أهبة ذلك؛ كره سبحانه انبعاث من هذا شأنه؛ فإن من لم يرفع به وبرسوله وكتابه رأسًا، ولم يقبل هديته التي أهداها إليه على يد أحب خلقه إليه وأكرمهم عليه، ولم يعرف قدر هذه النعمة ولا شكرها، بل بدّلها كفرًا؛ فإن طاعة هذا وخروجه مع رسوله يكرهها الله سبحانه، فثبّطه لئلا يقع ما يكره من خروجه، وأوحى إلى قلبه قدرًا وكونًا أن يقعد مع القاعدين.
ثم أخبر سبحانه عن الحكمة التي تتعلق بالمؤمنين في تثبيط هؤلاء عنهم، فقال: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة: 47]، والخبال: الفساد والاضطراب، فلو خرجوا مع المؤمنين لأفسدوا عليهم أمرهم، وأوقعوا بينهم الاضطراب والاختلاف.
قال ابن عباس: "ما زادوكم إلا خبالًا: عجزًا وجبنًا" (1).
يعني: يجبنونهم عن لقاء العدو بتهويل أمرهم عليهم وتعظيمهم في صدورهم.
_________
(1) حكاه عنه في "البسيط" (10/ 465).
(1/335)
________________________________________
ثم قال: {وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ} أي: أسرعوا في الدخول بينكم للتضريب والإفساد.
قال ابن عباس: "يريد أضعفوا شجاعتكم" (1)، يعني بالتضريب بينهم لِتَفَرّق الكلمة فيجبنوا عن العدو.
وقال الحسن: "لأوضعوا خلالكم بالنميمة لإفساد ذات البين" (2).
وقال الكلبي: "ساروا بينكم يبغونكم العَنَت" (3).
قال لبيد (4):
أرانا مُوضِعِين لحَتْم غيبٍ ... ونُسْحَرُ بالطعام وبالشّراب (5)
أي: مسرعين.
ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:
تَبَالَهْنَ بالعرفان لما عَرَفْنَني ... وقُلْنَ امرؤٌ باغٍ أكَلَّ وأوضعا (6)
_________
(1) حكاه عنه في "البسيط" (10/ 469).
(2) حكاه عنه الجصاص في "أحكام القرآن" (4/ 320).
(3) أورده الثعلبي في "الكشف والبيان" (5/ 51)، والواحدي في "البسيط" (10/ 469)، ووقع في "ج" وبعض المصادر: "يبغونكم العيب"، والمثبت من "م".
(4) كذا في الأصول منسوبًا إلى "لبيد"، متابعة لما في "البسيط" (10/ 467)، والأشهر نسبته إلى امرئ القيس كما سيأتي.
(5) أنشده لامرئ القيس في "الجمهرة" (1/ 511)، وفي "الزاهر" (1/ 79)، وهو في "الديوان" بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم (97).
(6) أنشده له في "الكامل" (3/ 78)، والقالي في "الأمالي" (2/ 05)، وهو في "الديوان" بشرح محيي الدين (171).
(1/336)
________________________________________
أي: أسرع حتى كلَّت مطيته.
{يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}، قال قتادة: "وفيكم من يسمع كلامهم ويطيعهم" (1).
وقال ابن إسحاق: "وفيكم قوم أهل محبة لهم، وطاعة فيما يدعونهم إليه؛ لشرفهم فيهم" (2).
ومعناه على هذا القول: وفيكم أهل سمع وطاعة لهم، لو صحبهم هؤلاء المنافقون أفسدوهم عليكم.
قلت: فتضمن "سمَّاعين" معنى مستجيبين.
وقال مجاهد وابن زيد والكلبي: "المعنى: وفيكم عيون لهم، ينقلون إليهم ما يسمعون منكم" (3)، أي: جواسيس.
والقول هو الأول، كما قال تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} [المائدة: 41]، أي: قابلون له، ولم يكن في المؤمنين جواسيس للمنافقين؛ فإن المنافقين كانوا مختلطين بالمؤمنين ينزلون معهم، ويرحلون ويصلون معهم ويجالسونهم، ولم يكونوا متحيزين عنهم قد أرسلوا فيهم العيون ينقلون إليهم أخبارهم؛ فإن هذا إنما يفعله من انحاز عن طائفة ولم يخالطها،
_________
(1) أسنده الطبري (11/ 486).
(2) أسنده الطبري (11/ 486)، وانظر: "سيرة ابن هشام" (2/ 549).
(3) أسند معناه في "جامع البيان" (11/ 486) عن مجاهد وابن زيد، ونسبه إلى الكلبي في "البسيط" (10/ 474).
(1/337)
________________________________________
وأرصد بينهم عيونًا له، فالقول قول قتادة وابن إسحاق، والله أعلم.
فإن قيل: انبعاثهم إلى طاعته طاعة له، فكيف يكرهها؟ وإذا كان سبحانه يكرهها، فهو يحب ضدّها لا محالة؛ إذ كراهة أحد الضدّين تستلزم محبة الضدّ الآخر، فيكون قعودهم محبوبًا له، فكيف يعاقبهم عليه؟
قيل: هذا سؤال له شأن، وهو من أكبر الأسئلة في هذا الباب، وأجوبة الطوائف عنه على حسب أصولهم.
فالجبرية تجيب عنه بأن أفعاله لا تُعَلّل بالحِكَم والمصالح، وكل ممكن فهو جائز عليه، ويجوز أن يعذبهم على فعل ما يحبّه ويرضاه، وترك ما يبغضه ويسخطه، والجميع بالنسبة إليه سواء، وهذه الفرقة قد سدّت على أنفسها باب الحكمة والتعليل.
والقدرية تجيب عنه على أصولها بأنه سبحانه لم يثبّطهم حقيقة ولم يمنعهم، بل هم منعوا أنفسهم، وثبّطوها عن الخروج، وفعلوا ما لا يريد، ولما كان في خروجهم المفسدة التي ذكرها الله سبحانه ألقى في نفوسهم كراهة الخروج مع رسوله.
قالوا: وجعل سبحانه إلقاء كراهة الانبعاث في قلوبهم كراهة منه لذلك، من غير أن يكره هو سبحانه انبعاثهم؛ فإنه أمرهم به، قالوا: وكيف يأمرهم بما يكرهه؟
ولا يخفى على من نوّر الله بصيرته فساد هذين الجوابين، وبُعدهما من دلالة القرآن.
فالجواب الصحيح: أنه سبحانه أمرهم بالخروج طاعة له ولأمره،
(1/338)
________________________________________
واتباعًا لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ونصرة له وللمؤمنين، وأحب ذلك منهم ورضيه لهم دينًا، وعلم سبحانه أن خروجهم لو خرجوا لم يقع على هذا الوجه، بل يكون خروجهم خروج خذلان لرسوله وللمؤمنين، فكان خروجًا يتضمن خلاف ما يُحبّه ويرضاه، ويستلزم وقوع ما يكرهه ويبغضه، وكان مكروهًا له من هذا الوجه، ومحبوبًا له من الوجه الذي خرج عليه أولياؤه، وهو يعلم أنه لا يقع منهم إلا على الوجه المكروه إليه، فكرهه وعاقبهم على ترك الخروج الذي يُحبه ويرضاه، لا على ترك الخروج الذي يبغضه ويسخطه، وعلى هذا فليس الخروج الذي كرهه منهم طاعة، حتى لو فعلوه لم يثبهم عليه، ولم يرضه منهم.
وهذا الخروج المكروه له ضدّان:
أحدهما: الخروج المرضي المحبوب، وهذا الضدّ هو الذي يُحبّه.
والثاني: التخلف عن رسوله والقعود عن الغزو معه، وهذا الضدّ يبغضه ويكرهه أيضًا، وكراهته للخروج على الوجه الذي كانوا يخرجون عليه لا ينافي كراهته لهذا الضدّ، فقول السائل: قعودهم يكون محبوبًا له ليس بصحيح، بل قعودهم مبغوض له.
ولكن ههنا أمران مكروهان له سبحانه، وأحدهما أكره إليه من الآخر؛ لأنه أعظم مفسدة: فإن قعودهم مكروه له، وخروجهم على الوجه الذي ذكره أكره إليه، ولم يكن لهم بدّ من أحد المكروهين إليه سبحانه، فَدَفَع المكروه الأعلى بالمكروه الأدنى؛ فإن مفسدة قعودهم عنه أصغر من مفسدة خروجهم معه؛ فإن مفسدة قعودهم تختص بهم، ومفسدة خروجهم تعود على المؤمنين. فتأمل هذا الموضع.
(1/339)
________________________________________
فإن قلتَ: فهلّا وفَّقَهم للخروج الذي يحبّه ويرضاه، وهو الذي خرج عليه المؤمنون؟
قلتُ: قد تقدم جواب مثل هذا السؤال مرارًا، وأن حكمته سبحانه تأبى أن يضع التوفيق في غير محله وعند غير أهله، فالله أعلم حيث يجعل هداه وتوفيقه وفضله، وليس كل محلّ يصلح لذلك، ووضع الشيء في غير محله لا يليق بحكمته.
فإن قلتَ: وعلى ذلك: فهلّا جعل المَحالّ كلها صالحة؟
قلتُ: يأباه كمال ربوبيته وملكه، وظهور آثار أسمائه وصفاته في الخلق والأمر، وهو سبحانه لو فعل ذلك لكان محبوبًا له؛ فإنه يحب أن يُذكر ويُشكر ويُطاع ويُوحّد ويُعبد، ولكن كان ذلك يستلزم فوات ما هو أحب إليه من استواء أقدام الخلائق في الطاعة والإيمان، وهو محبته لجهاد أعدائه والانتقام منهم، وإظهار قدر أوليائه وشرفهم، وتخصيصهم بفضله، وبَذْل نفوسهم له في معاداة من عاداه، وظهور عزته وقدرته وسطوته، وشدّة أخذه، وأليم عقابه، وأضعاف أضعاف هذه الحكم التي لا سبيل للخلق ــ ولو تناهوا في العلم والمعرفة ــ إلى الإحاطة بها، ونسبة ما عقلوه منها إلى ما خفي عنهم كنقرة عصفور في بحر.
فصل
وأما التزيين، فقال تعالى: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [الأنعام: 108]، وقال: {(7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَأَىهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [فاطر: 8]، وقال: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43]،
(1/340)
________________________________________
فأضاف التزيين إليه سبحانه خلقًا ومشيئة، وحذف فاعله تارة، ونسبه إلى سببه (1) ومن أجراه على يده تارة، وهذا التزيين منه سبحانه حسن؛ إذ هو (2) ابتلاء واختبار لعبيده؛ ليتميز المطيع منهم من العاصي، والمؤمن من الكافر، كما قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7]، وهو من الشيطان قبيح.
وأيضًا فتزيينه سبحانه للعبد عمله السيئ عقوبة منه له على إعراضه عن توحيده وعبوديته، وإيثاره سيئ العمل على حَسَنِه؛ فإنه لابدّ أن يُعرّفه سبحانه السيئ من الحسن، فإذا آثر القبيح، واختاره وأحبَّه ورضيه لنفسه زيّنه سبحانه له، وأعماه عن رؤية قبحه بعد أن رآه قبيحًا، وكل ظالم وفاجر وفاسق لابد أن يريه الله تعالى ظلمه وفجوره وفسقه قبيحًا، فإذا تمادى عليه ارتفعت رؤية قبحه من قلبه، فربما رآه حسنًا عقوبة له؛ فإنه إنما يكشف له عن قبحه بالنور الذي في قلبه، وهو حجة الله عليه، فإذا تمادى في غيّه وظلمه ذهب ذلك النور، فلم ير قبحه في ظلمات الجهل والفسوق والظلم.
ومع هذا فحجة الله قائمة عليه بالرسالة، وبالتعريف الأول، فتزيين الربّ تعالى عدل، وعقوبته حكمة، وتزيين الشيطان إغواء وظلم، وهو السبب الخارج عن العبد، والسبب الداخل فيه حبّه وبغضه وإعراضه، والرب سبحانه خالق الجميع، والجميع واقع بمشيئته وقدرته، ولو شاء لهدى خلقه أجمعين، والمعصوم من عصمه الله، والمخذول من خذله الله، {لَهُ الْخَلْقُ
_________
(1) "د": "مشيئته" مهملة، "م": "سنته"، والمثبت من "ج" مطابق للسياق.
(2) "د": "منه سبحانه جزاء، وهو ابتلاء".
(1/341)
________________________________________
وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54].
فصل
وأما عدم مشيئته سبحانه وإرادته، فكما قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة: 41]، وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13]، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99]، وعدم مشيئته للشيء مستلزم لعدم وجوده، كما أن مشيئته له تستلزم وجوده، فما شاء الله وجب وجوده، وما لم يشأ امتنع وجوده.
وقد أخبر الله سبحانه أن العباد لا يشاؤون إلا بعد مشيئته، ولا يفعلون إلا بعد مشيئته، فقال: {وَمَا يَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30]، وقال: {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [المدثر: 56].
فإن قيل: فهل يكون الفعل مقدورًا للعبد في حال عدم مشيئة الله له أن يفعله؟
قيل: إن أريد بكونه مقدورًا: سلامة آلة العبد التي يتمكّن بها من الفعل، وصحة أعضائه، ووجود قواه، وتمكينه من أسباب الفعل، وتعريفه طريق فعله، وفتح الطريق له= فنعم، هو مقدور بهذا الاعتبار.
وإن أريد بكونه مقدورًا: القدرة المقارِنة للفعل، وهي الموجِبة له، التي إذا وجدت لم يتخلف عنها الفعل؛ فليس بمقدور بهذا الاعتبار.
وتقرير ذلك أن القدرة نوعان:
قدرة مُصَحِّحة، وهي قدرة الأسباب والشروط وسلامة الآلة، وهي
(1/342)
________________________________________
مناط التكليف، وهذه متقدمة على الفعل غير موجِبة له.
وقدرة مقارِنة للفعل مستلزِمة له، لا يتخلف الفعل عنها، وهذه ليست شرطًا في التكليف، فلا تتوقّف صحته وحسنه عليها، فإيمان من لم يشأ الله إيمانه، وطاعة من لم يشأ طاعته مقدور بالاعتبار الأول، غير مقدور بالاعتبار الثاني.
وبهذا التحقيق تزول الشبهة في تكليف ما لا يُطاق، كما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.
فإذا قيل: هل خَلَق لمن علم أنه لا يؤمن قدرة على الإيمان، أم لم يخلق له قدرة؟
قيل: خَلَق له قدرة مُصَحِّحة متقدِّمة على الفعل، هي مناط الأمر والنهي، ولم يخلق له قدرة موجِبة للفعل مستلزِمة له، لا يتخلّف عنها، فهذه فضله يؤتيه من يشاء، وتلك عدله التي تقوم بها حجته على عبده.
فإن قيل: فهل يمكنه الفعل ولم تُخْلَق له هذه القدرة؟
قيل: هذا هو السؤال السابق بعينه، وقد عرفت جوابه، وبالله التوفيق.
فصل
وأما إماتة قلوبهم، ففي قوله: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80]، وقوله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]، وقوله: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} [يس: 70]، وقوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22]، فوصف
(1/343)
________________________________________
الكافر بأنه ميت، وأنه بمنزلة أصحاب القبور، وذلك أن القلب الحيّ هو الذي يعرف الحق ويقبله ويحبه ويؤثره على غيره، فإذا مات القلب لم يبق فيه إحساس ولا تمييز بين الحق والباطل، ولا إرادة (1) للحق وكراهة للباطل، بمنزلة الجسد الميت الذي لا يحسّ بلذة الطعام والشراب وألم فقدهما.
ولذلك (2) وصف سبحانه كتابه ووحيه بأنه روح؛ لحصول حياة القلب به، فيكون القلب حيًّا، ويزداد حياة بروح الوحي، فيحصل له حياة على حياة، ونور على نور، نور الوحي على نور الفطرة، قال تعالى: {الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ} [غافر: 15]، وقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]، فجعله روحًا لما يحصل به من الحياة، ونورًا لما يحصل به من الهدى والإضاءة، وذلك نور وحياة زائد على نور الفطرة وحياتها، فهو نور على نور، وحياة على حياة.
ولهذا يضرب سبحانه لمن عدم ذلك مثلًا بمستوقد النار التي ذهب عنه ضوؤها، وبصاحب الصَّيِّب الذي كان حظّه منه الصواعق والظلمات والرعد والبرق، فلا استنار بما أوقد من النار، ولا حيي بما في الصَّيِّب من الماء.
وكذلك ضرب هذين المثلين في "سورة الرعد" لمن استجاب له، فحصل على الحياة والنور، ولمن لم يستجب له وكان حظه الموت
_________
(1) "د": "لذاذة".
(2) عدا "م": "وكذلك".
(1/344)
________________________________________
والظُّلمة، وأخبر عمن أمسك عنه نوره بأنه في الظلمة ليس له من نفسه نور، فقال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دِرِّيءٌ تَوَقَّدَ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) (1)} [النور: 35].
ثم ذكر من أمسك عنه هذا النور، ولم يجعله له، فقال: {(38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ يَحْسِبُهُ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ} [النور: 39 - 40].
وفي "المسند" من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله خلق خلقه في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل"، فلذلك أقول: جفّ القلم على علم الله (2).
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39]. وهذه الظلمات ضدّ الأنوار التي يتقلب فيها المؤمن، فإن نور الإيمان في قلبه، ومدخله نور، ومخرجه نور، وعمله نور، ومشيه في الناس بالنور، وكلامه نور، ومصيره إلى النور. والكافر بالضدّ.
_________
(1) قوله تعالى: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)} من "م".
(2) تقدم تخريجه في (23).
(1/345)
________________________________________
ولما كان النور من أسمائه سبحانه وصفاته كان دينه نورًا، ورسوله نورًا، وكلامه نورًا، وداره نورًا تتلألأ، والنور يتوقد في قلوب عباده المؤمنين، ويجري على ألسنتهم، ويظهر على وجوههم.
وكذلك لما كان الإيمان صفته، واسمه المؤمن؛ لم يعطه إلا أحبّ خلقه إليه. وكذلك الإحسان صفته وهو المحسن، ويحب المحسنين، وهو صابر يحب الصابرين، شاكر يحب الشاكرين، عفو يحب أهل العفو، حيِيّ يحب أهل الحياء، سِتّير يحب أهل الستر، قوي يحب أهل القوة من المؤمنين، عليم يحب أهل العلم من عباده، جواد يحب أهل الجود، جميل يحب المتجمّلين، بَرّ يحب الأبرار، رحيم يحب الرحماء، عدل يحب أهل العدل، رشيد يحب أهل الرشد، وهو الذي جعل من يحبّه من خلقه كذلك، وأعطاه من هذه الصفات ما شاء، وأمسكها عمن يبغضه، وجعله على أضدادها، فهذا عدله، وذلك فضله، والله ذو الفضل العظيم.
فصل
وأما جعله القلب قاسيًا، فقال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 13]، والقسوة: الشدّة والصلابة في كل شيء، يقال: حجر قاس، وأرض قاسية لا تنبت شيئًا.
قال ابن عباس: "قاسية عن الإيمان".
وقال الحسن: "طبع عليها" (1).
_________
(1) نسبه إليهما في "البسيط" (7/ 303).
(1/346)
________________________________________
والقلوب ثلاثة: قلب قاس، وهو اليابس الصلب الذي لا يقبل صورة الحق، ولا تنطبع فيه ليبسه. وضده القلب الليّن المتماسك، وهو السليم من المرض، الذي يقبل صورة الحق بلينه، ويحفظها بتماسكه، بخلاف المريض الذي لا يحفظ ما ينطبع فيه؛ لميعانه ورخاوته، كالمائع الذي إذا طَبعتَ فيه الشيء قَبِل صورته بما فيه من اللِّيْن، ولكن رخاوته تمنعه من حفظها، فخير القلوب الصلب الصافي الليْن، فهو يرى الحق بصفائه، ويقبله بلينه، ويحفظه بصلابته.
وفي "المسند" (1) وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "القلوب آنية الله في أرضه، فأحبها إليه أصلبها وأرقّها وأصفاها".
وقد ذكر سبحانه أنواع القلوب في قوله: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 53 - 54]، فذكر القلب المريض وهو الضعيف المنحل الذي لا تثبت فيه صورة الحق، والقلب القاسي اليابس الذي لا يقبلها ولا تنطبع فيه، فهذان القلبان شقيّان معذّبان.
_________
(1) لم أقف عليه في "المسند".
وقد روي هذا الأثر مرفوعًا وموقوفًا ومقطوعًا: فأخرجه مرفوعًا الطبراني في "مسند الشاميين" (840) من حديث أبي عِنَبة الخولاني بإسناد جيد، وله شاهد في "الزهد" (830) عن أبي أمامة، وهو في "جزء الدراج" (99) موقوفًا على أبي عنبة، ومقطوعًا على خالد بن معدان في "الزهد" (2264)، انظر: "فيض القدير" (2/ 496)، "الصحيحة" (1691).
(1/347)
________________________________________
ثم ذكر القلب المُخْبِت المطمئن إليه، وهو الذي ينتفع بالقرآن ويزكو به.
قال الكلبي: " {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} فترق للقرآن قلوبهم" (1).
وقد بيّن سبحانه حقيقة الإخبات ووصف المُخْبِتين في قوله: {الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)} [الحج: 34 - 35].
فذكر للمُخْبِتين أربع علامات: وَجَل قلوبهم عند ذكره ـ والوَجَل: خوفٌ مقرون بهيبة ومحبّة ـ، وصبرهم على أقداره، وإتيانهم بالصلاة قائمة الأركان ظاهرًا وباطنًا، وإحسانهم إلى عباده بالإنفاق مما آتاهم، وهذا إنما يتأتّى للقلب المُخْبِت.
قال ابن عباس: "المُخْبِتين: المتواضعين" (2).
وقال مجاهد: "المطمئنّين إلى الله" (3).
وقال الأخفش: "الخاشعين" (4).
_________
(1) حكاه عنه في "البسيط" (15/ 472).
(2) نسبه إليه الثعلبي في "الكشف والبيان" (7/ 22)، وعلّقه البخاري في "الصحيح" (6/ 97) عن سفيان بن عيينة، وأسنده عبد الرزاق في "التفسير" (2/ 38) عن قتادة ومجاهد.
(3) أسنده في "جامع البيان" (16/ 551)، وهو في "تفسير مجاهد" (481).
(4) حكاه عنه في "الكشف والبيان" (7/ 22).
(1/348)
________________________________________
وقال ابن جرير: "الخاضعين" (1).
قال الزَّجّاج: "اشتقاقه من الخَبْت وهو المنخفض من الأرض، فكل مُخْبِت متواضع، فالإخبات سكون الجوارح على وجه التواضع والخشوع لله تعالى" (2).
فإن قيل: فإذا كان معناه التواضع والخشوع، فكيف عُدّي بـ "إلى" في قوله: {وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [هود: 23]؟
قيل: ضُمِّن معنى: أنابوا واطمأنوا وتابوا، وهذه عبارات السلف في هذا الموضع.
والمقصود: أن القلب المُخْبِت ضدّ القاسي والمريض، وهو سبحانه الذي جعل بعض القلوب مُخْبِتًا إليه، وبعضها مريضًا، وبعضها قاسيًا، وجعل للقسوة آثارًا، وللإخبات آثارًا.
فمن آثار القسوة: تحريف الكلم عن مواضعه، وذلك من سوء الفهم وسوء القصد، وكلاهما ناشئ عن قسوة القلب، ومنها نسيان ما ذُكّر به، وهو تَرْك ما أُمرَ به علمًا وعملًا، ومن آثار الإخبات وجَل القلوب لذكره سبحانه، والصبر على أقداره، والإخلاص في عبوديته، والإحسان إلى خلقه.
فصل
وأما تضييق الصدر وجعله حرجًا لا يقبل الإيمان، فقال تعالى: {فَمَنْ
_________
(1) "جامع البيان" (16/ 550).
(2) "معاني القرآن وإعرابه" (3/ 427).
(1/349)
________________________________________
يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125]، والحرج: هو الشديد الضيق في قول أهل اللغة جميعهم، يقال: رجلٌ حَرِجٌ وحَرَجٌ، أي: ضَيِّقُ الصدر، قال الشاعر:
لا حَرِج الصدرِ ولا عنيفُ (1)
قال عبيد بن عمير: قرأ ابن عباس هذه الآية فقال: هل ههنا أحد من بني بكر؟ قال رجل: نعم. قال: ما الحَرَجة فيكم؟ قال: الوادي الكثير الشجر الذي لا طريق فيه. فقال ابن عباس: كذلك قلب الكافر (2).
وقرأ عمر بن الخطاب الآية فقال: ابغوني رجلًا من كنانة، واجعلوه راعيًا. فأتوه به، فقال له عمر: يا فتى، ما الحَرَجة فيكم؟ فقال: الشجرة تحدق بها الأشجار فلا تصل إليها راعية ولا وحشية. فقال عمر: كذلك قلب الكافر، لا يصل إليه شيء من الخير (3).
قال ابن عباس: " {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا}، إذا سمع ذكر الله اشْمَأزَّ قلبه ونفسه، وإذا ذُكِر شيء من عبادة الأصنام ارتاح إلى ذلك" (4).
_________
(1) هو دون نسبة في "العين" (3/ 76)، و"تهذيب اللغة" (4/ 137).
(2) أورده بهذا اللفظ الثعلبي في "الكشف والبيان" (4/ 188)، والواحدي في "البسيط" (8/ 423)، وأسنده السرقسطي في "الدلائل في غريب الحديث" (3/ 1034) من طريق عبيد بن عمير بنحوه، ومن وجه آخر الطبري في "جامع البيان" (16/ 641).
(3) أسنده الطبري (9/ 545).
(4) نسبه إليه في "البسيط" (8/ 425).
(1/350)
________________________________________
ولما كان القلب محلًّا للمعرفة والعلم والمحبة والإنابة، وكانت هذه الأشياء إنما تدخل في القلب إذا اتسع لها، فإذا أراد الله هداية عبده وسّع صدره وشرحه، فدخلت فيه وسكنته، وإذا أراد ضلاله ضيّق صدره وأحرجه، فلم يجد محلًّا يدخل فيه، فيعدل عنه ولا يساكنه، وكل إناء فارغ إذا دخل فيه الشيء ضاق به، وكلما أفرغت فيه الشيء ضاق، إلا القلب الليّن (1)، فكلما أُفْرِغ فيه الإيمان والعلم اتسع وانفسح، وهذا من آيات (2) قدرة الرب تعالى.
وفي "الترمذي" وغيره (3) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دخل النورُ القلبَ انفسح وانشرح"، قالوا: فما علامة ذلك يا رسول الله؟ قال: "الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله".
فَشَرْح الصدر من أعظم أسباب الهدى، وتضييقه من أسباب الضلال، كما أن شَرْحَه من أَجَلِّ النعم، وتضييقه من أعظم النقم، فالمؤمن مشروح الصدر منفسحه في هذه الدار على ما ناله من مكروهها، وإذا قوي الإيمان وخالط بشاشته القلوب كان على مكارهها أشرح صدرًا منه على شهواتها
_________
(1) "اللين" من "ج".
(2) "د": "باب" معجمة.
(3) لم أقف عليه عند الترمذي ولم يعزه إليه أحد، وهو في "نوادر الأصول" للحكيم الترمذي كما في "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (3/ 201).
والحديث أخرجه وكيع في "الزهد" (15)، وسعيد بن منصور في "التفسير" (918)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (35455)، من طرق عن عمرو بن مرة، عن أبي جعفر عبد الله بن مسور المدائني ـ وهو وضّاع ـ مرسلًا، قال ابن رجب: "هذا هو أصل الحديث، ثم وصله قوم، وجعلوا له إسنادًا موصولًا مع اختلافهم فيه"، انظر: "علل الدارقطني" (5/ 189)، "شرح العلل" لابن رجب (2/ 772).
(1/351)
________________________________________
ومحابها، فإذا فارقها كان انفساح روحه والشرح الحاصل له بفراقها أعظم بكثير، كحال من خرج من سجن ضيق إلى فضاء واسع موافق له؛ فإنها سجن المؤمن، فإذا بعثه الله يوم القيامة، رأى من انشراح صدره وسعته ما لا نسبة لما قبله إليه، فَشَرْح الصدر كما أنه سبب الهداية فهو أصل كل نعمة، وأساس كل خير.
وقد سأل كليمُ الرحمن موسى بن عمران ربَّه أن يشرح له صدره لما علم أنه لا يتمكن من تبليغ رسالته والقيام بأعبائها إلا إذا شرح له صدره.
وقد عدّد سبحانه من نعمه على خاتم أنبيائه ورسله شَرْح صدره له، وأخبر عن أتباعه أنه شَرَحَ صدورهم للإسلام.
فإن قلتَ: فما الأسباب التي تشرح الصدر، والتي تضيقه؟
قلتُ: السبب الذي يشرح الصدر: النور الذي يقذفه الله سبحانه فيه، فإذا دخله ذلك النور اتسع بحسب قوة النور وضعفه، وإذا فقد ذلك النور أظلم وتضايق.
فإن قلتَ: فهل يمكن اكتساب هذا النور، أم هو وَهْبي؟
قلت: هو وَهْبي وكَسْبي، واكتسابه أيضًا مجرد موهبة من الله تعالى، فالأمر كله لله، والحمد كله له، والخير كله بيديه، وليس مع العبد من نفسه شيء البتَّة، بل الله واهب الأسباب ومسبباتها وجاعلها أسبابًا، ومانحها من يشاء، ومانعها من يشاء، فإذا أراد بعبده خيرًا وفقه لاستفراغ وسعه وبذل جهده في الرغبة والرّهبة إليه، فإنهما مادتا التوفيق، فعلى قدر قيام الرغبة والرّهبة في القلب يحصل التوفيق.
(1/352)
________________________________________
فإن قلتَ: فالرغبة والرهبة بيده لا بيد العبد!
قلتُ: نعم والله، وهما مجرد فضله ومنّته، وإنما يجعلهما في المحل الذي يليق بهما، ويحبسهما عمن لا يصلح.
فإن قلتَ: فما ذنب من لا يصلح؟
قلتُ: أكبر ذنوبه أنه لا يصلح؛ لأن عدم صلاحيته بما اختاره لنفسه وآثره وأحبّه من الضلال والعمى (1) على بصيرة من أمره، فآثر هواه على حق ربّه ومرضاته، واستحب العمى على الهدى، وكان كُفْر المُنْعِم عليه بصنوف النعم، وجَحْد إلهيته والشرك به، والسعي في مساخطه؛ أحبَّ إليه من شكره وتوحيده، والسعي في مرضاته، فهذا من عدم صلاحيته لتوفيق خالقه ومالكه، وأي ذنب فوق هذا؟!
فإذا أمسك الحَكَمُ العدلُ توفيقه عمن هذا شأنه كان قد عَدَل فيه، وانسدَّت عليه أبواب الهداية وطرق الرشاد، فأظلم قلبه، فضاق عن دخول الإسلام والإيمان فيه، فلو جاءته كل آية لم تزده إلا ضلالًا وكفرًا.
وإذا تأمل من شرح الله صدره للإسلام والإيمان هذه الآية، وما تضمنته من أسرار التوحيد والقدر والعدل وعظمة شأن الربوبية؛ صار لقلبه عبودية أخرى ومعرفة خاصة، وعلم أنه عبد من كل وجه وبكل اعتبار، وأن الربّ تعالى ربّ كل شيء ومليكه من الأعيان والصفات والأفعال، والأمر كله بيده، والحمد كله له، وأزمّة الأمور بيديه، ومرجعها كلها إليه.
ولهذه الآية شأن فوق عقولنا، وأجلّ من أفهامنا، وأعظم مما قال فيها
_________
(1) "د": "والغي"، والمثبت من "م".
(1/353)
________________________________________
المتكلمون الذين ظلموها معناها، وأنفسهم كانوا يظلمون. تالله لقد غلظ عنها حجابهم، وكثفت عنها أفهامهم، ومنعتهم الوصولَ إلى المراد بها أصولُهم التي أصّلوها، وقواعدُهم التي أسّسوها؛ فإنها تضمنت إثبات التوحيد والعدل الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، لا التوحيد والعدل الذي يقوله معطلو الصفات ونفاة القدر، وتضمنت إثبات الحكمة، والقدرة، والشرع، والقدر، والسبب، والحكم، والذنب، والعقوبة، ففتحت للقلب الصحيح بابًا واسعًا من معرفة الرب تعالى بأسمائه، وصفات كماله، ونعوت جلاله، وحكمته في شرعه وقدره، وعدله في عقابه، وفضله في ثوابه.
وتضمنت كمال توحيده في ربوبيته (1) وقيّوميته وإلهيته، وأن مصادر الأمور كلها عن محض إرادته، ومردّها إلى كمال حكمته، وأن المهتدي من خصّه بهدايته، وشرح صدره لدينه وشريعته، وأن الضال من جعل صدره ضيقًا حرجًا عن معرفته ومحبته، كأنما تصاعد في السماء، وليس ذلك في قدرته، وأن ذلك عدل منه في عقوبته لمن لم يقدره حق قدره، وجحد كمال ربوبيته، وكفر بنعمته، وآثر عبادة الشيطان على عبوديته، فَسدَّ عليه باب توفيقه وهدايته، وفتح عليه أبواب غيّه وضلالته، فضاق صدره، وقسا قلبه، وتعطلت من عبودية ربِّها جوارحه، وامتلأت بالظلمة جوانحه.
والذنب له حيث أعرض عن الإيمان، واستبدل به الكفر والفسوق والعصيان، ورضي بموالاة الشيطان، وهانت عليه معاداة الرحمن، لا يحدّث نفسه بالرجوع إلى مولاه، ولا يعزم يومًا على إقلاعه عن هواه، قد ضادّ الله في أمره بحب ما يبغضه، وببغض ما يحبه، ويوالي من يعاديه، ويعادي من يواليه،
_________
(1) "م": "ديموميته".
(1/354)
________________________________________
فيغضب إذا رضي الربّ، ويرضى إذا غضب، هذا وهو يتقلب في إحسانه، ويسكن في داره، ويغتذي برزقه، ويتقوى على معاصيه بنعمه.
فمَنْ أعدلُ منه ــ سبحانه عما يصفه به الجاهلون والظالمون ــ إذا جعل الرجس على أمثال هؤلاء من الذين لا يؤمنون؟!
فصل
إذا شرح اللهُ صدرَ عبده بنوره الذي يقذفه في قلبه أراه في ضوء ذلك النور حقائق الأسماء والصفات التي تصل إليها معرفة العبد؛ إذ لا يمكن أن يعرفها العبد على ما هي عليه في نفس الأمر، وأراه في ضوء ذلك النور حقائق الإيمان، وحقائق العبودية وما يصححها وما يفسدها.
وتفاوُت الناس في معرفة الأسماء والصفات، والإيمان والإخلاص، وأحكام العبودية بحسب تفاوتهم في هذا النور، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]، وقال: {آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الحديد: 28].
فيكشف لقلب المؤمن في ضوء ذلك النور عن حقيقة المثل الأعلى، مستويًا على عرش الإيمان في قلب العبد المؤمن، فيشهد بقلبه ربًّا عظيمًا قاهرًا قادرًا، أكبر من كل شيء في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله، السماوات السبع قبضة إحدى يديه، والأرضون السبع قبضة اليد الأخرى، يمسك السماوات على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال على أصبع، والشجر على أصبع، والثرى على أصبع، ثم يهزّهن، ثم يقول: أنا الملك. فالسماوات
(1/355)
________________________________________
السبع في كفه كخردلة في كفّ العبد.
يحيط ولا يحاط به، ويحصر خلقه ولا يحصرونه، ويدركهم ولا يدركونه، لو أن الناس من لدن آدم إلى آخر الخلق قاموا صفًّا واحدًا ما أحاطوا به سبحانه.
ثم يشهده في علمه فوق كل عليم، وفي قدرته فوق كل قدير، وفي جوده فوق كل جواد، وفي رحمته فوق كل رحيم، وفي جماله فوق كل جميل، حتى لو كان جمال الخلائق كلهم على شخص واحد منهم، ثم أُعطي الخلق كلهم مثل ذلك الجمال؛ لكان نسبته إلى جمال الرب تبارك وتعالى دون نسبة سراج ضعيف إلى ضوء الشمس.
ولو اجتمعت قوى الخلائق على شخص واحد منهم، ثم أُعطي كلٌّ منهم مثل تلك القوة؛ لكان نسبتها إلى قوته سبحانه دون نسبة قوة البعوضة إلى الأسد.
ولو كان جودهم على رجل واحد، وكل الخلائق على ذلك الجود؛ لكانت نسبته إلى جوده دون نسبة قطرة إلى البحر.
وكذلك علم الخلائق إذا نُسِب إلى علمه كان كنقرة عصفور من البحر.
وهكذا سائر صفاته، كحياته وسمعه وبصره وإرادته، فلو فرض البحر المحيط بالأرض مدادًا تحيط به سبعة أبحر، وجميع أشجار الأرض شيئًا بعد شيء أقلام؛ لفني ذلك المداد والأقلام، ولا تفنى كلماته ولا تنفد، فهو أكبر في علمه من كل عالم، وفي قدرته من كل قادر، وفي جوده من كل جواد، وفي غناه من كل غني، وفي علوه من كل عال، وفي رحمته من كل رحيم.
(1/356)
________________________________________
استوى على عرشه، واستولى على خلقه، متفرّد بتدبير مملكته، فلا قبض ولا بسط، ولا عطاء ولا منع، ولا هدى ولا ضلال، ولا سعادة ولا شقاوة، ولا موت ولا حياة، ولا نفع ولا ضر إلا بيده، لا مالك غيره، ولا مدبر سواه، لا يستقل أحد معه بملك مثقال ذرة في السماوات والأرض، ولا يشركه في ملكها، ولا يحتاج إلى وزير ولا ظهير ولا معين، ولا يغيب فيخلفه غيره، ولا يعيى (1) فيعينه سواه، ولا يتقدم أحد بالشفاعة بين يديه إلا من بعد إذنه لمن شاء فيمن شاء.
فهذا أول مشاهد المعرفة.
ثم يترقى منه إلى مشهد آخر فوقه، لا يتم الإيمان إلا به، وهو مشهد الإلهية، فيشهده سبحانه متجلّيًا في كلامه بأمره ونهيه، ووعده ووعيده، وثوابه وعقابه، وعدله في عقابه، وفضله في ثوابه، فيشهد ربًّا قيّومًا متكلّمًا، آمرًا ناهيًا، يحبّ ويبغض، ويرضى ويغضب، قد أرسل رسله، وأنزل كتبه، وأقام على عباده حجته البالغة، وأتم عليهم نعمته السابغة، يهدي من يشاء نعمة منه وفضلًا، ويضل من يشاء حكمة منه وعدلًا، تنزل إليهم أوامره، وتعرض عليه أعمالهم، لم يخلقهم عبثًا، ولم يتركهم سدى، بل أَمْره جارٍ عليهم في حركاتهم وسكناتهم، وظواهرهم وبواطنهم، فلله عليهم حُكْم وأَمْر في كل تحريكة وتسكينة، ولحظة ولفظة.
وينكشف له في ضوء هذا النور عدله وحكمته، ورحمته ولطفه، وإحسانه وبرّه، في شرعه وأحكامه، وأنها أحكام ربّ رحيم محسن لطيف
_________
(1) عدا "ج": "معين".
(1/357)
________________________________________
حكيم، قد بهرت حكمته العقول، وأقرت بها الفطر، وشهدت لمنزلها بالوحدانية، ولمن جاء بها بالرسالة والنبوة.
وينكشف له في ضوء ذلك النور إثبات صفات الكمال، وتنزيهه سبحانه عن النقائص والمثال، وأن كل كمال في الوجود فمعطيه وخالقه أحق به وأولى، وكل نقص وعيب فهو سبحانه منزّه عنه، متعال عنه.
وينكشف له في ضوء هذا النور حقائق المعاد واليوم الآخر، وما أخبر به الرسول عنه، حتى كأنه يشاهده عيانًا، وكأنه يخبر عن الله وأسمائه وصفاته، وأمره ونهيه، ووعده ووعيده؛ إخبارَ من كأنه قد رأى وعاين وشاهد ما أخبر به.
فمن أراد الله سبحانه هدايته شرح صدره لهذا، فاتسع له وانفسح، ومن أراد ضلالته جعل صدره من ذلك في ضيق وحرج، لا يجد فيه مسلكًا ولا منفذًا، والله الموفق المعين.
وهذا الباب يكفي اللبيب في معرفة القدر والحكمة، ويطلعه على العدل والتوحيد اللذيْن تضمنهما قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 18 - 19].
* * * *
(1/358)
________________________________________
الباب السادس عشر ما جاء من السنة في تفرد الرب تعالى بخلق أعمال العباد كما هو متفرد بخلق ذواتهم وصفاتهم
قال البخاري في كتاب "خلق أفعال العباد" (1): حدثنا علي بن عبد الله، ثنا مروان بن معاوية، ثنا أبو مالك، عن رِبْعِي بن حِرَاش، عن حذيفة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يصنع كل صانع وصنعته"، قال البخاري: وتلا بعضهم عند ذلك: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96].
حدثنا محمد، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شَقِيق، عن حذيفة نحوه موقوفًا عليه.
وأما استشهاد بعضهم بقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}، فحَمَلَ "ما" على المصدر، أي: خلقكم وأعمالكم، والظاهر خلاف هذا، وأنها موصولة، أي: خلقكم وخلق الأصنام التي تعملونها، فهو يدل على خلق أعمالهم من جهة اللزوم؛ فإن الصنم اسم للآلة التي حل فيها العمل المخصوص، فإذا كان مخلوقًا لله كان خلقه متناولًا لمادته وصورته.
قال البخاري: وحدثنا عمرو بن محمد، ثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن طاووس، عن ابن عمر (2): "كل شيء بقدر حتى وضعك يدك على
_________
(1) (2/ 66)، وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" (357)، والبزار (2837)، وصححه الحاكم (85).
(2) كذا في الأصول: "ابن عمر"، صوابه: "ابن عباس" كما في مصدر الخبر.
(1/359)
________________________________________
خدك" (1).
قال البخاري: وحدثني إسماعيل، قال: حدثني مالك، عن زياد بن سعد، عن عمرو بن مسلم، عن طاووس قال: "أدركت ناسًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون: كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس" (2).
ورواه مسلم في "صحيحه" (3) عن طاووس، وقال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس" (4).
قال البخاري: وقال ليث: عن طاووس، عن ابن عباس: " {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] حتى العجز والكيس".
قال البخاري: سمعت عبيد الله بن سعيد يقول: سمعت يحيى بن سعيد يقول: ما زلت أسمع أصحابنا يقولون: "أفعال العباد مخلوقة".
قال البخاري: "حركاتهم وأصواتهم واكتسابهم وكتابتهم مخلوقة" (5).
وقال جابر بن عبد الله: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا الاستخارة في الأمور،
_________
(1) "خلق أفعال العباد" (2/ 69)، وأخرجه الفريابي في "القدر" (206) وغيره من حديث ابن عباس.
(2) "خلق أفعال العباد" (2/ 68) إلا أنه في مطبوعته حتى قول طاووس: "كل شيء بقدر"، وما بعده كسياق مسلم الآتي، وهو بمثل سياق المؤلف في "الإبانة الكبرى" (1663).
(3) (2655).
(4) من قوله: "ورواه مسلم" إلى هنا ساقط من "م".
(5) "خلق أفعال العباد" (2/ 70).
(1/360)
________________________________________
كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: "إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خيرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فيسّره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شرٌّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضِّني به"، قال: "ويسمي حاجته"، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح" (1).
فقوله: "إذا هَمَّ أحدُكم بالأمر" صريحٌ في أنه الفعل الاختياري المتعلق بإرادة العبد.
وإذا عُلِم ذلك، فقوله: "أستقدرك بقدرتك" أي: أسألك أن تقدرني على فعله بقدرتك، ومعلوم أنه لم يسأل القدرة المُصَحِّحة التي هي سلامة الأعضاء وصحة البِنْيَة، وإنما سأل القدرة التي توجب الفعل، فعلم أنها مقدورة لله ومخلوقة له، وأكد ذلك بقوله: "فإنك تقدر ولا أقدر" أي: تقدر أن تجعلني قادرًا فاعلًا، ولا أقدر أجعل نفسي كذلك.
وكذلك قوله: "تعلم ولا أعلم" أي: حقيقة العلم بعواقب الأمور، ومآلها والنافع منها والضار عندك، وليس عندي.
وقوله: "يسّره لي، أو اصرفه عني" فإنه طَلَبَ من الله تيسيره إن كان له فيه
_________
(1) تقدم تخريجه، وهو في الترمذي برقم (480).
(1/361)
________________________________________
مصلحة، وصَرْفه عنه إن كان عليه فيه مفسدة. وهذا التيسير (1) والصرف متضمن إلقاء داعية الفعل في القلب، أو إلقاء داعية الترك فيه، ومتى حصلت داعية الفعل حصل الفعل، وداعية الترك امتنع الفعل.
وعند القدرية ترجيح فاعلية العبد على تركه منه، ليس للرب فيه صنع ولا تأثير، فطَلَبُ هذا التيسير منه لا معنى له عندهم؛ فإن تيسير الأسباب التي لا قدرة للعبد عليها موجود، ولم يسأله العبد.
وقوله: "ثم رضِّني به" يدل على أن حصول الرضا ــ وهو فعل اختياري من أفعال القلوب ــ أمر مقدور للرب تعالى، وهو الذي يلقيه في قلب عبده فيجعله راضيًا.
وعند القدرية هو الذي يجعل نفسه راضيًا.
وقوله: "فاصرفه عني واصرفني عنه" صريحٌ في أنه سبحانه هو الذي يصرف عبده عن فعله الاختياري إذا شاء صرفه عنه، كما قال سبحانه في حق يوسف الصديق: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} [يوسف: 24]، وصَرْف السوء والفحشاء هو صَرْف دواعي القلب وميله إليهما، فينصرفان عنه بصَرْف دواعيهما.
وقوله: "واقدر لي الخير حيث كان" يعم الخير المقدور للعبد من طاعاته، وغير المقدور له، فعُلِم أن فعل العبد للطاعة والخير أمر مقدور لله، إن لم يقدره الله لعبده لم يقع من العبد.
ففي هذا الحديث الشفاء في مسألة القدر.
_________
(1) من قوله: "إن كان له فيه مصلحة" إلى هنا ساقط من "د".
(1/362)
________________________________________
وأمَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - الداعي به أن يقدم بين يدي هذا الدعاء ركعتين، عبودية منه بين يدي نجواه، وأن تكونا من غير الفريضة؛ ليتجرد فعلهما لهذا الغرض المطلوب.
ولما كان الفعل الاختياري متوقّفًا على العلم والقدرة والإرادة، لا يحصل إلا بها؛ توسّل الداعي إلى الله بعلمه وقدرته وإرادته التي يؤتيه بها من فضله، وأكد هذا المعنى بتجرده وبراءته من ذلك، فقال: "إنك تعلم ولا أعلم، وتقدر ولا أقدر"، وأَمَرَ الداعي أن يعلق التيسير والصرف بالشرط ـ وهو علم الله سبحانه ـ تحقيقًا للتفويض إليه، واعترافًا بجهل العبد بعواقب الأمور، كما اعترف بعجزه، ففي هذا الدعاء إعطاء العبودية حقها، وإعطاء الربوبية حقها، وبالله المستعان.
وفي الترمذي (1) وغيره من حديث الحسن بن علي قال: علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلمات أقولهن في الوتر: "اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شرّ ما قضيت، إنك تقضي ولا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، تبارك وتعاليت".
فقوله: "اهدني" سؤال للهداية المطلقة التي لا يتخلف عنها الاهتداء.
وعند القدرية أن الربّ ــ سبحانه وتعالى عن قولهم ــ لا يقدر على هذه الهداية، وإنما يقدر على هداية البيان والدلالة المشتركة بين المؤمنين والكفار.
_________
(1) برقم (464)، وأخرجه أحمد (1718)، وأبو داود (1425)، والنسائي (1745)، وابن ماجه (1178)، وصححه ابن خزيمة (1095)، وابن حبان (945).
(1/363)
________________________________________
وقوله: "فيمن هديت" فيه فوائد:
أحدها: أنه سؤال له أن يدخله في جملة المهتدين وزمرتهم ورفقتهم.
الثانية: توسل إليه بإحسانه وإنعامه، أي: إنك قد هديت من عبادك بشرًا كثيرًا فضلًا منك وإحسانًا، فأحسن إليّ كما أحسنت إليهم، كما يقول الرجل للمَلِك: اجعلني من جملة من أغنيتَه وأعطيتَه وأحسنتَ إليه.
الثالثة: أن ما حصل لأولئك من الهدى لم يكن منهم ولا بأنفسهم، وإنما كان منك، فأنت الذي هديتهم.
وقوله: "وعافني فيمن عافيت" إنما يسأل ربّه العافية المطلقة، وهي العافية من الكفر والفسوق والعصيان والغفلة والإعراض، وفعل ما لا يحبه، وترك ما يحبه، فهذا حقيقة العافية، ولهذا ما سُئل الربّ سبحانه شيئًا أحب إليه من العافية؛ لأنها كلمة جامعة للتخلص من الشرّ كله وأسبابه.
وقوله: "وتولّني فيمن تولّيت" سؤال للتولّي الكامل، ليس المراد به ما فعله بالكافر من خَلْق القدرة وسلامة الآلة وبيان الطريق، فإن كان هذا هو ولايته للمؤمنين فهو ولي الكفار كما هو ولي المؤمنين، وهو سبحانه يتولّى أولياءه بأمور لا توجد في حق الكفار؛ من توفيقهم وإلهامهم وجعلهم مهتدين مطيعين.
ويدل عليه قوله: "إنه لا يذل من واليت"؛ فإنه منصور عزيز غالب بسبب تولّيك له، وفي هذا تنبيه على أن من حصل له ذلّ في الناس فهو بنقصان ما فاته من تولي الله له، وإلا فمع الولاية الكاملة ينتفي الذل كلّه، ولو سُلّط عليه بالأذى مَن بأقطارها فهو العزيز غير الذليل.
(1/364)
________________________________________
وقوله: "وقني شرَّ ما قضيت" يتضمن أن الشرّ بقضائه، وأنه هو الذي يقي منه.
وفي "المسند" (1) وغيره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ بن جبل: "يا معاذ، والله إني لأحبك، فلا تنس أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أَعِنّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"، وهذه أفعال اختيارية، وقد سأل الله أن يعينه على فعلها.
وهذا الطلب لا معنى له عند القدرية؛ فإن الإعانة عندهم: الإقدار، والتمكين، وإزاحة الأعذار، وسلامة الآلة، وهذا حاصل للسائل وللكفار أيضًا، والإعانة التي سألها أن يجعله ذاكرًا له، شاكرًا، محسنًا لعبادته، كما في حديث ابن عباس عنه - صلى الله عليه وسلم - في دعائه المشهور: "رب، أعنِّي ولا تعن عليَّ، وانصرني ولا تنصر عليّ، وامكر لي ولا تمكر عليّ، واهدني ويسّر الهدى لي، وانصرني على من بغى علي (2)، رب اجعلني لك شكّارًا، لك ذكّارًا، لك رهّابًا، لك مِطْواعًا، لك مُخْبِتًا، إليك أوّاهًا منيبًا، رب، تقبل توبتي، واغسل حَوْبتي، وأجب دعوتي، وثبّت حجّتي، واهد قلبي، وسدّد لساني، واسلل سَخِيمة صدري" رواه الإمام أحمد في "المسند"، والترمذي وقال: "حديث حسن صحيح" (3)، وفيه أحد وعشرون دليلًا، فتأملها.
_________
(1) برقم (22119)، وأخرجه أبو داود (1522)، والنسائي (1303)، وصححه ابن خزيمة (751)، وابن حبان (2020).
(2) من قوله: "واهدني" إلى هنا ساقط من "د".
(3) تقدم تخريجه في (191).
(1/365)
________________________________________
وفي "الصحيحين" (1) أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول بعد انقضاء صلاته: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدّ منك الجَدّ"، وكان يقول ذلك الدعاء عند اعتداله من الركوع، ففي هذا نفي الشريك عنه بكل اعتبار، وإثبات عموم الملك له بكل اعتبار، وإثبات عموم الحمد، وإثبات عموم القدرة، وأن الله سبحانه إذا أعطى عبدًا فلا مانع له، وإذا منعه فلا معطي له.
وعند القدرية أن العبد قد يمنع مَن أعطى الله، ويعطي مَن منعه؛ فإنه يفعل باختياره عطاءً ومنعًا لم يشأه الله، ولم يجعله معطيًا مانعًا، فيتصور أن يكون لمن أعطى مانع، ولمن منع معطٍ.
وفي الصحيح عنه أن رجلًا سأله أن يدله على عمل يدخل به الجنة، فقال: "إنه ليسير على من يسّره الله عليه" (2)، فدلَّ على أن التيسير الصادر من قبله سبحانه يوجب اليسر في العمل، وعدم التيسير يستلزم عدم العمل؛ لأنه ملزومه، والملزوم ينتفي لانتفاء لازمه، والتيسير بمعنى التمكين، وخَلْق العقل، وإزاحة العذر، وسلامة الأعضاء؛ حاصل للمؤمن والكافر، والتيسير المذكور في الحديث أمر آخر وراء ذلك، وبالله التوفيق والتيسير.
_________
(1) البخاري (844)، ومسلم (593) من حديث المغيرة بن شعبة.
(2) جزء من حديث طويل أخرجه أحمد (22016)، والنسائي في "الكبرى" (11330)، والترمذي (2616) وقال: "حسن صحيح"، وابن ماجه (3973)، من حديث معاذ بن جبل، وصححه ابن حبان (214).
(1/366)
________________________________________
وفي "الصحيح" (1) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لأبي موسى: "ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله"، وقد أجمع المسلمون على هذه الكلمة وتلقيها بالقبول، وهي شافية كافية في إثبات القدر، وإبطال قول القدرية.
وفي بعض الحديث إذا قالها العبد قال الله: "أسلم عبدي واستسلم" (2)، وفي بعضه: "فوَّض إليّ عبدي" (3).
قال بعض المنتسبين للقدر: لما كانت القدرة بالنسبة إلى الفعل وإلى الترك على السويّة، وما دام الأمر كذلك امتنع صدور الفعل، فإذا رَجَح جانب الفعل على الترك بحصول الدواعي، وإزالة الصوارف حصل الفعل، وهذه القوة هي المشار إليها بقولنا: لا حول ولا قوة إلا بالله.
وشأن الكلمة أعظم مما قال؛ فإن العالم العلوي والسفلي كله في تحوّل من حال إلى حال، وذلك التحوّل لا يقع إلا بقوة يقع بها التحوّل، فذلك (4) الحول وتلك القوة عليه بالله وحده ليست بالتحوّل، فيدخل في هذا كل حركة في العالم العلوي والسفلي، وكل قوة على تلك الحركة، سواء كانت الحركة قسرية أو إرادية أو طبيعية، وسواء كانت من الوسط أو إلى الوسط أو على الوسط، وسواء كانت في الكَمّ أو في الكيف أو في الأين، كحركة النبات،
_________
(1) البخاري (4205)، ومسلم (2704).
(2) أخرجه أحمد (7966)، والترمذي (3601)، والنسائي في "الكبرى" (9757) من حديث أبي هريرة، وصححه الحاكم (54).
(3) لم أهتد إليه.
(4) "م": "وذلك".
(1/367)
________________________________________
وحركة الطبيعة، وحركة الحيوان، وحركة الفَلَك، وحركة النفس والقلب، والقوة على هذه الحركات التي هي حَوْل، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
ولما كان الكنز هو المال النفيس المجتمع الذي يخفى على أكثر الناس، وكان هذا شأن هذه الكلمة؛ كانت كنزًا من كنوز الجنة، وأوتيها النبي - صلى الله عليه وسلم - من كنز تحت العرش، وكأن قائلها أسلم واستسلم لمن أزمَّة الأمور بيديه، وفوّض إليه.
وفي "المسند" و"السنن" (1) عن ابن الديلمي قال: أتيت أبيّ بن كعب فقلت: في نفسي شيء من القدر، فحدثني بشيء لعل الله يذهبه من قلبي. فقال: إن الله لو عذّب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرًا لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهبًا ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير ذلك لكنت من أهل النار. قال: فأتيت عبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن ثابت؛ فكل منهم حدثني بمثل ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وهذا الحديث حديث صحيح، رواه الحاكم في "صحيحه"، وله شأن عظيم، وهو دالٌّ على أن من تكلم به أعرف الخلق بالله، وأعظمهم له توحيدًا، وأكثرهم له تعظيمًا، وفيه الشفاء التام في باب العدل والتوحيد؛ فإنه لا يزال يجول في نفوس كثير من الناس كيف يجتمع القضاء والقدر، والأمر والنهي؟ وكيف يجتمع العدل والعقاب على المَقْضِي المُقَدَّر الذي لا بدّ للعبد من
_________
(1) تقدم تخريجه في (196).
(1/368)
________________________________________
فعله؟
ثم سلك كل طائفة في هذا المقام واديًا وطريقًا.
فسلكت الجبرية وادي الجَبْر وطريق المشيئة المحضة التي تُرَجِّح مِثْلًا على مِثْل من غير اعتبار علة، ولا غاية، ولا حكمة.
قالوا: وكل ممكن عدل، والظلم هو الممتنع لذاته، فلو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لكان متصرفًا في ملكه، والظلم تصرف القادر في غير ملكه، وذلك مستحيل عليه سبحانه.
قالوا: ولما كان الأمر راجعًا إلى محض المشيئة لم تكن الأعمال سببًا للنجاة، فكانت رحمته للعباد هي المستقلة بنجاتهم لا أعمالهم، فكانت رحمته خيرًا من أعمالهم، وهؤلاء راعوا جانب المُلْك، وعطّلوا جانب الحمد، والله سبحانه له المُلْك وله الحمد.
وسلكت القدرية وادي العدل والحكمة، ولم يوفّوه حقه، وعطّلوا جانب التوحيد والمُلْك، وحاروا في هذا الحديث، ولم يدروا ما وجهه، وربما قابله كثير منهم بالتكذيب والردّ له، وأن الرسول لم يقل ذلك.
قالوا: وأيُّ ظلم يكون أعظم من تعذيب من استنفذ أوقات عمره كلّها، واستفرغ قواه في طاعته، وفعل ما يحبّه، ولم يعصه طرفة عين، وكان يعمل بأمره دائمًا، فكيف يقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه: إن تعذيب هذا يكون عدلًا لا ظلمًا؟!
قالوا: ولا يقال: إن حقّه عليهم وما ينبغي له أعظم من طاعاتهم، فلا تقع تلك الطاعات في مقابلة نعمه وحقوقه، فلو عذبهم لعذبهم بحقّه عليهم؛ لأنهم
(1/369)
________________________________________
إذا فعلوا مقدورهم من طاعته لم يُكلَّفوا بغيره، فكيف يُعذَّبون على ترك ما لا قدرة لهم عليه، وهل ذلك إلا بمنزلة تعذيبهم على كونهم لم يَخْلقوا السماوات والأرض، ونحو ذلك مما لا يدخل تحت مقدورهم؟!
قالوا: فلا وجه لهذا الحديث إلا ردّه، أو تأويله وحمله على معنى يصح، وهو أنه لو أراد تعذيبهم لجعلهم أمة واحدة على الكفر، فلو عذبهم في هذه الحال لكان غير ظالم لهم، وهو لم يقل: لو عذّبهم مع كونهم (1) مطيعين له، عابدين له؛ لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ثم أخبر أنه لو عمّهم بالرحمة لكانت رحمته لهم خيرًا من أعمالهم، ثم أخبر أنه لا يُقبل من العبد عملٌ حتى يؤمن بالقدر، والقدر هو علم الله بالكائنات وحكمه فيها.
ووقفت طائفة أخرى في وادي الحيرة بين القدر والأمر، والثواب والعقاب، فتارة يغلب عليهم شهودُ القدر فيغيبون به عن الأمر، وتارة يغلب عليهم شهودُ الأمر فيغيبون به عن القدر، وتارة يبقون في حيرة وعمى.
وهذا كله إنما سببه الأصول الفاسدة، والقواعد الباطلة التي بنوا عليها، ولو جمعوا بين المُلْك والحمد، والربوبية والإلهية، والحكمة والقدرة، وأثبتوا له الكمال المطلق، ووصفوه بالقدرة التامة الشاملة، والمشيئة العامة النافذة التي لا يوجد كائن إلا بعد وجودها، والحكمة البالغة التي ظهرت في كل موجود= لعلموا حقيقة الأمر، وزالت عنهم الحيرة، ودخلوا إلى الله سبحانه من باب أوسع من السماوات السبع، وعرفوا أنه لا يليق بكماله المقدس إلا ما أخبر به عن نفسه على ألسنة رسله، وأن ما خالفه ظنون كاذبة،
_________
(1) من قوله: "فلو عذبهم" إلى هنا ساقط من "د".
(1/370)
________________________________________
وأوهام باطلة، تولّدت من بين أفكار باطلة، وآراء مظلمة، فنقول وبالله التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا به:
الربّ تبارك اسمه وتعالى جَدّه ولا إله غيره هو المنعم على الحقيقة بصنوف النعم التي لا يحصيها أهل سماواته وأرضه، فإيجادهم نعمة منه، وجعلهم أحياء ناطقين نعمة منه، وإعطاؤهم الأسماع والأبصار والعقول نعمة منه، وإدرار الأرزاق عليهم على اختلاف أنواعها وأصنافها نعمة منه، وتعريفهم نفسه بأسمائه وصفاته وأفعاله نعمة منه، وإجراء ذكره على ألسنتهم ومحبته ومعرفته على قلوبهم نعمة منه، وحفظهم بعد إيجادهم نعمة منه، وقيامه بمصالحهم دقيقها وجليلها نعمة منه، وهدايتهم إلى أسباب مصالحهم ومعاشهم نعمة منه. وذِكْر نعمه على سبيل التفصيل لا سبيل إليه، ولا قدرة للبشر عليه.
ويكفي أن النّفَس من أدنى نعمه التي لا يكادون يعتدّون بها، وهو أربعة وعشرون ألف نَفَس في كل يوم وليلة، فلله على العبد في النّفَس خاصة أربعة وعشرون ألف نعمة كل يوم وليلة، دع ما عدا ذلك من أصناف نعمه على العبد.
ولكل نعمة من هذه النعم حق من الشكر يستدعيه ويقتضيه، فإذا وُزّعت طاعات العبد كلها على هذه النعم لم يَخْرُج في قسط (1) كل نعمة منها إلا جزءًا يسيرًا جدًّا، لا نسبة له إلى قدر تلك النعمة بوجه من الوجوه.
قال أنس بن مالك: "يُنشر للعبد يوم القيامة ثلاثة دواوين: ديوان فيه
_________
(1) "د": "لم يخرج قسط".
(1/371)
________________________________________
ذنوبه، وديوان فيه النعم، وديوان فيه العمل الصالح، فيأمر الله تعالى أصغر نعمة من نعمه فتقوم فتستوعب عمله كله، ثم تقول: أي ربِّ، وعزتك وجلالك ما استوفيت ثمني. وقد بقيت الذنوب والنعم؛ فإذا أراد الله بعبد خيرًا قال: ابنَ آدم، ضعَّفْتُ حسناتك، وتجاوزتُ عن سيئاتك، ووهبتُ لك نعمي فيما بيني وبينك" (1).
وفي "صحيح الحاكم" (2) حديث صاحب الرمّانة الذي عَبَدَ الله خمسمائة سنة، يأكل كل يوم رمّانة تخرج له من شجرة، ثم يقوم إلى صلاته، فيسأل ربَّه وقت الأجل أن يقبضه ساجدًا، وأن لا يجعل للأرض عليه سبيلًا حتى يُبعث وهو ساجد، فإذا كان يوم القيامة وقف بين يدي الربّ، فيقول تعالى: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي. فيقول: يا ربِّ، بل بعملي. فيقول: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي. فيقول: ربِّ، بل بعملي. فيقول الربّ جلّ جلاله: قايسوا عبدي بنعمتي عليه وبعمله. فتوجد نعمة البصر قد أحاطت بعبادة خمسمائة سنة، وبقيت نعمة الجسد فضلًا عليه. فيقول: أدخلوا عبدي النار. فيُجرّ إلى النار، فينادي: ربِّ، برحمتك، ربِّ، برحمتك أدخلني الجنة. فيقول: رُدّوه. فيوقف بين يديه، فيقول: يا عبدي، من خلقك ولم تكن شيئًا؟ فيقول: أنت يا ربِّ. فيقول: من قوّاك على عبادة خمسمائة سنة؟ فيقول: أنت يا ربِّ. فيقول: من أنزلك في جبل وسط اللُّجَّة؟ وأخرج لك الماء العذب من
_________
(1) أخرجه البزار (6462)، والدينوري في "المجالسة" (1/ 291).
(2) برقم (7637)، وأخرجه الخرائطي في "فضيلة الشكر" (59)، والعقيلي في "الضعفاء" (2/ 166)، ومداره على سليمان بن هرم، قال العقيلي: "مجهول بنقل الحديث، وحديثه غير محفوظ"، وبه أعل الحديث جماعة، انظر: "الميزان" (2/ 228).
(1/372)
________________________________________
الماء المالح؟ وأخرج لك كل يوم رمّانة، وإنما تخرج مرّة في السنة؟ وسألتني أن أقبضك ساجدًا ففعلت ذلك بك. فيقول: أنت يا ربِّ. فيقول الله: فذلك برحمتي، وبرحمتي أدخلك الجنة".
رواه من طريق يحيى بن بُكَير، ثنا الليث بن سعد، عن سليمان بن هرم، عن محمد بن المنكدر، عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والإسناد صحيح، ومعناه صحيح لا ريب فيه.
فقد صحّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لن ينجو أحدٌ منكم بعمله"، وفي لفظ: "لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله" قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل" (1).
فقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه لا ينجي أحدًا عمُلُه، لا من الأولين ولا من الآخرين، إلا أن يرحمه ربه تبارك وتعالى، فتكون رحمته له خيرًا من عمله؛ لأن رحمته تنجّيه، وعمله لا ينجّيه، فعُلِم أنه سبحانه لو عذّب أهل سماواته وأرضه لعذّبهم ببعض حقه عليهم.
ومما يوضحه: أنه كلما كملت نعمة الله على العبد عظم حقّه عليه، وكان ما يُطَالَب به من الشكر أكثر مما يُطَالَب به مَنْ هو دونه، فيكون حق الله عليه أعظم، وأعماله لا تفي بحقه عليه، وهذا إنما يعرفه حق المعرفة مَنْ عرف الله وعرف نفسه.
هذا كله لو لم يحصل للعبد من الغفلة والإعراض والذنوب ما يكون في قبالة طاعاته، فكيف إذا حصل له من ذلك ما يوازي طاعاته أو يزيد عليها؟!
_________
(1) تقدم تخريجه في (196).
(1/373)
________________________________________
فإن من حق الله على عبده أن يعبده لا يشرك به شيئًا، وأن يذكره ولا ينساه، وأن يشكره ولا يكفره، وأن يرضى به ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولًا، وليس الرضا بذلك مجرد إطلاق هذا اللفظ، وحاله وإرادته تكذبه وتخالفه، فكيف يرضى به ربًّا مَنْ يتسخّط ما يقضيه له إذا لم يكن موافقًا لإرادته وهواه، فيظل ساخطًا به مُتبَرِّمًا، يرضى وربه غضبان، ويغضب وربّه راض، فهذا إنما رضي بحظه من ربه حظَّ [من] لم يرض (1) بالله ربًّا.
وكيف يدّعي الرضا بالإسلام دينًا مَنْ ينبذ أصوله خلف ظهره إذا خالفت بدعته وهواه، وفروعه وراءه إذا لم توافق غرضه وشهوته؟!
وكيف يصح الرضا بمحمد رسولًا لمن لم يحكّمه على ظاهره وباطنه، ويتلقَّ أصول دينه وفروعه من مشكاته وحده؟!
وكيف يرضى به رسولًا من يترك ما جاء به لقول غيره، ولا يترك قول غيره لقوله، ولا يحكّمه ويحتج بقوله إلا إذا وافق تقليده ومذهبه، فإذا خالفه لم يلتفت إلى قوله؟!
والمقصود أن من حقه سبحانه على كل أحد من عبيده أن يرضى به ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولًا، وأن يكون حبه كله لله، وبغضه في الله، وقوله لله، وفعله لله، وتركه لله، وأن يذكره ولا ينساه، ويطيعه ولا يعصيه، ويشكره ولا يكفره.
وإذا قام بذلك كله كانت نعم الله عليه أكثر من عمله، بل ذلك نفسه من
_________
(1) في الأصول: "حظا لم يرض"، ولا يستقيم، والمثبت مع ما زدته هو الصواب إنْ شاء الله.
(1/374)
________________________________________
نعم الله عليه، حيث وفّقه له، ويسَّره وأعانه عليه، وجعله من أهله، واختصه به على غيره، فهو يستدعي شكرًا آخر عليه، فلا سبيل له إلى القيام بما يجب لله من الشكر أبدًا، فنعم الله تطالبه بالشكر، وأعماله لا تقابلها، وذنوبه وغفلته وتقصيره قد تستنفذ عمله. فديوان النعم وديوان الذنوب يستنفذان طاعاته كلها.
هذا وأعمال العبد مُستحَقَّة عليه بمقتضى كونه عبدًا مملوكًا مُسْتعمَلًا فيما يأمره به سيده، فنفسه مملوكة، وأعماله مُستحَقَّة بموجِب العبودية، فليس له شيء من أعماله، كما أنه ليس له ذرة من نفسه، فلا هو مالك لنفسه ولا صفاته ولا أعماله ولا لما بيده من المال في الحقيقة، بل كل ذلك مملوك عليه، مُستحَقّ عليه لمالكه، أعظم استحقاقًا من سيد اشترى عبدًا بخالص ماله، ثم قال: اعمل، وأدِّ إليَّ، فليس لك في نفسك ولا في كسبك شيء. فلو عمل هذا العبد من الأعمال ما عمل لرأى ذلك كله مُستحَقًّا عليه لسيده، وحقًّا من حقوقه عليه.
فكيف بالمنعم المالك على الحقيقة، الذي لا تُعدّ نعمه وحقوقه على عبده، ولا يمكن أن تقابلها طاعاته بوجه، فلو عذّبه سبحانه لعذّبه وهو غير ظالم له، وإذا رحمه فرحمته خير له من أعماله، ولا تكون أعماله ثمنًا لرحمته البتَّة.
فلولا فضل الله ورحمته ومغفرته ما هنأ أحدًا عيشٌ البتة (1)، ولا عرف
_________
(1) كذا في الأصول: "ما هنأ أحدا عيش"، ولم يظهر لي وجهها، والأشبه: "ما هنأ أحدٌ بعيش" ونحوها، يقال: هنأني الطعام تيسّر بلا مشقة، وهنأتُ الرجلَ أعطيته، وهنِئتُ به إذا فرحت، وهنِئتُ الرجلَ إذا أعطيته وسررته، انظر: "الأفعال" لابن القطاع (3/ 360 - 361).
(1/375)
________________________________________
خالقه، ولا ذكره، ولا آمن به، ولا أطاعه، فكما أن وجود العبد محض جوده وفضله ومنّته عليه، وهو المحمود على إيجاده؛ فتوابع وجوده كلها كذلك، ليس للعبد منها شيء، كما ليس له في وجوده شيء، فالحمد كله لله، والفضل كله له، والإنعام كله له، والحق له على جميع خلقه.
ومن لم ينظر في حقه عليه، ويرى تقصيره وعجزه عن القيام به فهو من أجهل الخلق بربه وبنفسه، ولا تنفعه طاعاته، ولا يُسمع دعاؤه.
قال الإمام أحمد: حدثنا حجّاج، حدثنا جَرِير بن حازم، عن وهب قال: بلغني أن نبي الله موسى - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ برجل يدعو ويتضرّع، فقال: يا ربّ، ارحمه فإني قد رحمته. فأوحى الله تعالى إليه: لو دعاني حتى تنقطع قواه (1) ما استجبت له حتى ينظر في حقي عليه (2).
والعبد يسير إلى الله سبحانه بين مشاهدة منّته عليه ونعمه وحقوقه، وبين رؤية عيب نفسه وعمله وتفريطه وإضاعته، فهو يعلم أن ربّه لو عذّبه أشد العذاب لكان قد عدل فيه، وأن أقضيته كلها عدل فيه، وأن ما هو فيه من الخير فمجرد فضله ومنّته وصدقته عليه، ولهذا كان في حديث سيد الاستغفار: "أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي" (3)، فلا يرى نفسه إلا مقصِّرًا مذنبًا، ولا يرى ربَّه إلا محسنًا متفضّلًا.
_________
(1) "ج": "ينقطع فؤاده"، والمثبت من النسخ الأخرى موافق لما في مصدر الخبر.
(2) "الزهد" (451).
(3) أخرجه البخاري (6306) من حديث شداد بن أوس.
(1/376)
________________________________________
وقد قسم الله خلقه إلى قسمين لا ثالث لهما: تائبين وظالمين، فقال: {وَمَنْ لَمْ يَتُب فَّأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11]، وكذلك جعلهم قسمين: معذَّبين وتائبين، فمن لم يتب فهو معذَّب ولا بد، قال تعالى: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 73].
وأَمَرَ جميع المؤمنين من أولهم إلى آخرهم بالتوبة، فلا يُستثنى من ذلك أحد، وعلّق فلاحهم بها، قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31].
وعدّد سبحانه من جملة نعمه على خير خلقه وأكرمهم عليه، وأطوعهم له، وأخشاهم له، أن تاب عليه وعلى خواصّ أتباعه، فقال: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ تَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} [التوبة: 117]، ثم كرر توبته عليهم، فقال: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُف رَحِيمٌ}. وقدّم توبته عليهم على توبة الثلاثة الذين خُلِّفوا، وأخبر سبحانه أن الجنة التي وعدها أهلها في التوراة والإنجيل والقرآن إنما يدخلها التائبون، فذكر عموم التائبين أوّلًا، ثم خصّ النبي والمهاجرين والأنصار بها، ثم خصّ الثلاثة الذين خُلِّفوا، فعُلِم بذلك احتياج جميع الخلق إلى توبته عليهم، ومغفرته لهم، وعفوه عنهم.
وقد قال تعالى لسيد ولد آدم، وأحبّ خلقه إليه: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} [التوبة: 43]، فهذا خبر منه سبحانه ـ وهو أصدق القائلين ـ، أو دعاء لرسوله بعفوه عنه، وهو طلب من نفسه.
(1/377)
________________________________________
وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول في سجوده ـ أقرب ما يكون من ربه ـ: "أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" (1).
وقال لأطوع نساء الأمة وأفضلهن وخيرهن: الصديقة بنت الصديق، وقد قالت له: يا رسول الله، إن وافقت ليلة القدر فما أدعو به؟ قال: "قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو، فاعفُ عني" (2)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
وهو سبحانه لمحبته للعفو وللتوبة خلق خلقه على صفات وهيئات وأحوال تقتضي توبتهم إليه واستغفارهم، وعفوه ومغفرته (3)، وقد روى مسلم في "صحيحه" (4) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم".
والله تعالى يحب التوابين، والتوبة من أحب الطاعات إليه، ويكفي في محبتها شدة فرحه بها سبحانه كما في "صحيح مسلم" (5) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين
_________
(1) أخرجه مسلم (486) بنحوه من حديث عائشة.
(2) أخرجه أحمد (25384)، والترمذي (3513)، والنسائي في "الكبرى" (10708)، وابن ماجه (3850).
(3) "ط": "وطلبهم عفوه ومغفرته".
(4) برقم (2749).
(5) برقم (2675).
(1/378)
________________________________________
يذكرني، والله، للهُ أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته في الفلاة".
وفي "الصحيحين" (1) من حديث عبد الله بن مسعود، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لله أشد فرحًا بتوبة عبده المؤمن من رجل في أرض دَوِّيّة مَهْلكة، معه راحلته عليها طعامه وشرابه، فنام، فاستيقظ وقد ذهبت، فطلبها حتى أدركه العطش، ثم قال: أرجع إلى المكان الذي كنت فيه، فأنام حتى أموت. فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ وعنده راحلته، عليها زاده وطعامه وشرابه، فالله أشد فرحًا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده".
وفي "صحيح مسلم" (2) عن النعمان بن بشير يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لله أشد فرحًا بتوبة عبده من رجل حمل زاده ومزاده على بعير، ثم سار حتى كان بفلاة من الأرض، فأدركته القائلة، فنزل فقال تحت شجرة، فغلبته عينه، وانسلَّ بعيره، فاستيقظ فسعى شَرَفًا (3) فلم يرَ شيئًا، ثم سعى شَرَفًا ثانيًا، فلم يرَ شيئًا، ثم سعى شَرَفًا ثالثًا، فلم يرَ شيئًا، فأقبل حتى أتى مكانها الذي قال فيه، فبينا هو قاعد فيه، إذ جاء بعيره يمشي حتى وضع خطامه في يده، فالله أشد فرحًا بتوبة العبد من هذا حين وجد بعيره على حاله".
فتأمل محبته سبحانه لهذه الطاعة التي هي أصل الطاعات وأساسها، وإن من زعم أن أحدًا من الناس يستغني عنها ولا حاجة به إليها فقد جهل حق الربوبية، ومرتبة العبودية، وينتقص بمن أغناه بزعمه عن التوبة من حيث
_________
(1) البخاري (6308)، ومسلم (2744).
(2) برقم (2745).
(3) الشرف: المكان المرتفع من الأرض، أو مقدار من المسافة نحو شوط الخيل، أو الميل، واستظهر القاضي أولهما، "إكمال المعلم" (8/ 245).
(1/379)
________________________________________
زعم أنه مُعَظِّم له؛ إذ عطله عن هذه الطاعة العظيمة التي هي من أجل الطاعات، والقربة الشريفة التي هي من أجل القربات، وقال: لستَ من أهل هذه الطاعة، ولا حاجة بك إليها، فلا قَدَر الله حقّ قدره، ولا قَدَر العبد حق قدره، وجعل بعضَ عباده غنيًا عن مغفرة الله وعفوه وتوبته إليه، وزعم أنه لا يحتاج إلى ربه في ذلك.
وفي "الصحيحين" (1) من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لله أشدُّ فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها وقد يئس من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح".
وأكمل الخلق أكملهم توبة، وأكثرهم استغفارًا.
وفي "صحيح البخاري" (2) عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "والله، إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرّة".
ولما سمع أبو هريرة هذا من النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول ــ ما رواه الإمام أحمد في كتاب "الزهد" (3) ... (4) عنه ــ: "إني لأستغفر الله في اليوم والليلة اثني عشر
_________
(1) البخاري (6309)، ومسلم (2747) واللفظ له.
(2) برقم (6307).
(3) لم أقف عليه في مطبوعة الكتاب، وأورده في "إتحاف الخيرة" (7234)، وأخرجه أبو نعيم في "معرفة الصحابة" (4762).
(4) بياض في "د" "ج"، وعلق ناسخ الأخيرة: "بياض في الأصل المنقول عنه".
(1/380)
________________________________________
ألف مرّة بقدر ديتي"، ثم ساقه من طريق آخر، وقال: "بقدر ديته (1) ".
وقال عبد الله بن الإمام أحمد: (2) ثنا يزيد بن هارون، أبنا محمد بن راشد، عن مكحول، عن رجل، عن أبي هريرة قال: ما جلستُ إلى أحد أكثر استغفارًا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال الرجل: وما جلستُ إلى أحد أكثر استغفارًا من أبي هريرة (3).
وفي "صحيح مسلم" (4) عن الأَغَرّ المُزَني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنه ليُغَان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة".
وفي السنن و"المسند" (5) من حديث ابن عمر، قال: كنا نعدّ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المجلس الواحد مائة مرّة: "ربِّ اغفر لي وتب عليَّ، إنك أنت التواب الرحيم" قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا يونس، عن حميد بن هلال، عن أبي بُرْدة قال: جلستُ إلى شيخ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسجد الكوفة فحدثني، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا
_________
(1) "م" "ج": "بقدر ذنبي" و"بقدر ذنبه" معجمة في الموضعين، وأهملهما في "د"، وتباينت فيهما مصادر الخبر المطبوعة، والمثبت من "ط" هو الأليق بالمعنى؛ فإن العدد المذكور هو مقدار الدية بالدراهم في ذلك الزمان، والله أعلم.
(2) في "الزهد": "حدثنا أبي، حدثنا يزيد"، وعبد الله هو راوية الكتاب عن أبيه.
(3) "الزهد" (211).
(4) تقدم تخريجه في (309).
(5) أبو داود (1516)، والترمذي (3434)، والنسائي في "الكبرى" (10219)، وابن ماجه (3814)، وأحمد (4726).
(1/381)
________________________________________
أيها الناس، توبوا إلى الله عز وجل واستغفروه، فإني أتوب إلى الله وأستغفره كل يوم مائة مرة" (1).
قال الإمام أحمد: وحدثنا يحيى، عن شعبة، حدثنا عمرو بن مُرّة، قال: سمعت أبا بُرْدة، قال: سمعت الأَغَرّ يحدث ابن عمر، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يا أيها الناس، توبوا إلى ربكم عز وجل، فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة" (2).
وقال أحمد: حدثنا يزيد، أبنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي عثمان النهدي، عن عائشة قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللهم اجعلني من الذين إذا أحسنوا استبشروا، وإذا أساؤوا استغفروا" (3).
وكان من دعائه - صلى الله عليه وسلم - في أول الصلاة عند الاستفتاح بعد التكبير: "اللهم أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئ الأخلاق لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير في يديك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك" رواه مسلم في "صحيحه" (4).
_________
(1) "المسند" (23488)، وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (30061)، ورجاله رجال الصحيح.
(2) "المسند" (17847)، وهو عند مسلم (2702) من طريق شعبة به.
(3) "المسند" (25120)، وأخرجه الطيالسي (1637)، وابن ماجه (3820)، وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان ضعيف، كما في "الميزان" (3/ 127).
(4) برقم (771) من حديث علي بن أبي طالب.
(1/382)
________________________________________
وفي "الصحيحين" (1) عنه أنه كان يقول في دعاء الاستفتاح: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقّني من الخطايا كما يُنقّى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد"، وكان يقول هذا سرًّا لم يعلم به أحدٌ من خلفه، حتى سأله عنه أبو هريرة.
وروى عنه علي بن أبي طالب أنه كان إذا استفتح الصلاة قال: "لا إله إلا أنت سبحانك، ظلمت نفسي، وعملت سوءًا، فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" (2).
وفي "الصحيحين" (3) أنه كان يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي".
وفي "صحيح مسلم" (4) من حديث عبد الله بن أبي أوفى أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رفع رأسه من الركوع، قال: "سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، اللهم طهّرني بالثلج
_________
(1) البخاري (744)، ومسلم (598) من حديث أبي هريرة.
(2) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (2346) من طريق شعبة، عن أبي إسحاق، عن الحارث الأعور، عن علي مرفوعًا، والحارث متهم، كما في "الميزان" (1/ 435).
وأخرجه الشافعي في "الأم" (7/ 175)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (2420) من طرق صحيحة عن أبي إسحاق، عن أبي الخليل ـ وقيل: عبد الله بن أبي الخليل ـ، عن علي موقوفًا عليه، قال البيهقي بعد أن حكى طريق الشافعي: "فإن كان محفوظًا فيحتمل أن يكون أبو إسحاق سمعه منهما"، يعني من الحارث وأبي الخليل.
(3) البخاري (794)، ومسلم (484) من حديث عائشة.
(4) برقم (476).
(1/383)
________________________________________
والبرد والماء البارد، اللهم طهّرني من الذنوب والخطايا كما يُنقّى الثوب الأبيض من الوسخ".
وفي "صحيح مسلم" (1) من حديث أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في سجوده: "اللهم اغفر لي ذنبي كلّه، دقَّه وجلّه، أوله وآخره، علانيته وسرّه".
وفي "مسند الإمام أحمد" (2) أنه كان يقول في صلاته: "اللهم اغفر لي ذنبي، ووسع لي في ذاتي (3)، وبارك لي فيما رزقتني".
وفي "صحيح مسلم" (4) عن فروة بن نوفل، قال: قلت لعائشة: حدثيني بشيء كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو به في صلاته، قالت: نعم، كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت، ومن شر ما لم أعمل".
وكان يقول بين السجدتين: "اللهم اغفر لي، وارحمني، واجبرني، واهدني، وارزقني" (5).
_________
(1) برقم (483).
(2) برقم (16599) عن رجل من الصحابة لم يسم، وله شاهد من حديث أبي موسى، وأبي هريرة، انظر: "البدر المنير" (2/ 278).
(3) كذا في الأصول: "ذاتي"، وكذلك هو في بعض نسخ "المسند" كما أشار إليه محققوه، وفي بعضها: "داري"، وأشار إليها في حاشية: "ج".
(4) برقم (2716).
(5) أخرجه أحمد (3514)، وأبو داود (850)، والترمذي (284)، وابن ماجه (898) من حديث عبد الله بن عباس، قال الترمذي: "هذا حديث غريب"، وصححه الحاكم (964).
(1/384)
________________________________________
وكان يقول في قيامه إلى الصلاة بالليل: "اللهم لك الحمد" الحديث، وفيه: "فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت" (1).
وكان يقول في آخر صلاته قبل التسليم: "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت (2)، وما أسرفت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدِّم وأنت المؤخِّر، لا إله إلا أنت" (3).
وفي "الصحيحين" (4) عن أبي موسى الأشعري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو بهذا الدعاء: "اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدِّم وأنت المؤخِّر، وأنت على كل شيء قدير".
وحقيقة الأمر أن العبد فقير إلى الله من كل وجه، وبكل اعتبار، فهو فقير إليه من جهة ربوبيته له، وإحسانه إليه، وقيامه بمصالحه، وتدبيره له. وفقير إليه من جهة إلهيته، وكونه معبوده وإلهه، ومحبوبه الأعظم الذي لا صلاح له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا بأن يكون أحبّ شيء إليه، فيكون أحبّ إليه من نفسه وأهله وماله وولده ووالده، ومن الخلق كلهم. وفقير إليه من جهة معافاته له من أنواع البلاء؛ فإنه إن لم يعافه منها هلك ببعضها. وفقير إليه من جهة عفوه عنه، ومغفرته له؛ فإن لم يعف عن العبد، ويغفر له، فلا سبيل له إلى النجاة، فما نجا أحد إلا بعفو الله، ولا دخل الجنة إلا برحمة الله.
_________
(1) أخرجه البخاري (1120)، ومسلم (769) من حديث عبد الله بن عباس.
(2) من قوله: "وكان يقول في آخر صلاته" إلى هنا ساقط من "د".
(3) أخرجه مسلم (771) من حديث علي بن أبي طالب.
(4) البخاري (6398)، ومسلم (2719).
(1/385)
________________________________________
وكثير من الناس ينظر إلى نفس ما يُتاب منه فيراه نقصًا، ولا ينظر إلى كمال الغاية الحاصلة بالتوبة، وأن العبد بعد التوبة النصوح خير منه قبل الذنب. ولا ينظر إلى كمال الربوبية وتفرّد الربّ بالكمال وحده، وأنّ لوازم البشرية لا ينفك منها البشر، وأنّ التوبة غاية كل أحد من ولد آدم وكماله، كما كانت هي غايته وكماله، فليس للعبد كمال بدون التوبة البتّة، كما أنه ليس له انفكاك عن سببها.
فالله سبحانه هو المنفرد المستأثر بالغنى والحمد من كل وجه وبكل اعتبار، والعبد هو الفقير المحتاج إليه، المضطر إليه بكل وجه وبكل اعتبار، فرحمته للعبد خير له من عمله؛ فإنّ عمله لا يستقل بنجاته ولا بسعادته، ولو وُكِل إلى عمله لم ينج به البتّة.
فهذا بعض ما يتعلق بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لو عذَّب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم" (1).
ومما يوضحه أنّ شكره سبحانه مُستحَقّ عليهم بجهة ربوبيته لهم، وكونهم عبيده ومماليكه، وذلك يوجب عليهم أن يعرفوه ويعظموه ويوحدوه، ويتقربوا إليه تقرب العبد المحب لسيده، الذي يتقلب في نعمه، ولا غناء به عنه طرفة عين، فهو يدأب في التقرب إليه بجهده، ويستفرغ في ذلك وسعه وطاقته، ولا يعدل به سواه في شيء من الأشياء، ويؤثر رضا سيده على إرادته وهواه، بل لا هوى له ولا إرادة إلا فيما يريده سيده ويحبه، وهذا يستلزم علومًا وأعمالًا وإرادات وعزائم لا يعارضها غيرها، ولا يبقى له معها
_________
(1) تقدم تخريجه في (196).
(1/386)
________________________________________
التفات إلى غيره بوجه، ومعلوم أن ما طُبِع عليه البشر لا يفي بذلك، وما يستحقه الرب جلّ جلاله لذاته، وأنه أهل أن يُعبد؛ أعظم مما يستحقه لإحسانه، فهو المستحِقّ لنهاية العبادة والمحبّة والخضوع والذل لذاته ولإحسانه وإنعامه.
وفي بعض الآثار: "لو لم أخلق جنةً ولا نارًا، أما كنتُ أهلًا أن أُعْبَد؟ " (1).
ولهذا يقول أَعْبد خلقه له يوم القيامة ــ وهم الملائكة ــ: "سبحانك ما عبدناك حق عبادتك" (2).
فمن كرمه وجوده ورحمته أن رضي من عباده بدون اليسير مما ينبغي أن يُعبد به ويستحقه لذاته وإحسانه، فلا نسبة للواقع منهم إلى ما يستحقه بوجه من الوجوه، فلا يسعهم إلا عفوه وتجاوزه، وهو سبحانه أعلم بعباده منهم بأنفسهم، فلو عذّبهم لعذّبهم بما يعلمه منهم وإن لم يحيطوا به علمًا، ولو عذّبهم قبل إرسال رسله إليهم على أعمالهم لم يكن ظالمًا لهم، كما أنه سبحانه لم يظلمهم بمقته لهم قبل إرسال رسوله على كفرهم وشركهم وقبائحهم، فإنه سبحانه نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب، ولكن أوجب على نفسه إذ كتب عليها الرحمة أنه لا
_________
(1) أورده في "قوت القلوب" (2/ 92) منسوبًا إلى وهب بن منبه يحكيه عن "الزبور".
(2) روي هذا في غير ما حديث عن نفر من الصحابة مرفوعًا وموقوفًا، أمثلها ما أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (1357)، ويحيى بن سلام في "التفسير" (1/ 318) من حديث سلمان موقوفًا عليه، وروي مرفوعًا أيضًا، وصحح الوقف ابن رجب في "جامع العلوم" (2/ 18).
(1/387)
________________________________________
يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه برسالته.
وسر المسألة أنه لما كان شكر المنعم على قدره وعلى قدر نعمه، ولا يقوم بذلك أحد؛ كان حقّه سبحانه على كل أحد، وله المطالبة به، فإن لم يغفر له ويرحمه وإلا عذّبه، فحاجتهم إلى مغفرته ورحمته وعفوه كحاجتهم إلى حفظه وكلاءته ورزقه، فإن لم يحفظهم هلكوا، وإن لم يرزقهم هلكوا، وإن لم يغفر لهم ويرحمهم هلكوا وخسروا.
ولهذا قال أبوهم آدم عليه السلام وأمهم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِر لَّنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، وهذا شأن ولده من بعده.
وقد قال موسى كليمه سبحانه: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16]، وقال: {قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ} [الأعراف: 143]، وقال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأعراف: 151]، وقال: {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} [الأعراف: 155].
وقال خليله إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [40 - 41]، وقال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهْوَ يَهْدِينِ (78)} إلى قوله: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 78 - 82].
وقال أول رسله إلى أهل الأرض: {رَبِّ إِنِّيَ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47].
(1/388)
________________________________________
وقال تعالى لأكرم خلقه عليه وأحبهم إليه: {وَاَسْتَغْفِر لِّذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19]، وقال: {أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 105 - 106]، وقال: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 1 - 2].
وقد تقدم حديث ابن عباس في دعائه - صلى الله عليه وسلم -: "رب أعنّي ولا تعن عليَّ" وفيه: "ربِّ تقبل توبتي، واغسل حَوْبتي" الحديث (1).
وقد أخبر سبحانه عن أعبد البشر داود أنه استغفر ربه، وخرّ راكعًا وأناب، قال تعالى: {ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ} [ص: 25].
وقال عن نبيه سليمان: {(33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ بَعْدِيَ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْوَهَّابُ} [ص: 34 - 35].
وقال عن نبيه يونس أنه ناداه في الظلمات: {أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87].
وقال له صدّيق الأمة وخيرها وأبرها وأتقاها لله بعد رسوله: يا رسول الله، علمني دعاء أدعو به في صلاتي. فقال: "قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك
_________
(1) تقدم تخريجه في (191).
(1/389)
________________________________________
أنت الغفور الرحيم" (1)، فاستفتح الخبر عن نفسه بأداة التوكيد التي تقتضي تقرير ما بعدها، ثم ثنّى بالإخبار عن ظلمه لنفسه، ثم وصف ذلك الظلم بأنه ظلم كثير، ثم طلب من ربه أن يغفر له مغفرة من عنده، أي لا يبلغها عمله ولا سعيه، بل هي محض منّته وإحسانه، وأكبر من عمله، فإذا كان هذا شأن مَنْ وُزِن بالأمة فرجح بهم؛ فكيف بمن دونه؟!
وأيضًا فإنّ حق الله على عبده أن يطيعه ولا يعصيه، ويذكره ولا ينساه، ويشكره ولا يكفره، فتكون هذه حاله دائمًا لا يفتر عنها، ولا يفارقها طرفة عين، ولا نفَسًا واحدًا، ومعلوم أن الغفلة والذهول والاشتغال أحيانًا بغير ذلك واقع ولا بدّ، وهو سبب التعذيب الذي هو الألم، وليس في الحديث أنه لو عذبهم في النار سرمدًا أبدًا لكان غير ظالم لهم، والأعمّ لا يستلزم الأخص، بل لو آلم من غفل عن ذكره وشكره وعبادته، وأوصل إليه عذابًا بحسبه لكان غير ظالم له.
وعلى كل حال فكمال حقوقه على أهل السماوات والأرض يستلزم وجوب كمال عبوديته التي تقتضيها عظمة المنعم وكثرة نعمه ودوامها، وذلك غير مقدور، والمقدور منه لابد أن يعرض فيه من النقص ما يناسب نقص المخلوق، فلا يسعه إلا المغفرة والرحمة.
* * * *
_________
(1) أخرجه البخاري (834)، ومسلم (2705) من حديث أبي بكر الصديق.
(1/390)
________________________________________
الباب السابع عشر في الكَسْب والجَبْر ومعناهما لغة واصطلاحًا، وإطلاقهما نفيًا وإثباتًا، وما دلّ عليه السمع والعقل من ذلك
أما الكَسْب فأصله في اللغة: الجَمْع، قاله الجوهري، قال: "وهو طلب الرزق، يقال: كسبتُ شيئًا واكتسبتُه بمعنى، وكسبتُ أهلي خيرًا، وكسبتُ الرجلَ مالًا فكَسَبَه، وهذا مما جاء على فَعَلْتُه فَفَعَل، والكواسب: الجوارح، وتكسَّب: تكلَّفَ الكَسْب" (1)، انتهى.
والكسب قد وقع في القرآن على ثلاثة أوجه:
أحدها: عقد القلب وعزمه، كقوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225]، أي: بما عزمتُم عليه وقصدتموه، وقال الزَّجّاج: "أي: يؤاخذكم بعزمكم على أن لا تبروا، وأن لا تتقوا، وأن تعتلّوا في ذلك بأنكم حلفتم" (2)، وكأنه التفت إلى لفظ المؤاخذة، وأنها تقتضي تعذيبًا، فجعل كسب قلوبهم عزمهم على ترك البرّ والتقوى لمكان اليمين (3).
والقول الأول أصح، وهو قول جمهور أهل التفسير؛ فإنه قابل به لغو اليمين، وهو أن لا يقصد اليمين، فكَسْب القلب المقابل للغو اليمين هو
_________
(1) "الصحاح" (1/ 212).
(2) "معاني القرآن وإعرابه" (1/ 299).
(3) "د": "النهي".
(1/391)
________________________________________
عقده وعزمه، كما قال في الآية الأخرى: {أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89]، فتعقيد الأيمان هو كسب القلب.
الوجه الثاني من الكَسْب: كسب المال من التجارة، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267]، فالأول للتجار، والثاني للزُرّاع.
والوجه الثالث من الكَسْب: السعي والعمل، كقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]، وقوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [الأعراف: 39]، وقوله: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} [الأنعام: 70]، وقوله: {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]، فهذا كله للعمل.
واختلف الناس في الكَسْب والاكتساب: هل هما بمعنى واحد، أم بينهما فرق؟
فقالت طائفة: معناهما واحد، قال أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي: "وهو الصحيح عند أهل اللغة، ولا فرق بينهما" (1).
قال ذو الرُّمّة:
ألفى أباه بذاك الكَسْب يكتسب (2)
_________
(1) "البسيط" (4/ 533).
(2) "الديوان" بشرح الباهلي (1/ 99)، وصدر البيت:
ومُطْعَم الصيد هبّالٌ لبغيته
(1/392)
________________________________________
وقال آخرون: الاكتساب أخص من الكَسْب؛ لأن الكَسْب ينقسم إلى كسبه لنفسه ولغيره، ولا يقال: يكتسب أهله.
قال الحُطَيئة:
ألقيتَ كاسبهم في قعرِ مُظْلِمَةٍ ... فاغفر هداك مليك الناس يا عمر (1)
قلت: والاكتساب افتعال، وهو يستدعي اهتمامًا وتعمّلًا واجتهادًا، وأما الكَسْب فتصح نسبته بأدنى شيء، ففي جانب الفضل جعل لها ما لها فيه أدنى سعي، وفي جانب العدل لم يجعل عليها إلا ما لها فيه اجتهاد واهتمام.
وأما الجَبْر فيرجع في اللغة إلى ثلاثة أصول:
أحدها: أن تُغني الرجلَ من فقر، أو تجبر عظمه من كسر، وهذا من الإصلاح (2)، وهذا الأصل يستعمل لازمًا ومتعدّيًا، تقول: جَبَرْتُ العَظْمَ، وجَبَرَ العظمُ، وقد جمع العَجّاج بينهما في قوله:
قد جَبَرَ الدّينَ الإلهُ فَجَبَرْ (3)
الأصل الثاني: الإكراه والقهر، وأكثر ما يستعمل هذا على أفعَلَ، يقال: أجبرته على كذا، إذا أكرهته عليه، ولا يكاد يجيء: جبرته عليه؛ إلا قليلًا.
_________
(1) "ديوان الحطيئة" برواية ابن السكيت وشرحه (192)، وفيه:
غيّبت كاسبهم ............. ... فاغفر عليك سلام الله يا عمر
واللفظ الذي ساقه المؤلف في "البسيط" للواحدي (4/ 534).
(2) "د": "الاصطلاح".
(3) "الديوان" (201)، من رجز في مدح عمر بن عبيد الله، وانظر: "الصحاح" (2/ 607).
(1/393)
________________________________________
والأصل الثالث: من العزّ والامتناع، ومنه نخلة جَبّارة، قال الجوهري: "والجَبَّار من النخل: ما طال وفات اليد" (1).
قال الأعشى:
طَريقٌ وجَبَّارٌ رِواءٌ أصولهُ ... عليه أبابيلٌ من الطير تَنْعَبُ (2)
وقال الأخفش في قوله تعالى: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} [المائدة: 22]، قال: "أراد الطول والقوة والعِظَم" (3)، ذهب في هذا إلى الجَبّار من النخل، وهو الطويل الذي فات الأيدي. ويقال: رجل جَبّار: إذا كان طويلًا عظيمًا قويًا، تشبيهًا بالجَبّار من النخل.
قال قتادة: "كانت لهم أجسام وخِلَق عجيبة ليست لغيرهم" (4).
وقيل: الجَبّار ههنا من جَبَره على الأمر، إذا أكرهه عليه، قال الأزهري: "وهي لغة معروفة، وكثير من الحجازيين يقولونها. وكان الشافعي يقول: جَبَره السلطان" (5).
ويجوز أن يكون الجَبّار من أجبره على الأمر، إذا أكرهه.
قال الفراء: "لم أسمع فعَّالا من أفعَلَ إلا في حرفين، وهما: جَبَّار؛ من
_________
(1) "الصحاح" (2/ 608).
(2) "الديوان" (201)، من قصيدة في رثاء الحارث بن وَعْلة.
(3) نسبه إليه في "البسيط" (7/ 324)، وحكاه في "تهذيب اللغة" (11/ 57) عن أبي الحسن اللحياني.
(4) أسنده الطبري (8/ 291).
(5) "تهذيب اللغة" (11/ 60).
(1/394)
________________________________________
أجْبَرَ، ودَرَّاك؛ من أدرك" (1).
وهذا اختيار الزَّجّاج، قال: "الجَبّار من الناس: العاتي الذي يجبر الناس على ما يريد" (2).
وأما الجَبّار في أسماء الرب تعالى فقد فُسِّر بأنه الذي يجبر الكسير، ويغني الفقير، والربّ تبارك وتعالى كذلك، ولكن ليس هذا معنى اسمه الجَبّار، ولهذا قرنه باسمه المتكبِّر، وإنما هو من الجبروت، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "سبحان ذي الجَبَروت والمَلَكوت والكبرياء والعظمة" (3).
فالجبّار اسم من أسماء التعظيم، كالمتكبِّر والملك والعظيم والقهّار، قال ابن عباس في قوله تعالى: {الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر: 23]: "هو العظيم، وجَبَروت الله عظمته" (4).
والجبّار من أسماء الملوك، والجَبْر المَلِك، والجبابرة الملوك، قال الشاعر:
وانْعَمْ صباحًا أيها الجَبْرُ (5)
_________
(1) بمعناه في "معاني القرآن" (3/ 81)، وانظر: "البسيط" (21/ 397).
(2) "معاني القرآن وإعرابه" (2/ 163).
(3) جزء من حديث أخرجه أحمد (23980)، وأبو داود (873)، والنسائي (1049) من حديث عوف بن مالك، وصححه النووي في "الخلاصة" (1254).
(4) أورده الثعلبي في "الكشف والبيان" (9/ 287).
(5) عجز بيت لعمرو بن أحمر الباهلي في "ديوانه" جمع عطوان (94)، وصدره:
واسلم براوُوقٍ حُبِيتَ به
وهو في "جمهرة اللغة" (1/ 265) وغيرها.
(1/395)
________________________________________
أي: أيها الملك.
وقال السُّدِّي: "هو الذي يجبر الناس، ويقهرهم على ما يريد" (1)، وعلى هذا فالجبار معناه القهار.
قال محمد بن كعب: "إنما سمّي الجبّار لأنه جبر الخلق على ما أراد، والخلق أدق شأنًا من أن يعصوا ربَّهم طرفة عين إلا بمشيئته" (2).
قال الزَّجّاج: "الجبّار الذي جبر الخلق على ما أراد" (3).
وقال ابن الأنباري: "الجبّار في صفة الرب سبحانه الذي لا يُنال، ومنه قولهم: نخلة جَبّارة إذا فاتت يد المتناول" (4).
فالجبَّار في صفة الربِّ سبحانه وتعالى ترجع إلى ثلاثة معان: المُلْك والقهر والعلو، فإن النخلة إذا طالت وارتفعت وفاتت الأيدي سمّيت جبّارة، ولهذا جعل سبحانه اسمه الجبّار مقرونًا بالعزيز والمتكبر، وكل واحد من هذه الأسماء الثلاثة يتضمن الاسمين الآخرين، وهذه الأسماء الثلاثة نظير الأسماء الثلاثة، وهي: الخالق البارئ المصور، فالجبار المتكبر يجريان مجرى التفصيل لمعنى اسم العزيز، كما أن البارئ المصور تفصيل لمعنى
_________
(1) أورده الثعلبي في "الكشف والبيان" (9/ 287).
(2) أسند الجزء الأول منه سعيد بن منصور كما في "الدر المنثور" (14/ 401) ـ ومن طريقه البيهقي في "الأسماء والصفات" (48) ـ، وهو بتمامه في "الكشف والبيان" (9/ 288).
(3) "معاني القرآن وإعرابه" (5/ 151).
(4) حكاه عنه في "تهذيب اللغة" (11/ 58).
(1/396)
________________________________________
اسم الخالق، فالجبّار من أوصافه يرجع إلى كمال القدرة والعزة والمُلْك، ولهذا كان من أسمائه الحسنى.
وأما المخلوق فاتصافه بالجبّار ذمٌّ له ونقص، قال تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبٍ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35].
وقال لرسوله: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق: 45]، أي: مُسلَّط (1) تقهرهم وتكرههم على الإيمان.
وفي الترمذي وغيره (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يُحشر الجبّارون والمتكبرون يوم القيامة أمثال الذرّ يطؤهم الناس".
فصل (3)
إذا عُرِف هذا فلفظ الكَسْب تطلقه القدرية على معنى، والجبرية على معنى، وأهل السنة والحديث على معنى.
فكَسْب القدرية هو وقوع الفعل عندهم بإيجاد العبد وإحداثه ومشيئته، من غير أن يكون الله شاءه أو أوجده.
وكَسْب الجبرية لفظ لا معنى له، ولا حاصل تحته، وقد اختلفت
_________
(1) "م": "مغلظ".
(2) الترمذي (2492)، وأحمد (6677)، والنسائي في "الكبرى" (11827) من حديث عبد الله بن عمرو بلفظ: "يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر" الحديث، وحسّن إسناده الترمذي، ولفظ المؤلف أخرجه ابن أبي الدنيا في "التواضع والخمول" (224) من حديث أبي هريرة، وحسّن إسناده العراقي في "تخريج الإحياء" (1251).
(3) انظر: "شرح الإرشاد" نسخة أيا صوفيا (ق 161 - 163)، والمؤلف صادر عنه.
(1/397)
________________________________________
عباراتهم فيه، وضربوا له الأمثال، وأطالوا فيه المقال.
فقال القاضي: "الكَسْب ما وُجِد وعليه قدرة مُحْدَثة" (1).
وقيل: إنه المتعلِّق بالقادر على غير جهة الحدوث.
وقيل: إنه المقدور بالقدرة الحادثة (2).
قالوا: ولسنا نريد بقولنا: "ما وُجِد وعليه قدرة مُحْدَثة" أنها قدرة على وجوده؛ فإن القادر على وجوده هو الله وحده، وإنما نعني بذلك أن للكسب تعلّقًا بالقدرة الحادثة، لا من باب الحدوث والوجود.
وقال الإسفراييني: "حقيقة الخلق من الخالق وقوعه بقدرته من حيث صحَّ انفراده به، وحقيقة الفعل وقوعه بقدرته، وحقيقة الكَسْب من المُكتسِب وقوعه بقدرته مع انفراده به (3)، ويختص القديم تعالى بالخلق، ويشترك القديم والمُحدَث في الفعل، ويختص المُحدَث بالكسب" (4).
قلت: مراده أن إطلاق لفظ الخلق لا يجوز إلا على الله وحده، وإطلاق لفظ الكَسْب يختص بالمُحدَث، وإطلاق لفظ الفعل يصحّ على الربّ والعبد.
_________
(1) نقله في "شرح الإرشاد" (ق 161/أ)، وفيه: "قدرة حادثة"، والقاضي هو ابن الباقلاني، وانظر: "المعتمد في أصول الدين" (128).
(2) انظر: "شرح الإرشاد" (ق 161/أ)، "نهاية الإقدام" (71).
(3) كذا في الأصول الخطية ومصدر المؤلف: "مع انفراده به"، وفي "نهاية الإقدام" (72): "مع تعذّر انفراده به"، وهو الصواب.
(4) حكاه في "شرح الإرشاد" (ق 161/أ)، و"نهاية الإقدام" (72).
(1/398)
________________________________________
وقال أيضًا: "كل فعل يقع على التعاون كان كسبًا من المستعين" (1).
قلت: يريد أن الخالق يستقل بالخلق والإيجاد، والكاسب إنما يقع منه الفعل على جهة المعاونة والمشاركة منه ومن غيره، لا يمكنه أن يستقل بإيجاد شيء البتّة.
وقال آخرون: قدرة المُكتسِب تتعلق بمقدوره على وجه ما، وقدرة الخالق تتعلق به من جميع الوجوه.
قالوا: وليس كون الفعل كسبًا من حقائقه التي تختصه، بل هو معنى طرأ عليه، كما يقول منازعونا من المعتزلة: إن هذه الحركة لُطْف، وهذا الفعل لُطْف، وصيغة "افعل" تصير أمرًا بالإرادة، لا أنها حدثت بالإرادة، واعتقاد الشيء على ما هو به يصير علمًا بسكون النفس إليه، لا أنه يحدث كذلك به، والأشياء قد تقترن في الوجود فتتغير أوصافها وأحكامها.
قالوا: فالحركة إذا صادفت المتحرِّك بها على وجه مخصوص تسمّى سباحة مثلًا، ولَطمًا، ومشيًا، ورقصًا.
وقال الأشعري وابن الباقلاني: الواقع بالقدرة الحادثة هو كون الفعل كسبًا، دون كونه موجودًا، أو مُحْدَثًا، فكونه كسبًا وصف للوجود بمثابة كونه معلومًا (2).
ولخّص بعضُ متأخريهم هذه العبارات بأن قال: الكَسْب عبارة عن
_________
(1) نقله في "شرح الإرشاد" (ق 161/أ)، و"نهاية الإقدام" (72).
(2) بتصرف من "شرح الإرشاد" (ق 161/أ)، وانظر: "مقالات الإسلاميين" (542)، "التمهيد" (286)، "الإنصاف" (43)، "المطالب العالية" (9/ 9 - 10).
(1/399)
________________________________________
الاقتران العادي بين القدرة المُحْدَثة والفعل، فإن الله سبحانه أجرى العادة بخلق الفعل عند قدرة العبد وإرادته لا بهما، فهذا الاقتران هو الكَسْب.
ولهذا قال كثير من العقلاء: إن هذا من محالات الكلام، وإنه شقيق أحوال أبي هاشم، وطفرة النظّام، والمعنى القائم بالنفس الذي يسميه القائلون به كلامًا، وشيء من ذلك غير معقول ولا متصوَّر.
والذي استقر عليه قول الأشعري: أن القدرة الحادثة لا تؤثر في مقدورها، ولم يقع المقدور ولا صفة من صفاته بها، بل المقدور بجميع صفاته واقع بالقدرة القديمة، ولا تأثير للقدرة الحادثة فيه. وتابعه على ذلك عامة أصحابه.
والقاضي أبو بكر يوافقه مرَّة، ومرَّة يقول: القدرة الحادثة لا تؤثر في إثبات الذات وإحداثها، ولكنها تقتضي صفة للمقدور زائدة على ذاته تكون حالًا له.
ثم تارة يقول: تلك الصفة التي من أثر القدرة الحادثة مقدورة لله تعالى.
ولم يمنع من إثبات هذا المقدور بين قادرين على هذا الوجه.
وقد اضطربت آراء أتباع الأشعري في الكَسْب اضطرابًا عظيمًا، واختلفت عباراتهم فيه اختلافًا كثيرًا، وقد ذكره (1) كله أبو القاسم سلمان بن ناصر (2)
_________
(1) في جميع النسخ: "ذكر".
(2) تحرّف اسمه في "د" و"م" إلى: "سليمان بن ماجه"، ووافقتهما "ج" في الأول منهما، والمثبت هو الصواب المشهور، وقد نصّ ابن الصلاح على فتح السين في "سلمان"، انظر: "المنتخب من السياق" (268)، "طبقات الشافعية" لابن الصلاح (1/ 477).
(1/400)
________________________________________
الأنصاري في "شرح الإرشاد"، وذكر اختلاف طرائقهم واضطرابهم فيه، ثم قال (1): وقد قال الأستاذ (2) في "المختصر": قول أهل الحق في الكَسْب لا يرجع إلى إثبات قدرة للعبد عليه (3)، كما يقال: إنه معلوم له. إلا أن الإمام ادعى على الأستاذ أنه أثبت للقدرة الحادثة أثرًا في الحدوث، فإنه لما نفى الأحوال وأثبت للقدرة الحادثة أثرًا فلا يعقل الجمع بينهما إلا أن يكون الأثر في الحدوث.
ثم ذكر لنفسه مذهبًا ذكره في الكتاب المترجم بـ "النظامية" (4)، وانفرد به عن الأصحاب، وهو قريب من مذهب المعتزلة. والخلاف بينه وبينهم فيه في الاسم.
قال: وهذه العقدة التي تورط الأصحاب فيها في الكَسْب شبيهة بالعقدة التي وقعت للأئمة في القراءة والمقروء.
قال: وما ذكره الإمام في "النظامية" له وجه، غير أنه مما انفرد بإطلاقه، ولكل ناظر نظره، والله يرحمنا وإيّاه.
قلت: الذي قاله الإمام في "النظامية" أقرب إلى الحق مما قاله الأشعري وابن الباقلاني ومن تابعهما، ونحن نذكر كلامه بلفظه.
قال: "وقد تقرر عند كل حاظٍ بعقله، مترقٍّ عن مراتب التقليد في قواعد
_________
(1) "شرح الإرشاد" نسخة أيا صوفيا (ق 163/ب).
(2) هو إبراهيم بن محمد أبو إسحاق الإسفراييني (418 هـ).
(3) الجملة مثبتة في "شرح الإرشاد": "قول أهل الحق في الكَسْب يرجع الخ".
(4) "النظامية" (45) وما بعدها.
(1/401)
________________________________________
التوحيد: أن الربّ سبحانه مُطَالِب عباده بأعمالهم في حياتهم، وداعيهم إليها، ومثيبهم ومعاقبهم عليها في مآلهم، وتبيّن بالنصوص التي لا تتعرض للتأويلات أنه أقدرهم على الوفاء بما طالبهم به، ومكّنهم من التوصل إلى امتثال الأمر، والانكفاف عن مواقع الزَّجْر، ولو ذهبت أتلو الآي المتضمنة لهذه المعاني لطال المرام، ولا حاجة إلى ذلك مع قطع اللبيب المنصف به.
ومن نظر في كليات الشرائع وما فيها من الاستحثاث على المكرمات، والزواجر عن الفواحش الموبقات، وما نيط ببعضها من الحدود والعقوبات، ثم تلفّت على الوعد والوعيد، وما يجب عقده من تصديق المرسلين في الإنباء عما يتوجه على المَردَة العُتاة من الحساب والعقاب، وسوء المنقلب والمآب، وقول الله لهم: لم تعدّيتم وعصيتم وأبيتم؟ وقد أرخيت لكم الطِّوَل، وفسحت لكم المُهَل، وأرسلت الرسل، وأوضحت المَحَجّة {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ} [النساء: 165]، وأحاط بذلك كله (1)، ثم استراب في أن أفعال العباد واقعة على حسب إيثارهم واختيارهم واقتدارهم= فهو مصابٌ في عقله، أو مُسْتقِرٌّ على تقليده، مصمّم على جهله، ففي المصير إلى أنه لا أثر لقدرة العبد في فعله قَطْع طلبات الشرائع، والتكذيب بما جاء به المرسلون.
فإنْ زعم مَنْ لم يوفّق لمنهج الرشاد أنه لا أثر لقدرة العبد في مقدوره
_________
(1) جملة: "وأحاط ... " معطوفة على "ومن نظر في كليات الشريعة"، وفي مطبوعة "النظامية": "فمن أحاط".
(1/402)
________________________________________
أصلًا، وإذا طولب بمتعلَّق طلب الله بفعل العبد (1) تحريمًا وفرضًا؛ ذهب في الجواب طولًا وعرضًا، وقال: لله أن يفعل ما يشاء، ولا يتعرض للاعتراض عليه المعترضون، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23].
قيل له: ليس لما جئت به حاصل، كلمة حق أريد بها باطل، نعم، يفعل الله ما يشاء، ويحكم ما يريد، ولكن يتقدّس عن الخُلْف ونقيض الصدق.
وقد فهمنا بضرورات العقول، من الشرع المنقول: أنه ــ عزَّت قدرته ــ طالب عباده بما أخبر أنهم مُمَكّنون من الوفاء به، فلم يكلفهم إلا على مبلغ الطاقة والوسع في موارد الشرع، ومن زعم أنه لا أثر للقدرة الحادثة في مقدورها، كما لا أثر للعلم في معلومه، فوجه مطالبة العبد بأفعاله عنده كوجه مطالبته بأن يثبت في نفسه ألوانًا وإدراكات، وهذا خروج عن حدّ الاعتدال، إلى التزام الباطل والمحال، وفيه إبطال الشرائع، وردّ ما جاء به النبيون عليهم الصلاة والسلام.
فإذا لزم المصير بأن القدرة الحادثة تؤثِّر في مقدورها، واستحال إطلاق القول بأن العبد خالق أعماله؛ فإنّ فيه الخروج عما درج عليه سلف الأمة، واقتحام ورطات الضلال.
ولا سبيل إلى المصير إلى وقوع فعل العبد بقدرته الحادثة والقدرة القديمة؛ فإن الفعل الواحد يستحيل حدوثه بقادرين؛ إذ الواحد لا ينقسم، فإن وقع بقدرة الله استقل بها، ويسقط أثر القدرة الحادثة، ويستحيل أن يقع بعضه بقدرة الله تعالى؛ فإن الفعل الواحد لا بعض له.
_________
(1) "د": "لفعل العبد".
(1/403)
________________________________________
وهذه مهواة لا يسلم من غوائلها إلا مُرشَد موفَّق، إذ المرء بين أن يدّعي الاستبداد بالخلق (1)، وبين أن يُخْرِج نفسه عن كونه مطالبًا بالشرائع، وفيه إبطال دعوة المرسلين، وبين أن يثبت نفسه شريكًا لله تعالى في إيجاد الفعل الواحد، وهذه الأقسام بجملتها باطلة، ولا ينجي من هذا [البحر] (2) المُلتَطِم ذِكْرُ اسمٍ مختص ولقب مجرد من غير تحصيل معنى.
وذلك أن قائلًا لو قال: العبد مُكْتَسِب، وأثر قدرته الاكتساب، والربّ تعالى مخترع خالق لما العبد مُكْتَسِب له.
قيل له: فما الكَسْب، وما معناه؟ وأديرت الأقسام المتقدمة على هذا القائل، فلا يجد عنه مهربًا" (3).
ثم قال: "فنقول: قدرة العبد مخلوقة لله تعالى باتفاق القائلين بالصانع، والفعل المقدور بالقدرة الحادثة واقع بها قطعًا، ولكنه مضاف إلى الله سبحانه تقديرًا وخلقًا، فإنه وقع بفعل الله وهو القدرة، [وليست القدرة] (4) فعلًا للعبد، وإنما هي صفته (5)، وهي مُلْك لله وخَلْق له (6)، فإذا كان مُوقِع الفعل خَلْقًا لله؛ فالواقع به مضاف خلقًا إلى الله تعالى وتقديرًا. وقد مَلَّك الله تعالى العبد اختيارًا يُصَرِّف به القدرة، فإذا أوقع بالقدرة شيئًا آل الواقع إلى
_________
(1) "د": "بالحق".
(2) زيادة من مصدر النقل ساقطة من الأصول.
(3) "النظامية" (42 - 45).
(4) زيادة لازمة من "النظامية" (47) ساقطة من الأصول.
(5) "د": "صنعته" دون إعجام، والمثبت من "ج" موافق للسياق ومصدر النقل.
(6) "د": "لله".
(1/404)
________________________________________
حكم الله من حيث إنه وقع بفعل الله.
ولو اهتدت إلى هذا الفرقة الضالة لم يكن بيننا وبينهم خلاف، ولكنهم ادعوا استبدادًا بالاختراع، وانفرادًا بالخلق والابتداع، فضلوا وأضلوا.
ونبيّن تميّزنا عنهم بتفريع المذهبين: فإنا لما أضفنا فعل العبد إلى تقدير الإله قلنا: أحدث الله تعالى القدرة في العبد على أقدار أحاط بها علمه، وهيَّأ أسباب الفعل، وسلب العبد العلم بالتفاصيل، وأراد من العبد أن يفعل، فأحدث فيه دواعٍ مُستحِثّة وخِيْرَة وإرادة، وعلم أنَّ الأفعال ستقع على قدر معلوم، فوقعت بالقدرة التي اخترعها للعبد على ما علم وأراد، [وللعباد] اختيارهم (1) واتصافهم بالاقتدار، والقدرة خلق الله ابتداء، ومقدورها مضاف إليه مشيئة وعلمًا وقضاءً وخلقًا وفعلًا (2) من حيث إنه نتيجة ما انفرد بخلقه وهو القدرة، ولو لم يرد وقوع مقدورها لما أقدره عليه، ولَمَا هيَّأ أسباب وقوعه، ومن هُدي لهذا استمرّ له الحق المبين.
فالعبد فاعل مختار مُطَالَب، مأمور منهي، وفعله تقدير لله، مراد له، خَلْق مَقْضِي.
ونحن نضرب في ذلك مثلًا شرعيًا يستروح إليه الناظر في ذلك فنقول: العبد لا يملك أن يتصرف في مال سيده، ولو استبدّ بالتصرف فيه لم ينفذ تصرفه، فإذا أذن له في بيع ماله فباعه نفذ، والبيع في التحقيق معزوٌّ إلى السيد
_________
(1) في الأصول الخطية: "وأراد، فاختيارهم ... "، والمثبت من مصدر النقل، وبه يستقيم السياق.
(2) بدله في "النظامية": "وبقاء".
(1/405)
________________________________________
من حيث إن سببه إذنه، ولولا إذنه لم ينفذ التصرف، ولكن العبد يؤمر بالتصرف ويُنهى ويوبَّخ على المخالفة ويعاقَب، فهذا والله الحق الذي لا غطاء دونه، ولا مراء فيه لمن وعاه حقّ وعيه.
وأما الفرقة الضالة فإنهم اعتقدوا انفراد العبد بالخلق، ثم صاروا إلى أنه إذا عصى فقد انفرد بخلق فعله، والربُّ كاره له، فكان العبد على هذا الرأي الفاسد مزاحمًا لربِّه في التدبير، موقِعًا ما أراد إيقاعه شاء الربُّ أو كره.
فإن قيل: على ماذا تحملون آيات الطبع والختم والإضلال في القرآن، وهي متضمنة اضطرارَ الربّ تعالى الأشقياءَ إلى ضلالتهم؟
قلنا: إذا أتاح الله حلّ هذا الإشكال، والجواب عن هذا السؤال، لم يبق على ذوي البصائر بعده غموض.
فنقول أولًا: مَنْ أنبأ الله سبحانه عن الطبع على قلوبهم كانوا مخاطبين بالإيمان، مطالبين بالإسلام، والتزام الأحكام؛ مطالبة تكليف ودعاء، مع وصفهم بالتمكّن والاقتدار والإيثار، كما سبق تقريره.
ومن اعتقد أنهم كانوا ممنوعين مأمورين، مصدودين قهرًا مدعوّين؛ فالتكليف عنده إذًا بمثابة ما لو شُدَّ من الرجل يداه ورجلاه رباطًا، وأُلقِي في البحر، ثم قيل له: لا تبتل!
وهذا أمر (1) لا يحمل شرائعَ الرسل عليه إلا عابثٌ بنفسه، مجترئ على ربِّه، ولا فرق عند هذا القائل بين أمر التسخير والتكوين في قوله: {كُونُوا
_________
(1) موضعه في "النظامية": "منتهى".
(1/406)
________________________________________
قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65]، وقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] وبين أمر التكليف.
فإذا بطل ذلك فالوجه في الكلام على هذه الآي ــ وقد غوى في معانيها أكثر الفرق ــ أن نقول: إذا أراد الله بعبده خيرًا أكمل عقله، وأتم بصيرته، ثم صرف عنه العوائق والدوافع، وأزاح عنه الموانع، ووفّق له قرناء الخير، وسهّل له سبله، وقطع عنه الملهيات وأسباب الغفلات والذهول، وقيّض له ما يقربه إلى القربات، فيوافيها ثم يعتادها، ويتمرّن عليها.
وإذا أراد بعبده شرًّا قدّر له ما يبعده عن الخير ويُقْصِيه، وهيّأ له أسباب تماديه في الغي، وحبّب إليه التشوّف إلى الشهوات، وعرّضه للآفات، وكلما غلبت عليه دواعي النفس (1) خنست دواعي الخير، ثم يستمر على الشرور على مر الدهور، هاويًا في مهاويها، وتتعاون عليه الوساوس ونزغات الشيطان، ونَزَقات النفس الأمّارة بالسوء، فتنسج الغفلة على قلبه غشاوة بقضاء الله وقدره، فذلكم الطبع والختم والأكنّة.
وأنا أضرب في ذلك مثلًا فأقول: لو فرضنا شابًّا حديث العهد بحلمه، لم تهذّبه المذاهب، ولم تحنّكه التجارب، وهو على نهايته في غِلْمَته وشهوته، وقد استمكن من بُلْغَة من الحُطام، وخُصّ بمسحة من الجمال، ولم يقم عليه قوّام يزعه عن ورطات الردى، ويمنعه عن الارتباك في شبكات الهوى (2)،
_________
(1) في "النظامية": "دواعي الشر"، وهو الأليق بالسياق.
(2) في "الصحاح" (4/ 1586): "ارتبك الرجل في الأمر، أي نشب فيه، ولم يكد يتخلص منه".
(1/407)
________________________________________
ووافاه أخدان الفساد، وهو في غُلَوَاء شبابه، يحدث نفسه بالبقاء أمدًا بعيدًا، فما أقرب مَن هذا وصفه مِن خَلْع العِذَار، والبدار إلى شيم الأشرار، وهو مع ذلك كلّه مُؤْثِر مختار، ليس مجبرًا على المعاصي والزلات، ولا مصدودًا عن الطاعات، ومعه من العقل ما يستوجب به اللائمة إذا عصى، فمن هذا سبيله لا يستحيل في العقل تكليفه؛ فإنه ليس ممنوعًا، ولكن إن سبق له من الله سوء القضاء فهو صائر إلى حكم الله الجزم وقضائه الفصل، محجوجًا بحجة الله، إلا أن يتغمده الله برحمته، وهو أرحم الراحمين.
وهذا الذي ذكرته بيّنٌ في معاني الآيات، لا يتمارى فيه موفَّق، قال الله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [البقرة: 74]، أراد أنهم استمروا على المخالفات، وأصروا بانتهاك الحرمات، فقست قلوبهم.
وقال تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف: 28].
فقد جَمَعْتَ بين تفويض الأمور كلّها ــ نفعها وضرها، خيرها وشرّها ــ إلى الإله جلّت قدرته، وبين إثبات حقائق التكليف، وتقرير قواعد الشرع على الوجه المعقول، ألست في هذا أهدى سبيلًا، وأقوم قيلًا ممن يُقدّر الطبْع منعًا، والختم صدًّا ودفعًا، ثم ينفي التكاليف بزعمه.
وقد افترق الخلق في هذا المقام فرقًا، فذهب ذاهبون إلى أن المخذولين ممنوعون مدفوعون، لا اقتدار لهم على إجابة دعاة الحق، وهم مع ذلك ملزمون. وهذا خطب جسيم، وأمر عظيم، وهو طعن في الشرائع، وإبطال للدعوات، وقد قال تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا} [الكهف: 55]، وقال لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} [ص: 75].
(1/408)
________________________________________
نعوذ بالله من سوء النظر، في مواقع الخطر.
وذهبت طوائف من الضُلّال إلى أن العبد يعصي، والربّ لِمَا يأتي به كاره، فهذا خَبْط في الأحكام الإلهية، ومزاحمة في الربوبية، ولو لم يرد الربُّ من الفجّار ما علمه منهم في أزله لما فطرهم مع علمه بهم، كيف وقد أكمل قواهم، وأمدّهم بالعَدد والعُدد والعتاد، وسَهَّل لهم طريق الحَيْد عن السداد.
فإن قيل: فَعَل ذلك بهم ليطيعوه؟
قلنا: أنّى يستقيم ذلك وقد علم أنهم يعصونه، ويهلكون أنفسهم، ويهلكون أولياءه وأنبياءه، ويشقون شقاوة لا يسعدون بعدها أبدًا، ولو علم سيّدٌ عن وحي أو إخبار نبي أنه لو أمدّ عبدَه بالمال لطغى وأبق وقطع الطريق؛ فأمده بالمال زاعمًا أنه يريد منه ابتناء القناطر والمساجد، وهو مع ذلك يقول: أعلم أنه لا يفعل ذلك قطعًا= فهذا السيد مفسدٌ عبده، وليس مصلحًا له باتفاق من أرباب الألباب.
فقد زاغت الفئتان، وضلت الفرقتان، واعترضت إحداهما على القواعد الشرعية، وزاحمت الأخرى أحكام الربوبية، واقتصد الموفقون، فقالوا: مراد الله من عباده ما علم أنهم إليه يصيرون، ولكنه لم يسلبهم قُدَرَهم، ولم يمنعهم مراشدهم، فَقَرَّت الشريعةُ في نصابها، وجرت العقيدة في الأحكام الإلهية على صوابها.
فإن قيل: كيف يريد الحكيم السَّفَه؟
فقد أوضحنا أن الأفعال متساوية في حق من لا ينتفع ولا يتضرر، ولكن إذا أخبر أنه مكلِّفٌ مُطالِبٌ عبادهَ، مُزِيحٌ عللَهم؛ فقوله الحق، وكلامه الصدق.
(1/409)
________________________________________
وأقرب أمر يعارضون به أن الحكيم منَّا إذا رأى جواريه وعبيده يمرجُ بعضهم في بعض، وهم على محارمهم بمرأى منه ومسمع، فلا يحسن تركهم على ما هم عليه، والربُّ تعالى يطلع على سوء أفعال العباد، ويستدرجهم من حيث لا يعلمون.
ثم قال: قد أطلت أنفاسي قليلًا، ولكن لو وجدت في اقتباس هذا العلم من يسرد لي هذا الفصل لكان ــ وحق القائم على كل نفس بما كسبت ــ أحبّ إليّ من مُلك الدنيا بحذافيرها طول أمدها" (1) انتهى كلامه بلفظه.
وهذا توسط حسن بين الفريقين، وقد أنكره عليه عامة أصحابه، منهم الأنصاري شارح "الإرشاد" وغيره، وقالوا: هو قريب من مذهب المعتزلة، ولا يرجع الخلاف بينه وبينهم إلا إلى الاسم فقط، وإن هذا مما انفرد به.
ولكن بقي عليه فيه أمور:
منها: أنه نفى كراهة الله لما قدره من المعاصي بناء على أصله أن كل مراد له فهو محبوب له، وأنه إذا كان قد قدّر الكفر والفسوق والعصيان فهو يريده ويحبّه ولا يكرهه، وإن كانت قدرة العبد واختياره مؤثّرة في إيجاد الفعل عنده بإقدار الرب تعالى.
وقد أصاب في هذا وأجاد، لكن القول بأن الله سبحانه يحب الكفر والفسوق والعصيان ولا يكرهه إذا كان واقعًا= قول في غاية البطلان، وهو مخالف لصريح العقل والنقل.
_________
(1) "النظامية" (46 - 54).
(1/410)
________________________________________
والذي قاده إلى ذلك قوله: إن المحبّة هي الإرادة والمشيئة، وإن كل ما شاءه الله فقد أراده وأحبّه. ومن لم يفرق بين المشيئة والمحبّة لزمه أحد أمرين باطلين لابدّ له من التزامه: إما القول بأن الله سبحانه يحب الكفر والفسوق والعصيان، أو القول بأنه ما شاء ذلك ولا قدره ولا قضاه، وقد قال بكل من المتلازمين طائفة، قالت طائفة: لا يحبها ولا يرضاها، فما شاءها ولا قضاها. وقالت طائفة: هي واقعة بمشيئته وإرادته، فهو يحبّها ويرضاها. فاشترك الطائفتان في هذا الأصل، وتباينا في لازمه.
وقد أنكر الله سبحانه على من احتج على محبته بمشيئته في ثلاثة مواضع من كتابه: في سورة الأنعام والنحل والزخرف، فقال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148]، وكذلك حكى عنهم في النحل، ثم قال: {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النحل: 35]، وقال في الزخرف: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف: 20]، فاحتجوا على محبته لشركهم ورضاه به بكونه أقرّهم عليه، وأنه لولا محبته له ورضاه به لما شاءه منهم، وعارضوا بذلك أمره ونهيه ودعوة الرسل، وقالوا: كيف يأمرنا بشيء قد شاء منا خلافه؟ وكيف يكره منا ما قد شاء وقوعه؟ فلو كرهه لم يُمَكِّنّا منه، ولحال بيننا وبينه، فكذّبهم سبحانه في ذلك، وأخبر أن هذا تكذيب منهم لرسله، وأن رسله متفقون على أنه سبحانه يكره شركهم، ويبغضه ويمقته، وأنه لولا بغضه وكراهته له لما أذاق المشركين بأسه؛ فإنه لا يعذب عبده على ما يحبه.
(1/411)
________________________________________
ثم طالبهم بالعلم على صحة مذهبهم بأن الله أذن فيه، وأنه يحبه ويرضاه، ومجرد إقراره لهم قدرًا لا يدل على ذلك عند أحد من العقلاء، وإلا كان الظلم والفواحش والسعي في الأرض بالفساد والبغي محبوبًا له مرضيًا.
ثم أخبر سبحانه أن مستندهم في ذلك إنما هو الظن، وهو أكذب الحديث، وأنهم لذلك كانوا أهل الخرص والكذب.
ثم أخبر سبحانه أن له الحجة عليهم من جهتين:
إحداهما: ما ركّبه فيهم من العقول التي يفرقون بها بين الحسن والقبيح، والحق والباطل، والأسماع والأبصار التي هي آلة إدراك الحق، والتي يُفرَّق بها بينه وبين الباطل.
والثانية: إرسال رسله، وإنزال كتبه، وتمكينهم من الإيمان والإسلام.
ولم يؤاخذهم بأحد الأمرين، بل بمجموعهما؛ لكمال عدله، وقطعًا لعذرهم من جميع الوجوه، ولذلك سمّى حجته عليهم بالغة، أي: قد بلغت غاية البيان وأقصاه، بحيث لم يبقَ معها مقال لقائل، ولا عذر لمعتذر، ومن اعتذر إليه سبحانه بعذر صحيح قَبِلَه.
ثم ختم الآية بقوله: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149]، وأنه لا يكون شيء إلا بمشيئته، وهذا من تمام حجته البالغة؛ فإنه إذا امتنع الشيء لعدم مشيئته، ولزم وجوده عند مشيئته، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن؛ كان هذا من أعظم أدلة التوحيد، ومن أبين أدلة بطلان ما أنتم عليه من الشرك
(1/412)
________________________________________
واتخاذ الأنداد من دونه، فما (1) احتجيتم به من المشيئة على ما أنتم عليه من الشرك هو من أظهر الأدلة على بطلانه وفساده.
فلو أنهم ذكروا القدر والمشيئة توحيدًا له، وافتقارًا والتجاءً إليه، وبراءة من الحول والقوة إلا به، ورغبة إليه أن يقيلهم مما لو شاء أن لا يقع منهم لما وقع= لنفعهم ذلك، ولفتح لهم باب الهداية، ولكن ذكروه معارضين به أمره، ومبطلين به دعوة الرسل، فما ازدادوا به إلا ضلالًا.
والمقصود أنه سبحانه قد فرّق بين محبته ومشيئته، وقد حكى أبو الحسن الأشعري في "مقالاته" (2) اتفاق أهل السنة والحديث على ذلك، والذي حكى عنه ابن فُوْرَك في كتاب "تجريده لمقالاته" أنه كان لا يفرق بين ذلك، قال: "وكان لا يفرق بين الودّ والحبّ والإرادة والمشيئة والرضا، وكان لا يقول: إن شيئًا منها يخص بعض المرادات دون بعض، بل كان يقول: إن كل واحد منها بمعنى صاحبه على جهة التقييد الذي يزول معه الإيهام (3)، وهو أن المؤمن محبوب لله أن يكون مؤمنًا من أهل الخير كما علمه، والكافر أيضًا مراد أن يكون كافرًا كما علمه من أهل الشر، ومحب أن يكون ذلك كذلك كما علم.
وكذلك كان يقول في الرضا والاصطفاء والاختيار، ويقيد اللفظ بذلك حتى لا يتوهم فيه الخطأ" (4) انتهى.
_________
(1) "م": "مما"، وهي محتملة في "د".
(2) "مقالات الإسلاميين" (294).
(3) "م": "الإبهام"، وأهملت في "د"، والمثبت من مصدر القول، وسيأتي ما يعززه.
(4) "مجرد مقالات الأشعري" (52).
(1/413)
________________________________________
والذي عليه أهل الحديث والسنة قاطبة، والفقهاء كلهم، وجمهور المتكلمين والصوفية: أنه سبحانه يكره بعض الأعيان والأفعال والصفات، وإن كانت واقعة بمشيئته، فهو يبغضها ويمقتها، كما يبغض ذات إبليس وذوات جنوده، ويبغض أعمالهم، ولا يحب ذلك، وإن وُجِد بمشيئته، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205]، وقال: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 57]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18]، وقال: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148]، وقال: {لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ} [المائدة: 87]، وقال: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7]، فهذا إخبار عن عدم محبَّته لهذه الأمور ورضاه بها بعد وقوعها.
فهذا صريح في إبطال قول من تأوّل هذه النصوص على أنه لا يحبها ممن لم تقع منه، ويحبها إذا وقعت، فهو يحبها ممن وقعت منه، ولا يحبها ممن لم تقع منه.
وهذا من أعظم الباطل والكذب على الله، بل هو سبحانه يكرهها ويبغضها قبل وقوعها، وحال وقوعها، وبعد وقوعها؛ فإنها قبائح وخبائث، والله منزّه عن محبة القبيح والخبيث، بل هو أكره شيء إليه، قال تعالى: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئَةً عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 38].
وقد أخبر سبحانه أنه يكره طاعات المنافقين، ولأجل ذلك ثبّطهم عنها، فكيف يحبّ نفاقهم ويرضاه، ويكون أهله محبوبين له، مصطفين عنده مرضيين.
(1/414)
________________________________________
ومن هذا الأصل الباطل نشأ قولهم باستواء الأفعال بالنسبة إلى الرب سبحانه، وأنها لا تنقسم في نفسها إلى حسن وقبيح، فلا فرق بالنسبة إليه سبحانه بين الشكر والكفر.
وكذلك قالوا: لا يجب شكره على نعمه عقلًا.
فعن هذا الأصل قالوا: إن مشيئته هي عين محبته (1)، وإن كل ما شاءه فهو محبوب له، ومرضي له، ومصطفى ومختار، فلم يمكنهم بعد تأصيل هذا الأصل أن يقولوا: إنه يبغض بعض الأعيان والأفعال التي خلقها، ويحب بعضها، بل كل ما فعله وخلقه فهو محبوب له، والمكروه المبغوض ما لم يشأه، ولم يخلقه.
وإنما أصّلوا هذا الأصل محافظة منهم على القدر، فجنوا به على الشرع والقدر، والتزموا لأجله لوازم شوّشوا بها على القدر والحكمة، وكابروا لأجلها صريح العقل، وسوّوا بين أقبح القبائح وأحسن الحسنات في نفس الأمر، وقالوا: هما سواء، لا فرق بينهما إلا بمجرد الأمر والنهي. فالكذب ــ عندهم ــ والظلم والبغي والعدوان مساوٍ للصدق والعدل والإحسان في نفس الأمر، ليس في هذا ما يقتضي حُسْنه، ولا في هذا ما يقتضي قُبْحه.
وجعلوا هذا المذهب شعارًا لأهل السنة، والقول بخلافه قول أهل البدع من المعتزلة وغيرهم، ولعمر الله؛ إنه لمن أبطل الأقوال، وأشدها منافاة للعقل والشرع، ولفطرة الله التي فطر عليها خلقه، وقد بيّنا بطلانه من أكثر من خمسين وجهًا في كتاب "المفتاح" (2).
_________
(1) "م": "عين مشيئته" سبق قلم.
(2) "مفتاح دار السعادة" (2/ 1017 - 1135)، وعدّتها: واحد وستون وجهًا.
(1/415)
________________________________________
والمقصود: أنه لما انضم القول به إلى القول بأنه سبحانه لا يحب شيئًا ويبغض شيئًا، بل كل موجود فهو محبوب له، وكل معدوم فهو مكروه له، وانضم إلى هذين الأمرين إنكار الحِكَم والغايات المطلوبة في أفعاله سبحانه، وأنه لا يفعل شيئًا لشيء البتَّة، وانضم إلى ذلك إنكار الأسباب، وأنه لا يفعل شيئًا بشيء، وإنكار القوى والطبائع والغرائز، وأن تكون أسبابًا أو يكون لها أثر= انسدَّ عليهم باب الصواب في مسائل القدر، والتزموا لهذه الأصول الباطلة لوازم هي أظهر بطلانًا وفسادًا، وهي من أدلّ شيء على فساد هذه الأصول وبطلانها؛ فإن فساد اللازم من فساد ملزومه.
فإن قيل: الكراهة والمحبّة ترجع إلى المنافرة والملاءمة للطبع، وذلك محال في حقّ من لا يوصف بطبع ولا ملاءمة ولا منافرة!
قيل: قد دلّت النصوص التي لا تُدفع على وصفه تعالى بالمحبة والكراهة، فنفيُكم حقائق ما دلت عليه بالتعبير عنها بملاءمة الطبع ومنافرته باطل.
وهو كنفي كل مبطل حقائقَ أسمائه وصفاته بالتعبير عنها بعبارات اصطلاحية، توصّل بها إلى نفي ما وصف به نفسه، كتسمية الجهمية المعطلة صفاته تعالى: أعراضًا، ثم توصلوا بهذه التسمية إلى نفيها.
وسمّوا أفعاله القائمة به: حوادث، ثم توصلوا بهذه التسمية إلى نفيها، وقالوا: لا تحله الحوادث، كما قالت المعطلة: لا تقوم به الأعراض.
وسمّوا علوّه على خلقه واستواءه على عرشه، وكونه قاهرًا فوق عباده: تحيُّزًا وتجسيمًا، ثم توصلوا بنفي ذلك إلى نفي علوه على خلقه، واستوائه على عرشه.
(1/416)
________________________________________
وسمّوا ما أخبر به عن نفسه من الوجهِ واليدينِ والأصبعِ: جوارحَ وأعضاءَ، ثم نفوا ما أثبته لنفسه بتسميتهم له بغير تلك الأسماء، {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23].
فتوصلوا بالتجسيم والتشبيه والتركيب والحوادث والأعراض والتحيُّز إلى تعطيل صفات كماله، ونعوت جلاله، وأفعاله، وأخلوا تلك الأسماء من معانيها، وعطلوها من حقائقها.
فيقال لمن نفى محبته وكراهته لاستلزامهما ميل الطبع ونفرته: ما الفرق بينك وبين من نفى كونه مريدًا لاستلزام الإرادة حركةَ النفس إلى جلب ما ينفعها، ودفع ما يضرها؟ ونفى سمعه وبصره لاستلزام ذلك تأثّرَ السمع والبصر (1) بالمسموع والمُبْصَر، وانطباعَ صورة المرئي في الرائي، وحمْلَ الهواء الصوتَ المسموعَ إلى أذن السامع؟ ومن نفى علمه لاستلزامه انطباعَ صورة المعلوم في النفس الناطقة؟ ونفى غضبه ورضاه لاستلزام ذلك حركة القلب وانفعاله بما يَرِد عليه من المؤلم والسارّ؟ ونفى كلامه لاستلزام الكلام محلًّا يقوم به، ويظهر منه: من شفة ولسان ولَهَوات؟
ولمّا لم يمكن (2) أحدًا أقرّ بوجود رب العالمين طَرْدُ ذلك وقع في التناقض ولابدّ؛ فإنه أي شيء أثبتَه لزمه فيه ما التزمه، كمن (3) أثبت ما نفاه هو من غير فرق البتّة.
_________
(1) "م": "السميع البصير".
(2) "م": "يكن".
(3) "م": "لمن".
(1/417)
________________________________________
ولهذا لمّا تفطّن بعض المعطلة لذلك طَرَدَ هذا الأصل، وقال: لا أثبت شيئًا البتّة.
ولهذا قال الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة: لا نزيل عن الله صفة من صفاته لأجل شناعة المشنّعين (1).
والمقصود أنا لا نجحد محبته سبحانه لما يحبه (2)، وكراهته لما يكرهه لتسمية النفاة لذلك ملاءمة ومنافرة.
وينبغي التفطن لهذا الموضع؛ فإنه من أعظم أصول الضلال، فلا نسمي العرش حيِّزًا، ولا نسمي الاستواء تحيُّزًا، ولا نسمي الصفات أعراضًا، ولا الأفعال حوادث، ولا الوجه واليدين والأصابع جوارح وأعضاء، ولا إثبات صفات كماله التي وصف بها نفسه، ووصفه بها رسله: تجسيمًا وتشبيهًا، فنجني جنايتين عظيمتين: جنايةً على اللفظ، وجنايةً على المعنى، فنبدل الاسم، ونعطل معناه. ونظير هذا تسمية خَلْقه سبحانه لأفعال عباده وقضائه السابق: جَبْرًا.
ولذلك أنكر أئمة السنة كالأوزاعي، وسفيان الثوري، وعبد الرحمن بن مهدي، والإمام أحمد وغيرهم هذا اللفظ (3).
_________
(1) أسنده غلام الخلال في "السنة ــ زاد المسافر" (1/ 303)، وابن بطة في "الإبانة الكبرى" (7/ 326)، وانظر: "إبطال التأويلات" (297).
(2) "م": "محبته سبحانه طاعتَه".
(3) ينظر: "مجموع الفتاوى" (3/ 322 - 326) (8/ 133 - 134).
(1/418)
________________________________________
قال الأوزاعي، والزُّبَيدي (1): ليس في الكتاب والسنة لفظ "جَبْر"، وإنما جاءت السنة بلفظ "الجَبْل" (2). كما في الصحيح (3) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأشج عبد القيس: "إن فيك خُلُقين يحبهما الله: الحلم والأناة"، فقال: أخُلُقَين تخلّقت بهما، أم جُبِلت عليهما؟ فقال: "بل جُبِلتَ عليهما"، فقال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحب.
فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله جبَلَه على الحلم والأناة وهما من الأفعال الاختيارية، وإن كانا خُلُقين قائمين بالعبد (4)، فإن من الأخلاق ما هو كَسْبي، ومنها ما لا يدخل تحت الكَسْب، والنوعان قد جَبَل الله العبد عليهما، وهو سبحانه يحبّ ما جَبَل عبده عليه من محاسن الأخلاق، ويكره ما جَبَله عليه من مساوئها، فكلاهما بجَبْله، وهذا محبوب له، وهذا مكروه، كما أن جبريل صلوات الله وسلامه عليه مخلوق له، وإبليس عليه لعائن الله مخلوق له، وجبريل محبوب له مصطفى عنده، وإبليس أبغض خلقه إليه.
ومما يوضح ذلك أن لفظ الجَبْر لفظ مجمل، فإنه يقال: أجْبَر الأبُ (5)
_________
(1) محمد بن الوليد أبو الهذيل الحمصي صاحب الزهري (148 هـ)، "تاريخ الإسلام" (3/ 975).
(2) أسنده الخلال في "السنة" (3/ 555)، ونص عبارة الزبيدي: "أمر الله أعظم، وقدرته أعظم من أن يجبر أو يعضل، ولكن يقضي ويقدر ويخلق ويجبل عبده على ما أحبه"، وانظر: "درء التعارض" (1/ 66).
(3) "صحيح مسلم" (18) من حديث أبي سعيد الخدري وليس فيه موضع الشاهد، وهو عند أبي داود (5225) من حديث زارع، وله عدة شواهد.
(4) "م": "قائمين فإنهن بالعبد" دون إعجام.
(5) "م": "جبر الأب"، وجَبَر لغة فصيحة في أجبر، كما في "الأفعال" لابن القطاع (1/ 257).
(1/419)
________________________________________
ابنتَه على النكاح، وجَبَر الحاكمُ الرجلَ على البيع، ومعنى هذا الجَبْر: أكرهه عليه، ليس معناه أنه جعله محبًّا لذلك، راضيًا به، مختارًا له، والله تعالى إذا خلق فعل العبد جعله محبًّا له، مختارًا لإيقاعه، راضيًا به، كارهًا لعدمه، فإطلاق لفظ "الجَبْر" على ذلك فاسد لفظًا ومعنى؛ فإن الله سبحانه أجلّ وأعدل (1) من أن يجبر عبده بذلك المعنى، وإنما يجبر العاجزُ عن أن يجعل غيره فاعلًا بإرادته ومحبته ورضاه. وأما مَن جَعَل العبدَ (2) مريدًا محبًّا مؤثرًا لما يفعله، فكيف يقال: إنه جَبَره عليه؟!
فهو سبحانه أجلّ وأعظم وأقدر من أن يجبر عبده، ويكرهه على فعل ما يشاؤه منه، بل إذا شاء من عبده أن يفعل فعلًا جعله قادرًا عليه، مريدًا له، محبًا مختارًا لإيقاعه، وهو أيضًا قادر على أن يجعله فاعلًا له باختياره مع كراهته له، وبغضه ونفرته عنه.
فكل ما يقع من العباد بإراداتهم ومشيئاتهم فهو سبحانه الذي جعلهم فاعلين له، سواء أحبوه، أو أبغضوه وكرهوه، وهو سبحانه لم يجبرهم في النوعين، كما يجبر غيرُه مَنْ لا يقدر على جعله فاعلًا بإرادته ومشيئته.
نعم، نحن لا ننكر استعمال لفظ "الجَبْر" فيما هو أعمّ من ذلك، بحيث يتناول مَن قَهَر غيرَه، وقدر على جعله فاعلًا لما يشاء فعله، وتاركًا لما لا يشاء فعله؛ فإنه سبحانه المحدث لإرادته له، وقدرته عليه، كما قال محمد بن كعب القرظي في اسم "الجبّار" سبحانه: "هو الذي جَبَرَ العباد على
_________
(1) "د": "وأعز".
(2) "د": "فعل العبد".
(1/420)
________________________________________
ما أراد" (1).
وفي الدعاء المعروف عن علي - رضي الله عنه -: "اللهم داحِيَ المَدْحُوّات، وبارئ المَسْموكات، جبّار القلوب على فطراتها شقيّها وسعيدها" (2).
فالجبر بهذا الاعتبار معناه القهر والقدرة، وأنه سبحانه قادر على أن يفعل بعبده ما شاء، وإذا شاء منه شيئًا وقع ولا بدّ، وإن لم يشأه لم يكن، ليس كالعاجز الذي يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء، والفرق بين هذا الجَبْر وجَبْر المخلوق لغيره من وجوه:
أحدها: أن المخلوق لا قدرة له على جَعْل الغير مريدًا للفعل، محبًّا له، والربّ تعالى قادر على جَعْل عبده كذلك.
الثاني: أن المخلوق قد يجبر غيرَه إجبارًا يكون به ظالمًا له، معتديًا عليه، والربّ تعالى أعدل من ذلك؛ فإنه لا يظلم أحدًا من خلقه، بل مشيئته نافذة فيهم بالعدل والإحسان، بل عدله فيهم من إحسانه إليهم، كما سنبينه إن شاء الله.
الثالث: أن المخلوق يكون في جبره لغيره سفيهًا أو عابثًا أو جاهلًا، والربّ تعالى إذا جَبَل عبدَه على أمر من الأمور كان له في ذلك من الحكمة والعدل والإحسان والرحمة ما هو محمود عليه بجميع وجوه الحمد.
الرابع: أن المخلوق يجبر غيرَه لحاجته إلى ما جبره عليه، ولانتفاعه
_________
(1) تقدم توثيقه (1/ 396).
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (30134)، وابن أبي عاصم في "الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - " (23).
(1/421)
________________________________________
بذلك، وهذا لأنه فقير بالذات، وأما الربّ تعالى فهو الغني بذاته، الذي كل ما سواه محتاج إليه، وليس به حاجة إلى أحد.
الخامس: أن المخلوق يجبر غيرَه لنقصه، فيجبره ليحصل له الكمال بما أجبره عليه، والربُّ تعالى له الكمال المطلق من جميع الوجوه، وكماله من لوازم ذاته لم يستفده من خلقه، بل هو الذي أعطاهم من الكمال ما يليق بهم، فالمخلوق يجبر غيره ليتكمّل نقصه به، والربُّ تعالى منزّه عن كل نقص وعيب، فكماله المقدّس ينفي الجَبْر.
السادس: أن المخلوق يجبر غيرَه على فعلٍ يعينه به على غرضه؛ لعجزه عن التوصّل إليه إلا بمعاونته له، فصار الفعل من هذا، والإكراه والقهر من هذا؛ محصّلًا لغرض المُكْرِه، كما أن المعين (1) لغيره باختياره شريك له في الفعل، والربُّ تعالى غني عما سواه بكل وجه، فيستحيل في حقه الجَبْر.
السابع: أن المجبور على فعل ما لا يريد فعله يجد من نفسه فرقًا ضروريًا بينه وبين ما يريد فعله باختياره ومحبته، فالتسوية بين الأمرين تسوية بين ما عُلِم بالحسِّ والاضطرار الفرقُ بينهما، وهو كالتسوية بين حركة المُرْتعِش وحركة الكاتب، وهذا من أبطل الباطل.
الثامن: أن الله سبحانه قد فطر العباد على أن المجبور المُكْرَه على الفعل معذور لا يستحق الذم والعقوبة، ويقولون: قد أُكْرِه على كذا، وجَبَره عليه السلطان. وكما أنهم مفطورون على هذا فهم مفطورون أيضًا على ذم من فعل القبائح باختياره وإرادته، وعَدَمِ عَذْرِه، ولا يقولون: هو معذور، ولا
_________
(1) "د": "الغني".
(1/422)
________________________________________
فاعل بغير اختياره (1)، وشريعته سبحانه موافقة لفطرته في ذلك، فمن سَوّى بين الأمرين فقد خرج عن موجِب الشرع والعقل والفطرة.
التاسع: أنّ مَن أمر غيرَه بمصلحة المأمور وما هو محتاج إليه، ولا سعادة له، ولا فلاح إلا به؛ لا يقال: جبره على ذلك. وإنما يقال: نصحه وأرشده، ونفعه وهداه، ونحو ذلك. وقد لا يختار المأمورُ المنهيُّ ذلك، فيجبره الناصحُ له على ذلك مَن له ولاية الإجبار، وهذا جبر بحق، وهو جائز، بل واقع في شرع الربّ وقدره وحكمته ورحمته وإحسانه، لا نمنع هذا الجَبْر.
العاشر: أن الربّ تعالى ليس كمثله شيء في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فجَعْله العبد فاعلًا بقدرته ومشيئته واختياره أمر يختص به تبارك وتعالى، والمخلوق لا يقدر أن يجعل غيره فاعلًا إلا بإكراهه له على ذلك، فإن لم يكرهه لم يقدر على غير الدعاء والأمر بالفعل، وذلك لا يصيّر العبد فاعلًا؛ فالمخلوق هو الذي يجبر غيرَه على الفعل، ويكرهه عليه، فنسبة ذلك إلى الربّ تشبيه له في أفعاله بالمخلوق الذي لا يجعل غيرَه فاعلًا إلا بجبره له وإكراهه، فكمال قدرته تعالى، وكمال علمه، وكمال مشيئته، وكمال عدله وإحسانه، وكمال غناه، وكمال ملكه، وكمال حجته على عبده تنفي الجَبْر.
فصل
فالطوائف كلها متفقة على الكَسْب، ومختلفون في حقيقته.
_________
(1) من قوله: "وإرادته وعدم" إلى هنا ساقط من "د" انتقال نظر.
(1/423)
________________________________________
فقالت القدرية: هو إحداث العبد لفعله بقدرته ومشيئته استقلالًا، وليس للربّ صُنْع فيه، ولا هو خالق فعله، ولا مكوّنه، ولا مريد له.
وقالت الجبرية: الكَسْب اقتران الفعل بالقدرة الحادثة، من غير أن يكون لها فيه أثر.
وكلا الطائفتين فرّق بين الخَلْق والكسب، ثم اختلفوا فيما وقع به الفرق.
فقال الأشعري في عامة كتبه: معنى الكَسْب: أن يكون الفعل بقدرة مُحدَثة، فمن وقع منه الفعل بقدرة قديمة فهو فاعل خالق، ومن وقع منه بقدرة مُحدَثة فهو مُكتسِب.
وقال قائلون: من يفعل بغير آلة ولا جارحة فهو خالق، ومن يحتاج في فعله إلى الآلات والجوارح فهو مُكتسِب، وهذا قول الإسكافي وطوائف من المعتزلة.
قال (1): "واختلفوا هل يقال: إن الإنسان فاعل على الحقيقة؟
فقالت المعتزلة كلُّها إلا الناشئ (2): إن الإنسان فاعل مُحدِث ومُخْتَرِع ومنشئ على الحقيقة دون المجاز.
وقال الناشئ: الإنسان لا يفعل في الحقيقة، ولا يُحدِث في الحقيقة،
_________
(1) أي الأشعري.
(2) عبد الله بن محمد أبو العباس الناشئ الشاعر من كبار المعتزلة (293 هـ)، "تاريخ الإسلام" (6/ 966).
(1/424)
________________________________________
وكان [لا] (1) يقول: إن البارئ أحدث كسب الإنسان، قال: فلَزمَه مُحدَث لا لمُحدِث في الحقيقة، ومفعول لا لفاعل (2) في الحقيقة" (3).
قلت: وجه إلزامه ذلك أنه قد أعطى أن الإنسان غير فاعل لفعله، وفعله مُحدَث مفعول، وليس هو فعلًا لله، ولا فعلًا للعبد، فلزمه مفعول من غير فاعل.
ولعمر الله؛ إن هذا الإلزام لازم لأبي الحسن (4) وللجبرية؛ فإن عندهم الإنسان ليس بفاعل حقيقة، والفاعل هو الله، وأفعال الإنسان قائمة به لم تقم بالله، فإذا لم يكن الإنسان فاعلها مع قيامها به، فكيف يكون الله سبحانه هو فاعلها؟! ولو كان هو فاعلها لعادت أحكامها عليه، واشتُقّت له منها أسماء، وذلك ممتنع مستحيل على الله، فيلزمك أن تكون أفعالًا لا فاعل لها؛ فإن العبد ليس بفاعل عندك، ولو كان الربّ فاعلًا لها لاشتُقّت له منها أسماء، وعاد حكمها عليه.
فإن قيل: فما تقولون أنتم في هذا المقام؟
قلنا: لا نقول بواحد من القولين، بل نقول: هي أفعال للعباد حقيقة ومفعولة للرب، فالفعل عندنا غير المفعول، وهو إجماع من أهل السنة، حكاه الحسين بن مسعود البغوي وغيره (5)، فالعبد فَعَلها حقيقة، والله
_________
(1) زيادة لازمة من مصدر النقل لإقامة السياق.
(2) "م": "لا بمحدث .. لا بفاعل"، وما في النسخ الأخرى موافق للمصدر.
(3) "مقالات الإسلاميين" (539).
(4) يعني الأشعري.
(5) لم أهتد إلى موضعه في مؤلفات البغوي، وثمة نقل في "شرح السنة" (1/ 186) عن سلف الأمة قولهم في القرآن: إنه كلام الله لا خالق ولا مخلوق الخ، وقد نقل شيخ الإسلام في عدة مواضع من كتبه نحوه عن البغوي كما في "الرد على المنطقيين" (230) و"درء التعارض" (2/ 264)، والله أعلم.
(1/425)
________________________________________
خالقه، وخالق ما فعل به من القدرة والإرادة، وخالق فاعليّته.
وسر المسألة: أن العبد فاعل مُنْفَعِل باعتبارين، بل هو مُنْفَعِلُ فاعليّته، فربه تعالى هو الذي جعله فاعلًا بقدرته ومشيئته، وأقدره على الفعل، وأحدث له المشيئة التي يفعل بها.
قال الأشعري: "وكثير من أهل الإثبات يقولون: إن الإنسان فاعل في الحقيقة بمعنى: مُكْتَسِب، ويمنعون أنه مُحْدِث" (1).
قلت: هؤلاء وقفوا مع ألفاظ الكتاب والسنة، فإنهما مملوآن من نسبة الأفعال إلى العبد باسمها العام وأسمائها الخاصة، فالاسم العام كقوله تعالى: " تَعْمَلُونَ، تَفْعَلُونَ، مَا "، والأسماء الخاصة: " الَّذِينَ يُقِيمُونَ، الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ، بِهِ، وَيَخَافُونَ، يَتُوبُونَ، الْكَافِرِينَ ".
وأما لفظ الإحداث فلم يجئ إلا في الذم، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لعن الله من أحدث حَدَثًا، أو آوى مُحْدِثًا" (2)، فهذا ليس بمعنى الفعل والكسب.
وكذلك قول عبد الله بن مغفّل لابنه: "إياك والحدث في الإسلام" (3).
_________
(1) "مقالات الإسلاميين" (540).
(2) أخرجه مسلم (1978)، وأبو عوانة (7844) ـ واللفظ له ـ من حديث علي بن أبي طالب.
(3) أخرجه أحمد (20559)، والطحاوي في "شرح المعاني" (1196).
(1/426)
________________________________________
ولا يمتنع إطلاقه على فعل الخير مع التقييد، كما قال بعض السلف: "إذا أَحْدَثَ الله لك نعمة فأحْدِثْ لها شكرًا، وإذا أَحْدَثْتَ ذنبًا فأحْدِثْ له توبة" (1).
ومنه قوله: هل أَحْدَثْتَ توبة؟ وأحْدِثْ للذنب استغفارًا.
ولا يلزم من ذلك إطلاق اسم المُحدِث عليه، والإحداث على فعله.
قال الأشعري: "وبلغني أن بعضهم أطلق في الإنسان أنه مُحدِث على الحقيقة بمعنى: مُكْتَسِب" (2).
قلت: ههنا ألفاظ وهي: فاعل، وعامل، ومُكْتَسِب، وكاسب، وصانع، ومُحْدِث، وجاعل، ومؤثِّر، ومنشئ، وموجِد، وخالق، وبارئ، ومصوِّر، وقادر، ومريد.
وهذه الألفاظ ثلاثة أقسام:
قسم لم يُطلق إلا على الربّ سبحانه، كالبارئ والبديع والمبدِع.
وقسم لا يُطلق إلا على العبد، كالكاسب والمُكْتَسِب.
وقسم وقع إطلاقه على الرب والعبد، كاسم: صانع، وفاعل، وعامل، ومنشئ، ومريد، وقادر.
وأما الخالق والمصوِّر فإنِ استُعْمِلا مطلقيَن غير مقيدَين لم يُطلقا إلا على الربّ سبحانه، كقوله: {الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر: 24]، وإن
_________
(1) لم أقف عليه.
(2) "مقالات الإسلاميين" (540).
(1/427)
________________________________________
استُعْمِلا مقيّدَين أُطْلِقا على العبد، كما يقال لمن قدّر شيئًا في نفسه: إنه خلقه.
قال:
ولأنت تَفْري ما خلقتَ وبعـ ... ـض القوم يخلق ثم لا يَفْري (1)
أي: لك قدرة تمضي وتنفذ بها ما قدّرته في نفسك، وغيرك يقدّر أشياء وهو عاجز عن إنفاذها وإمضائها.
وبهذا الاعتبار صحّ إطلاق خالق على العبد في قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]، أي: أحسن المصوّرين والمقدّرين.
والعرب تقول: قدّرت الأَدِيم وخلقته إذا قسته لتقطع منه مَزَادة أو قربة ونحوها.
قال مجاهد: "يصنعون ويصنع الله، والله خير الصانعين" (2).
وقال الليث: "رجلٌ خالق، أي: صانع، وهن الخالقات: للنساء" (3).
وقال مقاتل: "يقول الله تعالى: هو أحسن خلقًا من الذين يخلقون التماثيل وغيرها، التي لا يتحرك منها شيء" (4).
وأما البارئ فلا يصح إطلاقه إلا عليه سبحانه؛ فإنه الذي برأ الخليقة وأوجدها بعد عدمها، والعبد لا تتعلق قدرته بذلك؛ إذ غاية مقدوره التصرف
_________
(1) البيت لزهير، وقد سلفت نسبته في (182).
(2) أسنده الطبري (17/ 25).
(3) انظر: "تهذيب اللغة" (7/ 25).
(4) "تفسير مقاتل" (3/ 153)، وانظر: "البسيط" (15/ 542)، والمؤلف صادر عنه في هذه النقول.
(1/428)
________________________________________
في بعض صفات ما أوجده الربُّ تعالى وبرأه، وتغييرها من حال إلى حال على وجه مخصوص لا تتعدّاه قدرته.
وليس من هذا: بريت القلم؛ لأنه معتل لا مهموز. ولا: برأت من المرض؛ لأنه فعل لازم غير متعدّ.
وكذلك مُبدِع الشيء وبديعه لا يصح إطلاقه إلا على الربِّ تعالى، كقوله: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 117]، والإبداع: إيجاد المُبدَع على غير مثال سبق، والعبد يُسمّى: مُبتدِعًا لكونه أحدث قولًا لم تمضِ به سنة، ثم يقال لمن اتبعه عليه: مُبتدِع أيضًا.
وأما لفظ المُوجِد، فلم يقع في أسمائه سبحانه، وإن كان هو المُوجِد على الحقيقة، ووقع في أسمائه الواجد، وهو بمعنى: الغني الذي له الوُجْد.
وأما المُوجِد فهو مُفْعِل من أوجد، وله معنيان:
أحدهما: أن يجعل الشيء موجودًا، وهو تعدية وَجَدَ وأوجده.
قال الجوهري: "وجد الشيء عن عدم فهو موجود، مثل حُمّ، فهو محموم. وأوجده الله، ولا يقال: وجده" (1).
والمعنى الثاني: أوجده: جعل له جِدَةً وغِنًى، وهذا يتعدّى إلى مفعولين.
قال في "الصحاح" (2): "أوجده الله مطلوبه، أي: أظفره به، وأوجده، أي: أغناه".
_________
(1) "الصحاح" (2/ 547).
(2) "الصحاح" (2/ 547).
(1/429)
________________________________________
قلت: وهذا يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون من باب حذْف أحد المفعولين، أي: أوجده مالًا وغنى.
وأن يكون من باب: صَيّره واجدًا، مثل أغناه وأفقره؛ إذا صَيّره غنيًا وفقيرًا.
فعلى التقدير الأول يكون تَعْدية: وَجَد مالًا وغنى، وأوجده الله إيّاه.
وعلى الثاني يكون تَعْدية: وَجَد وُجْدًا إذا استغنى. ومصدر هذا الوُجْد بالضم والفتح والكسر، قال تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6].
فغير ممتنع أن يُطلَق على من يفعل بالقدرة المُحدَثة أنه أوجد مقدوره؛ كما يُطلَق عليه أنه فعله وعمله وصنعه وأحدثه، لا على سبيل الاستقلال.
وكذلك لفظ المؤثِّر، لم يرد إطلاقه في أسماء الربِّ، وقد وقع إطلاق الأثر والتأثير على فعل العبد، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12].
قال ابن عباس: "ما أثروا من خير أو شر" (1).
فسمى ذلك آثارًا؛ لحصوله بتأثيرهم.
ومن العجب أن المتكلمين يمتنعون من إطلاق التأثير والمؤثِّر على من أُطلِق عليه في القرآن والسنة، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا بني سَلِمة، ديارَكم تُكتب
_________
(1) أورده في "البسيط" (18/ 460).
(1/430)
________________________________________
آثارُكم" (1)، أي: الزموا ديارَكم، ويخصّونه بمن لم يقع إطلاقه عليه في كتاب ولا سنة، وإن استُعمِل في حقه الإيثار والاستئثار، كما قال إخوة يوسف: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} [يوسف: 91].
وفي الأثر: "إذا استأثر الله بشيء فَالْهَ عنه" (2).
وقال الناظم:
استَأثَرَ اللهُ بالثَّنَاء وبالحَمْـ ... ـدِ وَوَلَّى الملامَةَ الرّجُلا (3)
ولما كان التأثير تفعيلًا من أثَّرت في كذا تأثيرًا، فأنا مُؤثِّر؛ لم يمتنع إطلاقه على العبد، قال في "الصحاح" (4): "التأثير إبقاء الأثر في الشيء".
وأما لفظ الصانع فلم يرد في أسماء الربِّ تعالى، ولا يمكن وروده (5)؛ فإن الصانع مَنْ صَنَع شيئًا، عدلًا كان أو ظلمًا، سفهًا أو حكمة، جائزًا أو غير جائز. وما انقسم مسمّاه إلى مدح وذم لم يجئ اسمه المطلق في الأسماء
_________
(1) تقدم تخريجه في (136).
(2) يروى هذا الأثر عن عمر بن الخطاب كما في "حلية الأولياء" (5/ 326)، وعن ابنه عبد الله أيضًا كما في "تاريخ دمشق" (31/ 154)، وعدّه المعافى في "الجليس" (2/ 25) من أمثال العرب.
(3) هو للأعشى في "الديوان" (233)، ولفظه ـ وهو المشهور ـ: "استأثر الله بالوفاء وبالعدل"، وفي "الحيوان" (3/ 483): "استأثر الله بالبقاء وبالحمد"، وقد أورده المصنّف على أوجه في عدد من مؤلفاته، انظر: حاشية تحقيق الإصلاحي لـ "طريق الهجرتين" (1/ 11).
(4) "الصحاح" (2/ 576).
(5) في الأصول: "ورودها" تحريف.
(1/431)
________________________________________
الحسنى، كالفاعل والعامل والصانع والمريد والمتكلم؛ لانقسام معاني هذه الأسماء إلى محمود ومذموم، بخلاف العالم والقادر والحي والسميع والبصير.
وقد سمّى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - العبدَ صانعًا.
قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، ثنا مروان بن معاوية، ثنا أبو مالك، عن رِبْعِي بن حِرَاش، عن حذيفة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يصنع كل صانع وصنعته" (1).
وقد أطلق سبحانه على فعله اسم الصُّنْع، فقال: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}، وهو منصوب على المصدر؛ لأن قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسِبُهَا جَامِدَةً وَهْيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل: 88]، يدل على الصَنْعة.
وقيل: هو نَصْبٌ على المفعولية، أي: انظروا صُنْع الله.
فعلى الأول: يكون {صُنْعَ اللَّهِ} مصدرًا بمعنى الفعل.
وعلى الثاني: يكون بمعنى المصنوع المفعول، فإنه الذي يمكن وقوع النظر والرؤية عليه.
وأما الإنشاء فإنما وقع إطلاقه عليه سبحانه فعلًا، كقوله: {وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} [الرعد: 12]، وقوله: {فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ} [المؤمنون: 19]، وقوله: {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الواقعة: 61]، وهو كثير، ولم يرد لفظ المُنشِئ.
_________
(1) تقدم تخريجه في (359).
(1/432)
________________________________________
وأما العبد فيُطلَق عليه الإنشاء باعتبار آخر، وهو شروعه في الفعل وابتداؤه له، تقول: أنشأ يحدّثنا، وأنشأ السير، فهو منشئ لذلك.
وهذا إنشاء مقيّد، وإنشاء الربّ إنشاء مطلق.
وهذه اللفظة تدور على معنى الابتداء، أنشأه الله، أي: ابتدأ خلقه، وأنشأ يفعل كذا: ابتدأ، وفلان يُنْشِئ الأحاديث، أي: يبتدئ وضعَها، والناشئ أول ما ينشأ من السحاب.
قال الجوهري: "وناشئة الليل أول ساعاته" (1).
قلت: هذا قد قاله غير واحد من السلف: إن ناشئة الليل أوله التي منها ينشأ الليل، والصحيح أنها لا تختص بالساعة الأولى، بل هي ساعاته ناشئة بعد ناشئة، كلما انقضت ساعة نشأ بعدها أخرى.
قال أبو عبيدة: "ناشئة الليل: ساعاته وآناؤه ناشئة بعد ناشئة" (2).
قال الزَّجّاج: "ناشئة الليل: كلّ ما نشأ منه، أي: حدث منه، فهو ناشئة" (3).
قال ابن قتيبة: "هي آناء الليل وساعاته، مأخوذة من نَشَأَتْ تنشأ نشْأً، أي: ابتدأت وأقبلت شيئًا بعد شيء، وأنشأها الله فنشأت" (4).
_________
(1) "الصحاح" (1/ 78).
(2) "مجاز القرآن" (2/ 273).
(3) "معاني القرآن وإعرابه" (5/ 240).
(4) "تأويل مشكل القرآن" (365).
(1/433)
________________________________________
والمعنى أن ساعات الليل الناشئة، وقول صاحب "الصحاح" منقول عن كثير من السلف.
قال علي بن الحسين: "ناشئة الليل: ما بين المغرب إلى العشاء" (1).
وهذا قول أنس، وثابت، وسعيد بن جبير، والضحّاك، والحَكَم، واختيار الكسائي، قالوا: ناشئة الليل أوله (2)، وهؤلاء راعوا معنى الأولية في الناشئة.
وفيها قول ثالث: أن الليل كله ناشئة، وهذا قول عكرمة، وأبي مِجْلَز، ومجاهد، والسُّدِّي، وابن الزبير، وابن عباس في رواية.
قال ابن أبي مُلَيْكة: سألت ابن الزبير وابن عباس عن ناشئة الليل، فقالا: الليل كلّه ناشئة (3).
فهذه أقوال من جعل ناشئة الليل زمانًا.
وأما من جعلها فعلًا ينشأ بالليل؛ فالناشئة عندهم اسم لما يُفعل بالليل
_________
(1) أسنده الثعلبي في "الكشف والبيان" (10/ 61)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4756).
(2) قولا أنس وسعيد أسندهما ابن أبي شيبة في "المصنف" (5977، 5975)، وأورد الأزهري في "تهذيب اللغة" (11/ 419) قول الضحاك ـ وفي "جامع البيان" (23/ 368) عنه ما يوافق القول الثالث ـ والحكم واختيار الكسائي، ولم أقف على نسبته لثابت، قال في "البسيط" (22/ 358) بعد حكاية القول: "وهو قول أنس. روى ثابت أنه كان يصلي ما بين المغرب والعشاء، ويقول: هي: (ناشئة الليل) "، فلعل المصنف نسب القول إلى ثابت سهوًا مع أنه هو الراوي عن أنس فحسب، والله أعلم.
(3) أقوال عكرمة وأبي مجلز ومجاهد أسندها الطبري (23/ 367)، وفي "غريب الحديث" للحربي (2/ 879) نسبته إلى السدي.
(1/434)
________________________________________
من القيام، هذا قول ابن مسعود، ومعاوية بن قُرّة، وجماعة، قالوا: ناشئة الليل: قيام الليل (1).
وقال آخرون ــ منهم عائشة ــ: إنما يكون القيام ناشئة إذا تقدمه نوم، قالت عائشة: "ناشئة الليل القيام بعد النوم" (2).
وهو قول ابن الأعرابي، قال: "إذا نمتَ من أول الليلة نومة، ثم قمتَ فتلك النشأة، ومنه ناشئة الليل" (3).
فعلى قول الأولين: "ناشئة الليل" إضافة بمعنى "من"، إضافة نوع إلى جنسه، أي: ناشئة منه.
وعلى قول هؤلاء: إضافة بمعنى "في"، أي: طاعة ناشئة فيه.
والمقصود: أن الإنشاء ابتداء، سواء تقدمه مثله كالنشأة الثانية، أو لم يتقدمه كالنشأة الأولى.
وأما الجَعْل فقد أُطلق على الله سبحانه بمعنيين:
أحدهما: الإيجاد والخلق.
والثاني: التصيير.
فالأول يتعدى إلى مفعول، كقوله: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1]،
_________
(1) قول ابن مسعود أسنده ابن أبي شيبة في "المصنف" (30592)، وقول ابن قرة نسبه إليه المروزي في "قيام الليل" ـ مختصره ـ (40).
(2) أورده الثعلبي في "الكشف والبيان" (10/ 61).
(3) أورده الواحدي في "البسيط" (22/ 359)، والمصنف مقتبس في هذا الموضع منه.
(1/435)
________________________________________
والثاني أكثر ما يتعدى إلى مفعولين، كقوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3]، وأُطلق على العبد بالمعنى الثاني خاصّة، كقوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا}، وغالب ما يُستعمل في حق العبد في جَعْل التسمية والاعتقاد، حيث لا يكون له صُنْع في المجعول، كقوله: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف: 19]، وقوله: {(58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا} [يونس: 59]، وهذا متعدٍّ إلى واحد، وهو جَعْل اعتقادٍ وتسمية.
وأما الفعل والعمل فإطلاقه على العبد كثير، {لَبِئْسَ مَا كَانُوا} [المائدة: 79]، {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 62]، {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة: 105].
وأطلقه على نفسه فعلًا واسمًا، فالأول كقوله: {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]، والثاني كقوله: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 107]، وقوله: {وَكُنَّا فَاعِلِينَ} في موضعين من كتابه: أحدهما قوله: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 79]، والثاني قوله: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكِتَابِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104].
فتأمل قوله: {كُنَّا فَاعِلِينَ} في هذين الموضعين المتضمنين للصنع العجيب الخارج عن العادة: كيف تجده كالدليل على ما أخبر به، وأنه لا يستعصي على الفاعل حقيقة، أي: شأننا الفعل، كما لا يخفى الجهر والإسرار بالقول على من شأنه العلم والخبرة، ولا تصعب المغفرة على من
(1/436)
________________________________________
شأنه أن يغفر الذنوب، ولا الرزق على من شأنه أن يرزق العباد.
وقد وقع الزَّجّاج على هذا المعنى بعينه، فقال: "و {كُنَّا فَاعِلِينَ} أي: قادرين على فعل ما نشاء" (1).
* * * *
_________
(1) "معاني القرآن وإعرابه" (3/ 400) وعبارته:" أي: وكنا نقدر على ما نريده".
(1/437)
________________________________________
الباب الثامن عشر في فَعَل وأفعلَ في القضاء والقدر والكسب، وذكر الفعل والانفعال
ينبغي الاعتناء بكشف هذا الباب، وتحقيق معناه، فبذلك ينحل عن العبد أنواع من ضلالات القدرية والجبرية، حيث لم يعطوا هذا الباب حقه من العرفان.
اعلم أن الربّ تعالى فاعلٌ غير مُنْفعِل، والعبد فاعل مُنْفعِل، وهو في فاعليّته مُنْفعِل للفاعل الذي لا ينفعل بوجه.
فالجبرية شهدت كونه مُنْفعِلًا يجري عليه الحكم بمنزلة الآلة والمحل، وجعلوا حركته بمنزلة حركات الأشجار، ولم يجعلوه فاعلًا إلا على سبيل المجاز، فقام، وقعد، وأكل، وشرب، وصلى، وصام، عندهم بمنزلة: مرض، وأَلِمَ، ومات، ونحو ذلك مما هو فيه مُنْفعِل محض.
والقدرية شهدت كونه فاعلًا محضًا غير مُنْفعِل في فعله.
وكلٌّ من الطائفتين نظر بعين عوراء، وأهل العلم والاعتدال أعطوا كلا المقامين حقه، ولم يبطلوا أحد الأمرين (1) بالآخر، فاستقام لهم نظرهم ومناظرتهم، واستقر عندهم الشرع والقدر في نصابه، وشهدوا وقوع الثواب والعقاب على من هو أولى به.
_________
(1) "م": "المقامين".
(1/438)
________________________________________
فأثْبَتوا نطق العبد حقيقة، وإنطاق الله له حقيقة، قال تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ} [فصلت: 21]، فالإنطاق فعل الله الذي لا يجوز تعطيله، والنطق فعل العبد الذي لا يمكن إنكاره.
كما قال تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 23]، فعُلِم أن كونهم ينطقون هو أمر حقيقي، حتى (1) شَبَّه به في تحقيق كونه ما أَخبر به، وأن هذا حقيقة لا مجاز.
ومن جعل إضافة نطق العبد إليه مجازًا لم يكن ناطقًا عنده حقيقة (2)، فلا يكون التشبيه بنطقه محقِّقًا لما أخبر به، فتأمله.
ونظير هذا قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم: 43]، فهو المضحك المبكي حقيقة، والعبد الضاحك الباكي حقيقة، كما قال تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} [التوبة: 82]، وقال: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ} [النجم: 59 - 60]، فلولا المُنطِق الذي أنطق، والمُضحِك والمُبكِي الذي أضحك وأبكى؛ لم يوجد ناطق ولا ضاحك ولا باك.
فإذا أحَبّ عبده أنطقه بما يحب فأثابه عليه، وإذا أبغضه أنطقه بما يكرهه فعاقبه عليه، وهو الذي أنطق هذا وهذا، وأجرى ما يحب على لسان هذا، وما يكره على لسان هذا، كما أنه أجرى على قلب هذا ما أضحكه، وعلى قلب
_________
(1) "ج": "حين".
(2) من قوله: "لا مجاز" إلى هنا ساقط من "د".
(1/439)
________________________________________
هذا ما أبكاه.
وكذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس: 22]، وقوله: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 11]، فالتسيير فعله حقيقة، والسير فعل العبد حقيقة، فالتسيير فعل محض، والسير فعل وانفعال.
ومن هذا قوله: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37]، فهو سبحانه المزوِّج ورسوله المتزوِّج.
وكذلك قوله: {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الدخان: 54]، فهو المزوِّج وهم المتزوجون.
وقد جمع سبحانه بين الأمرين في قوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، فالإزاغة فعله، والزيغ فعلهم.
فإن قيل: أنتم قررتم أنه لم يقع منهم الفعل إلا بعد فعله، وأنه لولا إنطاقه لهم وإضحاكه وإبكاؤه لما نطقوا وما ضحكوا ولا بكوا، وقد دلت هذه الآية على أن فعله بعد فعلهم، وأنه أزاغ قلوبهم بعد أن زاغوا، وهذا يدل على أن إزاغة قلوبهم هو حكمه عليها بالزيغ، لا جعْلها زائغة، وكذلك قوله: {أَنْطَقَنَا اللَّهُ} [فصلت: 21]، المراد به: جعل لنا آلة النطق، وأضحك وأبكى: جعل لهم آلة الضحك والبكاء.
قيل: أما الإزاغة المترتبة على زيغهم فهي إزاغة أخرى غير الإزاغة التي زاغوا بها أولًا؛ عقوبة لهم على زيغهم، والربّ تعالى يعاقب على السيئة بمثلها، كما يثيب على الحسنة بمثلها، فَحَدَثَ لهم منها زيغ آخر غير الزيغ الأول، فهم زاغوا أولًا فجازاهم الله بإزاغة فوق زيغهم، فأحْدَثَتْ لهم تلك
(1/440)
________________________________________
الإزاغة زيغًا فوق زيغهم.
فإن قيل: فالزيغ الأول من فعلهم، وهو مخلوق لله فيهم على غير وجه الجزاء، وإلا تسلسل الأمر.
قيل: بل الزيغ الأول وقع جزاءً لهم وعقوبة (1) على تركهم الإيمان والتصديق لمّا جاءهم الهدى (2)، وهذا الترك أمر عدمي لا يستدعي فاعلًا؛ فإن تأثير الفاعل إنما هو في الوجود لا في العدم.
فإن قيل: فهذا الترك العدمي له سبب، أو لا سبب له؟
قيل: سببه عدم سبب ضده، فبقي على العدم الأصلي.
ويشبه هذا قوله سبحانه: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: 19]، عاقبهم على نسيانهم له بأن أنساهم أنفسهم، فنسوا مصالحها أن يفعلوها، وعيوبها أن يصلحوها، وحظوظها أن يتناولوها، ومن أعظم مصالحها وأنفع حظوظها ذِكْرها لربّها وفاطرها، ومَن لا نعيم لها ولا سرور ولا فلاح ولا صلاح إلا بذكره وحبه وطاعته، والإقبال عليه، والإعراض عما سواه، فأنساهم ذلك لمّا نسوه، وأحدث لهم هذا النسيان نسيانًا آخر.
وهذا ضد حال الذين ذكروه ولم ينسوه، فذكّرهم مصالح نفوسهم ففعلوها، ووقفهم على عيوبها فأصلحوها، وعَرّفهم حظوظها العالية فبادروا إليها.
_________
(1) "د": "عقوبة لهم".
(2) "ج": "لمَا جاءهم من الهدى".
(1/441)
________________________________________
فجازى أولئك على نسيانهم بأن أنساهم الإيمان به ومحبته وذكره وشكره، فلما خلت قلوبهم من ذلك لم تجد عن ضدّه محيصًا.
وهذا يبيّن لك كمال عدله سبحانه في تقدير الكفر والذنوب عليها.
وإذا كان قضاؤه عليها بالكفر والذنوب عدلًا منه فيها؛ فقضاؤه عليها بالعقوبة أعدل وأعدل، فهو سبحانه ماضٍ في عبده حكمُه، عَدْلٌ فيه قضاؤُه، وله فيها قضاءان: قضاء السبب، وقضاء المُسبَّب، وكلاهما عدل فيه؛ فإنه لما ترك ذكره، وترك فعل ما يحبه؛ عاقبه بنسيان نفسه، فأحدث له هذا النسيان ارتكاب ما يبغضه ويسخطه بقضائه الذي هو عدل، فترتب له على هذا الفعل والترك عقوبات وآلام لم يكن له منها بُدّ، بل هي مترتبة عليه ترتب المُسبَّبات على أسبابها، فهي عدل محض من الربّ تعالى، فعَدَل في العبد أولًا وآخرًا.
وهو محسن في عدله، محبوبٌ عليه، محمود فيه، يحمده من عدل فيه طوعًا وكرهًا.
قال الحسن: "لقد دخلوا النار وإن حمده لفي قلوبهم، ما وجدوا عليه سبيلًا" (1).
وسنزيد هذا الموضع بسطًا وبيانًا في باب دخول الشر في القضاء الإلهي، إن شاء الله (2).
إذ المقصود ههنا بيان كون العبد فاعلًا مُنفعِلًا، والفرق في هذا الباب
_________
(1) لم أقف عليه، وسيورده المؤلف لاحقًا، وقد أورده في غير واحد من مصنفاته، انظر: "حادي الأرواح" (2/ 790)، "الفوائد" (237)، "روضة المحبين" (101).
(2) (2/ 81).
(1/442)
________________________________________
بين فَعَلَ وأفْعَلَ، وأن الله سبحانه أفْعَلَ، والعبد فَعَلَ، فهو الذي أقام العبد وأضله وأماته، والعبد هو الذي قام وضَلّ ومات.
وأما قولكم: إن معنى أنطقه وأضحكه وأبكاه: جَعَل له آلة ينطق بها ويضحك ويبكي؛ فإعطاؤه الآلة وحدها لا يكفي في صدق الفعل بأنه أنطقه وأضحكه، فلو أن رجلًا صمت يومًا كاملًا، فحلف حالف أن الله أنطقه؛ لكان كاذبًا حانثًا، ولو دعوت كافرَيْن إلى الإسلام، فنطق أحدهما بكلمة الشهادة، وسكت الآخر؛ لم يقل أحد قطّ: إن الله قد أنطق الساكت كما أنطق المتكلم، وكلاهما قد أُعْطِي آلة النطق، ومتعلَّق الأمر والنهي والثواب والعقاب: الفعل لا الإفعال.
فإن قيل: هل تطردون هذا في جميع أفعال العبد من كفره وزناه وسرقته، فتقولون: إن الله أفعله، وهو الذي فعل، أم تخصون ذلك ببعض الأفعال، فيظهر تناقضكم؟
قيل: ههنا أمران: أمر لغوي، وأمر معنوي، فأما اللغوي: فإن ذلك لا يطّرد في لغة العرب، لا يقولون: أزنى الله الرجل، وأسرقه وأشربه وأقتله؛ إذا جعله يزني ويسرق ويشرب ويقتل، وإن كان في لغتها: أقامه وأقعده وأنطقه وأضحكه وأبكاه وأضله، وقد يأتي هذا مضاعَفًا كفهَّمه وعلَّمه وسيَّره.
قال تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79]، فالتفهيم منه سبحانه، والفهم من نبيه سليمان، وكذلك قوله: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65]، فالتعليم منه سبحانه، وكذلك التسيير، والسير والتعلّم من العبد.
فهذا المعنى ثابت في جميع الأفعال، فهو سبحانه هو الذي جعل
(1/443)
________________________________________
العبد فاعلًا، كما قال: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئمَّةٌ يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء: 73]، {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص: 41]، فهو الذي جعل أئمة الهدى يهدون بأمره، وجعل أئمة الضلال والبدع يدعون إلى النار، فامتناع إطلاق: أكلَمه فتكلّم؛ لا يمنع من إطلاق: أنطَقه فنطَق، وكذلك امتناع إطلاق: أهداه بأمره، وأدعاه إلى النار؛ لا يمنع من إطلاق: جعله يهدي بأمره، ويدعو إلى النار.
فإن قيل: ومع ذلك كله هل تقولون: إن الله سبحانه هو الذي جعل الزانيين يزنيان، وهو الذي جمع بينهما على الفعل، وساق أحدهما إلى صاحبه؟
قيل: أصل بلاء أكثر الناس من جهة الألفاظ المجملة التي تشتمل على حق وباطل، فيطلقها من يريد حقّها، فينكرها عليه من يريد باطلها (1)، فيرد عليه من يريد حقّها.
وهذا باب إذا تأمّله الذكي الفطن رأى منه عجائب، وخلّصه من ورطات تورّط فيها أكثر الطوائف.
فالجَعْل المضاف إلى الله سبحانه يراد به: الجَعْل الذي يحبّه ويرضاه، والجَعْل الذي قدّره وقضاه، قال الله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} [المائدة: 103]، فهذا نفي لجَعْله الشرعي الديني، أي: ما شَرَع ذلك ولا أَمَر به، ولا أحبّه ورضيه.
_________
(1) بعدها في "د": "وينكرها من يريد باطلها" تكرار.
(1/444)
________________________________________
وقال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص: 41]، فهذا جَعْل كوني قدري، أي: قدّرنا ذلك وقضيناه، وجَعْل العبدِ إمامًا يدعو إلى النار أبلغ من جَعْله يزني ويسرق ويقتل.
وجَعْله أيضًا كذلك لفظ مجمل يراد به: أنه جبره على ذلك، وأكرهه عليه، واضطره إليه، وهذا محال في حق الربّ تعالى، وكمالُهُ المقدّس يأبى ذلك، وصفاتُ كماله تمنع منه كما تقدم. ويراد به: أنه مكّنه من ذلك، وأقدره عليه من غير أن يضطره إليه، ولا أكرهه، ولا أجبره؛ فهذا حق.
فإن قيل: هذا كله عدول عن المقصود، فمَن أحدث معصيته (1)، وأوجدها وأبرزها من العدم إلى الوجود؟
قيل: الفاعل لها هو الذي أوجدها وأحدثها، وأبرزها من العدم إلى الوجود بإقدار الله له على ذلك، وتمكينه منه من غير إلجاء له، ولا اضطرار منه له إلى فعلها.
فإن قيل: فمن الذي خلقها إذًا؟
قيل لكم: ومن الذي فعلها؟
فإن قلتم: الربّ تعالى هو الفاعل للفسوق والعصيان؛ أكذبكم العقل والفطرة، وكُتُب الله المنزّلة، وإجماع رسله، وإثبات حمده، وصفات كماله؛ فإنّ فعْله سبحانه كله خير، وتعالى أن يفعل شرًّا بوجه من الوجوه، فالشر ليس إليه (2)، والخير هو الذي إليه، فلا يفعل إلا خيرًا، ولا يريد إلا خيرًا، ولا
_________
(1) "د": "مصيبة" دون إعجام.
(2) "د": "قال: وليس" تحريف.
(1/445)
________________________________________
يشاء إلا خيرًا، ولو شاء لفعل غير ذلك، ولكنه تعالى منزّه عن فعل ما لا ينبغي وإرادته ومشيئته، كما هو منزّه عن الوصف به، والتسمية باسمه (1).
وإن قلتم: العبد هو الذي فعلها بما خلق فيه من الإرادة والمشيئة (2).
قيل: فالله سبحانه خالق أفعال العباد كلها بهذا الاعتبار.
ولو سلك الجبري مع القدري هذا المسلك لاستراح معه وأراحه، وكذلك القدري معه، ولكن انحرف الفريقان عن سواء السبيل.
سارت مُشرِّقة وسرتُ مغرّبًا ... شتّان بين مُشرِّق ومُغرِّب (3)
فإن قيل: فهل يمكنه الامتناع منها، وقد خُلِقت فيه نفسُها أو أسبابُها الموجِبة لها، وخَلْق السبب الموجِب خَلْق لمُسبَّبه وموجَبه؟
قيل: هذا السؤال يورد على وجهين:
أحدهما: أن يراد به أنه يصير مضطرًّا إليها، مُلْجَأً إلى فعلها بخَلْقها أو خَلْق أسبابها فيه، بحيث لا يبقى له اختيار في نفسه ولا إرادة، وتبقى حركته
_________
(1) "ج": "والتسمية به".
(2) جملة: "وإن قلتم" إلى هنا ساقط من "د".
(3) البيت ثاني ثلاثة دون نسبة في "البصائر والذخائر" (8/ 178)، وصدره: "بكرَتْ مشرّقة ورحتُ مغرّبًا"، واستشهد بعجزه في "الصحاح" (4/ 1501)، وقد كان أبو إسحاق الشيرازي (476 هـ) يتمثّل به إذا ناظر فذُكِر له سؤال لا يتعلّق بدليله، كما رواه عبد الخالق بن أسد في "المعجم" (342)، ومثله في "فتاوى ابن الصلاح" (125).
ووقع في "م" و"ج": "وسار مغرّبًا".
(1/446)
________________________________________
قسرية لا إرادية.
والثاني: أنه هل لاختياره وإرادته وقدرته تأثير فيها، أو التأثير لقدرة الربِّ ومشيئته فقط، وذلك هو السبب الموجِب للفعل؟
فإن أوردتموه على الوجه الأول فجوابه: أنه يمكنه أن يفعل، وأن لا يفعل، ولا يصير مضطرًّا مُلْجَأً بخَلْقها فيه، ولا بخَلْق أسبابها ودواعيها؛ فإنها إنما خُلِقت فيه على وجه يمكنه فعلها وتركها، فلو لم يمكنه الترك لزم اجتماع النقيضين، وأن يكون مريدًا غير مريد، فاعلًا غير فاعل، مُلْجَأً غير مُلْجَأ.
وإن أوردتموه على الوجه الثاني فجوابه: أن لإرادته واختياره وقدرته أثرًا فيها، وهي السبب الذي خلقها الله به في العبد، فقولكم: "إنه لا يمكنه الترك" مع الاعتراف بكونه متمكّنًا من الفعل= جمع بين النقيضين؛ فإنه إذا تمكّن من الفعل كان الفعل اختياريًّا: إن شاء فعله، وإن شاء لم يفعله، فكيف يصح أن يقال: لا يمكنه ترك الفعل الاختياري الممكِن، هذا خُلْف من القول، وحقيقة الأمر أنه يمكنه الترك لو أراده، لكنه لا يريده، فصار لازمًا بالإرادة الجازمة.
فإن قيل: فهذا يكفي في كونه مجبورًا عليه.
قيل: بل هذا من أدلّ شيء على بطلان الجَبْر؛ فإنه إنما لزم بإرادته المنافية للجبر، ولو كان وجوب الفعل بالإرادة يقتضي الجَبْر لكان الربُّ تعالى وتقدّس مجبورًا على أفعاله؛ لوجوبها بإرادته ومشيئته، وذلك محال.
فإن قيل: الفرق أن إرادة الربّ تعالى من نفسه، لم يَجْعلْهُ غيرُهُ مريدًا،
(1/447)
________________________________________
والعبد إرادته من ربّه، إذ هي مخلوقة له، فإنه هو الذي جعله مريدًا.
قيل: هذا موضع اضطرب فيه الناس، فسلكت فيه القدرية واديًا، وسلكت الجبرية واديًا.
فقالت القدرية: العبد هو الذي يُحدِث إرادته، وليست مخلوقة لله، والله مكّنه من إحداث إرادته بأن خلقه كذلك.
وقالت الجبرية: بل الله تعالى هو الذي يُحدِث إرادات العبد شيئًا بعد شيء، وإحداث الإرادات فيه كإحداث لونه وطوله وقصره وسواده وبياضه، مما لا صنع له فيه البتّة، فلو أراد أن لا يريد لمَا أمكنه ذلك، وكان كما لو أراد أن يكون طوله وقصره ولونه على غير ما هو عليه، فهو مضطر إلى الإرادة، وكل إرادة من إراداته فهي متوقفة على مشيئة الربّ تعالى لها بخصوصها، فهي مرادة له سبحانه، كما هي معلومة مقدورة، فلزمهم القول بالجبر من هذه الجهة، ومن جهة نفيهم (1) أن يكون لإرادة العبد وقدرته أثر في الفعل.
فإن قيل: فأي وادٍ تسلكونه غير هذين الواديين، وأي طريق تمرون فيها (2) سوى هذين الطريقين؟
قيل: نعم، ههنا طريق ثالثة لم يسلكها الفريقان، ولم تهتدِ إليها الطائفتان، ولو حكّمتْ كل طائفة ما معها من الحق، والتزمت لوازمه وطردته؛ لساقها إلى هذه الطريق، ولأوقعها على المحجّة المستقيمة.
فنقول وبالله التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة
_________
(1) "د": "منعهم"، ويشبه أن تكون في "م": "قضيتهم"! والمثبت من "ج".
(2) "م": "تسلكونها سوى هاتين".
(1/448)
________________________________________
إلا بالله:
العبد بجملته مخلوق لله جسمه وروحه وصفاته وأفعاله وأحواله، فهو مخلوق من جميع الوجوه، وخُلِق على نشأة وصفة يتمكّن بها من إحداث إراداته وأفعاله، وتلك النشأة بمشيئة الله وقدرته وتكوينه، فهو الذي خلقه وكوّنه كذلك، وهو لم يجعل نفسه كذلك، بل خالقه وبارئه جعله مُحدِثًا لإراداته وأفعاله، وبذلك أمره ونهاه، وأقام عليه حجته، وعرَّضه للثواب والعقاب، فأمَرَه بما هو متمكّن من إحداثه، ونهاه عما هو متمكّن من تركه، ورتّب ثوابه وعقابه على هذه الأفعال والتروك التي مكّنه منها، وأقدره عليها، وناطها به، وفطر خلقه على مدحه وذمّه عليها، مؤمنهم وكافرهم، المقرّ بالشرائع منهم والجاحد بها، فكان مريدًا شائيًا بمشيئة الله له، ولولا مشيئة الله أن يكون شائيًا لكان أعجز وأضعف من أن يجعل نفسه شائيًا (1).
فالربُّ تعالى أعطاه مشيئة وقدرة وإرادة، وعَرَّفه ما ينفعه وما يضره، وأمره أن يجري مشيئته وإرادته وقدرته في الطريق التي يصل بها إلى غاية صلاحه، فأجراها في طريق هلاكه، بمنزلة من أعطى عبده فرسًا يركبها، وأوقفه على طريقي نجاة وهلكة، وقال: أَجْرِها في هذه الطريق. فعدل بها إلى الطريق الأخرى، وأجراها فيها، فغلبته بقوة رأسها، وشدة سيرها، وعزّ عليه ردّها عن جهة جريها، وحيل بينه وبين إدارتها إلى ورائها، مع اختيارها وإرادتها.
فلو قلت: كان ردّها عن طريقها ممكنًا له مقدورًا؛ أصبت.
_________
(1) من قوله: "بمشيئة الله له" إلى هنا ساقط من "م".
(1/449)
________________________________________
وإن قلت: لم يبقَ في هذه الحال بيده من أمرها شيء، ولا هو متمكن منه؛ أصبت، بل قد حال بينه وبين ردها مَنْ يحول بين المرء وقلبه، ومن يقلب أفئدة المعاندين وأبصارهم.
وإذا أردت فهم هذا على الحقيقة فتأمل حال من عرضت له صورة بارعة الجمال، فدعاه حسنُها إلى محبتها، فنهاه عقله، وذكّره ما في ذلك من التلف والعطب، وأراه مصارع العشاق عن يمينه وعن شماله، ومن بين يديه ومن خلفه، فعاد يعاود النظر مرة بعد مرة، ويحث نفسه على التعلق وقوة الإرادة، ويحرض على أسباب المحبة، ويدني الوقود من النار، حتى إذا اشتعلت، وشبّ ضرامها، ورمت بشررها، وقد أحاطت به= طلب الخلاص، قال له القلب: هيهات لات حين مناص، وأنشده:
تولَّعَ بالعشق حتى عشقْ ... فلما استقلّ به لم يطِقْ
رأى لجّةً، ظنَّها موجة ... فلما تمكّن منها غرِقْ (1)
فكان الترك أولًا مقدورًا له، لمّا لم يوجد السبب التام والإرادة الجازمة الموجِبة للفعل، فلمّا تمكّن الداعي، واستحكمت الإرادة، قال المحب لعاذله:
يا عاذلي والأمر في يده ... هلّا عذلتَ وفي يدي الأمر (2)
فكان أول الأمر إرادة واختيارًا ومحبّة، ووسطه اضطرارًا، وآخره عقوبة
_________
(1) سلف توثيق البيتين في (295).
(2) هو في "ديوان الصبابة" (34) دون نسبة، واستشهد به المصنف في "إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان" (40)، وفي "روضة المحبين" (223).
(1/450)
________________________________________
وبلاء.
ومُثِّلَ هذا برجل ركب فرسًا لا يملكه راكبه، ولا يتمكّن من رده، وأجراه في طريق ينتهي به إلى موضع هلاك، فكان الأمر إليه قبل ركوبها، فلما توسطت به الميدان خرج الأمر عن يده، فلما وصلت به إلى الغاية حصل على الهلاك.
ويشبه هذا حال السكران الذي قد زال عقله إذا جَنَى في حال سكره؛ لم يكن معذورًا؛ لتعاطيه السبب اختيارًا، فلم يكن معذورًا بما ترتب عليه اضطرارًا.
وهذا مأخذ من أوقع طلاقه من الأئمة، ولهذا قالوا: إذا زال عقله بسبب يعذر فيه لم يقع طلاقه، فجعلوا وقوع الطلاق عليه من تمام عقوبته.
والذين لم يوقعوا الطلاق قولهم أفقه، كما أفتى به عثمان بن عفان (1)، ولم يعلم له في الصحابة مخالف.
ورجع إليه الإمام أحمد، واستقر عليه قوله (2).
فإن الطلاق ما كان عن وَطَر، والسكران لا وَطَر له في الطلاق.
وقد حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدم وقوع الطلاق في حال الغَلْق (3)، والسُّكْر من
_________
(1) أخرجه عبد الرزاق (12308)، وابن أبي شيبة (18275)، وقد ناقش ابن عبد البر في "الاستذكار" (18/ 163) دعوى عدم وجود مخالف من الصحابة لعثمان.
(2) انظر: "مسائل أحمد وإسحاق" (9/ 4647)، "إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان" (26 - 27)، "الإنصاف" (8/ 433).
(3) الغَلْق اسم الإغلاق، وهو الإكراه، كأنه إذا ضُيّق على الزوج فاضطر إلى تطليق امرأته فقد أُغلق عليه باب المخرج، فوضع الإغلاق موضع الإكراه. يُنظر: "الصحاح" (4/ 1538)، "الزاهر" (149).
والحديث أخرجه أحمد (26360)، وأبو داود (2193)، وابن ماجه (2046)، من طرق عن عائشة ترفعه: "لا طلاق، ولا عتاق في إغلاق"، وفي إسناده محمد بن عبيد بن أبي صالح، ضعفه أبو حاتم كما في "الجرح والتعديل" (8/ 10)، وانظر: "البدر المنير" (8/ 84 - 86).
(1/451)
________________________________________
الغَلْق كما أن الإكراه والجنون من الغَلْق.
بل قد نصَّ الإمام أحمد (1) وأبو عبيد (2) وأبو داود (3) على أن الغضب إغلاق، وفسَّرَ به الإمام أحمد الحديث في رواية أبي طالب (4)، وهذا يدل على أن مذهبه أن طلاق الغضبان لا يقع.
وهذا هو الصحيح الذي يُفْتَى به إذا كان الغضب شديدًا، قد أَغْلَق عليه قصده، فإنه يصير بمنزلة السكران والمكره، بل قد يكونان أحسن حالًا منه؛ فإن العبد في حال شدة غضبه يصدر منه ما لا يصدر من السكران من الأقوال والأفعال، وقد أخبر الله سبحانه أنه لا يجيب دعاءه على نفسه وولده في هذه الحال، ولو أجابه لقضي إليه أجله.
وقد عذر سبحانه من اشتد به الفرح بوجود راحلته في الأرض المهلكة
_________
(1) نقله المصنف وغيره من رواية حنبل عنه، كما في "إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان" (6)، و"زاد المعاد" (5/ 195)، و"الفروع" (9/ 11).
(2) وكذلك نسبه إليه في "الصواعق" (2/ 563)، وفي "المغني" (10/ 351)، و"زاد المعاد" (5/ 195) تنصيص أبي عبيد على أن الإغلاق هو الإكراه.
(3) عقب تخريجه الحديث (2193)، بقوله: "أظنه الغضب".
(4) المشهور الذي حكاه المصنف في كتبه الأخرى وحكاه غيره أنها من رواية حنبل.
(1/452)
________________________________________
بعدما يئس منها، فقال من شدة الفرح: "اللهم أنت عبدي وأنا ربك" (1)، ولم يجعله بذلك كافرًا؛ لأنه أخطأ بهذا القول من شدة الفرح.
فكمال رحمته وإحسانه وجوده يقتضي أن لا يؤاخذ من اشتد غضبه بدعائه على نفسه وأهله وولده، ولا بطلاقه لزوجته.
وأما إذا زال عقله بالغضب فلم يعقل ما يقول؛ فإن الأمة متفقة على أنه لا يقع طلاقه ولا عتقه، ولا يكفر بما يجري على لسانه من كلمة الكفر.
* * * *
_________
(1) تقدم تخريجه في (380).
(1/453)
________________________________________
الباب التاسع عشر في ذِكْر مناظرة جرت بين جبريّ وسنّي جمعهما مجلس مذاكرة
قال الجبري: القول بالجبر لازم لصحة التوحيد، ولا يستقيم التوحيد إلا به؛ لأنا إن لم نقل بالجبر أثبتنا فاعلًا للحوادث مع الله، إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل، وهذا شرك ظاهر لا يُخلّص منه إلا القول بالجبر.
قال السني: بل القول بالجبر منافٍ للتوحيد، ومع منافاته للتوحيد فهو مناف للشرائع، ودعوة الرسل، والثواب والعقاب، فلو صحّ الجَبْر لبطلت الشرائع، وبطل الأمر والنهي، ويلزم من بطلان ذلك بطلان الثواب والعقاب.
قال الجبري: ليس العجب دعواك منافاة الجَبْر للأمر والنهي، والثواب والعقاب؛ فإن هذا لم يزل يُقال، وإنما العجب دعواك منافاته للتوحيد، وهو من أقوى أدلة التوحيد، فكيف يكون المُقرِّر للشيء، المُقوّي له منافيًا له؟!
قال السني: منافاته للتوحيد من أظهر الأمور، ولعلها أظهر من منافاته للأمر والنهي، وبيان ذلك أن أصل عقد التوحيد وأساسه هو شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، والجبر ينافي الكلمتين؛ فإن الإله هو المستحق لصفات الكمال، المنعوت بنعوت الجلال، وهو الذي تألهه القلوب، وتصمد إليه بالحب والخوف والرجاء، فالتوحيد الذي جاءت به الرسل هو إفراد الربّ بالتألّه، الذي هو كمال الذلّ والخضوع والانقياد له، مع كمال المحبة والإنابة، وبذل الجهد في طاعته ومرضاته، وإيثار محابّه ومراده الديني على محبة العبد ومراده، فهذا أصل دعوة الرسل، وإليه دعوا
(1/454)
________________________________________
الأمم، وهو التوحيد الذي لا يقبل الله من أحد دينًا سواه، لا من الأولين ولا من الآخرين، وهو الذي أمر به رسله، وأنزل به كتبه، ودعا إليه عباده، ووضع لهم دار الثواب والعقاب لأجله، وشرع الشرائع لتكميله وتحصيله.
وكان من قولك أيها الجبري: إن العبد لا قدرة له على هذا البتّة، ولا أثر له فيه، ولا هو فعله، وأمْره بهذا أمْر له بما لا يطيق، بل أمْر له بإيجاد فعل الربِّ، وأن الربّ تعالى أَمَرَه بذلك، وأجبره على ضده، وحال بينه وبين ما أَمَرَه به، ومنعه منه، وصدّه عنه، ولم يجعل له إليه سبيلًا بوجه من الوجوه.
مع قولك: إنه لا يُحِبّ، ولا يُحَبّ، فلا تتألّهه القلوب بالمحبّة والودّ والشوق والطلب وإرادة وجهه، والتوحيد معنى ينتظم من إثبات الإلهية وإثبات العبودية، فرفَعْتَ معنى الإلهية بإنكار كونه محبوبًا مودودًا، تتنافس القلوب في محبته وإرادة وجهه، والشوق إلى لقائه، ورفَعْتَ حقيقة العبودية بإنكارك كون العبد فاعلًا وعابدًا ومحِبًّا، فإن هذا كله مجاز لا حقيقة له عندك.
فضاع التوحيد بين الجَبْر وإنكار محبته وإرادة وجهه، لاسيما والوصف الذي وصفتَه به منفّرٌ للقلوب عنه، حائل بينها وبين محبته؛ فإنك وصفته بأنه يأمر عبده بما لا قدرة له على فعله، وينهاه عما لا يقدر على تركه، بل يأمره بفعله هو سبحانه، وينهاه عن فعله هو، ثم يعاقبه أشد العقوبة على ما لم يفعله البتّة، بل يعاقبه على أفعاله هو سبحانه.
وصرّحتَ بأن عقوبته على ترك ما أمره، وفعل ما نهاه بمنزلة عقوبته له على ترك طيرانه إلى السماء، وترك تحويله الجبال عن أماكنها، ونقله مياه البحار عن مواضعها، وبمنزلة عقوبته له على ما لا صنع له فيه من لونه
(1/455)
________________________________________
وطوله وقصره.
وصرّحتَ بأنه يجوز عليه أن يعذب أشدّ العذاب من (1) لم يعصه طرفة عين، وأن حكمته ورحمته لا تمنع ذلك، بل هو جائز عليه، ولولا خبره عن نفسه بأنه لا يفعل ذلك لم تنزّهه عنه.
وقلتَ: إنّ تكليفه عبادَه بما كلفهم به بمنزلة تكليف الأعمى للكتابة، والزَّمِن للطيران!
فبغّضتَ الربَّ إلى من دعوته إلى هذا الاعتقاد، ونفّرتَه عنه، وزعمتَ أنك تقرر بذلك توحيده، وقد قلعتَ شجرة التوحيد من أصلها.
وأما منافاة الجَبْر للشرائع فأمر ظاهر لا خفاء به؛ فإنّ مبنى الشرائع على الأمر والنهي، وأمر الآمر لغيره بفعل نفسه لا بفعل المأمور، ونهيه عن فعله لا فعل المنهي= عبثٌ ظاهر؛ فإن متعلّق الأمر والنهي فعل العبد وطاعته ومعصيته، فمن لا فعل له كيف يتصور أن يوصف بطاعة أو معصية؟!
وإذا ارتفعت حقيقة الطاعة والمعصية ارتفعت حقيقة الثواب والعقاب، وكان ما يفعله الله بعباده يوم القيامة من النعيم والعذاب أحكامًا جارية عليهم بمحض المشيئة والقدرة، لا أنها بأسباب طاعاتهم ومعاصيهم.
بل ههنا أمر آخر، وهو أن الجَبْر منافٍ للخَلْق كما هو مناف للأمر؛ فإن الله سبحانه له الخَلْق والأمر، وما قامت السماوات والأرض إلا بعدله، فالخَلْق قام بعدله، وبعدله ظهر، كما أن الأمر بعدله، وبعدله وُجِد، فالعدل سبب وجود الخَلْق، والأمر غايته، فهو علّته الفاعلية والغائية، والجبر لا
_________
(1) في الأصول: "لمن"، والصواب المثبت.
(1/456)
________________________________________
يجامع العدل كما لا يجامع الشرع والتوحيد.
قال الجبري: لقد نطقتَ أيها السني بعظيم، وفهْتَ بكبير، وناقضتَ بين متوافقَيْن، وخالفتَ بين متلازمَيْن؛ فإن أدلة العقول، والشرع المنقول، قائمة على الجَبْر، وما دلّ عليه العقل والنقل كيف ينافي موجب الشرع والعقل؟!
فاسمع الآن الدليل الباهر، والبرهان القاهر على الجَبْر، ثم نتبعه بأمثاله (1)، فنقول:
صدور الفعل عند حصول القدرة والداعي: إما أن يكون واجبًا أو لا يكون واجبًا، فإن كان واجبًا كان فعل العبد اضطراريًا، وذلك عين الجَبْر؛ لأن حصول القدرة والداعي ليس للعبد (2)، وإلا لزم التسلسل، وهو ظاهر. وإذا كان كذلك فعند حصولهما يكون الفعل واجبًا، وعند عدم حصولهما يكون الفعل ممتنعًا، فكان (3) الجَبْر لازمًا لا محالة.
وأما إن لم يكن حصول الفعل عند حصول القدرة والداعي واجبًا: فإما أن يتوقف رجحان الفعل على رجحان الترك على مرجِّح، أو لا يتوقف، فإن توقف كان حصول ذلك الفعل عند حصول المرجِّح واجبًا، وإلا عاد الكلام، ولزم التسلسل، وإذا كان واجبًا كان اضطراريًا، وهو عين الجَبْر، وإن لم يتوقف على مرجِّح كان جائز الوقوع وجائز العدم، فوقوعه بغير مرجِّح يستلزم حصول الأثر بلا مؤثِّر، وذلك محال.
_________
(1) "د" "ج": "بأمثال"، والمثبت من "م".
(2) "د" "ج": "بالعبد"، والمثبت من "م".
(3) "د" "م": "وكان"، والمثبت من "ج".
(1/457)
________________________________________
فإن قلتَ: المرجِّح هو إرادة العبد.
قلتُ لك: إرادة العبد حادثة، والكلام في حدوثها كالكلام في حدوث المراد بها، ويلزم التسلسل.
قال السني: هذا أحدّ سهم في كنانتك، وهو بحمد الله سهم لا ريش له ولا نصل مع عوجه، وعدم استقامته، وأنا أستفسرك عما في هذه الحجة من الألفاظ المجملة المشتملة على حق وباطل، وأبين لك فسادها.
فما تعني بقولك: إن كان الفعل عند القدرة والداعي واجبًا كان فعل العبد اضطراريًا، وهو عين الجَبْر؟
أتعني به: أنه يكون مع القدرة والداعي بمنزلة حركة المرتعش، وحركة من نفضته الحمّى، وحركة من رُمِي به من مكان عالٍ، فهو يتحرك في نزوله اضطرارًا منه؟ أم تعني به: أن الفعل عند اجتماع القدرة والداعي يكون لازم الوقوع بالقدرة والداعي؟
فإن أردتَ بكونه اضطراريًا المعنى الأول: كذبتك العقول والفطر والحسّ والعيان؛ فإن الله فطر عباده على التفريق بين حركة مَن رُمِي به من شاهق، فهو يتحرك إلى أسفل، وبين حركة مَن يرقى في الجبل إلى علوه، وبين حركة المرتعش، وحركة المصفّق، وبين حركة الزاني والسارق والمجاهد والمصلي، وحركة المكتوف الذي قد أوثق رباطًا وجُرّ على الأرض. فمن سوَّى بين الحركتين فقد خلع ربقة العقل والفطرة والشِّرْعة من عنقه.
وإن أردتَ المعنى الثاني، وهو كون الفعل لازم الوجود عند وجود
(1/458)
________________________________________
القدرة والداعي: فهذا المعنى حق، ويكون حقيقة قولك: إن كان لازم الوجود عند القدرة والداعي كان لازم الوجود، وهذا لا فائدة فيه، وكونه لازمًا وواجبًا بهذا المعنى لا ينافي كونه مختارًا للعبد، مرادًا له، مقدورًا له، غير مُكْرَه عليه ولا مجبور، فهذا الوجوب واللزوم لا ينافي الاختيار.
ثم نقول: لو صحَّت هذه الحجة لزم أن يكون الربّ سبحانه مضطرًا على أفعاله، مجبورًا عليها بعين ما ذكرتَ من مقدماتها؛ فإنه سبحانه يفعل بقدرته ومشيئته، وما ذكرتَ من وجوب الفعل عند القدرة والداعي، وامتناعه عند عدمهما؛ ثابت في حقه سبحانه.
وقد اعترف أصحابك بهذا الإلزام، وأجابوا عنه بما لا يجدي شيئًا.
قال ابن الخطيب (1) عقيب ذكر هذه الشبهة: فإن قلتَ: هذا ينفي كونه فاعلًا مختارًا؟
قلتُ: الفرق أن إرادة العبد مُحْدَثة، فافتقرت إلى إرادة يحدثها الله؛ دفعًا للتسلسل، وإرادة البارئ قديمة، فلم تفتقر إلى إرادة أخرى (2).
وردَّ هذا الفرق صاحب "التحصيل" (3)، فقال: ولقائل أن يقول: هذا لا
_________
(1) هو الفخر الرازي، ويقال له أيضًا: ابن خطيب الري، انظر: "تاريخ الإسلام" (13/ 137).
(2) بنحوه في: "الأربعين" (1/ 323)، "المطالب العالية" (9/ 27).
(3) هو سراج الدين محمود بن أبي بكر الأرموي (682 هـ)، و"التحصيل" مختصر من "المحصول" للرازي، انظر: "طبقات الشافعية الكبرى" (8/ 371)، ولم أقف على موضع هذا الاعتراض من كلام الأرموي، وممن رد التقسيم المذكور القرافي في "نفائس الأصول في شرح المحصول" (1/ 358).
(1/459)
________________________________________
يدفع التقسيم المذكور.
قلت: فإن التقسيم متردّد بين لزوم الفعل عند الداعي وامتناعه عند عدمه، وهذا التقسيم ثابت في حق الغائب والشاهد، وكون إرادة الربِّ تعالى قديمة من لوازم ذاته لا فاعل لها= لا يمنع هذا الترديد والتقسيم؛ فإن عند تعلقها بالمراد يلزم وقوعه، وعند عدم تعلقها به يمتنع وقوعه، وهذا اللزوم والامتناع لا يخرجه سبحانه عن كونه فاعلًا مختارًا (1).
ثم نقول: هذا المعنى لا يسمّى جبرًا ولا اضطرارًا؛ فإن حقيقة الجَبْر ما حصل بإكراه غير الفاعل له على الفعل، وحمله على إيقاعه بغير رضاه واختياره، والربّ تعالى هو الخالق للإرادة والمحبة والرضا في قلب العبد، فلا يسمّى ذلك جبرًا، لا لغة ولا عقلًا ولا شرعًا.
ومن العجب احتجاجك بالقدرة المُحْدَثة والداعي على أن الفعل الواقع بهما اضطراري من العبد، والفعل عندك لم يقع بهما، ولا هو فِعْل للعبد بوجه، وإنما هو عين فعل الله، وذلك لا يتوقف على قدرة من العبد ولا داع منه، ولا هناك ترجيح له عند وجودهما، ولا عدم ترجيح عند عدمهما، بل نسبة الفعل إلى القدرة والداعي كنسبته إلى عدمهما، فالفعل عندك عين (2) فعل الله، فلا ترجيح هناك من العبد ولا مرجِّح، ولا تأثير ولا أثر، فالفعل للربِّ حقيقة عندك، فإذا كان واجبًا بقدرته ومشيئته ـ وذلك عين الجَبْر ـ لزمك أن يكون الربّ تعالى مجبورًا على أفعاله، وهذا مما لا محيد
_________
(1) انظر: "شرح الأصول الخمسة" (415، 422 - 431).
(2) "د" "م" "ج": "غير" خطأ مفسد للمعنى، والتصويب من "ت".
(1/460)
________________________________________
لك عنه، ولا مفرّ لك منه.
قال السني: وقد أجابك إخوانك من القدرية عن هذه الحجة بأجوبة أخرى.
فقال أبو هاشم وأصحابه: لا يتوقف فعل القادر على الداعي، بل يكفي في فعله مجرد قدرته.
قالوا: فقولك: عند حصول الداعي: إما أن يجب الفعل أو لا يجب؟ عندنا لا يجب الفعل بالداعي، ولا يتوقف عليه (1).
ولا يمكنك ــ أيها الجبري ــ الرد على هؤلاء؛ فإن الداعي عندك لا تأثير له في الفعل البتّة، ولا هو متوقف عليه، ولا على القدرة؛ فإن القدرة الحادثة عندك لا تؤثر في مقدورها، فكيف يؤثر الداعي في الفعل، فهذه الحجة لا تتوجه على أصولك البتّة، وغايتها إلزام خصومك بها على أصولهم.
وقال أبو الحسين البصري وأصحابه: يتوقف الفعل على الداعي.
ثم قال أبو الحسين: إذا تجرد الداعي وجب وقوع الفعل، ولا يخرج بهذا الوجوب عن كونه اختياريًا.
وقال محمود الخوارزمي صاحبه: لا ينتهي بهذا الداعي إلى حَدِّ الوجوب، بل يكون وجوده أولى (2). ه
_________
(1) ناقش القاضي هذه المسألة في عدة فصول من الجزء الخاص بالمخلوق في كتابه "المغني في أبواب التوحيد والعدل" (8/ 53، 63)، ونقل عن أبي هاشم جملة نقول.
(2) حكى هذه الأقوال الرازي في "الأربعين" (319 - 320)، وانظر: "منهاج السنة" (3/ 248 - 251)، "مجموع الفتاوى" (16/ 380).
(1/461)
________________________________________
قالوا: فنجيبك عن هذه الشبهة على الرأيين جميعًا.
أما على رأي أبي هاشم فنقول: صدور إحدى الحركتين عنه دون الأخرى لا يحتاج إلى مرجِّح، بل من شأن القادر أن يوقع الفعل من غير مرجِّح لجانب وجود على عدمه.
قالوا: ولا استبعاد في العقل في وجود مخلوق يتمكن من الفعل بدلًا عن الترك، وبالضدّ من غير مرجِّح، كما أن النائم والساهي يتحركان من غير داع وإرادة.
فإن قلتم: بل هناك داعٍ وإرادة لا يذكرها النائم والناسي؛ كان ذلك مكابرة.
قلت: وأصحاب هذا القول يقولون: إن القادر هو الذي يفعل مع جواز أن لا يفعل، وأصحاب القول الأول يقولون: بل يفعل مع وجوب أن يفعل، ومحمود الخوارزمي توسط بين المذهبين، وقال: بل يفعل مع أولوية أن يفعل، ولا ينتهي الترجيح إلى حَدّ الوجوب، فالأقوال خمسة:
أحدها: أن الفعل موقوف على الداعي، فإذا انضمت القدرة إليه وجب الفعل بمجموع الأمرين، وهذا قول جمهور العقلاء، ولم يصنع ابن الخطيب شيئًا في نسبته له إلى الفلاسفة وأبي الحسين البصري من المعتزلة (1).
الثاني: أن الفعل يجب بقدرة الله، وقدرة العبد، وهذا قول
_________
(1) "الأربعين" (319).
(1/462)
________________________________________
من يقول: إن قدرة العبد مؤثرة في مقدوره مع قدرة الله على عين مقدور العبد، وهذا قول أبي إسحاق (1)، واختيار الجويني في "النظامية" (2).
الثالث: قول من يقول: يجب بقدرة الله فقط، وهذا قول الأشعري، والقاضي أبي بكر، ثم اختلفا (3).
فقال القاضي: كونه فعلًا واقع بقدرة الله، وكونه صلاة أو حجًا أو زنًا أو سرقة واقع بقدرة العبد، فتأثير قدرة الله في ذات الفعل، وتأثير قدرة العبد في صفة الفعل.
وقال الأشعري: أصل الفعل ووصفه واقعان بقدرة الله، ولا تأثير لقدرة العبد في هذا ولا هذا.
الرابع: قول مَن يقول: لا يجب الفعل من القادر البتّة، بل القادر هو الذي يفعل مع جواز أن لا يفعل، فلا ينتهي فعل القادر المختار إلى الوجوب أصلًا، وهذا قول أبي هاشم وأصحابه.
الخامس: أنه يكون عند الداعي أولى بالوقوع، ولا ينتهي إلى حدّ الوجوب، وهذا قول الخوارزمي.
وقد سلّم أبو الحسين أن الفعل يجب مع الداعي، وسلّم أن الداعي مخلوق لله، وقال: إن العبد مستقل بإيجاد فعله، قال: والعلم بذلك ضروري.
_________
(1) هو الإسفراييني، وتحرفت في "د" و"م" إلى: "ابن إسحاق"، وعلى الصواب في "ج"، وانظر: "محصل أفكار المتقدمين" (194).
(2) "النظامية" (42 - 49).
(3) انظر: "التمهيد" (286)، "الإنصاف" (43)، "المطالب العالية" (9/ 10)، "الأربعين" (320).
(1/463)
________________________________________
قال ابن الخطيب: "وهذا غلو منه في القدر. وقوله: "إنه يتوقف على الداعي، والداعي خلق لله" غلو في الجَبْر، فجمع بين القدر والجبر مع غلوه فيهما" (1).
ولم ينصفه؛ فليس ما ذهب إليه غلوًا في قدر ولا جبر؛ فإنّ توقف الفعل على الداعي ووجوبه عنده بقدرة العبد ليس جبرًا، فضلًا أن يكون غلوًا فيه، وكون العبد مُحْدِثًا لفعله ضرورة بما خلقه الله فيه من القدرة والاختيار ليس قولًا بمذهب القدرية، فضلًا عن كونه غلوًا فيه.
فصل
قال الجبري: إذا كان الداعي ليس من أفعالنا، وهو عِلْم القادر أن في ذلك الفعل مصلحة له، وذلك أمر مركوز في طبيعته التي خُلِق عليها، وذلك مفعول لله فيه، والفعل واجب عنده= فلا معنى للجبر إلا هذا.
قال له السني: أخوك القدري يجيبك عن هذا: بأن ذلك الداعي قد يكون علمًا، وقد يكون اعتقادًا، وقد يكون ظنًّا، وقد يكون جهلًا وغلطًا، وهذه أمور يحدثها الإنسان في نفسه، فيفعل على حسب ما يَتوهّم أن فيه مصلحته: صادفها أو لم يصادفها، فالداعي لا ينحصر في العلم خاصة.
قال الجبري: لا يساوي هذا الجواب شيئًا؛ فإن العطشان مثلًا يدعوه الداعي إلى شرب الماء لعلمه بنفعه، وشهوته وميله إلى شربه، وذلك العلم وتلك الشهوة والميل إلى الشرب من فعل الله فيه، فيجب على القدري أن يترك مذهبه صاغرًا داخرًا، ويعترف بأن ذلك الفعل مضاف إلى من خَلَق فيه
_________
(1) "الأربعين" (319 - 320).
(1/464)
________________________________________
الداعي المقتضي.
قال القدري: ذلك الداعي وإن كان من فعل الله تعالى إلا أنه جار مجرى فعل المكلَّف؛ لأنه قادر على أن يبطل أثره بأن يستحضر صارفًا عن الشرب، مثل أن يحجم عن الشرب تجربة هل يقدر على مخالفة الداعي أم لا، فإحجامه لأجل التجربة أثرُ داعٍ ثان هو الصارف (1)؛ يعارض الداعي، فالحي قادر على تحصيله، وقادر على إبقاء الداعي الأول بحاله (2)، فإبقاؤه الداعي الأول بحاله، وإعراضه عن إحضار المعارض له؛ أمر لولاه ما حصل الشرب، فمن هذا الوجه كان الشرب فعلًا له؛ لأنه قادر على تحصيل الأسباب المختلفة التي تصدر عنها الآثار.
ويصير هذا كمن شاهد إنسانًا في نار متأجّجة، وهو قادر على إطفائها عنه من غير مشقة ولا مانع، فإنه إن لم يطفئها استحق الذم، وإن كان الإحراق من أثر النار.
وقد أجاب ابن أبي الحديد بجواب آخر، فقال: ويمكن أن يقال: إذا تجرد الداعي كما ذكرتم في صورة العطشان، فإن التكليف بالفعل والترك يسقط؛ لأنه يصير أسوأ حالًا من المُلجَأ.
وهذا من أفسد الأجوبة على أصول جميع الفرق؛ فإن مقتضى التكليف قائم، فكيف يسقط مع حضور العقل (3) والقدرة؟
_________
(1) "م": "أثر داع بأن هذا الصارف".
(2) "د": "مخالفة" دون إعجام.
(3) "ج": "الفعل".
(1/465)
________________________________________
وهذا قسم رابع من الذين رُفِع عنهم التكليف أثبته هذا القدري زائدًا على الثلاثة الذين رُفِع عنهم القلم، وهذا خرق منه لإجماع الأمة المعلوم بالضرورة، ولو سقط التكليف عند تجرد الداعي لكان كل من تجرد داعيه إلى فعل ما أُمِر به؛ قد سقط عنه التكليف.
وهذا القول أقبح من القول بتكليف ما لا يطاق، ولهذا كان القائلون به (1) أكثر من هذا القائل، وقولهم يُحكى، ويناظر عليه.
قال الجبري: إذا كان الداعي من الله، وهو سبب الفعل، والفعل واجب عنده، كان خالق الفعل هو خالق الداعي؛ لأنّ خَلْقَ السبب خَلْقُ المُسَبَّب.
قال السني: هذا حق، فإن الداعي مخلوق لله في العبد، وهو سبب الفعل، فالفعل مضاف إلى الفاعل؛ لأنه صدر منه، ووقع بقدرته ومشيئته واختياره، وذلك لا يمنع إضافته بطريق العموم إلى من هو خالق كل شيء، وهو على كل شيء قدير.
وأيضًا: فالداعي ليس هو المؤثِّر، بل هو شرط في تأثير القادر في مقدوره، وكون الشرط ليس من العبد لا يخرجه عن كونه فاعلًا، وغاية قدرة العبد وإرادته الجازمة أن تكون شرطًا، أو جزء سبب، والفعل موقوف على شروط وأسباب لا صنع للعبد فيها البتّة.
وأسهل الأفعال فتح العين لرؤية الشيء، فهب أن فتح العين فعل العبد إلا أنه لا يستقل بالإدراك، فإن تمام الإدراك موقوف على خلق الدرك، وكونه قابلًا للرؤية، وخلق آلة الإدراك وسلامتها، وصرف الموانع عنها، فما
_________
(1) يعني: القائلين بتكليف ما لا يطاق.
(1/466)
________________________________________
تتوقف عليه الرؤية من الأسباب والشروط التي لا تدخل تحت مقدور العبد أضعاف أضعاف ما يقدر عليه، من تقليب حدقته نحو المرئي، فكيف يقول عاقل: إن جزء السبب أو الشرط موجِب مستقل لوجود الفعل؟!
وهذا الموضع مما ضَلَّ فيه الفريقان، حيث زعمت القدرية أنه موجِب للفعل، وزعمت الجبرية أنه لا أثر له فيه، فخالفت الطائفتان صريح المعقول والمنقول، وخرجت عن السمع والعقل.
والتحقيق أن قدرة العبد وإرادته ودواعيه جزء من أجزاء السبب التام الذي يجب به الفعل، فمن زعم أن العبد مستقل بالفعل مع أن أكثر أسبابه ليست إليه فقد خرج عن موجِب العقل والشرع.
فهب أن داعي حركة الضرب منك مستقل بها، فهل سلامة الآلة منك؟ وهل وجود المحل المُنفَعِل، وقبوله منك؟ وهل خَلْق الفضاء بينك وبين المضروب، وخلوه عن المانع منك؟ وهل إمساك قدرته عن مُقارِنك (1)، وغَلَبك منك؟ وهل خَلْق الآلة التي بها تضرب منك؟ وهل خَلْق الألم فيه بعد الضرب منك؟ وهل القوة التي في اليد، والرباطات والاتصالات التي بين عظامها، وشدّ أسرها منك؟
ومن زعم أنه لا أثر للعبد بوجه ما في الفعل، وأن وجود قدرته وإرادته وعدمهما بالنسبة إلى الفعل على السواء؛ فقد كابر العقل والحس.
_________
(1) "ج": "مضاربتك"، والمثبت من "م"، ومثله في "د" دون إعجام، ويكون المُقارِن هنا بنحو الصاحب، ويشبه أن تكون: "مضاربك"، يقال: ضارب الرجل مضاربة، كما في "المخصص" (2/ 52).
(1/467)
________________________________________
قال الجبري: إن انتهت سلسلة المرجِّحات إلى مرجِّح من الله يجب عنده الفعل لزم الجَبْر، وإن انتهت إلى مرجِّح من العبد فذلك المرجِّح ممكن لا محالة، فإن ترجّح بلا مرجِّح انسدّ عليكم باب إثبات الصانع؛ إذ جوّزتم رجحان أحد طرفي الممكن بلا مرجِّح، وإنْ توقف على مرجِّح آخر لزم التسلسل، فلا بدّ من انتهائه إلى مرجِّح من الله لا صنع للعبد فيه.
قال السني: أما إخوانك القدرية فإنهم يقولون: القادر المختار يُحْدِث إرادته وداعيه بلا مرجِّح من غيره.
قالوا: والفطرة شاهدة بذلك؛ فإنا لا نفعل ما لم نرد، ولا نريد ما لم نعلم أن في الفعل منفعة لنا أو دفع مضرة، ولا نجد لهذه الإرادة إرادة أحدثتها، ولا لعِلْمنا بأنّ ذلك نافعٌ علمًا آخر أحدثه، فالمرجِّح هو ما خُلِق عليه العبد، وفُطِر عليه من صفاته القائمة به، فالله سبحانه أنشأ العبد نشأة يتحرك فيها بالطبع، فحركته بالإرادة والمشيئة من لوازم نشأته وكونه حيوانًا، فإراداته وميوله من لوازم كونه حيًّا، فأفعال العبد الخاصة به هي الدواعي والإرادات لا غير، وما يقع بها من الأفعال شبيه بالفعل المتولّد من حيث كان المتولّد مُسَبّبًا، وهذه الأفعال صادرة عن الدواعي التي يُحْدِثها (1) العبد ابتداء من غير واسطة، فاشتراكهما في أنّ كل واحد منهما مستند إلى فعل خاص بالعبد، فهما متماثلان من هذه الجهة.
قال السني: وهذا جواب باطل بأبطل منه، ورد فاسد بأفسد منه، ومعاذ
_________
(1) تحتمل في "م": "عرفها"، والمثبت من "د".
(1/468)
________________________________________
الله، والله أكبر وأجل وأعظم وأعز (1) أن يكون في عبده شيء غير مخلوق له، ولا هو داخل تحت قدرته ومشيئته، فما قَدَر الله (2) حقّ قَدْره من زعم ذلك، ولا عرفه حقّ معرفته، ولا عظّمه حقّ تعظيمه، بل العبد جسمه وروحه وصفاته وأفعاله ودواعيه وكل ذرة فيه مخلوق لله خلقًا تصرّف به في عبده.
وقد بيّنا أن قدرته وإرادته ودواعيه جزء من أجزاء سبب الفعل غير مُسْتَقِل بإيجاده، ومع ذلك فهذا الجزء مخلوق لله فيه، فهو عبده مخلوق من كل وجه، وبكل اعتبار، وفقره إلى خالقه وبارئه من لوازم ذاته، وقلبه بيد خالقه، وبين أصبعين من أصابعه يقلبه كيف يشاء، فيجعله مريدًا لما شاء وقوعه منه، كارهًا لما لم يشأ وقوعه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
ونعم والله، سلسلة المرجِّحات تنتهي إلى أمر الله الكوني، ومشيئته النافذة التي لا سبيل لمخلوق إلى الخروج عنها، ولكن "الجَبْر" لفظ مجمل يراد به حق وباطل كما تقدم.
فإن أردتم به أن العبد مضطر في أفعاله، وحركته في الصعود في السلّم كحركته في وقوعه منه؛ فهذا مكابرة للعقول والفطر.
وإن أردتم به أنه لا حول له ولا قوة إلا بربه وفاطره؛ فنعم لا حول ولا قوة إلا بالله، وهي كلمة عامة لا تخصيص فيها بوجه ما، فالقوة القدرة، والحول الفعل، فلا قدرة له ولا فعل إلا بالله، فلا ننكر هذا ولا نجحده لتسمية القدري له "جبرًا"، فليس الشأن في الأسماء، {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ
_________
(1) "وأعز" من "ج".
(2) "د": "قدره".
(1/469)
________________________________________
سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 23]، فلا نترك لهذه الأسماء مُقْتَضى العقل والإيمان.
والمحذور كل المحذور أن نقول: إن الله يعذب عبده على ما لا صنع له فيه، ولا قدرة له عليه، ولا تأثير له في فعله بوجه ما، بل يعذبه على فعله هو سبحانه به، وعلى حركته إذا سقط من علو إلى سفل.
نعم لا يمتنع أن يعذبه على ذلك إذا كان قد تعاطى أسبابه بإرادته ومحبته، كما يعاقَب السكران على ما جناه في حال سكره لتفريطه وعدوانه بارتكاب السبب، وكما يعاقَب العاشق الذي غلب على صبره وعقله، وخرج الأمر عن يده لتفريطه السابق بتعاطي أسباب العشق، وكما يعاقَب الذي آل به إعراضه وبغضه للحق إلى أن صار طبعًا وقَفْلًا ورَيْنًا على قلبه، فخرج الأمر عن يده، وحِيل بينه وبين الهدى، فيعاقبه على ما لم يبق له قدرة عليه ولا إرادة، بل هو ممنوع منه، وعقوبته عليه عدلٌ محض، لا ظلم فيه بوجه ما.
فإن قيل: فهل يصير في هذه الحال مكلَّفًا، وقد حِيل بينه وبين ما أُمِر به، وصُدَّ عنه، ومُنِع منه، أم يزول التكليف؟
قيل: ستقف على الجواب الشافي إن شاء الله عن هذا السؤال في باب القول في تكليف ما لا يطاق قريبًا (1)، فإنه سؤال جيد، إذ المقصود ههنا الكلام في الجَبْر، وما في لفظه من الإجمال، وما في معناه من الهدى والضلال.
_________
(1) لم يفرد المؤلف لهذه المسألة بابًا، ولعله يشير إلى ما سيأتي من مباحث قدرة العبد.
(1/470)
________________________________________
فصل
قال الجبري: إذا صدر من العبد حركة معينة: فإما أن تكون مقدورة للرب وحده، أو للعبد وحده، أو للرب وللعبد، أو لا للرب ولا للعبد، وهذا القسم الأخير باطل قطعًا، والأقسام الثلاثة قد قال بكل واحد منها طائفة.
فإن كانت مقدورة للرب وحده فهو الذي نقوله، وذلك عين الجَبْر. وإن كانت مقدورة للعبد وحده فذلك إخراج لبعض الأشياء عن قدرة الرب تعالى، فلا يكون على كل شيء قدير، ويكون العبد المخلوق الضعيف قادرًا على ما لم يقدر عليه خالقه وفاطره، وهذا هو الذي فارقت به القدرية للتوحيد (1)، وضاهت به المجوس. وإن كانت مقدورة للربِّ وللعبد لزمت الشركة، ووقوع مفعول بين فاعلَيْن، ومقدور بين قادرَيْن، وأثر بين مؤثِّرَيْن، وذلك محال؛ لأن المؤثِّرَيْن إذا اجتمعا استقلالًا على أثر واحد فهو غني عن كل منهما بكل منهما، فيكون محتاجًا إليهما، مستغنيًا عنهما.
قال السني: قد افترق الناس في هذا المقام فرقًا شتّى.
ففرقة قالت: إنما تقع الحركة بقدرة الله وحده لا بقدرة العبد، وتأثير قدرة العبد في كونها طاعة أو معصية، فقدرة الربّ وحده اقتضت وجودها، وقدرة العبد اقتضت صفتها، وهذا قول القاضي أبي بكر ومن اتبعه.
ولعمر الله؛ إنه لغير شافٍ ولا كافٍ؛ فإن صفة الحركة إن كان أمرًا (2) وجوديًا فقد أثرت قدرته في أمر موجود، فلا يمتنع تأثيرها في نفس الحركة،
_________
(1) كذا في الأصول: "للتوحيد".
(2) "د": "أثرًا".
(1/471)
________________________________________
وإن كان صفتها أمرًا عدميًا كان متعلق قدرته عدمًا لا وجودًا، وذلك ممتنع؛ إذ أثر القدرة لا يكون عدمًا صِرفًا.
وفرقة أخرى قالت: بل الفعل وصفته واقع بمحض قدرة الله وحده، ولا تأثير لقدرة العبد في هذا ولا في هذا، وهذا قول الأشعري ومن اتبعه.
وفرقة قالت: بل المؤثِّر قدرة العبد وحده دون قدرة الربّ، ثم انقسمت هذه الفرقة إلى فرقتين:
فرقة قالت: إن قدرة العبد هي المؤثِّرة مع كون الربّ تعالى قادرًا على الحركة، وقالت: إن مقدورات العباد مقدورة لله عز وجل، وهذا قول أبي الحسين البصري وأتباعه الحسينية.
وفرقة قالت: إن قدرة العبد هي المؤثرة، والله سبحانه غير قادر على مقدور العبد، وهذا قول المشايخية أتباع أبي علي وأبي هاشم.
وليس عند ابن الخطيب وجمهور المتكلمين غير هذه الأقوال التي لا تشفي عليلًا ولا تروي غليلًا، وليس عند أربابها إلا مناقضة بعضهم بعضًا (1).
وقد أجاب بعض أصحاب أبي الحسين عن هذا السؤال بأن قال: إنه وإن كان يقول بمقدور بين قادرَيْن، فله أن يقول في هذا المقام: إن كان الدليل الذي ذكرته دليلًا صحيحًا على استحالة اجتماعهما على فعل واحد، فإنما يدل على استحالته على فعلهما على سبيل الجمع، ولا يستحيل أن يفعلاه على سبيل البدل، كما يستحيل حصول جوهرين في مكان واحد، ولا يستحيل حصولهما فيه على البدل.
_________
(1) تقدم عزو هذه الأقوال والمذاهب في (461).
(1/472)
________________________________________
وهذا جواب باطل قطعًا؛ فإن مضمونه أن أحدهما لا يقدر عليه إلا إذا تركه الآخر، فحال تلبس العبد بالفعل بقدرته وإرادته إن كان مقدورًا لله فهو القول بمقدور بين قادرَيْن، وإن لم يكن مقدورًا له سبحانه لزم إخراج بعض الممكنات عن قدرته.
فإن قلت: هو قادر عليه بشرط أن لا يقدر عليه العبد.
قيل لك: فهذا تصريح منك بأنه في حال قدرة العبد عليه لا يقدر عليه الربّ، فلا ينفعك القول بأنه قادر عليه على البدل.
وأيضًا: فإن قدر عليه عندك بشرط أن لا يقدر (1) عليه العبد، فإذا قدر العبد عليه انتفت قدرة الرب لانتفاء شرطها.
وهذا مما صاح به عليكم أهل التوحيد من أقطار الأرض، ورموكم به عن قوس واحدة، وإنما صانعتم به أهل السنة مصانعة، وإلا فحقيقة هذا القول أن العبد يقدر على ما لا يقدر عليه الربّ، وحكاية هذا الرأي الباطل كافية في فساده.
فإن قلت: كما لا يمتنع معلوم واحد بين عالمَيْن، ومراد واحد بين مريدَيْن، فلا يمتنع مقدور واحد بين قادرَيْن.
قيل: هذا من أفسد القياس؛ لأن المعلوم (2) لا يتأثر بالعالم، والمراد لا يتأثر بالمريد، فيصح الاشتراك في المعلوم والمراد، كما يصح الاشتراك في المرئي والمسموع، وأما المقدور فيجوز اشتراك القادرَيْن فيه بالقدرة
_________
(1) "د": "مشروطة بأن لا يقدر".
(2) "د": "العالم".
(1/473)
________________________________________
المصحِّحة، وهي صحة وقوعه من كل واحد منهما، فصحة التأثير من أحدهما لا تنافي صحته من الآخر، وأما اشتراكهما فيه بالقدرة الموجِبة المقارِنة لمقدورها فهو عين المحال، إلا أن يراد الاشتراك على البدل، فيكون ترك تأثير أحدهما فيه شرطًا في تأثير الآخر.
ولما تفطّن أبو الحسين لهذا قال: لست أقول: إن إضافته إلى أحدهما هي إضافته إلى الآخر، كما أن الشيء الواحد يكون معلومًا لعالمَيْن، ويمتنع أن يكون علم أحدهما به هو علم الآخر، فهكذا أقول في المقدور بين قادرَيْن، ليست قدرة أحدهما عليه هي قدرة الآخر، والمفعول بين فاعلَيْن ليس فعل أحدهما فيه هو فعل الآخر، وإنما معنى قولي: إنه فِعْل لهذا وتأثير له، أنه لقدرته وداعيه وُجِد، وليس معنى كونه وُجِد لقدرة هذا وداعيه هو معنى كونه وُجِد لقدرة الآخر وداعيه.
قال: وليس يمتنع في العقل إضافة شيء واحد إلى شيئين، لكنه يمتنع أن يكون إضافته إلى أحدهما هي عين إضافته إلى الآخر.
وهذا لا يجدي عنه شيئًا؛ فإن التقسيم المذكور دائر فيه.
ونحن نقول: قد دلّ الدليل على شمول قدرة الرب تبارك وتعالى لكل ممكن من الذوات والصفات والأفعال، وأنه لا يخرج شيء عن مقدوره البتّة.
ودلّ الدليل أيضًا على أن العبد فاعل لفعله بقدرته وإرادته، وأنه فِعْل له حقيقة يُمدح ويُذم به عقلًا وعرفًا وشرعًا، وفطرة فطر الله عليها العباد حتى الحيوان البهيم.
(1/474)
________________________________________
ودلّ الدليل على استحالة مفعول واحد بالعين بين فاعلَيْن مستقلَّيْن، وأثر واحد بين مؤثِّرَيْن فيه على سبيل الاستقلال.
ودلّ الدليل أيضًا على استحالة وقوع حادث لا مُحدِث له، ورجحان راجح لا مُرجِّح له.
وهذه أمور ركّبها الله سبحانه في العقول، وحجج العقل لا تتناقض ولا تتعارض، ولا يجوز أن يضرب بعضها ببعض، بل يقال بها كلّها، ويُذهب إلى موجَبها؛ فإنها يصدّق بعضها بعضًا، وإنما يعارض بينها (1) من ضعفت بصيرته، وإن كثر كلامه، وكثرت شكوكه، فالعلم أمر آخر وراء الشكوك والإشكالات، وإبداء (2) تناقض الخصوم، وهذا رأس مال المتكلمين.
والقول الحق لم ينحصر في هذه الأقوال التي حكوها في المسألة.
والصواب أن يقال: تقع الحركة بقدرة العبد وإرادته التي جعلها الله فيه، فالله سبحانه إذا أراد فِعْل العبد خَلَق له القدرة والداعي إلى فعله، فيضاف الفِعْل إلى قدرة العبد إضافة المسبَّب إلى سبَبه (3)، ويضاف إلى قدرة الرب إضافة المخلوق إلى الخالق، فلا يمتنع وقوع مقدور بين قادرَيْن قدرة أحدهما أثر لقدرة الآخر، وهي جزء سبب، وقدرة القادر الآخر مستقلة بالتأثير.
والتعبير عن هذا المعنى بمقدور بين قادرَيْن تعبير فاسد وتلبيس؛ فإنه
_________
(1) "م": "بها"، "ج": "بينهما".
(2) "ج": "ولهذا".
(3) "ج": "السبب إلى مسبّبه"، وهي مجوّدة بالشكل في "د".
(1/475)
________________________________________
يوهم أنهما متكافئان في القدرة، كما تقول: هذا الثوب بين هذين الرجلين، وهذه الدار بين هذين الشريكين. وإنما المقدور واقع بالقدرة الحادثة وقوع المسبَّب بسببه، والسبب والمسبَّب والفاعل والآلة كله أثر القدرة القديمة، فلا نعطل قدرة الربّ تعالى عن شمولها وكمالها، وتناولها لكل ممكن، ولا نعطل قدرة العبد التي هي سبب عما جعلها الله سببًا له ومؤثّرة فيه.
وليس في الوجود شيء مستقل بالتأثير سوى مشيئة الربّ تعالى وقدرته، وكل ما سواه مخلوق له، وهو أثر قدرته ومشيئته، ومن أنكر ذلك لزمه إثبات خالق سوى الله، أو القول بوجود مخلوق لا خالق له؛ فإن فعل العبد إن لم يكن مخلوقًا لله كان مخلوقًا للعبد: إما استقلالًا، وإما على سبيل الشركة، وإما أن يقع بغير خالق، ولا مخلص عن هذه الأقسام لمنكر دخول الأفعال تحت قدرة الرب تعالى ومشيئته وخلقه.
وإذا عُرِف هذا فنقول: الفعل وقع بقدرة الربّ خلقًا وتكوينًا، كما وقعت سائر المخلوقات بقدرته وتكوينه، وبقدرة العبد سببًا ومباشرة، فالله خلق الفعل، والعبد فَعَله وباشره، فالقدرة الحادثة وأثرها واقعان بقدرة الرب ومشيئته.
فصل
قال الجبري: لو كان العبد فاعلًا لأفعاله لكان عالمًا بتفاصيلها؛ لأنه يمكن أن يكون الفعل أزيد مما فعله أو أنقص، فوقوعه على ذلك الوجه مشروط بالعلم بتفصيله، ومعلوم أن النائم والغافل قد يفعل الفعل ولا يشعر بكيفيّته ولا قَدْره، وأيضًا فالمتحرك يقطع المسافة ولا شعور له بتفاصيل الحركة ولا أجزاء المسافة، ومحرّك أصبعه محرّكٌ لأجزائها ولا يشعر بعدد
(1/476)
________________________________________
أجزائها ولا بعدد أحيازها، والمتنفّس يتنفّس باختياره ولا يشعر في الغالب بنَفَسه، فضلًا عن أن يشعر بكمّيته وكيفيته ومبدئه ونهايته.
والعاقل قد يتكلم بالكلمة ويفعل الفعل باختياره، ثم بعد فراغه منه يعلم أنه لم يكن قاصدًا له، فنحن نعلم علمًا ضروريًا من أنفسنا عدم علمنا بوجود أكثر حركاتنا وسكناتنا في حالة المشي والقيام والقعود، ولو أردنا فصل كل جزء من أجزاء حركاتنا في حالة إسراعنا بالمشي والحركة والإحاطة به لم يُمْكنّا ذلك، بل ونعلم ذلك من حال أكمل العقلاء، فما الظن بالحيوانات العجم في مشيها وطيرانها وسباحتها، حتى الذر والبعوض.
وهذا مشاهد في السكران، ومن اشتدّ به الغضب، ولهذا قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]، فدلَّ على أن السكران يصدر منه أقوال لا يعلم بها، فكيف يكون هو المُحْدِث لتلك الأقوال وهي لا يُشْعَرُ بها، والإرادة فرع الشعور.
ولهذا أفتى الصحابة بأنه لا يقع طلاق السكران، نَزَّلوا حركة لسانه منزلة تحريك غيره له بغير إرادته.
ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا طلاق في إغلاق" (1)؛ لأن الإغلاق يمنع العلم والإرادة، فكيف يكون التطليق فعله وهو غير عالم به، ولا مريد له.
وأيضًا فقد قال جمهور الفقهاء: إن الناسي غير مكلَّف؛ لأن فعله لا يدخل تحت الاختيار، ففعْله غير مضاف إليه مع أنه وقع باختياره، وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا المعنى بعينه في قوله: "من أكل أو شرب ناسيًا فليُتِم
_________
(1) تقدم تخريجه في (452).
(1/477)
________________________________________
صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه" (1)، فأضاف فعله إلى الله سبحانه لا إليه، فلم يكن له فعل في الأكل والشرب، فلم يفطر به.
قال السني: هذا موضع تفصيل لا يليق به الإجمال، فنقول: ما يصدر عن العبد من الأفعال ينقسم أقسامًا متعددة، بحسب قدرته وعلمه وداعيه وإرادته: فتارة يكون مُلجَأ إلى الفعل لا إرادة له فيه بوجه ما، كمن أَمْسَكْتَ يده وضرب بها غيره، أو أَمْسَكْتَ أصبعه وقلع بها عين غيره، فهذا فعله بمنزلة حركات الأشجار بالريح، ولهذا لا يترتب عليه حكم البتّة، ولا يُمدح عليه ولا يُذم، ولا يُثاب ولا يُعاقَب، وهذا لا يُسَمّى فاعلًا عقلًا ولا شرعًا ولا عرفًا.
وتارة يكون مُكْرَهًا على أن يفعل، فهذا فعله يضاف إليه، وليس كالمُلجَأ الذي لا فعل له.
واختلف الناس هل يقال: إنه فعل باختياره، وإنه مختار في فعله، أو لا يطلق عليه ذلك؟ على قولين، والتحقيق: أن النزاع لفظي؛ فإنه فعل بإرادة هو محمول عليها، مُكرَه عليها، فهو مُكرَه مختار: مُكرَه على أن يفعل بإرادته، مريد لفعل ما أُكرِه عليه، فإن أريد بالمختار من يختار من نفسه أن يفعل من غير أن يحمله غيره على الإرادة فليس المُكرَه بمختار، وإن أريد بالمختار من يفعل بإرادته وإن كان كارهًا للفعل فالمُكرَه مختار، وأيضًا فهو مختار لفعل ما أُكرِه عليه لتخلّصه به مما هو أَكرَهُ إليه من الفعل، فلما عرض له مكروهان: أحدهما أَكرَهُ إليه من الآخر اختار أيسرهما؛ دفعًا لأشقّهما، ولهذا يُقتَل
_________
(1) أخرجه أحمد (10369)، والبخاري (1933)، ومسلم (1155) من حديث أبي هريرة.
(1/478)
________________________________________
قصاصًا إذا قَتَل عند الجمهور، والمُلجَأ لا يُقتَل باتفاق الناس.
ومما يوضح هذا أن المُكرَه على التكلم لا يتأتّى منه التكلم إلا باختياره وإرادته، ولهذا أوقع طلاقه وعتاقه بعض العلماء، والجمهور قالوا: لا يقع؛ لأن الله سبحانه جعل كلام المُكرَه على كلمة الكفر لغوًا لا يترتب عليه أثره؛ لأنه وإن قصد التكلم باللفظ دفعًا عن نفسه فلم يقصد معناه وموجَبه، حتى قال بعض الفقهاء لو قصد الطلاق بقلبه مع الإكراه لم يقع طلاقه؛ لأن قوله هدر ولغو عند الشارع، فوجوده كعدمه في حكمه، فبقي مجرد القصد، وهو غير موجِب للطلاق، وهذا ضعيف؛ فإن الشارع إنما ألغى قول المُكرَه إذا تجرّد عن القصد، وكان قلبه مطمئنًّا بضده، فأما إذا قارن اللفظَ القصدُ، واطمأنّ القلبُ بموجَبه؛ فإنه لا يُعذَر.
فإن قيل: فما تقولون فيمن ظن أن الإكراه لا يمنع وقوع الطلاق، فقَصَده جاهلًا بأن الإكراه مانع من وقوعه؟
قيل: هذا لا يقع طلاقه؛ لأن اللفظ موجِب لوقوعه؛ لأنه لما ظن أن الإكراه على الطلاق يوجب وقوعه إذا تكلم به؛ كان حكمُ قَصْده حكمَ لفظه، فإنه إنما قصده دفعًا عن نفسه لمّا علم أنه لا يتخلّص إلا به، ولم يظن أن الكلمة بدون القصد لغو، أو دهش عن ذلك، ولا وَطَر له في الطلاق، فهذا لا يقع، بخلاف الأول؛ فإنه لمّا أُكرِه على الطلاق نشأ له قَصْد طلاقها؛ إذ لا غرض له أن يقيم مع امرأة أُكرِه على طلاقها، وإن كان لو لم يُكرَه لم يبتدئ طلاقها.
والمقصود أن المُكرَه مريد لفعله غير مُلجَأ إليه.
(1/479)
________________________________________
فصل (1)
وأما أفعال النائم فلا ريب في وقوع الفعل القليل منه، والكلام المفيد، واختلف الناس هل تلك الأفعال مقدورة له أو مكتسبة أو ضرورية، بعد اتفاقهم على أنها غير داخلة تحت التكليف.
فقالت المعتزلة وبعض الأشعرية: هي مقدورة له، والنوم لا يضاد القدرة، وإن كان يضاد العلم وغيره من الإدراكات.
وذهب أبو إسحاق وغيره إلى أن ذلك الفعل غير مقدور له، وأن النوم يضاد القدرة، كما يضاد العلم.
وذهب القاضي أبو بكر وكثير من الأشعرية إلى أن فعل النائم لا يُقطع بكونه مكتسَبًا ولا بكونه ضروريًا، وكلّ من الأمرين ممكن.
قال أصحاب القدرة: كان النائم قادرًا في يقظته، وقدرته باقية، والنوم لا ينافيها؛ فوجب استصحاب حكمها.
قالوا: وأيضًا فالنائم إذا انتبه فهو على ما كان عليه في نومه، ولم يتجدد أمر وراء زوال النوم، وهو قادر بعد الانتباه، وزوال النوم غير موجِب للاقتدار، ولا وجوده نافيًا للقدرة.
قالوا: وأيضًا قد يوجد من النائم ما لو وُجِد منه في حال اليقظة لكان واقعًا على حسب الداعي والاختيار، والنوم وإن نافى القصد فلا ينافي القدرة.
قال النافون للقدرة: قولكم: "النوم لا ينافي القدرة" دعوى كاذبة؛ فإن
_________
(1) انظر: "غاية المرام" (221)، "شرح المواقف" (2/ 144 - 148).
(1/480)
________________________________________
النائم مُنفعِل محض، متأثّر غير مؤثِّر، ولهذا لا يمتنع ممن يؤثِّر فيه، وقولكم: "لم يتجدد له أمر غير زوال النوم" فالمتجدّد زوال النوم المانع من القدرة، فعاد إلى ما كان عليه، كمن أوثق غيره رباطًا ومنعه من الحركة، فإذا حلّ رباطه تجدد زوال المانع.
قالوا: نجد تفرقة ضرورية بين حركة النائم وبين حركة المُرْتَعِش والمَفْلُوج، وما ذاك إلا لأن حركته مقدورة له، وحركة المُرْتَعِش غير مقدورة له.
والتحقيق أن حركة النائم ضرورية له غير مكتسَبة، وكما فرقنا في حق المستيقظ بين حركة ارتعاشه وحركة تصفيقه؛ كذلك نجد تفرقة ضرورية بين حركة النائم وحركة المستيقظ.
فصل
وأما زائل العقل بجنون أو سكر فليست أفعاله اضطرارية كأفعال المُلْجَأ، ولا اختيارية بمنزلة أفعال العاقل العالم بما يفعله، بل هي قسم آخر بين الاضطرارية والاختيارية، وهي جارية مجرى أفعال الحيوان، وفعل الصبي الذي لا تمييز له، بل لكل واحد من هؤلاء داعيةٌ إلى الفعل يتصورها، وله إرادة يقصد بها، وقدرة ينفذ بها، وإن كان داعيه نوع آخر غير داع العاقل (1) العالم بما يفعله، فلابدّ أن يَتصوّر ما في الفعل من الغرض، ثم يريده ويفعله، فهذه أفعال طبيعية واقعة بالداعي والإرادة والقدرة، والدواعي والإرادات تختلف، ولهذا لا يُكلَّف أحد هؤلاء بالفعل، فأفعاله لا تدخل
_________
(1) "م": "داعية العاقل".
(1/481)
________________________________________
تحت التكليف، وليست كأفعال المُلجَأ ولا المُكرَه، وهي مضافة إليهم مباشرة، وإلى خالق ذواتهم وصفاتهم خَلْقًا، فهي مفعولة له وأفعال لهم.
فصل
وأما الغافل والساهي الذي يفعل الفعل مع غفلته وذهوله فهو إنما يفعله بقدرته؛ إذ لو كان عاجزًا لما تأتّى منه الفعل، وله إرادة لكنه غافل عنها. فالإرادة شيء والشعور بها شيء آخر. فالعبد قد تكون له إرادة وهو ذاهل عن شعوره بها؛ لاشتغال محل التصوّر منه بأمر آخر منعه من الشعور بالإرادة، فعملتْ عملها وهي غير مشعور بها، وإن كان لابد من الشعور بأصلها، فلا يلزم من صحة وقوع الفعل استمرار ذلك الشعور عند كل جزء من أجزائه. وبالله التوفيق.
وبالجملة: فالفعل الاختياري يستلزم الشعور بالفعل في الجملة، وأما الشعور به على التفصيل من كل وجه فلا يستلزمه.
فصل
قال الجبري: ضلال الكافر وجهله عند القدري مخلوق له، موجود بإيجاده اختيارًا، وهذا ممتنع؛ فإنه لو كان كذلك لكان قاصدًا له، إذ القصد من لوازم الفعل اختيارًا، واللازم ممتنع؛ فإن عاقلًا لا يريد لنفسه الضلال والجهل، فلا يكون فاعلًا له اختيارًا.
قال السني: عجبًا لك أيها الجبري، تُنزّه العبد أن يكون فاعلًا للكفر والجهل والظلم، ثم تجعل ذلك كله فعل الله سبحانه، ومن العجب قولك: "إن العاقل لا يقصد لنفسه الكفر والجهل" وأنت ترى كثيرًا من الناس يقصد
(1/482)
________________________________________
لنفسه ذلك عنادًا وبغيًا وحسدًا، مع علمه بأن الرشد والحق في خلافه، فيطيع داعي هواه وغيّه وجهله، ويخالف داعي رشده وهداه، ويسلك طريق الضلال، ويتنكّب عن طريق الهدى، وهو يراهما جميعًا.
قال أصدق القائلين: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 146]، وقال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17]، وقال تعالى عن قوم فرعون: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 13 - 14]، وقال تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت: 38]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} [البقرة: 102]، وقال: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنزِلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [البقرة: 90]، وقال تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 70 - 71]. وقال: {الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا} [آل عمران: 99].
وهذا في القرآن كثير، يبين سبحانه فيه اختيارهم الضلال والكفر عمدًا على علم.
هذا، وكم من قاصد أمرًا يظن أنه رشد، وهو ضلال وغيّ.
(1/483)
________________________________________
فصل
قال الجبري: لو جاز تأثير قدرة العبد في الفعل بالإيجاد لجاز تأثيرها في إيجاد كل موجود؛ لأن الوجود قضية واحدة مشتركة بين الموجودات الممكنة، وإن اختلفت محالّه وجهاته، ويلزم من صحة تأثير القدرة في بعضه صحة تأثيرها في جميعه؛ لاتحاد المتعلَّق، وأن ما ثبت لأحد المثلين يثبت للآخر، وأيضًا فالمصحِّح للتأثير هو الإمكان، ويلزم من الاشتراك في المصحِّح للتأثير الاشتراك في الصحة، ومعلوم قطعًا أن قدرة العبد لا تتعلق بإيجاد الأجسام وأكثر الأعراض، وإنما تتعلق ببعض الأعراض القائمة بمحل قدرته.
قال السني: لقد كشف الله عوار مذهب يكون إثباته مُسْتنِدًا (1) إلى مثل هذه الخرافات التي حاصلها: أنه يلزم من صحة قدرة العبد على قلع حصاة من الأرض صحة قدرته على قلع الجبل! ومن إمكان حمله لرطل إمكان حمله لمائة ألف رطل! ومن إيجاده للفعل القائم به من الأكل والشرب والصلاة وغيرها صحة إيجاده لخلق السماوات والأرض وما بينهما! فهل سُمِع في الهذيان بأسمج من هذا، وأغث منه؟! (2).
واشتراك الموجودات في مسمى الوجود الكلي العام لا يلزم منه أن ما جاز على موجود ما (3) جاز على كل موجود، وهذا أسمج من الأول وأبين
_________
(1) "د": "يكون استناده".
(2) "د" "م": "وأغرّ"، والمثبت من "ج" ألصق بالسياق، وسيأتي ما يعضده.
(3) "م": "موجود منا".
(1/484)
________________________________________
فسادًا، ولا يلزم من ذلك تماثل البعوضة والفيل، وتماثل الأجسام والأعراض، ومن يجعل من الجبرية للقدرة الحادثة تعلّقًا ما بفعل العبد يعترف بالفرق ويقول: قدرته تتعلق ببعض الأعراض ولا تتعلق بالأجسام، ولا بكل الأعراض، فإن احتج على إبطال التأثير بهذه الشبهة الغثّة أُلْزِم بها بعينها في عموم تعلق قدرته بكل موجود.
فصل
قال الجبري: دليل التوحيد ينفي كون العبد فاعلًا، وأن يكون لقدرته تأثير في فعله، وتقريره بدليل التمانع.
قال السني: دليل التوحيد إنما ينفي وجود ربّ ثان، ويدل على أنه لا ربّ إلا هو سبحانه، ولا يدل على امتناع وجود مخلوق له قدرة وإرادة مخلوقة يُحدِث بها، وهو وقدرته وإرادته وفعله مخلوق لله. فهو بعد طول مقدماته، واعتراف فضلائكم بالعجز عن تقريره، وذِكْر ما في مقدماته من منع ومعارضة= إنما ينفي وجود قادرَيْن متكافئيْن، قدرة كل واحد منهما من لوازم ذاته، ليست مستفادة من الآخر، وهو دليل صحيح في نفسه، وإن عجزتم عن تقريره، ولكن ليس فيه ما ينفي أن تكون قدرة العبد وإرادته سببًا لوجود مقدوره، وتأثيرها فيه تأثير الأسباب في مسبباتها، فلا للتوحيد قررتم بدليل التمانع، ولا للجبر، وقد كفانا أفضل متأخريكم بيان ما في هذا الدليل من المُنُوع (1) والمعارضات.
_________
(1) "د": "الممنوع"، و"المُنُوع" جمع دارج في كتب الكلام لـ "مَنْع"، انظر على سبيل المثال: "تنبيه الرجل العاقل" (1/ 31، 244)، "المواقف" (2/ 672).
(1/485)
________________________________________
قال الجبري: دعنا من هذا كله، أليس في القول بتأثير قدرة العبد في مقدوره مع الاعتراف بأن الله سبحانه قادر على مقدور العبد= إلزام وقوع المقدور الواحد بين القادرَيْن، والدليل ينفيه.
قال السني: ما تعني بقولك: "يلزم وقوع مقدور بين قادرَيْن"؟
أتعني به قادرَيْن مستقلَّيْن متكافئيْن؟ أم تعني به قادرَيْن تكون قدرة أحدهما مستفادة من الآخر؟ فإن عنيتَ الأول مُنِعت الملازمةُ، وإن عنيتَ الثاني مُنِع انتفاءُ اللازم.
ومثبتو الكَسْب يجيبون عن هذا بأنه لا يمتنع وقوع مقدور بين قادرَيْن لقدرة أحدهما تأثير في إيجاده، ولقدرة الآخر تأثير في صفته، كما يقوله القاضي أبو بكر ومن تبعه، والأشعري يجيب عنه على أصله، بأن الفعل وقع بين قادرَيْن لا تأثير لقدرة أحدهما في المقدور، بل تَعلُّق قدرته بمقدورها كتَعلُّق العلم بمعلومه، وإنما الممتنع عنده وقوع مقدور بين قادرَيْن مؤثِّرَيْن، وهذا الاعتذار لا يُخرِج عن الجَبْر، وإن زُخْرِفت له العبارات.
وأجاب عنه الحسينية (1) بما حكيناه: أنه لا يمتنع مقدور بين قادرَيْن على سبيل البدل، ويمتنع على سبيل الجمع، وقد تقدم فساده.
وأجاب عنه المشايخية: بأنه مقدور للعبد، وليس مقدورًا للربِّ. وهذا أبطل الأجوبة وأفسدها، والقائلون به يقولون: إن الله ــ سبحانه عن أقاويلهم ــ يريد الشيء فلا يكون، ويكون الشيء بغير إرادته ومشيئته، فيريد ما لا يكون، ويكون ما لا يريد، وكفى بهذا بطلانًا وفسادًا.
_________
(1) في حاشية "م" بقلم الناسخ: "يعني به أبو [كذا] الحسين وأصحابه".
(1/486)
________________________________________
قال الجبري: الفعل عند المرجِّح التام واجب، والمرجِّح ليس من العبد، وإلا لزم التسلسل، فهو من الربّ تعالى، فإذا وجب الفعل عنده فهو الجَبْر بعينه.
قال السني: قد تقدم هذا الدليل وبيان ما فيه، وحيث أعدتموه بهذه العبارة الوجيزة المختصرة، فنحن نذكر الأجوبة عنه كذلك.
قولكم: "لابد من مرجِّح للفعل على الترك، أو بالعكس" مسلَّم، قولكم: "المرجِّح إن كان من العبد لزم التسلسل، وإن كان من الرب لزم الجَبْر" جوابه: ما المانع أن يكون من فعل العبد ولا يلزم التسلسل، بأن يكون مِن فعله على وجه لا يكون الترك ممكنًا له حينئذ، ولا يلزم من سَلْب الاختيار عنه في فعل (1) المرجِّح سَلْبه عنه مطلقًا.
ثم ما المانع أن يكون المرجِّح مِن فعل الله ولا يلزم الجَبْر، فإنكم إن عنيتم بالجبر أنه غير مختار للفعل، ولا مريد له؛ لم يلزم الجَبْر بهذا الاعتبار؛ لأن الرب تعالى جعل المرجِّح اختيار العبد ومشيئته، فانتفى الجَبْر، وإن عنيتم بالجبر أنه وُجِد لا بإيجاد العبد؛ لم يلزم الجَبْر أيضًا بهذا الاعتبار (2)، وإن عنيتم أنه يجب عند وجود المرجِّح، وأنه لابدّ منه؛ فنحن لا ننفي الجَبْر بهذا الاعتبار، وتسمية ذلك "جبرًا" اصطلاح محض، وهو اصطلاح فاسد؛ فإن فعل الربّ سبحانه يجب عند وجود مرجِّحه التام، ولا يكون ذلك جبرًا بالنسبة إليه سبحانه.
_________
(1) "م": "من فعل"، "ج": "وفعل".
(2) من قوله: "وإن عنيتم بالجبر" إلى هنا ساقط من "د".
(1/487)
________________________________________
ثم هذا لازم على من أثبت الكَسْب منكم، فنقول له في الكَسْب ما قاله في أصل الفعل سواء، ومن لم يثبت الكَسْب لزمه ذلك في فعل الربّ كما تقدم.
فإن قلتم: الفرق أن صدور الفعل عن القادر موقوف عن الإرادة، وإرادة العبد مُحْدَثة، فافتقرت إلى مُحْدِث، فإن كان ذلك المُحْدِث هو العبد لزم التسلسل، فوجب انتهاء جميع الإرادات إلى إرادة ضرورية يخلقها الله في القلب ابتداء، ويلزم منه الجَبْر، بخلاف إرادة الرب تعالى؛ فإنها قديمة مستغنية عن إرادة أخرى، فلا تسلسل.
قيل لكم: لا يجدي هذا عليكم في دفع الإلزام؛ فإن الإرادة القديمة إما أن يصح معها الفعل بدلًا عن الترك، وبالعكس، أو لا، فإن كان الأول فلابد لأحد الطرفين من مرجِّح، والكلام في ذلك المرجِّح كالكلام في الأول، ويلزم التسلسل، وإن كان الثاني لزم الجَبْر.
قال الجبري: معتمدي في الجَبْر على حرف لا خلاص لكم منه إلا بالتزام الجَبْر، وهو أن العبد لو كان فاعلًا لفعله لكان مُحْدِثًا له، ولو كان مُحْدِثًا له لكان خالقًا له، والشرع والعقل ينفيه، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر: 3].
قال السني: قد دلّ العقل والشرع والحسّ على أن العبد فاعل لفعله، وأنه يستحق عليه الذم واللعن، كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى حمارًا قد وُسِم في وجهه: فقال: "ألم أنْهَ عن هذا؟! لعن الله من فعل هذا" (1).
_________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (20288) ـ واللفظ له ـ، ومسلم (2117) من حديث جابر.
(1/488)
________________________________________
وقال تعالى: {وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ} [الأنبياء: 74]، وقال: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 90]، وقال: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} [الزمر: 70].
وهذا في القرآن أكثر من أن يُذْكر، والحسُّ شاهد به، فلا تُقبل شبهة تقام على خلافه، ويكون حكم تلك الشبهة حكم القدح في الضروريات، فلا يُلتفت إليه، ولا يجب على العالِم حلّ كلّ شبهة تعرض لكل أحد؛ فإن هذا لا آخر له.
فقولكم: "لو كان فاعلًا لفِعْله لكان مُحْدِثًا له"، إن أردتم بكونه مُحْدِثًا صدور الفعل منه، اتحد اللازم والملزوم، وصار حقيقة قولكم: لو كان فاعلًا لكان فاعلًا. وإن أردتم بكونه مُحْدِثًا كونه خالقًا سألناكم: ما تعنون بكونه خالقًا؟ هل تعنون به كونه فاعلًا، أو تعنون به أمرًا آخر، فإن أردتم الأول كان اللازم فيه عين الملزوم، وإن أردتم أمرًا آخر غير كونه فاعلًا فبيّنوه.
فإن قلتم: نعني به كونه موجِدًا للفعل من العدم إلى الوجود.
قيل: هذا معنى كونه فاعلًا، فما الدليل على إحالة هذا المعنى، فسمّوه ما شئتم: إحداثًا أو إيجادًا أو خلقًا، فليس الشأن في التسميات، وليس الممتنع إلا أن يكون مستقلًّا بالإيجاد، وهذا غير لازم لكونه فاعلًا؛ فإنا قد بيّنا أن غاية قدرة العبد وإرادته وداعيه وحركته أن تكون جزء سبب، وما يتوقف عليه الفعل من الأسباب التي لا تدخل تحت قدرته وكسبه أكثر من الجزء الذي إليه بأضعاف مضاعفة، والفعل لا يتم إلا بها.
فإن قيل: فهذا الجَبْر بعينه.
(1/489)
________________________________________
قيل: ذاك السبب الذي أعني به من القدرة والإرادة، هو الذي أخرجه من الجَبْر، وأدخله في الاختيار، وكون ذلك السبب من خالقه وفاطره ومنشئه هو الذي أخرجه من الشرك والتعطيل، وأدخله في باب التوحيد، فالأول أدخله في باب العدل، والثاني أدخله في باب التوحيد، ولم يكن ممن نقض التوحيد بالعدل، ولا ممن نقض العدل بالتوحيد، فهؤلاء جنوا على التوحيد، وهؤلاء جنوا على العدل، وهدى الله أهل السنة للتوحيد والعدل، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
* * * *
(1/490)
________________________________________
الباب العشرون في ذِكْر مناظرة بين قدري وسُنّي
قال القدري: قد أضاف الله سبحانه الأعمال إلى العباد بأنواع الإضافة العامة والخاصة، فأضافها إليهم بالاستطاعة تارة، كقوله: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ} [النساء: 25]، وبالمشيئة تارة، كقوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 28]، وبالإرادة تارة، كقول الخضر: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79]، وبالفعل، والعمل، والكسب، والصنع، كقوله: {يَفْعَلُونَ}، {يَعْمَلُونَ}، {بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [الأعراف: 39]، {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 63].
وأما بالإضافة الخاصة فكإضافة الصلاة والصيام والحج والطهارة والزنا والسرقة والقتل والكذب والكفر والفسوق، وسائر أفعالهم إليهم، وهذه الإضافة تمنع إضافتها إليه، كما أن إضافة أفعاله إليه سبحانه تمنع إضافتها إليهم، فلا تجوز إضافة أفعالهم إليه سبحانه دونهم، ولا إليه معهم، فهي إذًا مضافة إليهم دونه.
قال السني: هذا الكلام مشتمل على حق وباطل، أما قولك: «إنه أضاف الأفعال إليهم» فحق لا ريب فيه، وهذا حجة لك على خصومك من الجبرية، وهم يجيبونك عن ذلك بأن هذا الإسناد لا حقيقة له، وإنما هو نسبة مجازية صححها قيام الأفعال بهم، كما يقال: جرى الماء، وبرد، وسخن، ومات زيد، ونحن نساعدك على بطلان هذا الجواب، ومنافاته للعقول والشرائع والفطر.
(2/3)
________________________________________
ولكن قوله (1): «هذه الإضافة تمنع إضافتها إليه سبحانه»، كلام فيه إجمال وتلبيس، فإن أردتَ بمنع الإضافة إليه منع قيامها به، ووصفه بها، وجريان أحكامها عليه، واشتقاق الأسماء منها له= فنعم، هي غير مضافة إليه بشيء من هذه الاعتبارات والوجوه.
وإن أردتَ بعدم إضافتها إليه عدم إضافتها إلى علمه بها، وقدرته عليها، ومشيئته العامة وخلقه= فهذا باطل؛ فإنها معلومة له سبحانه، مقدورة له، مخلوقة له، وإضافتها إليهم لا تمنع هذه الإضافة، كالأموال؛ فإنها مخلوقة له سبحانه وهي ملكه حقيقة وقد أضافها إليهم، فالأعمال والأموال خَلْقه ومُلْكه وهو سبحانه يضيفها إلى عبيده، وهو الذي جعلهم مالكيها وعامليها، فصحّت النسبتان، وحصول الأموال بكسبهم وإرادتهم كحصول الأعمال، وهو الذي خلق الأموال وكاسبيها، والأعمال وعامليها، فأموالهم وأعمالهم ملكه وبيده.
كما أن أسماعهم وأبصارهم وأنفسهم ملكه وبيده، فهو الذي جعلهم يسمعون ويبصرون ويعملون، فأعطاهم حاسة السمع والبصر، وقوة السمع والبصر، وفعل (2) الإبصار والاستماع، وأعطاهم آلة العمل، وقوة العمل، ونفس العمل، فنسبة قوة العمل إلى اليد، والكلام إلى اللسان، كنسبة قوة السمع إلى الأذن، والبصر إلى العين، ونسبة الرؤية والاستماع اختيارًا إلى محلهما كنسبة الكلام والبطش إلى محلهما، فإن كانوا هم الذين خلقوا لأنفسهم الرؤية والسمع فهل خلقوا محلهما، وقوى المحل، والأسباب
_________
(1) كذا في الأصول بهاء الغائب، والأشبه بالسياق: «قولك».
(2) «د»: «وجعل».
(2/4)
________________________________________
الكثيرة التي تصح معها الرؤية والسمع، أمِ الكل خَلْق مَنْ هو خالق كل شيء، وهو الواحد القهار؟
قال القدري: لو كان الله سبحانه هو الفاعل لأفعالهم لاشتُقَّت له منها الأسماء، وكان أولى بأسمائها منهم؛ إذ لا يَعقل الناس على اختلاف لغاتهم وعاداتهم ودياناتهم قائمًا إلا من فعل القيام، وآكلًا إلا من فعل الأكل، وسارقًا إلا من فعل السرقة، وهكذا جميع الأفعال لازمها ومتعدّيها، فعكستم أنتم الأمر وقلبتم الحقائق، فقلتم: مَن فَعل هذه الأفعال حقيقة لا يُشتقّ له منها اسم، وإنما تُشتقّ منها الأسماء لمن لم يفعلها ولم يحدثها، وهذا خلاف العقول واللغات وما تتعارفه الأمم.
قال السني: هذا إنما يلزم إخوانك وخصومك الجبرية، القائلين بأن العبد لم يفعل شيئًا البتّة، وأما من قال: العبد فاعل لفعله حقيقة، والله خالقه وخالق آلات فعله الظاهرة والباطنة= فإنه إنما تُشتقّ الأسماء لمن فعل تلك الأفعال، فهو القائم والقاعد والمصلي والسارق والزاني حقيقة، فإن الفعل إذا قام بالفاعل عاد حكمه إليه، ولم يعد إلى غيره، واشتُقّ له منه اسم ولم يُشتقّ لمن لم يقم به.
فههنا أربعة أمور: أمران معنويان في النفي والإثبات، وأمران لفظيان فيهما، فلما قام الأكل والشرب والزنا والسرقة بالعبد؛ عادت أحكام هذه الأفعال إليه، واشتُقّت له منها الأسماء، وامتنع عود أحكامها إلى الرب، واشتقاق أسمائها له، ولكن من أين يَمْنع هذا أن تكون معلومة للرب تعالى، مقدورة له، مكوّنة له، واقعة من العباد بقدرة ربهم وتكوينه؟!
(2/5)
________________________________________
قال القدري (1): لو كان خالقًا لها لزمته هذه الأمور.
قال السني: هذا باطل ودعوى كاذبة؛ فإنه سبحانه لا يُشتقّ له اسم مما خلقه في غيره، ولا يعود حكمه عليه، وإنما يُشتقّ الاسم لمن قام به ذلك، فإنه سبحانه خلق الألوان والطعوم والروائح والحركات في محالها، ولم يُشتقّ له منها اسم، ولا عادت أحكامها إليه، ومعنى عود الحكم إلى المحل الإخبار عنه بأنه يقوم ويقعد ويأكل ويشرب.
قال السني: ومن ههنا عُلِم ضلال المعتزلة الذين يقولون: القرآن مخلوق، خلقه الله في محل، ثم اشتُقّ له اسم المتكلم باعتبار خلقه له، وعاد حكمه إليه، فأخبر عنه أنه تكلم به. ومعلوم أن الله سبحانه خالق صفات الأجسام وأعراضها وقواها، فكيف جاز أن يُشتقّ له اسم مما خلقه من الكلام في غيره، ولم يُشتقّ له اسم مما خلقه من الصفات والأعراض في غيره؟!
فأنت أيها القدري نقضت أصولك بعضها ببعض، وأفسدت قولك في مسألة الكلام بقولك في مسألة القدر، وقولك في القدر بقولك في الكلام، فجعلتَه متكلمًا بكلام قائم بغيره، وأبطلت أن يكون فاعلًا بفعل قائم بغيره، فإن كنت أصبتَ في مسألة الكلام فقد نقضتَ أصلك في القدر، وإن أصبتَ في هذا الأصل لزم خطؤك في مسألة الكلام، فأنت مخطئ على التقديرين.
_________
(1) في «م» ومتن «د»: «الجبري» خطأ، والمثبت من «ج» وحاشية «د»، وعليه يدل السياق.
(2/6)
________________________________________
قال القدري (1): فما تقول أنت في هذا المقام؟
قال السني: أنا لا أتناقض في هذا ولا في هذا، بل أصفه سبحانه بما قام به، وأمتنع مِن وصفه بما لم يقم به.
قال القدري (2): فالآن حمي الوطيس، فأنت والمسلمون وسائر الخلق تسمونه تعالى خالقًا ورازقًا ومميتًا، والخلق والرزق والموت قائم بالمخلوق المرزوق الميت، إذ لو قام ذلك بالربّ سبحانه فالخلق إما قديم وإما حادث، فإن كان قديمًا لزم قدم المخلوق؛ لأنه نِسْبة بين الخالق والمخلوق، ويلزم من كونها قديمة قدم المصحِّح لها، وإن كان حادثًا لزم قيام الحوادث به، وافتقر ذلك الخلق إلى خلق آخر، ولزم التسلسل، فثبت أن الخلق غير قائم به سبحانه، وقد اشتُقّ له منه اسم.
قال السني: أي لازم من هذه اللوازم التزمه المرء كان خيرًا من أن ينفي صفة الخالقية عن الرب تعالى؛ فإن حقيقة هذا القول أنه غير خالق، فإن إثباتَ خالق بلا خلق إثباتُ اسم لا معنى له، وهو كإثبات سميع لا سمع له، وبصير لا بصر له، ومتكلم وقادر لا كلام له ولا قدرة، فتعطيل الرب تعالى عن فعله القائم به كتعطيله عن صفاته القائمة به، والتعطيل أنواع:
تعطيل المصنوع عن الصانع، وهو تعطيل الدهرية والزنادقة.
وتعطيل الصانع عن صفات كماله ونعوت جلاله، وهو تعطيل الجهمية نفاة الصفات.
_________
(1) «م» و «د»: «الجبري» خطأ، والمثبت من «ج».
(2) «م» «د»: «الجبري» خطأ، والمثبت من «ج».
(2/7)
________________________________________
وتعطيله عن أفعاله، وهو أيضًا تعطيل الجهمية، وهم أساسه، ودَبّ فيمن عداهم من الطوائف، فقالوا: لا يقوم بذاته فعل؛ لأن الفعل حادث، وليس محلًّا للحوادث، كما قال إخوانهم: لا تقوم بذاته صفة؛ لأن الصفة عرض، وليس محلًّا للأعراض.
فلو التزم الملتزم أي قول التزمه كان خيرًا من تعطيل صفات الربّ وأفعاله، فالمشبّهة على ضلالهم وبدعتهم خير من المعطلة، ومعطلة الصفات خير من معطلة الذات، وإن كان التعطيلان متلازمين؛ لاستحالة وجود ذات قائمة بنفسها لا توصف بصفة، فوجود هذه محال في الذهن وفي الخارج، ومعطلة الأفعال خير من معطلة الصفات؛ فإن هؤلاء نفوا صفة الفعل، وإخوانهم نفوا صفات الذات.
وأهل السمع والعقل حزب الرسول والفرقة الناجية برآء من تعطيل هؤلاء كلهم؛ فإنهم أثبتوا الذات والصفات والأفعال وحقائق الأسماء الحسنى، إذ جعلها المعطلة مجازًا لا حقيقة له، فشرّ هذه الفرق لخيرها الفداء.
والمقصود أنه أي قول التزمه الملتزم كان خيرًا من نفي الخلق، وتعطيل هذه الصفة عن الله. وإذا عُرِض على العقل السليم مفعول لا فاعل له، أو مفعول لا فعل لفاعله؛ لم يجد بين الأمرين فرقًا في الإحالة، فمفعول بلا فعل كمفعول بلا فاعل، لا فرق بينهما البتّة.
فليعرض العاقل على نفسه القول بتسلسل الحوادث، والقول بقيام الأفعال بذات الربّ سبحانه، والقول بوجود مخلوق حادث عن خلق قديم
(2/8)
________________________________________
قائم بذات الرب سبحانه، والقول بوجود (1) مفعول بلا فعل، ولينظر أي هذه الأقوال أبعد عن العقل والسمع، وأيها أقرب إليهما، ونحن نذكر أجوبة الطوائف عن هذا السؤال.
فقالت طائفة: نختار من هذا التقسيم والترديد كون الخلق والتكوين قديمًا قائمًا بذات الربّ تعالى، ولا يلزمنا قدم المخلوق المكوَّن، كما نقول نحن وأنتم: إن الإرادة قديمة، ولا يلزم من قدمها قدم المراد، وكل ما أجبتم به في صورة الإلزام فهو جوابنا بعينه في مسألة التكوين.
وهذا جواب سديد، وهو جواب جمهور الحنفية والصوفية وأتباع الأئمة.
فإن قلتم: إنما لم يلزم من قدم الإرادة قدم المراد؛ لأنها تتعلق بوجود المراد في وقته، فهو يريد كون الشيء في ذلك الوقت، وأما تكوينه وخلقه قبل وجوده فمحال.
قيل لكم: لسنا نقول: إنه كوّنه قبل وقت كونه، بل التكوين القديم اقتضى كونه في وقته، كما اقتضت الإرادة القديمة كونه في وقته.
فإن قلتم: كيف يُعْقَل تكوين ولا مكوَّن؟
قيل: كما عقلتم إرادة ولا مراد.
فإن قلتم: المريد قد يريد الشيء قبل كونه، ولا يكونه قبل كونه.
قيل: كلامنا في الإرادة المستلزمة لوجوده، لا في الإرادة التي لا تستلزم
_________
(1) من قوله: «مخلوق حادث» إلى هنا ساقط من «م».
(2/9)
________________________________________
المراد، وإرادة الربّ تعالى ومشيئته تستلزم وجود مراده، وكذلك التكوين، يوضحه: أن التكوين هو اجتماع القدرة والإرادة وكلمة التكوين، وذلك كله قديم، ولم يلزم منه قدم المكوَّن.
قالوا: وإذا عرضنا هذا على العقول السليمة، وعرضنا عليها مفعولًا بلا فعل؛ بادرت إلى قبول ذاك وإنكار هذا.
فهذا جواب هؤلاء.
وقالت الكرّامية: بل نختار من هذا الترديد كون التكوين حادثًا، وقولكم: «يلزم من ذلك قيام الحوادث بذات الربِّ، فالتكوين هو فعله، وهو قائم به»، فكأنكم قلتم: يلزم من قيام فعله به قيامه به، وسميتم أفعاله حوادث، وتوسلتم بهذه التسمية إلى تعطيلها، كما سمّى إخوانكم صفاته: أعراضًا، وتوسلوا بهذه التسمية إلى نفيها عنه. وكما سمّوا علوّه على مخلوقاته واستواءه على عرشه: تحيّزًا، وتوسلوا بهذه التسمية إلى نفيه. وكما سمّوا وجهه الأعلى (1) ويديه: جوارح، وتوسلوا بذلك إلى نفيها.
قالوا: ونحن لا ننكر أفعال خالق السماوات والأرض وما بينهما، وكلامه وتكليمه، ونزوله إلى السماء، واستواءه على عرشه، ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده، ونداءه لأنبيائه ورسله وملائكته، وفعله ما شاء= بتسميتكم لهذا كله حوادث، ومن أنكر ذلك فقد أنكر كونه ربّ العالمين؛ فإنه لا يتقرر في العقول والفطر كونه ربًّا للعالمين إلا بأن يثبت له الأفعال الاختيارية، وذات لا تفعل ليست مستحقة للربوبية ولا للإلهية،
_________
(1) من قوله: «وتوسلوا بهذه» إلى هنا ساقط من «د».
(2/10)
________________________________________
فالإجلال عن هذا الإجلال (1) واجب، والتنزيه عن هذا التنزيه متعين (2)، فتنزيه الربّ تعالى عن قيام الأفعال به تنزيه له عن ربوبيته وملكه.
قالوا: ولنا على صحة هذه المسألة أكثر من ألف دليل من القرآن والسنة والمعقول.
وقد اعترف أفضل متأخريكم (3) بفساد شبهكم كلها على إنكار هذه المسألة، وذَكَرَها شبهة شبهة وأفسدها، وألزم بها جميع الطوائف.
حتى الفلاسفة الذين هم أبعد الطوائف من إثبات الصفات والأفعال قالوا: ولا يمكن إثبات حدوث العالم وكون الربّ خالقًا ومتكلمًا وسامعًا ومبصرًا، ومجيبًا للدعوات، ومدبرًا للمخلوقات، وقادرًا ومريدًا؛ إلا بالقول بأنه فعَّال، وأن أفعاله قائمة به، فإذا بطل أن يكون له فعل، وأن تقوم بذاته الأمور المتجددة بطل هذا كله.
فصل
وقد أجاب عن هذا عبد العزيز بن يحيى الكناني في «حيدته» (4) فقال في سؤاله للمَرِيسي: بأي شيء حدثت الأشياء؟
فقال له: أحدثها الله بقدرته التي لم تزل.
فقلت له: أحدثها بقدرته كما ذكرت، أفليس تقول: إنه لم يزل قادرًا؟
_________
(1) «د» «م»: «فالاضلال من هذا الاضلال» تحريف، والمثبت من «ج».
(2) محله في «د» كلمة يشبه أن تكون: «مستفال» دون إعجام.
(3) «د»: «متأخروكم» دون: «أفضل».
(4) «الحيدة» (83 - 84).
(2/11)
________________________________________
قال: بلى.
قلت: فتقول: إنه لم يزل يفعل؟
قال: لا أقول هذا.
قلت: فلابدّ أن يلزمك أن تقول: إنه خلق بالفعل الذي كان بالقدرة؛ لأن القدرة صفة (1).
ثم قال عبد العزيز: لم أقل: لم يزل الخالق يخلق، ولم يزل الفاعل يفعل، وإنما الفعل صفة والله يقدر عليه، ولا يمنعه منه مانع.
فأثبت عبد العزيز فعلًا مقدورًا لله هو صفة له ليس من المخلوقات، وأنه به خلق المخلوقات، وهذا صريح في أن مذهبه كمذهب السلف وأهل الحديث: أن الخلق غير المخلوق، والفعل غير المفعول، كما حكاه البغوي إجماعًا لأهل السنة (2).
وقد صرّح عبد العزيز أن فعله سبحانه القائم به مقدور له، وأنه خلق به المخلوقات، كما صرح به البخاري في آخر «صحيحه»، وفي كتاب «خلق الأفعال»، فقال في «صحيحه»: «باب ما جاء في تخليق السماوات والأرض وغيرها من الخلائق، وهو فعل الربّ وأمره، فالرب سبحانه بصفاته وفعله وأمره وكلامه هو الخالق المكوِّن غير مخلوق، وما كان بفعله وأمره وتخليقه
_________
(1) في «الحيدة»: «خلق بالفعل الذي كان عن القدرة، وليس الفعل هو القدرة؛ لأن القدرة».
(2) تقدم توثيقه في (1/ 425).
(2/12)
________________________________________
وتكوينه فهو مفعول مخلوق مكوَّن» (1)، فصرَّح إمام السنة أن صفة التخليق هي (2) فعل الربّ وأمره، وأنه خالق بفعله وكلامه.
وجميع يَزَك الرسول وحزبه مع محمد بن إسماعيل في هذا.
والقرآن مملوء من الدلالة عليه، كما دلّ عليه العقل والفطرة، قال تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس: 81]، ثم أجاب نفسه بقوله: {بَلَى وَهْوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ}، فأخبر أنه قادر على نفس فعله، وهو أن يخلق، فنفس {أن يخلق} فعل له، وهو قادر عليه.
ومَن يقول: لا فعل له، وأن الفعل هو عين المفعول، يقول: لا يقدر على فعل يقوم به البتّة، بل لا يقدر إلا على المفعول المباين له، الحادث بغير فعل منه سبحانه. وهذا أبلغ في الإحالة من حدوثه بغير قدرة، بل هو في الإحالة كحدوثه بغير فاعل؛ فإن المفعول يدل على قدرة الفاعل باللزوم العقلي، ويدل على فعله الذي وُجِد به بالتضمّن، فإذا سُلِبتْ دلالته التضمّنية كان سَلْب دلالته اللزومية أسهل، ودلالة المفعول على فاعله وفعله دلالة واحدة، وهي أظهر بكثير من دلالته على قدرته وإرادته.
وذكر قدرة الرب تعالى على أفعاله وتكوينه في القرآن كثير، كقوله: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام: 65]، فـ {أن يبعث} هو نفس فعله، والعذاب هو مفعوله المباين له. وكذلك قوله: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40]، فإحياء الموتى نفس فعله، وحياتهم مفعوله
_________
(1) «الصحيح» (9/ 134)، وانظر: «خلق أفعال العباد» (2/ 297) وغيرها.
(2) «م»: «بين».
(2/13)
________________________________________
المباين له، وكلاهما مقدور له. وقال تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة: 4]، فتسوية البنان فعله، واستواؤها مفعوله.
ومنكرو الأفعال يقولون: الربّ تعالى يقدر على المفعولات المباينة له، ولا يقدر على فعل يقوم بنفسه، لا لازم (1) ولا متعدّ.
وأهل السنة يقولون: الربّ تعالى يقدر على هذا وعلى هذا، وهو سبحانه له الخلق والأمر، فالجهمية أنكرت خلقه وأمره، وقالوا: خلقه نفس مخلوقه، وأمره مخلوق من مخلوقاته، فلا خلق ولا أمر. ومن أثبت له الكلام القائم بذاته ونفى أن يكون له فعل؛ فقد أثبت الأمر دون الخلق، ولم يقل أحد بقيام أفعاله به، ونفي صفة الكلام عنه، فيثبت الأمر دون الخلق. وأهل السنة يثبتون له سبحانه ما أثبته لنفسه من الخلق والأمر، فالخلق فعله، والأمر قوله، وهو سبحانه يقول ويفعل.
وأجابت طائفة أخرى من أهل السنة والحديث عن هذا بالتزام التسلسل، وقالوا: ليس في العقل ولا في الشرع ما ينفي دوام فاعلية الربّ تعالى، وتعاقب أفعاله شيئًا قبل شيء إلى غير غاية، كما تتعاقب شيئًا بعد شيء إلى غير غاية، فلم يزل فعّالًا.
قالوا: والفعل صفة كمال، ومن يفعل أكمل ممن لا يفعل.
قالوا: ولا يقتضي صريح العقل إلا هذا، ومن زعم أن الفعل كان ممتنعًا عليه سبحانه في مُدَد غير مقدّرة (2) لا نهاية لها، ولا يقدر أن يفعل، ثم انقلب
_________
(1) «د» «م»: «ولا لازم»، والوجه من «ج».
(2) «د» «م»: «مدد مقدرة»، والتصويب من «ج».
(2/14)
________________________________________
الفعل من الاستحالة الذاتية إلى الإمكان الذاتي من غير حدوث سبب ولا تغير في الفاعل= فقد نادى على عقله بين الأنام.
قالوا: وإذا جاز هذا في العقول (1) جاز أن ينقلب العالم من العدم إلى الوجود من غير فاعل، وإن امتنع هذا في بدائه العقول، فكذلك تجدُّد إمكان الفعل وانقلابه من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي بلا سبب، وأما أن يكون هذا ممكنًا، وذاك ممتنعًا، فليس في العقول ما يقتضي ذلك (2).
قالوا: والتسلسل لفظ مجمل لم يرد بنفيه ولا إثباته كتاب ناطق، ولا سنة متّبعة، فيجب مراعاة لفظه، وهو ينقسم إلى: واجب، وممتنع، وممكن.
فالتسلسل في المؤثِّرين محال ممتنع لذاته، وهو أن يكون بين مؤثِّرَيْن كل واحد منهما استفاد تأثيره ممن قبله لا إلى غاية.
والتسلسل الواجب ما دلّ عليه العقل والشرع من دوام أفعال الربّ تعالى في الأبد، وأنه كلما انقضى لأهل الجنة نعيم أحدث لهم نعيمًا آخر لا نفاد له، وكذلك التسلسل في أفعاله سبحانه من طرف (3) الأزل، وأن كل فعل مسبوق بفعل آخر، فهذا واجب في كلامه؛ فإنه لم يزل متكلمًا إذا شاء، ولم تحدث له صفة الكلام في وقت.
وهكذا أفعاله التي هي من لوازم حياته، فإن كل حي فعّال، والفرق بين
_________
(1) «م» «ج»: «وإذا كان هذا»، ويشبه أن تكون في «م»: «المعقول»، والمثبت من «د» أقرب.
(2) «د» «ج»: «بذلك».
(3) «م» «ج»: «طرق» بالإعجام، وأهملت في «د»، والمثبت أشبه، وسيأتي نظيره.
(2/15)
________________________________________
الحي والميت بالفعل، ولهذا قال غير واحد من السلف: الحيُّ الفعّال. وقال عثمان بن سعيد: كل حيّ فَعَّال (1).
ولم يكن ربُّنا تبارك وتعالى قط في وقت من الأوقات المحققة أو المقدّرة معطّلًا عن كماله من الكلام والإرادة والفعل.
وأما التسلسل الممكن فالتسلسل في مفعولاته من هذا الطرف، كما يتسلسل في طرف الأبد، فإنه إذا لم يزل حيًّا قادرًا مريدًا متكلمًا ـ وذلك من لوازم ذاته ـ فالفعل ممكن له بوجوب هذه الصفات له، وأن يفعل أكمل من أن لا يفعل، ولا يلزم من هذا أنه لم يزل الخلق معه؛ فإنه سبحانه متقدّم على كل فردٍ فردٍ (2) من مخلوقاته تقدّمًا لا أول له، فلكل مخلوق أول، والخالق سبحانه لا أول له، فهو وحده الخالق، وكل ما سواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن.
قالوا: وكل قول سوى هذا فصريح العقل يرده، ويقضي ببطلانه، وكل من اعترف بأن الربّ تعالى لم يزل قادرًا على الفعل لزمه أحد أمرين لابد له منهما: إما بأن يقول: إن الفعل لم يزل ممكنًا، وإما أن يقول: لم يزل واقعًا، وإلا تناقض تناقضًا بيّنًا؛ حيث زعم أن الربّ تعالى لم يزل قادرًا على الفعل، والفعل محال ممتنع لذاته، لو أراده لم يمكن وجوده، بل فَرْض إرادته عنده محال، وهو مقدور له، وهذا قول يناقض بعضه بعضًا.
_________
(1) لم أقف عليه، وفي «النقض على المريسي» (1/ 215): «كل حي متحرك لا محالة، وكل ميت غير متحرك لا محالة»، ونقل البخاري في «خلق الأفعال» (2/ 192) عن نعيم معنى ما في المتن.
(2) رمز فوقهما بالصحة في «م».
(2/16)
________________________________________
وأجابت طائفة أخرى بالجواب المركّب على جميع التقادير، فقالوا: تسلسل الآثار إما أن يكون ممكنًا أو ممتنعًا، فإن كان ممكنًا فلا محذور في التزامه، وإن كان ممتنعًا لم يلزم من بطلانه بطلان الفعل الذي لا يكون المخلوق إلا به؛ فإنا نعلم أن المفعول المنفصل لا يكون إلا بفعل، والمخلوق لا يكون إلا بخلق، قبل العلم بجواز التسلسل وبطلانه.
ولهذا كثير من الطوائف يقولون: الخلق غير المخلوق، والفعل غير المفعول، مع قولهم ببطلان التسلسل، مثل كثير من أتباع الأئمة الأربعة، وكثير من أهل الحديث والصوفية والمتكلمين.
ثم من هؤلاء من يقول: الخلق ـ الذي هو التكوين ـ صفة قديمة، كالإرادة.
ومنهم من يقول: بل هي حادثة بعد أن لم تكن، كالكلام والإرادة، وهي قائمة بذاته سبحانه، وهم الكرّامية ومن وافقهم، أثبتوا حدوثها وقيامها بذاته، وأبطلوا دوامها؛ فرارًا من القول بحوادث لا أول لها، وكلا الفريقين لا يقول: إن ذلك التكوين والخلق مخلوق، بل يقول: إن المخلوق وُجِد به كما وُجِد بالقدرة.
قالوا: فإذا كان القول بالتسلسل لازمًا لكل من قال: إن الربّ تعالى لم يزل قادرًا على الخلق، يمكنه أن يفعل بلا ممانع= فهو لازم لك، كما ألزمتَه لخصومك، فلا ينفردون بجوابه دونك. وأما ما ألزموك به من وجود مفعول بلا فعل، ومخلوق بلا خلق، فهو لازم لك وحدك.
قالوا: ونحن إنما قلنا: الفعل صفة قائمة به سبحانه، وهو قادر عليه لا يمنعه منه مانع، والفعل القائم به ليس هو المخلوق المنفصل عنه، فلا يلزم
(2/17)
________________________________________
أن يكون معه مخلوق في الأزل، إلا إذا ثبت أن الفعل اللازم يستلزم الفعل المتعدي، وأن المتعدي يستلزم دوام نوع المفعولات، ودوام نوعها يستلزم أن يكون معه سبحانه في الأزل شيء منها، وهذه الأمور لا سبيل لك ولا لغيرك إلى الاستدلال على ثبوتها كلها.
وحينئذ فنقول: أي لازم لزم من إثبات فعله سبحانه كان القول به خيرًا من نفي الفعل، وتعطيله عنه.
فإن ثبت قيام فعله به من غير قيام الحوادث به ـ كما يقوله كثير من الناس ـ بطل قولكم. وإن لزم من إثبات فعله قيام الأمور الاختيارية به، والقول بأنها مُفتتَحة ولها أول؛ فهو خير من قولكم، كما تقوله الكرّامية. وإن لزم تسلسلها وعدم أوليتها في الأفعال اللازمة؛ فهو خير من قولكم. وإن لزم تسلسل الآثار (1)، وكونه سبحانه لم يزل خالقًا كما دلّ عليه النص والعقل؛ فهو خير من قولكم. ولو قُدِّر أنه يلزم أن الخلق لم يزل مع الله قديمًا بقدمه؛ كان خيرًا من قولكم، مع أن هذا لا يلزم، ولم يقل به أحد من أهل الإسلام، بل ولا أهل الملل، فكلهم متفقون على أن الله سبحانه وحده الخالق، وكل ما سواه مخلوق موجود بعد عدمه، وليس معه غيره من المخلوقات يكون وجوده مساويًا لوجوده.
فما لزم بعد هذا من إثبات خلقه وأمره وصفات كماله ونعوت جلاله، وكونه ربّ العالمين، وأن كماله المقدس من لوازم ذاته= فإنا به قائلون، وله ملتزمون.
_________
(1) «د»: «التسلسل والآثار».
(2/18)
________________________________________
كما أنا ملتزمون لكل ما لزم من كونه حيًّا عليمًا قديرًا سميعًا بصيرًا متكلّمًا آمرًا ناهيًا، فوق عرشه، بائن من خلقه، يراه المؤمنون بأبصارهم عيانًا في الجنة، وفي عرصات القيامة، ويكلمهم ويكلمونه، فإن هذا حق، ولازم الحق مثله، وما لم يلزم (1) من إثبات ذلك من الباطل الذي تتخيله خفافيش العقول فنحن له منكرون، وعن القول به عادلون، وبالله التوفيق.
قال القدري: كون العبد موجِدًا لأفعاله وهو الفاعل لها من أجلى الضروريات والبديهيات؛ فإن كل عاقل يعلم من نفسه أنه فاعل (2) لما يصدر عنه من الأفعال الواقعة على وفق قصده وداعيته، بخلاف حركة المرتعش والمجرور على وجهه، وهذا لا يتمارى فيه العاقل، ولا يقبل التشكيك والقدح في ذلك، والاستدلال على خلافه استدلال على بطلان ما عُلِمت صحته بالضرورة، فلا يكون مقبولًا.
قال السني: قد أجابك خصومك من الجبرية عن هذا بأن العاقل يعلم من نفسه وقوع الفعل مقارنًا لقدرته، ولا يعلم من نفسه أنه واقع بقدرته، والفرق بين الأمرين ظاهر، ولو كان وقوعه بقدرته هو المعلوم بالضرورة لما خالف فيه جمع عظيم من العقلاء، يستحيل عليهم الإطباق على جحد الضروريات.
وهذا الجواب مما لا يشفي عليلًا، ولا يروي غليلًا، وهو عبارات لا حاصل تحتها؛ فإن كل عاقل يجد من نفسه وقوع الفعل بقدرته وإرادته وداعيته، وأن ذلك هو المؤثِّر في الفعل، ويجد تفرقة ضرورية بين مقارنة
_________
(1) تحتمل في «د» و «م»: «لم يلتزم»، مهملة، وجوّدها في «ج» بما تراه في المتن.
(2) من قوله: «لها من أجلى» إلى هنا ساقط من «م».
(2/19)
________________________________________
القدرة والداعية للفعل، ومقارنة طوله ولونه وشمّه وغير ذلك من صفاته للفعل، ونسبة ذلك كله عند الجبري إلى الفعل نسبة واحدة، والله سبحانه أجرى العادة بخلق الفعل عند القدرة والداعي لا بهما، وإنما اقترن الداعي والقدرة بالفعل اقترانًا مجرّدًا. ومعلوم أن هذا قدح في الضروريات.
ولا ريب أن من نظر إلى تصرفات العقلاء ومعاملاتهم مع بعضهم بعضًا؛ وجدهم يطلبون الفعل من غيرهم طلب عالم بالاضطرار أن المطلوب منه الفعل هو المحصِّل له، الواقع بقدرته وإرادته، ولذلك يتلطفون لوقوع الفعل منه بكل لطيفة، ويحتالون عليه بكل حيلة، فيعطونه تارة، ويزجرونه تارة، ويوبّخونه تارة، ويتوصلون إلى إخراج الفعل منه بأنواع الرغبة والرهبة، ويقولون: قد فعل فلان كذا (1)، فما لك لا تفعل كما فعل؟ وهذا أمر مشاهد بالحسِّ والضرورة.
فالعقلاء ساكنو الأنفس إلى أن الفعل من العبد يقع، وبه يحصل، ولو حرك أحدُهم أصبعه، فشتمْتَ المحرِّك لها، لغضب وشتمك، وقال: كيف تشتمني؟ ولم يقل: لِمَ تشتم ربّي؟
وهذا أوضح من أن يُضرب له الأمثال، أو يُبسط فيه المقال، وما يعرض في ذلك من الشُّبه جارٍ مجرى السَّفْسَطة.
وقد فطر الله سبحانه العقلاء على ذمِّ فاعل الإساءة، ومَدْح فاعل الإحسان، وهذا يدل على أنهم مفطورون على العلم بأنه فاعل؛ لأن الذم فرع عليه، ويستحيل أن يكون الفرع معلومًا باضطرار، والأصل ليس كذلك.
_________
(1) «فلان» من «ج».
(2/20)
________________________________________
والعقلاء قاطبة يعلمون أن الكاتب مثلًا يكتب إذا أراد، ويمسك إذا أراد، وكذلك الباني (1) والصانع، وأنه إذا عجزت قدرته، أو عدمت إرادته بطل فعله، فإن عادت إليه القدرة والإرادة عاد الفعل.
وقولك: «لو كان ذلك أمرًا ضروريًا لاشترك العقلاء فيه»، جوابك: أنه لا يجب الاشتراك في الضروريات، فكثير من العقلاء يخالفون كثيرًا من الضروريات لدخول شبهة عليهم، ولا سيما إذا تواطؤوا عليها وتناقلوها، كمخالفة الفلاسفة في الإثبات لكثير من الضروريات، وهم جمع كثير من العقلاء.
وهؤلاء النصارى مذهبهم مما يُعلم فساده بضرورة العقل، وهم يناظرون عليه ويَنْصرونه.
وهؤلاء الرافضة يزعمون أن أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - لم يؤمنا بالله ورسوله طرفة عين، ولم يزالا عدوَّيْن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مترصّدَيْن لقتله، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقام عليًا على رؤوس جميع الصحابة وهم ينظرون إليه جهرة، وقال: هذا وصيي وولي العهد بعدي، فكلكم له تسمعون، فأطبقوا كلهم على كتمان هذا النص وعصيانه.
وهؤلاء الجهمية ــ ومَن قال بقولهم ــ يقولون ما يخالف صريح المعقول؛ من وجود مفعول بلا فعل، ومخلوق بلا خلق.
_________
(1) اضطرب في رسمها النساخ، والمثبت من «ط»، والجمع في التمثيل بين الباني والصانع شائع في كتب العقائد، انظر مثلًا: «الصواعق المرسلة» (2/ 493)، «المواقف» (3/ 12).
(2/21)
________________________________________
وهؤلاء الفلاسفة ــ وهم المُدِلّون بعقولهم ــ يثبتون ذواتًا قائمة بأنفسها خارج الذهن، ليست في العالم، ولا خارجة عن العالم، ولا متصلة به، ولا منفصلة عنه، ولا مباينة له، ولا محايثة، وهو مما يُعلم بصريح العقل فساده.
وهؤلاء طائفة الاتحادية تزعم أن الله هو هذا الوجود المشهود، وأن التعدد والتكثير فيه وهم محض.
وهؤلاء منكرو الأسباب يزعمون أنه لا حرارة في النار تحرق بها، ولا رطوبة في الماء يروي بها، وليس في الأجسام أصلًا قوى ولا طبائع، ولا في العالم شيء يكون سببًا لشيء آخر البتّة.
وإن لم تكن هذه الأمور جحدًا للضروريات فليس في العالم مَنْ جَحَد الضروريات، وإن كانت جحدًا للضروريات بطل قولكم: إن جمعًا من العقلاء لا يتفقون على ذلك.
والأقوال التي جحد بها المتكلمون الضروريات أضعاف أضعاف ما ذكرناه، فهم أجحد الناس لما يُعلم بضرورة العقل.
وكيف يصح في عقل سليم: سميعٌ لا سمع له، بصيرٌ لا بصر له، حيٌّ لا حياة له؟!
أم كيف يصح عند ذي عقل: مرئيٌّ يُرى بالأبصار عيانًا لا فوق الرائي، ولا تحته، ولا عن يمينه، ولا عن يساره، ولا خلفه، ولا أمامه؟!
أم كيف يصح عند ذي عقل: إثباتُ كلام قديم أزلي، لو كان البحر يمده من بعده سبعة أبحر، وجميع أشجار الأرض على اختلافها وكبرها وصغرها أقلام يُكتب بها= لنفدت البحار، وفنيت الأقلام، ولم يفنَ ذلك الكلام. ومع
(2/22)
________________________________________
هذا فهو معنى واحد لا جزء له، ولا ينقسم، والنهي (1) فيه عين الأمر، والنفي فيه عين الإثبات، والخبر فيه عين الاستخبار، والتوراة فيه عين الإنجيل وعين القرآن، وذلك كله أمر واحد إنما يختلف بمسمياته ونسبته. وقد أطبق على هذا جمع عظيم من العقلاء، وكفّروا من خالفهم فيه، واستحلّوا منهم ما حرّمه الله.
وهؤلاء الجهمية يقولون: إن للعالم صانعًا قائمًا بذاته، ليس في العالم، ولا هو خارج العالم، ولا فوق العالم، ولا تحته، ولا خلفه، ولا أمامه، ولا عن يمينه، ولا عن يَسْرَته، ولا هو مباين له، ولا مُحَايِث له. فوصفوا واجب الوجود بصفة ممتنع الوجود، وكفّروا من خالفهم في ذلك، واستحلّوا دمه، وقالوا ما يُعلم فساده بصريح العقل.
ولو ذهبنا نذكر كل ما جحد فيه أكثر الطوائف الضروريات لطال الكتاب جدًّا.
وهؤلاء النصارى أمة قد طبقت شرق الأرض وغربها، وهم من أعظم الناس جحدًا للضروريات.
وهؤلاء الفلاسفة هم أهل المعقولات، وهم من أكثر الناس جحدًا للضروريات.
فاتفاق طائفة من الطوائف على المقالة لا يدل على [عدم] (2) مخالفتها لصريح العقل، وبالله التوفيق.
_________
(1) «م» «ج»: «وهو النهي» كأنها إقحام، والتصويب من «د».
(2) زيادة لازمة لإقامة المعنى.
(2/23)
________________________________________
فصل (1)
قال القدري: قال الله عز وجل: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]، وعند الجبري: أن الكل فعل الله، وليس من العبد شيء.
قال الجبري: في الكلام استفهام مقدَّر، تقديره: أفمن نفسك؟ فهو إنكار لا إثبات، وقرأها بعضهم: {فَمَنْ نَفْسُك}؟ بفتح الميم ورفع نفسك (2)، أي: مَن أنت حتى تفعلها؟
قال: ولابد من تأويل الآية وإلا ناقض قوله في الآية التي قبلها: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78]، فأخبر أن الحسنات والسيئات جميعًا من عنده، لا من عند العبد (3).
قال السني: أخطأتما جميعًا في فهم الآية أقبح خطأ، ومنشأ غلطكما ظنكما أن الحسنات والسيئات في الآية المراد بها الطاعات والمعاصي التي هي فعل العبد الاختياري، وهذا وهم محض في هذه الآية، وإنما المراد بها النعم والمصائب.
ولفظ الحسنات والسيئات في كتاب الله يراد به هذا تارة، وهذا تارة،
_________
(1) انظر: «مجموع الفتاوى» (8/ 110 - 114)، (14/ 234 - 245)، والمؤلف صادر عنه.
(2) وهي قراءة شاذة، انظر: «الكامل» (529)، «البحر المحيط» (3/ 721).
(3) «د» «م»: «من عند العبد» دون «لا»، والتصويب من «ج».
(2/24)
________________________________________
فقوله تعالى: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} [آل عمران: 120]، وقوله تعالى: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ} [التوبة: 50]، وقوله: {ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ} [الأعراف: 168]، وقوله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ} [الشورى: 48]، وقوله: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف: 131]، وقوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]، المراد في هذا كله النعم والمصائب.
وأما قوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [الأنعام: 160]، وقوله: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، وقوله: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70]، المراد به في هذا كله الأعمال المأمور بها والمنهي عنها.
وهو سبحانه إنما قال: {مَا أَصَابَكَ}، ولم يقل: «ما أصبت، وما كسبت»، فما يفعله العبد يقال فيه: ما أصبت وكسبت وعملت، كقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} [طه: 112]، {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123]، {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا} [النساء: 112]، وقول المذنب التائب: يا رسول الله، أصبتُ ذنبًا فأقم عليَّ كتاب الله (1)، ولا يقال في هذا: أصابك ذنب، وأصابتك سيئة.
_________
(1) أخرجه البخاري (6823)، ومسلم (2764) بنحوه من حديث أنس.
(2/25)
________________________________________
وما يفعل به بغير اختياره يقال فيه: أصابك كقوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]، وقوله: {وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ} [التوبة: 50]، وقوله: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} [آل عمران: 165]، فجمع الله في الآية بين ما أصابوه بفعلهم وكسبهم، وما أصابهم مما ليس فعلًا لهم، وقوله: {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ} [التوبة: 52]، وقوله: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} [الرعد: 31]، وقوله: {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة: 106].
فقوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} [النساء: 79] هو من هذا القسم، لا من القسم الذي يصيبه العبد باختياره، وهذا إجماع من السلف في تفسير هذه الآية.
قال أبو العالية: «{وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ}: هذا في السراء، {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ}: هذا في الضراء» (1).
وقال السُّدِّي: «الحسنة الخصب، تنتج مواشيهم وأنعامهم، ويحسن حالهم، وتلد نساؤهم الغلمان، قالوا: هذا من عند الله، {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ}، قال: الضرّ في أموالهم، تشاءموا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: هذا من عنده، يقولون: بتركنا ديننا واتباعنا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أصابنا ما أصابنا، فأنزل الله تعالى ردًّا عليهم: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78]: الحسنة والسيئة» (2).
_________
(1) أسنده الطبري (7/ 238)، وابن أبي حاتم (3/ 1008).
(2) أسنده ابن أبي حاتم (3/ 1008) في ثلاثة أحاديث متفرقة.
(2/26)
________________________________________
وقال الوالبي: عن ابن عباس: «{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}، قال: ما فتح الله عليك يوم بدر. وقال أيضًا: هو الغنيمة والفتح. والسيئة: ما أصابه يوم أحد: شُجَّ في وجهه، وكُسِرت رَباعِيته» (1).
وقال أيضًا: «أما الحسنة فأنعم الله بها عليك، وأما السيئة فابتلاك بها».
وقال أيضًا: «ما أصابك من نكبة فبذنبك، وأنا قدّرت ذلك عليك» (2).
ذكر ذلك كله ابن أبي حاتم.
وفي تفسير أبي صالح: عن ابن عباس: «{وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ}: الخصب، {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} الجدب والبلاء» (3).
وقال ابن قتيبة في هذه الآية: «الحسنة النعمة، والسيئة البلية» (4).
فإن قيل: فقد حكى أبو الفرج ابن الجوزي (5): عن أبي العالية أنه فسّر الحسنة والسيئة في هذه الآية بالطاعة والمعصية، وهو من أعلم التابعين؟
فالجواب: إنه لم يذكر بذلك إسنادًا، ولا نعلم صحته عن أبي العالية، وقد ذكر ابن أبي حاتم بإسناده عن أبي العالية ما تقدم حكايته، أن ذلك في السراء والضراء، وهذا هو المعروف عن أبي العالية، ولم يذكر ابن أبي حاتم
_________
(1) أسنده الطبري (7/ 242)، وابن أبي حاتم (3/ 1010).
(2) أسنده وسابقه ابن أبي حاتم (3/ 1010).
(3) أورده ابن الجوزي في «زاد المسير» (2/ 137).
(4) «غريب القرآن» (130).
(5) «زاد المسير» (2/ 138).
(2/27)
________________________________________
عنه غيره، وهو الذي حكاه ابن قتيبة عنه (1).
وقد يقال: إن المعنيين جميعًا مرادان، باعتبار أن ما يوفقه الله له من الطاعات فهو نعمة في حقه أصابته من الله، كما قال تعالى: {بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ} [النحل: 53]، فهذا يدخل فيه نعم الدين والدنيا، وما يقع منه من المعصية فهو مصيبة أصابته من الله، وإن كان سببها منه.
والذي يوضح ذلك أن الله سبحانه إذا جعل السيئة التي هي الجزاء على المعصية من نفس العبد بقوله: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]، فالعمل الذي أوجب الجزاء أولى أن يكون من نفسه، فلا منافاة بين أن تكون سيئة العمل من نفسه، وسيئة الجزاء من نفسه، ولا ينفي ذلك أن يكون الجميع من الله قضاءً وقدرًا، ولكن هو من الله عدل وحكمة ومصلحة وحَسَن، ومن العبد سيئة وقبيح.
وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقرؤها: (وما أصابك من سيئة فمن نفسك، وأنا قدّرتها عليك) (2)، وهذه القراءة زيادة بيان، وإلا فقد دلّ قوله قبل ذلك: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78] على القضاء السابق، والقدر النافذ.
_________
(1) لم أقف على حكايته، وقد أسنده ابن جرير عنه كما تقدم.
(2) لم أقف عليه عن ابن عباس بهذا الحرف، وحكاه عنه ابن عطية في «المحرر» (2/ 82) بلفظ: «وأنا قضيتها عليك»، وأسنده ابن المنذر في «التفسير» (2029) بلفظ: «وأنا كتبتها عليك»، ويروى كذلك عن أبي وابن مسعود كما في «تفسير ابن وهب» (253)، و «فضائل القرآن» لأبي عبيد (297)، وانظر: «تفسير القرطبي» (6/ 469 - 470).
(2/28)
________________________________________
والمعاصي قد تكون بعضها عقوبة بعض، فيكون لله (1) على المعصية عقوبتان: عقوبة بمعصية تتولد منها، وتكون الأولى سببًا فيها، وعقوبة بمؤلم يكون جزاءها، كما في الحديث المتفق على صحته عن ابن مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البرِّ، والبرّ يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرّى الصدق، حتى يكتب عند الله صديقًا، وإيَّاكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرّى الكذب، حتى يكتب عند الله كذابًا» (2).
وقد ذكر الله سبحانه في غير موضع من كتابه أن الحسنة الثانية قد تكون من ثواب الحسنة الأولى، وأن المعصية قد تكون عقوبة للمعصية الأولى، فالأول كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 66 - 68]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبْلَنَا} [العنكبوت: 69]، وقال تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 16].
وأما قوله: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} [محمد: 4]، فيحتمل أن لا يكون من هذا، وتكون الهداية في الآخرة إلى طريق الجنة؛ فإنه رتّب هذا الجزاء على قَتْلهم، ويحتمل أن يكون منه، ويكون قوله:
_________
(1) «م»: «ذلك».
(2) البخاري (6094)، ومسلم (2607).
(2/29)
________________________________________
{سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} إخبارًا منه سبحانه عما يفعله بهؤلاء الذين قُتِلوا في سبيله قبل أن قُتِلوا، وأتى به بصيغة المستقبل إعلامًا منه بأنه يجدّد له كل وقت من أنواع الهداية وإصلاح البال شيئًا بعد شيء.
فإن قلت: فكيف يكون ذلك المستقبل خبرًا عن الذين قُتِلوا؟
قلت: الخبر قوله: {فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ}، أي أنه لا يبطلها عليهم، ولا يَتِرَهم إيّاها، هذا بعد أن قُتِلوا، ثم أخبر سبحانه خبرًا مستأنفًا عنهم: أنه سيهديهم ويصلح بالهم، لمّا علم أنهم يُقتلون في سبيله، وأنهم بذلوا أنفسهم له، فلهم جزاءان: جزاء في الدنيا بالهداية على الجهاد، وجزاء في الآخرة بدخول الجنة، فيرد السامع كل جملة إلى وقتها؛ لظهور المعنى، وعدم التباسه، وهو كثير في القرآن، والله أعلم.
وقال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا اَلْمُخْلِصِينَ} [يوسف: 24]، فجازاه على إخلاصه بصرف السوء والفحشاء عنه، وقال: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 22]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الأحزاب: 70 - 71]، وقال: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54]، وقال تعالى: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} [الأنعام: 154]، فضمَّن التمام معنى الإنعام، فعدّاه بعلى، أي: إنعامًا منا على الذي أحسن، فهذا جزاء على الطاعات بالطاعات.
وأما الجزاء على المعاصي بالمعاصي فكقوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، وقوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ
(2/30)
________________________________________
أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: 19]، وقوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران: 155]، وقوله: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 88]، وقوله: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ رَحُبَت ثُّمَّ رَحُبَتْ ثُمَّ} [التوبة: 25]، وهو كثير في القرآن.
وعلى هذا فيكون النوعان من السيئات ــ أعني: المصائب والمعايب ــ من نفس الإنسان، وكلاهما بقدر الله، فشر النفس هو الذي أوجب هذا وهذا.
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته المعروفة: «ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا» (1)، فشر النفس نوعان: صفة وعمل، والعمل ينشأ عن الصفة، والصفة تتأكد وتقوى بالعمل، فكل منهما يمدّ الآخر.
وسيئات الأعمال نوعان قد فُسّر بهما الحديث:
أحدهما: مساوئها وقبائحها، فتكون الإضافة فيه من إضافة النوع إلى جنسه، وهي إضافة بمعنى «من»، أي السيئات من أعمالنا.
والثاني: أنها ما يسوء العامل مما يعود عليه من عقوبة عمله، فيكون من إضافة المسبَّب إلى سببه، وتكون الإضافة على معنى اللام.
وقد يرجّح الأول بأنه يكون قد استعاذ من الصفة والعمل الناشئ عنها، وذلك يتضمن الاستعاذة من الجزاء السيئ المترتب على ذلك، فتضمنت
_________
(1) تقدم تخريجه في (1/ 279).
(2/31)
________________________________________
الاستعاذة ثلاثة أمور: الاستعاذة من العذاب، ومن سببه الذي هو العمل، ومن سبب العمل الذي هو الصفة.
وقد يرجّح الثاني أن شرّ النفس يعم النوعين كما تقدم، فسيئات الأعمال ما يسوء من جزائها، ونبّه بقوله: «سيئات أعمالنا» على أن الذي يسوء من الجزاء إنما هو بسبب الأعمال الإرادية، لا من الصفات التي ليست من أعمالنا.
ولمّا كانت تلك الصفة شرًّا استعاذ منها، وأدخلها في شر النفس.
وقال الصديق - رضي الله عنه - للنبي - صلى الله عليه وسلم -: علّمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال: «قل: اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، ربَّ كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي، وشر الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءًا أو أجره إلى مسلم. قله إذا أصبحت، وإذا أمسيت، وإذا أخذت مضجعك» (1).
ولمّا كان الشر له مصدر يبتدئ منه، وغاية ينتهي إليها، وكان مصدره إما من نفس الإنسان، وإما من الشيطان، وغايته أن يعود على صاحبه، أو على أخيه المسلم= تضمّن الدعاء هذه المراتب الأربعة (2) بأوجز لفظ وأفصحه وأبينه.
_________
(1) أخرجه أحمد (7961)، وأبو داود (5067)، والترمذي (3392) وقال: «حسن صحيح»، وصدر الحديث: «علمني شيئًا أقوله إذا أصبحت، وإذا أمسيت»، فكأنّ المؤلف سبق قلمه فركّب صدر حديث آخر لأبي بكر في أدعية الصلاة على هذا المتن، والله أعلم.
(2) كذا في الأصول بتأنيث العدد، والجادة التذكير مخالفة للمعدود، وتقدم نظيره في كلام المؤلف.
(2/32)
________________________________________
فصل (1)
قال السني: فليس لك أيها القدري أن تحتج بالآية التي نحن فيها لمذهبك لوجوه:
أحدها: أنك تقول: فعل العبد ـ حسنة كان أو سيئة ـ هو منه لا من الله، بل الله سبحانه قد أعطى كل واحد من الاستطاعة ما يفعل به الحسنات والسيئات، لكن هذا أحدث من عند نفسه إرادةً فعل بها الحسنات، وهذا أحدث إرادة فعل بها السيئات، وليست واحدة من الإرادتين من إحداث الربِّ البتّة، ولا أوجبتها مشيئته.
والآية قد فرّقت بين الحسنة والسيئة، وأنتم لا تفرقون بينهما؛ فإن الله عندكم لم يشأ هذا ولا هذا، ولم يخلق هذا ولا هذا.
قال القدري: إضافة السيئة إلى نفس العبد لكونه هو الذي أحدثها وأوجدها، وإضافة الحسنة إليه سبحانه لكونه هو الذي أمر بها وشرعها.
قال السني: الله سبحانه أضاف إلى العبد ما أصابه من سيئة، وأضاف إلى نفسه ما أصاب العبد من حسنة، ومعلوم أن الذي أصاب العبد هو الذي قام به، والأمر لم يقم بالعبد، وإنما قام به المأمور، وهو الذي أصابه، فالذي أصابه لا تصح إضافته إلى الربّ عندكم، والمضاف إلى الربّ لم يقم بالعبد، فعُلِم أن الذي أصابه من هذا وهذا أمر قائم به، فلو كان المراد به الأفعال الاختيارية من الطاعات والمعاصي لاستوت الإضافة، ولم يصح الفرق، وإن افترقا في كون أحدهما مأمورًا به والآخر منهيًا عنه، على أنّ النهي أيضًا من
_________
(1) انظر: «مجموع الفتاوى» (14/ 246 - 260).
(2/33)
________________________________________
الله، كما أنّ الأمر منه، فلو كانت الإضافة لأجل الأمر لاستوى المأمور والمنهي في الإضافة؛ لأن هذا مطلوبٌ إيجاده، وهذا مطلوبٌ إعدامه.
قال القدري: أنا أجوّز تعلّق الطاعة والمعصية بمشيئة الربّ تعالى وإحداثه على وجه الجزاء، لا على سبيل الابتداء، وذلك أن الله سبحانه يعاقب عبده بما يشاء، ويثيبه بما يشاء، فكما يعاقبه بخلْق الجزاء الذي يسوؤه، وخلْق الثواب الذي يسره؛ فكذلك يحسن أن يعاقبه بخلْق المعصية وخلْق الطاعة؛ فإن هذا يكون عدلًا منه، وأما أن يخلق فيه الكفر والمعصية ابتداء بلا سبب فمعاذ الله من ذلك.
قال السني: هذا توسّط حسن جدًّا لا يأباه العقل ولا الشرع، ولكن من أعدى الأول؟ وليس هو عندك مقدورًا لله، ولا واقعًا بمشيئته، فقد أثبتَّ في ملكه ما لا يقدر عليه، وأدخلتَ فيه ما لم يشأه، ونقضتَ أصلك كله؛ فإنك أصّلتَ أن فعل العبد الاختياري قدرة العبد عليه واختياره له ومشيئته تمنع قدرة الربّ عليه ومشيئته له، وهذا الأصل لا فرق فيه بين الابتدائي والجزائي.
قال القدري: فالقرآن قد فرّق بين النوعين، وجعل الكفر والفسوق الثاني جزاءً على الأول، فعُلِم أن الأول من العبد قطعًا، وإلا لم يستقم جعل أحدهما عقوبة على الآخر، وقد صرح تعالى بذلك في قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة: 13]، فأضاف نقض الميثاق إليهم، وتقسية القلوب إليه، فالأول سبب منهم، والثاني جزاء منه سبحانه. وقال: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110]، فأضاف عدم الإيمان أولًا
(2/34)
________________________________________
إليهم؛ إذ هو السبب، وتقليب القلوب وتَرْكهم في طغيانهم (1) إليه؛ إذ هو الجزاء، ومثله قوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، والآيات التي سقتموها آنفًا إنما تدلّ على هذا.
قال السني: نعم هذا حق، لكن ليس فيه إخراج السبب عن كونه مقدورًا للربِّ تعالى واقعًا بمشيئته، ولو شاء لحال بين العبد وبينه، ووفّقه لضده، فهذه البقية التي بقيت عليك من القدر، كما أن إنكار إثبات الأسباب واقتضائها لمسبَّبَاتها وترتبها عليها هي البقية التي بقيت على الجبري في المسألة أيضًا، فكلاكما مصيب من وجه، مخطئ من وجه، ولو تخلص كل منكما من البقية التي بقيت عليه لوجدتما روح الوفاق، واصطلحتما على الحق، وبالله التوفيق.
قال القدري: فما تقول أنت أيها السني في الفعل الأول: إذا لم يكن جزاءً فما وجهه؟ وأنت ممن يقول بالحكمة والتعليل، وتُنزِّه الربّ تعالى عن الظلم الذي هو ظلم، لا ما يقوله الجبري: إنه الجمع بين النقيضين.
قال السني: لا يلزمني في هذا المقام بيان ذلك؛ فإني لم أنتصب له، إنما انتصبت لإبطال احتجاجك بالآية لمذهبك الباطل، وقد وفيت به، ولله تعالى في ذلك حِكَم وغايات محمودة لا تبلغها عقول العقلاء، ومباحث الأذكياء، فالله سبحانه إنما يضع فضله وتوفيقه وإمداده في المحل الذي يصلح له، وما لا يصلح له من المحال يدعه غفلًا فارغًا من الهدى والتوفيق، فيجري مع طبعه الذي خُلِق عليه، {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ
_________
(1) من قوله تعالى: {يَعْمَهُونَ} إلى هنا ساقط من «م».
(2/35)
________________________________________
مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23].
قال القدري: فإذا كان الله سبحانه قد أحدث فيهم تلك الإرادة والمشيئة المستلزمة لوجود الفعل؛ كان ذلك إيجادًا منه سبحانه لذلك فيهم، كما أوجد الهدى والإيمان في أهله.
قال السني: هذا مُعْتَرك النزال، ومَفْرَق (1) طرق العالم، والله سبحانه أعطى العبد مشيئة وقدرة وإرادة تصلح لهذا ولهذا، ثم أمد أهل الفضل بأمور وجودية زائدة على ذلك المشترك، أوجب لهم الهداية والإيمان (2)، وأمسك ذلك الإمداد عمن علم أنه لا يصلح له ولا يليق به، فانصرفت قوى إرادته ومشيئته إلى ضده، اختيارًا منه وإرادة ومحبّة، لا كرهًا واضطرارًا.
قال القدري: فهل كان يمكنه إرادة ما لم يُعَن عليه، ولم يوفَّق له بإمداد زائد على خَلْق الإرادة؟
قال السني: إن أردت بالإمكان أنه يمكنه فعله لو أراده؛ فنعم، هو ممكن بهذا الاعتبار مقدور له، وإن أردت به أنه يمكن وقوعه بدون مشيئة الربّ وإذنه؛ فليس بممكن؛ فإنه ما شاء الله كان، ووجب وجوده، وما لم يشأ لم يكن، وامتنع وجوده.
قال القدري: فقد سَلّمتَ حينئذ أنه غير ممكن للعبد إذا لم يشأ الله منه أن يفعله، فصار غير مقدور للعبد، فقد عوقب على ترك ما لا يقدر على فعله.
_________
(1) «ج»: «وتفرق».
(2) كذا في الأصول: «أوجب لهم»، كأنها على الاستئناف، أي: أوجب الله، والأشبه بالسياق القبلي والبعدي: «أوجبت لهم».
(2/36)
________________________________________
قال السني: عدم إرادة الله سبحانه للعبد ومشيئته أن يفعل لا يوجب كون الفعل غير مقدور له؛ فإنه سبحانه لا يريد من نفسه أن يعينه عليه مع كونه أقدره عليه، ولا يلزم من إقداره عليه وقوعه حتى توجد منه إعانة أخرى، فانتفاء تلك الإعانة لا يُخرِج الفعل عن كونه مقدورًا للعبد؛ فإنه قد يكون قادرًا على الفعل لكن يتركه كسلًا وتهاونًا وإيثارًا لفعل ضده، فلا يصرف الله عنه تلك الموانع، ولا يوجب عدم صرفها كونه عاجزًا عن الفعل؛ فإن الله سبحانه يعلم أنه قادر عليه بالقدرة التي أقدره بها، ويعلم أنه لا يريده مع كونه قادرًا عليه، فهو سبحانه يريد له ومنه الفعل، ولا يريد من نفسه إعانته وتوفيقه، وقطع هذه الإعانة والتوفيق لا يُخرِج الفعل عن كونه مقدورًا له، وإن جعلَتْه غير مراد.
وسر المسألة: الفرق بين تعلق الإرادة بفعل العبد، وتعلقها بفعله هو سبحانه بعبده، فمن لم يحط معرفة بهذا الفرق لم ينكشف له حجاب المسألة.
قال الجبري: إما أن تقول: إن الله علم أن العبد لا يفعل، أو لم يعلم ذلك، والثاني محال، وإذا كان قد علم أنه لا يفعله صار الفعل ممتنعًا قطعًا؛ إذ لو فعله لانقلب العلم القديم جهلًا.
قال السني: هذه حجة باطلة من وجوه:
أحدها: أن هذا بعينه يقال فيما علم الله أنه لا يفعله وهو مقدور له؛ فإنه لا يقع البتّة مع كونه مقدورًا له، فما كان جوابك عن ذلك فهو جوابنا لك.
وثانيها: أن الله سبحانه يعلم الأمور على ما هي عليه، فهو يعلم أنه لا يفعله لعدم إرادته له، لا لعدم قدرته عليه.
(2/37)
________________________________________
وثالثها: أن العلم كاشف لا موجِب، وإنما الموجِب مشيئة الربّ تعالى، والعلم يكشف حقائق المعلومات.
عدنا إلى الكلام على الآية التي احتج بها القدري، وبيان أنه لا حجة له فيها من ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه قال: {مَا أَصَابَكَ}، ولم يقل: (ما أصبت).
الثاني: أن المراد بالحسنة والسيئة النعمة والمصيبة.
الثالث: أنه قال: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}، فالإنسان هو فاعل السيئات ويستحق عليها العقاب، والله هو المنعم عليه بالحسنات عملًا وجزاء، والعادل فيه بالسيئات قضاء وجزاء، ولو كان العمل الصالح من نفس العبد كما كان السيئ من نفسه لكان الأمران كلاهما من نفسه، والله سبحانه قد فرق بين النوعين.
وفي الحديث الصحيح الإلهي: «يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفِّيكم إيّاها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه» (1).
فصل (2)
قال الجبري: أول الآية مُحْكَم، وهو قوله: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}، وآخرها متشابه، وهو قوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79].
_________
(1) تقدم تخريجه في (1/ 158).
(2) انظر: «مجموع الفتاوى» (14/ 248 - 255).
(2/38)
________________________________________
وقال القدري: بل آخرها مُحْكَم، وأولها (1) متشابه.
قال السني: أخطأتما جميعًا، بل كلاهما محكم مُبِين، وإنما أُتيتما من قلة الفهم في القرآن وتدبره، فليس بين اللفظين تناقض لا في المعنى ولا في العبارة؛ فإنه سبحانه ذكر عن هؤلاء الناكلين عن الجهاد أنهم إنْ {تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} يقولوا لرسوله: {هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ}، أي: بسبب ما أمرتنا به من دينك، وترْكنا ما كنّا عليه؛ أصابتنا هذه السيئات؛ لأنك أمرتنا بما أوجبها، فالسيئات ههنا هي المصائب، والأعمال التي ظنّوا أنها سبب المصائب هي التي أُمِروا بها، وقولهم في السيئة التي تصيبهم: {هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} يتناول مصائب الجهاد التي حصلت لهم من الهزيمة والجِرَاح، وقتْل من قُتِل منهم، ويتناول مصائب الرزق على وجه التطيّر والتشاؤم، أي أصابنا هذا بسبب دينك.
كما قال تعالى عن قوم فرعون: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف: 131]، أي إذا جاءهم ما يُسرّون به ويتنعمّون به من النعم قالوا: نحن أهل ذلك ومستحقوه، وإن أصابهم ما يسوؤهم قالوا: هذا بسبب ما جاء به موسى.
وقال أهل القرية للمرسَلين: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} [يس: 18]، وقال قوم صالح له: {اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} (2) [النمل: 47]، وكانوا يقولون لِمَا ينالهم بسبب الحرب: هذا منك؛ لأنك أمرتنا بالأعمال الموجِبة له. وللمصائب
_________
(1) «م»: «وآخرها» سبق قلم.
(2) «م» «د»: (إنا تطيرنا) الآية، ووقعت على الصواب في «ج».
(2/39)
________________________________________
الحاصلة من غير جهة العدو: وهذا منك أيضًا؛ أي بسبب مفارقتنا لديننا ودين آبائنا والدخول في طاعتك، وهذه حال كل من جعل طاعة الرسول سببًا لشرّ أصابه من السماء أو من الأرض، وهؤلاء كثير في الناس، وهم الأقلون عند الله قدرًا، الأرذلون عنده، ومعلوم أنهم لم يقولوا: {هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} بمعنى: أنك أحدثتها.
ومن فهم هذا تبين له أن قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79] لا يناقض قوله: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}، بل هذا تحقيق له؛ فإنه سبحانه بيّن أن النعم والمصائب كلها من عنده، فهو الخالق لها، المقدّر لها، المبتلي خلقه بها، فهي من عنده ليس بعضها خَلْقًا له وبعضها خَلْقًا لغيره، فكيف يضاف بعضها إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبعضها إلى الله تعالى؟! ومعلوم أن الرسول لم يُحْدِثها، فلم يبقَ إلا ظنهم أنه سبب لحصولها، إما في الجملة كحال أهل التطيّر، وإما في الواقعة المعيّنة كحال اللائمين له في الجهاد.
فأبطل الله سبحانه ذلك الوهم الكاذب والظن الباطل، وبيّن أن ما جاء به لا يوجب شرًّا البتّة، بل الخير كله فيما جاء به، والشر بسبب أعمالهم وذنوبهم، كما قال الرسل لأهل القرية: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} [يس: 19].
ولا يناقض هذا قول صالح لقومه: {طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [النمل: 47]، وقوله تعالى عن قوم فرعون: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [الأعراف: 131]، بل هاتان (1) النسبتان نظير هاتين
_________
(1) تحرفت في «م» «ج» إلى: «هذه»، وفي «د»: «هذا»، والسياق يقتضي المثبت.
(2/40)
________________________________________
النسبتين في هذه الآية، وهي نسبة السيئة إلى نفس العبد، ونسبة الحسنة والسيئة إلى أنهما من عند الله.
فتأمل اتفاق القرآن وتصديق بعضه بعضًا، فحيث جعل الطائر معهم، والسيئة من نفس العبد، فهو على جهة السبب والموجِب، أي لأن الشر والشؤم الذي أصابكم هو منكم ومعكم، فإن أسبابه قائمة بكم، كما تقول: شرُّك منك، وشؤمك فيك، وطائرك معك.
وحيث جعل ذلك كله من عنده فهو لأنه الخالق له، المجازي به عدلًا وحكمة، فالطائر يراد به العمل وجزاؤه، فالمضاف إلى العبد العمل، والمضاف إلى الربِّ الجزاء، فطائركم معكم طائر العمل، وطائركم عند الله طائر الجزاء.
فما جاءت به الرسل ليس سببًا لشيء من المصائب، ولا تكون طاعة الله ورسوله سببًا لمصيبة قط، بل طاعة الله ورسوله لا توجب إلا خيرًا في الدنيا والآخرة، ولكن قد يصيب المؤمنين بالله ورسوله مصائب بسبب ذنوبهم وتقصيرهم في طاعة الله ورسوله، كما لحقهم يوم أحد ويوم حنين، وكذلك ما امتُحِنوا به من الضراء وأذى الكفار لهم، ليس هو بسبب نفس إيمانهم ولا هو موجَبه، وإنما امتُحِنوا به ليخلّص ما فيهم من الشر، فامتُحِنوا بذلك كما يُمْتَحن الذهب بالنار ليخلّص منه غشّه، والنفوس فيها ما هو من مقتضى طبيعتها، فالامتحان يمحّص المؤمن من ذلك الذي هو من موجِبات طبعه، كما قال تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 141]، وقال: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [آل عمران: 154].
(2/41)
________________________________________
فطاعة الله ورسوله لا تجلب إلا خيرًا، ومعصيته لا تجلب إلا شرًّا، ولهذا قال سبحانه: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78]، فإنهم لو فقهوا الحديث لعلموا أنه ليس في الحديث الذي أنزله الله على رسوله ما يوجب شرًّا البتّة، ولعلموا أنه سبب كل خير، ولو فقهوا لعلموا أن العقول والفطر تشهد بأن مصالح المعاش والمعاد متعلقة بما جاء به الرسول، فلو فقهوا القرآن علموا أنه أمرهم بكل خير، ونهاهم عن كل شر.
وهذا مما يبين أن ما أمر الله به يُعلم حُسْنه بالعقل، وأنه كله مصلحة ورحمة ومنفعة وإحسان، بخلاف ما يقوله كثير من أهل الكلام الباطل: إنه سبحانه قد يأمر العباد بما لا مصلحة لهم فيه، بل يأمرهم بما فيه مضرّة لهم، وقول هؤلاء تصديق وتقرير لقول المتطيّرين بالرسل.
فصل
ومما يوضح الأمر في ذلك أنه سبحانه لما قال: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79] عقّب ذلك بقوله: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 79] وذلك يتضمن أشياء:
منها: تنبيه أمته على أن رسوله الذي شهد له بالرسالة إذا أصابه ما يكره فمن نفسه، فما الظن بغيره؟!
ومنها: أن حجة الله قد قامت عليهم بإرساله، فإذا أصابهم سبحانه بما يسوؤهم لم يكن ظالمًا لهم في ذلك؛ لأنه قد أرسل رسوله إليهم يعلمهم بما فيه مصالحهم، وما يجلبها لهم، وما فيه مضرتهم، وما يجلبها لهم، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه.
(2/42)
________________________________________
ومنها: أنه سبحانه قد شهد له بالرسالة بما أظهره على يديه من الآيات الدالة على صدقه وأنه رسوله حقًّا، فلا يضره جحد هؤلاء الجاهلين الظالمين المتطيّرين به لرسالته، وقد شهد له ربّ السماوات والأرض.
ومنها: أنهم أرادوا أن يجعلوا سيئاتهم وعقوباتها حجة على إبطال رسالته، فشهد الله له بالرسالة، وأخبر أن شهادته كافية، فكان في ضمن ذلك إبطال قولهم أن المصائب من عند الرسول، وإثبات أنها من عند أنفسهم بطريق التنبيه والأولى.
ومنها: إبطال قول الجهمية المُجبِرة ومَن وافقهم في قولهم: إن الله قد يعذب العباد بلا ذنب.
ومنها: إبطال قول القدرية الذين يقولون: إن أسباب الحسنات والسيئات ليست من الله، بل هي من العبد.
ومنها: ذم من لم يتدبر القرآن ويفقهه، وأن إعراضه عن تدبره وفقهه يوجب له من الضلال والشقاء بحسب إعراضه.
ومنها: إثبات الأسباب، وإبطال قول من ينفيها، ولا يرى لها ارتباطًا بمسبَّباتها.
ومنها: أن الخير كله من الله، والشر كله من النفس، فإن الشر هو الذنوب وعقوباتها، والذنوب من النفس وعقوباتها مترتبة عليها، والله هو الذي قدّر ذلك كله وقضاه، فكلٌّ من عنده قضاءً وقدرًا، وإن كانت نفس العبد سببه، بخلاف الخير والحسنات فإن سببها مجرد فضل الله ومنّه وتوفيقه، كما تقدم تقريره.
(2/43)
________________________________________
ومنها: أنه سبحانه لما ردَّ قولهم: إن الحسنة من الله والسيئة من رسوله، وأبطله بقوله: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} = دفع وهْم من توهّم أن نفسه لا تأثير لها في السيئة، ولا هي منها أصلًا بقوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]، وخاطبه بهذا تنبيهًا لغيره كما تقدم.
ومنها: أنه قال في الرد عليهم: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}، ولم يقل: من الله لمّا جمع بين الحسنات والسيئات، والحسنة مضافة إلى الله من كل وجه، والسيئة إنما تضاف إليه قضاءً وقدرًا وخلقًا، وأنه خالقها كما هو خالق الحسنة، فلهذا قال: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}.
وهو سبحانه إنما خلقها لحكمة، فلا تضاف إليه من جهة كونها سيئة، بل من جهة ما تضمّنته من الحكمة والعدل والحمد، وتضاف إلى النفس كونها سيئة.
ولما ذكر الحسنة مفردة عن السيئة قال: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}، ولم يقل: من عند الله، فالخير منه، وأنه موجَب أسمائه وصفاته، والشر الذي هو بالنسبة إلى العبد شر من عنده سبحانه، فإنه مخلوق له، خلقه عدلًا منه وحكمة.
ثم قال: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}، ولم يقل: من عندك؛ لأن النفس طبيعتها ومقتضاها ذلك، فهو من نفسها، والجميع من عند الله، فالسيئة من نفس الإنسان بلا ريب، والحسنة من الله بلا ريب، وكلاهما من عنده سبحانه قضاءً وقدرًا وخلقًا، ففرق بين ما من الله وبين ما من عَبْده (1)،
_________
(1) هكذا مجوّدة في «م»، وفي «ج»: «عنده»، وأهملت في «د»، وكلاهما محتمل.
(2/44)
________________________________________
والشر لا يضاف إلى الله إرادة ولا محبَّة ولا فعلًا ولا وصفًا ولا اسمًا؛ فإنه لا يريد إلا الخير، ولا يحب إلا الخير، ولا يفعل شرًّا، ولا يوصف به، ولا يسمى باسمه، وسنذكر في باب دخول الشر في القضاء الإلهي وجه نسبته إلى قضائه وقدره إن شاء الله (1).
فصل (2)
وقد اختُلِف في كاف الخطاب في قوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]، هل هي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو هي لكل واحد من الآدميين؟
فقال ابن عباس في رواية الوالبي عنه: «الحسنة: ما فتح الله عليه يوم بدر من الغنيمة والفتح، والسيئة: ما أصابه يوم أحد: أَنْ شُجّ في وجهه، وكُسِرَت رَباعيّته» (3).
وقالت طائفة: بل المراد جنس ابن آدم، كقوله: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6]، روى (4) سعيد، عن قتادة: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} قال: «عقوبة يا ابن آدم بذنبك» (5).
_________
(1) وهو الباب الحادي والعشرون الآتي في (81).
(2) انظر: «مجموع الفتاوى» (14/ 273 - 275).
(3) تقدم تخريجه في (2/ 27).
(4) «د»: «ثم روى»، بإقحام حرف العطف، ولا وجه له.
(5) أخرجه الطبري (7/ 241).
(2/45)
________________________________________
ورجحت طائفة والزجاج (1) القول الأول، واحتجوا بقوله: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا}، قالوا: وأيضًا فإنه لم يتقدم ذكر الإنسان ولا خطابه، وإنما تقدم ذكر طائفة قالوا ما حكاه الله عنهم، فلو كانوا هم المرادين لقال: (ما أصابهم، أو ما أصابكم) على طريق الالتفات.
قالوا: وهذا من باب التنبيه؛ لأنه إذا كان سيد ولد آدم وهذا حكمه فكيف بغيره؟
ورجحت طائفة القول الآخر، واحتجت بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معصوم لا يصدر عنه ما يوجب أن تصيبه سيئة.
قالوا: والخطاب وإن كان له في الصورة فالمراد به الأمة، كقوله: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1].
قالوا: ولما كان أول الآية خطابًا له أجرى الخطاب جميعه على وجه واحد، فأفرده في الثاني والمراد الجمع، والمعنى: وما أصابكم من سيئة فمن أنفسكم، فالأول له والثاني لأمته، ولهذا لما أفرد إصابة السيئة قال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]، وقال: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]، وقال: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ رَحُبَت ثُّمَّ رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة: 25 - 26]، فأخبر أن الهزيمة بذنوبهم
_________
(1) «والزجاج» انفردت به «د»، وما في «معاني القرآن» (2/ 79) يخالفه ويوافق القول الآخر، وانظر: «البسيط» (6/ 615 - 618).
(2/46)
________________________________________
وإعجابهم، وأن النصر بما أنزله على رسوله وأيّده به، إذ لم يكن منه من سبب الهزيمة ما كان منهم.
وجمعت طائفة ثالثة بين القولين وقالوا: صورة الخطاب له صلوات الله وسلامه عليه والمراد العموم، كقوله: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب: 1]، ثم قال: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الأحزاب: 2]، ثم قال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأحزاب: 3]، وكقوله: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر: 65 - 66]، وقوله: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس: 94].
قالوا: وهذا الخطاب نوعان:
نوع يختص لفظه به، لكن يتناول غيره بطريق الأولى، كقوله: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم: 1]، ثم قال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2].
ونوع يكون الخطاب له وللأمة، وأفرده بالخطاب لكونه هو المواجِه بالوحي، وهو الأصل فيه، والمبلغ للأمة، والسفير بينهم وبين الله.
وهذا معنى قول كثير من المفسرين: الخطاب له والمراد غيره، ولم يريدوا بذلك أنه لم يُخاطَب بذلك أصلًا، ولم يُرَد به البتّة، بل المراد أنه لما كان إمام الخلائق ومقدَّمهم ومتبوعهم= أُفرِد بالخطاب، وتبعته الأمة في حكمه، كما يقول السلطان لمقدَّم العساكر: اخرجْ غدًا، وانزلْ بمكان كذا، واحملْ على العدو وقت كذا.
(2/47)
________________________________________
قالوا: فقوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]، هو خطاب له، وجميع الأمة داخلون في ذلك بطريق الأولى، بخلاف قوله: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا} فإن هذا له خاصة.
قالوا: وهذه الشرطية لا تستلزم الوقوع، بل تربط الجزاء بالشرط، وأما وقوع الشرط والجزاء فلا تدل عليه، فهو مقدّر في حقه، محقّق في حق غيره، والله أعلم.
قال القدري: إذا كانت الطاعات والمعاصي مقدّرة، والنعم والمصائب مقدّرة؛ فلِمَ فرّق سبحانه بين الحسنات التي هي النعم، والسيئات التي هي المصائب، فجعل هذه منه سبحانه، وهذه من نفس الإنسان، والجميع مقدَّر؟ (1).
قال السني: بينهما فروق:
الفرق الأول: أن نعم الله وإحسانه إلى عباده يقع بلا كسب منهم أصلًا، بل الرب تعالى يُنعِم عليهم بالعافية والرزق والنصر وإرسال الرسل وإنزال الكتب وأسباب الهداية، فيفعل ذلك بمن لم يكن منه سبب يقتضيه، ويُنشِئ للجنة في الآخرة خلقًا يُسكنهم إيّاها بغير سبب منهم، ويُدخِل أطفال المؤمنين ومجانينهم الجنة بلا عمل، وأما العقاب فلا يعاقِب أحدًا إلا بعمله.
الفرق الثاني: أن عمل الحسنات من إحسان الله ومنّه، وتفضّله عليه بالهداية والإيمان، كما قال أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43]، فخلْقُ الربّ تعالى لهم الحياةَ
_________
(1) انظر: «مجموع الفتاوى» (14/ 259 - 266).
(2/48)
________________________________________
والسمعَ والبصرَ والعقولَ والأفئدةَ، وإرسالَ الرسل، وتبليغَهم البلاغ الذي اهتدوا به، وإلهامَهم الإيمان، وتحبيبَه إليهم، وتزيينَه في قلوبهم، وتكريهَ ضده إليهم= كلُّ ذلك من نعمه، كما قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات: 7 - 8].
فجميع ما يتقلّب فيه العالم من خير الدنيا والآخرة هو نعمة محضة بلا سبب سابق يوجب ذلك لهم، ومن غير حول ولا قوة منهم إلا به، وهو خالق نفوسهم، وخالق أعمالها الصالحة، وخالق جزائها، وهذا كله منه سبحانه، بخلاف الشر؛ فإنه لا يكون إلا بذنوب العبد، وذنبُهُ من نفسه.
وإذا تدبر العبد هذا علم أن ما هو فيه من الحسنات من فضل الله؛ فشكر ربّه على ذلك؛ فزاده من فضله عملًا صالحًا، ونعمًا يفيضها عليه، وإذا علم أن الشر لا يحصل له إلا من نفسه وبذنوبه استغفر ربّه وتاب، فزال عنه سبب الشر، فيكون دائمًا شاكرًا مستغفرًا، فلا يزال الخير يتضاعف له، والشر يندفع عنه.
كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته: «الحمد لله» فيشكر الله، ثم يقول: «نستعينه ونستغفره» نستعينه على طاعته، ونستغفره من معصيته، ونحمده على فضله وإحسانه، ثم قال: «ونعوذ بالله من شرور أنفسنا» لمّا استغفره من الذنوب الماضية استعاذ به من الذنوب التي لم تقع بعد، ثم قال: «ومن سيئات أعمالنا» فهذه استعاذة من عقوبتها كما تقدم، ثم قال: «من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له» فهذه شهادة للربّ تعالى بأنه المتصرّف في خلقه بمشيئته وقدرته وحكمته وعلمه، وأنه يهدي من يشاء، ويضلّ من يشاء، فإذا هدى عبدًا لم يضله أحد، وإذا أضله لم يهده أحد، وفي
(2/49)
________________________________________
ذلك إثبات ربوبيته وقدرته، وعلمه، وحكمته، وقضائه، وقدره الذي هو عقد نظام التوحيد وأساسه، وكل هذا مقدمة بين يدي قوله: «وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله» (1)، فإن الشهادتين إنما تتحقق بحمد الله، واستعانته، واستغفاره، واللجأ إليه، والإيمان بأقداره.
والمقصود: أنه سبحانه فرّق بين الحسنات والسيئات بعد أن جمع بينهما في قوله: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78]، فجمع بينهما الجمع الذي لا يتم الإيمان إلا به، وهو اجتماعهما في قضائه وقدره ومشيئته وخلقه، ثم فرق بينهما الفرق الذي ينتفعون به، وهو أن هذا الخير والحسنة نعمة منه، فاشكروه عليه يزدكم من فضله ونعمه، وهذا الشر والسيئة بذنوبكم، فاستغفروه يرفعه عنكم، وأصله من شرور أنفسكم، فاستعيذوا به يخلصكم منها، ولا يتم ذلك إلا بالإيمان بأنه وحده هو الذي يهدي ويضل، وهو الإيمان بالقدر، فادخلوا عليه من بابه؛ فإن أزمّة الأمور بيديه، فإذا فعلتم ذلك صدَق منكم (2) شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله.
فهذه الخطبة العظيمة عقد نظام الإسلام والإيمان، فلو اقتصر لهم على الجمع دون الفرق أعرض العاصي والمذنب عن ذم نفسه والتوبة من ذنوبه، والاستعاذة من شرها، وقام في قلبه شاهد الاحتجاج على ربّه بالقدر، وتلك حجة داحضة تبع الأشقياء فيها إبليس، وهي لا تزيد صاحبها إلا شقاء وعذابًا، كما زادت إبليس بُعدًا وطردًا عن ربّه، وكما زادت المشركين ضلالًا وشقاء حتى قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام: 148]، وكما تزيد
_________
(1) تقدم تخريجه في (1/ 279).
(2) «منكم» من «ج».
(2/50)
________________________________________
الذي يقول يوم القيامة: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر: 57] حسرةً وعذابًا.
ولو اقتصر لهم على الفرق دون الجمع لغابوا به عن التوحيد والإيمان بالقدر، واللّجَأ إلى الله في الهداية والتوفيق، والاستعاذة به من شرّ النفس وسيئات العمل، والافتقار التام إلى إعانته وفضله، فكان في الجمع والفرق بيان حق العبودية، وسيأتي تمام الكلام على هذا الموضع العظيم القدر ــ إن شاء الله ــ في باب اجتماع القدر والشرع وافتراقهما (1).
الفرق الثالث: أن الحسنة يضاعفها الله سبحانه وينمّيها، ويكتبها للعبد بأدنى سعي، ويثيب على الهمّ بها، والسيئة لا يؤاخذ على الهمّ بها، ولا يضاعفها، ويبطلها بالتوبة، والحسنة الماحية، والمصائب المكفّرة، فكانت الحسنة أولى بالإضافة إليه، والسيئة أولى بالإضافة إلى النفس.
الفرق الرابع: أن الحسنة التي هي الطاعة والنعمة يحبها ويرضاها، فهو سبحانه يحب أن يطاع، ويحب أن يُنعِم ويُحسِن ويجود، وإنْ قدّر المعصية وأراد المنع، فالطاعة أحب إليه، والبذل والعطاء آثر عنده، فكان إضافة نوعي الحسنة إليه، وإضافة نوعي السيئة إلى النفس أولى.
ولهذا تأدّب العارفون من عباد الله بهذا الأدب، فأضافوا إليه النعم والخيرات، وأضافوا الشرور إلى محلها، كما قال إمام الحنفاء: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهْوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهْوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 78 - 80]، فأضاف المرض إلى نفسه، والشفاء إلى ربه، وقال الخضر: {أَمَّا
_________
(1) وهو الباب التاسع والعشرون الآتي في (377).
(2/51)
________________________________________
السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79]، ثم قال: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا} [الكهف: 82]، وقال مؤمنو الجن: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10].
الفرق الخامس: أن الحسنة مضافة إليه لأنه أحسن بها من كل وجه وبكل اعتبار كما تقدم، فما من وجه من وجوهها إلا وهو يقتضي الإضافة إليه، وأما السيئة فهو سبحانه إنما قدرها وقضاها لحكمة، وهي باعتبار تلك الحكمة من إحسانه، فإن الربّ تعالى لا يفعل سوءًا قط، كما لا يوصَف به، ولا يُسمَّى باسمه، بل فِعْله كله حُسْن وخير وحكمة ومصلحة، كما قال تعالى: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} (1) [آل عمران: 26]، وقال أعرف الخلق به: «والشر ليس إليك» (2)، فهو لا يخلق شرًّا محضًا من كل وجه، بل كل ما خلقه ففي خلقه مصلحة وحكمة، وإن كان في بعضه شرٌّ جزئي إضافي، وأما الشرّ الكلي المطلق من كل وجه فهو تعالى منزّه عنه، وليس إليه.
الفرق السادس (3): أن ما يحصل للإنسان من الحسنات التي يعملها فهي أمور وجودية متعلقة بمشيئة الربّ وقدرته ورحمته وحكمته، وليست أمورًا عدمية تضاف إلى غير الله، بل هي كلها أمور وجودية، وكل موجود
_________
(1) في جميع النسخ: «بيده الخير».
(2) جزء من حديث أخرجه مسلم (771) من حديث علي بن أبي طالب.
(3) انظر: «مجموع الفتاوى» (14/ 277 - 281).
(2/52)
________________________________________
حادث فالله مُحْدِثُهُ وخالقه.
وذلك أن الحسنات إما فعْل مأمور، أو ترْك محظور، والترك أمر وجودي، فترْك الإنسان لما نُهِي عنه، ومعرفته بأنه ذنب قبيح، وبأنه سبب العذاب، وبغضه له، وكراهته له، ومنْع نفسه إذا هويته وطلبته منه= أمور وجودية، كما أن معرفته بأن الحسنات ـ كالعدل والصدق ـ حسنة، وفعله لها أمر وجودي.
والإنسان إنما يثاب على ترك السيئات إذا تركها على وجه الكراهة لها، والامتناع منها، وكفّ النفس عنها، قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7]، وقال تعالى: {(39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ} [النازعات: 40]، وقال: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45].
وفي «الصحيحين» (1) عنه - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومَن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومَن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُلْقى في النار».
وقد جعل - صلى الله عليه وسلم - البغض في الله من أوثق عرى الإيمان، وهو أصل الترك، وجعل المنع لله من كمال الإيمان، وهو أصل الترك، فقال: «مِنْ أوثق عرى الإيمان (2): الحب في الله، والبغض في الله» (3).
_________
(1) البخاري (16)، ومسلم (43) من حديث أنس.
(2) من قوله: «وهو أصل الترك» إلى هنا ساقط من «م».
(3) أخرجه الطيالسي (783)، وابن أبي شيبة (31059)، وأحمد (18524) من حديث البراء، ومدار إسناده على ليث بن أبي سليم وهو ضعيف، وقد اضطرب في إسناده أيضًا.
وفي الباب عدة شواهد بين ضعيف ومنكر، انظر: «إتحاف الخيرة» (1/ 96)، «السلسلة الصحيحة» (998).
(2/53)
________________________________________
وقال: «مَنْ أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان» (1).
وجعل إنكار المنكر بالقلب من مراتب الإيمان، وهو بغضه وكراهته المستلزم لتركه، فلم يكن الترك من الإيمان إلا بهذه الكراهة والبغض والامتناع والمنع لله.
وكذلك براءة الخليل وقومه من المشركين ومعبوديهم ليست تركًا محضًا، بل تركًا صادرًا عن بغض ومعاداة وكراهة، وهي أمور وجودية هي عبودية للقلب، يترتب عليها خلو الجوارح من العمل، كما أن التصديق والإرادة والمحبة للطاعة هي عبودية للقلب، تترتب عليها آثارها في الجوارح.
وهذا الحب والبغض تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وهو إثبات تألّه القلب لله ومحبته، ونفي تألّهه لغيره وكراهته، فلا يكفي أن يعبد الله، ويحبّه، ويتوكل عليه، وينيب إليه، ويخافه، ويرجوه= حتى يترك عبادة غيره، والتوكل عليه، والإنابة إليه، وخوفه، ورجاءه، ويبغض ذلك.
_________
(1) أخرجه أبو داود (4681)، والطبراني في «الكبير» (7613) من حديث أبي أمامة بإسناد لا بأس به، وله شاهد حسن من حديث أنس الجهني عند أحمد (15638)، والترمذي (2521).
(2/54)
________________________________________
فهذه كلها أمور وجودية، وهي الحسنات التي يثيب الله عليها.
وأما مجرد عدم السيئات من غير أن يعرف أنها سيئة، ولا يكرهها بقلبه، ويكف نفسه عنها، بل يكون تركها لعدم خطورها بقلبه، فلا يثاب على هذا الترك، فهذا تكون السيئات في حقه بمنزلتها في حق الطفل والنائم، لكن قد يثاب على اعتقاده تحريمها، وإن لم يكن له إليها داعية البتّة.
فالترك ثلاثة أقسام: قسم يثاب عليه، وقسم يعاقَب عليه، وقسم لا يثاب ولا يعاقَب.
فالأول: ترك العالم بتحريمها، الكافّ نفسه عنها لله، مع قدرته عليها.
والثاني: كترك مَن يتركها لغير الله لا لله، فهذا يعاقَب على تركه لغير الله، كما يعاقَب على فعله لغير الله؛ فإن ذلك الترك والامتناع فعل من أفعال القلب، فإذا عبد به غير الله استحق العقوبة.
والثالث: كترك من لم يخطر على قلبه علمًا ولا محبة ولا كراهة، بل بمنزلة ترك النائم والطفل.
فإن قيل: كيف يعاقَب على ترك المعصية حياء من الخلق، وإبقاء على جاهه بينهم، وخوفًا منهم أن يتسلّطوا عليه، والله تعالى لا يذم على ذلك ولا يمنع منه؟
قيل: لا ريب أنه لا يعاقَب على ذلك، وإنما يعاقَب على تقرّبه إلى الناس بالترك ومراءاتهم به، وأنه قد تركها خوفًا من الله ومراقبة له، وهو في الباطن بخلاف ذلك، فالفرق بين ترْك يَتقرّب به إليهم ويرائيهم به، وترْك يكون
(2/55)
________________________________________
مصدره الحياء منهم وخوف أذاهم له وسقوطه من أعينهم، فهذا لا يعاقب عليه، بل قد يثاب عليه إذا كان له فيه غرض يحبه الله من حفظ مقام الدعوة إلى الله، وقبولهم منه ونحو ذلك.
وقد تنازع الناس في الترك: هل هو أمر وجودي أم عدمي؟ (1)
والأكثرون على أنه وجودي.
وقال أبو هاشم وأتباعه: هو عدمي، وإن المأمور يعاقَب على مجرد عدم الفعل، لا على ترك يقوم بقلبه.
وهؤلاء رتبوا الذم والعقاب على العدم المحض.
والأكثرون يقولون: إنما يثاب من ترك المحظور على ترك وجودي يقوم بنفسه، ويعاقَب تارك المأمور على ترك وجودي يقوم بنفسه، وهو امتناعه وكفّه نفسه عن فعل ما أُمِر به.
إذا تبين هذا؛ فالحسنات التي يثاب عليها كلها وجودية، فهو سبحانه الذي حبّب الإيمان والطاعة إلى العبد، وزيّنه في قلبه، وكرّه إليه أضدادها.
وأما السيئات فمنشؤها من الجهل والظلم؛ فإن العبد لا يفعل القبيح إلا لعدم علمه بكونه قبيحًا، أو لهواه وشهوته مع علمه بقبحه، فالأول جهل والثاني ظلم، ولا يترك حسنة إلا لجهله بكونها حسنة، أو لرغبته في ضدها لموافقته هواه وغرضه.
وفي الحقيقة فالسيئات كلها ترجع إلى الجهل، وإلا فلو كان علمه تامًّا
_________
(1) انظر: «مجموع الفتاوى» (14/ 281 - 294).
(2/56)
________________________________________
برجحان ضررها لم يفعلها؛ فإن هذا خاصّة العقل، فإنه إذا علم أن إلقاءه نفسه من مكان عالٍ يضره لم يقدم عليه، وكذلك لُبْثه تحت حائط مائل، وإلقاء نفسه في ماء مُغْرِق، وأَكْله طعامًا مسمومًا، لا يفعله لعلمه التام بمضرته الراجحة، بل هذه فطرة فطر الله عليها الحيوان بهيمه وناطقه، ومن لم يعلم أن ذلك يضره كالطفل والمجنون والسكران الذي انتهى سكره؛ فقد يفعل ذلك.
وأما من أقدم على ما يضره مع علمه بما فيه من الضرر، فلابد أن يقوم بقلبه أن منفعته له راجحة، فلابد من رجحان المنفعة عنده إما في الظن وإما في المظنون، ولو جزم راكب البحر بأنه يغرق ويذهب ماله لم يركبه أبدًا، بل لابد من رجحان الانتفاع في ظنه، وإن أخطأ في ذلك.
وكذلك الذنوب والمعاصي، فلو جزم السارق بأنه يُؤخذ ويُقطع لم يقدم على السرقة، بل يظن أنه يَسلم ويَظفر بالمال، وكذلك القاتل والشارب والزاني، فلو جزم طالب الذنب بأنه يحصل له الضرر الراجح لم يفعله، بل إما أن لا يكون جازمًا بتحريمه، أو لا يجزم بعقوبته، بل يرجو العفو والمغفرة، أو أن يتوب (1)، أو يأتي بحسنات تمحو أثره.
وقد يغفل عن هذا كله بقوة وارد الشهوة، واستيلاء سلطانها على قلبه، بحيث غيّبته عن مطالعة مَضرّة الذنب، والغفلة من أضداد العلم، فالغفلة والشهوة أصل الشر كله، قال تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].
_________
(1) «د»: «وأن يتوبو»، بالواو في الموضعين، والمثبت موافق لما في «مجموع الفتاوى»، وهو الأليق بالسياق.
(2/57)
________________________________________
وينبغي أن يُعْلَم أن الهوى وحده لا يستقل بفعل السيئات إلا مع الجهل، وإلا فصاحب الهوى لو جزم بأن ارتكاب هواه يضره ولابدّ ضررًا راجحًا لانصرفت نفسه عن طاعته له بالطبع؛ فإن الله سبحانه جعل في النفس حبًّا لما ينفعها وبغضًا لما يضرها، فلا تفعل مع حضور عقلها ما تجزم بأنه يضرها ضررًا راجحًا، ولهذا يوصف تارك ذلك بالعقل والحِجَى والنُّهى واللُّب.
فالبلاء مُرَكَّب من تزيين الشيطان وجهل النفس، فإنه يزين لها السيئات ويريها أنها في صورة المنافع واللذات والطيبات، ويُغفِلها عن مطالعتها لمضرتها، فيتولّد من بين هذا التزيين وهذا الإغفال والإنساء لها إرادة وشهوة، ثم يمدها بأنواع التزيين، فلا يزال يقوى حتى يصير عزمًا جازمًا يقترن به الفعل، كما زيّن للأبوين الأكل من الشجرة، وأغفلهما عن مطالعة مضرة المعصية.
فالتزيين هو سبب إتيان (1) الخير والشر، كما قال تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43]، وقال: {(7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَأَىهُ حَسَنًا} [فاطر: 8]، وقال في تزيين الخير: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7]، وقال في تزيين النوعين: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 108]، فتزيين الخير والهدى بواسطة الملائكة والمؤمنين، وتزيين الشر والضلال بواسطة الشياطين من الجن والإنس، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام: 137].
_________
(1) «م» «ج»: «إيثار»، والمثبت من «د» أقرب للمعنى.
(2/58)
________________________________________
وحقيقة الأمر أن التزيين إنما يغترّ به الجاهل؛ لأنه يُلْبِسُ له الباطلَ والضارَّ المؤذي صورةَ الحق والنافعَ الملائم.
فأصل البلاء كله من الجهل وعدم العلم، ولهذا قال الصحابة: «كل مَن عصى الله فهو جاهل».
قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء: 17]، وقال تعالى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ إِنَّهُ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ فَإِنَّهُ فَأَنَّهُ غَفُورٌ} [الأنعام: 54].
قال أبو العالية: سألت أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - عن قوله: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} فقالوا: «كل من عصى الله فهو جاهل، ومن تاب قبل الموت فقد تاب من قريب».
وقال قتادة: «أجمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن كل ما عُصي الله به فهو جهالة، عمدًا كان أو لم يكن، وكل مَن عصى الله فهو جاهل».
وقال مجاهد: «من عمل ذنبًا من شيخ أو شاب فهو بجهالة».
وقال: «من عصى ربه فهو جاهل، حتى ينزع عن معصيته».
وقال هو وعطاء: «الجهالة العمد».
وقال مجاهد: «من عمل سوءًا خطأ أو عمدًا فهو جاهل حتى ينزع منه».
ذكر هذه الآثار ابن أبي حاتم.
قال: «وروي عن قتادة وعمرو بن مرة والثوري نحو ذلك: خطأ أو عمدًا».
(2/59)
________________________________________
وروى عن مجاهد والضحاك: ليس من جهالته (1) أن لا يعلم حلالًا ولا حرامًا، ولكن من جهالته حين دخل فيه.
وقال عكرمة: الدنيا كلها جهالة (2).
ومما يبين ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، وكل من خشيه فأطاعه بفعل أوامره وترك مناهيه فهو عالم، كما قال تعالى: {(8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9].
وقال رجل للشعبي: أيها العالم، فقال: «لسنا بعلماء، إنما العالم من يخشى الله» (3).
وقال ابن مسعود: «كفى بخشية الله علمًا، وبالاغترار بالله جهلًا» (4).
وقوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} يقتضي الحصر من الطرفين: أي لا يخشاه إلا العلماء، ولا يكون عالمًا إلا مَن (5) يخشاه، فلا يخشاه إلا عالم، وما من عالم إلا وهو يخشاه، فإذا انتفى العلم انتفت الخشية، وإذا انتفت الخشية دلت على انتفاء العلم.
_________
(1) «د» «م»: «جهالة»، والمثبت من «ج» موافق لما في مصدر القول.
(2) انظر: «تفسير ابن أبي حاتم» (3/ 897 - 898) (4/ 1301)، «جامع البيان» (6/ 507 - 510).
(3) أخرجه ابن أبي شيبة (36818)، والدارمي (264).
(4) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (46)، وابن أبي شيبة (35674).
(5) «من» من «ج».
(2/60)
________________________________________
لكن وقع الغلط في مسمى العلم الملازم للخشية، حيث يظن أنه يحصل بدونها، وهذا ممتنع؛ فإنه ليس في الطبيعة أن لا يخشى النار والأسد والعدو من هو عالم بها، مواجه لها، وأنه لا يخشى الموت من ألقى نفسه من شاهق ونحو ذلك، فأمنُهُ في هذه المواطن دليل عدم علمه، وأحسن أحواله أن يكون معه ظن لا يصل إلى رتبة العلم اليقيني.
فإن قيل: هذا ينتقض عليكم بمعصية إبليس؛ فإنها كانت عن علم لا عن جهل.
وبقوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17]، وقال: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 59]، وقال عن قوم فرعون: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]، وقال: {وَعَادًا وَثَمُودًا وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت: 38]، وقال موسى لفرعون: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَاؤُلَا إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء: 102]، وقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115]، وقال: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ} [الأنعام: 20]، يعني القرآن ومحمدًا - صلى الله عليه وسلم -، وقال: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 71]، وقال: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]، والجحود إنكار الحق بعد معرفته، وهذا كثير في القرآن.
قيل: حجج الله لا تتناقض، بل كلها حق يصدّق بعضها بعضًا، فإذا كان
(2/61)
________________________________________
سبحانه قد أثبت الجهالة لمن عمل السوء وقد أقرّ به وبرسالته، وبأنه حرّم ذلك، وتوعّد عليه بالعقاب، ومع ذلك فَحَكَم عليه بالجهالة التي لأجلها عمل السوء، فكيف بمن أشرك به، وكفر بآياته، وعادى رسله، أليس ذلك أجهل الجاهلين؟!
وقد سمّى تعالى أعداءه جاهلين بعد إقامة الحجة عليهم، فقال: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، فأمره بالإعراض عنهم بعد أن أقام عليهم الحجة (1)، وعلموا أنه صادق.
وقال تعالى: {خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)} [الفرقان: 63]، فالجاهلون هنا الكفار الذين علموا أنه رسول الله.
فهذا العلم لا ينافي الحكم على صاحبه بالجهل، بل يُثبِت له العلم، ويَنفي عنه في موضع واحد، كما قال تعالى عن السحرة من اليهود: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102]، فأثبت لهم العلم الذي تقوم به عليهم الحجة، ونفى عنهم العلم النافع الموجِب لترك المضار.
وهذا نكتة المسألة وسرّ الجواب، فما دخل النار إلا عالم، ولا دخلها إلا جاهل.
وهذا العلم يجتمع (2) مع الجهل في الرجل الواحد، يوضحه: أن الهوى والغفلة والإعراض تصدّ عن كماله واستحضاره ومعرفة موجبه على
_________
(1) «د»: «بعد إقامة الحجة عليهم».
(2) «م»: «لا يجتمع»، وحذفها أشبه بما يليها من تقرير.
(2/62)
________________________________________
التفصيل، وتقيم لصاحبه شبهًا وتأويلات تعارضه، فلا يزال المقتضي يضعف والمعارض يعمل عمله حتى كأنه لم يكن، ويصير صاحبه بمنزلة الجاهل من كل وجه.
فلو علم إبليس أنّ تركه السجود لآدم يبلغ به ما بلغ، وأنه يوجب له أعظم العقوبة، وتيقن ذلك؛ لم يتركه، ولكن حال الله بينه وبين هذا العلم ليقضي أمره، وينفذ قضاءه وقدره.
ولو ظنَّ آدم وحواء أنهما إذا أكلا من الشجرة خرجا من الجنة، وجرى عليهما ما جرى؛ ما قرباها.
ولو علم أعداء الرسل تفاصيل ما جرى عليهم، وما يصيبهم يوم القيامة وجزموا بذلك؛ لما عادوهم.
قال تعالى عن قوم لوط: {وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} [القمر: 36]. وقال تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} [سبأ: 54]. وقال عن المنافقين وقد شاهدوا آيات الرسول وبراهين صدقه عيانًا: {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة: 45]، وقال: {أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ} [الحديد: 14]، وقال: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 10]، وهو مرض الشك.
ولو كان هذا لعدم العلم الذي تقوم به الحجة عليهم لما كانوا في الدرك الأسفل من النار، بل هذا بعد قيام الحجة عليهم (1) وعلمهم الذي لم
_________
(1) من قوله: «لما كانوا في الدرك» إلى هنا ساقط من «م».
(2/63)
________________________________________
ينفعهم، فالعلم يضعف قطعًا بالغفلة والإعراض واتباع الهوى وإيثار الشهوات، وهذه الأمور توجب شبهات وتأويلات تضاده.
فتأمل هذا الموضع حق التأمل، فإنه من أسرار القدر والشرع والعدل والحكمة.
فالعلم يُراد به العلم التام المستلزم لأثره، ويراد به المقتضي، وإن لم يتم بوجود شروطه وانتفاء موانعه، فالثاني يجامع الجهل دون الأول، فتبين أن أصل السيئات الجهل وعدم العلم.
وإذا كان كذلك، فعدم العلم ليس أمرًا وجوديًا، بل هو كعدم السمع والبصر والقدرة والإرادة، والعدم ليس شيئًا حتى يستدعي فاعلًا مؤثرًا فيه، بل يكفي فيه عدم مشيئة ضده، وعدم السبب الموجِب لضده.
والعدم المحض لا يضاف إلى الله؛ فإنه شر، والشر ليس إليه.
فإذا انتفى هذا العلم الجازم عن العبد، ونفسه بطبعها متحركة مريدة، وذلك من لوازم نشأتها= تحركت بمقتضى الطبع والشهوة، وغلب ذلك فيها على داعي العلم والمعرفة، فوقعت في أسباب الشر ولا بدّ.
فصل (1)
والله سبحانه قد أنعم على عباده ــ من جملة إحسانه ونعمه ــ بأمرين، هما أصل السعادة:
أحدهما: أنْ خلقهم في أصل النشأة على الفطرة السليمة، فكل مولود
_________
(1) انظر: «مجموع الفتاوى» (14/ 295 - 297).
(2/64)
________________________________________
يولد على الفطرة، حتى يكون أبواه هما اللذان يخرجانه عنها، كما ثبت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وشَبَّهَ ذلك بخروج البهيمة صحيحة سالمة حتى يجدعها صاحبها (1).
وثبت عنه أنه قال: «يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء، فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرّمتْ عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا» (2).
فإذا تُرِكت النفس وفطرتَها لم تؤثْر على محبة باريها وفاطرها وعبادته وحده شيئًا، ولم تشرك به، ولم تجحد كماله وربوبيته، وكان أحب شيء إليها، وأطوع شيء لها، وآثر شيء عندها، ولكن يفسدها (3) من يقترن بها من شياطين الجن والإنس بتزيينه وإغوائه، حتى ينغمس (4) موجبها وحكمها.
الأمر الثاني: أنه سبحانه هدى الناس هداية عامة بما أودعه فيهم من المعرفة، ومكَّنهم من أسبابها، وبما أنزل إليهم من الكتب، وأرسل إليهم من الرسل، وعلّمهم ما لم يكونوا يعلمونه، ففي كل نفس ما يقتضي معرفتها بالحق ومحبتها له.
وقد هدى الله كل عبد إلى أنواع من العلم يمكنه التوصّل بها إلى سعادة الآخرة، وجعل في فطرته محبة لذلك، لكن قد يُعرض العبد عن طلب علم ما
_________
(1) تقدم تخريجه في (1/ 103).
(2) جزء من حديث أخرجه مسلم (2865) من طريق عياض بن حمار.
(3) «د» «ج»: «يعدها»، والمثبت من «م» أليق، وموافق لـ «مجموع الفتاوى» (14/ 296).
(4) كذا في الأصول، ولعلها: «ينطمس»، والله أعلم.
(2/65)
________________________________________
ينفعه فلا يريده ولا يعرفه، وكونه لا يريد ذلك ولا يعرفه أمر عدمي، فلا يضاف إلى الرب لا هذا ولا هذا؛ فإنه من هذه الحيثية شرّ، والذي يُضاف إلى الرب علمُه به، وقضاؤه له بعدم مشيئته لضده، وإبقائه على العدم الأصلي، وهو من هذه الجهة خير؛ فإن العلم بالشرّ خير من الجهل به وعدم رفعه بإثبات (1) ضدّه، إذا كان مقتضى الحكمة كان خيرًا، وإن كان شرًّا بالنسبة إلى محله، وسيأتي تمام تقرير هذا في باب دخول الشر في القضاء الإلهي، إن شاء الله (2).
فصل (3)
وههنا حياة أخرى غير الحياة الطبيعية الحيوانية، نسبتها إلى القلب كنسبة حياة البدن إليه، فإذا أمد عبده بتلك الحياة أثمرت له من محبته، وإجلاله، وتعظيمه، والحياء منه، ومراقبته، وطاعته مثل ما تثمر حياة البدن له من التصرف والفعل، وسعادة النفس ونجاتها وفلاحها بهذه الحياة، وهي حياة دائمة سرمدية لا تنقطع.
ومتى فُقِدتْ هذه الحياة، واعتاضت عنها بحياتها الطبيعية الحيوانية؛ كانت ضالة معذّبة شقية، ولم تسترح راحة الأموات، ولم تعش عيش الأحياء، كما قال تعالى: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا} [الأعلى: 10 - 13]، فإن الجزاء من جنس
_________
(1) «د»: «بإتيان».
(2) في الباب الواحد والعشرين (81).
(3) انظر: «مجموع الفتاوى» (14/ 296 - 298).
(2/66)
________________________________________
العمل، فإنه في الدنيا لمّا لم يحي الحياة النافعة الحقيقية التي خُلِق لها، بل كانت حياته من جنس حياة البهائم، ولم يكن ميتًا عديم الإحساس= كانت حياته في الآخرة كذلك.
فإن مقصود الحياة حصول ما يُنْتفع به، ويُلْتذ به، والحي لا بُدَّ له من لذة أو ألم، فإذا لم تحصل له اللذة لم يحصل له مقصود الحياة، كمن هو حي في الدنيا وبه أمراض عظيمة تحول بينه وبين التنعم بما يتنعم به الأصحاء، فهو يختار الموت ويتمناه ولا يحصل له، فلا هو مع الأحياء ولا هو مع الأموات.
إذا عُرِف هذا، فالشر من لوازم عدم (1) هذه الحياة، وعدمها شر، وهو ليس بشيء حتى يكون مخلوقًا، والله خالق كل شيء، فإذا أمسك عن عبده هذه الحياة كان إمساكها خيرًا بالنسبة إليه سبحانه، وإن كان شرًّا بالإضافة إلى العبد؛ لفوات ما يلتذّ، ويتنعَّم به.
فالسيئات من طبيعة النفس، ولم (2) تمد بهذه الحياة التي تحول بينها وبينها، فصار الشر كله من النفس، والخير كله من الله، والجميع بقضائه وقدره وحكمته، وبالله التوفيق.
فصل
قال القدري: نحن نعترف بهذا جميعه، ونقرّ بأن الله خلق الإنسان مريدًا، ولكن جعله على خِلْقة يريد بها، فهو مريدٌ بالقوة والقبول، أي خَلَقه قابلًا لأن يريد هذا وهذا، وأما كونه مريدًا لهذا المعنى وهذا المعنى فليس ذلك بخلْق
_________
(1) «عدم» ساقطة من «م».
(2) كذا في الأصول، وفي اتساقه مع ما قبله شيء، فلعلها: «التي لم».
(2/67)
________________________________________
لله، ولكنه هو الذي أحدثه بنفسه، ليس هو من إحداث الله فيه.
قال الجبري: هذه الإرادة حادثة، فلابدّ لها من مُحْدِث، فالمُحْدِث لها إما أن يكون نفس الإنسان، أو مخلوق خارج عنها، أو ربها وفاطرها وخالقها جملة، والقسمان الأولان محالان، فتعين الثالث.
أما المقدمة الأولى فظاهرة، إذ المُحْدِث إما النفس، وإما أمر خارج عنها، والخارج عنها إما الخالق وإما المخلوق.
وأما المقدمة الثانية فبيانها أن النفس لا يصح أن تكون هي المُحْدِثة لإراداتها، فإنها إما أن تحدثها بإرادة، أو بغير إرادة، وكلاهما ممتنع؛ فإنها لو توقف إحداثها لها على إرادة أخرى فالكلام فيها كالكلام في الأولى، ويلزم التسلسل إلى غير نهاية، فلا توجد إرادة حتى تتقدّمها إرادات لا تتناهى.
وإن لم يتوقف إحداثها على إرادة منها بطل أن تكون هي المؤثّرة في إحداثها؛ إذ وقوع الحادث بلا إرادة من الفاعل المختار محال.
وإذا بطل أن تكون مُحْدِثة للإرادة بإرادة، وأن تحدثها بغير إرادة؛ تعيّن أن يكون المُحْدِث لتلك الإرادة أمرًا خارجًا عنها، فحينئذ إما أن يكون مخلوقًا، أو يكون هو الخالق سبحانه، والأول محال؛ لأن ذلك المُحْدِث إن كان غير مريد لم يمكنه جعل الإنسان مريدًا، وإن كان مريدًا فالكلام في إرادته كالكلام في إرادة الإنسان سواء، فتعين أن يكون المُحْدِث لتلك الإرادة هو الخالق لكل شيء، الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
قال القدري: قد اختلفتْ طرق أصحابنا في الجواب عن هذا الإلزام.
(2/68)
________________________________________
فقال أبو عُثمان الجاحظ (1): العبد يحدث أفعاله بغير إرادة منه، بل بمجرد قدرته وعلمه بما في الفعل من الملاءمة، فإذا علم موافقة الفعل له وهو قادر عليه أحدثه بقدرته وعلمه.
وأنكر توقفه على إرادة مُحْدَثة، وأنكر حقيقة الإرادة في الشاهد، ولم ينكر الميل والشهوة، ولكن لا يتوقف إحداث الفعل عليهما، فإن الإنسان قد يفعل ما لا يشتهيه، ولا يميل إليه.
وخالفه جميع الأصحاب، وأثبتوا الإرادة الحادثة، ثم اختلفوا في سبب حدوثها.
فقالت طائفة منهم: كون النفس مريدة أمر ذاتي لها، وما بالذات لا يُعلَّل، ولا يُطلب سبب وجوده، وطريقة التعليل تُسْلك ما لم يمنع منها مانع، واختصاص الذات بالصفة الذاتية لا يُعَلَّل، فهكذا اختصاص النفس بكونها مريدة هو أمر ذاتي لها، وبذلك كانت نفسًا، فقول القائل: لِمَ أرادت كذا؟ وما الذي أوجب لها إرادته؟ كقوله: لمَ كانت نفسًا؟ وكقوله: لمَ كانت النار مُحْرِقة أو متحركة؟ ولِمَ كان الماء مائعًا سَيّالًا؟ ولِمَ كان الهواء خفيفًا؟
فكون النفس مريدة متحركة بالإرادة هو معنى كونها نفسًا، فهو بمنزلة قول القائل: لِمَ كانت نفسًا؟ وحركتها بمنزلة حركة الفلك، فهي خُلِقت هكذا.
وقالت طائفة أخرى: بل الله سبحانه أحدث فيها الإرادة، والإرادة صالحة للضدين، فخلق فيها إرادة تصلح للخير والشر، فآثرت هي أحدهما على الآخر بشهوتها وميلها، فأعطاها قدرة صالحة للضدين وإرادة صالحة
_________
(1) انظر: «المنية والأمل» (175)، «الملل والنحل» (1/ 75).
(2/69)
________________________________________
لهما، فكانت القدرة والإرادة من إحداثه سبحانه، واختيارها أحد المقدورين المرادين من قبلها، فهي التي رجّحته.
قالوا: والقادر المختار يرجّح أحد مقدوريه على الآخر بغير مرجِّح، كالعطشان إذا قُدِّم له قدحان متساويان من كل وجه، والهارب إذا عَنَّ له طريقان كذلك؛ فإنه يرجح أحدهما بلا مرجِّح.
فالله سبحانه أحدث فيه إرادة الفعل، ولكن الإرادة لا توجب المراد، فأحدثها فيه امتحانًا له وابتلاء، وأقدره على خلافها، وأمره بمخالفتها، ولا ريب أنه قادر على مخالفتها، فلا يلزم من كونها مخلوقة لله حاصلة بإحداثه؛ وجوب الفعل عندها.
وقال أبو الحسين البصري: إنّ فعل العبد يتوقف على الداعي والقدرة، وهما من الله خَلْقًا فيه، وعندهما يجب وجود الفعل باختيار العبد وداعيه، فيكون هو المُحْدِث له بما فيه من الداعي والقدرة.
فهذه طرق أصحابنا في الجواب عما ذكرتم.
قال السني (1): لم تتخلّصوا بذلك من الإلزام، ولم تبيّنوا به بطلان حجتهم المذكورة، فلا منعتم مقدماتها وبيّنتم فسادها، ولا عارضتموها بما هو أقوى منها، كما أنهم لم يتخلصوا من إلزامكم، ولم يبيّنوا بطلان دليلكم، وكان غاية ما عندكم وعندهم المعارضة، وبيان كل منكم تناقض الآخر، وهذا لا يفيد نصرة الحق وإبطال الباطل، بل يفيد بيان خطئكم وخطئهم، وعدولكم وإيّاهم عن منهج الصواب.
_________
(1) انظر لما سيأتي من تقرير: «منهاج السنة» (3/ 235 - 243).
(2/70)
________________________________________
فنقول وبالله التوفيق: مع كل منكما صواب من وجه وخطأ من وجه.
فأما صواب الجبري فمن جهة إسناد الحوادث كلها إلى مشيئة الله وخلقه وقضائه وقدره، والقدري خالف الضرورة في ذلك، فإنّ كون العبد مريدًا فاعلًا بعد أن لم يكن أمرٌ حادث، فإما أن يكون له مُحْدِث وإما أن لا يكون، فإن لم يكن له مُحْدِث لزم حدوث حوادث بلا مُحْدِث، وإن كان له مُحْدِث فإما أن يكون هو العبد، أو الله سبحانه، أو غيرهما.
فإن كان هو العبد فالقول في إحداثه لتلك الفاعلية كالقول في إحداث سببها، ويلزم التسلسل، وهو باطل ههنا بالاتفاق؛ لأن العبد كائن بعد أن لم يكن، فيمتنع أن تقوم به حوادث لا أول لها.
وإن كان غير الله فالقول فيه كالقول في العبد، فتعين أن يكون الله هو الخالق لإرادة العبد وقدرته وإحداثه وفعله.
وهذه مقدمات يقينية لا يمكن القدح فيها، فمن قال: إن إرادة العبد وإحداثه حصل بغير سبب اقتضى حدوث ذلك، وأن العبد أحدث ذلك، وحاله عند إحداثه كما كان قبله، بل خص أحد الوقتين بالإحداث من غير سبب اقتضى تخصيصه، وأنه صار مريدًا فاعلًا مُحْدِثًا بعد أن لم يكن كذلك مِن غير مَن جعله كذلك= فقد قال ما لا يُعقَل، بل يخالف صريح العقل، وقال بحدوث حوادث بلا مُحْدِث.
وقولكم: «إن الإرادة لا تُعلَّل» كلام باطل لا حقيقة له؛ فإن الإرادة أمر حادث، فلابد له من مُحْدِث.
ونظير هذا المحال قولكم في فعل الربّ تعالى: إنه بواسطة إرادة يحدثها
(2/71)
________________________________________
لا في محل من غير سبب اقتضى حدوثها، يكون مريدًا بها للمخلوقات. فارتكبتم ثلاث محالات: حدوث حادث بلا إرادة من الفاعل، وحدوث حادث بلا سبب حادث، وقيام الصفة بنفسها لا في محل.
وادعيتم مع ذلك أنكم أرباب المعقول والنظر، فأي معقول أفسد من هذا، وأي نظر أعمى منه؟!
وإن شئت قلت: كون العبد مريدًا أمر ممكن، والممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجِّح تام، والمرجِّح التام إما من العبد، وإما من مخلوق آخر، وإما من الله سبحانه، والقسمان الأولان باطلان، فتعين الثالث كما تقدم.
فهذه الحجة لا يمكن دفعها، ولا يمكن دفع العلم الضروري باستناد أفعالنا الاختيارية إلى إرادتنا وقدرتنا، وأنا إذا أردنا الحركة يمنة لم تقع يسرة وبالعكس، فهذه الحجة لا يمكن دفعها، والجمع بين الحجتين هو الحق.
فإن الله سبحانه خالق إرادة العبد وقدرته وجاعلهما سببًا لإحداثه الفعل، فالعبد مُحْدِث لفعله بإرادته واختياره وقدرته حقيقة، والله خالق ذلك له حقيقة، وخالق السبب خالق للمسبَّب، ولو لم يشأ سبحانه وجود فعله لما خلق له السبب الموجِد له.
فقال الفريقان للسني: كيف يكون الربّ تعالى مُحْدِثًا لها والعبد مُحْدِثًا لها أيضًا؟
قال السني: إحداث الله لها بمعنى أنه خلقها منفصلة عنه قائمة بمحلها وهو العبد، فجعل العبد فاعلًا لها بما أحدث فيه من القدرة والمشيئة،
(2/72)
________________________________________
وإحداث العبد لها بمعنى أنها قامت به وحدثت بإرادته وقدرته، وكل من الإحداثين مستلزم للآخر، ولكن جهة الإضافة مختلفة، فما أحدثه الربّ تعالى من ذلك فهو مباين له، قائم بالمخلوق، مفعول له لا فِعْل، وما أحدثه العبد فهو فعل له قائم به، يعود إليه حكمه، ويُشتق له منه اسمه.
وقد أضاف الله سبحانه كثيرًا من الحوادث إليه، وأضافها إلى بعض مخلوقاته، كقوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42]، وقال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11]، وقال: {تَوَفَّتْهُ رُسْلُنَا} [الأنعام: 61]، وقال: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال: 12]، وقال: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27]، وقال: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [النساء: 113]، وقال: {لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ} [النحل: 102]، وقال: {فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} [النحل: 113]، و {أَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} [الحجر: 73]، وقال: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت: 40]، {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 42] وهذا كثير.
فأضاف هذه الأفعال إلى نفسه؛ إذ هي واقعة بخلقه ومشيئته وقضائه، وأضافها إلى أسبابها؛ إذ هو الذي جعلها أسبابًا لحصولها، فلا تنافي بين الإضافتين، ولا تناقض بين النسبتين (1).
وإذا كان كذلك تبين أن إضافة الفعل الاختياري إلى الحيوان بطريق
_________
(1) «ج»: «السببين»، وأهملها في «م»، وجوّدها في «د».
(2/73)
________________________________________
التسبيب وقيامه به ووقوعه بإرادته= لا ينافي إضافته إلى الرب تعالى خلقًا ومشيئة وقدرًا.
ونظيره قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة: 11]، وقال لنوح: {احْمِلْ (1) فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [هود: 40]، فالرب تعالى هو الذي حملهم فيها بإذنه وأمره ومشيئته، ونوح حملهم بفعله ومباشرته.
فصل
وأما قول الجاحظ: «إن العبد يحدث أفعاله الاختيارية من غير إرادة منه، بل بمجرد القدرة والداعي» (2)، فإن أراد نفي إرادة العبد وجحد هذه الصفة عنه فمكابرة لا تُنكَر من طوائف المتكلمين، فهم أكثر الناس مكابرة وجحدًا للمعلوم بالضرورة، فلا أرخص من ذلك عندهم.
وإن أراد أن الإرادة أمر عدمي وهو كونه غير مغلوب ولا مُلجَأ، فيقال: هذا العدم من لوازم الإرادة لا أنه نفسها، وكون الإرادة أمرًا عدميًا مكابرة أخرى، وهي بمنزلة قول القائل: القدرة أمر عدمي لأنها بمعنى عدم العجز، والكلام عدمي لأنه عدم الخرس، والسمع والبصر عدمي لأنهما عدم الصمم والعمى.
وأما قوله: «إن الفعل يقع بمجرد القدرة وعلم الفاعل بما فيه من الملاءمة» فمكابرة ثالثة؛ فإن العبد يجد في نفسه قدرة على الفعل، وعلمًا
_________
(1) في الأصول: «فاحمل».
(2) تقدمت حكاية قوله قريبًا في (69) وفيه اشتراطه القدرة والعلم، لا الداعي، وسيأتي تأكيده.
(2/74)
________________________________________
بمصلحته، ولا يفعله لعدم إرادته له؛ لما في فعله من فوات محبوب له، أو حصول مكروه إليه، فلا توجب القدرة والعلم وقوع الفعل ما لم تقارنهما الإرادة.
فصل
وأما قول الآخر: «إن كون النفس مريدة أمر ذاتي لها فلا يُعلّل ... » إلى آخره، كلام في غاية البطلان، فهب أنا لا نطلب علة كونها مريدة، فكونها كذلك هو أمرٌ مخلوق فيها أم غير مخلوق؟ وهي التي جعلت نفسها كذلك، أم فاطرها وخالقها هو الذي جعلها كذلك؟ وإذا كان سبحانه هو الذي أنشأها بجميع صفاتها وطبيعتها وهيأتها فكونها مريدة هو وصف لها، وخالقها خالق لأوصافها، فهو خالق لصفة المريديّة فيها، فإذا كانت تلك الصفة سببًا للفعل، وخالق السبب خالق للمسبَّب، فالمسبَّب واقع بقدرته ومشيئته وتكوينه، وهذا مما لا ينكره إلا مكابر معاند.
فصل
وأما قول الطائفة الأخرى: إن الله سبحانه خلق فيه إرادة صالحة للضدين، فاختار هو أحدهما على الآخر، فلا ريب أن الأمر كذلك، ولكن وقوع أحد الضدين باختياره وإيثاره له وداعيته إليه لا يخرجه عن كونه مخلوقًا للربّ تعالى، مقدورًا له، مقدّرًا على العبد، واقعًا بقضاء الربّ وقدره، وأنه لو شاء لصرف داعية العبد وإرادته عنه إلى ضده.
فهذه هي البقية التي بقيت على هذه الفرقة من إنكار القدر، فلو ضموها إلى قولهم لأصابوا كل الإصابة، ولكانوا أسعد بالحق في هذه المسألة من سائر الطوائف.
(2/75)
________________________________________
وتحقيق ذلك: أن الله سبحانه بعدله وحكمته أعطى العبد قدرة وإرادة يتمكن بها من جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، فأعانه بأسباب ظاهرة وباطنة، ومن جملة تلك الأسباب: القدرة والإرادة، وعَرَّفه طريق الخير والشر، ونَهَجَ له الطريق، وأعانه بإرسال رسله، وإنزال كتبه، وقرن به ملائكته، وأزال عنه كل علة يحتج بها عليه.
ثم فطرهم سبحانه على إرادة ما ينفعهم، وكراهة ما يؤذيهم ويضرهم، كما فطر على ذلك الحيوان البهيم.
ثم كان كثير مما ينفعهم لا علم لهم به على التفصيل، والذي يعلمونه من المنافع أمر مشترك بينهم وبين الحيوانات.
وثَمّ أمور عظيمة هي أنفع شيء لهم، لا صلاح لهم ولا فلاح ولا سعادة إلا بمعرفتها وطلبها وفعلها، ولا سبيل لهم إلى ذلك إلا بوحي منه وتعريف خاص، فأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، تعرّفهم ما هو الأنفع لهم، وما فيه سعادتهم وفلاحهم، فصادفتهم الرسل مشتغلين بأضدادها، قد ألفوها وساكنوها، وجرت عليها عوائدهم حتى ألفتها الطباع، فأخبرتهم الرسل أنها أضر شيء عليهم، وأنها من أعظم أسباب ألمهم، وفوات لذتهم وسرورهم.
فنهضت الإرادة طالبة للسعادة والفلاح؛ إذ الدعوة إلى ذلك محركة للقلوب والأسماع والأبصار إلى الاستجابة.
فقام داعي الطبع والإلف والعادة في وجه ذلك الداعي معارضًا له، يَعِدُ النفس ويمنّيها ويرغّبها ويرهّبها، ويزيّن لها ما ألفته واعتادته لكونه ملائمًا لها، وهو نقد عاجل، وراحة مؤثرة، ولذة مطلوبة، ولهو ولعب وزينة وتفاخر وتكاثر.
(2/76)
________________________________________
وداعي الفلاح يدعو إلى أمر آجل في دار غير هذه الدار، لا يُنال إلا بمفارقة ملاذها وطيباتها ومسراتها، وتجرّع مراراتها، والتعرض لآفاتها، وإيثار (1) الغير بمحبوباتها ومشتهياتها، وجعل يقول:
خُذْ ما تراه ودَعْ شيئًا سَمعتَ به (2)
فقامت الإرادة بين الداعيين، تصغي إلى هذا مرة وإلى هذا مرة، فههنا معركة الحرب ومحل المحنة، فقتيل وأسير، وفائز بالظفر والغنيمة.
فإذا شاء الله عز وجل رحمة عبد جذب قوى إرادته وعزيمته إلى ما ينفعه ويحييه الحياة الطيبة، فأوحى إلى ملائكته: أن ثبتوا عبدي، واصرفوا همته وإرادته إلى مرضاتي وطاعتي، كما قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 12].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن للمَلك بقلب ابن آدم لَمّة (3)، وللشيطان لَمّة: فلَمّة المَلك إيعاد بالخير وتصديق بالوعد (4)، ولَمّة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالوعد»، ثم قرأ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرْكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} [البقرة: 268] (5).
_________
(1) «د» «م»: «وانتشار» دون إعجام، والمثبت من «ج».
(2) صدر بيت للمتنبي في «الديوان بشرح الواحدي» (490)، وعجزه:
في طَلْعةِ الشمس ما يغنيك عن زحلِ
(3) اللَّمَّة: الهَمّة والخطرة تقع في القلب، «النهاية في الغريب» (4/ 273).
(4) هكذا في الموضعين هنا: «بالوعد»، وكذا في أكثر كتب المؤلف، والرواية: «بالحق».
(5) أخرجه الترمذي (2988)، والنسائي في «الكبرى» (10985)، من حديث أبي الأحوص، عن عطاء بن السائب، عن مرة، عن ابن مسعود يرفعه، قال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب ... لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث أبي الأحوص»، وصححه ابن حبان (997)، وعطاء صدوق اختلط، وقد اختُلف عنه في رواية الحديث وقفًا ورفعًا، ورجح أبو زرعة الوقف، انظر: «العلل الكبير» للترمذي (353)، «العلل» لابن أبي حاتم (2224).
(2/77)
________________________________________
وإذا أراد خذلان عبد أمسك عنه تأييده وتثبيته، وخلّى بينه وبين نفسه، ولم يكن بذلك ظالمًا له؛ لأنه قد أعطاه قدرة وإرادة، وعرّفه الخير والشر، وحذّره طريق الهلاك وعرّفه بها، وحضّه على سلوك طريق النجاة وعرّفه بها، ثم تركه وما اختار لنفسه، وولّاه ما تولى، فإذا وجد شرًّا فلا يلومنّ إلا نفسه.
قال القدري: فتلك الإرادة المعيّنة المستلزِمة للفعل المعيّن إن كانت بإحداث العبد فهو قولنا، وإن كانت بإحداث الربّ فهو قول الجبرية، وإن كانت بغير مُحْدِث لزم المحال.
قال السني: لا تفتقر كل إرادة من العبد إلى مشيئة خاصة من الله توجب حدوثها، بل يكفي في ذلك المشيئة العامة لجعله مريدًا؛ فإن الإرادة هي حركة النفس، والله سبحانه شاء أن تكون متحركة، وأما أن تكون كل حركة تستدعي مشيئة مفردة فلا.
وهذا كما أنه سبحانه شاء أن يكون الحي متنفّسًا، ولا يفتقر كل نفَس من أنفاسه إلى مشيئة خاصة، وكذلك شاء أن يكون هذا الماء بجملته جاريًا، ولا تفتقر كل قطرة منه إلى مشيئة خاصة (1) يجري بها، وكذلك مشيئته لحركات الأفلاك، وهبوب الرياح، ونزول الغيث، وكذلك خطرات القلوب،
_________
(1) من قوله: «وكذلك شاء» إلى هنا ساقط من «د».
(2/78)
________________________________________
ووساوس الصدور، وكذلك مشيئته أن يكون العبد متكلمًا لا يستلزم أن يفرد كل حرف بمشيئة غير مشيئة الحرف الآخر.
وإذا تبين ذلك فهو سبحانه شاء أن يكون عبده شائيًا مريدًا، وتلك الإرادة والمشيئة صالحة للضدين، فإذا شاء أن يهدي عبده صرف داعيه ومشيئته وإرادته إلى ما ينفعه في معاشه ومعاده، وإذا شاء أن يضله تركه ونفسه وتخلى عنه.
والنفس متحركة بطبعها، لابدَّ لها من مراد محبوب هو مألوفها ومألوهها ومعبودها، فإن لم يكن الله وحده هو معبودها ومرادها، وإلا كان غيره لها معبودًا ومرادًا ولابدّ، فإن حركتها ومحبتها من لوازم ذاتها، فإن لم تحب ربها وفاطرها وتعبده أحبت غيره وعبدته، وإن لم تتعلّق إرادتها بما ينفعها في معادها تعلّقت بما يضرها فيه ولابد، فلا تعطيل في طبيعتها، وهكذا خُلِقت.
فإن قلت: فأين مشيئة الله لهداها وضلالها؟
قلت: إذا شاء إضلالها تركها ودواعيها، وخلّى بينها وبين ما تختاره، وإذا شاء هداها جذب دواعيها وإرادتها إليه، وصرف عنها موانع القبول، فيمدها على القدر المشترك بينها وبين سائر النفوس بإمداد وجودي، ويصرف عنها الموانع التي خلّى بينها وبين غيرها فيها، وهذا بمشيئته وقدرته، فلم يخرج شيء من الموجودات عن مشيئته وقدرته وتكوينه البتّة، لكن يكون ما شاء بأسباب وحكم.
ولو أن الجبرية أثبتت الأسباب والحِكَم لانحلت عنها عُقَد هذه
(2/79)
________________________________________
المسألة، ولو أن القدرية سحبت ذيل المشيئة والقدر والخلق على جميع الكائنات مع إثبات الأسباب والحِكَم والغايات المحمودة في أفعال الرب تعالى لانحلت عنها عُقَدها، وبالله التوفيق.
* * *
(2/80)
________________________________________
الباب الحادي والعشرون في تنزيه القضاء الإلهي عن الشر ودخوله في المَقْضي
قال الله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26]، فصدَّر سبحانه الآية بتفرّده بالملك كله، وأنه هو سبحانه الذي يؤتيه من يشاء، وينزعه ممن يشاء، لا غيره، فالأول تفرده بالمُلْك (1)، والثاني تفرده بالتصرف فيه، وأنه سبحانه هو الذي يعزّ من يشاء بما شاء من أنواع العز، ويذلّ من يشاء بسلب ذلك العز عنه، وأن الخير كله بيده، ليس لأحد معه منه شيء، ثم ختمها بقوله: {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
فتناولت الآية ملكه وحده وتصرفه وعموم قدرته، وتضمنت أن هذه التصرفات كلها بيده، وأنها كلها خير، فسلْبه المُلْك عمن يشاء وإذلاله من يشاء خير، وإن كان شرًّا بالنسبة إلى المسلوب الذليل؛ فإن هذا التصرف دائر بين العدل والفضل، والحكمة والمصلحة، لا يخرج عن ذلك، وهذا كله خير يُحْمد عليه الربّ، ويُثْنى عليه به، كما يُحمد ويُثنى عليه بتنزيهه عن الشر، وأنه ليس إليه، كما ثبت في «صحيح مسلم» أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يثني على ربِّه بذلك في دعاء الاستفتاح في قوله: «لبيك وسعديك، والخير في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت» (2).
_________
(1) «د» «م»: «بالمملكة»، والمثبت من «ج» مناسب للجملة التالية له.
(2) تقدم تخريجه في (1/ 382).
(2/81)
________________________________________
فتبارك وتعالى عن نسبة الشر إليه، بل كل ما نُسب إليه فهو خير، والشر إنما صار شرًّا لانقطاع نسبته وإضافته إليه، وإلا فلو أضيف إليه لم يكن شرًّا، كما سيأتي بيانه.
وهو سبحانه خالق الخير والشر، فالشر في بعض مخلوقاته لا في خلقه وفعله، وخلقه وفعله وقضاؤه وقدره خير كله.
ولهذا تنزَّه سبحانه عن الظلم الذي حقيقته وَضْع الشيء في غير موضعه كما تقدم، فلا يضع الأشياء إلا في مواضعها اللائقة بها، وذلك خير كله، والشر وَضْع الشيء في غير محله، فإذا وُضِع في محله لم يكن شرًّا، فعُلِم أن الشر ليس إليه.
وأسماؤه الحسنى تشهد بذلك، فإن منها: القدوس، السلام، العزيز، الجبار، المتكبر.
فالقدوس: المنزَّه عن كل شر ونقص وعيب، كما قال أهل التفسير: هو الطاهر من كل عيب، المنزَّه عما لا يليق به، وهذا قول أهل اللغة.
وأصل الكلمة من الطهارة والنزاهة، ومنه بيت المقدس؛ لأنه مكان يُتَطَهَّر فيه من الذنوب، ومَن أَمَّهُ لا يريد إلا الصلاة فيه رجع من خطيئته كيوم ولدته أمه (1).
ومنه سمّيت الجنة: «حظيرة القدس»؛ لطهارتها من آفات الدنيا.
ومنه سمّي جبريل: «روح القدس»؛ لأنه طاهر من كل عيب.
_________
(1) وهذه الفضيلة لبيت المقدس أخرجها أحمد (6644)، والنسائي (693)، وابن ماجه (1408) من حديث عبد الله بن عمرو، وقد تقدم تخريجه (1/ 24).
(2/82)
________________________________________
ومنه قول الملائكة: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30]، فقيل: المعنى: ونقدس أنفسنا لك. فعُدِّي باللام، وهذا ليس بشيء.
والصواب أن المعنى: نقدّسك وننزّهك عما لا يليق بك.
هذا قول جمهور أهل التفسير.
قال ابن جرير: «{وَنُقَدِّسُ لَكَ} ننسبك إلى ما هو من صفاتك، من الطهارة من الأدناس، وما أضاف إليك أهل الكفر بك.
قال: وقال بعضهم: نعظمك ونمجدك، قاله أبو صالح.
وقال مجاهد: نعظمك ونكبرك» (1). انتهى.
وقال بعضهم: ننزّهك عن السوء، فلا ننسبه إليك. واللام فيه على حدّها (2) في قوله: {رَدِفَ لَكُمْ} [النمل: 72]، لأن المعنى تنزيه الله لا تنزيه نفوسهم لأجله (3).
قلت: ولهذا قرن هذا اللفظ بقولهم: {نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ}؛ فإن التسبيح تنزيه الله سبحانه عن كل سوء.
قال ميمون بن مهران: «سبحان الله: كلمة يُعظّم بها الربّ، ويُحاشى بها من السوء» (4).
_________
(1) «جامع البيان» (1/ 505 - 506).
(2) تحرفت في «د» إلى: «ضدها».
(3) قائل ذلك هو أبو علي في «الحجة» (2/ 151).
(4) أخرجه ابن أبي حاتم في «التفسير» (344).
(2/83)
________________________________________
وقال ابن عباس: «هي تنزيه الله من كل سوء» (1).
وأصل اللفظة من المباعدة، من قولهم: سَبَحْت في الأرض؛ إذا تباعدْت فيها، ومنه: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33].
فمن أثنى على الله ونزَّهه عن السوء فقد سبَّحه، ويقال: سبَّح الله وسبَّحَ له، وقدَّسه وقدَّس له (2).
وكذلك اسمه «السلام»، فإنه الذي سلم من العيوب والنقائص، ووصْفه بالسلام أبلغ في ذلك من وصْفه بالسالم.
ومن موجبات وصفه بذلك سلامة خَلْقه من ظلمه لهم، فسلم سبحانه من إرادة الظلم والشر، ومن التسمية به، ومن فعله، ومن نسبته إليه، فهو السلام من صفات النقص، وأفعال النقص، وأسماء النقص، المسلم لخلقه من الظلم.
ولهذا وصف سبحانه ليلة القدر بأنها سلام، والجنة بأنها دار السلام، وتحية أهلها السلام، وأثنى على أوليائه بالقول السلام، كل ذلك السالم من العيوب.
وكذلك «الكبير» من أسمائه، و «المتكبر».
قال قتادة وغيره: «هو الذي تكبر عن السوء» (3).
_________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في «التفسير» (343)، والطبراني في «الدعاء» (1757).
(2) انظر: «البسيط» (2/ 329).
(3) أسنده عبد الرزاق في «التفسير» (3/ 285)، والطبري (22/ 555).
(2/84)
________________________________________
وقال أيضًا: «الذي تكبر عن السيئات» (1).
وقال مقاتل: «المتعظم عن كل سوء» (2).
وقال أبو إسحاق: «الذي تكبر عن ظلم عباده» (3).
وكذلك اسمه «العزيز» الذي له العزة التامة، ومن تمام عزته براءته عن كل سوء وشر وعيب، فإن ذلك ينافي العزة التامة.
وكذلك اسمه «العلي» الذي علا عن كل عيب وسوء ونقص، ومن كمال علوه أن لا يكون فوقه شيء، بل يكون فوق كل شيء.
وكذلك اسمه «الحميد» وهو الذي له الحمد كله، فكمال حمده يوجب أن لا يُنسب إليه شر ولا سوء ولا نقص، لا في أسمائه، ولا في أفعاله، ولا في صفاته.
فأسماؤه الحسنى تمنع نسبة الشر والسوء والظلم إليه، مع أنه سبحانه الخالق لكل شيء، فهو الخالق للعباد وأفعالهم وحركاتهم وأقوالهم.
والعبد إذا فعل القبيح المنهي عنه كان قد فعل الشر والسوء، والربُّ تعالى هو الذي جعله فاعلًا لذلك، وهذا الجعْل منه عدل وحكمة وصواب، فجعْله فاعلًا خير، والمفعول شر وقبيح.
فهو سبحانه بهذا الجعْل قد وضع الشيء موضعه، لما له في ذلك من
_________
(1) نسبه إليه الماوردي في «النكت والعيون» (5/ 514).
(2) انظر: «تفسير مقاتل» (4/ 286)، «البسيط» (21/ 399).
(3) «معاني القرآن» (5/ 151).
(2/85)
________________________________________
الحكمة البالغة التي يُحمد عليها، فهو خير وحكمة ومصلحة، وإن كان وقوعه من العبد عيبًا ونقصًا وشرًّا.
وهذا أمر معقول في الشاهد؛ فإن الصانع الخبير إذا أخذ الخشبة العوجاء، والحجر المكسور، واللبنة الناقصة، فوضع ذلك في موضع يليق به ويناسبه= كان ذلك منه عدلًا وصوابًا يُمدح به، وإن كان في المحل عوج ونقص وعيب يُذم به المحل.
ومن وَضَع الخبائث في موضعها ومحلها اللائق بها كان ذلك حكمة وعدلًا وصوابًا. وإنما السّفَه والظلم أن يضعها في غير موضعها، فمن وضع العمامة على الرأس، والنعل في الرجل، والكحل في العين، والزُّبالة في الكُنَاسة، فقد وضع الشيء موضعه، ولم يظلم النعل والزُّبالة إذ هذا محلهما.
ومن أسمائه سبحانه «العدل» و «الحكيم» الذي لا يضع الشيء إلا في موضعه، فهو المحسن الجواد الحكيم الحَكَم العدل في كل ما خلقه، وفي كل ما وضعه في محله وهيَّأه له.
وهو سبحانه له الخلق والأمر، فكما أنه في أمره لا يأمر إلا بأرجح الأمرين، ويأمر بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإذا تعارض أمران رجّح أحسنهما وأصلحهما، وليس في الشريعة أمر يُفعل إلا ووجوده للمأمور خير من عدمه، ولا نهي عن فعل إلا وعدمه خير من وجوده.
فإن قلت: فإذا كان وجوده خيرًا من عدمه، فكيف لا يشاء وجوده؟ وإذا كان عدمه خيرًا من وجوده، فكيف يشاء وجوده؟ فالمشيئة العامة تنقض عليك هذه القاعدة الكلية.
(2/86)
________________________________________
قلت: لا تنقضها؛ لأن وجوده وإن كان خيرًا من عدمه فقد يستلزم وجوده (1) فوات محبوب له هو أحب إليه من وقوع هذا المأمور من هذا المعنى، وعدم المنهي وإن كان خيرًا من وجوده فقد يكون وجوده وسيلة وسببًا إلى ما هو أحب إليه من عدمه، وسيأتي تمام تقرير ذلك في باب اجتماع القدر والشرع وافتراقهما، إن شاء الله (2).
والربّ سبحانه إذا أمر بشيء فقد أحبه ورضيه، وأراده إرادة دينية، وهو لا يحب شيئًا إلا ووجوده خير من عدمه، وما نهى عنه فقد أبغضه وكرهه، وهو لا يبغض شيئًا إلا وعدمه خير من وجوده، هذا بالنظر إلى ذات هذا وهذا، وأما باعتبار إفضائه إلى ما يحب ويكره فله حكم آخر.
ولهذا أمر سبحانه عباده أن يأخذوا بأحسن ما أُنزِل إليهم، فالأحسن هو المأمور به، وهو خير من المنهي عنه.
وإذا كانت هذه سنته في أمره وشرعه فهكذا سنته في خلقه وقضائه وقدره، فما أراد أن يخلقه أو يفعله كان أن يخلقه ويفعله خيرًا من أن لا يخلقه ولا يفعله، وبالعكس، وما كان عدمه خيرًا من وجوده فوجوده شر، وهو لا يفعله، بل هو منزّه عنه، والشر ليس إليه.
فإن قلت: فلِمَ خَلَقه وهو شر؟
قلت: خَلْقه له وفِعْله خير لا شر؛ فإن الخلق والفعل قائم به سبحانه، والشر يستحيل قيامه به، واتصافه به، وما كان في المخلوق من شر فلعدم
_________
(1) هكذا في الأصول بإعادة: «وجوده».
(2) وهو الباب التاسع والعشرون الآتي في (377).
(2/87)
________________________________________
إضافته ونسبته إليه، والفعل والخلق مضاف إليه؛ فكان خيرًا.
والذي يشاؤه كله خير، والذي لم يشأ وجوده بقي على العدم الأصلي وهو الشر، فإن الشرّ كله عدم، فإن سببه جهل وهو عدم العلم، أو ظلم وهو عدم العدل، وما ترتب على ذلك من الآلام فهو من عدم استعداد المحل، وقبوله لأسباب الخيرات واللذات.
فإن قلت: كثير من الناس يطلق القول بأن الخير كله من الوجود ولوازمه، والشر كله من العدم ولوازمه، والوجود خير، والشر المحض لا يكون إلا عدمًا.
قلت: هذا اللفظ فيه إجمال، فإن أريد به أنّ كل ما خلقه الله وأوجده ففيه الخير، ووجوده خير من عدمه، وما لم يخلقه ولم يشأه فهو المعدوم الباقي على عدمه، وهو لا خير فيه، إذ لو كان فيه خير لفعله، فإنه سبحانه بيده الخير= فهذا صحيح، فالشر العدمي هو عدم الخير.
وإن أريد أن كل ما يلزم الوجود فهو خير، وكل ما يلزم العدم فهو شر= فليس بصحيح؛ فإن الوجود قد يلزمه شر مرجوح، والعدم قد يلزمه خير راجح.
مثال الأول: النار والمطر، والحر والبرد والثلج، ووجود الحيوانات، فإن هذا موجود ويلزمه شر جزئي مغمور بالنسبة إلى ما في وجود ذلك من الخير.
وكذلك (1) المأمور به قد يلزمه من الألم والمشقة ما هو شر جزئي
_________
(1) «د»: «وذلك».
(2/88)
________________________________________
مغمور بالنسبة إلى ما فيه من الخير.
فصل (1)
وتحقيق الأمر أن الشر نوعان: شر محض حقيقي من كل وجه، وشر نسبي إضافي من وجه دون وجه.
فالأول: لا يدخل في الوجود؛ إذ لو دخل في الوجود لم يكن شرًّا محضًا.
والثاني: هو الذي يدخل في الوجود، فالأمور التي يقال هي شرور إما أن تكون أمورًا عدمية، أو أمورًا وجودية، فإن كانت عدمية فإنها إما أن تكون عدمًا لأمور ضرورية للشيء في وجوده، أو ضرورية له في دوام وجوده وبقائه، أو ضرورية له في كماله، وإما أن تكون غير ضرورية له في وجوده ولا بقائه ولا كماله، وإن كان وجودها خيرًا من عدمها، فهذه أربعة أقسام:
فالأول: كالإحساس والحركة والتنفس للحيوان.
والثاني: كقوة الاغتذاء والنمو للحيوان المغتذي النامي.
والثالث: كصحته وسمعه وبصره وقوته.
والرابع: كالعلم بدقائق المعلومات التي العلم بها خير من الجهل، وليست ضرورية له.
وأما الأمور الوجودية فوجود كل ما يضاد الحياة والبقاء والكمال، كالأمراض وأسبابها، والآلام وأسبابها، والموانع الوجودية التي تمنع حصول الخير، ووصوله إلى المحل القابل له، المستعد لحصوله، كالمواد الرديّة
_________
(1) انظر: «المباحث المشرقية» (2/ 520 - 522)، «طريق الهجرتين» (1/ 334 - 340).
(2/89)
________________________________________
المانعة من وصول الغذاء إلى أعضاء البدن وانتفاعها به، وكالعقائد الباطلة، والإرادات الفاسدة المانعة لحصول أضدادها للقلب.
إذا عُرِف هذا فالشر بالذات هو عدم ما هو ضروري للشيء في وجوده أو بقائه أو كماله، ولهذا العدم لوازم هي شر أيضًا، فإن عدم العلم والعدل يلزمهما من الجهل والظلم ما هو شرور وجودية، وعدم الصحة والاعتدال يلزمهما من الألم والضرر ما هو شر وجودي.
وأما عدم الأمور المُستغنَى عنها كعدم الغنى المفرط، والعلوم التي لا يضر الجهل بها؛ فليس بشرٍّ في الحقيقة، ولا وجودها سببًا للشر؛ فإن العلم من حيث هو علم، والغنى من حيث هو غنى؛ لم يوضع سببًا للشر، وإنما يترتب الشر من عدم صفة تقتضي الخير، كعدم العفة والصبر والعدل في حق الغني، فيحصل الشر له في غناه بعدم هذه الصفات، وكذلك عدم الحكمة ووضع الشيء موضعه، وعدم إرادة الخير في حق صاحب العلم، يوجب ترتب الشر له على ذلك في علمه.
فظهر أن الشر لم يترتب إلا على عدم، وإلا فالموجود من حيث وجوده لا يكون شرًّا ولا سببًا للشر، فالأمور الوجودية ليست شرورًا بالذات، بل بالعَرَض من حيث إنها تتضمن عدم أمور ضرورية أو نافعة (1)، فإنك لا تجد شيئًا من الأفعال التي هي شر إلا وهو كمال بالنسبة إلى الفاعل، وجهة الشر فيه بالنسبة إلى أمور أُخر.
مثال ذلك: أن الظلم يصدر عن قوة تطلب الغلبة والقهر، وهي القوة
_________
(1) «د» «م»: «مانعة» مهملة، والمثبت من «ج» هو الصواب.
(2/90)
________________________________________
الغضبية، التي كمالها بالغلبة، ولهذا خُلِقت، فليس في ترتب أثرها عليها شر من حيث وجوده، بل الشر عدم ترتب أثرها عليها البتّة، فتكون ضعيفة عاجزة مقهورة، وإنما الشر الوجودي الحاصل شر إضافي بالنسبة إلى المظلوم لفوات ماله أو نفسه أو تصرفه، وبالنسبة إلى الظالم لا من حيث الغلبة والاستيلاء، ولكن من حيث وضع الغلبة والقهر والاستيلاء في غير موضعه، فعدل به عن محله إلى غير محله.
فلو استعمل (1) قوة الغضب في قهر المؤذي الباغي من الحيوانات الناطقة والبهيمة لكان ذلك خيرًا، ولكن عدل به إلى غير محله، فوضَعَ القهر والغلبة موضع العدل والنصفة، ووَضَع الغلظة موضع الرحمة.
فلم يكن الشر في وجود هذه القوة، ولا في ترتب أثرها عليها من حيث هما كذلك، بل في إجرائها في غير مجراها.
ومثال ذلك: ماء جار في نهر إلى أرض يسقيها وينفعها، فكماله في جريانه حتى يصل إليها، فإذا عدل به عن مجراه وطريقه إلى أرض يضرها ويخرب دورها؛ كان الشر في العدول به عما أُعدّ له، وعدم وصوله إليه.
فهكذا الإرادة والغضب؛ أُعِين بهما العبد ليتوصل بهما إلى حصول ما ينفعه، وقهر ما يؤذيه ويهلكه، فإذا استُعمِلا في ذلك فهو كمالهما وهو خير، وإذا صُرِفا عن ذلك إلى استعمال هذه القوة في غير محلها، وهذه في غير محلها؛ صار ذلك شرًّا إضافيًا نسبيًا.
وكذلك النار كمالها في إحراقها، فإذا أحرقت ما ينبغي إحراقه فهو خير،
_________
(1) «د» «م»: «نفد»، والمثبت من «ج» أليق.
(2/91)
________________________________________
وإن صادفت ما لا ينبغي إحراقه فأفسدته فهو شر إضافي بالنسبة إلى المحل المعيّن.
وكذلك القتل مثلًا، هو استعمال الآلة القطّاعة في تفريق اتصال البدن، فقوة الإنسان على استعمال الآلة خير، وكون الآلة قابلة للتأثير خير، وكون المحل قابلًا لذلك خير، وإنما الشر نسبي إضافي، وهو وضع هذا التأثير في غير موضعه، والعدول به عن المحل المؤذي إلى غيره، هذا بالنسبة إلى الفاعل، وأما بالنسبة إلى المقتول (1) فهو شر إضافي أيضًا، وهو ما حصل له من التألم، وفاته من الحياة، وقد يكون ذلك خيرًا له من جهة أخرى، وخيرًا لغيره.
وكذلك الوطء؛ فإن قوة الفاعل وقبول المحل كمال، ولكن الشر في العدول به عن المحل الذي يليق به إلى محل لا يحسن ولا يليق.
وهكذا حركة اللسان وحركات الجوارح كلها جارية هذا المجرى.
فظهر أن دخول الشر في الأمور الوجودية إنما هو بالنسبة والإضافة، لا أنها من حيث وجودها وذواتها شر.
وكذلك السجود ليس هو شرًّا من حيث ذاته ووجوده، فإذا أضيف إلى غير الله كان شرًّا بهذه النسبة والإضافة.
وكذلك كل ما وجوده كفر وشرك إنما كان شرًّا بإضافته إلى ما جعله كذلك، كتعظيم الأصنام، فالتعظيم من حيث هو تعظيم لا يُمدح ولا يُذم إلا باعتبار متعلقه، فإذا كان تعظيمًا لله وكتابه ودينه ورسوله كان خيرًا محضًا،
_________
(1) «ج»: «المفعول».
(2/92)
________________________________________
وإن كان تعظيمًا للصنم وللشيطان فإضافته إلى هذا المحل جعلته شرًّا، كما أن إضافة السجود إلى غير الله جعلته كذلك.
فصل
ومما ينبغي أن يُعلم أن الأشياء المكوَّنة من موادها شيئًا فشيئًا كالنبات والحيوان، إما أن يعرض لها النقص الذي هو شر في ابتدائها، أو بعد تكوّنها.
فالأول: هو بأن يعرض لمادتها من الأسباب ما يجعلها رديَّة المزاج، ناقصة الاستعداد، فيقع الشر فيها، والنقص في خلقتها بذلك السبب، وليس ذلك بأن الفاعل حرَمه وأذهب عنه أمرًا وجوديًا به كماله، بل لأن المُنفعِل لم يقبل الكمال والتمام، وعدم قبوله أمر عدمي ليس بالفاعل، وإنما الذي بالفاعل هو الخير الوجودي الذي يقبل به كماله وتمامه، فنقصه والشر الذي حصل فيه هو من عدم إمداده بسبب الكمال، فبقي على العدم الأصلي.
وبهذا يُفهم سرّ قوله تعالى: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك: 3]، فإن ما خَلَقه فهو أمر وجودي به كمال المخلوق وتمامه، وأما عيبه ونقصه فمن عدم قبوله، وعدم القبول ليس أمرًا مخلوقًا يتعلق بفعل الفاعل، فالخلق الوجودي ليس فيه تفاوت، والتفاوت إنما حصل بسبب فَقْد هذا الخلق، فإن الخالق سبحانه لم يخلق له استعدادًا، فحصل التفاوت فيه من عدم الخلق لا من نفس الخلق، فتأمله.
والذي إلى الرب سبحانه هو الخلق، وأما العدم فليس هو بفاعل، فإذا لم تكمل مادةُ الجنين في الرحم بما يقتضي كماله وسلامة أعضائه واعتدالها حصل فيه التفاوت، وكذلك النبات.
(2/93)
________________________________________
فصل
وأما الثاني وهو الشر الحاصل بعد تكوّنه وإيجاده، فهو نوعان أيضًا:
أحدهما: أن يقطع عنه الإمداد الذي به كماله بعد وجوده، كما يقطع عن النبات إمداده بالسقي، وعن الحيوان إمداده بالغذاء، فهذا شر مضاف إلى العدم أيضًا، وهو عدم ما يكمل به.
الثاني: حصول مضادٍّ منافٍ، وهو نوعان:
أحدهما: قيام مانع في المحل يمنع تأثير الأسباب الصالحة فيه، كما تقوم بالبدن أخلاط رديّة تمنع تأثير الغذاء فيه وانتفاعه به، وكما تقوم بالقلب إرادات واعتقادات فاسدة تمنع انتفاعه بالهدى والعلم، فهذا الشر وإن كان وجوديًا، وأسبابه وجودية فهو أيضًا من عدم القوة أو الإرادة التي يدفع بها ذلك المانع، فلو وُجِدت قوة وإرادة تدفعه لم يتأثر المحل به.
مثال ذلك: أن غلبة الأخلاط واستيلاءها من عدم القوة المنضجة لها، أو القوة الدافعة لما (1) يحتاج إلى خروج، وكذلك استيلاء الإرادات الفاسدة هو لضعف قوة العفة والشجاعة والصبر، واستيلاء الاعتقادات الباطلة لعدم العلم المطابق لمعلومه.
فكل شر ونقص فإنما حصل بعدم سبب ضده، وعدم سبب ضده ليس فاعلًا له، بل يكفي فيه بقاؤه على العدم الأصلي.
الثاني: مانع من خارج، كالبرد الشديد والحريق والغرق ونحو ذلك مما
_________
(1) «د»: «والقوة الدافعة لها».
(2/94)
________________________________________
يصيب الحيوان والنبات، فيحدث فيه الفساد، فهذا لا ريب أنه شر وجودي مستند إلى سبب وجودي، ولكنه شر نسبي إضافي، وهو خير من وجه آخر، فإن وجود ذلك الحر والبرد والماء يترتب عليه مصالح وخيرات كُلّية، هذا الشر بالنسبة إليها جزئي. فتعطيل تلك الأسباب لتفويت هذا الشر الجزئي يتضمن شرًّا أكبر منه، وهو فوات تلك الخيرات الحاصلة بها.
فإن ما يحصل بالشمس والريح والمطر والثلج والحر والبرد من مصالح الخلق أضعاف أضعاف ما يحصل بذلك من مفاسد جزئية، هي في جنب تلك المصالح كقطرة في بحر.
هذا لو كان شرها حقيقيًّا، فكيف وهي خير من وجه، وشر من وجه، وإن لم يَعلم جهة الخير فيها كثيرٌ من الناس، فما قدّرها الربّ تعالى سدى، ولا خلقها باطلًا.
وعند هذا فيقال: الوجود إما أن يكون خيرًا من كل وجه، أو شرًّا من كل وجه، أو خيرًا من وجه شرًّا من وجه، وهذا على ثلاثة أقسام: قسم خيره راجح على شره، وعكسه، وقسم مستوٍ خيره وشره، وإما أن لا يكون فيه خير ولا شر، فهذه ستة أقسام (1) لا مزيد عليها، فبعضها واقع وبعضها غير واقع.
فأما القسم الأول وهو الخير المحض من كل وجه الذي لا شر فيه بوجه ما، فهو أشرف الوجودات (2) على الإطلاق، وأكملها وأجلها، وكل خير
_________
(1) باعتبار أن قوله: «أو خيرًا من وجه شرًّا من وجه» مذكورٌ لبيان الأقسام التالية له، لا قسيمًا.
(2) «د» «ج»: «الموجودات».
(2/95)
________________________________________
وكمال فيها فهو مستفاد من خيره، وكماله في نفسه، وهي تستمد منه وهو لا يستمد منها، وهي فقيرة إليه وهو غني عنها، كلٌّ منها يسأله كماله.
فالملائكة تسأله ما لا حياة لها إلا به، من إعانته على ذكره وشكره وحسن عبادته، وتنفيذ أوامره، والقيام بما جعل إليهم من مصالح العالم العلوي والسفلي، وتسأله أن يغفر لبني آدم.
والرسل تسأله أن يعينهم على أداء رسالاته وتبليغها، وأن ينصرهم على أعدائهم، وغير ذلك من مصالحهم في معاشهم ومعادهم.
وبنو آدم كلهم يسألونه مصالحهم على تنوعها واختلافها.
والحيوان كله يسأله رزقه وغذاءه وقوته وما يقيمه، ويسأله الدفع عنه، والشجر والنبات يسأله غذاءه وما يكمل به، والكون كله يسأله إمداده بقاله وحاله: {(28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي} [الرحمن: 29].
فأَكُفّ جميع العالم ممتدة إليه بالطلب والسؤال، ويده مبسوطة لهم بالعطاء والنوال، يمينه مَلْأى لا يَغيضُها نفقةٌ، سَحّاء الليل والنهار، وعطاؤه وخيره مبذول للأبرار والفجّار، له كل كمال، ومنه كل خير، له الحمد كله، وله الملك كلّه، وله الثناء كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، تبارك اسمه، وتباركت أوصافه، وتباركت أفعاله، وتباركت ذاته، فالبركة كلها له ومنه، لا يتعاظمه خير سُئِله، ولا تنقص خزائنه على كثرة عطائه وبذْلِه، فلو صُوِّر كلُّ كمال في العالم صورةً واحدة ثم كان العالم كله على تلك الصورة لكان نسبة ذلك إلى كماله وجلاله وجماله دون نسبة سراج ضعيف (1) إلى عين الشمس.
_________
(1) «ضعيف» من «ج».
(2/96)
________________________________________
فصل
وأما الأقسام الخمسة الباقية فلا يدخل منها في الوجود إلا ما كانت المصلحة والحكمة والخير في إيجاده أكثر من المفسدة، والأقسام الأربعة لا تدخل في الوجود، أما الشر المحض الذي لا خير فيه، فذاك ليس له حقيقة، بل هو العدم المحض.
فإن قيل: إبليس شر محض، والكفر والشرك كذلك، وقد دخل في الوجود، فأي خير في إبليس، وفي وجود الكفر؟
قيل: في خلق إبليس من الحِكَم والمصالح والخيرات التي ترتبت على وجوده ما لا يعلمه إلا الله، كما سننبه على بعضه، فالله سبحانه لم يخلقه عبثًا، ولا قصد بخلقه إضرار عباده وهلاكهم، فكم لله في خلقه من حكمة باهرة، وحجة قاهرة، وآية ظاهرة، ونعمة سابغة، وهو وإن كان للأديان والإيمان كالسموم للأبدان؛ ففي إيجاد السموم من المصالح والحِكَم ما هو خير من تفويتها.
وأما الذي لا خير فيه ولا شر فلا يدخل أيضًا في الوجود؛ فإنه عبث يتعالى الله عنه، وإذا امتنع دخول هذا القسم في الوجود فدخول ما الشر في إيجاده أغلب من الخير أولى بالامتناع.
ومن تأمل هذا الوجود علم أن الخير فيه غالب؛ فإن الأمراض ــ وإن كثرت ــ فالصحة أكثر منها، واللذات أكثر من الآلام، والعافية أعظم من البلاء، والغرق والحرق والهدم ونحوها ــ وإن كثرت ــ فالسلامة أكثر.
ولو لم يوجد هذا القسم الذي خيره غالب لأجل ما يعرض فيه من الشر
(2/97)
________________________________________
لفات الخير الغالب، وفوات الخير الغالب شر غالب، ومثال ذلك: النار، فإن في وجودها منافع كثيرة، وفيها مفاسد، ولكن إذا قابلنا بين مصالحها ومفاسدها لم تكن لمفاسدها نسبة إلى مصالحها، وكذلك المطر والرياح والحر والبرد.
وبالجملة فعناصر هذا العالم السفلي خيرها ممتزج بشرها، ولكن خيرها غالب، وأما العالم العلوي فبريء من ذلك.
فإن قيل: فهلّا خَلَقَ الخلّاق الحكيم هذه خالية من الشر، بحيث تكون خيرات محضة؟
فإن قلتم: اقتضت الحكمة خلق هذا العالم ممتزجًا فيه اللذة بالألم، والخير بالشر، فقد كان يمكن خلقه على حالة لا يكون فيه شرًّا كالعالم العلوي.
سلّمْنا أن وجود ما الخير فيه أغلب من الشر أولى من عدمه، فأي خير ومصلحة في وجود رأس الشر كله ومنبعه وقدوة أهله فيه: إبليس، وأي خير في إبقائه إلى آخر الدهر؟
وأي خير يغلب في نشأة يكون منها تسعة وتسعون في النار وواحد في الجنة؟
وأي خير غالب حصل بإخراج الأبوين من الجنة، حتى جرى على الأولاد ما جرى، ولو داما في الجنة لارتفع الشر بالكلية؟
وإذا كان قد خلقهم لعبادته فكيف اقتضت حكمته أنْ صرف أكثرهم عنها، ووفّق لها الأقل من الناس؟
(2/98)
________________________________________
وأي خير يغلب في خلق الكفر والفسوق والعصيان والظلم والبغي؟
وأي خير في إيلام غير المكلفين، كالأطفال والمجانين؟
فإن قلتم: فائدته التعويض؛ انتقض عليكم بإيلام البهائم.
ثم (1) وأيّ خير في خلق الدجال، وتمكينه من الظهور والافتتان به؟ وإذ قد اقتضت الحكمة ذلك فأي خير حصل في تمكينه من إظهار تلك الخوارق والعجائب؟
وأي خير في السحر وما يترتب عليه من المفاسد والمضار؟
وأي خير في إلباس الخلق شِيَعًا، وإذاقة بعضهم بأس بعض؟
وأي خير في خلق السموم وذوات السموم، والحيوانات العادِيَة المؤذية بطبعها؟
وأي خير في خراب هذه البِنْية بعد خلقها في أحسن تقويم، وردّها إلى أرذل العمر بعد استقامتها وصلاحها؟
وكذلك خراب هذه الدار ومحو أثرها.
فإن كان وجود ذلك خيرًا غالبًا فإبطاله إبطال للخير الغالب.
دع هذا كله، فأي خير راجح أو مرجوح في النار، وهي دار الشر الأعظم والبلاء الأكبر؟
ولا خلاص لكم عن هذه الأسئلة إلا بسدّ باب الحكمة والتعليل،
_________
(1) «ثم» من «ج».
(2/99)
________________________________________
وإسناد الكون إلى محض المشيئة، أو القول بالإيجاب الذاتي، وأن الربّ لا يفعل باختياره ومشيئته.
وهذه الأسئلة إنما ترد على مَن يقول بالفاعل المختار، فلهذا لجأ القائلون به إلى إنكار التعليل جملة، فاختاروا أحد المذهبين، وتحيّزوا إلى إحدى الفئتين، وإلا فكيف تجمعون بين القول بالحكمة والتعليل وبين هذه الأمور؟!
فالجواب بعد أن نقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، بل في تحقيق هذه الكلمات الجواب الشافي.
{رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ} [آل عمران: 191]، {(37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا} [الدخان: 38 - 39]، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27]، {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 115 - 116]، {(11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12]، {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المائدة: 97]، {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88]، و {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} [السجدة: 7].
فما في خلقه سبحانه من تفاوت، بل هو في غاية التناسب، واقع على
(2/100)
________________________________________
أكمل الوجوه، وأقربها إلى حصول الغايات المحمودة والحِكَم المطلوبة، فلم تكن تحصل تلك الحِكَم والغايات التي انفرد الله سبحانه بعلمها على التفصيل، وأطلع من شاء من عباده على أيسر اليسير منها، إلا بهذه الأسباب والبدايات (1).
وقد سأله الملائكة المقربون عن جنس هذه الأسئلة وأصلها فقال: {إِنِّيَ أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]، فأقرّوا له بكمال العلم والحكمة، وأنه في جميع أفعاله على صراط مستقيم، وقالوا: {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32]، ولما ظهر لهم بعض حكمته فيما سألوا عنه، وأنهم لم يكونوا يعلمون قال: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 33].
فصل
ونحن نذكر أصولًا مهمة يتبين بها جواب هذه الأسئلة، وقد اعترف كثير من المتكلمين ــ ممن له نظر في الفلسفة والكلام ــ أنه لا يمكن الجواب عنها إلا بالتزام القول بالموجِب بالذات، أو القول بإبطال الحكمة والتعليل، وأنه سبحانه لا يفعل شيئًا لشيء، ولا يأمر بشيء لحكمة، ولا جعل شيئًا من الأشياء سببًا لغيره، وما ثَمّ إلا مشيئة محضة، وقدرة ترجّح مِثْلًا على مِثْل بلا سبب ولا علّة، وأنه لا يقال في فِعْله: لِمَ ولا كيف، ولا لأي سبب وحكمة، ولا هو مُعلَّل بالمصالح.
_________
(1) «د»: «والهدايات».
(2/101)
________________________________________
قال الرازي في «مباحثه»: «فإن قيل: فلِمَ لمْ يخلق الخالق هذه الأشياء عَرِيّة عن كل الشرور؟
فنقول: لأنه لو جعلها كذلك لكان هذا هو القسم الأول، وذلك مما فُرِغ عنه (1)».
يعني: كان ذلك هو القسم الذي هو خير محض لا شر فيه.
قال: «وبقي في العقل (2) قسم آخر، وهو الذي يكون خيره غالبًا على شره، وقد بينا أن الأولى بهذا القسم أن يكون موجودًا.
قال: وهذا الجواب لا يعجبني؛ لأن لقائل أن يقول: إن جميع هذه الخيرات والشرور إنما توجد باختيار الله تعالى وإرادته، فالاحتراق الحاصل عقيب النار ليس موجَبًا عن النار، بل الله تعالى اختار خلقه عقيب مماسة النار، وإذا كان حصول الاحتراق عقيب مماسة النار (3) باختيار الله وإرادته، فكان يمكنه أن يختار خلق الإحراق عند ما يكون خيرًا، ولا يختار خلقه عند ما يكون شرًّا.
ولا خلاص عن هذه المطالبة إلا ببيان كونه سبحانه فاعلًا بالذات لا بالقصد والاختيار، ويرجع حاصل الكلام في هذه المسألة إلى مسألة القِدَم
_________
(1) كذا في «د» و «م» و «المباحث المشرقية» (2/ 522)، ووقع في «ج»: «خرج عنه»، وفي «طريق الهجرتين» (1/ 339): «فرغ منه»، وهذا موافق للمشهور في تعدية «فرغ» بـ «من»، وقد قُرِئ: «حتى إذا فُرِّغَ عن قلوبهم»، انظر: «تاج العروس» (22/ 549).
(2) «ج»: «الفعل»، تحريف.
(3) جملة: «وإذا كان حصول الاحتراق عقيب مماسة النار» ساقطة من «م».
(2/102)
________________________________________
والحدوث» (1).
فانظر كيف اعترف بأنه لا خلاص عن هذه الأسئلة إلا بتكذيب جميع الرسل من أولهم إلى آخرهم، وإبطال جميع الكتب المنزلة من عند الله، ومخالفة صريح العقل في أن خالق العالم سبحانه مريد مختار، ما شاء كان بمشيئته، وما لم يشأ لم يكن لعدم مشيئته، وأنه ليس في الكون شيء حاصل بدون مشيئته البتّة.
فأقرَّ على نفسه أنه لا خلاص له عن تلك الأسئلة إلا بالتزام طريقة أعداء الرسل والملل، القائلين بأن الله لم يخلق السماوات والأرض في ستة أيام، ولا أوجد العالم بعد عدمه، ولا يُفنيه بعد إيجاده، وصدور ما صدر عنه بغير اختياره ومشيئته، فلم يكن مختارًا مريدًا للعالم.
وليس عنده إلا هذا القول، أو قول الجبرية منكري الأسباب والحِكَم والتعليل، أو قول المعتزلة الذين أثبتوا حكمة لا ترجع إلى الفاعل، وأوجبوا رعاية مصالح شبّهوا فيها الخالق بالمخلوق، وجعلوا له بعقولهم شريعة أوجبوا عليه فيها، وحرّموا، وحجروا عليه.
فالأقوال الثلاثة تتردد في صدره، وتتقاذف به أمواجها تقاذف السفينة إذا لعبت بها الرياح الشديدة، والعاقل لا يرضى لنفسه بواحد من هذه الأقوال؛ لمنافاتها للعقل والنقل والفطرة.
والقول الحق في هذه الأقوال كيوم الجمعة في الأيام، أضلّ الله عنه أهل
_________
(1) «المباحث المشرقية» (2/ 522 - 523)، ونقله المؤلف في «طريق الهجرتين» (1/ 339).
(2/103)
________________________________________
الكتابين قبل هذه الأمة، وهداهم إليه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجمعة: «أضل الله عنها مَنْ كان قبلنا، فاليوم لنا، وغدًا لليهود، وبعد غدٍ للنصارى» (1).
ونحن هكذا نقول بحمد الله ومنّه: القول الوسط الصواب لنا، وإنكار الفاعل بالمشيئة والاختيار لأعداء الرسل، وإنكار الحكمة والمصلحة والتعليل والأسباب للجهمية والجبرية، وإنكار عموم القدرة والمشيئة والحكمة العائدة إلى الرب تعالى من محبته وكراهته وموجِب حمده ومقتضى أسمائه وصفاته ومعانيها وآثارها للقدرية المجوسية.
ونحن نبرأ إلى الله من هذه الأقوال وقائلها، إلا من حق تتضمنه مقالة كل فرقة منهم، فنحن به قائلون، وإليه منقادون، وله مذعنون.
فصل
الأصل الأول: إثبات عموم علمه سبحانه، وإحاطته بكل معلوم، وأنه لا تخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، بل قد أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، والخلاف في هذا الأصل مع فرقتين:
إحداهما: أعداء الرسل كلهم، وهم الذين ينفون علمه بالجزئيات، وحاصل قولهم: إنه لا يَعلم موجودًا البتّة، فإن كل موجود جزئي معيّن، فإذا لم يعلم الجزئيات لم يكن عالمًا بشيء من العالم العلوي والسفلي.
والفرقة الثانية: غلاة القدرية الذين اتفق السلف على كفرهم، وحكموا بقتلهم، الذين يقولون: لا يَعلم أعمالَ عباده حتى يعملوها، ولم يعلمها قبل
_________
(1) أخرجه البخاري (876)، ومسلم (856) من حديث أبي هريرة.
(2/104)
________________________________________
ذلك، ولا كتبها، ولا قَدّرها، فضلًا عن أن يكون قد شاءها وكوَّنها.
وقول هؤلاء معلوم البطلان بالضرورة من أديان جميع المرسلين، وكتب الله المنزلة، وكلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - مملوء بتكذيبهم، وإبطال قولهم، وإثبات عموم علمه الذي لا يشاركه فيه خلقه، ولا يحيطون بشيء منه إلا بما شاء أن يطلعهم عليه، ويعلمهم به، وما أخفاه عنهم ولم يطلعهم عليه لا نسبة لما عرفوه إليه إلا دون نسبة قطرة واحدة إلى البحار كلها، كما قال الخضر لموسى وهما أعلم أهل الأرض إذ [ذاك] (1): «ما نقص علمي وعلمُك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر» (2).
ويكفي أن ما يتكلم به من علمه (3) لو قُدِّر أنّ البحر يمده من بعده سبعةَ أبحرِ مدادٍ، وأشجار الأرض كلها من أول الدهر إلى آخره أقلام= يُكتب به ما يتكلم به مما يعلمه؛ لنفدت البحار، وفنيت الأقلام، ولم تنفد كلماته، فنسبة علوم الخلائق إلى علمه سبحانه كنسبة قدرتهم إلى قدرته، وغناهم إلى غناه، وحكمتهم إلى حكمته.
وإذا كان أعلم خلقه به على الإطلاق يقول: «لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» (4)، ويقول في دعاء الاستخارة: «فإنك تقدر ولا
_________
(1) في الأصول: «إذا ما نقص»، وضبطها في «م»: «إذًا»، وليس بشيء، وظاهر السياق يدل على إرادة «إذ» الظرفية بمعنى «حين»، وتلزمها الإضافة إلى ظرف مثلها، وصححها في «ط»: «حينئذ»، والمثبت أقرب للمعنى والرسم إن شاء الله.
(2) أخرجه البخاري (122)، ومسلم (2380) من حديث أبي بن كعب.
(3) «د»: «علم الله».
(4) تقدم تخريجه في (1/ 378).
(2/105)
________________________________________
أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب» (1).
ويقول سبحانه لملائكته: {إِنِّيَ أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]، ويقول سبحانه لأعلم الأمم ـ وهم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ـ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهْوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهْوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهْوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]، ويقول لأهل الكتاب: {أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [الإسراء: 85]، وتقول رسله يوم القيامة حين يسألهم: ماذا أجبتم؟ {لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 109]، وهذا هو الأدب المطابق للحق في نفس الأمر؛ فإن علومهم وعلوم الخلائق تضمحلّ وتتلاشى في علمه سبحانه، كما يضمحلّ ضوء السراج الضعيف في عين الشمس.
فمِنْ أظلم الظلم، وأبين الجهل، وأقبح القبيح، وأعظم القِحَة والجراءة: أن يعترض من لا نسبة لعلمه إلى علوم الناس، التي لا نسبة لها إلى علوم الرسل، التي لا نسبة لها إلى علم رب العالمين = عليه، ويقدح في حكمته، ويظن أن الصواب والأولى أن يكون غير ما جرى به قلمُه، وسبق به علمُه، وأن يكون الأمر بخلاف ذلك.
فسبحان الله رب العالمين، تنزيهًا لربوبيته وإلهيته وعظمته وجلاله عما لا يليق به من كل ما نسبه إليه الجاهلون الظالمون، فسبحان الله كلمة يُحاشى اللهُ بها عن كل ما يخالف كماله من سوء ونقص وعيب، فهو المنزّه التنزيه التام من كل وجه، وبكل اعتبار عن كل نقص متوهَّم، وإثبات عموم حمده وكماله وتمامه ينفي ذلك، واتصافه بصفات الإلهية التي لا تكون لغيره،
_________
(1) تقدم تخريجه في (1/ 115)، وقوله: «ويقول في» إلى هنا ساقط من «د».
(2/106)
________________________________________
وكونه أكبر من كل شيء في ذاته وأوصافه وأفعاله ينفي ذلك، فمن (1) رسخت معرفته في معنى: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وسافر قلبه في منازلها، وتلقى معانيها من مشكاة النبوة، لا من مشكاة الفلسفة والكلام الباطل وآراء المتكلمين.
فهذا أصل يجب التمسك به في هذا المقام، وأن يُعرف أن عقول العالمين ومعارفهم وعلومهم وحكمهم تقصر عن الإحاطة بتفاصيل حكمة الرب تعالى في أصغر مخلوقاته.
الأصل الثاني: أنه سبحانه حيّ حقيقة، وحياته أكمل الحياة وأتمها، وهي حياة تستلزم جميع صفات الكمال، ونفي أضدادها من جميع الوجوه، ومن لوازم الحياة الفعل الاختياري؛ فإن كل حيّ فعّال، وصدور الفعل عن الحيّ بحسب كمال حياته ونقصها، فكل مَن كانت حياته أكمل من غيره كان فعله أقوى وأكمل، وكذلك قدرته، ولهذا كان الربُّ تعالى على كل شيء قدير، وهو فعَّال لما يريد.
وقد ذكر البخاري في كتاب «خلق الأفعال» عن نعيم بن حماد أنه قال: «الحيُّ هو الفعّال، وكل حيّ فعّال» (2).
فلا فرق بين الحيِّ والميت إلا بالفعل والشعور.
وإذا كانت الحياة مستلزِمة للفعل ــ وهو الأصل الثالث ــ فالفعل الذي لا يعقل الناس سواه هو الفعل الاختياري الإرادي، الحاصل بقدرة الفاعل
_________
(1) كذا في الأصول بشرط دون جواب، فلعلها: «فيمن»، وفي «ط»: «لمن».
(2) «خلق أفعال العباد» (2/ 192) بمعناه، ولم أقف على نص كلام نعيم، وعزاه المصنف في موضع سابق إلى الدارمي وغيره، انظر: (1/ 16).
(2/107)
________________________________________
وإرادته ومشيئته، وما يصدر عن الذات من غير قدرة منها ولا إرادة لا يسميه أحد من العقلاء فعلًا، وإن كان أثرًا من آثارها ومتولّدًا عنها، كتأثير النار في الإحراق، والماء في الإغراق، والشمس في الحرارة، فهذه آثار صادرة عن هذه الأجسام، وليست أفعالًا لها، وإن كانت بقوى وطبائع جعلها الله فيها، فالفعل والعمل من الحيّ العالم لا يقع إلا بمشيئته وقدرته.
وكون الربّ تعالى حيًّا فاعلًا مختارًا مريدًا مما اتفقت عليه الرسل والكتب، ودلّ عليه العقل والفطرة، وشهدت به الموجودات ناطقها وصامتها، جمادها وحيوانها، علويّها وسفليّها، فمن أنكر فعل الربّ الواقع بمشيئته واختياره فقد جحد ربّه وفاطره، وأنكر أن يكون للعالم ربّ.
الأصل الرابع: أنه سبحانه ربط الأسباب بمسبَّباتها شرعًا وقدرًا، وجعل الأسباب محل حكمته في أمره الديني الشرعي، وأمره الكوني القدري، ومحل ملكه وتصرفه، فإنكار الأسباب والقوى والطبائع جحد للضروريات، وقدح في العقول والفطر، ومكابرة للحس، وجحد للشرع والجزاء.
فقد جعل الله تعالى مصالح العباد في معاشهم ومعادهم، والثواب والعقاب، والحدود والكفارات، والأوامر والنواهي، والحِلّ والحرمة، كل ذلك مرتبطًا بالأسباب قائمًا بها، بل العبد نفسه وصفاته وأفعاله سبب لما يصدر عنه، بل الموجودات كلها أسباب ومسبَّبات، والشرع كله أسباب ومسبَّبات، والمقادير أسباب ومسبَّبات، والقدر جارٍ عليها، متصرف فيها، فالأسباب محل الشرع والقدر.
والقرآن مملوء من إثبات الأسباب، كقوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان: 15]، {بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [الأعراف: 39]، {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ
(2/108)
________________________________________
يَدَاكَ} [الحج: 10]، {فَبِمَا (1) كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]، {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24]، {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ: 26]، {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمِ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 160 - 161]، {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمِ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} إلى قوله: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} [النساء: 155 - 157]، وقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة: 13]، وقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159]، وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسْلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ} [غافر: 22]، وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275]، وقوله: {(2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد: 3]، وقوله: {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} [الحاقة: 10]،
وقوله: {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ} [المؤمنون: 48]، {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} [المزمل: 16]، {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} [الشمس: 14]، وقوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} [الزخرف: 55 - 56]، وقوله: {وَنَزَّلْنَا (2) مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ق: 9]، وقوله: {إِذَا أَقَلَّتْ أَقَلَّت سَّحَابًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ مَّيْتٍ بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ
_________
(1) في الأصول: «بما».
(2) في الأصول: «وأنزلنا»، وكشُطِت الألف في «ج»، وشددت الزاء.
(2/109)
________________________________________
الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ} [الأعراف: 57]، وقوله: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة: 16]، وقوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} الآية [التوبة: 14]، وقوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} [النبأ: 14 - 16].
وكل موضع رُتِّب فيه الحكم الشرعي أو الجزائي على الوصف أفاد كونه سببًا له، كقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، وقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، وقوله: {تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ} [الأعراف: 170]، وقوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل: 88]، وهذا أكثر من أن يُستوعَب.
وكل موضع تضمّن الشرط والجزاء أفاد سببية الشرط والجزاء، وهو أكثر من أن يُستوعَب، كقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]، وقوله: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ. عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].
وكل موضع رُتِّب فيه الحكم على ما قبله بحرف الفاء أفاد التسبيب، وقد تقدم.
وكل موضع ذُكِرت فيه الباء تعليلًا لما قبلها بما بعدها أفاد التسبيب.
وكل موضع صُرِّح فيه: بأن كذا جزاء لكذا أفاد التسبيب.
وكل موضع ذُكِرت فيه حكمة الحُكْم وعلّته الغائية أفاد التسبيب؛ فإن العلّة الغائية علّة للعلّة الفاعلية.
(2/110)
________________________________________
ولو تتبعنا ما يفيد إثبات الأسباب من القرآن والسنة لزاد على عشرة آلاف موضع، ولم نقل ذلك مبالغة بل حقيقة، ويكفي شهادة الحسِّ والعقل والفِطَر.
ولهذا قال مَن قال من أهل العلم: تكلم قوم في إنكار الأسباب فأضحكوا ذوي العقول على عقولهم (1). وظنوا أنهم بذلك ينصرون التوحيد، فشابهوا المعطلة الذين أنكروا صفات الربّ، ونعوت كماله، وعلوّه على خلقه، واستواءه على عرشه، وتكلّمَه بكتبه، وتكليمه لملائكته وعباده، وظنوا أنهم بذلك ينصرون التوحيد، فما أفادهم إلا تكذيب الله ورسله، وتنزيهه عن كل كمال، ووصفه بصفات المعدوم والمستحيل.
ونظير من نزَّه الله عن أفعاله، وأن يقوم به فِعْل البتّة، وظنّ أنه ينصر بذلك حدوث العالم، وكونَه مخلوقًا بعد أن لم يكن، وقد أنكر أصل الفعل والخلق جملة.
ثم من أعظم الجناية على الشرائع والنبوات والتوحيد إيهام الناس أن التوحيد لا يتم إلا بإنكار الأسباب، فإذا رأى العقلاء أنه لا يمكن إثبات توحيد الربّ إلا بإبطال الأسباب ساءت ظنونهم بالتوحيد وبمن جاء به، وأنت لا تجد كتابًا من الكتب أعظم إثباتًا للأسباب من القرآن.
ويالله العجب! إذا كان الله خالق السبب والمسبَّب، وهو الذي جعل هذا سببًا لهذا، والأسباب والمسبَّبات طوع مشيئته وقدرته، منقادة لحكمه، إن شاء أن يبطل سببية الشيء أبطلها، كما أبطل إحراق النار على خليله إبراهيم،
_________
(1) حكى شيخ الإسلام هذه الجملة عن بعض الفضلاء كما في «مجموع الفتاوى» (8/ 137).
(2/111)
________________________________________
وإغراق الماء على كَلِيمه وقومِه، وإن شاء أقام لتلك الأسباب موانع تمنع تأثيرها مع بقاء قواها، وإن شاء خلّى بينها وبين اقتضائها لآثارها، فهو سبحانه يفعل هذا وهذا وهذا، فأي قدح يوجب ذلك في التوحيد، وأي شرك يترتب على ذلك بوجه من الوجوه!
ولكن ضعفاء العقول إذا سمعوا أن النار لا تُحْرِق، والماء لا يُغرِق، والخبز لا يُشبِع، والسيف لا يقطع، ولا تأثير لشيء من ذلك البتّة، ولا هو سبب لهذا الأثر، وليس فيه قوة، وإنما الخالق المختار يشاء حصول كل أثر من هذه الآثار عند ملاقاة كذا لكذا= قال (1): هذا هو التوحيد، وإفراد الربّ بالخلق والتأثير، ولم يدر هذا القائل أن هذا إساءة ظن بالتوحيد، وتسليط لأعداء الرسل على ما جاؤوا به، كما تراه عيانًا في كتبهم، ينفّرون به الناس عن الإيمان، ولا ريب أن الصديق الجاهل قد يضر ما لا يضره العدو العاقل.
وقد قال تعالى عن ذي القرنين: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف: 84]، قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: «علمًا» (2).
قال قتادة وابن زيد وابن جُرَيْج والضحاك: «علمًا يتسبّب به إلى ما يريد» (3).
وكذلك قال أبو إسحاق: «علمًا يوصله إلى حيث يريد» (4).
_________
(1) كذا في «د» و «م»، وفي «ج»: «قالت»، والأشبه بالسياق: «قالوا».
(2) أخرجه الطبري (15/ 371).
(3) نسبه إليهم مكي في «الهداية» (6/ 4449)، والواحدي في «البسيط» (14/ 130).
(4) «معاني القرآن» (3/ 308).
(2/112)
________________________________________
قال المبرّد: «وكل ما وَصَل شيئًا بشيء فهو سبب» (1).
وقال كثير من المفسرين: آتيناه من كل ما بالخلق إليه حاجة علمًا ومعونة له.
وقد سمَّى سبحانه الطريق سببًا في قوله: {فَاَتَّبَعَ سَبَبًا} [الكهف: 85]، قال مجاهد: «طريقًا» (2).
وقيل: السبب الثاني هو الأول، أي: اتَّبَعَ سببًا من تلك الأسباب التي أوتيها، مما يوصله إلى مقصوده.
وسَمَّى تعالى أبواب السماء أسبابًا، إذ منها يُدخَل إلى السماء، قال تعالى عن فرعون: {لَّعَلِّيَ أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} [غافر: 36 - 37]، أي: أبوابها التي أدخل منها إليها.
وقال زهير:
ومن هاب أسباب المنايا ينَلْنَهُ ... ولو رام أسباب السماء بسُلَّمِ (3)
وسُمِّي الحبل سببًا لإيصاله إلى المقصود، قال تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج: 15].
قال بعض أهل اللغة: السبب من الحبال القوي الطويل.
_________
(1) نسبه إليه في «البسيط» (14/ 130)، وانظر: «العين» (7/ 204).
(2) أسنده بنحوه الطبري (15/ 373)، وانظر: «تفسير مجاهد» (450).
(3) «شرح القصائد العشر» للتبريزي (194).
(2/113)
________________________________________
قال: ولا يُدعى الحبلُ سببًا حتى يُصعَد به ويُنزَل (1)، ثم قيل لكل شيء وصلت به إلى موضع أو حاجة تريدها: سبب، يقال: ما بيني وبين فلان سبب، أي: آصرة رحم أو عاطفة مودة.
وقد سمَّى تعالى وَصْل الناس بينهم أسبابًا، وهي التي يتسببون بها إلى قضاء حوائجهم (2) بعضهم من بعض، قال تعالى: {إِذ تَّبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة: 166]، يعني: الوُصلات التي كانت بينهم في الدنيا.
قال ابن عباس وأصحابه: «يعني أسباب المودة والوُصلات التي كانت بينهم في الدنيا» (3).
وقال ابن زيد: «هي الأعمال التي كانوا يؤمّلون أن يصلوا بها إلى ثواب الله».
وقيل: هي الأرحام التي كانوا يتعاطفون بها (4).
وبالجملة فسمى الله سبحانه ذلك كله أسبابًا؛ لأنها كانت يُتَوصَّل بها إلى مسبَّباتها، وهذا كله عند نفاة الأسباب مجاز لا حقيقة له، وبالله التوفيق.
_________
(1) حكاه في «تهذيب اللغة» (12/ 314) عن خالد بن جَنْبَة، والفقرة مقتبسة من «البسيط» (3/ 479).
(2) «د»: «حوائج».
(3) هذه الفقرة ساقطة من «م».
(4) انظر: «جامع البيان» (3/ 26 - 29)، «تفسير ابن أبي حاتم» (1/ 278 - 279).
(2/114)
________________________________________
وهذا الباب يتصل (1) بـ
الباب الثاني والعشرون في إثبات حكمة الربِّ تعالى في خَلْقه وأَمْره، وذِكْر الغايات المطلوبة له بذلك، والعواقب الحميدة التي يفعل لأجلها ويأمر لأجلها
فنقول: قد دلت أدلة العقول الصحيحة والفِطَر السليمة على ما دلَّ عليه القرآن والسنة (2)؛ أنه سبحانه حكيم لا يفعل شيئًا عبثًا، ولا لغير معنى ومصلحة وحكمة هي الغاية المقصودة بالفعل، بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة لأجلها فعل، كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل، وقد دلّ كلامه وكلام رسوله على هذا وهذا في مواضع لا تكاد تحصى، ولا سبيل إلى استيعاب أفرادها، فنذكر بعض أنواعها:
النوع الأول: التصريح بلفظ الحكمة وما تصرف منه، كقوله: {فَمَا تُغْنِ} [القمر: 5]، وقوله: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 113]، وقوله: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]، والحكمة هي العلم النافع والعمل الصالح، وسُمّي حكمة لأن العلم والعمل قد تعلقا بمتعلّقيهما، وأوصلا إلى غايتيهما.
_________
(1) «م»: «يبطل».
(2) من قوله: «وهذا الباب» إلى هنا ساقط من «ج» و «ط»، وفي موضعه: «فصل الأصل الخامس»!، ومن هنا وقع الخلط في تعداد أبواب الكتاب الآتية.
(2/115)
________________________________________
ولذلك لا يكون الكلام حكمة حتى يكون موصلًا إلى الغايات المحمودة والمطالب النافعة، فيكون مرشدًا إلى العلم النافع والعمل الصالح، فتحصل الغاية المطلوبة، فإذا كان المتكلم به لم يقصد مصلحة المخاطبين ولا هُداهم، ولا إيصالهم إلى سعادتهم، ودلالتهم على أسبابها وتوابعها، ولا كان ذلك هو الغاية المقصودة المطلوبة، ولا تكلَّم لأجلها، ولا أَرسل الرسلَ وأَنزل الكتبَ لأجلها، ولا نَصب الثوابَ والعقابَ لأجلها= لم يكن حكيمًا، ولا كلامه حكمة، فضلًا عن أن تكون بالغة.
النوع الثاني: إخباره أنه فعل كذا لكذا، وأنه أمر بكذا لكذا، كقوله: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 97]، وقوله: {(11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12]، وقال: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المائدة: 97]، وقوله: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وقوله: {أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا} [النساء: 105]، وقوله: {أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ} [الحديد: 29]، وقوله: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143]، وقوله: {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} [الجن: 27 - 28] أي: ليتمكنوا بهذا الحفظ والرصد من تبليغ
(2/116)
________________________________________
رسالاته، فيعلم الله بذلك واقعًا، وقوله: {وَيُنزِلُ عَلَيْكُمْ (1)
مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} [الأنفال: 11]، وقوله: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} [الأنفال: 8]، وقوله: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} [آل عمران: 126]، وقوله: {لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102]، وقوله: {(30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المدثر: 31]، وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]، وقوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وقوله: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [إبراهيم: 52]، وقوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسْلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} [الحديد: 25]، وقوله: {(74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ} [الأنعام: 75]، وقوله: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8]، وهذا في القرآن كثير جدًّا.
فإن قيل: اللام في هذا كله لام العاقبة، كقوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8]، وقوله: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ
_________
(1) {عَلَيْكُمْ} ساقطة من الأصول ..
(2/117)
________________________________________
بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 53]، وقوله: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الحج: 53]، وقوله: {مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42]، وقوله: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 113]، فإنّ ما بعد اللام في هذا ليس (1) هو الغاية المطلوبة، ولكن لما كان الفعل منتهيًا إليه، وكان عاقبة الفعل؛ دخلت عليه لامُ التعليل، وهي في الحقيقة لام العاقبة.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن لام العاقبة إنما تكون في حق من هو جاهل بالعاقبة، أو عاجز عن دفعها، فالأول كقوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8]، والثاني كقول الشاعر:
لِدُوا للموت، وابنُوا للخرابِ ... فكلكمُ يصير إلى ذهابِ (2)
وأما مَن هو بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، فيستحيل في حقه دخول هذه اللام، وإنما اللام الواردة في أفعاله وأحكامه لام الحكمة والغاية المطلوبة.
الجواب الثاني: إفراد كل موضع من تلك المواضع بالجواب.
_________
(1) «ليس» ساقط من «د».
(2) البيت في «ديوان أبي العتاهية» (33) تحقيق شكري، وهو أيضًا في «ديوان أبي نواس» (1/ 410) تحقيق فاغنر، وصدره عجز بيت منسوب لعلي بن أبي طالب كما في «الديوان» (46) المنسوب إليه، و «خزانة الأدب» (9/ 530).
(2/118)
________________________________________
أما قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} فهو تعليل لقضاء الله سبحانه بالتقاطه، وتقديره له؛ فإن التقاطهم له إنما كان بقضائه وقدره، فهو سبحانه قدّر ذلك وقضى به؛ ليكون لهم عدوًّا وحزنًا، وذكَرَ فعلهم دون قضائه؛ لأنه أبلغ في كونه حَزَنًا لهم وحسرة عليهم؛ فإن من اختار أخْذ ما يكون هلاكه على يديه إذا أصيب به كان أعظم لحزنه وغمّه وحسرته من أن لا يكون له فيه صنع ولا اختيار، فإنه سبحانه أراد أن يظهر لفرعون وقومه ولغيرهم من خلقه كمال قدرته وعلمه وحكمته الباهرة، وأن هذا الذي يذبح فرعونُ الأبناءَ في طلبه؛ هو الذي يتولّى تربيته في حِجْره وبيته باختياره وإرادته، ويكون في قبضته وتحت تصرّفه، فذِكْر فِعْلهم به في هذا أبلغ وأعجب من أن يذكر القضاء والقدر، وقد أعلمنا الله سبحانه أن أفعال عباده كلها واقعة بقضائه وقدره.
وأما قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 53]، فلا ريب أن هذا تعليل لفعله المذكور، وهو امتحان بعض خلقه ببعض، كما امتحن السادات والأشراف بالعبيد والضعفاء والموالي، فإذا نظر الشريف والسيد إلى العبد والضعيف والمسكين قد أسلم أَنِفَ وحمي أن يسلم معه أو بعده، ويقول: أهذا يسبقني إلى الخير والفلاح وأتخلّف أنا؟! فلو كان ذلك خيرًا وسعادة ما سبقنا هؤلاء إليه. فهذا القول منهم هو بعض الحِكَم والغاية المطلوبة بهذا الامتحان؛ فإن هذا القول دالٌّ على إباء واستكبار، وترْكِ الانقياد للحق بعد المعرفة التامة به.
وهذا وإن كان علّة فهو مطلوب لغيره، والعلل الغائية تارة تُطلب لنفسها، وتارة تُطلب لغيرها، فتكون وسيلة إلى مطلوب لنفسه، وقول هؤلاء
(2/119)
________________________________________
ما قالوه (1) وما يترتب على هذا القول موجبٌ لآثارٍ مطلوبةٍ للفاعل من إظهار عدله وحكمته وعزّه وقهره وسلطانه، وعطائه مَن يستحق عطاءه ويحسن وضعه عنده، ومنعه من يستحق المنع ولا يليق به غيره، ولهذا قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53] الذين يعرفون قدر النعمة، ويشكرون المنعم عليهم بها، فيَمُنّ عليهم مِن بين مَن لا يعرفها ولا يشكر ربه عليها، فكانت فتنة بعضهم ببعض سببًا لحصول هذا التمييز الذي ترتب عليه شكْر هؤلاء وكفْر هؤلاء.
فصل
وأما قوله: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 53]، فهي على بابها، وهي لام الحكمة والتعليل، أخبر الله سبحانه أنه جعل ما ألقاه الشيطان في أُمْنِيّة الرسول محنة واختبارًا لعباده، فافتتن به فريقان: وهم الذين في قلوبهم مرض، والقاسية قلوبهم، وعلم المؤمنون أن القرآن والرسول حق، وأن إلقاء الشيطان باطل، فآمنوا بذلك فأخبتت له قلوبهم، فهذه غاية مطلوبة مقصودة بهذا القضاء والقدر.
فالله سبحانه جعل القلوب على ثلاثة أقسام: مريضة وقاسية ومُخْبِتة، وذلك لأنها إما أن تكون يابسة جامدة لا تلين للحق اعترافًا وإذعانًا، أو لا تكون كذلك.
فالأول: حال القلوب القاسية الحجرية (2)، التي لا تقبل ما يُكتَب
_________
(1) «ما» هنا موصولة، ووقع في «ج»: «ما قالوا».
(2) «م»: «المحجوبة».
(2/120)
________________________________________
فيها (1)، ولا ينطبع فيها الحق، ولا ترتسم فيها العلوم النافعة، ولا تلين لإعطاء الأعمال الصالحة.
وأما النوع الثاني: فلا يخلو إما أن يكون الحق ثابتًا فيه ولا يزول عنه؛ لقوته مع لينه، أو يكون لينه مع ضعف وانحلال، والثاني هو القلب المريض، والأول هو الصحيح المُخْبِت، وهو الذي جمع الصلابة والصفاء واللين، فيبصر الحق بصفائه، ويشتد فيه بصلابته، ويرحم الخلق بلينه، كما في أثر مروي: «القلوب آنية الله في أرضه، فأحبها إليه أصلبها وأرقها وأصفاها» (2)، كما قال تعالى في أصحاب هذه القلوب: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]، فهذا وصف منه للمؤمنين الذين عرفوا الإيمان بصفاء قلوبهم، واشتدوا على الكفار بصلابتها، وتراحموا فيما بينهم بلينها.
وذلك أن القلب عضو من أعضاء البدن، وهو أشرف أعضائه، وملكها المطاع، وكل عضو كاليد مثلًا إما أن تكون جامدة يابسة، لا تلتوي ولا تبطش، أو تبطش بعنف، فذلك مثل القلب القاسي، أو تكون مريضة ضعيفة عاجزة؛ لضعفها ومرضها، فذلك مثل الذي فيه مرض، أو تكون باطشة بقوة ولين، فذلك مثل القلب العليم الرحيم، فبالعلم خرج عن المرض الذي (3) ينشأ من الشهوة والشبهة، وبالرحمة خرج عن القسوة، ولهذا وصف سبحانه من عدا أصحاب القلوب المريضة والقاسية بالعلم والإيمان والإخبات.
_________
(1) قراءة محتملة من «د» «ج»، وفي «م»: «ما يَلْبث فيها» مجوّدة.
(2) تقدم تخريجه في (1/ 347).
(3) «الذي» من «ج».
(2/121)
________________________________________
فتأمل ظهور حكمته سبحانه في أصحاب هذه القلوب، وهم كل الأمة، فأخبر أن الذين أوتوا العلم علموا أنه الحق من ربهم، كما أخبر أنهم في المتشابه يقولون (1): {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]، وكلا الموضعين موضع شبهة، فكان حظهم منه الإيمان، وحظ أرباب القلوب (2) المنحرفة عن الصحة الافتتان.
ولهذا جعل سبحانه إحكام آياته في مقابلة ما يلقي الشيطان بإزاء الآيات المحكمات في مقابلة المتشابهات، فالإحكام ههنا بمنزلة إنزال المحكمات هناك، ونسخ ما يلقي الشيطان ههنا في مقابلة رد المتشابه إلى المحكم هناك، والنسخ ههنا رفع ما ألقاه الشيطان، لا رفع ما شرعه الربّ سبحانه.
وللنسخ معنى آخر، وهو النسخ من أفهام المخاطبين ما فهموه مما لم يُرِدْه، ولا دلّ اللفظ عليه، وإن أوهمه، كما أطلق الصحابة - رضي الله عنهم - النسخ على قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِر لِّمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّب مَّن يَشَاءُ} (3) [البقرة: 284]، قالوا: نسخها قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} الآية [البقرة: 286]، فهذا نسخ من الفهم لا نسخ للحكم الثابت؛ فإن المحاسبة لا تستلزم العقاب في الآخرة ولا في الدنيا أيضًا، ولهذا عمهم بالمحاسبة، ثم أخبر أنه بعدها يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، ففَهْم المؤاخذة التي هي المعاقبة (4) من الآية تحميل لها
_________
(1) «د»: «أنهم يقولون في المتشابه».
(2) «د»: «العلوم».
(3) {وَيُعَذِّب مَّن يَشَاءُ} من «م».
(4) «د» «م»: «العاقبة»، والصواب من «ج».
(2/122)
________________________________________
فوق وسعها. فرَفَع هذا المعنى مِن فهم مَن فهمه بقوله: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} إلى آخرها.
فهذا رفْعٌ لفهمِ غير المراد من إلقاء المَلَك، وذاك رفعٌ لما ألقاه غير المَلَك في أسماعهم، أو في التمني.
وللنسخ معنى ثالث عند الصحابة والتابعين، وهو ترك الظاهر إما بتخصيص عام، وإما بتقييد مطلق، وهذا كثير في كلامهم جدًّا.
وله معنى رابع، وهو الذي يعرفه المتأخرون، وعليه اصطلحوا، وهو رفع الحكم بجملته بعد ثبوته بدليل رافع له، فهذه أربعة معان للنسخ.
والإحكام له ثلاثة معانٍ (1):
أحدها: الإحكام الذي في مقابلة المتشابه، كقوله تعالى: {ا مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: (7)].
الثاني: الإحكام في مقابلة نسخ ما يلقي الشيطان، كقوله: {ا فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} [الحج: 52]، وهذا الإحكام يعمُّ جميع آياته، وهو إثباتها وتقريرها وبيانها، ومنه قوله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1].
الثالث: إحكام في مقابلة الآيات المنسوخة، كما يقوله السلف كثيرًا: هذه الآية محكمة غير منسوخة.
_________
(1) «د» «م»: «ثلاث معان»، والمثبت من «ج».
(2/123)
________________________________________
وذلك لأن الإحكام تارة يكون في التنزيل، فيكون في مقابلة ما يلقيه الشيطان في أُمنِية المبلِّغ، أو في سمع المبلَّغ، فالمُحْكَم ههنا هو المنزّل من عند الله، أحكمه الله: أي فصّله من اشتباهه بغير المنزّل، وفصّل منه ما ليس منه بإبطاله، وتارة يكون في إبقاء المنزّل واستمراره، فلا يُنسخ بعد ثبوته، وتارة يكون في معنى المنزّل وتأويله، وهو تمييز المعنى المقصود من غيره حتى لا يشتبه به.
والمقصود أن قوله تعالى: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الحج: 53]، هي لام التعليل على بابها، وهذا الاختبار والامتحان مُظْهِر لمختلف القلوب الثلاثة، فالقاسية والمريضة ظهر خِبْؤها من الشك والكفر، والمُخْبِتة ظهر خِبْؤها من الإيمان والهدى وزيادة محبته، وزيادة بغض الكفر والشرك والنفرة عنه، وهذا من أعظم حِكَم هذا الإلقاء.
فصل
وأما اللام في قوله: {مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42]، فلام التعليل على بابها، فإنها مذكورة في بيان حكمته في جمع أوليائه وأعدائه على غير ميعاد، ونصرة أوليائه مع قلتهم ورقّتهم وضعف عَددهم وعُدَدهم على أصحاب الشوكة والعَدد والحدّ والحديد، الذين لا يَتوهّم بشرٌ أنهم يُنصرون عليهم، فكانت تلك آية من أعظم آيات الربّ تعالى، صَدّق بها رسولَه وكتابَه، ليهلك بعدها من اختار لنفسه الكفر والعناد عن بَيّنة، فلا يكون له على الله حجة، ويحيى من حَيّ بالإيمان بالله ورسوله عن بَيّنة، فلا يبقى عنده شك ولا ريب، وهذا من أعظم الحِكَم.
(2/124)
________________________________________
ونظير هذا قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس: 69 - 70].
فصل
وأما اللام في قوله تعالى: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} الآية [الأنعام: 113]، فهي على بابها للتعليل، فإنها إن كانت تعليلًا لفعل العدو ـ وهو إيحاء بعضهم إلى بعض ـ فظاهر، وعلى هذا فيكون عطفًا على قوله: {غُرُورًا}، فإنه مفعول لأجله، أي: ليغروهم بهذا الوحي، ولتصغى إليه أفئدة مَن يُلقى إليه فيرضاه ويعمل بموجبه، فيكون سبحانه قد أخبر بمقصودهم من الإيحاء المذكور، وهو أربعة أمور: غرور من يوحون إليه، وإصغاء أفئدتهم إليهم، ومحبتهم لذلك، وانفعالهم عنه بالاقتراف (1).
وإن كان ذلك تعليلًا لجَعْله سبحانه لكل نبي عدوًّا فتكون هذه الحِكَم (2) من جملة الغايات والحِكَم المطلوبة له بهذا الجَعْل، وهي غايات وحِكَم مقصودة لغيرها؛ لأنها مفضية إلى أمور هي محبوبة مطلوبة للربّ تعالى، وفواتها يستلزم فوات ما هو أحب إليه من حصولها.
وعلى التقديرين فاللام لام التعليل والحكمة.
فصل
النوع الثالث: الإتيان بـ «كي» الصريحة في التعليل، كقوله تعالى: {مَا أَفَاءَ
_________
(1) «ج»: «عنده بالاقتراف».
(2) «م»: «فيكون هذا الحُكم».
(2/125)
________________________________________
اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7]، فعلّل سبحانه قسمة الفيء بين هذه الأصناف كي لا يتداوله الأغنياء دون الفقراء، والأقوياء دون الضعفاء.
وقوله سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا أَتَاكُمْ} [الحديد: 22 - 23]، فأخبر سبحانه أنه قدّر ما يصيبهم من البلاء في أنفسهم قبل أن يبرأ الأنفس أو المصيبة أو الأرض أو المجموع، وهو الأحسن، ثم أخبر أنّ مصدر ذلك قدرتُه عليه، وأنه يسيرٌ عليه، وحكمتُه (1) البالغة التي منها أن لا يَحزن عباده على ما فاتهم، ولا يفرحوا بما آتاهم، فإنهم إذا علموا أن المصيبة فيه مقدّرة كائنة (2) ولا بدّ، وقد كُتِبت قبل خلقهم؛ هان عليهم الفائت فلم يأسوا عليه، ولم يفرحوا بالحاصل؛ لعلمهم أن المصيبة مقدّرة في كل ما على الأرض، فكيف يُفرَح بشيء قد قُدِّرت المصيبةُ فيه قبل خلقه.
ولما كانت المصيبة تتضمن فوات محبوب، أو خوف فواته، أو حصول مكروه، أو خوفه= نبَّه بالأسى على الفائت على مفارقة المحبوب بعد حصوله، وعلى فواته حيث لم يحصل، ونبَّه بعدم الفرح به إذا وُجِد على توطين النفس لمفارقته قبل وقوعها، وعلى الصبر على مرارتها بعد الوقوع،
_________
(1) «د»: «وأنه ميسر [محتملة] عليه حكمته»، وفي «م»: «هيّن» بدل «يسير»، والمثبت من «ج».
(2) «د»: «بقدره كائنة».
(2/126)
________________________________________
وهذه هي أنواع المصائب، فإذا تيقن العبد أنها مكتوبة مقدّرة، وأن ما أصابه منها لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه؛ هانت عليه، وخفّ حملها، وأنزلها منزلة الحر والبرد.
فصل
النوع الرابع: ذِكْر المفعول له، وهو علة للفعل المعلَّل به، كقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ (1) الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً} [النحل: 89]، ونَصْبُ ذلك على المفعول له أحسن من غيره، كما صرح به في قوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وفي قوله: {وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ} [البقرة: 150]، فإتمام النعمة هو الرحمة.
وقوله: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الشعراء: 208 - 209]، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر: 17]، أي لأجل الذكر، كما قال: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الدخان: 58]، وقوله: {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} [المرسلات: 5 - 6] أي للإعذار والإنذار. وقوله: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 154].
فهذا كله مفعول لأجله.
وقوله: {إِنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} [عبس: 25] إلى قوله: {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 32]، والمتاع واقع موقع التَّمْتِيع، كما يقع السلام موقع التسليم،
_________
(1) «د» «م»: «وأنزلنا إليك».
(2/127)
________________________________________
والعطاء موقع (1) الإعطاء.
وأما قوله تعالى: {يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الروم: 24]، فيحتمل أن يكون من ذلك، أي: إخافةً لكم وإطماعًا، وهو أحسن.
ويحتمل أن يكون معمولَ فعلٍ محذوف (2)، أي: فيرونهما (3) خوفًا وطمعًا، فيكونان حالًا.
وقوله تعالى: {أَفَلَمْ (4) يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} [ق: 6] إلى قوله: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق: 8] أي لأجل التبصرة والذكرى، والفرق بينهما: أن التبصرة توجب العلم والمعرفة، والذكرى توجب الإنابة والانقياد، وبهما تتم الهداية.
فصل
النوع الخامس: الإتيان بأنْ والفعلِ المستقبل بعدها تعليلًا لما قبله، كقوله: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156]، وقوله: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا} [الزمر: 56]، وقوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذْكِرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] ونظائره.
وفي ذلك طريقان (5):
_________
(1) «د»: «موضع».
(2) «م»: «مفعول فعل محذوف».
(3) كذا في الأصول، والأشبه بالسياق: «فيرونه» أي البرق.
(4) في جميع الأصول: «أولم».
(5) انظر: «البحر المحيط» (4/ 695 - 696).
(2/128)
________________________________________
أحدهما للكوفيين: والمعنى: لئلا تقولوا، ولئلا تقول نفس.
والثاني للبصريين: أن المفعول له محذوف، أي: كراهةَ أن تقولوا، أو حِذارَ أن تقولوا.
فإن قيل: فكيف يستقيم الطريقان في قوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى}، فإنك إن قدَّرتَ: «لئلا تضل إحداهما» لم يستقم العطف «فتذكر إحداهما» عليه، وإن قدَّرتَ: «حِذارَ أن تضل إحداهما» لم يستقم العطف (1) أيضًا، وإن قدَّرتَ: «إرادةَ أن تضل» لم تصح أيضًا؟
قيل: هذا من الكلام الذي ظهور معناه مزيل للإشكال، فإن المقصود إذكار (2) إحداهما للأخرى إذا ضلت ونسيت، فلما كان الضلال سببًا للإذكار جُعِل موضع العلة، كما تقول: أعددتُ هذه الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه بها، فإنما أعددتَها للدعم لا للميل، وأعددتُ هذا الدواء أن أمرض فأتداوى به، ونحوه.
هذا قول سيبويه والبصريين.
وقال أهل الكوفة: تقديره: كي تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت، فلما تقدم الجزاء اتصل بما قبله ففتحت «أن».
قال الفراء: «ومثله قولك: إنه ليعجبني أن يَسأل السائلُ فيُعطى، معناه: ليعجبني أن يُعطى السائلُ إن سأل؛ لأنه إنما يعجبه الإعطاءُ لا السؤال» (3).
_________
(1) من قوله: «فتذكر إحداهما» إلى هنا ساقط من «د».
(2) فوقها في «د»: «تذكير».
(3) «معاني القرآن» (1/ 184) بتصرف.
(2/129)
________________________________________
ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا يَقُولُوا تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) يَقُولُوا تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} [الأعراف: 172 - 173]، فذكَر سبحانه من حِكَم أخذ الميثاق عليهم أن لا يحتجوا يوم القيامة بغفلتهم عن هذا الأمر، ولا بتقليد الأسلاف.
ومنه قوله تعالى: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} [الأنعام: 70]، فالضمير في «به» للقرآن و «أن تُبْسَل» في محلّ نصب على أنه مفعول له، أي: حِذارَ أن تسلم نفس إلى الهلكة والعذاب، وترتهن بسوء عملها.
فصل
النوع السادس: ذِكْر ما هو من صرائح التعليل، وهو: «من أجل»، كقوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32].
وقد ظنت طائفة أن قوله: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ} تعليل لقوله: {فَأَصْبَحَ مِنَ} [المائدة: 31]، أي: من أجل قتله لأخيه، وهذا ليس بشيء؛ لأنه يشوّش صحةَ النظم، وتقلُّ الفائدةُ بذكره، ويذهبُ شأنُ التعليل بذلك للكتابة (1) المذكورة، وتعظيم شأن القتل، حين (2) جُعل علة لهذه الكتابة،
_________
(1) «د» «م»: «الكتابة»، والمثبت من «ج» أقرب للمعنى.
(2) «د» «م»: «حتى»، والمثبت من «ج»، والفقرة قلقة، وفي «البسيط» (7/ 347) عن ابن الأنباري: «مَنْ جعله مِنْ صلة الندم أسقط العلة للكتابة، ومَنْ جعله مِنْ صلة الكتابة لا يسقط معنى الندم؛ إذ قد تقدم ما كشف سببه، فكان هذا أولى»، وهو بنحوه في «الإيضاح» لابن الأنباري (2/ 617 - 618).
(2/130)
________________________________________
فتأمله.
فإن قلت: كيف يكون قتلُ أحد ابني آدم للآخر علةً لحكمه على أمة أخرى بذلك الحكم؟ وإذا كان علة فكيف كان قاتل نفس واحدة بمنزلة قاتل الناس كلهم؟
قلت: الربّ تعالى يجعل أقضيته وأقداره عللًا وأسبابًا لشرعه وأمره، فجَعَل حكمه الكوني القدري علةً لحكمه الديني الأمري، وذلك أن القتل عنده لما كان من أعلى أنواع الظلم والفساد فَخّم أمره وعَظّم شأنه، وجعل إثمه أعظم من إثم غيره، ونَزّل قاتلَ النفس الواحدة منزلةَ قاتل الأنفس كلها (1).
ولا يلزم من التشبيه أن يكون المشبَّه بمنزلة المشبَّه به من كل الوجوه، فإذا كان قاتل الأنفس كلّها يصلى النار، وقاتل النفس الواحدة يصلاها؛ صَحّ تشبيهه به. كما يأثم من شرب قطرة واحدة من الخمر، ومَن شرب عدة قناطير، وإن اختلف مقدار الإثم. وكذلك من زنى مرة واحدة، وآخر زنا مرارًا كثيرة كلاهما آثم وإن اختلف قدر الإثم.
وهذا معنى قول مجاهد: «من قتل نفسًا محرّمة يصلى النار بقتلها كما يصلاها من قتل الناس جميعًا» (2).
وعلى هذا فالتشبيه في أصل العذاب لا في وصفه، وإن شئت قلت:
_________
(1) هذه الفقرة وسابقتها اقتبسها الزركشي في «البرهان» (3/ 98 - 99).
(2) أسنده بنحوه في «جامع البيان» (8/ 352).
(2/131)
________________________________________
التشبيه في أصل العقوبة الدنيوية وقدرها، فإنها لا تختلف بقلة القتل وكثرته، كما لو شرب قطرة، فإنّ حَدّه حَدّ من شرب راوية، ومن زنى بامرأة واحدة حَدّه حَدّ من زنى بألف، وهذا تأويل الحسن وابن زيد، قالا: «يجب عليه من القصاص بقتلها مثل الذي يجب عليه لو قتل الناس جميعًا» (1).
ولك أن تجعل التشبيه في الأذى والغم الواصل إلى المؤمنين بقتل الواحد منهم، فقد جعلهم كلهم خصماءه، وأوصل إليهم من الأذى والغم ما يشبه القتل (2)، وهذا تأويل ابن الأنباري، وفي الآية تأويلات أخر (3).
فصل
النوع السابع: التعليل بلعل، وهي في كلام الله سبحانه للتعليل مجردة من معنى الترجّي، فإنها إنما يقارنها معنى الترجّي إذا كانت من المخلوق، وأما في حق من لا يصح عليه الترجّي فهي للتعليل المحض، كقوله: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]، فقيل هو تعليل لقوله: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} وقيل تعليل لقوله: {خَلَقَكُمْ}، والصواب أنه تعليل للأمرين: لشرعه وخلقه.
ومنه قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2]، وقوله: {تَذَكَّرُونَ تَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 57]،
_________
(1) انظر: «البسيط» (7/ 348 - 349).
(2) من قوله: «فقد جعلهم» إلى هنا ساقط من «م».
(3) انظر: «معاني القرآن» للزجاج (2/ 169)، «البسيط» (7/ 349).
(2/132)
________________________________________
{لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]، فـ «لعل» في هذا كله قد أُخلِصت للتعليل، والرجاء الذي جاء فيها متعلّق بالمخاطبين.
فصل
النوع الثامن: ذِكْر الحُكم الكوني أو الشرعي عقيب الوصف المناسب له، فتارة يُذكر بـ «إنّ»، وتارة يُقرن بالفاء، وتارة يُذكر مجرّدًا.
فالأول كقوله: {وَزَكَرِيَّاءَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 89 - 90]، وقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات: 15 - 16]، وقوله: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا اَلْمُخْلِصِينَ} [يوسف: 24]، وقوله: {تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ} [الأعراف: 170].
والثاني كقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4].
والثالث كقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الذاريات: 15]، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [البقرة: 277]، وهذا في التنزيل يزيد على عدة آلاف موضع، بل القرآن مملوء منه.
(2/133)
________________________________________
فإن قيل: هذا إنما يفيد كون تلك الأفعال أسبابًا لما رُتِّب عليها، لا تقتضي إثبات التعليل في فعل الرب وأمره، فأين هذا من هذا؟
قيل: لمّا جعل الرب سبحانه هذه الأوصاف عللًا لهذه الأحكام، وأسبابًا لها؛ دل ذلك على أنه حَكَم بها شرعًا وقدرًا لأجل تلك الأوصاف، وأنه لم يحكم بها لغير علة ولا حكمة.
ولهذا كان كل مَن نفى التعليل والحِكَم نفى الأسباب، ولم يجعل لحُكْم الرب الكوني والديني سببًا ولا حكمة هي العلّة الغائية (1)، فهؤلاء ينفون الأسباب والحِكَم.
ومن تأمل شرعَ الربّ تعالى وقدرَه وجزاءه جزَمَ جزمًا ضروريًا ببطلان قول النفاة، والله تعالى قد رتّبَ الأحكام على أسبابها وعللها، وبيّن ذلك خبرًا وحسًّا وفطرة وعقلًا، ولو ذكرنا ذلك على التفصيل لقام منه عدّة أسفار.
فصل
النوع التاسع: تعليله سبحانه عدم الحُكْم القدري أو الشرعي بوجود المانع منه، كقوله: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سَقْفًا مِنْ فِضَّةٍ} الآية [الزخرف: 33]، {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى: 27]، وقوله: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} [الإسراء: 59]، أي: آيات الاقتراح، لا الآيات الدالة على صدق الرسل التي يقيمها هو
_________
(1) «د»: «الحكمة الغائية»، وطمست في «م»، والصواب من «ج».
(2/134)
________________________________________
سبحانه ابتداء، وقوله: {(43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ آاعْجَمِيٌّ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت: 44]، وقوله: {مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 8 - 9]، فأخبر سبحانه عن المانع الذي منع من إنزال المَلَك عيانًا بحيث يشاهدونه، وأن حكمته وعنايته بخلقه منعت من ذلك؛ فإنه لو أنزل المَلَك ثم عاينوه ولم يؤمنوا لعُوجِلوا بالعقوبة ولم يُنظَروا.
وأيضًا فإنه جعل الرسول بشرًا ليمْكنهم التلقّي عنه والرجوع إليه، ولو جعله مَلَكًا فإما أن يدعه على هيئة الملائكة، أو يجعله على هيئة البشر. والأول يمنعهم من التلقّي عنه، والثاني لا يُحصِّل مقصودَهم؛ إذ كانوا يقولون: هو بشر، لا مَلَك!
وقال تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذ جَّاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} [الإسراء: 94 - 95]، فأخبر سبحانه عن المانع من إنزال الملائكة، وهو أنه لم يجعل الأرض مسكنًا لهم، ولا يستقرون فيها مطمئنين، بل يكون نزولهم لتنفيذ أوامر الربّ، ثم يعرجون إليه.
ومن هذا قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} [الإسراء: 59]، فأخبر سبحانه عن حكمته في الامتناع من إرسال رسله بآيات الاقتراح والتشهّي، وهي أنها لا توجب الإيمان، فقد سألها الأولون فلمّا أوتوها كذبوا بها فأهلكوا، فليس لهم مصلحة في الإرسال بها، بل حكمته تعالى تأبى ذلك كل الإباء.
(2/135)
________________________________________
ثم نبّهَ على ما أصاب ثمود من ذلك بأنهم اقترحوا الناقة، فلمّا أُعطوا ما سألوا ظلموا ولم يؤمنوا، فكان في إجابتهم إلى ما سألوا هلاكُهُم واستئصالُهُم.
ثم قال: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59]، أي: لأجل التخويف، فهو منصوب نصب المفعول لأجله.
قال قتادة: «إنّ الله يخوّف الناس بما شاء من آياته لعلهم يُعْتِبون أو يذّكرون أو يرجعون» (1).
وهذا يعم آياته التي تكون مع الرسل، والتي تقع بعدهم في كل زمان، فإنه سبحانه لا يزال يُحْدِث لعباده من الآيات ما يخوّفهم بها، ويذكّرهم بها.
ومن ذلك قوله: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 37]، أي لا يعلمون حكمته تعالى ومصلحة عباده في الامتناع من إنزال الآيات التي يقترحها الناس على الأنبياء، وليس المراد أنّ أكثر الناس لا يعلمون أنّ الله قادر؛ فإنه لم ينازع في قدرة الله في الجملة أحد من المقرّين بوجوده سبحانه، ولكن حكمته في ذلك لا يعلمها أكثر الناس.
فصل
النوع العاشر: إخباره عن الحِكَم والغايات التي جعلها في خلقه وأمره، كقوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ
_________
(1) أخرجه الطبري (14/ 638).
(2/136)
________________________________________
مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة: 22]، وقوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 6 - 11]، إلى قوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} [النبأ: 14 - 16]، وقوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} [المرسلات: 25 - 27]، وقوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعَنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} [النحل: 80 - 81]، وقوله: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)} إلى قوله: {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 24 - 32]، وقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم: 21]، وقوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ
الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [إبراهيم: 32 - 33]، وقوله: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ (1) الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الجاثية: 12].
إلى أضعاف أضعاف ذلك في القرآن، مما يفيد من له أدنى تأمل القطعَ بأنه سبحانه فعَل ذلك للحِكَم والمصالح التي ذكرها، وغيرها مما لم يذكره.
وقوله: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ
_________
(1) {لَكُمُ} ساقطة من الأصول.
(2/137)
________________________________________
(68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 68 - 69]، وقوله: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [المؤمنون: 21]، وقوله: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 5 - 8]، فهل يستقيم ذلك ويصح ممن لا يفعل لحكمة ولا لمصلحة ولا لغاية هي مقصودة بالفعل؟!
ومعلوم بالضرورة أن هذا الإثبات وهذا النفي متقابلان أعظم التقابل.
فصل
النوع الحادي عشر: إنكاره سبحانه على من زعم أنه لم يخلق الخلق لغاية ولا لحكمة، كقوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} [المؤمنون: 115]، وقوله: {أَيَحْسِبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36]، وقوله: {ا (37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا} [الدخان: 38 - 39]، وقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ} [الحجر: 85].
والحق هو الحِكَم والغايات المحمودة التي لأجلها خَلَق ذلك كله، وهو أنواع كثيرة:
منها: أن يُعرف اللهُ تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله وآياته.
(2/138)
________________________________________
ومنها: أنه يحب أن يُعبد ويُشكر ويُذكر ويُطاع.
ومنها: أن يأمر وينهى، ويشرع الشرائع.
ومنها: أن يدبّر الأمر، ويبرم القضاء، ويتصرف في المملكة بأنواع التصرف.
ومنها: أن يثيب ويعاقب، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، فيوجَدُ أثرُ عدله وفضله موجودًا مشهودًا، فيُحمد على ذلك ويُشكر.
ومنها: أن يَعْلم خلقُه أنه لا إله غيره ولا ربّ سواه.
ومنها: أن يُصدِّقَ الصادقَ ويكرمه، ويكذِّبَ الكاذبَ ويهينه.
ومنها: ظهور آثار أسمائه وصفاته على تنوعها وكثرتها في الوجود الذهني والخارجي، فيعلم عباده ذلك علمًا مطابقًا لما في الواقع.
ومنها: شهادة مخلوقاته كلها بأنه وحده ربها وفاطرها ومليكها، وأنه وحده إلهها ومعبودها.
ومنها: ظهور أثر كماله المقدس، فإنّ الخلق والصنع لازم كماله، فإنه حيّ عليم قدير (1)، ومن كان كذلك لم يكن إلا فاعلًا مختارًا.
ومنها: أن يَظهر أثرُ حكمته في المخلوقات، بوضع كلٍّ منها في موضعه الذي يليق به، ومجيئه على الوجه الذي تشهد العقول والفطر بحسنه، فتشهدَ حكمتَه الباهرة.
ومنها: أنه سبحانه يحب أن يجود وينعم، ويعفو ويغفر ويسامح، فلا بدّ
_________
(1) «م»: «قادر».
(2/139)
________________________________________
من لوازم ذلك خلقًا وشرعًا.
ومنها: أنه يحب أن يُثنَى عليه ويُمدَح ويُمجَّد ويُسبَّح ويُعظَّم.
ومنها: كثرة شواهد ربوبيته ووحدانيته وإلهيته.
إلى غير ذلك من الحِكَم التي تضمّنها الخَلْق.
فخَلْق مخلوقاته بسبب الحق، ولأجل الحق، وخَلْقُها ملتبِسٌ بالحق، وهو في نفسه حق، فمصدره حق، وغايته حق، وهو متضمّن للحق.
وقد أثنى تعالى على عباده المؤمنين حيث نَزّهوه عن إيجاد الخلق لا لشيء ولا لغاية، فقال تعالى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ} [آل عمران: 191].
وأخبر أن هذا ظَنُّ أعدائه به، لا ظنُّ أوليائه، فقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [ص: 27] (1).
فكيف يتوهم أنه عرفه من يقول: إنه لم يخلق لحكمة مطلوبة له، ولا أَمَر لحكمة، ولا نهى لحكمة، وإنما يصدر الخلق والأمر عن مشيئة وقدرة محضة، لا لحكمة ولا غاية مقصودة؟! (2)، وهل هذا إلا إنكار لحقيقة حمده؟!
بل الخلق والأمر إنما قام بالحِكَم والغايات، فهما مظهران لحمده وحكمته، فإنكار الحكمة إنكار لحقيقة خلقه وأمره، فإنّ الذي أثبته المنكرون من ذلك يُنزَّه عنه الربُّ ويتعالى عن نسبته إليه، فإنهم أثبتوا خلقًا
_________
(1) من قوله: «فقال» إلى هنا ساقط من «د».
(2) من قوله: «وإنما يصدر» إلى هنا ساقط من «م».
(2/140)
________________________________________
وأمرًا لا رحمة فيه ولا مصلحة ولا حكمة، بل يجوز عندهم ــ أو يقع ــ أن يأمر بما لا مصلحة للمكلف فيه البتَّة، وينهى عما فيه مصلحته، والجميع بالنسبة إليه سواء.
ويجوز عندهم أن يأمر بكل ما نهى عنه، وينهى عن جميع ما أمر به، ولا فرق بين هذا وهذا إلا بمجرد الأمر والنهي.
ويجوز عندهم أن يعذب مَن لم يعصه طرفة عين، بل أفنى عمره في طاعته وشكره وذكره، ويُنعِّم مَن لم يطعه طرفة عين، بل أفنى عمره في الكفر به والشرك والظلم والفجور، ولا سبيل إلى أن يُعرف خلاف ذلك منه إلا بخبر الرسول، وإلا فهو جائز عليه.
وهذا من أقبح الظن وأسوئه بالربّ تعالى، وتنزيهه عنه كتنزيهه عن الظلم والجور، بل هذا هو عين الظلم الذي يتعالى الله عنه.
والعجب العجاب أنّ كثيرًا من أرباب هذا المذهب يُنزِّهونه عما وصف به نفسه من صفات الكمال، ونعوت الجلال، ويزعمون أن إثباتها تجسيم وتشبيه، ولا يُنزِّهونه عن هذا الظلم والجور، ويزعمون أنه عدل وحق، وأن التوحيد عندهم لا يتم إلا به، كما لا يتم إلا بإنكار استوائه على عرشه، وعلوّه فوق سماواته، وتكلّمه وتكليمه، وصفات كماله، فلا يتم التوحيد عند هذه الطائفة إلا بهذا النفي وذلك الإثبات، والله ولي التوفيق.
فصل
النوع الثاني عشر: إنكاره سبحانه أن يُسوِّيَ بين المختلفَيْن، أو يُفرِّقَ بين المتماثلَيْن، وأن حكمته وعدله تأبى ذلك.
(2/141)
________________________________________
أما الأول: فكقوله: {(34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ} [القلم: 35 - 36]، فأخبر أن هذا حكم باطل جائر يستحيل نسبته إليه، كما يستحيل نسبة الفقر والحاجة والظلم إليه، ومنكرو الحكمة والتعليل يجوِّزون نسبة ذلك إليه، بل يقولون بوقوعه.
وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28]، وقال: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءٌ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21]، فجعل سبحانه ذلك حُكْمًا سيّئًا يتعالى ويتقدس عن أن يجوز عليه، فضلًا أن يُنسب إليه.
بل أبلغ من هذا أنه أنكر على من حسب أن يدخل الجنة بغير امتحان له وتكليف يتبين به صبره وشكره، وأن حكمته (1) تأبى ذلك، كما قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142]، وقال: {ا آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ} [البقرة: 214]، وقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} [التوبة: 16]، فأنكر عليهم هذا الظن والحسبان لمخالفته لحكمته.
وأما الثاني: وهو أنه لا يفرق بين المتماثلَيْن، فكقوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ
_________
(1) «م»: «كلمته».
(2/142)
________________________________________
وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]، وقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]، وقوله: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة: 67]، وقوله: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 195]، وقوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 22]، وقوله: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ} [القمر: 43]، وقوله: {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد: 10]، وقوله: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُّسْلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} [الإسراء: 77]، وقوله: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الفتح: 23]، وقوله: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} [الأحزاب: 38]، فسنته سبحانه عادته المعلومة في أوليائه وأعدائه بإكرام هؤلاء وإعزازهم ونصرهم، وإهانة أولئك وإذلالهم وكبتهم.
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [المجادلة: 5].
والقرآن مملوء من ذلك، يخبر تعالى أنّ حُكم الشيء في حكمته وعدله حُكم نظيره ومماثله، وضد حُكم مضاده ومخالفه.
وكل نوع من هذه الأنواع لو استوعبناه لجاء كتابًا مفردًا.
فصل
النوع الثالث عشر: أمْره سبحانه بتدبر كلامه والتفكر فيه، وفي أوامره ونواهيه وزواجره، ولولا ما تضمنه من الحِكَم والمصالح والغايات المطلوبة
(2/143)
________________________________________
والعواقب الحميدة التي هي محل الفكر لما كان للتفكير فيه معنى، وإنما دعاهم إلى التفكّر والتدبّر ليطلعهم ذلك على حكمته البالغة، وما فيه من المصالح والغايات المحمودة التي توجب لمن عرفها إقراره بأنه تنزيل من حكيم حميد.
فلو كان الحق ما يقوله النفاة، وأنّ مرجع ذلك كلّه ومصدره مجرّدُ القدرة والمشيئة التي يجوز عليها تأييدُ الكاذب بالمعجزة ونصرُه وإعلاؤه، وإهانةُ المحقِّ وإذلالُه وكسرُه= لما كان في التدبر والتفكر ما يدلهم على صدق رسله، ويقيم عليهم حجته، وكان (1) غاية ما دعوا إليه القَدَر المحض، وذلك مشترك بين الصادق والكاذب، والبر والفاجر.
فهؤلاء بإنكارهم الحكمة والتعليل سدّوا على نفوسهم باب الإيمان والهدى، وفتحوا عليهم باب المكابرة وجَحْد الضروريات (2)، فإن ما في خلق الله وأمره من الحِكَم والمصالح المقصودة بالخلق والأمر، والغايات المحمودة (3) = أمر تشهد به الفطر والعقول، ولا ينكره سليم الفطرة، وهم لا ينكرون ذلك وإنما يقولون: وقع بطريق الاتفاق لا بالقصد، كما تسقط خشبة عظيمة فيتفق عبور حيوان مؤذ تحتها فتهلكه.
ولا ريب أن هذا ينفي حمد الربِّ تعالى على حصول هذه المصالح والمنافع والحِكَم؛ لأنها لم تحصل بقصده وإرادته، بل بطريق الاتفاق الذي لا يُحمَد عليه صاحبه، ولا يُثنى عليه به، بل هو عندهم بمثابة ما لو رمى رجل
_________
(1) «د»: «وإن كان».
(2) «م»: «وجحدوا الضروريات».
(3) «م»: «الحميدة».
(2/144)
________________________________________
درهمًا لا لغرض ولا لفائدة، بل لمجرّد قدرته ومشيئته على طرحه، فاتفق أن وقع في يد محتاج انتفع به، فهذا من شأن الحِكَم والمصالح عند المنكرين.
فصل
النوع الرابع عشر: إخباره عن صدور الخلق والأمر عن حكمته وعلمه، فيذكر هذين الاسمين عند ذكر مصدر خلقه وشرعه، تنبيهًا على أنهما إنما صدرا عن حكمة مقصودة مقارِنة للعلم المحيط التام، كقوله: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل: 6]، وقوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر: 1]، فذَكَر العزةَ المتضمنة لكمال القدرة والتصرف، والحكمةَ المتضمنة لكمال الحمد والعلم.
وقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38]، وسمع بعض الأعراب قارئًا يقرؤها: «والله غفور رحيم»، فقال: ليس هذا كلام الله! فقال: أتكذّب بالقرآن؟ فقال: لا، ولكن لا يحسن هذا. فرجع القارئ إلى حفظه، فقال: «عزيز حكيم»، فقال: صدقت (1).
وإذا تأملت ختْم الآيات بالأسماء والصفات وجدتَ كلامه مختتمًا بذكر الصفة التي تقتضي ذلك، حتى كأنها ذُكِرت دليلًا عليه وموجِبة له، وهذا كقوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِر لَّهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]، أي فإنّ مغفرتك لهم تصدر عن عزّة هي كمال القدرة، وحكمة هي
_________
(1) حكاها الواحدي في «البسيط» (7/ 373) عن الأصمعي، وأسندها في «الأغاني» (21/ 386) عن الأصمعي قال: سمع الفرزدق رجلًا يقرأ ... فذكر القصة بنحوها.
(2/145)
________________________________________
كمال العلم، لا عن عجز وجهل.
وقوله: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} في ثلاث (1) مواضع من القرآن [الأنعام: 96، يس: 38، فصلت: 12]، يذكر ذلك عقيب ذكره الأجرام العلوية، وما تضمنته من فَلْق الإصباح، وجَعْل الليل سكنًا، وإجراء الشمس والقمر بحساب لا يعدوانه، وتزيين السماء الدنيا بالنجوم وحراستها بها، فأخبر أن هذا التقدير المحكم المتقن صادر عن عزته وعلمه، ليس أمرًا اتفاقيًا لا يُمدَح به فاعله، ولا يُثنى عليه به كسائر الأمور الاتفاقية.
ومن هذا ختْمه سبحانه قصص الأنبياء وأممهم في سورة الشعراء بقوله عقيب كل قصة: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهْوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء: 9]، فإن ما حَكَم به لرسله وأتباعهم ولأعدائهم صادر عن عزة ورحمة، فوضَعَ الرحمة في محلها، وانتقم من أعدائه بعزّته، ونجَّى رسله وأتباعهم برحمته، والحكمة الحاصلة من ذلك أمر مطلوب مقصود، وهو غاية الفعل، لا أنها أمر اتفاقي.
فصل
النوع الخامس عشر: إخباره بأن حُكْمه أحسن الأحكام، وتقديره أحسن التقادير، ولولا مطابقته للحكمة والمصلحة المقصودة المرادة لما كان كذلك؛ إذ لو كان حُسْنه لكونه مقدورًا معلومًا ـ كما يقوله النفاة ـ لكان هو وضده سواء؛ فإنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، فكان كلّ معلوم مقدور أحسن الأحكام وأحسن التقادير، وهذا ممتنع.
قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]، وقال:
_________
(1) كذا في الأصول، والوجه: «ثلاثة»، وتقدمت نظائره.
(2/146)
________________________________________
{وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهْوَ مُحْسِنٌ} [النساء: 125]، فجعل هذا هو أحسن الأديان، ولهذا اختاره لنفسه وارتضاه لعباده، ويمتنع عليه أن يختار لهم دينًا سواه، أو يرتضي دينًا غيره، كما يمتنع عليه الحيف والظلم.
وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]، وقال: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات: 23]، وقال: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]، فلا أحسن من تقديره وخلقه لوقوعه على الوجه الذي اقتضته حكمته ورحمته وعلمه.
وقال تعالى: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك: 3]، ولولا مجيئه على أكمل الوجوه وأحسنها ومطابقته للغايات المحمودة، والحِكَم المطلوبة؛ لكان كله متفاوتًا، أو كان عدم تفاوته أمرًا اتفاقيًا لا يُحمَد فاعله؛ لأنه لم يُرِده ولم يقصده، وإنما اتفق أن جاء كذلك.
فصل
النوع السادس عشر (1): إخباره سبحانه أنه على صراط مستقيم في موضعين من كتابه:
أحدهما: قوله حاكيًا عن نبيه هود: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56].
والثاني: قوله: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهْوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ
_________
(1) «د»: «السابع عشر»، سهو.
(2/147)
________________________________________
بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 76].
قال أبو إسحاق: «أخبر أنه وإن كانت قدرته تنالهم بما يشاء، فهو لا يشاء إلا العدل» (1).
قال ابن الأنباري: لما قال: {إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} كان في معنى: لا تخرج عن قبضته، فإنه قاهر بعظيم سلطانه كل دابة، فأتبع ذلك قوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي: إنه على الحق.
قال: وهذا نحو كلام العرب إذا وصفوا رجلًا بحسن السيرة والعدل والإنصاف قالوا: فلان على طريقة حسنة، وليس ثَمَّ طريق (2).
وذُكِر في معنى الآية أقوال أُخَر هي من لوازم هذا المعنى وآثاره.
كقول بعضهم: إن ربي يدلّ على صراط مستقيم، فدلالته على الصراط من موجِبات كونه في نفسه على صراط مستقيم، فإن تلك الدلالة والتعريف من تمام رحمته وإحسانه وعدله وحكمته.
وقال بعضهم: معناه لا يخفى عليه مشتبه (3)، ولا يعدل عنه هارب.
وقال بعضهم: المعنى لا مسلك لأحد ولا طريق له إلا عليه، كقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14] (4).
_________
(1) «معاني القرآن وإعرابه» (3/ 58).
(2) أورده في «البسيط» (11/ 449).
(3) في «البسيط» (11/ 449): «عليه مستتر».
(4) انظر: «البسيط» (11/ 449 - 450).
(2/148)
________________________________________
وهذا المعنى حق، ولكن كونه هو المراد بالآية ليس بالبيّن؛ فإن الناس كلهم لا يسلكون الصراط المستقيم حتى يقال: إنهم يصلون بسلوكه إليه، ولما أراد سبحانه هذا المعنى قال: {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} [يونس: 70]، {(24) إِنَّ إِلَيْنَا} [الغاشية: 25]، {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14]، {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42].
وأما وصفه سبحانه بأنه على صراط مستقيم فهو كونه يقول الحق، ويفعل الصواب، فكلماته صدق وعدل، وفعله كله صواب وخير، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، فلا يقول إلا ما يُحمد عليه، ولا يفعل إلا ما يُحمد عليه؛ لكونه حقًّا وعدلًا وصدقًا وحكمة في نفسه، وهذا معروف في كلام العرب.
قال جرير يمدح عمر بن عبد العزيز:
أمير المؤمنين على صراطٍ ... إذا اعوجَّ المواردُ مستقيمِ (1)
إذا عُرف هذا، فمن ضرورة كونه على صراط مستقيم أنه لا يفعل شيئًا إلا لحكمة يُحمد عليها، وغاية هي أولى بالإرادة من غيرها، فلا تخرج أفعاله عن الحكمة والمصلحة والإحسان والرحمة والعدل والصواب، كما لا تخرج أقواله عن العدل والصدق.
فصل
النوع السابع عشر: حَمْدُه سبحانه لنفسه على جميع ما فعله، وأمْرُه
_________
(1) «ديوان جرير» بشرح ابن حبيب (1/ 218).
(2/149)
________________________________________
عباده بحمده، وهذا لما في أفعاله من الغايات والعواقب الحميدة التي يستحق فاعلها (1) الحمد، فهو يُحمد على نفس الفعل، وعلى قصد الغاية الحميدة به، وعلى حصولها، فههنا ثلاث أمور (2).
ومنكرو الحِكَم والتعليل ليس عندهم محمودًا على قصد الغاية، ولا على حصولها؛ إذ قصْدها عندهم مستحيل عليه، وحصولها عندهم أمر اتفاقي غير مقصود، كما صرّحوا به، فلا يُحمد على ما لا يجوز قصده (3)، ولا على حصوله، فلم يبقَ إلا نفس الفعل، ومعلوم أن الفاعل لا يُحمد على فعله إن لم يكن له فيه غاية مطلوبة هي أولى به من عدمها، وإلا فمجرد الفعل الصادر عن الفاعل إذا لم يكن له غاية يقصده بها لا يُحمد عليه، بل وقوع هذا الفعل من القادر المختار الحكيم محال، ولا يقع الفعل على هذا الوجه إلا من عابث، والله منزّه عن العبث.
فحَمْدُه سبحانه من أعظم الأدلة على كمال حكمته، وقصْده بما فعل نفع خلقه والإحسان إليهم ورحمتهم، وإتمام نعمته عليهم، وغير ذلك من الحِكَم والغايات التي تعطيلها تعطيل لحقيقة حمده.
فصل
النوع الثامن عشر: إخباره بإنعامه على خلقه وإحسانه إليهم، وأنه خلق لهم ما في السماوات وما في الأرض، وأعطاهم الأسماع والأبصار والأفئدة
_________
(1) «م»: «عليها».
(2) كذا في الأصول، والوجه: «ثلاثة أمور».
(3) «م»: «ما يجوز قصده»، خطأ.
(2/150)
________________________________________
ليتم نعمته عليهم.
ومعلوم أن المُنعِم المُحسِن لا يكون كذلك، ولا يستحق هذا الاسم حتى يقصد الإنعام على غيره والإحسان إليه، فلو لم يفعل سبحانه لغرض الإنعام والإحسان لم يكن مُنعِمًا في الحقيقة ولا مُحسِنًا؛ إذ يستحيل أن يكون كذلك من لم يقصد الإنعام والإحسان، وهذا غني عن التقرير.
يوضحه أنه سبحانه حيث ذَكَر إنعامه وإحسانه فإنما يذكره مقرونًا بالحِكَم والمصالح والمنافع التي خَلَق الخلق وشَرَع الشرائع لأجلها، كقوله في آخر سورة النِّعَم (1): {(80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ} [النحل: 81]، فهذا في الخلق.
وقال في الشرع في أمره باستقبال الكعبة: {(149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ} [البقرة: 150].
وقال في أمره بالوضوء والتيمم: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6]، فجعل تمام نعمته في أنْ خَلَقَ ما خلق للإحسان، وأَمَرَ بما أمر لذلك.
_________
(1) في حاشية «م»: «أي النحل».
(2/151)
________________________________________
فصل
النوع التاسع عشر: اتصافه بالرحمة، وأنه أرحم الراحمين، وأن رحمته وسعت كل شيء، وذلك لا يتحقق إلا بأن يقصد رحمة خلقه بما خلقه لهم، وبما أمرهم به، فلو لم تكن أوامره لأجل الرحمة والحكمة والمصلحة وإرادة الإحسان إليهم لما كانت رحمة، ولما كان رسوله رحمة للعالمين، فلو خلت أحكامه عن الحِكَم والمصالح لما كانت رحمة (1)، ولو حصلت بها الرحمة لكانت اتفاقية لا مقصودة، وذلك لا يوجِب أن يكون الآمر سبحانه أرحم الراحمين، فتعطيل حكمته والغاية المقصودة التي لأجلها يفعل إنكارٌ لرحمته في الحقيقة، وتعطيل لها.
وكان شيخ هذا المذهب جهم بن صفوان يقف على الجَذْمى (2)، ويشاهد ما هم فيه من البلاء، ويقول: أرحم الراحمين يفعل مثل هذا! (3).
يعني: أنه ليس ثَمّ رحمة في الحقيقة، وإنما الأمر راجع إلى محض المشيئة الخالية عن الحكمة والرحمة، فلا حكمة عنده ولا رحمة؛ فإن الرحمة لا تُعقل إلا مِن فِعْل مَن يفعل الشيء لرحمة غيره ونفعه والإحسان إليه، فإذا لم يفعل لغرض ولا غاية ولا حكمة لم يفعل لرحمة ولا لإحسان.
_________
(1) من قوله: «ولما كان رسوله» إلى هنا ساقط من «د».
(2) جمع أَجْذَم، وهو مَنْ تهافتت أطرافه من مرض الجُذَام، «تاج العروس» (31/ 383).
(3) حكاه شيخ الإسلام في عدة مواضع من كتبه، منها: «النبوات» (2/ 915)، «منهاج السنة» (3/ 32)، وكذا تكرّرت عند المصنف كما تراه في «إغاثة اللهفان» (2/ 920) وغيره.
(2/152)
________________________________________
فصل
النوع العشرون: جوابه سبحانه لمن سأله عن التخصيص والتمييز الواقع في أفعاله بأنه لحكمة يعلمها هو سبحانه، وإن كان السائل لا يعلمها، كما أجاب الملائكة لما قال لهم: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} فقالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}، فأجابهم بقوله: {إِنِّيَ أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]، ولو كان فعله مجرّدًا عن الحِكَم والغايات والمصالح لكان الملائكة أعلم مِنْ (1) أن يسألوا هذا السؤال، ولم يصح جوابهم بتفرّده بعلم ما لا يعلمونه من الحِكَم والمصلحة التي في خلق هذا الخليفة.
ولهذا كان سؤالهم إنما وقع عن وجه الحكمة، ولم يكن اعتراضًا على الربّ تعالى، ولو قُدِّر أنه على وجه الاعتراض فهو دليل على علمهم أنه لا يفعل شيئًا إلا لحكمة، فلما رأوا أن خلق هذا الخليفة منافٍ للحكمة في الظاهر سألوه عن ذلك.
ومن هذا قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ} [الأنعام: 124]، فأجابهم بأن حكمته وعلمه يأبى أن يضع رسالاته في غير محلها، وعند غير أهلها، ولو كان الأمر راجعًا إلى محض المشيئة لم يكن في هذا جواب، بل كان الجواب أن أفعاله لا تُعلَّل، وهو يرجِّح مِثْلًا على مِثْل بغير مرجِّح، والأمر عائد إلى مجرّد القدرة كما يقوله المنكرون.
_________
(1) «د»: «به».
(2/153)
________________________________________
وكذلك قوله: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53]، فلما سألوا عن التخصيص بمنّة الله، وأنكروا ذلك؛ أجيبوا بأن الله أعلم بمن يصلح لمنّته، وهو أهل لها، وهم الشاكرون الذين يعرفون قدر النعمة، ويشكرون عليها المنعم، فهؤلاء يصلحون لمنّته، ولو كان الأمر عائدًا إلى محض المشيئة لم يحسن هذا الجواب.
ولهذا يذكر سبحانه صفة العلم حيث يذكر التخصيص والتفضيل تنبيهًا على أنه إنما حصل بعلمه سبحانه بما في المُخصَّص المُفضَّل مما يقتضي تخصيصه وتفضيله، وهو الذي جعله أهلًا لذلك، كما قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [الأنبياء: 81]، فذَكَر علمه عقيب ذكر تخصيصه سليمان بتسخير الريح له، وتخصيصه الأرض المذكورة بالبركة.
ومنه قوله: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المائدة: 97]، فذَكَر صفة العلم التي اقتضت تخصيص هذا المكان وهذا الزمان بأمرٍ اختصَّا به دون سائر الأمكنة والأزمنة.
ومن ذلك قوله سبحانه: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الفتح: 26]، فأخبر أنه وضع هذه الكلمة عند أهلها، ومَنْ هم أحق بها، وأنه أعلم بمن يستحقها من غيرهم، فهل هذا وصف من يَخص بمحض المشيئة
(2/154)
________________________________________
لا لسبب (1) ولا لغاية؟!
فصل
النوع الحادي والعشرون: إخباره سبحانه عن تركه بعض مقدوره أن يفعله لما يستلزمه من المفسدة، وأن المصلحة في تركه، ولو كان الأمر راجعًا إلى محض المشيئة لم يكن ذلك علّة للحكم، كقوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ} [الأنفال: 22 - 23]، فعلّل سبحانه عدم إسماعهم السماع الذي ينتفعون به ـ وهو سماع الفهم ـ بأنهم لا خير فيهم يحسن معه أن يسمعهم، وبأن فيهم مانعًا آخر يمنع من الانتفاع بالمسموع لو سمعوه وهو الكبر والإعراض، فالأول من باب تعليل عدم الحُكْم بعدم مقتضيه، والثاني من باب تعليله بوجود مانعه، وهذا إنما يصح ممن يأمر وينهى ويفعل للحِكَم والمصالح، وأما من تجرّد فعله عن ذلك فإنه لا يضاف عدم الحكم إلا إلى مجرّد مشيئته فقط.
ومن هذا تنزيهه نفسه سبحانه عن كثير مما يقدر عليه فلا يفعله؛ لمنافاته لحكمته وحمده، كقوله: {كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ} [آل عمران: 179]، وقوله: {(32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ} [الأنفال: 33]، وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115]، وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ
_________
(1) «د»: «بسبب».
(2/155)
________________________________________
لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117]، وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ (1) الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [القصص: 59]، فنزّه نفسه عن هذه الأفعال؛ لأنها لا تليق بكماله، وتنافي حكمته وحمده.
وعند النفاة إنها ليست مما يُنزَّه الربّ عنه؛ لأنها مقدورة له، وهو إنما يُنزَّه عما لا يقدر عليه، ولكن علمنا أنها لا تقع لعدم مشيئته لها، لا لقبحها في نفسها!
فصل
النوع الثاني والعشرون: أن تعطيل الحكمة والغاية المطلوبة بالفعل إما أن يكون لعدم علم الفاعل بها أو بتفاصيلها، وهذا محال في حق من هو بكل شيء عليم.
وإما لعجزه عن تحصيلها، وهذا ممتنع في حق من هو على كل شيء قدير.
وإما لعدم إرادته ومشيئته الإحسان إلى غيره وإيصال النفع إليه، وهذا مستحيل في حق أرحم الراحمين، ومَن إحسانُهُ مِن لوازم ذاته فلا يكون إلا محسنًا مُنعِمًا منّانًا.
وإما لمانع يمنع من إرادتها وقصدها، وهذا مستحيل في حق من لا يمنعه مانع عن فعل ما يريد.
وإما لاستلزامها نقصًا ومنافاتها كمالًا، وهذا باطل، بل هو قلب للحقائق
_________
(1) في الأصول: «ليهلك».
(2/156)
________________________________________
وعكس للفِطَر (1)، ومناقضة لقضايا العقول؛ فإن مَنْ يفعل لحكمة وغاية مطلوبة يُحمد عليها أكمل ممن يفعل لا لشيء البتّة، كما أن مَنْ يخلق أكمل ممن لا يخلق، ومَنْ يعلم أكمل ممن لا يعلم، ومَنْ يتكلم أكمل ممن لا يتكلم، ومَنْ يقدر ويريد أكمل ممن لا قدرة له ولا إرادة، ومَنْ يسمع ويبصر، ويرضى ويغضب، ويحب ويبغض؛ أكمل ممن لا يتصف بذلك، وهذا مركوز في الفِطَر، مستقر في العقول، فنفي حكمته بمنزلة نفي هذه الأوصاف عنه، وذلك يستلزم وصفه بأضدادها، وهي أنقص النقائص.
ولهذا صرّح كثيرٌ من النفاة كالجويني والرازي بأنه لم يقم على نفي النقائص عن الله دليل عقلي، وإنما مستند النفي السمع والإجماع (2).
وحينئذ فيقال لهؤلاء: إن لم يكن في إثبات الحكمة نقص لم يجز نفيها، وإن كانت نقصًا فأين في السمع أو في الإجماع نفي هذا النقص؟
وجمهور الأمة يثبت حكمته سبحانه والغايات المحمودة في أفعاله إجمالًا، فليس مع النفاة سمع ولا عقل ولا إجماع، بل السمع والعقل والإجماع والفطرة تشهد ببطلان قولهم، والله الموفق للصواب.
وجماع ذلك أن كمال الربّ تعالى وجلاله وحكمته وعلمه ورحمته وقدرته وإحسانه وحمده ومجده وحقائق أسمائه الحسنى= تمنع كون أفعاله صادرة منه لا لحكمة، ولا لغاية مطلوبة، وجميع أسمائه الحسنى تنفي ذلك، وتشهد ببطلانه، وإنما نبّهنا على بعض طرق القرآن، وإلا فالأدلة التي
_________
(1) «م»: «الفطر».
(2) انظر: «الشامل» (74)، «الأربعين» (1/ 242).
(2/157)
________________________________________
تضمنها على إثبات ذلك أضعاف أضعاف ما ذكرنا، وبالله التوفيق.
فصل
وكيف يتوهم ذو فطرة صحيحة خلاف ذلك، وهذا الوجود شاهد بحكمته وعنايته بخلقه أتم عناية، وما في مخلوقاته من الحِكَم والمصالح والمنافع والغايات المطلوبة والعواقب الحميدة أعظم من أن يحيط به وصف، أو يحصره عقل.
ويكفي الإنسانَ فكرُه في نفسه وخلقه وأعضائه ومنافعها وقواه وصفاته وهيئاته، فإنه لو استنفد عمره لم يحط علمًا بجميع ما تضمنه خلقه من الحِكَم والمنافع على التفصيل، والعالم كله علويّه وسفليّه بهذه المثابة.
ولكن لشدّة ظهور الحكمة ووضوحها وجَدَ الجاحد السبيل إلى إنكارها، وهذا شأن النفوس الجاهلة الظالمة، كما أنكرتْ وجود الصانع تعالى مع فرط ظهور آياته ودلائل ربوبيته، بحيث استوعبت كل موجود، ومع هذا فسمحت بالمكابرة في إنكاره!
وهكذا أدلة علوّه سبحانه فوق مخلوقاته مع شدة ظهورها وكثرتها، سمحت نفوس الجهمية بإنكارها!
وهكذا شواهد صدق أنبيائه ورسله، ولاسيما خاتمهم صلوات الله وسلامه عليه، فإن أدلة صدقه في الوضوح للعقول كالشمس في دلالتها على النهار، ومع هذا فلم يأنف الجاحدون والمكابرون من الإنكار!
وهكذا أدلة ثبوت صفات الكمال لمعطي الكمال، هي من أظهر الأشياء وأوضحها، وقد أنكرها مَن أنكرها!
(2/158)
________________________________________
ولا يُستنكر هذا؛ فإنك تجد الرجل منغمِسًا في النّعم، وقد أحاطت به من كل جانب وهو يشتكي حاله، ويتسخَّط مما هو فيه، وربما أنكر النعمة، فَضَلَال النفوس وغيّها لا حدّ له ينتهي إليه، ولاسيما النفوس الجاهلة الظالمة.
ومن أعجب العجب أن تسمح نفس بإنكار الحِكَم والعلل الغائية والمصالح التي تضمّنتها هذه الشريعة الكاملة، التي هي من أدل الدلائل على صِدْق مَن جاء بها، وأنه رسول الله حقًا، ولو لم يأت بمعجزة سواها لكانت كافية شافية، فإن ما تضمّنته من الحِكَم والمصالح والغايات الحميدة، والعواقب السديدة، شاهدة بأن الذي شرعها وأنزلها أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وشهود ذلك في تضاعيفها ومضمونها كشهود الحِكَم والمصالح والمنافع في المخلوقات العلويّة والسفليّة، وما بينهما من الحيوان والنبات والعناصر والآثار التي بها انتظام مصالح المعاش.
فكيف يرضى أحدٌ لنفسه إنكارَ ذلك وجحْدَه؟!
وإن تَجمّل واستحيا من العقلاء قال: ذلك أمر اتفاقي غير مقصود بالخلق والأمر!
وسبحان الله! كيف يستجيز أحدٌ أن يظنّ بربِّ العالمين وأحكم الحاكمين أنه يعذّب كثيرًا من خلقه بأشدّ العذاب الأبدي لغير غاية ولا حكمة ولا بسبب، وإنما هو محض مشيئة مجرّدة عن الحكمة والسبب، فلا سبب هناك ولا حكمة ولا غاية، وهل هذا إلا من أسوأ الظن بالربّ تعالى؟!
وكيف يستجيز أن يظنّ بربّه أنه أمَر ونهى، وأباح وحرّم، وأحبّ وكره، وشرع الشرائع، وأمر بالحدود لا لحكمة ولا لمصلحة يقصدها، بل ما ثَمّ إلا
(2/159)
________________________________________
مشيئة محضة رجَّحتْ مِثْلًا على مِثْل بغير مرجِّح، وأي رحمة تكون في هذه الشريعة، وكيف يكون المبعوث بها رحمة مهداة للعالمين لو كان الأمر كما يقول النفاة، وهل يكون الأمر والنهي إلا عقوبة وكُلْفة وعبثًا؟! تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
ولو ذهبنا نذكر ما يطّلع عليه أمثالنا من حكمة الله في خلقه وأمره لزاد ذلك على عشرة آلاف موضع، مع قصور أذهاننا، ونقص علومنا ومعارفنا وتلاشيها، بل وتلاشي علوم الخلائق جميعهم في علم الله كتلاشي ضوء السراج في عين الشمس، وهذا تقريب، وإلا فالأمر فوق ذلك.
وهل إبطال الحِكَم والمناسبات والأوصاف التي شُرِعت الأحكام لأجلها إلا إبطال للشرع جملة؟!
وهل يمكن فقيهًا على وجه الأرض أن يتكلم في الفقه مع اعتقاده بطلان الحكمة والمناسبة والتعليل، وقصْد الشارع بالأحكام مصالح العباد؟
وجناية هذا القول على الشرائع من أعظم الجنايات؛ فإن العقلاء لا يمكنهم إنكار الأسباب والحِكَم والمصالح والعلل الغائية، فإذا رأوا أن هذا لا يمكن القول به مع موافقة الشرائع، ولا يمكنهم دفعه عن نفوسهم؛ خلّوا الشرائع وراء ظهورهم، وأساؤوا بها الظن، وقالوا: لا يمكننا الجمع بينها وبين عقولنا، ولا سبيل لنا إلى الخروج عن عقولنا، ورأوا أن القول بالفاعل المختار لا يمكن إلا مع نفي الأسباب والحِكَم والقُوى والطبائع، ولا سبيل إلى نفيها، فنفوا الفاعل المختار، وأولئك لم يمكنهم القول بنفي الفاعل المختار، ورأوا أنهم لا يمكنهم إثباته مع إثبات الأسباب والحِكَم والقُوى والعلل فنفوها، وبين الطائفتين بُعد المشرقين.
(2/160)
________________________________________
ولا تستهن بأمر هذه المسألة؛ فإن شأنها أعظم، وخطرها أجلّ، وفروعها كثيرة جدًّا.
ومن فروعها: أنهم لما تكلموا فيما يُحدِثه الله سبحانه من المطر والنبات والحيوان، والحر والبرد، والليل والنهار، والإهلال والإبدار والكسوف، والاستِسْرار (1)، وحوادث الجو، وحوادث الأرض= انقسموا قسمين، وصاروا طائفتين:
فطائفة جعلت الموجِب لذلك مجرّد ما رأوه علّة وسببًا من الحركات الفلكية، والقُوى الطبيعية، والنفوس والعقول، فليس عندهم لذلك فاعل مختار مريد.
وقابلهم طائفة من المتكلمين فلم يثبتوا لذلك سببًا إلا مجرد المشيئة والقدرة، وأن الفاعل المختار يُرجِّح مِثْلًا على مِثْل بلا مُرجِّح ولا سبب ولا حكمة، ولا غاية يفعل لأجلها.
ونفوا الأسباب والقُوى والطبائع والغرائز والحِكَم والغايات، حتى يقول مَن أثبت الجوهر الفرد منهم: إن الفَلَك والرَّحا ونحوهما مما يدور يتفكك عند الدوران دائمًا، والقادر المختار يعيده كل وقت كما كان، وإن الألوان والمقادير والأشكال والصفات تعدم على تعاقب الآنات (2)، والقادر
_________
(1) هو اختفاء القمر آخر الشهر ليلة أو ليلتين، مشتق من استسرّ، انظر: «الصحاح» (2/ 682).
(2) مصطلح كلامي يطلق على أجزاء الزمان غير المنقسمة، انظر: «المواقف» (1/ 530).
(2/161)
________________________________________
المختار يعيدها كل وقت، وإن ملوحة ماء البحر كل لحظة تعدم وتذهب، ويعيدها القادر المختار، كل ذلك بلا سبب ولا حكمة ولا علّة غائية.
ورأوا أنهم لا يمكنهم التخلص من قول الفلاسفة أعداء الرسل إلا بذلك، ورأى أعداء الرسل أنهم لا يمكنهم الدخول في الشريعة إلا بالتزام أصول هؤلاء.
ولم تهتدِ الطائفتان للحق الذي لا يجوز غيره، وهو أنه سبحانه يفعل بمشيئته وقدرته وإرادته، ويفعل ما يفعله بأسباب وحِكَم وغايات محمودة، وقد أودع العالم من القُوى والطبائع والغرائز والأسباب والمسبّبات ما به قام الخلق والأمر.
وهذا قول جمهور أهل الإسلام وأكثر طوائف النظار، وهو قول الفقهاء قاطبة، إلا من خلّى الفقه ناحية وتكلم بأصول النفاة، فعادى فقهُهُ أصولَ دينِه (1).
_________
(1) الضبط من «د» و «م».
(2/162)
________________________________________
الباب الثالث والعشرون في استيفاء شُبَه النافين للحكمة والتعليل، وذِكْر الأجوبة عنها
قالت النفاة: قد أجلبتم علينا بما استطعتم من خيل الأدلة ورَجِلها، فاسمعوا الآن ما يبطله، ثم أجيبوا عنه إن أمكنكم الجواب، فنقول ما قاله ــ أفضل متأخريهم ــ محمد بن عمر الرازي: كل مَن فعل فعلًا لأجل تحصيل مصلحة أو لدفع مفسدة، فإن كان تحصيل تلك المصلحة أولى من عدم تحصيلها كان ذلك الفاعل قد استفاد بذلك الفعل تحصيل ذلك، ومَن كان كذلك كان ناقصًا بذاته مستكملًا بغيره، وهو في حق الله محال، وإن كان تحصيلها وعدمه بالنسبة إليه سواء، فمع ذلك لا يحصل الرجحان، فامتنع تحصيلها.
ثم أورد سؤالًا وهو: لا يقال: حصولها واللاحصولها بالنسبة إليه، وإن كان على التساوي، إلا أن حصولها للعبد أولى من عدم حصولها له، فلأجل هذه الأولوية العائدة إلى العبد يرجّح الله سبحانه الوجود على العدم.
ثم أجاب بأنا نقول: تحصيل تلك المصلحة وعدم تحصيلها له إما أن يكونا متساويين بالنسبة إلى الله أو لا يستويان، وحينئذ يعود التقسيم المذكور (1).
قال المثبتون: الجواب عن هذه الشبهة من وجوه:
_________
(1) «الأربعين» (1/ 350).
(2/163)
________________________________________
أحدها: أن قولك: «إنّ كل مَن فعل لغرض يكون ناقصًا بذاته مستكملًا بغيره»، ما تعني بقولك: إنه يكون ناقصًا بذاته؟
أتعني به: أن يكون عادمًا لشيء من الكمال الذي كان يجب أن يكون له قبل حدوث ذلك المراد؟ أم تعني به: أن يكون عادمًا لما ليس كمالًا قبل وجوده؟ أم تعني به معنى ثالثًا؟
فإن عنيت الأول فالدعوى باطلة؛ فإنه لا يلزم مِن فعْله لغرضٍ حصولُه أولى من عدمه أن يكون عادمًا لشيء من الكمال الواجب قبل حدوث المراد، فإنه يمتنع أن يكون كمالًا قبل حصوله.
وإن عنيت الثاني لم يكن عدمه نقصًا؛ فإن الغرض أنه ليس كمالًا قبل وجوده، وما ليس بكمال في وقت لا يكون عدمه نقصًا فيه، فما كان قبل وجوده عدمه أولى من وجوده، وبعد وجوده وجوده أولى من عدمه= لم يكن عدمه قبل وجوده نقصًا، ولا وجوده بعد عدمه نقصًا، بل الكمال عدمه قبل وقت وجوده، ووجوده وقت وجوده.
وإذا كان كذلك فالحِكَم المطلوبة والغايات من هذا النوع، وجودها وقت وجودها هو الكمال، وعدمها حينئذ نقص، وعدمها وقت عدمها كمال، ووجودها حينئذ نقص. وعلى هذا فالنافي هو الذي نسب النقص إلى الله لا المُثْبِت.
وإن عنيت به أمرًا ثالثًا فلا بدّ من بيانه حتى ننظر فيه.
الجواب الثاني: أن قولك: «يلزم أن يكون ناقصًا بذاته مستكملًا بغيره»، أتعني به: أن الحكمة التي يجب وجودها إنما حصلت له من شيء خارج
(2/164)
________________________________________
عنه، أم تعني به أن تلك الحكمة نفسها غيرٌ له، وهو مستكمَل بها؟
فإن عنيت الأول فهو باطل؛ فإنه لا ربّ غيره ولا خالق سواه، ولم يستفد سبحانه من غيره كمالًا بوجه من الوجوه، بل العالم كله إنما استفاد الكمال الذي فيه منه سبحانه، وهو لم يستفد كماله من غيره، كما لم يستفد وجوده من غيره.
وإن عنيت الثاني فتلك الحكمة صفته سبحانه، وصفاته ليست غيرًا له، فإن حكمته قائمة به، وهو الحكيم الذي له الحكمة، كما أنه العليم الذي له العلم، والسميع الذي له السمع، والبصير الذي له البصر، فثبوت حكمته لا يستلزم استكماله بغيرٍ منفصِل عنه، كما أن كماله سبحانه بصفاته وهو لم يستفدها من غيره.
الجواب الثالث: أنه سبحانه إذا كان إنما يفعل لأجل أمر هو أحبّ إليه من عدمه؛ كان اللازم من ذلك حصول مراده الذي يحبّه، وفَعَل لأجله، وهذا غاية الكمال، وعدمه هو النقص؛ فإنّ من كان قادرًا على تحصيل ما يحبّه، وفَعَلَه في الوقت الذي يحب على الوجه الذي يحب= فهو الكامل حقًّا، لا مَن لا محبوب له، أو له محبوب لا يقدر على فعله.
الجواب الرابع: أن يقال: أنت ذكرت في كتبك أنه لم يقم على نفي النقص عن الله دليل عقلي، واتبعت في ذلك الجويني وغيره، وقلتم: إنما ننفي النقص عن الله عز وجل بالسمع وهو الإجماع، فلم تنفوه عن الله عز وجل بالعقول، ولا بنص منقول عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بل بما ذكرتموه من الإجماع، وحينئذ فإنما يُنفَى بالإجماع ما انعقد الإجماع على نفيه، والفعل بحكمة لم ينعقد الإجماع على نفيه، فلمْ تُجْمِع الأمة على انتفاء التعليل
(2/165)
________________________________________
لأفعال الله، فإذا سَمّيتَ أنت ذلك نقصًا لم تكن هذه التسمية موجِبة لانعقاد الإجماع على نفيها.
فإن قلت: أهل الإجماع أجمعوا على نفي النقص، وهذا نقص؟
قيل: نعم، الأمة مجمعة على ذلك، ولكن الشأن في أن هذا الوصف المعيّن نقصٌ، فتكون قد أجمعت على نفيه، فهذا أول المسألة.
والقائلون بإثباته ليس هو عندهم نقصًا، بل هو عين الكمال، ونفيه عين النقص.
وحينئذ فنقول في الجواب الخامس: إن إثبات الحكمة كمال ــ كما تقدم تقريره ــ ونفيه نقص، والأمة مجمعة على انتفاء النقص عن الله، بل العلم بانتفاء النقص عنه تعالى من أجلى العلوم (1) الضرورية المستقرة في فِطَر الخلق، فلو كانت أفعاله معطَّلة عن الحِكَم والغايات المحمودة لزم النقص، وهو محال، ولزوم النقص من انتفاء الحِكَم أظهر في العقول والفِطَر والعلوم الضرورية والنظرية من لزوم النقص من إثبات ذلك.
وحينئذ فنقول في الجواب السادس: النقص إما أن يكون جائزًا أو ممتنعًا، فإن كان جائزًا بطل دليلك، وإن كان ممتنعًا بطل دليلك أيضًا، فبطل الدليل على التقديرين.
الجواب السابع: أن النقص منتفٍ عن الله عز وجل عقلًا كما هو منتفٍ عنه سمعًا، والعقل يوجب اتصافه بصفات الكمال، والنقص هو ما يضاد صفات الكمال، فالعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام والحياة
_________
(1) «د»: «أعلا العلوم».
(2/166)
________________________________________
صفات كمال وأضدادها نقص، فوجب تنزيهه عنها لمنافاتها لكماله، وأما حصول ما يحبّه الرب تعالى في الوقت الذي يحبّه، فإنما يكون كمالًا إذا حصل على الوجه الذي يحبّه، فعدمه قبل ذلك ليس نقصًا؛ إذ كان لا يحب وجوده قبل ذلك.
الجواب الثامن: أن يقال: الكمال الذي يستحقه سبحانه وتعالى هو الكمال الممكن أو الممتنع؟ فالأول مُسَلّم، والثاني باطل قطعًا، فلِمَ قلت: إن وجود الحادث في غير وقته الذي وُجِد فيه ممكن؟ بل وجود الحادث في الأزل ممتنع، فعدمه لا يكون نقصًا.
الجواب التاسع: أن عدم الممتنع لا يكون كمالًا؛ فإن الممتنع ليس بشيء في الخارج، وما ليس بشيء لا يكون عدمه نقصًا؛ فإنه إن كان في المقدور ما لا يحدث إلا شيئًا بعد شيء كان وجوده في الأزل ممتنعًا، فلا يكون عدمه نقصًا، وإنما يكون الكمال وجوده حين يمكن وجوده.
الجواب العاشر: أن يقال: لا ريب أنه تعالى أحدث أشياء بعد أن لم يكن محدِثًا لها، كالحوادث المشهودة، حتى إن القائلين بكون الفَلَك قديمًا عن علّة موجِبة يقرّون بذلك، ويقولون: إنه يُحدِث الحوادث بواسطة، وحينئذ فنقول: هذا الإحداث إما أن يكون صفة كمال، وإما أن لا يكون؟ فإن كان صفة كمال فقد كان فاقدًا لها قبل ذلك، وإن لم يكن صفة كمال فقد اتصف بالنقص.
فإن قلت: نحن نقول: بأنه ليس صفة كمال ولا نقص.
قيل: فهلّا قلتم ذلك في التعليل؟
(2/167)
________________________________________
وأيضًا: فهذا محال في حق الربّ تعالى؛ فإن كل ما يفعله يستحق عليه الحمد، وكل ما يقوم به من صفاته فهو صفة كمال، وضده نقص.
وقد ينازِع النظّار في الفاعلية: هل هي صفة كمال أم لا؟
وجمهور المسلمين من جميع الفرق يقولون: هي صفة كمال.
وقالت طائفة: ليست صفة كمال ولا نقص، وهو قول أكثر الأشعرية.
فإذا التزم هذا القول، قيل له: الجواب من وجهين:
أحدهما: أنّ من المعلوم بصريح العقل أنّ من يخلق أكمل ممن لا يخلق، كما قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَّكَّرُونَ} [النحل: 17]، وهذا استفهام إنكار، يتضمن الإنكار على من سَوَّى بين أمرين يعلم (1) أن أحدهما أكمل من الآخر قطعًا، ولا ريب أن تفضيل مَن يخلق على من لا يخلق في الفِطَر والعقول كتفضيل مَن يعلم على مَن لا يعلم، ومَن يقدر على مَن لا يقدر، ومَن يسمع ويبصر على مَن ليس كذلك.
ولمّا كان هذا مستقرًا في فِطَر بني آدم جعله الله تعالى من أدلة توحيده وحججه على عباده، قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهْوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهْوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ وَهْوَ وَهُوَ عَلَى} [النحل: 75 - 76]، وقال تعالى:
_________
(1) «د» «م»: «الأمرين يعلم»، وفي «ج»: «الأمرين فعلم»، وبالمثبت يستقيم السياق.
(2/168)
________________________________________
{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، وقال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} [فاطر: 19 - 22]، وقال تعالى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَّكَّرُونَ} [هود: 24].
فمن سوَّى بين صفة الخالقية وعدمها، فلم يجعل وجودها كمالًا، ولا عدمها نقصًا؛ فقد أبطل حجج الله وأدلة توحيده، وسوّى بين ما جعل الله بينهما أعظم التفاوت.
وحينئذ فنقول في الجواب الحادي عشر: إذا كان الأمر كما ذكرتم؛ فلمَ لا يجوز أن يفعل لحكمة يكون وجودها وعدمها بالنسبة إليه سواء، كما أنه عندكم (1) لم يُحْدِث ما يُحْدِثه مع كون الإحداث والخلق وعدمه بالنسبة إليه سواء، فإنكم إذا جعلتموه فاعلًا بالإرادة، ووجود المراد وعدمه بالنسبة إليه سواء (2)، مع أن هذه إرادة لا تُعقَل في الشاهد؛ فقولوا مثل ذلك في الحكمة، وأن ذلك (3) لا يُعقَل، لاسيما والفعل عندكم هو المفعول المنفصل، فجَوِّزوا أيضًا أن يفعل لحكمة منفصلة، وأنتم إنما قلتم ذلك فرارًا من قيام الحوادث به، ومن التسلسل، فكذلك قولوا بنظير ذلك في الحكمة، والذي يلزم أولئك فهو نظير ما يلزمكم سواء.
الجواب الثاني عشر: أن يقال: العقل الصريح يقضي بأن من لا حكمة
_________
(1) «م»: «عندما».
(2) من قوله: «فإنكم إذا» إلى هنا ساقط من «د».
(3) «م»: «كان».
(2/169)
________________________________________
لفعله ولا غاية يقصدها به، أولى بالنقص ممن يفعل لحكمة كانت معدومة ثم صارت موجودة في الوقت الذي اقتضت حكمته إحداث الفعل فيه، فكيف يسوغ لعاقل أن يقول: فِعْله للحكمة يستلزم النقص، وفِعْله لا لحكمة لا نقص فيه!
الجواب الثالث عشر: أن هؤلاء النفاة يقولون: إنه سبحانه يفعل ما يشاء من غير اعتبار حكمة، فيُجَوِّزون عليه كل ممكن، حتى الأمر بالشرك والكذب والظلم والفواحش، والنهي عن التوحيد والصدق والعدل والعقاب.
وحينئذ فنقول: إذا جازت عليه هذه المرادات، وليس في إرادتها نقص لو أرادها؛ استحال أن يكون في شيء من المرادات نقص، وهذا مراد فلا نقص فيه، فقولهم: «مَنْ فَعَل شيئًا لشيء كان ناقصًا بدونه» قضية كلية ممنوعة العموم، وعمومها أولى بالمنع من قول القائل: مَنْ أكرم أهل الجهل والظلم والفساد، وأهان أهل العلم والعدل والبر؛ كان سفيهًا جائرًا، وهذا عند النفاة جائز على الله، ولم يكن به سفيهًا جائرًا.
وكذلك قول القائل: «مَنْ أرسل عبيدَه وإماءه يفجر بعضهم ببعض، ويقتل بعضهم بعضًا، وهو قادر على أن يكفّهم؛ كان سفيهًا»، والله عندهم قد فعل ذلك، ولم يدخل في عموم هذه القضية، فهكذا القضية الكلية التي ادعوا ثبوتها في محل النزاع؛ أولى أن تكون باطلة منتقضة.
الجواب الرابع عشر: أنه لو سُلّم لهم أنه مستكمل بأمر حادث لكان هذا من الحوادث المرادات، وكل ما هو حادث مراد عندهم فليس بقبيح؛ فإن القبح عندهم ليس إلا مخالفة الأمر والنهي، والله ليس فوقه آمر ولا ناهٍ، فلا
(2/170)
________________________________________
يُنزّه عندهم عن شيء من الممكنات البتّة، إلا ما أخبر بأنه لا يكون، فإنهم ينزهونه عن كونه لمخالفة خبره، لا لمخالفة حكمته، والقبيح عندهم هو الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة، وما دخل تحت القدرة لم يكن قبيحًا، ولا مستلزمًا نقصًا عندهم.
وجماع ذلك بالجواب الخامس عشر: أنّه ما من محذور يلزم من تجويز فِعْله لحكمة إلا والمحاذير التي يلزم من كونه يفعل لا لحكمة أعظم امتناعًا، فإن كانت تلك المحاذير غير ممتنعة كانت محاذير إثبات الحكمة أولى بعدم الامتناع، وإن كانت محاذير إثبات الحكمة ممتنعة فمحاذير نفيها أولى بالامتناع.
الجواب السادس عشر: أنّ فِعْل الحيِّ العالم الاختياري لا لغاية ولا لغرض يدعوه إلى فعله لا يُعقل، بل هو من الممتنعات، ولهذا لا يصدر إلا من مجنون أو نائم أو زائل العقل؛ فإن الحكمة والعلة الغائية هي التي تجعل المريد مريدًا، فإنه إذا علم بمصلحة الفعل ونفعه وغايته انبعثت إرادته إليه، فإذا لم يَعلم في الفعل مصلحة، ولا كان له فيه غرض صحيح، ولا داعٍ يدعوه إليه البتّة؛ فلا يقع منه إلا على سبيل العبث، هذا الذي لا يعقل العقلاء سواه.
وحينئذ فنفي الحكمة والعلة الغائية عن فعل أحكم الحاكمين نفي لفعله الاختياري في الحقيقة، وذلك أنقص النقص، وقد تقدم تقرير ذلك، وبالله التوفيق.
فصل
قال نفاة الحكمة: هب أن هذه الحجة بطلت، فلا يلزم من بطلان دليل معيّن بطلان الحكم، فنحن نذكر حجة غيرها فنقول: لو كان فعله تعالى
(2/171)
________________________________________
معلّلًا بعلّة، فتلك العلة إن كانت قديمة لزم من قدمها قدم الفعل، وهو محال، وإن كانت محدثة افتقر كونه موجدًا لتلك العلة إلى علة أخرى، وهو محال، وهذا معنى قول القائل: علّة كل شيء صنعه، ولا علّة لصنعه.
قالوا: ونحن نقرر هذه الحجة تقريرًا أبسط من هذا فنقول: لو كان فعله تعالى لحكمة فتلك الحكمة إما قديمة أو محدثة، فإن كانت قديمة فإما أن يلزم من قدمها قدم الفعل أو لا يلزم، فإن لزم فهو محال؛ لأن القدم والفعل متنافيان، وإن لم يلزم من قدمها قدم الفعل كانت موجودة بدون الفعل، والفعل موجود بدونها، فالحكمة غير حاصلة من ذلك الفعل لحصوله دونها، وما لا تكون الحكمة متوقفة على حصوله لم يكن حصوله متوقفًا عليها، وهو المطلوب.
وإن كانت الحكمة حادثة بحدوث الفعل، فإما أن تفتقر إلى فاعل أو لا تفتقر إلى فاعل، فإن لم تفتقر لزم حدوث حادث من غير فاعل، وهو محال، وإن افتقرت إلى فاعل فذلك الفاعل إما أن يكون هو الله أو غيره، لا يجوز أن يكون غيره؛ لأنه لا خالق إلا الله، وإن كان هو الله فإما أن يكون له في فعله غرض، أو لا غرض له فيه، فإن كان الأول فالكلام فيه كالكلام في الأول، ويلزم التسلسل، وإن كان الثاني فقد خلا فعله عن الغرض، وهو المطلوب.
فإن قلت: فِعْله لذلك الغرض لغرض هو نفسه، فما خلا عن غرض، ولم يلزم التسلسل.
قلنا: فيلزم مثله في كل مفعول مخلوق، وهو أن يكون الغرض منه هو نفسه، من غير حاجة إلى غرض آخر، وهو المطلوب، فهذه حجة باهرة وافية بالغرض.
(2/172)
________________________________________
قال أهل الحكمة: بل هي حجة داحضة باطلة، والجواب عنها من وجوه:
الجواب الأول: أن نقول: لا يخلو إما أن يمكن أن يكون الفعل قديم العين أو قديم النوع، أو لا يمكن واحد منهما، فإن أمكن أن يكون قديم العين أو النوع أمكن في الحكمة التي يكون الفعل لأجلها أن تكون كذلك، وإن لم يمكن أن يكون الفعل قديم العين ولا النوع، فيقال: إذا كان فعله حادث العين أو النوع كانت الحكمة كذلك، فالحكمة يُحذى بها حذو الفعل، فما جاز عليه جاز عليها، وما امتنع عليه امتنع عليها.
الجواب الثاني: أنّ من قال: إنه خالق مكوِّن في الأزل لِمَا لم يكن بعد، قال: قولي هذا كقول من قال: هو مريد في الأزل لِمَا لم يكن بعد، فقولي (1) بقدم كونه فاعلًا كقول هؤلاء بقدم كونه مريدًا، وعلى هذا فيمكنني أن أقول بقدم الحكمة التي يخلق ويريد لأجلها، ولا يلزم من قدم الحكمة قدم الفعل، كما لم يلزم من قدم الإرادة قدم المراد، وكما لم يلزم من قدم صفة التكوين قدم المكوَّن، فقولي في قدم الحكمة مع حدوث الفعل الذي فُعِل (2) لأجلها، كقولكم في قدم الإرادة والتكوين سواء، وما لزمني لزمكم مثله، وجوابكم هو جوابي بعينه.
ولا يمتنع ذلك على أصول طائفة من الطوائف، فإن مَن قال مِن الفلاسفة: إن فعله قديم للمفعول المعّين، يقول: إن الحكمة قديمة، ومن قال
_________
(1) «م»: «فقوله».
(2) «م» «ج»: «الذي جعل»، «د»: «التي فعل»، والمثبت منها أقرب للسياق.
(2/173)
________________________________________
بحدوث أعيان الفعل ودوام نوعه يقول ذلك في الحكمة سواء، ومَن قال بحدوث نوع الفعل وقيامه بالربّ، قال ذلك في الحكمة أيضًا، كما يقوله الكَرّامية، ومَن قال بحدوث نوع الفعل وعدم قيامه بالربّ يقول ذلك في الحكمة أيضًا (1)، كما يقوله كثير من النظار، فلا يمتنع على أصل طائفة من الطوائف إثبات الحكمة في فعله سبحانه.
الجواب الثالث: قولك: «يفتقر كونه مُحْدِثًا لتلك العلّة إلى علة أخرى» ممنوع؛ فإن هذا إنما يلزم أن لو قيل: كل حادث فلا بدّ له من علّة، ونحن لا نقول هذا، بل نقول: يفعل لحكمة، ومعلوم أن المفعول لأجله مراد للفاعل محبوب له، والمراد المحبوب تارة يكون مرادًا لنفسه، وتارة يكون مرادًا لغيره، والمراد لغيره لابدّ أن ينتهي إلى المراد لنفسه قطعًا للتسلسل، وهذا كما نقول في خَلْقه بالأسباب: إنه يخلق كذا بسبب كذا، وكذا بسبب كذا، حتى ينتهي الأمر إلى أسباب لا سبب لها سوى مشيئة الربّ، فكذلك يخلق لحكمة، وتلك الحكمة لحكمة، حتى ينتهي الأمر إلى حكمة لا حكمة فوقها.
الجواب الرابع: أن النفاة يقولون: كل مخلوق فهو مراد لنفسه لا لغيره، وحينئذ فلا يمتنع أن يكون بعض المخلوقات مرادًا لغيره، وينتهي الأمر إلى مراد لنفسه، بل هذا أولى بالجواز من جَعْل كل مخلوق مرادًا لنفسه، وكذلك في الأمر يكون مرادًا لغيره حتى ينتهي إلى أمر مراد لنفسه، وكذلك المحبوبات، يكون المحبوب محبوبًا لغيره حتى ينتهي إلى محبوب لنفسه.
_________
(1) «في الحكمة أيضًا» مطموسة في «م».
(2/174)
________________________________________
الجواب الخامس: أن يقال: غاية ما ذكرتم أنه يستلزم التسلسل، ولكن أي نوعي التسلسل هو اللازم، التسلسل الممتنع أو الجائز؟ فإن عنيتم الأول مُنِع اللزوم، وإن عنيتم الثاني مُنِع انتفاء اللازم؛ فإن التسلسل في الآثار المستقبلة ممكن، بل واجب، والتسلسل في الآثار الماضية فيه قولان للناس، والتسلسل في العلل والفاعلين محال باتفاق العقلاء، بأن يكون لهذا الفاعل فاعل قبله وكذلك إلى غير نهاية، وأما أن يكون الفاعل الواحد القديم الأبدي لم يزل يفعل ولا يزال، فهذا غير ممتنع.
إذا عُرِف هذا، فالحكمة التي لأجلها يفعل الفعل تكون حاصلة بعده، فإذا كان بعدها حكمة أخرى فغاية ذلك أن يلزم حوادث لا نهاية لها، وهذا جائز، بل واجب باتفاق المسلمين، ولم ينازع فيه إلا بعض أهل البدع من الجهمية والمعتزلة.
فإن قيل: فيلزم من هذا أن لا تحصل الغاية المطلوبة أبدًا.
قيل: بل اللازم أن لا تزال الغاية المطلوبة حاصلة دائمًا، وهذا أمر معقول في الشاهد، فإن الواحد من الناس يفعل الشيء لحكمة يحصل بها محبوبه، ثم يلزم من حصول ذلك المحبوب محبوب آخر يفعل لأجله وهلمّ جرَّا، حتى لو تُصوِّر دوامه أبدًا لكانت هذه حاله وكماله، فلم تزل محبوباته تحصل شيئًا بعد شيء، وهذا هو الكمال الذي لا ينبغي إلا لله سبحانه، فإنه لا تزال مراداته ومحابّه حاصلة على الوجه الذي يريده، مع غناه التام الكامل عن كل ما سواه، وفقر ما سواه إليه من جميع الوجوه، وهل الكمال إلا ذلك، وفواته هو النقص.
وهو سبحانه كتب على نفسه الرحمة والإحسان، فرحمته وإحسانه من
(2/175)
________________________________________
لوازم ذاته، فلا يكون إلا رحيمًا محسنًا، وهو سبحانه إنما أمر العباد بما يحبّه ويرضاه، وأراد لهم من إحسانه ورحمته ما يحبّه ويرضاه، لكن فَرْقٌ بين ما يريد هو سبحانه أن يخلقه ويفعله لما يحصل به من الحكمة التي يحبها، فهذا يفعله سبحانه ولا بدّ من وجوده، وبين ما يريد من العباد أن يفعلوه ويأمرهم بفعله ويحب أن يقع منهم، ولا يشاء خَلْقه وتكوينه، فَفَرْقٌ بين ما يريد خَلْقه وما يأمر به وقد لا يريد خَلْقه (1)، فإن الفرق بين ما يريد الفاعل أن يفعله، وما يريد من المأمور أن يفعله فرق واضح.
والله سبحانه له الخلق والأمر، فالخلق فعْله، والأمر قوله، ومتعلّقه فعل عباده، وهو سبحانه قد يأمر عبده ويريد من نفسه أن يعينه (2) على فعل ما أمره به؛ لتحصل حِكَمُه (3) ومحابّه من ذلك المأمور به، وقد يأمره ولا يريد من نفسه إعانته على فعل المأمور؛ لمَا له من الحكمة التامة في هذا الأمر وهذا الترك، يأمره لئلا يكون له عليه حجة، ولئلا يقول: ما جاءني من نذير، ولو أمرتني لبادرتُ إلى طاعتك، ولم يرد من نفسه إعانته؛ لأن محلّه غير قابل لهذه النعمة.
والحكمة التامة تقتضي أن لا توضع النعم عند غير أهلها، وأن لا تُمنَع من أهلها، قال تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح: 26]، وقال: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53]، وقال: {(22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23].
_________
(1) «د»: «وقد يريد خلقه».
(2) «د»: «يعين عبده».
(3) «د»: «حكمته».
(2/176)
________________________________________
ولا يقال: فهلّا سوّى بين خلقه في جَعْلهم كلهم أهلًا لذلك؛ فإن هذا بمنزلة أن يقال: هلّا سوّى بين صورهم وأشكالهم وأعمارهم وأرزاقهم ومعاشهم، وهذا وإن كان ممكنًا؛ فالذي وقع من التفاوت بينهم هو مقتضى حكمته البالغة، وملكه التام وربوبيته، فاقتضت حكمته أنْ سوّى بينهم في الأمر، وفاوت بينهم في الإعانة عليه، كما فاوت بينهم في العلوم والقُدَرِ والغنى والحُسْن والفصاحة وغير ذلك.
والتخصيصات الواقعة في ملكه لا تناقض حكمته، بل هي من أدلّ شيء على كمال حكمته، ولولاها لم يُعرف فضلُه ومَنّه.
قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات: 7 - 8]، عليم بمن يصلح لهذه النعمة، حكيم في وضعها عند أهلها، ومنعها غير أهلها.
وقال تعالى: {آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)} [الحديد: 28 - 29]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهْوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 2 - 4]، وقال تعالى: {(53) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ
(2/177)
________________________________________
يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ} [المائدة: 54]، وقالت الرسل لقومهم: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11]، وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} الآية [الزخرف: 31 - 32].
وفي حديث «مَثَل المسلمين واليهود والنصارى»، قال تعالى لأهل الكتاب: «هل ظلمتكم من حقكم من شيء؟ قالوا: لا. قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء» (1).
وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} [النساء: 69 - 70]، أي يعلم أين يضع فضله، ومن يصلح له ممن لا يصلح، فلا يمنعه أهله، ولا يضعه عند غير أهله.
وهذا كثير في القرآن، يذكر أن تخصيصه هو فضله ورحمته، فلو ساوى بين الخلائق لم يُعرف قدر فضله ونعمته ورحمته.
فهذا بعض ما في تخصيصه من الحكمة.
وفي «الزهد» للإمام أحمد: أن موسى عليه السلام قال: «يا رب، هلّا سوّيت بين عبادك؟ قال: إني أحببتُ أن أُشْكَر» (2).
_________
(1) تقدم تخريجه (1/ 155).
(2) لم أقف عليه في مطبوعة «الزهد»، وهو فيه (256) من قول آدم، وقد تقدم (1/ 29).
(2/178)
________________________________________
فمواضع التخصيص (1) ومواقع (2) الفضل هي التي يقدح بها نفاة الحكمة فيها، وهي من أدل شيء على كمال حكمته سبحانه، ووَضْعه للفضل مواضعه، وجَعْله عند أهله الذين هم أحق به، وأولى من غيرهم، وهو الذي جعلهم كذلك بحكمته وعلمه وعزته وملكه، فتبارك الله رب العالمين وأحكم الحاكمين.
ولا يجب بل لا يمكن المشاركة في حكمته، بل ما حصل للخلائق كلهم من العلم بها كنقرة عصفور من البحر المحيط، وأي نقص في دوام حكمته شيئًا بعد شيء، كما تدوم إرادته وكلامه وأفعاله وإحسانه وجوده وإنعامه، وهل الكمال إلا في هذا التسلسل، فماذا نَفَّرَ النفاة منه! أنفَّرَهم أن يقال: لَمْ يزل ولا يزال حيًّا، عليمًا، قديرًا، حكيمًا، متكلمًا، محسنًا، جوادًا، ملكًا، موصوفًا بكل كمال، غنيًا عن كلّ ما سواه، لا تنفد كلماته، ولا تتناهى حكمته، ولا تعجز قدرته، ولا يبيد ملكه، ولا تنقطع إرادته ومشيئته، بل لم يزل ولا يزال له الخلق والأمر، والحكمة والحكم، وهل النقص إلا سلب ذلك عنه، والله الموفق بفضله وإعانته.
الجواب السادس: أن الرب تبارك وتعالى إذا خلق شيئًا فلا بُدَّ من وجود لوازمه، ولا بدَّ من عدم أضداده، فوجود الملزوم بدون لازمه محال، ووجود الضد مع ضده ممتنع، والمحال الممتنع ليس بشيء، ولا يتصور العقل وجوده في الخارج، وإذا كان هذا التسلسل الجائز من لوازم خلقه وحكمته لم يكن في القول به محذور، بل كان المحذور في نفيه.
_________
(1) «د» «م»: «التحصيل» تحريف، والمثبت أشبه بالسياق والمعنى.
(2) «م»: «وموانع» تحريف.
(2/179)
________________________________________
توضيحه الجواب السابع: أنه لم يقم دليل عقلي ولا سمعي على امتناع دوام أفعال الرب في الماضي والمستقبل أصلًا، وكل أدلة النفاة من أولها إلى آخرها باطلة، وقد كفى مؤنة إبطالها الرازي والآمدي في أكثر كتبهما وغيرهما.
وأما إثبات الحكمة فقد قام على صحته العقل والسمع والفطرة وسائر أنواع الأدلة كما تقدمت الإشارة إلى بعض ذلك، فكيف يُقدح في هذا المعلوم الصحيح بذلك النفي الذي لم يقم على صحته دليل صحيح البتَّة!
الجواب الثامن: أن التسلسل إما أن يكون ممكنًا أو ممتنعًا، فإن كان ممكنًا بطل استدلالكم، وإن كان ممتنعًا أمكن أن يقال في دفعه: تنتهي المرادات إلى مراد لنفسه لا لغيره، وينقطع التسلسل.
الجواب التاسع: أن يقال: ما المانع أن تكون الفاعلية مُعلَّلة بعلة قديمة؟ قولكم: يلزم من قدمها قدم المعلول؛ ينتقض عليكم بالإرادة فإنها قديمة، ولم يلزم من قدمها قدم المراد.
فإن قلتم: الإرادة القديمة تعلقت بالمراد الحادث في وقت حدوثه، واقتضت وجوده حينئذ؛ فهلا قلتم: إن الحكمة القديمة تعلقت بالمراد وقت حدوثه، كما قلتم في الإرادة.
فإن قلتم: شأن الإرادة التخصيص، قيل لكم: وكذلك الحكمة شأنها تخصيص الشيء بزمانه ومكانه وصفته، فالتخصيص مصدره الحكمة والإرادة والعلم والقدرة، فإن لزم من قدم الحكمة قدم الفعل، لزم من قدم الإرادة قدمه، وإن لم يلزم ذاك لم يلزم هذا.
(2/180)
________________________________________
الجواب العاشر: أن يقال: لو لم يكن فعله لحكمة وغاية مطلوبة لم يكن مريدًا؛ فإن المريد لا يُعقَل كونه مريدًا إلا إذا كان يريد لغرض وحكمة، فإذا انتفت الحكمة والغرض انتفت الإرادة، ويلزم من انتفاء الإرادة أن يكون موجِبًا بالذات، وهو علة تامة في الأزل لمعلوله، فيلزم أن يقارنه جميع معلوله ولا يتأخر، فيلزم من ذلك قدم الحوادث المشهودة، وإنما لزم ذلك من انتفاء الحكمة والغرض المستلزم لنفي الإرادة، المستلزم للإيجاب الذاتي، المستلزم لقدم الحوادث، وتقرير هذا وبسطه في غير هذا الموضع.
فصل
قال نفاة الحكمة: جميع الأغراض يرجع حاصلها إلى شيئين: تحصيل اللذة والسرور، ودفع الألم والحزن والغم، والله سبحانه قادر على تحصيل هذين المطلوبين ابتداءً من غير شيء من الوسائط، ومَن كان قادرًا على تحصيل المطلوب ابتداءً بغير واسطة كان توسُّله إلى تحصيله بالوسائط عبثًا، وهو على الله محال.
قال أصحاب الحكمة: عن هذه الشبهة أجوبة:
الجواب الأول: أن يقال: لا ريب أن الله على كل شيء قدير، لكن لا يلزم إذا كان الشيء مقدورًا ممكنًا أن تكون الحكمة المطلوبة بوجوده يمكن تحصيلها مع عدمه؛ فالموقوف على الشيء يمتنع حصوله بدونه، كما يمتنع حصول الابن بكونه ابنًا بدون الأب، فإن وجود الملزوم بدون لازمه محال، والجمع بين الضدين محال.
ولا يقال: فيلزم العجز؛ لأن المحال ليس بشيء، فلا تتعلق به القدرة، والله على كل شيء قدير، فلا يَخرج ممكنٌ عن قدرته البتّة.
(2/181)
________________________________________
الجواب الثاني: أن دعوى كون توسّط أحد الأمرين إذا كان شرطًا في الآخر أو سببًا له عبث= دعوى كاذبة باطلة؛ فإنّ العبث هو الذي لا فائدة فيه، وأما توسّط الشرط أو السبب أو المادة التي يُحدِثُ فيها ما يُحدِثُه فليس بعبث.
يوضحه الجواب الثالث: أن حصول الأعراض والصفات التي يُحدِثُها الله سبحانه في موادّها مشروط بحصول تلك المواد، ولا يُتصوَّر وجودها بدونها، فتوسّطها أمر ضروري لابدّ منه، فنقلب عليكم دليلكم، ونقول: هل يقدر سبحانه على إيجاد تلك الحوادث بدون توسّط موادّها الحاملة لها أو لا يمكن؟
فإن قلتم: يمكن ذلك، كان توسّطها عبثًا، وإن قلتم: لا يقدر، كان تعجيزًا.
فإن قلتم: هذا فرض مستحيل، والمحال ليس بشيء.
قيل: صدقتم، وهذا جوابكم بعينه؛ فإن الموقوف على الشيء يمتنع حصوله بدونه، فلا يكون توسّطه عبثًا.
الجواب الرابع: أن يقال: إذا كان في خلق تلك الوسائط حِكَم أخرى تحصل بخلقها للفاعل، وفي خلقها مصالح ومنافع لتلك الوسائط= لم يكن توسّطها عبثًا، ولم تكن الحكمة الحاصلة بوجودها مساوية للحكمة الحاصلة (1) بعدمها.
_________
(1) من قوله: «بوجودها» إلى هنا ساقط من «د».
(2/182)
________________________________________
كما أنه سبحانه إذا جعل رزق بعض خلقه في التجارات مثلًا، فاقتضى ذلك أن يجلبوا البضائع إلى مَن يحتاج إليها، فينتفع هؤلاء بالبضائع وهؤلاء بالثمن= كان في ذلك مصلحة هؤلاء وهؤلاء.
وإذا تأملت الوجود رأيته قائمًا بذلك شاهدًا به على منكري الحكمة، فكم لله سبحانه في إحداث تلك الوسائط من حِكَم ومصالح ومنافع للعباد، لو بطلت تلك الوسائط لفاتت تلك الحِكَم والمصالح.
الجواب الخامس: قولك: «يلزم العبث وهو على الله محال»، فيقال: إن كان العبث عليه محالًا لزم أن لا يفعل ولا يأمر إلا لمصلحة وحكمة، فبطل قولك بقولك، وإن لم يكن العبث عليه محالًا بطلت هذه الحجة، فيتحقق بطلانها على التقديرين.
الجواب السادس: أن يقال: ما المانع أن يفعل سبحانه أشياء معلَّلة، وأشياء غير معلَّلة، بل مرادة لذاتها؟
وإذا جاز هذا جاز أن يقال: إن هذه الوسائط غير معلَّلة، ولا يمكنك نفي هذا القسم إلا بأن تقول: إن شيئًا من أفعاله غير معلَّل البتّة، وأنت إنما نفيت هذا بلزوم العبث في توسّط تلك الأمور، ولا يلزم من انتفاء التعليل في بعض الأفعال انتفاؤه في الجميع؛ فإنه لا يجب أن يكون كل شيء لعلة، فأنت نفيت جواز التعليل.
وغاية هذه الحجة ــ لو صحّت ــ أن تدل على أنه لا يجب في كل شيء أن يكون لعلة، فلمْ يلتقِ الحكم والدليل، وهذا كما يقول الفقهاء ــ مع قولهم بالتعليل ــ: إن من الأحكام ما هو تعبُّد غير معلَّل، فهلّا قلت في الخلق كقولهم في الأمر، وهذا إنما هو بطريق الإلزام، وإلا فالحق أن جميع أفعاله
(2/183)
________________________________________
وشرعه لها حِكَم وغايات لأجلها فَعَل وشَرَع، وإن لم يَعْلمها الخلق على التفصيل، فلا يلزم من عدم علمهم بها انتفاؤها في نفسها.
الجواب السابع (1): أن يقال: غاية هذه الشبهة أن يكون سبحانه قادرًا على تحصيل تلك الحِكَم بدون تلك الوسائط، كما هو قادر على تحصيلها بها، وإذا كان الأمران مقدوران له لم يكن العدول عن أحد المقدورَيْن إلى الآخر عبثًا، إلا إذا كان المقدور الآخر مساويًا لهذا من كل وجه.
ولا يمكن عاقلًا أن يقول: إن تعطيل تلك الوسائط وعدمها مساوٍ من كل وجه لوجودها. وهذا من أعظم البهت وأبطل الباطل، وهو يتضمن القدح في الحسّ والعقل والشرع، كما هو قدح في الحكمة؛ فإنّ مَنْ جعل وجود الرسل وعدمهم سواء، ووجود الشمس والقمر والنجوم والمطر والنبات والحيوان وعدمه سواء، ووجود هذه الوسائط جميعها وعدمها سواء= فلم يدع للمكابرة موضعًا.
الجواب الثامن: قولك: «جميع الأغراض يرجع حاصلها إلى شيئين: تحصيل اللذة، ودفع الهم والحزن»، أتريد به الغرض الذي يفعل لأجله الحيوان، أو الحكمة التي يفعل الله سبحانه لأجلها، أم تريد به ما هو أعم من ذلك؟
فإن أردت الأول لم يفدك شيئًا، وإن أردت الثاني أو الثالث كانت دعوى مجردة لا برهان عليها؛ فإن حكمة الربّ تعالى فوق تحصيل اللذة ودفع الغم والحزن، فإنه يتعالى عن ذلك، بل ليس كمثل حكمته شيء.
_________
(1) «د»: «السادس»، وتسلسل الخطأ فيما بعد من أجوبة.
(2/184)
________________________________________
كما أنه موصوف بالإرادة وليست كإرادة الحيوان؛ فإن الحيوان يريد ما يريده ليجلب له به منفعة أو يدفع به عنه مضرة، وكذلك غضبه سبحانه ليس مشابهًا لغضب خلقه؛ فإن غضب المخلوق هو غليان دم قلبه طلبًا للانتقام، والله يتعالى عن ذلك، وكذلك سائر صفاته.
فكما أنه ليس كمثله شيء في إرادته ورضاه وغضبه ورحمته وسائر صفاته؛ فهكذا حكمته سبحانه لا تماثل حكمة المخلوق، بل هي أجلّ وأعلى من أن يقال: إنها تحصيل لذة أو دفع حزن، فالمخلوق لنقصه يحتاج أن يفعل ذلك؛ لأن مصالحه لا تتم إلا به، والله سبحانه غني بذاته عن كل ما سواه، لا يستفيد من خلقه كمالًا، بل خلقه يستفيدون كمالهم منه.
الجواب التاسع: أن يقال: قد دلّ الوحي مع العقل على أنه سبحانه يحب ويبغض.
أما الوحي فالقرآن مملوء من ذلك، وأما العقل فما نشاهد في العالم من إكرام أوليائه وأهل طاعته، وإهانة أعدائه وأهل معصيته؛ شاهد لمحبته لهؤلاء ورضاه عنهم، وبغضه لهؤلاء وسخطه عليهم.
ومعلوم قطعًا أن من يحب ويبغض أكمل محبة وبغضًا، وهو قادر على تحصيل محابه، فإن حكمته فيما يفعله ويتركه أتم حكمة وأكملها، فهو يفعل ما يفعله لأنه يوصل إلى محابه، ويترك ما يتركه لأنه لا يحبه، وإذا فعل ما يكرهه لم يفعله إلا لإفضائه إلى ما يحب، وإن كان مكروهًا في نفسه.
فإن أردت باللذة والسرور والهم والحزن: الحبَّ والبغضَ فالربُّ تعالى يحب ويبغض، ولا يُطلَق عليه لذة ولا غم ولا حزن، تعالى الله عن ذلك.
(2/185)
________________________________________
وإن أردت حقائق تلك الألفاظ لم يلزم من كونه يفعل لحكمة أن يتصف بذلك.
الجواب العاشر: أنه سبحانه إذا كان قادرًا على تحصيل ذلك بدون الوسائط، وهو قادر على تحصيله بها= كان فعْل النوعين أكمل وأبلغ في القدرة، وأعظم في ملكه وربوبيته من كونه لا يفعل إلا أحد النوعين.
والربّ تعالى تتنوّع أفعاله لكمال قدرته وحكمته وربوبيته، فهو سبحانه قادر على تحصيل تلك الحكمة بواسطة إحداث مخلوق منفصل، وبدون إحداثه، بل بما يقوم به من أفعاله اللازمة وكلماته وثنائه على نفسه وحمده لنفسه، فمحبوبه يحصل بهذا وهذا، وذلك أكمل ممن لا يحصل محبوبه إلا بأحد النوعين.
الجواب الحادي عشر: أن الربّ سبحانه كامل في أوصافه وأسمائه وأفعاله، فلا بدّ من ظهور آثارها في العالم، فإنه محسن ويستحيل وجود الإحسان بدون من يحسن إليه، ورازق فلابدّ من وجود من يرزقه، وغفّار وحليم، وجواد وبَرّ، ولطيف بعباده، ومنّان ووهّاب، وقابض وباسط، وخافض ورافع، ومعزّ ومذلّ، وهذه الأسماء والصفات تقتضي متعلقات تتعلق بها، وآثارًا تتحقق بها، فلم يكن بدّ من وجود متعلقاتها، وإلا تعطلت تلك الأوصاف، وبطلت تلك الأسماء.
فتوسّط تلك الآثار لابدّ منه في تحقّق معاني تلك الأسماء والصفات، فكيف يقال: إنه عبث لا فائدة فيه؟! وبالله التوفيق.
فصل
قال نفاة الحكمة: لو وجب أن يكون خلْقه وأمره معلَّلًا بحكمة وغرض
(2/186)
________________________________________
لكان خلْقُ الله العالَمَ في وقت معين دون ما قبله ودون ما بعده معلّلًا برعاية غرض ومصلحة، ثم ذلك الغرض والمصلحة إما أن يقال: كان حاصلًا قبل ذلك الوقت، أو لم يكن حاصلًا قبله.
فإن كان ما لأجله أوجد الله العالم في ذلك الوقت حاصلًا قبل أن أوجده؛ فيلزم أن يقال: إنه كان موجِدًا له قبل أن لم يكن موجِدًا له، وذلك محال.
وإن قلنا: إن ذلك الغرض والمصلحة لم يكن حاصلًا قبل ذلك الوقت، وإنما حدث في ذلك الوقت، فنقول: حصول ذلك الغرض في ذلك الوقت إما أن يكون مفتقرًا إلى المحدِث أو لا يفتقر، فإن لم يفتقر فقد حدث الشيء لا عن موجِد ومحدِث، وهو محال، وإن افتقر إلى محدِث: فإن افتقر تخصيص إحداث ذلك الغرض بذلك الوقت إلى غرض آخر؛ عاد التقسيم الأول فيه، ولزم التسلسل، وإن لم يفتقر إلى رعاية غرض آخر؛ فحينئذ تكون موجِديّة الله سبحانه وخالقيّته غنية عن الأغراض والمصالح، وهذا هو المطلوب.
قالوا: وهذه الحجة كما أنها (1) قائمة في اختصاص العالم بذلك الوقت المعين فهي قائمة في اختصاص كل حادث من الحوادث بوقته المعين.
وملخصها: أنّ إحداث الحادث في وقته إن كان لغرض: فإن كان ذلك الغرض حاصلًا قبله لزم حدوثه قبل حدوثه، وإلا افتقر إلى الإحداث، فإحداثه إن كان لغرض يتسلسل، وإلا ثبت المطلوب.
قال أهل الحكمة: هذه الحجة بعينها مذكورة في ضمن الحجة الثانية
_________
(1) «د»: «كأنها».
(2/187)
________________________________________
التي تقدمت، وكأنكم يعجبكم التشبّع (1) بكثرة الباطل، وجميع ما أجبناكم به هناك فهو الجواب ههنا بعينه.
فغاية هذا أنه تسلسل في الآثار لا في المؤثِّرات، وتسلسل في الحوادث المستقبَلَة، وذلك جائز، بل واجب باتفاق المسلمين سوى قول الجهم (2) والعلّاف، وغاية الأمر أن يكون في الحوادث ما يراد لنفسه، وفيها ما يراد لغيره، والحكمة المطلوبة لنفسها لا تفتقر إلى أخرى تراد لأجلها.
وإن هذا الدليل لو صحت مقدماته ــ وهيهات ــ فإنما يدل على أن أفعاله تعالى لا يجب تعليلها، ولا يلزم من ذلك أن لا يجوز تعليلها، فنفي الوجوب شيء، ونفي الجواز شيء. فهب أنّا سلّمنا الأول، فأين دليل الثاني؟ وغايتها أنها تدل على عدم تعليل بعض الحوادث، لا على عدم تعليل جميعها.
وبالجملة فما تقدم هناك مُغْنٍ لنا عن الإطالة في الأجوبة.
وسر المسألة أن دوام فاعلية الربّ تعالى تُبْطِل هذه الشبهة من أصلها، وقد اتفق المسلمون على دوام فاعليته في المستقبل، والسلف على دوامها في الماضي، وإنما خالف في ذلك كثير من أهل الكلام.
فصل
قال نفاة الحكمة: قد قام الدليل على أنه سبحانه خالق كل شيء، فأي
_________
(1) «م»: «التشيع» معجمة، والمثبت من «د» أشبه.
(2) «م»: «الجهمية» تحريف؛ فإن القول بمنع تسلسل الحوادث في الماضي والمستقبل هو قول الجهم خلافًا لعامة أتباعه، انظر: «الصفدية» (1/ 11)، وينظر في حكاية الاتفاق أيضًا: «مجموع الفتاوى» (8/ 380)، «منهاج السنة» (1/ 146).
(2/188)
________________________________________
حكمة أو مصلحة في خلق الكفر والفسوق والعصيان؟
وأي حكمة في خلق مَنْ علم أنه يكفر ويفسق ويظلم، ويفسد الدنيا والدين؟
وأي حكمة في خلق كثير من الجمادات التي وجودها وعدمها سواء؟ وكذلك كثير من الأشجار والنبات والمعادن المعطلة، والحيوانات المهملة، بل العادية المؤذية؟
وأي (1) حكمة في خلق السموم والأشياء المضرة؟
وأي حكمة في خلق إبليس والشياطين، وإن كان في خلقهم حكمة فأي حكمة في إبقائه إلى آخر الدهر، وإماتة (2) الرسل والأنبياء؟
وأي حكمة في إخراج آدم وحواء من الجنة، وتعريض الذرية لهذا البلاء العظيم، وقد أمكن أن يكونوا في أعظم العافية؟
وأي حكمة في إيلام الحيوانات، وإن كان في إيلام المكلَّفين منها حكمة، فما الحكمة في إيلام غير المكلَّف، كالبهائم والأطفال والمجانين؟
وأي حكمة له في خلقه خلقًا يعذبهم بأنواع العذاب الدائم الذي لا ينقطع؟
وأي حكمة في تسليط أعدائه على أوليائه يسومونهم سوء العذاب: قتلًا وأسْرًا وعقوبة واستعبادًا؟
_________
(1) نهاية القطعة الموجودة من «ج».
(2) «م»: «وإهانة» تحريف.
(2/189)
________________________________________
وأي حكمة في تكليف الثقلين، وتعريضهما بالتكليف لأنواع المشاق والعذاب؟
قالوا: ونحن والعقلاء نعلم علمًا ضروريًا أن خلود أهل النار فيها فِعْلٌ لله، ونعلم ضرورة أنه لا فائدة في ذلك تعود إليه، ولا إلى المعذَّبين، ولا إلى غيرهم.
قالوا: ويكفينا في ذلك مناظرة الأشعري لابن هاشم الجبائي (1) حين سأله عن ثلاثة إخوة: مات أحدهم مسلمًا قبل البلوغ، وبلغ الآخران، فمات أحدهما مسلمًا، والآخر كافرًا، فاجتمعوا عند رب العالمين، فبلغ المسلم البالغ الرتبة العلية بعمله وإسلامه.
فقال أخوه: يا ربّ، هلّا رفعتني إلى منزلة أخي المسلم.
فقال: إنه عمل أعمالًا لم تعملها.
فقال: يا رب، فهلّا أحييتني حتى أعمل مثل عمله.
قال: علمتُ أن موتك صغيرًا خير لك؛ إذ لو بلغتَ لكفرت.
فصاح الأخ الثالث من أطباق الجحيم، وقال: يا ربّ، فهلّا أمتني صغيرًا قبل البلوغ كما فعلت بأخي.
فما جوابه؟
_________
(1) كذا في «د» كأنه سبق قلم من المؤلف، وهي مطموسة في «م»، صوابه: «لأبي علي الجبائي» كما في المصادر الآتية.
(2/190)
________________________________________
قال: فانقطع الشيخ، ولم يذكر جوابًا (1).
قال نفاة الحكمة: وهذا قاطع في المسألة لا غبار عليه، وقد قال تعالى: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} [العنكبوت: 21]، وقال: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 284]، وقال تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23]، فردَّ الأمر إلى محض مشيئته، وأخبر أن صدور الأشياء كلها عنها.
وقالوا: وأصل ضلال الخلق هو طلب تعليل أفعال الربّ، كما قال شيخ الإسلام في «تائيته»:
وأصل ضلال الخلق من كل فرقةٍ ... هو الخوض في فعل الإله بعلّةِ (2)
فإنهم لما طلبوا علّة أفعاله فأعجزهم العلم بها افترقوا بعد ذلك، فطائفة (3) ردت الأمر إلى الطبيعة والأفلاك، وطائفة التزمت مكابرة الحس (4) والعقل، وقالوا: إن خلود أهل النار في النار أنفع لهم وأصلح من كونهم في الجنة، وإن إبقاء إبليس يغوي الخلق ويضلهم أنفع لهم من إماتته، وإن إماتة الأنبياء أصلح للأمم من إبقائهم بينهم، وإن تعذيب الأطفال خير لهم من رحمتهم!
_________
(1) انظر: «وفيات الأعيان» (4/ 267)، «منهاج السنة» (3/ 198).
(2) «التائية» (111).
(3) في الأصول: «وطائفة»، والمثبت أليق بالسياق.
(4) «م»: «الخبر».
(2/191)
________________________________________
إلى غير ذلك من المحالات التي قادهم إليها الخوض في تعليل أفعال من لا يُسأل عما يفعل.
فلذلك قلنا: إن الصواب القول بعدم التعليل، وتخلصنا من الحبائل والأشراك التي وقعتم فيها.
قال أهل الحكمة: ليست هذه الأسئلة والاعتراضات التي قدحتم بها في حكمة أحكم الحاكمين بأقوى من الأسئلة والاعتراضات التي قدح بها أهل الإلحاد في وجوده سبحانه، وقد أقاموا أربعين شبهة تنفي وجوده. وكذلك اعتراضات المكذبين لرسله، وقد حكيتم أنتم عنهم ثمانين اعتراضًا. وكذلك الاعتراضات التي قدح بها المعطلة في إثبات صفات كماله، قد علمتم شأنها وكثرتها. وكذلك الاعتراضات التي نفي بها الجهمية علوّه على خلقه، واستواءه على عرشه، وتكلّمه بكتبه وتكليمه لعباده. ولقد علمتم الاعتراضات التي اعترض بها أهل الفلسفة على كونه خالقًا للعالَم في ستة أيام، وعلى كونه يقيم الناس من قبورهم ويبعثهم إلى دار السعادة والشقاء، ويبدّل هذا العالم ويأتي بغيره. واعتراضات هؤلاء وأسئلتهم أضعاف اعتراضات نفاة حكمته وغايات أفعاله المقصودة، وكذلك اعتراضات نفاة القدر وأسئلتهم إلى غير ذلك.
وقد اقتضت حكمةُ أحكم الحاكمين أن أقام في هذا العالم لكل حق جاحدًا، ولكل صواب معاندًا، كما أقام لكل نعمة حاسدًا، ولكل شر رائدًا، وهذا من تمام حكمته الباهرة، وقدرته القاهرة؛ ليتم عليهم كلمته، وينفذ فيهم مشيئته، ويُظهر فيهم حكمته، ويقضي بينهم بحكمه، ويفاضل بينهم بعلمه، ويُظهر فيهم آثارَ صفاته العليا وأسمائه الحسنى، ويتبين لأوليائه وأعدائه يوم
(2/192)
________________________________________
لقائه أنه لم يُخِلّ بحكمة، ولم يخلق خلقه عبثًا، ولا تركهم سُدى، وأنه لم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلًا، وأن له الحمد التام الكامل على جميع ما خلقه وقدره وقضاه، وعلى ما أمر به ونهى عنه، وعلى ثوابه وعقابه، وأنه لم يضع من ذلك شيئًا إلا في محلّه الذي لا يليق به سواه.
قال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا} [النحل: 38 - 39].
وإذا تبين ذلك لأهل الموقف، ونفذ فيهم قضاؤه الفصل، وحكمه العدل؛ نطق الكونُ أجمعُه بحمده، كما قال تعالى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)} [الزمر: 75].
وجواب هذه الأسئلة من وجوه:
أحدها: أن الحكمة إنما تتعلّق بالحدوث والوجود، والكفر والشرور وأنواع المعاصي راجعة إلى مخالفة نهي الله ورسوله، وترْك ما أمر به، وليس ذلك من متعلَّق الإيجاد في شيء، ونحن إنما التزمنا أن ما فعله الله وأوجده فله فيه حكمة وغاية مطلوبة، وأما ما تركه سبحانه ولم يفعله فإنه وإن كان إنما تركه لحكمة في ذلك فلم يدخل في كلامنا، فلا يرد علينا.
وقد قدمنا: أن الشر ليس إليه بوجه؛ فإنه عدَم الخير وأسبابه، والعدَم ليس بشيء كاسمه.
فإذا قلنا: إن أفعال الرب تعالى واقعة لحكمة وغاية محمودة؛ لم يرد علينا ترْكه.
(2/193)
________________________________________
يوضحه الجواب الثاني: وهو أنه سبحانه قد يترك ما لو خلقه لكان في خلقه له حكمة، فيتركه لعدم محبته لوجوده، أو لكون وجوده يضاد ما هو أحب إليه، أو لاستلزام وجوده فواتَ محبوب له آخر، وعلى هذا فتكون حكمته في عدم خلقه أرجح من حكمته في خلقه، والجمع بين الضدين مستحيل، فيرجِّح سبحانه أعلى الحكمتين بتفويت أدناهما، وهذا غاية الحكمة، فخلْقه وأمْره مبني على تحصيل المصالح الخالصة أو الراجحة بتفويت المرجوحة التي لا يمكن الجمع بينها وبين تلك الراجحة، وعلى دفع المفاسد الخالصة أو الراجحة وإن وُجِدت المفاسد المرجوحة التي لا يمكن الجمع بين عدمها وعدم تلك الراجحة، وخلاف هذا هو خلاف الصواب والحكمة.
الجواب الثالث: أن يقال: غاية ذلك انتفاء الحكمة في هذا النوع من المقدورات، أفيلزم من ذلك انتفاؤها في جميع خلقه وحكمه؟
فهب أن هذا النوع لا حكمة فيه، فمن أين يستلزم ذلك نفي الحكمة والغرض في كل شيء؟ كيف وفيه من الحِكَم والغايات المحمودة ما هو معلوم لأهل البصائر الراسخين في العلم، كما سننبه على اليسير منه إن شاء الله.
الجواب الرابع: أنّا لم نَدّعِ حكمة يجب أو يمكن اطّلاع الخلق على تفاصيلها؛ فإن حكمة الله أعظم وأجل من ذلك، فما المانع من اشتمال ما ذكرتم من الصور وغيرها على حِكَم جمّة ينفرد الله بعلمها، كما قال لملائكته وقد سألوه عن ذلك: {إِنِّيَ أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]، فمن يقول بلزوم الحكمة لأفعاله وأحكامه مطلقًا لا يوجب مشاركة خلقه له في العلم بها.
(2/194)
________________________________________
الجواب الخامس: أن الله سبحانه ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فله في جميع ما ذكرتم وغيره حكمة ليست من جنس الحكمة التي للمخلوقين، كما أن فعله ليس مماثلًا لفعلهم، ولا قدرته وإرادته ومشيئته ومحبته ورضاه وغضبه مماثلًا لصفات المخلوقين.
الجواب السادس: أن الحكمة تابعة للعلم والقدرة، فمن كان أعلم وأقدر كانت أفعاله أحكم وأكمل، والربُّ تعالى منفرد بكمال العلم والقدرة، فحكمته بحسب علمه وقدرته، كما تقدم تقريره، فحكمته متعلقة بكل ما تعلق به علمه وقدرته.
الجواب السابع: أن الأدلة القاطعة قد قامت على أنه حكيم في أفعاله وأحكامه، فيجب القول بموجِبها، وعدم العلم بحكمته في الصور المذكورة لا يكون مسوّغًا لمخالفة تلك الأدلة القاطعة، لاسيما وعدم العلم بالشيء لا يستلزم العلم بعدمه.
الجواب الثامن: أن كماله المقدس يمنع خلو هذه الصور ــ التي نقضتم بها ــ عن الحكمة، وكماله أيضًا يأبى اطّلاع خلقه على جميع حكمته، فحكمته تمنع اطّلاع خلقه على جميع حكمته، بل الواحد منا لو أَطْلع غيرَه على جميع شأنه وأمْره عُدّ سفيهًا جاهلًا، وشأن الربّ تعالى أعظم من أن يُطْلِع كل واحد من خلقه على تفاصيل حكمته.
الجواب التاسع: أنكم إما أن تعترفوا بأن له حكمة في شيء من خلقه وأمره، أو تنكروا أن يكون له في شيء من خلقه وأمره حكمة، فإن أنكرتم ذلك ــ وما هو من الظالمين ببعيد ــ كذّبتم جميع كتب الله ورسله والعقل والفطرة والحس، وكذّبتم عقولكم قبل تكذيب العقلاء لكم؛ فإنّ جَحْد
(2/195)
________________________________________
حكمة الله الباهرة في خلقه وأمره بمنزلة جَحْد الشمس والقمر والليل والنهار، وغير مستنكر لكثير من طوائف أهل الكلام المكابرة في جَحْد الضروريات.
وإن أقررتم بحكمته في بعض خلقه وأمره قيل لكم: فأي الأمرين (1) أولى به: وجود تلك الحكمة أم عدمها؟
فإن قلتم: عدمها أولى من وجودها؛ كان هذا غاية الكذب والبهت والمحال.
وإن قلتم: وجودها أكمل؛ قيل: فهل هو قادر على تحصيلها في جميع خلقه وأحكامه، أم غير قادر؟
فإن قلتم: غير قادر؛ جئتم بالعظيمة في العقل والدين، وانسلختم من عقولكم وأديانكم.
وإن قلتم: بل هو قادر على ذلك؛ قيل: فإذا كان قادرًا على شيء وهو كمال في نفسه، ووجوده خير من عدمه، وهو أولى به= فكيف يجوز نفيه عنه؟
فإن قلتم: إنما نفيناه لأنا لم نطلع على حقيقته؛ قيل: صدقتم، هذا والله شأنكم في جميع ما تنفونه عن الله، إنما مستندكم في نفيه عدم الاطلاع على حقيقته، ولم تكتفوا بقبول قول الرسل، فصرتم إلى النفي.
الجواب العاشر: أن العقلاء قاطبة متفقون على أن الفاعل منهم إذا فعل
_________
(1) «م»: «الكفرين».
(2/196)
________________________________________
أفعالًا ظهرت فيها حكمته، ووقعت على أتم الوجوه وأوفقها للمصالح المقصودة بها، ثم رأوا أفعاله قد تكرّرت كذلك، ثم جاءهم من أفعاله ما لا يعلمون وجه حكمته فيه= لم يسعهم غير التسليم لِمَا عرفوا من حكمته، واستقرَّ في عقولهم منها، وردّوا متشابه ما جهلوه إلى مُحكَم ما علموه.
هكذا نجد أرباب كل صناعة مع أستاذهم، حتى إن النفاة يسلكون هذا المسلك بعينه مع أئمتهم وشيوخهم، فإذا جاءهم إشكالٌ على قواعد أئمتهم ومذاهبهم، قالوا: هم أعلم منا، وهم فوقنا في كل علم ومعرفة وحكمة، ونحن معهم كالصبي مع معلمه وأستاذه.
فهلّا سلكوا هذا السبيل مع ربهم وخالقهم الذي بهرت حكمته العقول، وكان نسبتها إلى حكمته أقل (1) من نسبة عين الخُفّاش إلى جرم الشمس.
ولو أنّ العالِم الفاضل المبرَّز في علوم كثيرة اعترض على من لم يشاركه في صنعته، ولا هو من أهلها، وقدح في أوضاعها= لخرج (2) عن موجِب العقل والعلم، وعُدّ ذلك منه نقص وسفه، فكيف بأحكم الحاكمين، وأعلم العالمين، وأقدر القادرين؟!
الجواب الحادي عشر: أن الحكمة إنما تتم بخلْق المتضادّات والمتقابلات، كالليل والنهار، والعلو والسفل، والطيّب والخبيث، والخفيف والثقيل، والحلو والمر، والحرّ والبرد، والألم واللذة، والحياة والموت، والداء والدواء، فخلْق هذه المتقابلات هو محل ظهور الحكمة الباهرة، كما
_________
(1) «د»: «أولى».
(2) تحرفت في الأصول إلى: «يخرج» مهملة الأول.
(2/197)
________________________________________
هو محل ظهور القدرة القاهرة، والمشيئة النافذة، والملك الكامل التام.
فتوهُّم تعطيل خلْق هذه المتضادّات تعطيل لمقتضيات تلك الصفات وأحكامها وآثارها، وذلك عين المحال؛ فإن لكل صفة من الصفات العليا حُكمًا ومقتضى وأثرًا هو مظهر كمالها، وإن كانت كاملة في نفسها، لكن ظهور آثارها وأحكامها من كمالها، فلا يجوز تعطيله؛ فإن صفة القادر تستدعي مقدورًا، وصفة الخالق تستدعي مخلوقًا، وصفة الوهّاب، الرازق، المعطي، المانع، الضار، النافع، المقدِّم، المؤخِّر، المعزّ، المذلّ، العفو، الرؤوف= تستدعي آثارها وأحكامها.
فلو عُطِّلتْ تلك الصفات عن المخلوق المرزوق، المغفور له، المرحوم، المعفو عنه؛ لم يظهر كمالها، وكانت معطَّلة عن مقتضياتها وموجَباتها، فلو كان الخلق كلهم مطيعون عابدون حامدون لتعطل أثر كثير من الصفات العُلى والأسماء الحسنى.
وكيف كان يظهر أثر صفة العفو، والمغفرة، والصفح، والتجاوز، والانتقام، والعز، والقهر، والعدل، والحكمة التي تنزل الأشياء منازلها، وتضعها مواضعها؟
فلو كان الخلق كلهم أمة واحدة لفاتت الحِكَم والآيات، والعبر والغايات المحمودة في خلقهم على هذا الوجه، وفات كمال المُلْك والتصرف؛ فإن المَلِك إذا اقتصر تصرّفه على مقدور واحد من مقدوراته: فإما أن يكون عاجزًا عن غيره؛ فيتركه عجزًا، أو جاهلًا بما في تصرفه في غيره من المصلحة؛ فيتركه جهلًا، وأما أقدر القادرين، وأعلم العالمين، وأحكم الحاكمين؛ فتصرفه في مملكته لا يقف على مقدور واحد؛ لأن ذلك نقص في ملكه.
(2/198)
________________________________________
فالكمال كل الكمال في العطاء والمنع، والخفض والرفع، والثواب والعقاب، والإكرام والإهانة، والإعزاز والإذلال، والتقديم والتأخير، والضر والنفع، وتخصيص هذا على هذا، وإيثار هذا على هذا، ولو فَعَل هذا كله بنوع واحد متماثل الأفراد لكان ذلك منافيًا لحكمته، وحكمته تأباه كل الإباء؛ فإنه لا يفرِّق بين متماثلَيْن، ولا يُسوِّي بين مختلفَيْن.
وقد عاب على من يفعل ذلك، وأنكر على من نسبه إليه، والقرآن مملوء من عيبه على من يفعل ذلك، فكيف يَجْعل له العبيدُ ما يكرهون، ويضربون له مَثَلَ السَّوْء!
وقد فطر الله عباده على إنكار ذلك من بعضهم على بعض، وطَعْنهم على من يفعله، وكيف يعيب الربّ سبحانه من عباده شيئًا ويتصف به! وهو سبحانه إنما عابه لأنه نقص، فهو أولى أن ينزَّه عنه.
وإذا كان لابدّ من ظهور آثار الأسماء والصفات، ولا يمكن ظهور آثارها إلا في المتقابلات والمتضادات= لم يكن بُدّ في الحكمة من إيجادها؛ إذ لو فُقِدت لتعطلت أحكام تلك الصفات، وهو محال.
يوضحه الوجه الثاني عشر: أن من أسمائه الأسماء المزدوجة: كالمعزّ المذل، والخافض الرافع، والقابض الباسط، والمعطي والمانع، ومن صفاته الصفات المتقابلة: كالرضا والسخط، والحب والبغض، والعفو والانتقام، وهذه صفات كمال، وإلا لم يتصف بها، ولم يتسَمَّ بأسمائها.
وإذا كانت صفات كمال: فإما أن يعطل مقتضاها وموجَبها، وذلك يستلزم تعطيلها في أنفسها، وإما أن تتعلق بغير محلها الذي يليق بأحكامها، وذلك نقص وعيب يتعالى عنه، فتعيّن تعلّقها بمحالها التي تليق بها.
(2/199)
________________________________________
وهذا وحده كافٍ في الجواب لمن كان له تفقّه (1) في باب الأسماء والصفات، ولا عبرة بغيره.
يوضحه الوجه الثالث عشر: أن من أسمائه: المَلِك، ومعنى المُلْك الحقيقي ثابت له سبحانه بكل وجه، وهذه الصفة تستلزم سائر صفات الكمال؛ إذ من المحال ثبوت المُلْك الحقيقي التام لمن ليس له حياة، ولا قدرة، ولا إرادة، ولا سمع، ولا بصر، ولا كلام، ولا فعل اختياري يقوم به.
وكيف يوصَف بالمُلْك مَنْ لا يأمر ولا ينهى، ولا يثيب ولا يعاقب، ولا يعطي ولا يمنع، ولا يعز ويذلّ، ويهين ويكرم، وينعم وينتقم، ويخفض ويرفع، ويرسل الرسل إلى أقطار مملكته، ويتقدم إلى عبيده بأوامره ونواهيه؟ فأي مُلْك في الحقيقة لمن عَدِم ذلك.
وبهذا يتبين أن المعطلين لأسمائه وصفاته جعلوا مماليكه أكمل منه، ويأنف أحدهم أن يقال في مُلْكه وأمْره (2) ما يقوله هو في ربه، فصفة مُلْكه الحق مستلزمة لوجود ما لا يتم التصرف إلا به، والكل منه سبحانه، فلم يتوقف كمال ملكه على غيره؛ فإن كل ما سواه مستند إليه، متوقف في وجوده على مشيئته وخلقه.
يوضحه الوجه الرابع عشر: أن كمال ملكه بأن يكون مقارنًا لحمده، فله المُلْك وله الحمد.
والناس في هذا المقام ثلاث فرق:
_________
(1) «د»: «فقه».
(2) «د»: «وأميره».
(2/200)
________________________________________
فالرسل وأتباعهم أثبتوا له المُلْك والحمد، وهذا مذهب من أثبت له القدر والحكمة وحقائق الأسماء والصفات، ونزّهَه عن النقائص ومشابهة المخلوقات، ويوحشك (1) في هذا المقام جميع الطوائف غير أهل السنة، الذين لم يتحيزوا إلى نحلة ولا مقالة ولا متبوع من أهل الكلام.
الفرقة الثانية: الذين أثبتوا له المُلْك، وعطّلوا حقيقة الحمد، وهم الجبرية نفاة الحكمة والتعليل، القائلين (2) بأنه يجوز عليه كل ممكن، ولا يُنزَّه عن فعل قبيح، بل كل ممكن فإنه لا يقبح منه، وإنما القبيح المستحيل لذاته، كالجمع بين النقيضين، فيجوز عليه تعذيب ملائكته وأنبيائه ورسله وأهل طاعته، وإكرام إبليس وجنوده، وجعْلهم فوق أوليائه في النعيم المقيم أبدًا. ولا سبيل لنا إلى العلم باستحالة ذلك إلا من نفي الخُلْف في خبره فقط.
فيجوز عندهم أن يأمر بمسبّته ومسبَّة أنبيائه، والسجود للأصنام، وبالكذب والفجور، وسفك الدماء، ونهب الأموال، وينهى عن البر والصدق والإحسان والعفاف.
ولا فرق في نفس الأمر بين ما أمر به ونهى عنه إلا التحكم بمحض المشيئة (3)، وأنه أَمَر بهذا ونهى عن هذا من غير أن يكون فيما أَمَر به صفةُ حُسْنٍ تقتضي محبته والأمر به، ولا فيما نهى عنه صفةُ قُبْحٍ تقتضي كراهته والنهي عنه.
_________
(1) «م»: «ويوحد»، ومادة (وحش) تدل على خلاف الأنس، «مقاييس اللغة» (6/ 91).
(2) كذا في الأصول بالنصب: «القائلين»، ولها وجه في العربية بالنصب على الاختصاص، والجادة: «القائلون».
(3) «م»: «لمحض المشيئة».
(2/201)
________________________________________
فهؤلاء عطَّلوا حمده في الحقيقة، وأثبتوا له مُلْكًا بلا حمد، مع أنهم في الحقيقة لم يثبتوا له ملكًا؛ فإنهم جعلوه مُعطّلًا في الأزل والأبد، لا يقوم به فعل البتّة، وكثير منهم عطّله عن صفات الكمال التي لا يتحقق كونه مَلِكًا وربًّا وإلهًا إلا بها، فلا مُلْك أثبتوا ولا حمد!
الفرقة الثالثة: أثبتوا له نوعًا من الحمد، وعطلوا كمال مُلْكه، وهم القدرية الذين أثبتوا نوعًا من الحكمة، ونفوا لأجلها كمال قدرته، فحافظوا على نوع من الحمد عطّلوا له كمال المُلْك، وفي الحقيقة لم يثبتوا لا هذا ولا هذا؛ فإن الحكمة التي أثبتوها جعلوها راجعة إلى المخلوق، لا يعود إليه سبحانه حكمها، والمُلْك الذي أثبتوه فإنهم في الحقيقة إنما قرّروا نفيه بنفي قيام الصفات التي لا يكون مَلِكًا حقًّا إلا بها، ونفي قيام الأفعال الاختيارية، فلم يقم به عندهم وصف ولا فعل، وهذا غاية النفي لمُلْكه وحمده؛ فإن من لا تقوم به قدرة (1) ولا إرادة ولا كلام ولا سمع ولا بصر ولا فعل (2)، ولا له حب ولا بغض= معطّل عن حقيقة المُلْك والحمد.
والمقصود أن عموم مُلْكه يستلزم إثبات القدر، وأن لا يكون في مُلْكه شيء بغير مشيئته، فالله أكبر من ذلك وأجلُّ، وعموم حمده يستلزم أن لا يكون في خلقه وأمره ما لا حكمة فيه، ولا غاية محمودة يفعل لأجلها، ويأمر لأجلها، فالله أكبر وأكمل (3) من ذلك.
_________
(1) من قوله: «وهذا غاية» إلى هنا ساقط من «د».
(2) «ولا فعل» من «د».
(3) «د»: «وأجل».
(2/202)
________________________________________
يوضحه الوجه الخامس عشر: أنّ مجرد الفعل من غير قصد ولا حكمة ولا مصلحة يقصده الفاعل لأجلها لا يكون متعلَّقًا للحمد، فلا يُحمد عليه، حتى لو حصلت به مصلحة من غير قصد الفاعل لحصولها لم يستحق الحمد عليها، كما تقدم تقريره.
بل الذي يقصد الفعل لمصلحة وحكمة وغاية محمودة وهو عاجز عن تنفيذ مراده أحق بالحمد مِنْ قادر لا يفعل لحكمة ولا لمصلحة ولا لقصد الإحسان، هذا المستقر في فِطَر الخلق.
والربّ سبحانه حمده قد ملأ السماوات والأرض وما بينهما وما بعد ذلك، فملأ العالم العلوي والسفلي والدنيا والآخرة، ووسع حمده ما وسع علمه، فله الحمد التام على جميع ما خلقه، وعلى جميع ما حكم به كونًا ودينًا.
فلم يوجد مخلوق إلا بحمده (1)، ولا حُكِم بحكم إلا بحمده، ولا قامت السماوات والأرض إلا بحمده، ولا تحركت ذرة فما فوقها إلا بحمده، ولا نزلت قطرة إلا بحمده (2)، ولا تحوّل شيء في العالم العلوي والسفلي من حال إلى حال إلا بحمده، ولا تحركت الأفلاك إلا بحمده، ولا أطيع إلا بحمده، ولا عُصِي إلا بحمده، ولا دخل أهلُ الجنةِ الجنةَ وأهلُ النارِ النارَ إلا بحمده، كما قال الحسن رحمة الله عليه: «لقد دخل أهل النار النار وإنّ حمده لفي قلوبهم، ما وجدوا عليه سبيلًا» (3).
_________
(1) من قوله: «وعلى جميع» إلى هنا ساقط من «د».
(2) من قوله: «ولا تحركت» إلى هنا ساقط من «د».
(3) أسنده أبو نعيم في «الحلية» (6/ 198) بقريب منه.
(2/203)
________________________________________
وهو سبحانه إنما أنزل الكتاب بحمده، وأرسل الرسل بحمده، وأمات خلقه بحمده، ويحييهم بحمده، ولهذا حمد نفسه على ربوبيته الشاملة لذلك كله فـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]، وحمد نفسه على إنزال كتابه فـ {أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ} [الكهف: 1]، وحمد نفسه على خلق السماوات والأرض {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1]، وحمد نفسه على كمال ملكه {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهْوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سبأ: 1].
فحَمْدُهُ ملأ الزمان والمكان والأعيان، وعَمَّ الأحوال (1) كلها {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 17 - 18].
وكيف لا يُحمد على خلقه كله وهو {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} [السجدة: 7]، وعلى صُنْعه وقد أتقنه {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88]، وعلى أمره وكلُّه حكمة ورحمة وعدل ومصلحة، وعلى نهيه وكلُّ ما نهى عنه شرٌّ وفساد، وعلى ثوابه وكلُّه رحمة وإحسان، وعلى عقابه وكلُّه عدل وحق، فلله الحمد كله، وله الملك كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله.
والمقصود أنه كلما كان الفاعل أعظم حكمة كان أعظم حمدًا، وإذا عَدِم الحكمة ولم يقصدها بفعله وأمره عَدِم الحمد.
الوجه السادس عشر: أنه سبحانه يحب أن يُشكر، ويجب أن يُشكر عقلًا
_________
(1) «د»: «الأقوال».
(2/204)
________________________________________
وشرعًا وفطرةً، فوجوب شكره أظهر من وجوب كل واجب.
وكيف لا يجب على العباد حمده وتوحيده ومحبته وذكر آلائه وإحسانه وتعظيمه وتكبيره والخضوع له والتحدّث بنعمه والإقرار بها بجميع طرق الوجوب!
فالشكر أحب شيء إليه وأعظم ثوابًا، وله خَلَق الخلق، وأَنزَل الكتب، وشَرَع الشرائع.
وذلك يستلزم خلق الأسباب التي يكون الشكر بها أكمل، ومن جملتها أن فاوت بين عباده في صفاتهم الظاهرة والباطنة في خلقهم وأخلاقهم وأديانهم وأرزاقهم ومعايشهم وآجالهم، فإذا رأى المعافى المُبْتَلَى، والغنيُّ الفقيرَ، والمؤمنُ الكافرَ= عظم شكرُه لله، وعرف قدر نعمته عليه، وما خصَّه به وفضَّله به على غيره؛ فازداد شكرًا وخضوعًا واعترافًا بالنعمة.
وفي أثرٍ ذَكَره الإمام أحمد في «الزهد» أن موسى عليه السلام قال: «يا ربّ، هلّا سوّيتَ بين عبادك؟ قال: إني أحببت أن أُشْكر» (1).
فإن قيل: فقد كان في المُمْكِن أن يسوّي بينهم في النعم، ويسوّي بينهم في الشكر، كما فعل بالملائكة!
قيل: لو فعل ذلك لكان الحاصل من الشكر نوع آخر، غير النوع الحاصل منه على هذا الوجه، والشكر الواقع على التفضيل والتخصيص أعلى وأفضل من غيره.
_________
(1) تقدم الكلام عليه (2/ 178).
(2/205)
________________________________________
ولهذا كان شُكْرُ الملائكة وخضوعُهُم وذلُّهم لعظمته وجلاله بعد أن شاهدوا من إبليس ما جرى له، ومن هاروت وماروت ما شاهدوه= أعلى وأكمل مما كان قبله، وهذه حكمة الربّ تعالى.
وكذلك شُكْر الأنبياء عليهم السلام وأتباعِهِم كان بعد أن عاينوا هلاك أعدائهم، وانتقام الرب منهم، وما أنزل بهم من بأسه.
وكذلك شُكْر أهل الجنة في الجنة وهم يشاهدون أعداءه المكذبين لرسله، المشركين به في ذلك العذاب العظيم، فلا ريب أن شكرهم حينئذ ورضاهم ومحبتهم لربهم أكمل وأعظم مما لو قَدّر اشتراكَ جميعِ الخلق في النعيم، فالمحبة الحاصلة من أوليائه له، والرضا والشكر وهم يشاهدون بني جنسهم في ضد ذلك من كل وجه= أكمل وأتم.
فالضدُّ يُظهر حُسْنَهُ الضّدُّ (1)
وبضدِّها تتبيَّن الأشياءُ (2)
ولولا خَلْقُ القبيح لما عُرِفت فضيلةُ الجمال والحُسْن، ولولا خَلْقُ
_________
(1) عجز بيت من قصيدة شهيرة عُرِفت باليتيمة (30)، وقد اختلفت العلماء في نسبتها على أقوال، ورجح المنجد في مقدمة تحقيقه للقصيدة (14) جهالة قائلها، وصدر البيت:
ضِدّان لما استجمعا حَسُنا
(2) عجز بيت للمتنبي، قيل: إنه مأخوذ من البيت السابق، كما في «الديوان بشرح الواحدي» (197)، وصدره:
ونذمّهم وبهم عرفنا فضله
(2/206)
________________________________________
الظلام لما عُرِفت فضيلةُ النور، ولولا خَلْقُ أنواع البلاء لما عُرِف قَدْرُ العافية، ولولا الجحيمُ لما عُرِف قدرُ الجنة، ولو جَعَل الله سبحانه النهار سَرْمدًا لما عُرِف قدْرُهُ، ولو جَعَل الليل سَرْمدًا لما عُرِف قدْرُهُ.
وأعرف الناس بقدر النعمة من ذاق البلاء، وأعرفهم بقدر الغنى من قاسى مرائر الفقر والحاجة، ولو كان الناس كلهم علماء لما عُرِفت فضيلةُ العلم وقدرُهُ، ولو كانوا كلهم (1) أغنياء لما عُرِفت فضيلةُ الغنى، ولو كانوا كلهم على صورة واحدة من الجمال لما عُرِف قدرُ الجمال، وكذلك لو كانوا كلهم مؤمنين لما عُرِف قدرُ الإيمان والنعمة به.
فتبارك مَنْ له في خلقه وأمره الحِكَمُ البوالغ، والنِّعَمُ السوابغ.
يوضحه الوجه السابع عشر: أنه سبحانه يحب أن يُعبد بأنواع العبودية، ومن أعلاها وأجلها عبودية الموالاة فيه والمعاداة فيه، والحب فيه والبغض فيه، والجهاد في سبيله، وبذْلُ مُهَج النفوس في مرضاته ومغاضبة أعدائه.
وهذا النوع هو ذروة سنام العبودية وأعلى مراتبها، وهو أحب أنواعها إليه، وهو موقوف على ما لا يحصل بدونه مِنْ خَلْق الأرواح التي تواليه وتشكره وتؤمن به، والأرواح التي تعاديه وتكفر به، وتسليط بعضها على بعض؛ لتحصل بذلك محابُّه على أتم الوجوه، وتُقرِّب أولياءه إليه بجهاد أعدائه ومغاضبتهم فيه وإذلالهم وكبْتهم ومخالفة سبيلهم، فتعلو كلمته ودعوته على كلمة الباطل ودعوته، ويتبين بذلك شرف علوها وظهورها.
_________
(1) من قوله: «علماء» إلى هنا ساقط من «م».
(2/207)
________________________________________
ولو لم يكن للباطل والكفر والشرك وجود فعلى أي شيء كانت كلمته ودعوته تعلو؟ فإن العلو أمر نسبي يستلزم عاليًا وما يُعلى عليه، وعلو الشيء على نفسه محال، والموقوف على الشيء لا يحصل بدونه.
يوضحه الوجه الثامن عشر: أن من عبوديته: العتق والصدقة والإيثار والمواساة والعفو والصفح والصبر وكظم الغيظ واحتمال المكاره، ونحو ذلك مما لا يتم إلا بوجود متعلَّقه وأسبابه، فلولا الرقّ لم تحصل عبودية العتق، والرقّ من أثر الكفر، ولولا الظلم والإساءة والعدوان لم تحصل عبودية الصبر والعفو والمغفرة وكظم الغيظ، ولولا الفقر والحاجة لم تحصل عبودية الصدقة والإيثار والمواساة، فلو ساوى بين خلقه جميعهم لتعطّلت هذه العبوديات التي هي أحب شيء إليه، ولأجلها خَلَق الجن والإنس، ولأجلها شرع الشرائع، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل، وخلق الدنيا والآخرة.
كما أن ذلك من صفات كماله، فلو لم يقدّر الأسباب التي يحصل بها ذلك لفات هذا الكمال، وتعطّلت أحكام تلك الصفات كما مرّ.
يوضحه الوجه التاسع عشر: أنه سبحانه يفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه أعظم فرح يُقدَّر، أو يخطر ببال، أو يدور في خَلَد، وحصول هذا الفرح موقوف على التوبة، الموقوفة على وجود ما يتاب منه، وما يتوقف عليه الشيء لا يوجد بدونه؛ فإن وجود الملزوم بدون لازمه محال، ولا ريب أن وجود هذا الفرح أكمل من عدمه، فمن تمام الحكمة تقدير أسبابه ولوازمه.
وقد نَبَّه أعلم الخلق بالله على هذا المعنى بعينه، حيث يقول في الحديث الصحيح: «لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، ثم يستغفرون؛
(2/208)
________________________________________
فيغفر لهم» (1).
فلو لم يُقدِّر الذنوب والمعاصي فلمَنْ يغفر، وعلى مَنْ يتوب، وعمّن يعفو، ولمن يسامح ويعتق، ويُسقِط حقّه، ويُظهِر فضله وحلمه وجوده وكرمه، وهو واسع المغفرة، فكيف يعطّل هذه الصفة؟
أم كيف تتحقق بدون ما يُغْفَر، ومَنْ يغفر له، ومَنْ يتوب، وما يتاب منه؟
فلو لم يكن في تقدير الذنوب والمعاصي والمخالفات إلا هذا وحده لكفى به حكمة وغاية محمودة، فكيف والحِكَم والمصالح والغايات المحمودة التي في ضمن هذا التقدير فوق ما يخطر بالبال.
وكان بعض العُبَّاد يدعو في طوافه: اللهم اعصمني من المعاصي. ويُكْثِرُ من ذلك، فقيل له في المنام: أنت تسألني العصمة، وعبادي يسألوني العصمة، فإذا عصمتكم مِنَ الذنوب فلمَنْ أغفر، وعلى مَنْ أتوب، وعمَّنْ أعفو؟!
ولو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه.
يوضحه الوجه العشرون: أنه قد ترتّب على خَلْق من يكفر به ويشرك به ويعاديه من الحِكَم الباهرة والآيات الظاهرة ما لم يكن يحصل بدون ذلك.
فلولا كُفْرُ قوم نوح لما ظهرت آية الطوفان، وبقيت آية يتحدث بها الناس على ممر الزمان، ولولا كُفْرُ عاد لما ظهرت آية الريح العقيم التي دمّرت ما مرّت عليه، ولولا كُفْرُ قوم صالح لما ظهرت آية إهلاكهم بالصيحة، ولولا كُفْرُ فرعون لما ظهرت تلك الآيات والعجائب التي تتحدث
_________
(1) تقدم تخريجه في (1/ 378).
(2/209)
________________________________________
بها الأمم أمة بعد أمة، واهتدى بها من شاء الله، فهلك بها من هلك عن بيّنة، وحَيَّ بها من حَيَّ عن بيّنة، وظهر بها فضل الله وعدله وحكمته وآيات رسله وصدقهم.
فمعارضة الرسل، وكسر حججهم ودحضها، والجواب عنها، وإهلاك الله لهم من أعظم أدلة صدقهم وبراهينه.
ولولا مجيء المشركين بالحَدّ والحديد والعُدد والشوكة يوم بدر؛ لما حصلت تلك الآية العظيمة التي ترتب عليها من الإيمان والهدى والخير ما لم يكن حاصلًا مع عدمها.
وقد بيّنا أن الموقوف على الشيء لا يوجد بدونه، ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع.
فلله كم عَمرتْ قصةُ بدر من رَبْعٍ أصبح آهلًا بالإيمان، وقد فَتَحَتْ لأولي النُّهى من باب وصلوا منه إلى الهدى والإيقان، وكم حصل بها من محبوب للرحمن، وغيظ للشيطان، وتلك المفسدة التي حصلت في ضمنها للكفار مغمورة جدًّا بالنسبة إلى مصالحها وحِكَمها، وهي كمفسدة المطر إذا قَطَعَ المسافر، وبَلّ الثياب، وخرّب بعض البيوت؛ بالنسبة إلى مصلحته العامة.
وتأمّل ما حصل بالطوفان وغرق آل فرعون للأمم من الهدى والإيمان، الذي غمر مفسدة من هلك به، حتى تلاشت في جنب مصلحته وحكمته.
فكم لله من حكمة في آياته التي ابتلى بها أعداءه، وأكرم فيها أولياءه، وكم له فيها من آية وحجة وتبصرة وتذكرة.
(2/210)
________________________________________
ولهذا أمر سبحانه رسوله أن يذكّر بها أمته، فقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [إبراهيم: 5 - 6]، فذكَّرهم بأيامه وإنعامه، ونجاتهم من عدوهم، وإهلاكهم وهم ينظرون، فحصل بذلك من ذكره وشكره ومحبته وتعظيمه وإجلاله ما تلاشت فيه مفسدة إهلاك الأبناء وذبحهم واضمحلت، فإنهم صاروا إلى النعيم، وخلصوا من مفسدة العبودية لفرعون إذا كبروا، وسَوْمِهِ لهم سوء العذاب، وكان الألم الذي ذاقه الأبوان عند الذبح أيسر من الآلام التي كانوا تجرعوها باستعباد فرعون وقومه لهم بكثير، فحظي بذلك الآباء والأبناء.
وأراد سبحانه أن يري عباده ما هو من أعظم آياته، وهو أن يُرَبَّى هذا المولود ـ الذي ذبح فرعون ما شاء الله من الأولاد في طلبه ـ في حِجْر فرعون، وفي بيته، وعلى فراشه.
فكم في ضمن هذه الآية من حكمة ومصلحة ورحمة وهداية وتبصرة، وهي موقوفة على لوازمها وأسبابها، ولم تكن لتوجد بدونها؛ فإنه ممتنع، فمصلحة تلك الآية وحكمتها غمرت مفسدةَ ذبح الأبناء، وجعلتها كأن لم تكن.
وكذلك الآيات التي أظهرها سبحانه على يد الكريم ابن الكريم ابن الكريم، والعجائب والحِكَم والمصالح والفوائد التي في تلك القصة التي تزيد على الألف= لم تكن لتحصل بدون ذلك السبب، الذي كان فيه مفسدة
(2/211)
________________________________________
جزئية في حق يعقوب ويوسف، ثم انقلبت تلك المفسدة مصالح اضمحلّت في جنبها تلك المفسدة بالكلية، وصارت سببًا لأعظم المصالح في حقه، وحق يوسف، وحق الإخوة، وحق امرأة العزيز، وحق أهل مصر، وحق المؤمنين إلى يوم القيامة.
فكم جنى أهل المعرفة بالله وأسمائه وصفاته ورسله من هذه القصة من ثمرة، وكم استفادوا بها من علم وحكمة وتبصرة.
وكذلك المفسدة التي حصلت لأيوب من مسّ الشيطان له بنُصْب وعذاب، اضمحلّت وتلاشت في جنب المصلحة والمنفعة التي حصلت له ولغيره عند مفارقة البلاء، وتبدّله بالنعماء، بل كان ذلك السبب المكروه هو الطريق الموصل إليها، والشجرة التي جُنِيت منها ثمار تلك النعم.
وكذلك الأسباب التي أوصلت خليل الرحمن إلى أن صارت النار عليه بردًا وسلامًا؛ مِنْ كفر قومه وشركهم، وتكسيره أصنامهم، وغضبهم لها، وإيقاد النار العظيمة له، وإلقائه فيها بالمَنْجَنيق، حتى وقع في روضة خضراء (1) في وسط النار، وصارت آية وحجة وعبرة ودلالة للأمم قرنًا بعد قرن.
فكم لله سبحانه في ضمن هذه الآية من حكمة بالغة، ونعمة سابغة، ورحمة وحجة وبيّنة، لو تعطّلت تلك الأسباب لتعطّلت هذه الحكم والمصالح والآيات، وحكمته وكماله المقدس يأبى ذلك، وحصول الشيء بدون لازمه ممتنع، وكم بين ما وقع من المفاسد الجزئية في هذه القصة، وبين
_________
(1) «خضراء» من «م».
(2/212)
________________________________________
جَعْل صاحبها إمامًا للحنفاء إلى يوم القيامة، وهل تلك المفاسد الجزئية إلا دون مفسدة الحر والبرد والمطر والثلج بالنسبة إلى مصالحها بكثير.
ولكنّ الإنسان ــ كما قال الله ــ ظلومٌ جهولٌ، ظلومٌ لنفسه، جهولٌ بربّه وبعظمته وجلاله وحكمته وإتقان صنعه.
وكم بين إخراج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة على تلك الحال، ودخوله إليها ذلك الدخول الذي لم يفرح به بشر سواه، جنودُ الله قد اكتنفته من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، والمهاجرون والأنصار قد أحدقوا به، والملائكة من فوقهم، والوحي من الله ينزل عليه، وقد أدخله حَرَمه ذلك الدخول، فأين مفسدة ذلك الإخراج الذي كان (1) كأن لم يكن.
ولولا معارضة السحرة لموسى بإلقاء العصي والحبال حتى أخذوا أعين الناس واسترهبوهم= لما ظهرت آية عصا موسى حتى ابتلعت عصيهم وحبالهم، ولهذا أمرهم موسى عليه السلام أن يُلقوا أولًا، ثم يلقي هو بعدهم.
ومن تمام ظهور آيات الرب تعالى وكمال اقتداره وحكمته أن يخلق مثل جبريل صلوات الله وسلامه عليه، الذي هو أطيب الأرواح العلوية وأزكاها وأطهرها وأشرفها، وهو السفير في كل خير وهدى وإيمان وصلاح، ويخلق مقابله مثل روح اللعين إبليس، الذي هو أخبث الأرواح وأنجسها وشرها، وهو الداعي إلى كل شر وأصله ومادته.
وكذلك من تمام قدرته وحكمته أن خلق الضياء والظلام، والأرض
_________
(1) «د»: «التي كان»، وهي ساقطة من «م»، والصواب المثبت.
(2/213)
________________________________________
والسماء، والجنة والنار، وسدرة المنتهى وشجرة الزقوم، وليلة القدر وليلة الوباء، والملائكة والشياطين، والمؤمنين والكفار، والأبرار والفجار، والحَرّ والبرد، والداء والدواء، والآلام واللذات، والأحزان والمسرات، واستخرج سبحانه من بين ذلك ما هو من أحب الأشياء إليه من أنواع العبوديات، والتعرف إلى خلقه بأنواع الدلالات.
ولولا خَلْق الشياطين والهوى (1) والنفس الأمارة لما حصلت عبوديةُ الصبر ومجاهدة النفس والشيطان ومخالفتهما، وتَرْكُ ما يهواه العبد ويحبه لله، فإن لهذه العبودية شأنًا ليس لغيرها، ولولا وجود الكفار لما حصلت عبودية الجهاد، ولما نال أهلُهُ درجةَ الشهادة، ولما نَهَز مَن يقدّم محبة فاطره وخالقه على نفسه وأهله وولده، ومَن يقدم أدنى حظ من الحظوظ عليه.
فأين صبر الرسل وأتباعهم وجهادهم وتحمّلهم لله أنواع المكاره والمشاق، وأنواع العبودية المتعلّقة بالدعوة وإظهارها لولا وجود الكفار، وتلك العبودية تقتضي درجة لا تُنال إلا بها، والرب تعالى يحب أن يُبَلِّغها رسله وأتباعهم، ويُشْهِدهم نعمته عليهم وفضله وحكمته، ويستخرج منهم حمده وشكره ومحبته والرضا عنه.
يوضحه الوجه الحادي والعشرون: أنه قد استقرت حكمته سبحانه أن السعادة والنعيم والراحة لا يوصل إليها إلا على جسر المشقة والتعب، ولا يُدخَل إليها إلا من باب المكاره والصبر وتحمل المشاق، ولذلك حَفّ الجنة بالمكاره، والنار بالشهوات، ولذلك أَخْرَجَ صفيّه آدم من الجنة وقد خلقها
_________
(1) «م»: «والنور».
(2/214)
________________________________________
له، واقتضت حكمته أنه لا يدخلها دخول استقرار إلا بعد التعب والنصب، فما أخرجه منها إلا ليُدخله إليها أتم دخول.
فلله كم بين الدخول الأول والدخول الثاني من التفاوت، وكم بين دخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة في جوار المُطْعِم بن عَدِيّ ودخوله إليها يوم الفتح، وكم بين راحة المؤمنين ولذتهم في الجنة بعد مقاساة ما قبلها وبين لذتهم لو خُلِقوا فيها، وكم بين فرحة من عافاه بعد ابتلائه، وأغناه بعد فقره، وهداه بعد ضلاله، وجَمَع قلبه عليه بعد شتاته، وفرحة من لم يذق تلك المرارات.
وقد سبقت الحكمة الإلهية أن المكاره أسباب اللذات والخيرات، كما قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهْوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهْوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهْوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
وربما كان مكروه النفوس إلى ... محبوبها سببًا ما مثله سببُ (1)
يوضحه الوجه الثاني والعشرون: أن العقلاء قاطبة متفقون على استحسان إتعاب النفوس في تحصيل كمالاتها، من العلم النافع والعمل الصالح والأخلاق الفاضلة، وطلب محمدة مَن ينفعهم حمده، وكل من كان أتعب في تحصيل ذلك كان أحسن حالًا وأرفع قدرًا، وكذلك يستحسنون إتعاب النفوس في تحصيل الغنى والعزّ والشرف، ويذمون القاعد عن ذلك، وينسبونه إلى دناءة الهمة، وخِسّة النفس، وضِعَة القَدْر، كما قيل:
_________
(1) البيت للبحتري في «الديوان» (1/ 171)، وفيه: «مكروه الأمور».
(2/215)
________________________________________
دعِ المكارمَ لا تنهض لبُغْيَتها ... واقعد فإنك أنت الطاعمُ الكاسي (1)
وهذا التعب والكد يستلزم آلامًا وحصول مكاره ومشاقّ هي الطريق إلى تلك الكمالات، ولم يقدحوا بتحمل تلك في حكمة مَن تحملها، ولا يعدونه عابثًا، بل هذا عندهم هو العقل الوافر، ومَن أَمَر غيره به فهو حكيم في أمره، ومَن نهاه عن ذلك فهو سفيه عدوٌّ له، هذا في مصالح المعاش، فكيف بمصالح الحياة الأبدية الدائمة والنعيم المقيم؟!
كيف لا يكون الآمر بالتعب القليل في الزمن اليسير، الموصِل إلى الخير الدائم؛ حكيمًا رحيمًا محسنًا ناصحًا لمن يأمره بذلك، وينهاه عن ضده من الراحة واللذة التي تقطعه عن كماله ولذته ومسرته الدائمة، هذا إلى ما في أمره ونهيه من مصالحه العاجلة التي بها سعادته وفلاحه وصلاحه، ونهيه عما فيه مضرته وعطبه وشقاوته.
فأوامر الرب تعالى رحمة وإحسان وشفاء ودواء وغذاء للقلوب، وزينة للظاهر والباطن، وحياة للقلب والبدن، وكم في ضمنه من مسرة وفرحة ولذة وبهجة، ونعيم وقرة عين، فما يسميه هؤلاء تكاليف، إنما هو قرة العيون، وبهجة النفوس، وحياة القلوب، ونور العقول، وتكميل للفطر، وإحسان تام إلى النوع الإنساني، أعظم من إحسانه إليه بالصحة والعافية والطعام والشراب واللباس.
فنعمته على عباده بإرسال رسله إليهم، وإنزال كتبه عليهم، وتعريفهم أمره ونهيه، وما يحبه ويبغضه؛ أعظم النعم وأجلها وأعلاها وأفضلها، بل لا
_________
(1) البيت للحطيئة في «الديوان» (50).
(2/216)
________________________________________
نسبة لرحمتهم بالشمس والقمر والغيث والنبات إلى رحمتهم بالعلم والإيمان والشرائع والحلال والحرام.
فكيف يقال: أي حكمة في ذلك، وإنما هو مجرد مشقة ونصب بغير فائدة؟!
فوالله؛ إن من زعم ذلك وظنّه في أحكم الحاكمين لأضل من الأنعام، وأسوأ حالًا من الحمير، ونعوذ بالله من الخذلان، والجهل بالرحمن وأسمائه وصفاته.
وهل قامت مصالح الوجود إلا بالأمر والنهي، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب؟! ولولا ذلك لكان الناس بمنزلة البهائم يَتَهارجون في الطرقات، ويَتَسافدون تَسَافُد الحيوانات، لا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا، ولا يمتنعون من قبيح، ولا يهتدون إلى صواب.
وأنت ترى الأمكنة والأزمنة التي خَفِيَتْ فيها آثار النبوة كيف حال أهلها، وما دَخَل عليهم من الجهل والظلم، والكفر بالخالق، والشرك بالمخلوق، واستحسان القبائح، وفساد العقائد والأعمال؛ فإن الشرائع بتنزيل الحكيم العليم، أنزلها وشرعها الذي يعلم ما في ضمنها من مصالح العباد في المعاش والمعاد، وأسباب سعادتهم الدنيوية والأخروية، فجعلها غذاء ودواء وشفاء وعصمة وحصنًا وملجأً وجُنّة ووقاية.
وكانت بالقياس إلى مصالح الأبدان بمنزلة حكيم عالِمٍ ركّبَ للناس أمرًا يصلح لكل مرض ولكل ألم، وجعله مع ذلك غذاء للأصحّاء، فمن تغذّى به من الأصحاء غَذّاه، ومن تداوى به من المرضى شفاه، وشرائع الربّ تعالى فوق ذلك وأجلّ منه، وإنما هو تمثيل وتقريب.
(2/217)
________________________________________
فلا أحسن من أمره ونهيه، وتحليله وتحريمه، أَمْرُهُ قوتٌ وغذاءٌ وشفاءٌ، ونَهْيُهُ حِمْيةٌ وصيانةٌ، فلم يأمر عباده بما أمرهم به حاجة منه إليهم ولا عبثًا، بل رحمة وإحسانًا ومصلحة، ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلًا منه عليهم، بل حماية وصيانة عما يؤذيهم ويعود عليهم بالضرر إن تناولوه.
فكيف يتوهّم مَنْ له مِسْكة مِنْ عقل خلوّها من الحِكَم والغايات المحمودة المطلوبة لأجلها؟!
ولقد استدل كثيرٌ من العقلاء على النبوة بنفس الشريعة، واستغنوا بها عن طلب المعجزة، وهذا من أحسن الاستدلال؛ فإن دعوة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم من أكبر شواهد صدقهم، وكل مَن له خبرة بنوع من أنواع العلوم إذا رأى حاذقًا قد صنّف فيه كتابًا جليلًا عرف أنه من أهل ذلك العلم بنظره في كتابه، وهكذا كل مَن له عقل وفطرة سليمة وخبرة بأقوال الرسل ودعوتهم إذا نظر في هذه الشريعة قَطَع قَطْعًا ــ نظير القَطْع بالمحسوسات ــ أنّ الذي جاء بهذه الشريعة رسولٌ صادق، وأنّ الذي شرعها أحكم الحاكمين.
ولقد شهد لها عقلاء الفلاسفة بالكمال والتمام، وأنه لم يطرق العالمَ ناموسٌ أكمل منها ولا أحكم، هذه شهادة الأعداء، وشهد لها مَن زعم أنه مِن الأولياء بأنها لم تُشْرع لحكمة ولا لمصلحة، وقالوا: أي حكمة في الإلزام بهذه التكاليف الشاقة المتعبة، وأي مصلحة للمكلَّف في ذلك، وأي غرض للمكلِّف؟ وما هو إلا محض المشيئة المجردة من قصدِ غايةٍ أو حكمةٍ.
ولو استحيا هؤلاء من العقلاء لمنعهم الحياء من تسويد القلوب والأوراق بمثل ذلك.
وهل تركت الشريعة خيرًا ومصلحة إلا جاءت به، وأمرت به، وندبت
(2/218)
________________________________________
إليه؟! وهل تركت شرًّا ومفسدة إلا نهت عنه؟! وهل تركت لمُقْتَرِحٍ اقتراحًا، أو لمُتَعَنِّت تعنّتًا، أو لسائلٍ مطلبًا؟! {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].
وعند نفاة الحِكَم أنه يجوز عليه ضد ذلك الحُكْم من كل وجه، وأنه لا فرق بينه وبين ضدّه في نفس الأمر إلا بمجرّد (1) الحُكْم والمشيئة.
فلو اجتمعت حكمة جميع الحكماء من أول الدهر إلى آخره، ثم قيست إلى حكمة هذه الشريعة الكاملة الحكيمة الفاضلة لكانت كقطرة من بحر.
وإنما نعني بذلك الشريعة التي أنزلها الله على رسوله، وشرعها للأمة، ودعاهم إليها، لا الشريعة المبدَّلة ولا المؤوَّلة، ولا ما غلط فيه الغالطون، وتأوّله المتأوِّلون؛ فإن هذين النوعين قد يشتملان على فساد وشر، بل الشر والفساد الواقع بين الأمة من هاتين الشريعتين اللتين نُسِبتا إلى الشريعة المنزَّلة من عند الله عمدًا أو خطأ، وإلا فالشريعة على وجهها خير محضٌ، ومصلحة من كل وجه، ورحمة وحكمة ولُطف بالمكلَّفين، وقيام مصالحهم بها فوق قيام مصالح أبدانهم بالطعام والشراب، فهي مكمِّلة للفطر والعقول، مُرْشِدةٌ إلى ما يحبه الله ويرضاه، ناهيةٌ عما يبغضه ويسخطه، مُسْتَعْمِلةٌ لكل قوة وعضو وحركة في كماله الذي لا كمال له سواه، آمرةٌ بمكارم الأخلاق ومعاليها، ناهيةٌ عن دنيئها وسَفْسافها.
واختصار ذلك: أنه شَرَعَ استعمال كل قوة وكل عضو وكل حركة في كمالها، ولا سبيل إلى معرفة كمالها على الحقيقة إلا بالوحي، فكانت
_________
(1) «د»: «لمجرد».
(2/219)
________________________________________
الشرائع ضرورية في مصالح الخلق، وضرورتهم إليها (1) فوق كل ضرورة تُقَدَّر، فهي أسباب موصلة إلى سعادة الدارين، ورأس الأسباب الموصلة إلى حفظ صحة البدن وقوته، واستفراغ أخلاطه، ومن لم يتصور الشريعة على هذه الصورة فهو من أبعد الناس عنها.
وقد جعل الحكيم العليم لكل قوة من القوى، ولكل حاسة من الحواس، ولكل عضو من الأعضاء؛ كمالًا حسّيًا وكمالًا معنويًا، وفَقْدُ كماله المعنوي شرٌّ من فَقْدِ كماله الحسّي، فكماله المعنوي بمنزلة الروح، والحسّي بمنزلة الجسم، فأعطاه كمالَه الحسّي خَلْقًا وقَدَرًا، وأعطاه كماله المعنوي شرعًا وأمرًا، فبلغ بذلك غاية السعادة والانتفاع بنفسه، فلم يدع للإحسان إليه والاعتناء بمصالحه وإرشاده إليها وإعانته على تحصيلها اقتراحًا يقترحه، ولا شيئًا يطلبه، بل أعطاه من ذلك ما لم يصل إليه اقتراحُهُ، ولا تدركه معرفتُهُ.
ويكفي العاقلَ البصيرَ الحيَّ القلبِ فكْرُهُ في فرع واحد من فروع الأمر والنهي وهو الصلاة، وما اشتملت عليه من الحِكَم الباهرة، والمصالح الباطنة والظاهرة، والمنافع المتصلة بالقلب والروح والبدن والقوى، التي لو اجتمع حكماء العالم قاطبة، واستفرغوا قواهم وأذهانهم لما أحاطوا بتفاصيل حِكَمها وأسرارها وغاياتها المحمودة، بل انقطعوا كلهم دون أسرار الفاتحة وما فيها من المعارف الإلهية، والحِكَم الربانية، والعلوم النافعة، والتوحيد التام، والثناء على الله تعالى بأصول أسمائه وصفاته، وذكْرِ أقسام الخليقة، باعتبار غاياتهم ووسائلهم، وما في مقدماتها وشروطها من الحِكَم العجيبة: من تطهير الأعضاء والثياب والمكان، وأخْذ الزينة، واستقبال بيته
_________
(1) «د»: «وضرورتها لها».
(2/220)
________________________________________
الذي جعله إمامًا للناس، وتفريغ القلب لله، وإخلاص النية، وافتتاحها بكلمة جامعةٍ لمعاني العبودية، دالّةٍ على أصول الثناء وفروعه، مُخْرِجةٍ من القلب الالتفاتَ إلى ما سواه (1)، والإقبال على غيره.
فيقوم بقلبه الوقوفُ بين يدي عظيم جليل كبير، أكبر من كل شيء، وأجلّ من كل شيء، وأعظم من كل شيء، تلاشت في كبريائه السماوات وما أظلّت، والأرض وما أَقلّت، والعوالم كلها، عَنَت له الوجوه، وخضعت له الرقاب، وذلّت له الجبابرة، قاهرٌ فوق عباده، ناظرٌ إليهم، عالمٌ بما تُكِنّ صدورهم، يسمع كلامهم، ويرى مكانهم، ولا تخفى عليه خافية من أمرهم.
ثم أخذ في تسبيحه وحمده وذكره تبارك اسمه، وتعالى جدّه، وتفرُّدِه بالإلهية.
ثم أخذ في الثناء عليه بأفضل ما يُثْنَى عليه به من حمده وذكْر ربوبيته للعالَم، وإحسانه إليهم، ورحمته بهم، وتمجيده بالمُلك الأعظم في اليوم الذي لا يكون فيه مَلِك سواه، حين يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد، ويدينهم بأعمالهم.
ثم إفراده بنوعي التوحيد: توحيدِ ربوبيته استعانةً به، وتوحيدِ إلهيته عبوديةً له.
ثم سؤاله أفضل مسؤول، وأجل مطلوب على الإطلاق، وهو هداية الصراط المستقيم الذي نَصَبه لأنبيائه ورسله وأتباعهم، وجعله صراطًا موصلًا لمن سلكه إليه وإلى جنته، وأنه صراط من اختصّهم بنعمته بأنْ
_________
(1) في متن «د» «م»: «على ما سواه»، والتصويب من حاشية «م».
(2/221)
________________________________________
عرفهم الحق، وجعلهم مُتّبعِين له، دون صراط أمة الغضب الذين عرفوا الحق ولم يتبعوه، وأهل الضلال الذين ضلوا عن معرفته واتباعه.
فتضمّنت تعريفَ الربّ، والطريقَ الموصل إليه، والغايةَ بعد الوصول.
وتضمّنت الثناءَ والدعاءَ، وأشرفَ الغايات وهي العبودية، وأقربَ الوسائل إليها وهي الاستعانة، مقدِّمًا فيها الغاية على الوسيلة، والمعبود المستعان على الفعل؛ إيذانًا بالاختصاص، وأن ذلك لا يصلح إلا له سبحانه.
وتضمّنت ذِكْرَ الإلهية والربوبية والرحمة، فيُثْنَى عليه ويُعبد بإلهيته، ويَخْلق ويَرْزق، ويميت ويحيي، ويدبر الملك، ويضلّ من يستحق الإضلال، ويغضب على من يستحق الغضب؛ بربوبيته وحكمته، ويُنْعِم ويَرْحم، ويجود ويعفو ويغفر، ويهدي ويتوب؛ برحمته.
فلله؛ كم في هذه السورة من أنواع المعارف والعلوم والتوحيد وحقائق الإيمان.
ثم يأخذ بعد ذلك في تلاوة ربيع القلوب، وشفاء الصدور، ونور البصائر، وحياة الأرواح، وهو كلام ربّ العالمين، فيحلّ به في ما شاء من روضات مُونِقات، وحدائق مُعْجِبات، زاهية أزهارها، مُونِقة ثمارها، قد ذُلِّلت قطوفها تذليلًا، وسُهِّلت لمتناولها تسهيلًا، فهو يجتني من تلك الثمار خيرًا يُؤمر به، وشرًّا يُنهى عنه، وحكمة وموعظة، وتبصرة وتذكرة وعبرة، وتقريرًا لحق، ودحضًا لباطل، وإزالة لشبهة، وجوابًا عن مسألة، وإيضاحًا لمُشكِل، وترغيبًا في أسبابِ فلاحٍ وسعادة، وتحذيرًا من أسبابِ خسرانٍ وشقاوة، ودعوة إلى هدى، ورَدّ عن ردى، فينزل على القلوب نزول الغيث
(2/222)
________________________________________
على الأرض التي لا حياة لها بدونه، ويحل منها محل الأرواح من أبدانها.
فأي نعيم، وقرّة عين، ولذة قلب، وابتهاج وسرور؛ لا يحصل له في هذه المناجاة، والربّ تعالى يستمع لكلامه جاريًا على لسان عبده، ويقول: «حَمِدني عبدي، أثنى عليَّ عبدي، مجَّدَني عبدي» (1).
ثم يعود إلى تكبير ربّه عز وجل، فيجدد به عهد التذكرة، كونه أكبر من كل شيء بحق عبوديته، وما ينبغي أن يُعامَل به.
ثم يركع حانيًا له ظهره؛ خضوعًا لعظمته، وتذلُّلًا لعزّته، واستكانةً لجبروته، مسبّحًا له بذكر اسمه العظيم، فنَزَّهَ عظمته عن حال العبد وذلّه وخضوعه، وقابَلَ تلك العظمة بهذا الذل والانحناء والخضوع، قد تطامن وطأطأ رأسه، وطوى ظهره، وربّه فوقه يشاهده، ويرى خضوعه وذله، ويسمع كلامه، فهو ركن تعظيم وإجلال، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «أما الركوع فعظّموا فيه الرب» (2).
ثم عاد إلى حاله من القيام حامدًا لربّه، مثنيًا عليه بأكمل محامده وأجمعها وأعمِّها، مثنيًا عليه بأنه أهل الثناء والمجد، ومعترفًا بعبوديته، شاهدًا له بتوحيده، وأنه لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، وأنه لا ينفع أصحابَ الجُدُودِ والأموالِ والحظوظِ جُدُودُهم عنه ولو عظمت.
ثم يعود إلى تكبيره، ويخرّ له ساجدًا على أشرف ما فيه وهو الوجه، فيعفِّره في التراب ذُلًّا بين يديه ومسكنةً وانكسارًا، وقد أخذ كل عضو من
_________
(1) جُمَل من حديث قدسي أخرجه بتمامه مسلم (395) من حديث أبي هريرة.
(2) أخرجه مسلم (479) من حديث ابن عباس.
(2/223)
________________________________________
البدن حظّه من هذا الخضوع، حتى أطراف الأنامل ورؤوس الأصابع، ونُدِبَ له أن يسجد معه ثيابه وشعره فلا يكفّه، وأن لا يكون بعضه محمولًا على (1) بعض، وأن يباشرَ التراب بجبهته، وينالَ ثِقْلُ وجهِهِ المُصَلَّى (2)، ويكون رأسه أسفل ما فيه تكميلًا للخضوع والتذلل لمن له العزّ كله والعظمة كلها، وهذا أيسر اليسير من حقه على عبده، فلو دام كذلك من حين خُلِق إلى أن يموت لما أدّى حق ربّه عليه.
ثم أُمِرَ أن يسبّح ربَّه الأعلى، فيذكر علوّه سبحانه في حال سفوله هو، وينزّهه عن مثل هذه الحال، وأنّ من هو فوق كل شيء، وعالٍ على كل شيء يُنَزَّه عن السفول بكل معنى، بل هو الأعلى بكل معنى من معاني العلو.
ولما كان هذا غاية ذلّ العبد وخضوعه وانكساره؛ كان أقرب ما يكون الربّ منه في هذه الحال، فأُمِر أن يجتهد في الدعاء لقربه من القريب المجيب، وقد قال تعالى: {تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19].
وكان الركوع كالمقدمة بين يدي السجود والتوطئة له، فينتقل من خضوع إلى خضوع أكمل وأتم منه، وأرفع شأنًا.
وفُصِل بينهما بركن مقصود في نفسه، يجتهد فيه في الحمد والثناء والتمجيد، وجُعِل بين خضوعين: خضوعٍ قبله، وخضوعٍ بعده، وجُعِل خضوع السجود بعد الحمد والثناء والمجد، كما جُعِل خضوع الركوع بعد ذلك.
_________
(1) كذا في «د» «م»، والأقرب للمعنى: «مجموعًا إلى».
(2) انظر: «كتاب الصلاة» للمؤلف (364).
(2/224)
________________________________________
فتأمل هذا الترتيب العجيب، وهذا التنقّل في مراتب العبودية، كيف ينتقل من مقام الثناء على الربّ بأحسن أوصافه وأسمائه وأكمل محامده إلى منزلة خضوعه وتذلّله لمن له هذا الثناء، ويستصحب في مقام خضوعه ثناءً يناسب ذلك المقام، ويليق به، فيذكر عظمة الرب في حال خضوعه، وعلوّه في حال سفوله.
ولما كان أشرف أذكار الصلاة القرآن شُرِع في أشرف أحوال الإنسان، وهي هيئة القيام التي قد انتصب فيها قائمًا على أحسن هيئة، ولما كان أفضل أركانها الفعلية السجود شُرِع فيها بوصف التكرار، وجُعِل خاتمة الركعة وغايتها التي انتهت إليها، فطابق (1) افتتاحُ الركعة بالقرآن واختتامُها بالسجود أولَ سورةٍ افْتُتِح بها الوحي، فإنها بُدِئت بالقراءة، وخُتِمت بالسجود.
وشُرِع له بين هذين الخضوعين أن يجلس جلسة العبيد، ويسأل ربّه أن يغفر له ويرحمه ويرزقه ويهديه ويعافيه، وهذه الدعوات تجمع له خير دنياه وآخرته.
ثم شُرِع له تكرارُ هذه الركعة مرة بعد مرة، كما شُرِع تكرارُ الأذكار والدعوات مرة بعد مرة؛ ليستعد بالأول لتكميل ما بعده، ويجبر بما بعده ما قبله، وليشبع القلب من هذا الغذاء، وليأخذ داؤُهُ نصيبَهُ وافرًا من الدواء ليقاومه؛ فإن منزلة الصلاة من القلب منزلة الغذاء والدواء، فإذا تناول الجائع الشديد الجوع من الغذاء لقمة أو لقمتين كان غناؤها عنه وسدها من جوعه يسيرًا جدًّا، وكذلك المرض الذي يحتاج إلى قدر معين من الدواء، إذا أخذ منه المريض قيراطًا من ذلك لم يزل مرضه بالكلية، وأزال بحسبه، فما حصل
_________
(1) «م»: «تطابق» مهملة، «د»: «مطابق»، وبالمثبت يستقيم الكلام.
(2/225)
________________________________________
الغذاءُ أو الشفاءُ للقلب بمثل الصلاة، وهي لصحته ودوائه بمنزلة غذاء البدن ودوائه (1).
ثم لما أكمل صلاته شُرِع له أن يقعد قِعْدَة العبد الذليل المسكين لسيده، ويثني عليه بأفضل التحيات، ويسلّم على من جاء بهذا الحظ الجزيل، ومن نالته الأمة على يديه، ثم يسلم على نفسه وعلى سائر عباد الله المشاركين له في هذه العبودية، ثم يتشهد شهادة الحق، ثم يعود فيصلي على من علّم الأمة هذا الخير ودلّهم عليه، ثم شُرِع له أن يسأل حوائجه، ويدعو بما أحب ما دام بين يدي ربّه مقبلًا عليه، فإذا قضى ذلك أذن له في الخروج منها بالتسليم على المشاركين له في الصلاة.
هذا إلى ما تضمنته من الأحوال والمعارف من أول المقامات إلى آخرها، فلا تجد منزلة من منازل السير إلى الله تعالى، ولا مقامًا من مقامات العارفين إلا وهو في ضمن الصلاة.
وهذا الذي ذكرناه من شأنها كقطرة من بحر، فكيف يقال: إنها تكليف محض، لم يُشرَع لحكمة ولا لغاية قصَدها الشارع، بل هي تعب محض، وكلفة ومشقة مستندة إلى محض المشيئة، لا لغرض ولا لفائدة البتّة، بل مجرد قهر وتكليف، وليست سببًا لشيء من مصالح الدنيا ولا الآخرة؟!
ثم تأمّل أبواب الشريعة ووسائلها وغاياتها، كيف تجدها مشحونة بالحِكَم المقصودة، والغايات الحميدة التي شُرِعَت لأجلها، التي لولاها لكان الناس كالبهائم، بل أسوأ حالًا.
_________
(1) انظر: «زاد المعاد» (4/ 192).
(2/226)
________________________________________
فكم في الطهارة من حكمة ومنفعة للقلب والبدن، وتفريح للقلب، وتنشيط للجوارح، وتخفيف من أحمالِ ما أوجبته الطبيعة، وإلقاء عن النفس من دَرَنِ المخالفات، فهي منظفة للقلب والروح والبدن.
وفي غسل الجنابة من زيادة التقوية، والإخلاف على البدن نظير ما تحلّل منه بالجنابة ما هو من أنفع الأمور.
وتأمّل كون الوضوء في الأطراف التي هي محل الكسب والعمل، فجُعِل في الوجه الذي فيه السمع والبصر والكلام والشم والذوق، وهذه الأبواب هي أبواب المعاصي والذنوب كلها، فمنها يُدخَل إليها، ثم جُعِل في اليدين وهما طرفاه وجناحاه اللذان بهما يبطش ويأخذ ويعطي، ثم في الرجلين اللتين بهما يمشي ويسعى.
ولما كان غسْلُ الرأس بماءٍ فيه (1) أعظم حرج ومشقة جُعِل مكانه المسح، وجُعِل ذلك مخرجًا للخطايا من هذه المواضع حتى يخرج مع قطر الماء من شعره وبشره، كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة قال: «إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، حتى يخرج نقيًا من الذنوب» رواه مسلم (2).
_________
(1) «د» «م»: «مما فيه»، تحريف، وبما أثبته يتسق المعنى، وانظر: «أعلام الموقعين» (3/ 305).
(2) برقم (244).
(2/227)
________________________________________
وفي «صحيح مسلم» (1) أيضًا عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من توضّأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه حتى تخرج من تحت أظفاره» فهذا من أجلّ حِكَم الوضوء وفوائده.
وقال نفاة الحكمة: إنه تكليف محض، ومشقة وعناء (2)، لا مصلحة فيه، ولا حكمة شُرِع لأجلها!
ولو لم يكن في مصلحته وحكمته إلا أنه سِيْماء هذه الأمة وعلامتهم في وجوههم وأطرافهم يوم القيامة بين الأمم ليست لأحد غيرهم، ولو لم يكن فيه من المصلحة والحكمة إلا أن المتوضّئ يطهّر بدنه بالماء، وقلبه بالتوبة، ليستعد بذلك للدخول على ربه ومناجاته، والوقوف بين يديه طاهر البدن والثوب والقلب، فأي حكمة ورحمة ومصلحة فوق هذا؟!
ولما كانت الشهوة تجري في جميع البدن، حتى إن تحت كل شعرة شهوة؛ سرى غسل الجنابة إلى حيث سرت الشهوة، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن تحت كل شعرة جنابة» (3)، فأمر أن يوصِل الماء إلى أصل كل شعرة، فتبرد حرارة الشهوة، فتسكن النفس وتطمئن إلى ذكر الله وتلاوة كلامه، والوقوف بين يديه.
_________
(1) برقم (245)، وفيه: «خرجت خطاياه من جسده».
(2) «د»: «تكليف ومشقة وعناء محض».
(3) أخرجه أبو داود (248)، والترمذي (106)، وابن ماجه (597) من حديث أبي هريرة، وفي إسناده الحارث بن وجيه، قال أبو داود: «حديثه منكر، وهو ضعيف»، وكذا ضعّفه الترمذي.
وفي الباب عن علي وعائشة وأنس وأبي أيوب، انظر: «البدر المنير» (2/ 575 - 577).
(2/228)
________________________________________
فوالله؛ لو أن أبُقْراط ودونه أوصوا بمثل هذا لخضع أتباعهم لهم فيه، وعظّموهم عليه غاية التعظيم، وأبدوا له من الحِكَم والفوائد ما قدروا عليه.
ثم لما كان العبد خارج الصلاة مهملَ جوارِحِه (1)، قد أسامها في مراتع الشهوات والحظوظ= أُمِر بعبوديةٍ تَجْمعُ جوارحه (2) كلّها على ربه، وتأخذُ بحظّها من عبوديته، فيسلّم قلبه وبدنه وجوارحه وحواسّه وقواه لربّه عز وجلّ، واقفًا بين يديه، مُقبِلًا بكلّه عليه، معرضًا عمّا سواه، متنصِّلًا إليه من إعراضه عنه، وجنايته على حقّه.
ولما كان هذا طبعه ودأبه أُمِر أن يجدّد هذا الرجوع إليه والإقبال عليه وقتًا بعد وقت؛ لئلا يطول عليه الأمد فينسى ربَّه، وينقطع عنه بالكلية، فكانت الصلاة من أعظم نعم الله عليه، وأفضل هداياه التي ساقها إليه، فأبى نفاة الحكمة إلا جَعْلها كلفة وعناء وتعبًا، لا لحكمة ولا لمصلحة البتَّة إلا مجرد القهر والمشيئة!
وقد فُتِحَ لك البابُ فسُق الشريعة كلَّها من أولها إلى آخرها هذا المساق، واستدِلّ بما ظهر لك على ما خفي عنك، ولعل الحكمة فيما لم تعلمه أعظم منها فيما علمته؛ فإن الذي علمته على قدر عقلك وفهمك، وما خفي عنك فهو فوق عقلك وفهمك، ولو تتبعنا تفصيل ذلك لجاء عدّة أسفار، فيُكتَفى منه بأدنى تنبيه، والله المستعان.
_________
(1) هكذا في الأصول على الإضافة.
(2) قراءة محتملة من «د» أقرب للسياق، وفي «م»: «أمر بعبوديته بجميع جوارحه» دون إعجام.
(2/229)
________________________________________
الوجه الثالث والعشرون: أن هذه الجمادات والحيوانات المختلفة الأشكال والمقادير والصفات والمنافع والقوى والأغذية، والنباتات التي هي كذلك= فيها من الحِكَم والمنافع ما قد أكثرت الأمم في وصفه وتجربته على ممر الدهور، ومع ذلك فلم يصلوا منه إلا إلى أيسر شيء وأقله، بل لو اتفق جميع الأمم لم يحيطوا علمًا بجميع ما أُودِع واحدٌ من ذلك النوع من الحِكَم والمصالح.
هذا إلى ما في ضمن ذلك من الاعتبار والدلالة الظاهرة على وجود الخالق ومشيئته وإرادته واختياره وعلمه وقدرته وحكمته، فإن المادة الواحدة لا تحتمل بنفسها هذه الصور الغريبة والأشكال المتنوعة والمنافع والصفات ولو تركبت مع غيرها، فليس حدوث هذه الأنواع والصور بنفس التركيب أيضًا، ولا هو مقتضٍ له، فحصول هذا التنوع والتفاوت والاختلاف في الحيوان والنبات من أعظم آيات الرب تعالى، ودلائل ربوبيته وقدرته وحكمته وعلمه، وأنه فَعَّال لما يريد اختيارًا ومشيئةً، فتنويع مخلوقاته وحدوثها شيئًا بعد شيء من أظهر الدلالات.
وتأمل كيف أرشد القرآن إلى ذلك في غير موضع، كقوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4].
وقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164].
(2/230)
________________________________________
وقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ (1)} [الروم: 22].
وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً (2) لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 10 - 11].
وقال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [النور: 45].
فتأمّل كيف نبّه سبحانه باختلاف الحيوانات في آلة المشي مع اشتراكها في المادة على الاختلاف فيما وراء ذلك من أعضائها وأشكالها وقواها وأفعالها وأغذيتها ومساكنها، فنبّه على الاشتراك والاختلاف، فنشير إلى يسير منه.
فالطير كلها تشترك في الريش والجناح، وتتفاوت فيما وراء ذلك أعظم تفاوت، واشتراك ذوات الحوافر في الحافر كالفرس والحمار والبغل، وتفاوتها فيما وراء ذلك، واشتراك ذوات الأظلاف في الظِّلْف وتفاوتها في غير ذلك، واشتراك ذوات القرون فيها وتفاوتها في الخلق والمنافع والأشكال، واشتراك حيوانات الماء في كونها سابحة تأوي فيه وتتكون فيه (3) وتفاوتها
_________
(1) «د» «م»: «لقوم يسمعون».
(2) «د» «م»: «لآيات».
(3) «د»: «تأوي فيها، وتتكوين فيها» مهملات، وفي الجملة شيء، والله أعلم.
(2/231)
________________________________________
أعظم تفاوت، عجز البشر إلى الآن عن حصره، واشتراك الوحوش في البعد عن الناس، والنِّفَار عنهم وعن مساكنهم، وتفاوتها في صفاتها وأشكالها وطبائعها وأفعالها أعظم تفاوت، يعجز البشر عن حصره، واشتراك الماشي منها على بطنه في ذلك وتفاوت نوعه، واشتراك الماشي على رجلين في ذلك وتفاوت نوعه أعظم تفاوت.
وكل من هذه الأنواع له علم وإدراك وتحَيُّل على جلب مصالحه ودفع مضاره، يعجز عن كثير منها نوع الإنسان، فمِن أعظم الحِكَم الدلالةُ الظاهرة على معرفة الخالق الواحد المستولي بقوته وقدرته وحكمته على ذلك كله، بحيث جاءت كلها مطيعة منقادة منساقة إلى ما خلقها له على وفق مشيئته وحكمته، وذلك أدلّ شيء على قوته القاهرة وحكمته البالغة وعلمه الشامل، فتُعلم إحاطة قدرة واحدة، وعلم واحد، وحكمة واحدة ــ أعني بالنوع ــ من قادر واحد، عالِم واحد، حكيم واحد، بجميع هذه الأنواع وأضعافها مما لا تعلمه العقول البشرية، كما قال تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8]، وقال: {(37) فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا} [الحاقة: 38 - 39].
فتجتمع غايات فعله وحكمة خلقه وأمره إلى غاية واحدة هي منتهى الغايات، وهي إلهيته الحق التي كل إلهية سواها باطل ومحال، فهي غاية الغايات، ثم يُنزَل منها إلى غايات أُخَر، هي وسائل بالنسبة إليها، وغايات بالنسبة إلى ما دونها، {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42].
فليس وراءه معلوم ولا مطلوب ولا مذكور إلا العدم المحض، وليس في الوجود إلا الله ومفعولاته وهي آثار أفعاله، وأفعاله آثار صفاته، وصفاته قائمة به من لوازم ذاته.
(2/232)
________________________________________
والمقصود أن من الغايات المطلوبة (1) العلم بإحاطة عِلم واحد من عالِم واحد، وفِعْل واحد من فاعل واحد، وقدرة واحدة من قادر واحد، وحكمة واحدة من حكيم واحد، بجميع العالم على اختلاف ما فيه. واجتمعت غايات فعله وأمره إلى غاية واحدة، وذلك من أظهر أدلة توحيد الإلهية، كما ابتدأت كلها من خالق واحد، وقادر واحد، ورب واحد.
ودلَّ على الأمرين ــ أعني توحيد الربوبية والإلهية ــ النظام الواحد والحكمة الجامعة للأنواع المختلفة مع كثرتها وتعددها، ودلّ افتقار بعضها إلى بعض، وتشبّك بعضها ببعض، ومعاونة بعضها لبعض، وارتباطه به= على أنها صنع فاعل واحد، وربّ واحد.
فلو كان معه آلهة وأرباب غيره لذهب كل إله بخلقه واستبدّ به، ولم يرضَ لنفسه أن يحتاج خلقُه إلى خَلْقِ غيره، كما لا ترضى ملوك الدنيا أن يحتاج مملوكُ أحدِهم إلى مملوكِ غيرِه (2)؛ لما في ذلك من النقص والعيب المنافي لكمال الاقتدار والغنى، ودلَّ انتظامها في الوجود، ووقوعها مع تباينها، واختلافها على أكمل الوجوه وأحسنها، على انتهائها إلى غاية واحدة ومطلوب واحد هو إلهها الحق، ومعبودها الأعلى، الذي لا إله لها غيره، ولا معبود لها سواه.
فتأمل كيف دلّ اختلاف الموجودات وتباينها، واجتماعها فيما اجتمعت فيه، وافتراقها فيما افترقت فيه على إله واحد، وربّ واحد، ودلت على صفات كماله ونعوت جلاله.
_________
(1) «م»: «الآيات المطلوبة».
(2) «م»: «غيره مثله»، وهذه الزيادة مفسدة للمعنى.
(2/233)
________________________________________
فالموجودات بأسرها كعسكر واحد، له مَلِك واحد، وسلطان واحد، يحفظ بعضه ببعض، وينظم مصالح بعضه ببعض، ويسد خلل بعضه ببعض، فيمد هذا بهذا، ويقوي هذا بهذا، وينقص من هذا فيزيده في الآخر، {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ اَلْمَيْتِ وَتُخْرِجُ اُلْمَيْتَ مِنَ الْحَيِّ} [آل عمران: 27]، ويبيد هذا فينشئ مكانه من جنسه ما يقوم مقامه، ويسدّ مسده، فيشهد حدوث الثاني أن الذي أحدثه وأوجده هو الذي أحدث الأول لا غيره، وأن حكمته لم تتغير، وعلمه لم ينقص، وقدرته لم تضعف، وأنه لا يتغير بتغير ما تغير منها، ولا يضمحل باضمحلاله، ولا يتلاشى بتلاشيه، بل هو الحي القيوم، العزيز الحكيم.
هذا إلى ما في لوازم مكثها وانتظام بعضها ببعض، وما يصدر عنها من الأفعال والآثار من حِكَم وأفعال أخرى وغايات أُخَر حُكْمها حُكْم موادها وحواملها، كما نشاهده في أشخاصها وأعيانها.
فتأمل (1) ذلك في جزئية واحدة: أنك ترى المعدة تشتاق الغذاء وتجتذبه إليها، فانظر لوازم ذلك قبل تناوله، ولوازمه بعد تناوله، وما يترتب على تلك اللوازم من عمارة الدنيا، فإذا جذبَتْه إليها أنضجتْه وطبختْه، كما تُنْضِج القدرُ ما فيها، فتنضجه الإنضاج الذي تعده لتغذي جميع أجزاء البدن وقواه وأرواحه به، وهي وإن أنضجته لأجل نصيبها الذي ينالها منه فهو قليل من كثير بالنسبة إلى انتفاع غيرها به، فتدفع ما فضل عن غذائها عنها إلى من هو شديد الحاجة إليه على قدر حاجته، من غير أن يقصد ذلك أو يشعر به،
_________
(1) «د»: «مثال».
(2/234)
________________________________________
ولكن قد قَصَده وأحكمه مَن هو بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، بحكمته ولطفه، وساقه في المجاري التي لا تنفذ فيها الإبر لدقة مسالكها، حتى أوصله إلى المحتاج إليه، الذي لا صلاح له إلا بوصوله إليه.
وكانت طبيعة الكبد ومزاجها في ذلك تلي طبيعة المعدة، وفعلها يلي فعلها.
وكذلك الأمعاء وباقي الأعضاء كالكبد للقلب في إعداد الغذاء، والقلب للرئة، والرئة للقلب في إعداد الهواء وإصلاحه.
فالأعضاء الموجودة في الشخص إذا تأملتها وتأملت أفعالها ومنافعها، وما تضمنه كل واحد منها من حكمة اختصت به، كشكله ووصفه ومزاجه ووضعه من الشخص بذلك الموضع المعين= علمت علمًا يقينيًا أن ذلك صادر عن خالق واحد، ومدبّر واحد، وحكيم واحد.
فانتقِلْ من هذا إلى أشخاص العالم شخصًا شخصًا من النوع الإنساني؛ تجد الحكمة الواحدة الظاهرة في تلك الأفراد الكثيرة قد نفعت بعضهم ببعض، وأعانت بعضهم ببعض، حَرّاثًا لزَرّاع، وزَرّاعًا لحاصد، وحائكًا لخياط، وخياطًا لنجار، ونجارًا لبنّاء، فهذا يعين هذا بيده، وهذا برجله، وهذا بعينه، وهذا بأذنه، وهذا بلسانه، وهذا بماله (1)، إذ لا يقدر أحدهم على جميع مصالحه، ولا يقوم بحاجاته، ولا توجد في كل واحد واحد (2) منهم جميع خواص نوعه.
_________
(1) زاد في «د»: «وهذا»، وبعده بياض بمقدار كلمة.
(2) كذا في النسختين بتكرار «واحد».
(2/235)
________________________________________
فهم بأشخاصهم الكثيرة كإنسان واحد يقوم بعضه بمصالح بعض، قد كَمَّل خواص الإنسانية في صفاته وأفعاله وصنائعه وما يراد منه، فإن الواحد منهم لا يفي بأن يجمع جميع الفضائل العلمية والعملية والقوة والبقاء، فجُعِل ذلك في النوع الإنساني بجملته.
والله سبحانه قد فرّق كمالات النوع في أشخاصه، وجعل لكل شخص منها ما هو مستعد قابل له، بحيث لو قبل أكثر من ذلك لأُعْطِيَه؛ فإنه جواد لذاته قد فاض جوده وخيره على العالم كله، وفضُل عنه أضعاف ما فاض عليه، فهو يفيضه على تعاقب الآنات أبدًا، ولذلك يَفضُل في الجنة فَضْلٌ عن أهلها فينشئ الله لها خلقًا يسكنهم فَضْلها.
وإنما يتخصص فضله بحسب استعداد القوابل والمُعَدّات، وذلك بمشيئته وحكمته، فهو الذي أوجدها، وهو الذي أعدها، وهو الذي أمدها.
ولمّا كان جوده وفضله أوسع من حاجة الخلق لم يكن بُدّ من بقاء كثير منه مبذولًا في الوجود مهملًا، وهذا كضوء الشمس مثلًا، فإن مصالح الحيوان لا تتم إلا به، وهو مشرق على مواضعَ فَضْلة عن حوائج الحيوان (1)، وكذلك المطر والنبات وسائر النِّعَم، ومع ذلك فلم يعطل وجودها عن حِكَم ومصالح وعبر ودلالات، وعطاء الربّ ونعمه أوسع من حوائج خلقه، فلابُدّ أن يبقى في المياه والأقوات والنبات وغير ذلك أجزاء مهملة.
ولا يقال: ما الحكمة في خلقها؟ فإن هذا سؤال جاهل ظالم؛ فإن
_________
(1) «د»: «حوائج بني آدم الحيوان».
(2/236)
________________________________________
الحكمة في خلق الأرض وما عليها ظاهرة لكل بصير، والمعمور منها بعضها لا كلّها، والرب تعالى واسع الجود دائمه، فجوده وخيره عام دائم فلا يكون إلا كذلك، فإن ذلك من لوازم علمه وقدرته وحكمته، ولعلمه وقدرته وحكمته العموم والشمول والكمال المطلق بكل اعتبار.
فيُعلم من استقراء العالَم وأحواله انتهاؤه إلى عالِم واحد، وقادر واحد، وحكيم واحد، قد أتقن نظامه أحسن الإتقان، وأوجده على أتم الوجوه، وهو سبحانه ناظمُ أفعال الفاعلين مع كثرتها، ورابطُ بعضها ببعض، ومعينُ بعضها ببعض، وجاعلُ بعضها سببًا لبعض، وغايةً لبعض، وهذا من أدلّ الدليل على أنه خالق واحد، وربّ واحد، وقادر واحد.
دلَّ على قدرته كثرةُ أفعاله وتنوعها في الوقت الواحد، وتعاقبها على تتالي الآنات، وتفنّن تصرفاته في مخلوقاته على كثرتها.
ودلَّ على علمه وحكمته كون كل صغير وكبير، ودقيق وجليل داخلًا في النظام الحِكَمِي، ليس فيها شيء سُدى، حتى مسام الشعر في الجلد، ومَراشح اللعاب في الفم، ومجاري الشُّعَب الدقيقة من العروق في أصغر الحيوانات، التي تعجز عنها أبصارنا، ولا تنالها قدرتنا، وهذا فيما دقّ لصغره.
وفيما جَلّ لعظمه، كالرياح الحاملة للسحب إلى الأرض الجُرُز التي لا نبات بها، فيمطرها عليها، فيُخْرِجُ بها نباتًا، ويُحْيي بها حيوانًا، ويجعل فيها خزائن من الطعام والشراب والأقوات والأدوية.
دع ما فوق ذلك (1) من تسخير الشمس والقمر والنجوم، واختلاف
_________
(1) «م»: «وغيرها، وفوق ذلك».
(2/237)
________________________________________
مطالعها ومغاربها لإقامة دولة الليل والنهار، وفصول العام التي بها نظام مصالح مَن عليها.
فإذا تأملت العالم وجدته كالبيت المبني المُعَدّ فيه جميع عتاده، فالسماء سقفه، والأرض بساطه، والنجوم زينته، والشمس سراجه، والعقلاء سكّانه (1)، والليل سَكَنهم، والنهار معاشهم، والمطر سقياهم، والنبات غذاؤهم ودواؤهم وفاكهتهم، والحيوان خدمهم، ومنه قوتهم ولباسهم، والجواهر كنوزهم وذخائرهم، كل شيء منها لما يصلح له، فضروب النبات مهيَّأة لجميع حاجاتهم، وصنوف الحيوانات معدّة لجميع مصالحهم، وذلك أدلّ دليل على وحدانية خالقه وعلمه وحكمته وقدرته (2).
فلم يكن لون السماء أزرق اتفاقًا، بل لحكمة باهرة؛ فإن هذا اللون أشدّ الألوان موافقة للبصر، حتى إن مِنْ وَصْف الأطباء لمن أصابه ما أضرّ ببصره أو كَلّ بصره (3)؛ إدمان النظر إلى الخُضْرة وما قرب منها إلى السواد، فجعل أحكم الحاكمين أديم السماء بهذا اللون ليمسك الأبصار الراجعة فيه، فلا يَنْكَأ فيها، فهذا الذي أدركه الناس بعد الفكر والتجربة قد وُجِد مفروغًا منه في الخِلْقة.
ولم يكن طلوع الشمس وغروبها على هذا النظام لغير علة ولا حكمة
_________
(1) «د»: «ومصالح سكانه»، «م»: «والمصالح سكانه»، وصوّبها في الحاشية، وانظر لنحو هذا المثال: «الصواعق المرسلة» (4/ 1567).
(2) هذه الفقرة وأضرابها الآتيات مستفادة من مواضع متفرقة من «الدلائل والاعتبار» المنسوب للجاحظ.
(3) «د»: «كلم بصره».
(2/238)
________________________________________
مطلوبة، فكم من حكمة ومصلحة في ذلك، من إقامة الليل والسكن فيه، والنهار والمعاش فيه، فلو جعل الله عليهم الليل سرمدًا أو النهار سرمدًا لتعطلت مصالحهم وأكثر معايشهم، والحكمة في طلوعها أظهر من أن تُنْكَر.
ولكن تأمل الحكمة في غروبها، إذ لولا ذلك لم يكن للناس هدوء ولا قرار ولا راحة، وكان الكدّ الدائم يَنْكَأ في أبدانهم ويسرع فسادها، وكان ما على الأرض يحترق بدوام شروق الشمس من حيوان ونبات، فصار النور والظلمة على تضادهما متعاونين متظاهرين على ما فيه صلاح العالم وقوامه ونظامه.
وكذلك الحكمة في ارتفاع الشمس وانحطاطها لإقامة هذه الأزمنة الأربعة، وما في ذلك من الحكمة.
فإن في الشتاء تغور الحرارة في الشجر والنبات فتتولد من ذلك مواد الثمار، ويكثف الهواء فينشأ منه السحاب، ويحدث المطر الذي به حياة الأرض والحيوان، وتشتد أفعال الحيوان، وتقوى الأفعال الطبيعية.
وفي الربيع تتحرك الطبائع، وتظهر المواد الكامنة في الشتاء.
وفي الصيف يسخن الهواء فتنضج الثمار، وتتحلّل فضول الأبدان، ويجفّ وجه الأرض، فيتهيأ للبناء وغيره.
وفي الخريف يصفو الهواء ويعتدل، فيذهب بسَوْرة حر الصيف (1) وسمومه، إلى أضعاف أضعاف ذلك من الحكم.
_________
(1) «م»: «الشمس»، وانظر: «مفتاح دار السعادة» (1/ 208).
(2/239)
________________________________________
وكذلك الحكمة في تنقّل الشمس، فإنها لو كانت واقفة في موضع واحد لفاتت مصالح العالم، ولما وصل شعاعها إلى كثير من الجهات؛ لأن الجبال والجدران تحجبها عنها، فاقتضت الحكمة الباهرة أن جعلت مطلع أول النهار من المشرق، فتشرق على ما قابلها من وجه الغرب، ثم لا تزال تغشى وجهًا بعد وجه حتى تنتهي إلى المغرب (1)، فتشرق على ما استتر عنها أول النهار، فتأخذ جميع الجهات منها قسطًا من النفع.
وكذلك الحكمة الباهرة في انتهاء مقدار الليل والنهار إلى هذا الحد، فلو زاد مقدار أحدهما زيادة عظيمة لتعطلت المصالح والمنافع، وفسد النظام.
وكذلك الحكمة في ابتداء القمر دقيقًا، ثم أخْذه في الزيادة حتى يكمل، ثم يأخذ في النقصان حتى يعود إلى حالته الأولى، فكم في ذلك من حكمة ومصلحة ومنفعة للخلق؛ فإنه (2) بذلك يعرفون الشهور والسنين والآجال وأشهر الحج والتاريخ ومقادير الأعمار ومدد الإجارات وغيرها، وهذا وإن كان يحصل بالشمس إلا أن معرفته بالقمر وزيادته ونقصانه أمر يشترك فيه الناس كلهم.
وكذلك الحكمة في إنارة القمر والكواكب في ظلمة الليل، فإنه مع الحاجة إلى الليل وظلمته لهدوء الحيوان وبرد الهواء عليه وعلى النبات؛ لم يجعل الليل ظلامًا محضًا لا ضياء فيه، فلا يمكن فيه سفر ولا عمل، وربما احتاج الناس إلى العمل بالليل لضيق الوقت عليهم في النهار ولشدة الحر، فيتمكنون في ضوء القمر من أعمال كثيرة، وجُعِل نوره باردًا ليقاوم حرارة نور
_________
(1) «د»: «الغرب».
(2) «د» «م»: «فإن»، والسياق يقتضي المثبت.
(2/240)
________________________________________
الشمس فيه (1) وسمومه، فيبرد سمومه فيعتدل الأمر، ويكسر كيفية كل منهما كيفية الآخر، ويزيل ضررها.
وكذلك الحكمة في خلق النجوم، فإن فيها من الهداية في البر والبحر، والاستدلال على الأوقات، وزينة السماء وغير ذلك ما لم يكن حاصلًا بمجرد الاتفاق، كما يقوله نفاة الحكمة.
واقتضت هذه الحكمة أن جُعِلت نوعين: نوعًا منها يظهر وقتًا ويحتجب آخر، ونوعًا آخر لا يزال ظاهرًا غير مُحْتَجِب، بل جُعِل ظاهرًا بمنزلة الأعلام التي يهتدي بها الناس في الطرقات المجهولة، فهم ينظرون إليها متى أرادوا، ويهتدون بها إلى حيث شاؤوا، وجُعِلت الحكمة في النوع الأول الاستدلال بظهوره على أمور تقارنه، متى طلع في وقت معيّن دلّ على تلك الأمور، فقامت المصلحة والحكمة بالنوعين، مع ما في خلقها من حكم أخرى ومصالح لا يهتدي إليها العباد، فما خلق الله شيئًا سدى.
وقد نظم الله سبحانه الحوادث الأرضية بالأرواح والأجرام العلوية أكمل نظام، تعجز عقول البشر عن الإحاطة ببعضه، وقد استفرغت الأمم السالفة قوى أذهانها في إدراك ذلك فلم تصل منه إلا إلى ما لا نسبة له إلى ما خفي عليها بوجه ما.
وقد جعل الخلّاق العليم سبحانه النجوم فرقتين: فرقة منها لا تَرِيمُ مراكزها (2) من الفَلَك ولا تسير إلا بسيره، وفرقة أخرى مطلقه تتنقّل في
_________
(1) أي في النهار.
(2) أي لا تبرح منازلها ولا تغادرها، من رام يريم رَيَّمْا، انظر: «الجمهرة» (2/ 805).
(2/241)
________________________________________
البروج وتسير بأنفسها غير سيرها بفَلَكها، فلكل منها مسيران مختلفان: أحدهما عام مع الفَلَك نحو الغرب، والآخر خاص لنفسه نحو المشرق.
وقد شُبِّه هذا النوع بنملة تدب على رحا، والرحا تدور ذات اليمين، والنملة تدور ذات الشمال، فللنملة في تلك الحال حركتان مختلفتان: إحداهما حركة بنفسها تتوجه أمامها، والأخرى بغيرها هي مقهورة عليها تبعًا للرحى، تجذبها إلى خلفها، فلهذا النوع من النجوم حركتان مختلفتان على وزن وتقدير لا تعدوه.
فَزَعَم نفاة الحكمة أن ذلك أمر اتفاقي لا لحكمة ولا لغرض مقصود.
فإن قلت: فما الغرض المقصود بذلك، وأي حكمة فيه؟
قيل: استدِلَّ بما عرفتَ من الحكمة على ما خفي عليك منها، ولا تجعل ما خفي عليك دليلًا على بطلانها.
مع أن من بعض الحِكَم في ذلك أنها لو كانت كلها راتبة لبطلت الدلالات التي تكون من تنقّل المتنقِّلة منها، ومسيرها في كل واحد من البروج، كما يُستدل على أمور كثيرة وحوادث جمّة بتنقّل الشمس والقمر والسيارات في منازلها، ولو كانت كلها متنقّلة لم يكن لسيرها منازل تعرف ولا رسم يقاس عليه؛ فإنه إنما يقاس مسير المتنقّلة منها بتنقّلها في البروج الراتبة، كما يقاس سير السائر على الأرض بالمنازل التي يقطعها، وبالجملة فلو كانت كلها بحال واحدة لبطل النظام الذي اقتضته الحكمة التي جعلها هكذا، فذلك تقدير العزيز العليم، وصنع الربّ الحكيم.
وكيف يرتاب ذو بصيرة أن ذلك كله تقديرُ مُقَدِّرٍ حكيم، أتقن ما صنعه،
(2/242)
________________________________________
وأحكم ما دبّره، ويعرف بما فيه من الحِكَم والمصالح والمنافع إلى خلقه؟!
فشهدت العقول والفِطَر بأنه ذو الحكمة الباهرة، والقدرة القاهرة، والعلم التام المحيط، وأنه لم يخلق ذلك باطلًا، ولا من الحكمة عاطلًا.
وكذلك الحكمة في تعاقب الحر والبرد على التدريج على أبدان الحيوان والنبات، فإن قيامهما وكمالهما لمّا كان بذلك اقتضت الحكمة الإلهية أن لا يدخل أحدهما على الآخر وهلة فلا تحتمله، بل التدريج قليلًا قليلًا إلى أن ينتهي منتهاه، ويحصل المقصود به من غير ضرر يعم.
وهذا كله بأسباب هي منشأ الحِكَم والمصالح، فلا تُبْطِل السببَ بإثبات الحكمة، ولا الحكمةَ بالسبب، ولا السببَ والحكمةَ بالمشيئة= فتكونَ من الذين بخس حظهم من السمع والعقل (1).
وكذلك الحكمة في خلق النار على ما هي عليه كامنة في حاملها، فإنها لو كانت ظاهرة كالهواء والماء والتراب لأحرقت العالم وما فيه، ولم يكن بدّ من ظهورها في الأحايين للحاجة إليها، فجُعِلت مخزونة في الأجسام تُورَى عند الحاجة إليها، فتمسك بالمادة والحطب ما احتيج إلى بقائها، ثم تخبو إذا استغنى عنها، فجُعِلت على خلقة وتقدير وتدبير حصل به الاستمتاع بها والانتفاع مع السلامة من ضررها.
ثم في النار خَلّة أخرى، وهي أنها مما خُصّ به الإنسان دون سائر الحيوان، فإن الحيوانات لا تستعمل النار ولا تستمتع بها، ولمّا اقتضت الحكمة الباهرة ذلك اغتنت الحيوانات عنها في لباسها وأقواتها، فأعطيت من
_________
(1) انظر: «مفتاح دار السعادة» (1/ 610 - 612).
(2/243)
________________________________________
الشعور والأوبار ما يغنيها عنها، وجُعِلت أغذيتها بالمفردات التي لا تحتاج إلى طبخ وخَبْز.
ولما كانت حاجة الإنسان إليها شديدة جُعِل له من الأسباب والآلات ما يتمكّن به من إيرائها إذا شاء، ومن إبطالها.
ومن حِكَمها هذه المصابيح التي يوقدها الناس، فيتمكنون بها من كثير من حاجاتهم، ولولاها لكانوا نصف أعمارهم بمنزلة أصحاب القبور.
وأما منافعها في إنضاج الأغذية والأدوية والدفء فلا يخفى.
وقد نبَّه تعالى على ذلك كله بقوله: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة: 71 - 73]، أي: تذكّر بنار الآخرة، فيحترز منها، ويستمتع بها المُقْوون وهم النازلون بالقِيّ (1) وهي الأرض الخالية، وخُص هؤلاء بالذكر لشدة حاجتهم إليها في خَبْزهم وطبيخهم حيث لا يجدون ما يشترونه، فتغنيهم عن ما يصنعونه بالنار.
وكذلك الحكمة في خلق هذا النسيم وما فيه من المصالح والعبر، فإنه حياة هذه الأبدان وقوامها من داخل ومن خارج، وفيه تطرد هذه الأصوات فيؤديها إلى المسامع، وهو الحامل لهذه الأراييح يؤديها إلى المشام، وينقلها من موضع إلى موضع، وهو الذي (2) يزجي السحاب، ويسوقه من مكان إلى مكان على ظهره كالرَّوايا على ظهور الإبل، وهو الذي يثير السحاب أولًا
_________
(1) «م»: «بالفَيء» تصحيف، وانظر: «تاج العروس» (39/ 364).
(2) «م»: «وهي التي»، «د»: «وهي الذي»، والمثبت أشبه بما قبله وبعده.
(2/244)
________________________________________
فيكون كِسَفًا متفرقة، فيؤلف بينه ثانيًا فيصير طبقًا واحدًا، ثم يَلْقحه ثالثًا (1) كما يَلْقح الفحل الأنثى، فيحمل الماء كما تحمل الأنثى من لقاح الفحل، ثم يسوقه رابعًا إلى أحوج الأماكن والحيوان إليه، ثم يعصره خامسًا حتى يخرج ماؤه، ثم يذرو ماءه بعد عصره سادسًا حتى لا يسقط جملة فيهلك ما يقع عليه، ثم يربي النبات سابعًا، فيكون له بمنزلة الماء والغذاء، ثم يجففه بحرارته ثامنًا لئلا يعفن، ولا يمكن بقاؤه، ولهذا اقتضت الحكمة الباهرة أن تكون الرياح مختلفة المهاب والصفات والطبائع.
فَزَعَم نفاة الحكمة أن هذا كله أمر اتفاقي لا بسبب ولا غاية (2).
وهذا باب لو تتبعناه لجاء عدة أسفار، بل لو تتبعنا خِلْقة الإنسان وحده وما فيها من الحِكَم والغايات لعجزنا نحن وأهل الأرض عن الإحاطة بتفصيل ذلك، فلنرجع إلى جواب نفاة الحكمة والتعليل.
فنقول في الوجه الرابع والعشرين: قولهم: «أيّ حكمة في خلق إبليس وجنوده؟» ففي ذلك من الحِكَم ما لا يحيط بتفصيله إلا الله.
فمنها: أن يكمل لأنبيائه وأوليائه مراتب العبودية بمجاهدة عدو الله وحزبه، ومخالفته ومراغمته في الله، وإغاظته وإغاظة أوليائه، والاستعاذة به منه، واللجَأ إليه أن يعيذهم من شره وكيده، فيترتب لهم على ذلك من المصالح الدنيوية والأخروية ما لم يحصل بدونه، وقد قدمنا أن الموقوف على الشيء لا يحصل بدونه.
_________
(1) «م»: «بالنار» تحريف، وانظر: «مفتاح دار السعادة» (2/ 637).
(2) انظر: «مفتاح دار السعادة» (1/ 616 - 618).
(2/245)
________________________________________
ومنها: أن خوف الملائكة والمؤمنين من ربهم بعد أن شاهدوا من حال إبليس ما شاهدوه، وسقوطه من المرتبة الملكية إلى المنزلة الإبليسية= يكون أقوى وأتم، ولا ريب أن الملائكة لمّا شاهدوا ذلك حصلت لهم عبودية أخرى للربّ تعالى، وخضوع آخر، وخوف آخر، كما هو المشاهد من حال عبيد المَلِك إذا رأوه قد أهان أحدهم الإهانة التي بلغت منه كل مبلغ وهم يشاهدونه، فلا ريب أن خوفهم وحذرهم يكون أشد.
ومنها: أنه سبحانه جعله عبرة لمن خالف أمره، وتكبّر عن طاعته، وأصرّ على ذلك (1)، كما جَعَل ذنبَ أبي البشر عبرة لمن ارتكب نهيه أو عصى أمره، ثم تاب وندم ورجع إلى ربه، فابتلى أبوي الجن والإنس بالذنب، وجعل هذا الأب عبرة لمن أصر وأقام على ذنبه، وهذا الأب عبرة لمن تاب ورجع إلى ربه، فللّه كم في ضمن ذلك من الحِكَم الباهرة، والآيات الظاهرة.
ومنها: أنه مِحَكٌّ امتحن الله به خلقه؛ ليتميز به خبيثهم من طيبهم، فإنه سبحانه خلق النوع الإنساني من الأرض، وفيها السهل والحَزْن والطيب والخبيث، فلابدّ أن يظهر فيهم ما كان في مادتهم الأصلية، كما في الحديث الذي رواه الترمذي مرفوعًا (2): «إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على مثل ذلك، منهم الطيب والخبيث، والسَّهْل والحَزْن، وغير ذلك (3)»، فما كان في المادة الأصلية فهو كامن في المخلوق
_________
(1) «د»: «على معصية».
(2) برقم (2955) بنحوه، ورواه أحمد (19582)، وأبو داود (4693)، من حديث أبي موسى الأشعري، قال الترمذي: «حديث حسن صحيح»، وصححه ابن حبان (6160).
(3) كذا في الأصول هنا وفي موضع لاحق، والرواية: «وبين ذلك».
(2/246)
________________________________________
منها، فاقتضت الحكمة الإلهية إخراجه وظهوره، فلا بدّ إذًا من سبب يظهر ذلك، فكان إبليس مِحَكًّا يتميز به الطيب من الخبيث.
كما أنه جعل أنبياءه ورسله مِحَكًّا لذلك التمييز، قال تعالى: {كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا} [آل عمران: 179]، فأرسل رسله إلى المكلَّفين وفيهم الطيب والخبيث، فانضاف الطيب إلى الطيب، والخبيث إلى الخبيث.
فاقتضت حكمته البالغة أن خلطهم في دار الامتحان، فإذا صاروا إلى دار القرار ميّز بينهم، وجعل لهؤلاء دارًا على حدة، ولهؤلاء دارًا على حدة، حكمة بالغة، وقدرة قاهرة.
ومنها: أنْ يظهر كمال قدرته في مثل خلق جبريل والملائكة وإبليس والشياطين، وذلك من أعظم آيات قدرته ومشيئته وسلطانه، فإنه خالق الأضداد، كالسماء والأرض، والضياء والظلام، والجنة والنار، والماء والنار، والحديد والهواء، والخير والشر (1)، والطيب والخبيث.
ومنها: أنّ خَلْقَ أحدِ الضدين مِنْ إظهار حُسْنِ ضدِّه، فإنّ الضد إنما يظهر حسنُهُ بضده، فلولا القبيح لم تظهر فضيلة الجميل، ولولا الفقر لم يُعْرف قدر الغنى، كما تقدم بيانه قريبًا.
ومنها: أنه سبحانه يحب أن يشكر بحقيقة الشكر وأنواعه، ولا ريب أن أولياءه نالوا بوجود عدو الله إبليس وجنوده وامتحانهم به من أنواع شكره ما لم يكن ليحصل لهم بدونه، فكم بين شكر آدم عليه السلام وهو في الجنة قبل
_________
(1) في «د»: «والحر والبرد» بدل جملة: «والحديد والهواء، والخير والشر».
(2/247)
________________________________________
أن يخرج منها، وبين شكره بعد أن ابتُلِي بعدوه، ثم اجتباه ربّه فتاب عليه وقَبِله (1).
ومنها: أنّ المحبة والإنابة والتوكل والصبر والرضا ونحوها أحب العبودية إلى الله سبحانه، وهذه العبودية إنما تتحقق بالجهاد وبذل النفس لله، وتقديم محبته على كل ما سواه، فالجهاد ذروة سنام العبودية، وأحبها إلى الرب سبحانه، فكان في خلق إبليس وحزبه قيام سوق هذه العبودية وتوابعها التي لا يحصي حِكَمها وفوائدها وما فيها من المصالح إلا الله.
ومنها: أنّ في خلق مَن يُضاد رسله ويكذبهم ويعاديهم من تمام ظهور آياته وعجائب قدرته ولطائف صنعه= ما وجوده أحب إليه وأنفع لأوليائه من عدمه، كما تقدم من ظهور آية الطوفان والعصا واليد وفَلْق البحر وإلقاء الخليل في النار، وأضعاف أضعاف ذلك من آياته وبراهين قدرته وعلمه وحكمته، فلم يكن بدّ من وجود الأسباب التي يترتب عليها ذلك كما تقدم.
ومنها: أنّ المادة النارية فيها الإحراق والعلو والفساد، وفيها الإشراق والإضاءة والنور، فأخرج منها سبحانه هذا وهذا، كما أن المادة الترابية الأرضية فيها الطيب والخبيث، والسهل والحَزْن، والأحمر والأسود والأبيض، فأخرج منها ذلك كله، حكمة باهرة، وقدرة قاهرة، وآية دالة على أنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهْوَ وَهُوَ السَّمِيعُ} [الشورى: 11].
ومنها: أنّ من أسمائه: الخافض، الرافع، المعزّ، المذلّ، الحكم، العدل، المنتقم، وهذه الأسماء تستدعي متعلّقات تظهر فيها أحكامها كأسماء
_________
(1) «م»: «وهدى ... » وبعدها كلمة مطموسة.
(2/248)
________________________________________
الإحسان والرزق والرحمة ونحوها، ولابد من ظهور متعلّقات هذه وهذه.
ومنها: أنه سبحانه المَلِك التام المُلْك، ومن تمام ملكه عموم تصرفه وتنوعه بالثواب والعقاب، والإكرام والإهانة، والعدل والفضل، والإعزاز والإذلال، فلابدّ من وجود من يتعلق به أحد النوعين، كما أوجد من يتعلق به النوع الآخر.
ومنها: أنّ من أسمائه الحكيم، والحكمة من صفاته سبحانه، وحكمته تستلزم وضع كل شيء موضعه الذي لا يليق به سواه، فاقتضت خَلْق المتضادات وتخصيص كل واحد منها بما لا يليق به غيره من الأحكام والصفات والخصائص، وهل تتم الحكمة إلا بذلك؟ فوجود هذا النوع من تمام الحكمة، كما أنه من كمال القدرة.
ومنها: أنّ حَمْده سبحانه تام كامل من جميع الوجوه، فهو محمود على عدله ومنعه وخفضه وانتقامه وإهانته، كما هو محمود على فضله وعطائه ورفعه وإكرامه، فله الحمد التام الكامل على هذا وهذا، وهو يحمد نفسه على ذلك كله، ويحمده عليه ملائكتُه ورسلُه وأولياؤه، ويحمده عليه أهلُ الموقف جميعهم، وما كان من لوازم كمال حمده وتمامه فله في خلقه وإيجاده الحكمة التامة، كما له عليه الحمد التام، فلا يجوز تعطيل حمده، كما لا يجوز تعطيل حكمته.
ومنها: أنه سبحانه يحب أن يُظْهِر لعباده حلمَهُ وصبرَهُ وأناتَهُ (1) وسعَةَ رحمته وجوده، فاقتضى ذلك خَلْق مَن يُشرك به، ويضادّه في حكمه، ويجتهد
_________
(1) «م»: «حكمه وصبره وآياته» تصحيف.
(2/249)
________________________________________
في مخالفته، ويسعى في مساخطه، بل يشتمه (1) سبحانه، وهو مع ذلك يسوق إليه أنواع الطيبات، ويرزقه ويعافيه، ويمكّن له من أسباب ما يلتذّ به من أصناف النعم، ويجيب دعاءه، ويكشف عنه السوء، ويعامله من برِّه وإحسانه بضد ما يعامله هو به من كفره وشركه وإساءته، فلله كم في ذلك من حكمة وحمد، وتحبُّب إلى أوليائه، وتعرّف إليهم بأنواع كمالاته.
كما في «الصحيح» (2) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله، يجعلون له الولد وهو يرزقهم ويعافيهم».
وفي «الصحيح» (3) عنه - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه: «شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، أما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدًا، وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد، ولم يكن لي كفؤًا أحد، وأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليه من إعادته».
وهو سبحانه مع هذا الشتم له والتكذيب يرزق الشاتم المكذِّب ويعافيه ويدفع عنه، ويدعوه إلى جنته، ويقبل توبته إذا تاب إليه، ويبدله بسيئاته حسنات، ويتلطّف به في جميع أحواله، ويؤهله لإرسال رسله إليه، ويأمرهم بأن يُلينوا له القول ويرفقوا به.
_________
(1) قراءة محتملة من «م»، وفي «د»: «يشبهه» دون إعجام.
(2) البخاري (6099)، ومسلم (2804) من حديث أبي موسى الأشعري.
(3) البخاري (3193، 4974، 4975) من حديث أبي هريرة، وابن عباس (4482) بألفاظ مقاربة.
(2/250)
________________________________________
قال الفضيل بن عياض: «ما من ليلة يختلط ظلامها إلا نادى الجليل جلّ جلاله: مَن أعظم مني جودًا؟ الخلائق لي عاصون وأنا أكلؤهم في مضاجعهم كأنهم لم يعصوني، وأتولى حفظهم كأنهم لم يذنبوا، أجود بالفضل على العاصي، وأتفضّل على المسيء، مَن ذا الذي دعاني فلم ألبِّه، ومن ذا الذي سألني فلم أعطه؟ أنا الجواد ومني الجود، أنا الكريم ومني الكرم، ومن كرمي أني أعطي العبد ما سألني، وأعطيه ما لم يسألني، ومن كرمي أن أعطي التائب كأنه لم يعصني، فأين عني يهرب الخلق، وأين عن بابي يتنحّى العاصون؟» (1).
وفي أثر إلهي: «إني والإنس والجن في نبأ عظيم، أَخْلُقُ ويُعبَدُ غيري، وأَرْزُقُ ويُشْكَر سواي» (2).
وفي أثر آخر (3): «ابنَ آدم، ما أنصفتني، خيري إليك نازل، وشرُّك إليّ صاعد، كم أتحبب إليك بالنعم وأنا غني عنك، وكم تتبغّض إليّ بالمعاصي وأنت فقير إليّ، ولا يزال المَلَك الكريم يعرج إليّ منك بعمل قبيح» (4).
_________
(1) رواه أبو نعيم في «حلية الأولياء» (8/ 92).
(2) أخرجه الطبراني في «مسند الشاميين» (975)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (4243)، من طريق عبد الرحمن بن جبير وشريح بن عبيد عن أبي الدرداء مرفوعًا، وفي إسناده انقطاع، عبد الرحمن وشريح لم يدركا أبا الدرداء، انظر: «فيض القدير» (4/ 469)، «السلسلة الضعيفة» (2371).
(3) «د»: «أثر حسن».
(4) أخرجه بنحوه الرافعي في «التدوين» (3/ 4)، وابن عساكر في «المعجم» (2/ 993) من حديث علي بن أبي طالب يرفعه، وفي إسناده وضاع، كما في «السلسلة الضعيفة» (3287).
وأسنده الدينوري في «المجالسة» (2/ 33)، وأبو نعيم في «الحلية» (4/ 27) عن وهب قال: «قرأت في بعض الكتب» بنحوه.
(2/251)
________________________________________
وفي الحديث الصحيح: «لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون فيغفر لهم» (1).
فهو سبحانه لكمال محبته لأسمائه وصفاته اقتضى حمده وحكمته أن يخلق خلقًا يُظهر فيهم أحكامها وآثارها، فلمحبته للعفو خَلَق مَنْ يحسن العفو عنه، ولمحبته للمغفرة خَلَق مَنْ يغفر له، ويحلم عنه، ويصبر عليه ولا يعاجله، بل يكون تحت (2) أمانه وإمهاله، ولمحبته لعدله وحكمته خَلَق مَنْ يظهر فيهم عدله وحكمته، ولمحبته للجود والإحسان والبر خَلَق مَنْ يعامله بالإساءة والعصيان وهو سبحانه يعامله بالمغفرة والإحسان، فلولا خَلْق مَن تجري على أيديهم أنواع المعاصي والمخالفات لفاتت هذه الحِكَم والمصالح، وأضعافها وأضعاف أضعافها.
فتبارك الله رب العالمين، وأحكم الحاكمين، ذو الحكمة البالغة، والنعم السابغة، الذي وصلت حكمته إلى حيث وصلت قدرته، وله في كل شيء حكمة باهرة، كما أن له فيه قدرة قاهرة.
وهذا باب إنما ذكرنا منه قطرة من بحر، وإلا فعقول البشر أعجز وأضعف وأقصر من أن تحيط بكمال حكمته في شيء من خلقه، فكم حصل بسبب هذا المخلوق البغيض للرب المسخوط له من محبوب له تبارك
_________
(1) تقدم تخريجه في (1/ 378).
(2) مهملة في الأصول، وفي «ط»: «يحب».
(2/252)
________________________________________
وتعالى يتضاءل في جنبه ما حصل به من مكروهه.
والحكيم الباهر الحكمة هو الذي يحصّل أحب الأمرين إليه باحتمال المكروه الذي يبغضه ويسخطه إذا كان طريقًا إلى حصول ذلك المحبوب، ووجود الملزوم بدون لازمه محال.
فإن يكن قد حصل بعدو الله إبليس من الشرور والمعاصي ما حصل فكم حصل بسبب وجوده ووجود جنوده من طاعة هي أحب إلى الله، وأرضى له من جهاد في سبيله، ومخالفة هوى النفس وشهوتها له، وتحمّل المشاق والمكاره في محبته ومرضاته، وأحب شيء للحبيب أن يرى مُحِبّه يتحمل لأجله من الأذى والوصب ما يصدِّق محبَّتَه:
من أجلك قد جعلت خدي أرضًا ... للشامت والحسود حتى ترضى (1)
وفي أثر إلهي: «بِعَيْني (2)، ما يتحمّل المتحملون من أجلي» (3).
فلله ما أحب إليه احتمال محبيه أذى أعدائه لهم فيه وفي مرضاته، وما أنفع ذلك الأذى لهم، وما أحمدهم لعاقبته، وماذا ينالون به من كرامة حبيبهم وقربه، وقرة عيونهم به، ولكن حرام على منكري محبّة الرب تعالى أن يشموا لذلك رائحة، أو يدخلوا من هذا الباب، أو يذوقوا من هذا الشراب.
_________
(1) تمثّل به ابن الجوزي في «المدهش» (181)، والمؤلف في «المدارج» (3/ 2222).
(2) هكذا هي مجوّدة في «م»، وفي مصادر الرواية، ووقعت في «ط»: «بغيتي».
(3) جزء من أثر طويل يُروى من طريق وهب بن منبه وغيره عن بعض كتب الأوّلين، رواه أبو نعيم في «الحلية» (4/ 60) (9/ 255) (10/ 80)، وابن أبي الدنيا في «حسن الظن بالله» (90)، وأورده المؤلف في «عدة الصابرين» (81) وغيره.
(2/253)
________________________________________
فقل للعيون العُمْيِ: للشمس أعينٌ ... سواك تراها في مغيب ومطلعِ
وسامح نفوسًا لم تؤهل لحبهم ... فما يحسن التخصيص في كل موضعِ (1)
فإنْ أغضب هذا المخلوق ربّه فقد أرضاه فيه أنبياؤه ورسله وأولياؤه، وذلك الرضا أعظم من ذلك الغضب، وإن أسخطه ما يجري على يديه من المعاصي والمخالفات فإنه سبحانه أشدّ فرحًا بتوبة العاصي (2) من الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه إذا وجدها في المَفَاوز المهلكات، وإن أغضبه ما جرى على أنبيائه ورسله من هذا العدو فقد سَرّه وأرضاه ما جرى على أيديهم من حربه ومعصيته ومراغمته وكبته وغيظه، وهذا الرضا أعظم عنده وأبرّ لديه من فوات ذلك المكروه المستلزِم لفوات هذا المَرْضي المحبوب، وإنْ أسخطه أكْلُ آدم من الشجرة فقد أرضاه توبته وإنابته وخضوعه وتذلّله بين يديه وانكساره له، وإنْ أغضبه إخراجُ أعدائه لرسوله من حرمه وبلدته ذلك الخروج فقد أرضاه أعظم الرضا دخوله إليها ذلك الدخول، وإنْ أسخطه قتْلُهُم أولياءَه وأحبابَه وتمزيقُ لحومهم وإراقةُ دمائهم فقد أرضاه نيلهم الحياة التي لا أطيب منها ولا أنعم ولا ألذ في قربه وجواره، وإن أسخطه معاصي عباده وذنوبُهُم فقد أرضاه شهود ملائكته وأنبيائه ورسله وأوليائه سعة مغفرته وعفوه وبرّه وكرمه وجوده، والثناء عليه بذلك، وحمده وتمجيده بهذه (3) الأوصاف التي حمْده بها والثناء عليه بها أحب إليه وأرضى
_________
(1) أنشدهما المؤلف بألفاظ متقاربة في مواضع من كتبه، منها: «الصواعق المرسلة» (3/ 1200)، وضمن عدة أبيات بقافية مختلفة في «مدارج السالكين» (4/ 2827).
(2) «د»: «عبده».
(3) «م»: «فهذه».
(2/254)
________________________________________
له من فوات تلك المعاصي، وفوات هذه المحبوبات.
واعلم أن الحمد هو الأصل الجامع لذلك كله، فهو عقد نظام الخلق والأمر، والربّ تعالى له الحمد كله بجميع وجوهه واعتباراته وتصاريفه، فما خَلَق شيئًا ولا حَكَم بشيء إلا وله فيه الحمد، فوصَل حمده إلى حيث وصَل خَلْقه وأَمْره حمدًا حقيقيًا، يتضمن محبته والرضا به وعنه، والثناء عليه، والإقرار بحكمته البالغة في كل ما خلقه وأمر به.
فتعطيل حكمته عين تعطيل حمده كما تقدم بيانه، فكما أنه لا يكون إلا حميدًا؛ فلا يكون إلا حكيمًا، فحمده وحكمته كعلمه وقدرته وحياته من لوازم ذاته، ولا يجوز تعطيل شيء من صفاته وأسمائه عن مقتضياتها وآثارها؛ فإن ذلك يستلزم النقص الذي يناقض كماله وكبرياءه وعظمته.
يوضحه الوجه الخامس والعشرون: أنه كما أن من صفات الكمال وأفعال الحمد والثناء أنه يجود ويعطي ويمنح= فمنها أن يعيذ وينصر ويغيث، فكما يحب أن يلوذ به اللائذون يحب أن يعوذ به العائذون، وكمال الملوك أن يلوذ بهم أولياؤهم ويعوذوا بهم، كما قال أحمد بن حسين الكندي في ممدوحه:
يا من ألوذ به فيما أؤمّلُهُ ... ومن أعوذ به مما أحاذرُهُ
لا يجبر الناسُ عظمًا أنت كاسرُهُ ... ولا يَهِيضون عظمًا أنت جابرُهُ (1)
ولو قال ذلك في ربّه وفاطره لكان أسعد به من مخلوق مثله.
والمقصود أن ملك الملوك يحب أن يلوذ به مماليكه، وأن يعوذوا به،
_________
(1) «ديوان المتنبي بشرح الواحدي» (66).
(2/255)
________________________________________
كما أمر رسوله أن يستعيذ به من الشيطان في غير موضع من كتابه، وبذلك يظهر تمام نعمته على عبده إذا أعاذه وأجاره من عدوه، فلم تكن إعاذته وإجارته منه بأدنى النعمتين.
والله تعالى يحب أن يكمل نعمه على عباده المؤمنين، ويريهم نصره لهم على عدوهم، وحمايتهم منه، وظفرهم بهم، فيا لها من نعمةٍ كمُل بها سرورهم ونعيمهم، وعدْلٍ أظهره في أعدائه وخصمائه.
وما منهما إلا له فيه حكمة ... يقصر عن إدراكها كل باحثِ (1)
الوجه السادس والعشرون: قوله: «أي حكمة في إبقاء إبليس إلى آخر الدهر وإماتة الرسل؟».
فكم لله في ذلك من حكمة تضيق بها (2) الأوهام، فمنها: أنه سبحانه لمّا جعله مِحَكًّا ومحنة يُخْرِج به الخبيثَ من الطيب، ووليَّهُ من عدوه= اقتضت حكمته إبقاءه ليحصل الغرض المطلوب بخلقه، ولو أماته لفات ذلك الغرض، كما أن الحكمة اقتضت بقاء أعدائه الكفار في الأرض إلى آخر الدهر، ولو أهلكهم البتّة لتعطلت الحكم الكثيرة في إبقائهم، فكما اقتضت حكمته امتحان أبي البشر به اقتضت امتحان أولاده من بعده به، فتحصل السعادةُ لمن خالفه وعاداه، وينحاز إليه من وافقه ووالاه.
ومنها: أنه لمّا سبق في حُكْمه وحكمته أنه لا نصيب له في الآخرة، وقد سبق له طاعة وعبادة جزاه بها في الدنيا بأن أعطاه البقاء فيها إلى آخر الدهر،
_________
(1) لم أقف عليه.
(2) «م»: «لها».
(2/256)
________________________________________
فإنه سبحانه لا يظلم أحدًا حسنة عملها، فأما المؤمن فيجزيه بحسناته في الدنيا وفي الآخرة، وأما الكافر فيجزيه بحسنات ما عمل في الدنيا، فإذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له شيء، كما ثبت هذا المعنى في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (1).
ومنها: أن إبقاءه لم يكن كرامة في حقه، فإنه لو مات كان خيرًا له، وأخف لعذابه، وأقلَّ لشره، ولكن لمّا غلُظ ذنبُهُ بالإصرار على المعصية، ومخاصمة من ينبغي التسليم لحُكْمِه، والقدح في حكمته، والحلف على اقتطاع عباده وصدّهم عن عبوديته= كانت عقوبة هذا الذنب أعظم عقوبة بحسب تغلّظه، فأُبْقِي في الدنيا، وأُمْلِي له ليزداد إثمًا على إثم ذلك الذنب، فيستوجب العقوبة التي لا تصلح لغيره، فيكون رأس أهل الشر في العقوبة، كما كان رأسهم في الشر والكفر، ولمّا (2) كان مادة كل شر ـ فعنه ينشأ ـ جُوزِي في النار مثل فعله، فكل عذاب ينزل بأهل النار يُبدأ به فيه، ثم يسري منه إلى أتباعه عدلًا ظاهرًا وحكمةً بالغةً.
ومنها: أنه قال في مخاصمته لربه: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 62]، وعلم سبحانه أن في الذرية من لا يصلح لمساكنته في داره، ولا يصلح إلا لما يصلح له الشوك والرَّوْث، أبقاه له، وقال له بلسان القدر: هؤلاء أصحابك وأولياؤك، فاجلس في انتظارهم، فكلما مرَّ بك واحد منهم فشأنك به، فلو صلح لي لمّا مكّنتك منه، فإني أتولى الصالحين، وهم الذين يصلحون لي، وأنت ولي المجرمين الذين رغبوا عن موالاتي وابتغاء مرضاتي، قال تعالى:
_________
(1) أخرجه مسلم (2808) من حديث أنس بن مالك.
(2) «م»: «وكما».
(2/257)
________________________________________
{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ مُشْرِكُونَ} [النحل: 99 - 100].
وأما إماتة الأنبياء والمرسلين فلم يكن ذلك لهوانهم عليه، ولكن ليصلوا إلى محل كرامته، ويستريحوا من نكد الدنيا وتعبها، ومقاساة أعدائهم وأتباعهم، وليجيء الرسل بعدهم تترى رسولًا بعد رسول، فإماتتهم أصلح لهم وللأمة.
أما هم فلراحتهم من الدنيا ولحُوقهم بالرفيق الأعلى في أكمل لذة وسرور، ولاسيما وقد خيّرهم ربهم بين البقاء في الدنيا واللحاق به.
وأما الأمم فيعلم أنهم لم يطيعوهم في حياتهم خاصة، بل أطاعوهم بعد مماتهم كما أطاعوهم في حياتهم، وأن أتباعهم لم يكونوا يعبدونهم بل يعبدون الله بأمرهم ونهيهم، والله هو الحي الذي لا يموت.
فكم في إماتتهم من حكمة ومصلحة لهم وللأمم، هذا وهُم بشر، ولم يخلق الله البشر في الدنيا على خِلْقة قابلة للدوام، بل جعلهم خلائف في الأرض، يخلف بعضهم بعضًا، فلو أبقاهم لفاتت المصلحة والحكمة في جعلهم خلائف، ولضاقت بهم الأرض، فالموت كمال لكل مؤمن، ولولا الموت لما طاب العيش في الدنيا، ولا تهنّا أهلها بها (1)، فالحكمة في الموت كالحكمة في الحياة.
الوجه السابع والعشرون: قوله: «وأي حكمة ومصلحة في إخراج آدم من الجنة إلى دار الابتلاء والامتحان؟».
_________
(1) «د»: «ولا يهنأ لأهلها» مهملة.
(2/258)
________________________________________
فالجواب أن يقال: كم لله سبحانه في ذلك من حكمة، وكم فيه من نعمة ومصلحة تعجز العقول عن معرفتها على التفصيل، ولو استفرغت قواها كلها في معرفة ذلك.
وإهباط آدم وإخراجه من الجنة كان نفسَ كماله؛ ليعود إليها على أحسن أحواله، وهو سبحانه إنما خلقه ليستعمره وذريته في الأرض، ويجعلهم يخلف بعضهم بعضًا، فخلقهم سبحانه ليأمرهم وينهاهم ويبتليهم، وليست الجنة دار ابتلاء وتكليف.
فأخرج الأبوين إلى الدار التي خُلِقوا منها وفيها ليتزوّدوا منها إلى الدار التي خُلِقوا لها، فإذا ذاقوا تعب دار التكليف ونصبها وأذاها عرفوا قدر تلك الدار وشرفها وفضلها، ولو نشأوا في تلك الدار لما عرفوا قدر نعمته عليهم بها، فأسكنهم دار الامتحان، وعرّضهم فيها لأمره ونهيه؛ لينالوا بالطاعة أفضل ثوابه وكرامته، وكان من الممكن أن يحصل لهم النعيم المقيم هناك، لكن الحاصل عقيب الابتلاء والامتحان، ومعاناة الموت وما بعده، وأهوال القيامة، والعبور على الصراط= نوع آخر من النعيم لا يُدْرَك قدره، وهو أكمل مِنْ نعيم مَنْ خُلِق في الجنة من الوِلْدان والحور العين، بما لا نسبة بينهما بوجه من الوجوه.
ومن الحِكَم في ذلك أنه سبحانه أراد أن يتخذ من ذرية آدم رسلًا وأنبياء وشهداء، يحبهم ويحبونه، وينزل عليهم كتبه، ويعهد إليهم عهده، ويستعبدهم له في السراء والضراء، ويؤثرون محابه ومراضيه على شهواتهم وما يحبونه ويهوونه، فاقتضت حكمته أن أنزلهم إلى دارٍ ابتلاهم فيها بما ابتلاهم ليكملوا بذلك الابتلاء مراتب عبوديته، ويعبدونه بما تكرهه
(2/259)
________________________________________
نفوسهم، وذلك محض العبودية، وإلا فمَنْ لا يعبد الله إلا بما يحبه ويهواه فهو في الحقيقة إنما يعبد نفسه.
وهو سبحانه يحب من أوليائه أن يوالوا فيه، ويعادوا فيه، ويبذلوا نفوسهم في مرضاته ومحابه، وهذا كله لا يحصل في دار النعيم المطلق.
ومن الحكمة في إخراجه من الجنة ما تقدم التنبيه عليه من اقتضاء أسماء الله الحسنى لمسمياتها ومتعلقاتها، كالغفور الرحيم التواب، العفو المنتقم، الخافض الرافع، المعز المذل، المحيي المميت الوارث، ولابد من ظهور أثر هذه الأسماء ووجود ما تتعلق به، فاقتضت حكمته أن أنزل الأبوين من الجنة ليظهر مقتضى أسمائه وصفاته فيهما وفي ذريتهما، فلو تَربّت الذرية في الجنة لفاتت آثار هذه الأسماء وتعلقاتها، والكمال الإلهي يأبى ذلك، فإنه الملك الحق المبين، والملك هو الذي يأمر وينهى، ويكرم ويهين، ويثيب ويعاقب، ويعطي ويمنع، ويعزّ ويذلّ، فأنزل الأبوين والذرية إلى دار تجري عليهم فيها هذه الأحكام.
وأيضًا: فإنهم أُنْزِلوا إلى دار يكون إيمانهم فيها تامًا، فإن الإيمان قول وعمل، وجهاد وصبر واحتمال، وهذا كله إنما يكون في دار الامتحان لا في جنة النعيم.
وقد ذكر غير واحد من أهل العلم ـ منهم أبو الوفاء بن عقيل (1) وغيره ـ:
_________
(1) وله مصنف مفرد في ذلك باسم: «تفضيل العبادات على نعيم الجنات»، ذكره ابن رجب في «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 156)، وأشار إليه في كتابه «استنشاق نسيم الأنس» (98) دون تسمية مؤلفه، ونقد هذه التسمية. وأشار إليه ابن القيم في «عدة الصابرين» (332)، ونقده أيضًا. (العمير).
(2/260)
________________________________________
أن أعمال الرسل والأنبياء والمؤمنين في الدنيا أفضل من نعيم الجنة، قالوا: لأن نعيم الجنة حظّهم وتمتّعهم، فأين يقاس إلى الإيمان وأعماله، والصلوات، وقراءة القرآن، والجهاد في سبيل الله، وبذل النفوس في مرضاته، وإيثاره على هواها وشهواتها، فالإيمان متعلِّق به سبحانه وهو حقه عليهم، ونعيم الجنة متعلِّق بهم وهو حظّهم، فهم إنما خُلِقوا للعبادة، والجنة دار نعيم لا دار تكليف وعبادة.
وأيضًا: فإنه سبحانه سبق حُكمه وحِكمته بأن يجعل في الأرض خليفة، وأعلم بذلك ملائكته، فهو سبحانه قدَّر أن يكون هذا الخليفة وذريته في الأرض قبل خلقه؛ لما له في ذلك من الحِكَم والغايات الحميدة، فلم يكن بُدّ من إخراجه من الجنة إلى الدار التي قدَّر سكناه فيها قبل أن يخلقه، وكان ذلك التقدير بأسباب وبحِكَم.
فمن أسبابه: النهي عن تلك الشجرة، وتخْلِيته بينه وبين عدوه حتى وسوس إليه بالأكل، وتخْلِيته بينه وبين نفسه حتى وقع في المعصية، وكانت تلك الأسباب موصلة إلى غايات محمودة مطلوبة ترتّبت على خروجه من الجنة.
ثم ترتّب على خروجه أسباب أُخَر جُعِلت غايات لحِكَم أُخَر، ومن تلك الغايات: عَوْده إليها على أكمل الوجوه، فذلك التقدير وتلك الأسباب وغاياتها صادر عن محض الحكمة البالغة، التي يحمده عليها أهل السماوات والأرض والدنيا والآخرة، فما قَدَّر أحكم الحاكمين ذلك باطلًا، ولا دبَّره عبثًا، ولا أخلاه من حكمته البالغة وحمده التام.
وأيضًا: فإنه سبحانه قال لملائكته: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ
(2/261)
________________________________________
فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّيَ أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]، ثم أظهر سبحانه من علمه وحكمته الذي خفي على ملائكته من أمر هذا الخليفة ما لم يكونوا يعرفونه، بأن جعل من نسله من أوليائه وأحبائه ورسله وأنبيائه من يتقرب إليه بأنواع التقرّب، ويبذل نفسه في محبته ومرضاته، يسبح بحمده آناء الليل وأطراف النهار، ويذكره قائمًا وقاعدًا وعلى جنبه، ويعبده ويذكره، ويشكره في السراء والضراء، والعافية والبلاء، والشدة والرخاء، فلا يثنيه عن ذكره وشكره وعبادته شدةٌ ولا بلاء، ولا فقرٌ ولا مرض، ويعبده مع معارضة الشهوة، وغلبات الهوى، وتقاضي الطباع لأحكامها، ومعاداة بني جنسه وغيرهم له، فلا يصده ذلك عن عبادته وشكره وذكره والتقرب إليه.
فإن كانت عبادتكم لي بلا معارض ولا ممانع؛ فعبادة هؤلاء لي مع هذه المعارضات والموانع والشواغل.
وأيضًا: فإنه سبحانه أراد أن يظهر لهم ما خفي عليهم مِنْ شأن مَنْ كانوا يعظمونه ويجلّونه، ولا يعرفون ما في نفسه من الكبر والحسد والشر، فذلك الخير وهذا الشر كامن في نفوس لا يعلمونها، فلابد من إخراجه وإبرازه لكي تُعْلَم حكمةُ أحكم الحاكمين في معاملة كل منهما بما يليق به.
وأيضًا: فإنه سبحانه لما خَلَقَ خلقه أطوارًا وأصنافًا، وسبق في حُكْمه وحِكْمته تفضيلُ آدم وبنيه على كثير ممن خلق تفضيلًا= جعل عبوديتهم أكمل من عبودية غيرهم، وكانت العبودية أفضل أحوالهم، وأعلى درجاتهم، أعني العبودية الاختيارية التي يأتون بها طوعًا واختيارًا، لا كرهًا واضطرارًا.
(2/262)
________________________________________
ولهذا أرسل الله تعالى جبريل عليه السلام إلى سيد هذا النوع الإنساني، يخيّره بين أن يكون عبدًا رسولًا أو مَلِكًا نبيًا، فاختار بتوفيق ربِّه له أن يكون عبدًا رسولًا.
وذَكَره سبحانه باسم العبودية في أشرف مقاماته، وأفضل أحواله، كمقام الدعوة والتحدي والإسراء وإنزال القرآن، فقال: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن: 19]، {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23]، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1]، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1] فأثنى عليه، ونوَّه به بعبوديته التامة له.
ولهذا يقول أهل الموقف حين يطلبون الشفاعة: «اذهبوا إلى محمد عَبْدٍ غَفَر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر» (1).
فلما كانت العبودية أشرف أحوال بني آدم وأحبّها إلى الله، وكان لها لوازم وأسباب وشروط (2) لا تحصل إلا بها؛ كان من أعظم الحكمة أن أُخْرجوا إلى دار تجري عليهم فيها أحكام العبودية وأسبابها وشروطها وموجباتها، فكان إخراجهم من الجنة تكميلًا لهم وإتمامًا لنعمته عليهم.
مع ما في ذلك من حصول محبوبات الرب تعالى، فإنه يحب إجابة الدعوات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، ومغفرة الزلّات، وتكفير السيئات، ودفع البليّات، وإعزاز من يستحق العزّ، وإذلال من يستحق الذلّ،
_________
(1) جزء من حديث الشفاعة العظمى أخرجه ابن حبان (6464)، وهو عند البخاري (4712)، ومسلم (327) دون موضع الشاهد.
(2) «د»: «شروطه».
(2/263)
________________________________________
ونَصْر المظلوم، وجَبْر الكسير، ورَفْع بعض خلقه على بعض وجَعْلِهم درجات؛ ليُعرف قدرُ فضله وتخصيصه، فاقتضى ملكه التام وحمده الكامل أن يخرجهم إلى دار تحصل فيها محبوباته سبحانه، وإن كان لكثير منها طرق وأسباب يكرهها، فالموقوف على الشيء لا يحصل بدونه، وإيجاد لوازم الحكمة من الحكمة، كما أن إيجاد لوازم العدل من العدل، كما ستقف عليه في فصل إيلام الأطفال إن شاء الله (1).
الوجه الثامن والعشرون: أنه سبحانه أبرَزَ خلقه من العدم إلى الوجود ليجري عليه أحكام أسمائه وصفاته، فيظهر كماله المقدّس ـ وإن كان لم يزل كاملًا ـ، فمن كماله ظهور آثار كماله في خلقه وأمره، وقضائه وقدره، ووعده ووعيده، ومنعه وإعطائه، وإكرامه وإهانته، وعدله وفضله، وعفوه وانتقامه، وسعة حلمه، وشدّة بطشه.
وقد اقتضى كماله المقدّس سبحانه أنه كل يوم هو في شأن، فمن جملة شؤونه أن يغفر ذنبًا، ويفرّج كربًا، ويشفي مريضًا، ويفك عانيًا، وينصر مظلومًا، ويغيث ملهوفًا، ويجبر كسيرًا، ويغني فقيرًا، ويجيب دعوة، ويُقِيل عثرة، ويعز ذليلًا، ويذل متكبرًا، ويقصم جبارًا، ويميت ويحيي، ويُضحِك ويُبكي، ويخفض ويرفع، ويعطي ويمنع، ويرسل رسله من الملائكة ومن البشر في تنفيذ أوامره، ويسوق مقاديره التي قدّرها إلى مواقيتها التي وقّتها لها، وهذا كله لم يكن ليحصل في دار البقاء، وإنما اقتضت حكمته البالغة حصوله في دار الامتحان والابتلاء.
_________
(1) في الوجه السادس والثلاثين (279).
(2/264)
________________________________________
يوضحه الوجه التاسع والعشرون: أن كمال ملكه التام اقتضى كمال تصرفه فيه بأنواع التصرف، ولهذا جعل الله (1) سبحانه الدور ثلاثة: دارًا أخلصها للنعيم واللذة والبهجة والسرور، ودارًا أخلصها للألم والنّصَب وأنواع البلاء والشرور، ودارًا خلط خيرها بشرها، ومزج نعيمها بشقائها، ومزج لذتها بألمها يلتقيان ويتطالبان، وجعل عمارة تينك الدارين من هذه الدار، وأجرى من أحكامه على خلقه في الدور الثلاثة بمقتضى ربوبيته وإلهيته، وعلمه وعزته، وحكمته وعدله ورحمته، فلو أسكنهم كلهم دار البقاء من حين أوجدهم لتعطلت أحكام هذه الصفات (2)، ولم يترتب عليها آثارها.
يوضحه الوجه الثلاثون: أنّ يوم المعاد الأكبر يومُ مَظْهَرِ الأسماء والصفات وأحكامها، ولهذا يقول سبحانه {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ} [غافر: 16]، وقال: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} [الفرقان: 26]، وقال: {يَوْمُ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19].
حتى إن الله سبحانه لَيتعرّف إلى عباده ذلك اليوم بأسماء وصفات لم يعرفوها في هذه الدار، فهو يوم ظهور المملكة العظمى، والأسماء الحسنى، والصفات العُلى.
فتأمّل ما أخبر به الله ورسوله من شأن ذلك اليوم وأحكامه، وظهور عزّته تعالى وعظمته وعدله وفضله ورحمته، وآثار صفاته المقدسة التي لو خُلِقوا في دار البقاء لتعطّلت، وكماله سبحانه ينفي ذلك.
_________
(1) لفظ الجلالة من «د».
(2) «م»: «لتعطلت إذًا قيام هذه الصفات».
(2/265)
________________________________________
وهذا دليل مستقل لمن عرف الله تعالى وأسماءه وصفاته على وقوع المعاد، وصِدْق الرسل فيما أخبروا به عن الله منه، فيتطابق دليل العقل ودليل السمع على وقوعه.
الوجه الحادي والثلاثون: أن الله سبحانه يحب أن يُعبد بأنواع التعبدات كلّها، ولا يليق ذلك إلا بعظمته وجلاله، ولا يحسن ولا ينبغي إلّا له وحده.
ومن المعلوم أن أنواع التعبّد الحاصلة في دار الابتلاء والامتحان لا تكون في دار المجازاة، وإن كان في هذه الدار بعض المجازاة، فكمالها وتمامها إنما هو في تلك الدار، وليست دار عمل، وإنما هي دار جزاء وثواب، أوجب كمالُهُ المقدس أن يجزي فيها الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.
فلم يكن بُدّ من دار تقع فيها الإساءة والإحسان، ويجري على أهلها فيها أحكام الأسماء والصفات، ثم تعقبها دار يجازي فيها المحسن والمسيء، ويجري على أهلها فيها أحكام الأسماء والصفات.
فتعطيل أسمائه وصفاته ممتنع مستحيل، وهو تعطيل لربوبيته وإلهيته وملكه وعزه وحكمته.
فمن فُتِح له باب من الفقه في أحكام الأسماء والصفات، وعلم اقتضاءها (1) لآثارها ومتعلقاتها، واستحالة تعطيلها؛ علم أن الأمر كما أخبرت به الرسل، وأنه لا يجوز عليه سبحانه، ولا ينبغي له غيره، وأنه يُنزَّه عن خلاف ذلك، كما يُنزَّه عن سائر العيوب والنقائص.
_________
(1) «د»: «اختصاصها».
(2/266)
________________________________________
وهذا باب عزيز من أبواب الإيمان، يفتحه الله على من يشاء من عباده، ويحرمه من يشاء.
الوجه الثاني والثلاثون: أنه كم لله سبحانه من حكمة وحمْد وأمْر ونهْي وقضاء وقَدَر في جعل بعض عباده فتنة لبعض، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [الأنعام: 53]، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان: 20].
فهو سبحانه جعل أولياءه فتنة لأعدائه، وأعداءه فتنة لأوليائه، والملوكَ فتنة للرعية، والرعيةَ فتنة لهم، والرجالَ فتنة للنساء، وهنّ فتنة لهم، والأغنياءَ فتنة للفقراء، والفقراءَ فتنة لهم (1).
وابتلى كلَّ أحدٍ بضدّ جعله مقابله، فما استقرت أقدام الأبوين على الأرض إلا وضدهما مقابلهما، واستمر الأمر في الذرية كذلك إلى أن يطوي الله الدنيا ومَن عليها.
وكم له سبحانه في هذا الابتلاء والامتحان من حكمة بالغة، ونعمة سابغة، وحُكْم نافذ، وأمْر ونهْي، وتصريف دالّ على ربوبيته وإلهيته، وملكه وحمده، وكذلك ابتلاءُ عباده بالخير والشر في هذه الدار هو من كمال حكمته، ومقتضى حمده التام.
الوجه الثالث والثلاثون: أنه لولا هذا الابتلاء والامتحان لما ظهر فضل الصبر والرضا والتوكل والجهاد والعفة والشجاعة والحلم والعفو والصفح، والله سبحانه يحب أن يكرم أولياءه بهذه الكمالات، ويحب ظهورها عليهم
_________
(1) من قوله: «والرجال فتنة» إلى هنا ساقط من «م».
(2/267)
________________________________________
ليثني بها عليهم هو وملائكته، وينالوا باتصافهم بها غاية الكرامة واللذة والسرور، وإن كانت مُرّة المبادئ فلا أحلى من عواقبها، ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع.
وقد أجرى الله سبحانه حكمته بأنّ كمال الغايات تابع لقوة أسبابها وكمالها، ونقصانها لنقصانها، فمَنْ كمل له أسباب النعيم واللذة كملت له غاياتها، ومَنْ حُرِمها حُرِمها، ومَنْ نقصها نقص له من غاياتها، وعلى هذا قام الجزاء بالقسط والثواب والعقاب، وكفى بهذا العالم شاهدًا لذلك، فربُّ الدنيا والآخرة واحد، وحكمته مطردة فيهما {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 70].
يوضحه الوجه الرابع والثلاثون: وهو أنّ أفضلَ العطاء وأجلّه على الإطلاقِ الإيمانُ وجزاؤه، وهو لا يتحقق إلا بالامتحان والاختبار، قال الله تعالى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهْوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 1 - 6].
فذكر سبحانه في هذه السورة أنه لا بُدَّ أن يمتحن خلقه ويفتنهم؛ ليتبين الصادق من الكاذب، والمؤمن من الكافر، ومَن يشكره ويعبده ممّن يكفره ويعرض عنه ويعبد غيره.
وذَكَر أحوالَ الممتحَنين في العاجل والآجل، وذَكَر أئمةَ الممتحَنين في الدنيا وهم الرسل وأتباعهم، وعاقبة أمرهم وما صاروا إليه، ثم ذَكَر
(2/268)
________________________________________
الممتحَنين من أعدائهم ومكذّبيهم، وما صاروا إليه (1).
فافتتح السورة بالإنكار على مَنْ يحسب أنه يتخلّص من الامتحان والفتنة في هذه الدار إذا ادعى الإيمان، وأن حكمته سبحانه ومشيئته في خلقه تأبى ذلك، وأخبر عن سر هذه الفتنة والمحنة وهو تبيّن الصادق من الكاذب، والمؤمن من الكافر، وهو سبحانه كان يعلم ذلك قبل وقوعه، ولكن اقتضى عدله وحمده أنه لا يجزي العبادَ بمجرد علمه فيهم، بل بمعلومه إذا وُجِد وتحقَّق، والفتنة هي التي أظهرته وأخرجته إلى الوجود، فحينئذ حَسُن وقوع الجزاء عليه.
ثم أنكر سبحانه على من لم يلتزم الإيمان به ومتابعة رسله ــ خوف الفتنة والمحنة التي يمتحن بها رسله وأتباعهم ــ ظنَّه وحسبانَه أنه بإعراضه عن الإيمان به وتصديق رسله يتخلّص من الفتنة والمحنة؛ فإن بين يديه من الفتنة والمحنة والعذاب أعظم وأشق مما فرّ منه.
فإن المكلفين بعد إرسال الرسل إليهم بين أمرين: إما أن يقول أحدهم: آمنت، وإما أن لا يقول، بل يستمر على السيئات.
فمن قال: آمنّا؛ امتحنه الرب تعالى وابتلاه؛ ليتحقق بالامتحان صحةُ إيمانه (2) وثباتُهُ عليه، وأنه ليس بإيمان عافية ورخاء فقط، بل إيمانٌ ثابتٌ في حالتي النعماء والبلاء.
ومن لم يؤمن فلا يحسب أنه يُعْجِز ربَّه تعالى ويفوته، بل هو في قبضته،
_________
(1) من قوله: «ثم ذكر الممتحنين» إلى هنا ساقط من «د».
(2) «د»: «حجة إيمانه»، وفي «ط»: «بالإيمان» بدل «بالامتحان».
(2/269)
________________________________________
وناصيته بيده، فله من البلاء أعظم مما ابتُلِي به مَن قال: آمنت.
فمن آمن به وبرسله فلا بدّ أن يُبتلى من أعدائه وأعداء رسله بما يؤلمه ويشق عليه، ومن لم يؤمن به وبرسله فلابدّ أن يعاقبه، فيحصل له من الألم والمشقة أضعاف ألم المؤمنين.
فلا بدّ من حصول الألم لكل نفس مؤمنة أو كافرة، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء، ثم ينقطع ويعقبه أعظم اللذة، والكافر يحصل على اللذة والسرور ابتداء، ثم ينقطع ويعقبه أعظم الألم والمشقة.
وهكذا حال الذين يتبعون الشهوات فيلتذون بها ابتداء، ثم تعقبها الآلام بحسب ما نالوه منها، والذين يصبرون عنها يتألّمون بفقدها ابتداء، ثم يعقب ذلك الألم من اللذة والسرور بحسب ما صبروا عنه وتركوه منها، فالألم واللذة أمر ضروري لكل إنسان، لكن الفرق بين العاجل المنقطع اليسير، والآجل الدائم العظيم.
ولهذا كان خاصّة العقل النظر في العواقب والغايات، فمن ظنّ أنه يتخلّص من الألم بحيث لا يصيبه البتّة فظنه أكذب الحديث؛ فإن الإنسان خُلِق عُرضة للذة والألم، والسرور والحزن، والفرح والغم، وذلك من جهتين:
من جهة تركيبه وطبعه وهيئته؛ فإنه مركّب من أخلاط متعادية متضادة، يمتنع أو يعز اعتدالها من كل وجه، بل لابدّ أن يبغي بعضها على بعض، فتخرج عن حَدّ الاعتدال فيحصل الألم.
ومن جهة بني جنسه؛ فإنه مدني بالطبع لا يمكنه أن يعيش وحده، بل لا
(2/270)
________________________________________
يعيش إلا معهم، وله ولهم إرادات ومطالب متضادة ومتعارضة لا يمكن الجمع بينها، بل إذا حصل منها شيء فات منها أشياء.
فهو يريد منهم أن يوافقوه على مطالبه وإراداته، وهم يريدون منه ذلك، فإن وافقهم حصل له من الألم والمشقة بحسب ما فاته من إراداته، وإن لم يوافقهم آذوه وعذّبوه، وسعوا في تعطيل مراداته، كما لم يوافقهم على إراداتهم، فيحصل له من الألم والتعذيب بحسب ذلك.
فهو في ألم ومشقة وعناء وافقهم أو خالفهم، ولاسيما إذا كانت موافقتهم على أمور يعلم أنها عقائد باطلة، وإرادات فاسدة، وأعمال مضرة في عواقبها، ففي موافقتهم أعظم الألم، وفي مخالفتهم حصول الألم.
فالعقل والدين والمروءة والعلم تأمره باحتمال أخفّ الألمين تخلّصًا من أشدهما، وبإيثار المنقطِع منهما لينجو من الدائم المستمر.
فمن كان ظهيرًا للمجرمين من الظلمة على ظلمهم، ومن أهل الأهواء والبدع على أهوائهم وبدعهم، ومن أهل الفجور والشهوات على فجورهم وشهواتهم؛ ليتخلص بمظاهرتهم من ألم أذاهم= أصابه من ألم الموافقة لهم عاجلًا وآجلًا أضعاف أضعاف ما فرّ منه، وسنّة الله في خلقه أن يعذبه بأيدي مَن أعانهم وظاهرهم.
وإن صبر على ألم مخالفتهم ومجانبتهم أعقبه ذلك لذةً عاجلة وآجلة تزيد على لذة الموافقة بأضعاف مضاعفة، وسنّة الله في خلقه أن يرفعه عليهم ويذلهم له، بحسب صبره وتقواه وتوكله وإخلاصه.
وإذا كان لابدّ من الألم والعذاب فذلك في الله وفي مرضاته ومتابعة رسله أولى وأنفع منه في الناس ومرضاتهم وتحصيل مراداتهم.
(2/271)
________________________________________
ولمّا كان زمن التألم والعذاب صبره (1) طويل، وأنفاسه ساعات، وساعاته أيام، وأيامه شهور وأعوام= سلّى سبحانه الممتحَنين فيه بأن لذلك الابتلاء أجلًا ثم ينقطع، وضرب لأهله أجلًا للقائه يسلّيهم به، ويُسكّن نفوسهم، ويهوّن عليهم أثقاله، فقال تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهْوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت: 5].
فإذا تصوّر العبد أجَل ذلك البلاء وانقطاعه، وأجَل لقاء المبتلِي سبحانه وإتيانه= هان عليه ما هو فيه، وخفّ عليه حمله.
ثم لما كان ذلك لا يحصل إلا بمجاهدةٍ للنفس وللشيطان ولبني جنسه، وكان العامل إذا علم أنّ ثمرة عمله وتعبه تعود عليه وحده، لا يشركه فيه غيره= كان أتم اجتهادًا وأوفر سعيًا، فقال تعالى: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 6].
وأيضًا فلا يتوهّم متوهِّم أن منفعة هذه المجاهدة والصبر والاحتمال تعود على الله سبحانه؛ فإنه غني عن العالمين، لم يأمرهم بما أمرهم به حاجة منه إليهم، ولا نهاهم عمّا نهاهم عنه بخلًا منه عليهم، بل أمرهم بما يعود نفعه ومصلحته عليهم في معاشهم ومعادهم، ونهاهم عمّا يعود مضرته وعنَتُه عليهم في معاشهم ومعادهم، فكانت ثمرة هذا الابتلاء والامتحان مختصّة بهم.
واقتضت حكمته أنْ نصب ذلك سببًا مفضيًا إلى تميّز الطيب من الخبيث والشقي من الغوي، ومن يصلح له ممن لا يصلح، قال تعالى: {كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا} [آل عمران: 179]،
_________
(1) «د» «م»: «فصبره»، والمثبت أشبه بالسياق، والله أعلم.
(2/272)
________________________________________
فابتلاهم سبحانه بإرسال رسله إليهم بأوامره ونواهيه واختباره، فامتاز برسله طيّبُهم من خبيثهم، وجيّدُهم من رديئهم، فوقع الثواب والعقاب على معلوم أظهره ذلك الابتلاء والامتحان.
ثم لما كان الممتحَن لا بدّ أن ينحرف عن طريق الصبر والمجاهدة لدواعي طبعه وهواه، وضعفه عن مقاومة ما ابتُلِي به= وعَدَه سبحانه أن يتجاوز له عن ذلك، ويكفره عنه؛ لأنه لمّا آمن به والتزم طاعته اقتضت رحمته أن كفّر عنه سيئاته، وجازاه بأحسن أعماله.
ثم ذكر سبحانه ابتلاء العبد بأبويه، وما أُمِر به من طاعتهما، وصبره على مجاهدتهما له على أن يُشْرك به (1)، فيصبر على هذه المحنة والفتنة، ولا يطيعهما، بل يصاحبهما على هذه الحال معروفًا، ويعرض عنهما إلى متابعة سبيل رسله.
وفي الإعراض عنهما وعن سبيلهما، والإقبال على من خالفهما وعلى سبيله من الامتحان والابتلاء ما فيه.
ثم ذكر سبحانه حال من دخل في الإيمان على ضعف عزم، وقلة بصيرة، وعدم ثبات على المحنة والابتلاء، وأنه إذا أوذي في الله ــ كما جرت به سنة الله، واقتضت حكمته من ابتلاء أوليائه بأعدائه وتسليطهم عليهم بأنواع المكاره والأذى ــ لم يصبر على ذلك، وجزع منه، وفرّ منه ومن أسبابه كما يفرّ من عذاب الله، فجعل فتنة الناس له على الإيمان وطاعة رسله كعذاب الله لمن يعذبه على الشرك ومخالفة رسله.
_________
(1) «ط»: «أن لا يشرك به» بإقحام حرف النفي، وبه يفسد المعنى.
(2/273)
________________________________________
وهذا يدل على عدم البصيرة، وأن الإيمان لم يدخل قلبه، ولا ذاق حلاوته حين سَوَّى بين عذاب الناس (1) له على الإيمان بالله ورسوله وبين عذاب الله لمن لم يؤمن به وبرسله.
وهذا حال من يعبد الله على حرف واحد، لم ترسخ قدمه في الإيمان وعبادة الله، فهو من المفتونين المعذَّبين، وإن فرّ من عذاب الناس له على الإيمان.
ثم ذكر حال هذا عند نصرة المؤمنين، وأنهم إذا نُصِروا لجأ إليهم، وقال: كنت معكم، والله سبحانه يعلم من قلبه خلاف قوله.
ثم ذكر سبحانه ابتلاء نوح عليه السلام بقومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، وابتلاء قومه بطاعته، فكذبوه، فابتلاهم بالغرق، ثم بعده بالحرق.
ثم ذكر ابتلاء إبراهيم عليه السلام بقومه وما ردّوا عليه، وابتلاءهم بطاعته ومتابعته.
ثم ذكر ابتلاء لوط عليه السلام بقومه وابتلاءهم به، وما صار إليه أمره وأمرهم.
ثم ذكر ابتلاء شعيب عليه السلام بقومه وابتلاءهم به، وما انتهت إليه حالهم وحاله.
ثم ذكر ما ابتَلَى به عادًا وثمودًا وقارون وفرعون وهامان وجنودهم من الإيمان به وعبادته وحده، ثم ما ابتلاهم به من أنواع العقوبات.
_________
(1) «د»: «الله»؛ سهو.
(2/274)
________________________________________
ثم ذكر ابتلاء رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - بأنواع الكفار من المشركين وأهل الكتاب، وأَمَرَهُ أن يجادل أهل الكتاب بالتي هي أحسن.
ثم أمر عباده المبتلين بأعدائه أن يهاجروا من أرضهم إلى أرضه الواسعة فيعبدونه فيها، ثم نبّهَهُم بالنّقلة الكبرى من دار الدنيا إلى دار الآخرة على نقلتهم الصغرى من أرض إلى أرض، وأخبرهم أن مرجعهم إليه، فلا قرار (1) لهم في الدار (2) دون لقائه.
ثم بيّن لهم حال الصابرين على الابتلاء فيه بأنه يُبَوِّئُهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، فسلّاهم عن أرضهم ودارهم التي تركوها لأجله ــ وكانت مَباءة لهم ــ بأن بوّأهم دارًا أحسن منها، وأجمع لكل خير ولذة ونعيم مع خلود الأبد، وأنهم نالوا ذلك بصبرهم على الابتلاء، وتوكلهم على ربهم.
ثم أخبرهم بأنه ضامنٌ لرزقهم في غير أرضهم كما كان يرزقهم في أرضهم، فلا يهتمّوا بحمل الرزق، فكم من دابة إذا سافرت من مكان إلى مكان لا تحمل رزقها.
ثم أخبرهم أن مدة الابتلاء والامتحان في هذه الدار قصيرة جدًّا بالنسبة إلى دار الحيوان والبقاء.
ثم ذكر سبحانه عاقبة أهل الابتلاء ممن لم يؤمن به، وأن مقامهم في هذه الدار تمتُّع، وسوف يعلمون عند النّقْلة منها ما فاتهم من النعيم المقيم، وما
_________
(1) «م»: «ولا قرار».
(2) هكذا في «د» «م»: «في الدار»، وفي «ط»: «في هذه الدار».
(2/275)
________________________________________
حصلوا عليه من العذاب الأليم، وذَكَر عاقبة أهل الابتلاء ممن آمن به، وأطاع رسله، وجاهد نفسه وعدوه في دار الابتلاء بأنه هاديه وناصره.
فأخبر سبحانه أنّ أجلّ عطائه وأفضلَه في الدنيا والآخرة هو لأهل الابتلاء الذين صبروا على ابتلائه وتوكلوا عليه، وأخبر أن أعظم عذابه وأشدّه هو للذين لم يصبروا على ابتلائه وفرّوا منه، وآثروا النعيم العاجل عليه.
فمضمون هذه السورة هو سر الخلق والأمر، فإنها سورة الابتلاء والامتحان، وبيان حال أهل البلوى في الدنيا والآخرة، ومن تأمل فاتحتها ووسطها وخاتمتها وجد في ضمنها أن أول الأمر ابتلاء وامتحان، ووسطه صبر وتوكل، وآخره هداية ونصر، والله المستعان.
يوضحه الوجه الخامس والثلاثون: وهو أنه سبحانه أخبر أنه خلق السماوات والأرض ــ العالم العلوي والسفلي ــ ليبلونا أيّنا أحسن عملًا، وأخبر أنه زيّن الأرض بما عليها من حيوان ونبات ومعادن وغيرها لهذا الابتلاء، وأنه خلق الموت والحياة لهذا الابتلاء، فكان هذا الابتلاء غاية الخلق والأمر، فلم يكن بدّ (1) من دار يقع فيها هذا الابتلاء، وهي دار التكليف.
ولمّا سبق في حكمته أنّ الجنة دار نعيم لا دار ابتلاء وامتحان؛ جعل قبلها دار الابتلاء جسرًا يُعْبَر عليه إليها، ومزرعة يُبْذَر فيها، وميناء يُتَزوّد منها، وهذا هو الحق الذي خَلَق الخلقَ به ولأجله، وهو أن يُعْبد وحده بما أمر به
_________
(1) «د»: «من بد»، والمثبت من «م» أشبه باستعمال المصنف لهذا الحرف.
(2/276)
________________________________________
على ألسنة رسله، فأَمَر ونهى على ألسنة رسله، ووعدنا بالثواب والعقاب، ولم يخلق خلقه سدى لا يأمرهم ولا ينهاهم، ولا تركهم هملًا لا يثيبهم ولا يعاقبهم، بل خُلِقوا للأمر والنهي والثواب والعقاب، ولا يليق بحكمته وحمده غير ذلك.
فصل
وقد عُرِف من هذا الجواب عن قولهم: أي حكمة في خَلْق النفس مريدة للخير والشر؟ وهلّا خُلِقت مريدة للخير وحده؟ وكيف اقتضت الحكمة تمكينها من الشرّ مع القدرة على منعها منه؟ وأي حكمة في إعطائها قوةً وأسبابًا يَعلم المعطي أنها لا تفعل بها إلا الشرّ وحده؟ وأي حكمة في إقرار هذه النفوس على غيِّها وظلمها وعدوانها؟
ومعلوم أنّ من يفعل لحكمة لا يفعل ذلك، وأنّ من يفعل لحكمة إذا رأى عبيده يقتل بعضهم بعضًا، ويُفِسد بعضهم بعضًا، ويظلم بعضهم بعضًا ــ وهو قادر على منعهم ــ فلا تدعه حكمتُه وإهمالَهم، فحيث تركهم كذلك، فإما أن لا يكون عالمًا بما يأتون به، أو لا يكون قادرًا على منعهم، أو لا يكون ممن يفعل لغرض وحكمة؟ والأولان مستحيلان في حقّ الربّ تعالى، فتعيّن الثالث.
ومبنى هذه الشبهة على أصل فاسد وهو: قياس الربّ تعالى على خلقه وتشبيهه بهم في أفعاله، بحيث يحسن منه ما يحسن منهم، ويقبح منه ما يقبح منهم.
ولهذا كانت القدرية مشبِّهة الأفعال، ومتأخروهم جمعوا بين هذا التشبيه وبين تعطيل الصفات، فصاروا معطِّلين للصفات، مشبِّهين في الأفعال.
(2/277)
________________________________________
وهذا الأصل الفاسد مما رده عليهم سائر العقلاء، وقالوا: قياس أفعال الربّ على أفعال العباد من أفسد القياس، وكذلك قياس حكمته على حكمتهم، وصفاته على صفاتهم.
ومن المعلوم أن الربّ تعالى علم أن عباده يقع منهم الكفر والظلم والفسوق، وكان قادرًا على أن لا يوجدهم، وأن يوجدهم كلهم أمة واحدة على ما يحبّ ويرضى، وأن يحول بينهم وبين بَغْي بعضهم على بعض، ولكن حكمته البالغة أبت ذلك، واقتضت إيجادهم على الوجه الذي هم عليه.
وهو سبحانه خلق النفوس أصنافًا: فصنف منها مريد للخير وحده ــ وهي نفوس الملائكة ــ، وصنف مريد للشر وحده ــ وهي نفوس الشياطين ــ، وصنف فيه إرادة النوعين ــ وهي النفوس البشرية ــ.
فالأولى: الخير لهم طباع، وهي محمودة عليه، والشر للنفوس الثانية طباع، وهي مذمومة عليه، والصنف الثالث بحسب الغالب عليه من الوصفين: فمن غَلَب عليه وصف الخير التحق بالصنف الأول، ومن غَلَب عليه وصف الشر التحق بالصنف الثالث (1)، فإذا اقتضت الحكمة وجود هذا الصنف الثالث فأنْ تقتضيَ وجود الثاني أولى وأحرى.
والرب تعالى اقتضت قدرته وعزته وحكمته إيجاد المتقابلات في الذوات والصفات والأفعال كما تقدم، وقد نوّع خلقه تنويعًا دالًّا على كمال
_________
(1) كذا في الأصول: «الثالث» لعله سهو من المؤلف، صوابه: «الثاني» كما هو ظاهر من السياق.
(2/278)
________________________________________
قدرته وربوبيته، فمِنْ أعظم الجهل والضلال أن يقول القائل: هلّا كان خَلْقُهُ كلهم نوعًا واحدًا، فيكون العالم عُلْوًا كله، أو نورًا كله، أو الحيوان مَلَكًا كله؟
وقد يقع في الأوهام الفاسدة أنّ هذا كان أولى وأكمل، ويفرض الوهم الفاسد ما ليس ممكنًا: كمالًا.
الوجه السادس والثلاثون: قوله: «وأي حكمة في إيلام الحيوانات غير المكلفة؟».
فهذه مسألة تكلم الناس فيها قديمًا وحديثًا، وتباينت طرقهم في الجواب عنها.
فالجاحدون للفاعل المختار الذي يفعل بمشيئته وقدرته يُحِيلون ذلك على الطبيعة المجرّدة، وأن ذلك من لوازمها ومقتضياتها، ليس بفعل فاعل، ولا قدرة قادر، ولا إرادة مريد.
ومنكرو الحكمة والتعليل يردّون ذلك إلى محض المشيئة، وصِرْف الإرادة التي تُخَصِّص مِثْلًا على مِثْل بلا موجِب ولا غاية ولا حكمة مطلوبة ولا سبب أصلًا.
وظنَّوا أنهم بذلك يتخلصون من السؤال، ويسدّون على نفوسهم باب المطالبة، وإنما سدّوا على نفوسهم باب معرفة الربّ وكماله، وكمال أسمائه وأوصافه وأفعاله، فعطّلوا حكمته وحقيقة إلهيته وحمده، وكانوا كالمستجيرين من الرمضاء بالنار.
وأما من أثبت حكمة وتعليلًا لا يعود إلى الخالق بل إلى المخلوق؛
(2/279)
________________________________________
سلكوا (1) طريق (2) التعويض على تلك الآلام في حق من يُبعَث للثواب والعقاب.
وقالوا: قد يكون في ذلك إثابة، لإثابتهم (3) بصبرهم وتألمهم، وإثابة لهم وتعويضًا في القيامة بما نالهم من تلك الآلام، فلما أُورِد عليهم إيلامُ الحيوانات التي لا تُثاب ولا تعاقب ... (4).
وأما المثبتون لحقائق أسماء الربّ وصفاته وحكمته التي هي وصفه، ولأجلها تسمَّى بالحكيم، وعنها صدر خلقه وأمره= فهم أعلم الفرق بهذا الشأن، ومسلكهم فيه أصح المسالك، وأسلم من التناقض والاضطراب؛ فإنهم جمعوا بين إثبات القدرة والمشيئة العامة والحكمة الشاملة التي هي غاية الفعل، وربطوا ذلك بالأسماء والصفات، فتصادق عندهم السمع والعقل والشرع والفطرة، وعلموا أن ذلك مقتضى الحكمة البالغة، وأنه من لوازمها، وأن لازم الحق حق، ولازم العدل عدل، ولوازم الحكمة من الحكمة.
فاعلم أن ههنا أمرين: نفسًا متحركة بالإرادة والاختيار، وطبيعةً متحركة بغير الاختيار والإرادة، وأن الشر منشؤه من هذين المتحركين، وعن هاتين الحركتين، وخُلِقت هذه النفس وهذه الطبيعة على هذا الوجه، فهذه تتحرك
_________
(1) كذا في «د» «م»: «سلكوا»، والجادة: «فسلكوا» بدخول الفاء على جواب «أما».
(2) «د»: «طريقة».
(3) مهملة في «د» «م»، والقراءة محتملة.
(4) بياض في «د» «م»، وعلق في حاشية «م»: «في أصل المصنف بياض بعد: لا تثاب ولا تعاقب».
(2/280)
________________________________________
لكمالها، وهذه تتحرك لكمالها، وينشأ عن الحركتين خير وشر، كما ينشأ عن حركة الأفلاك والشمس والقمر، وحركة الرياح، والماء والنار: خير وشر.
فالخيرات الناشئة عن هذه الحركات مقصودة بالقصد الأول، إما لِذَاتها وإما لكونها وسيلة إلى خيرات أتم منها، والشرور الناشئة عنها غير مقصودة بالذات، وإن قُصِدت قَصْد الوسائل واللوازم التي لا بدّ منها، فما جُبِلت عليه النفس من الحركة هو من لوازم ذاتها، فلا تكون النفس البشرية نفسًا إلا بهذا اللازم.
فإذا قيل: لِمَ خُلِقت متحركة على الدوام؟
فهو بمنزلة أن يقال: لِمَ كانت النفس نفسًا، ولِمَ كانت النار نارًا، والريح ريحًا؟ فلو لم تُخْلق هكذا ما كانت نفسًا، ولو لم تُخْلق الطبيعة هكذا ما كانت طبيعة، ولو لم يُخْلق الإنسان على هذه الصفة والخِلْقة ما كان إنسانًا.
فإن قيل: فلِمَ خُلِقت النفس على هذه الصفة؟
قيل: من كمال الوجود خَلْقها على هذه الصفة كما تقدم، وكذلك كمال فاطرها ومبدعها اقتضى خَلْقها على هذه الصفة؛ لما في ذلك من الحِكَم التي لا يحصيها إلا مبدعها سبحانه.
وإن كان في إيجاد هذه النفس شرًّا فهو شرّ جزئي بالنسبة إلى الخير الكلّي الذي في (1) إيجادها، فوجودها خير من أن لا توجد، فلو لم تُخْلَق مثل هذه النفس لكان في الوجود نقص وفوات حِكَم ومصالح عظيمة موقوفة على خَلْق مثل هذه النفس.
_________
(1) بياض في «د»، والمثبت من «م»، وفي «ط»: «هو سبب».
(2/281)
________________________________________
ولهذا لما اعترضت الملائكة على خلق الإنسان وقالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30]؛ أجابهم سبحانه بأن في خلقه من الحِكَم والمصالح ما لا تعلمه الملائكة والخالق سبحانه يعلمه.
وإذا كانت الملائكة لا تعلم ما في خَلْق هذا الإنسان الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء من الحِكم والمصالح فغيرهم أولى أن لا يحيط به علمًا.
فخَلْق هذا الإنسان من تمام الحكمة والرحمة والمصلحة، وإن كان وجوده مستلزمًا لشر، فهو شر مغمور بما في إيجاده من الخير، كإنزال المطر والثلج، وهبوب الرياح، وطلوع الشمس، وخلق الحيوان والنبات والجبال والبحار.
وهذا كما أنه في خَلْقه فهو في شرعه ودينه وأمره؛ فإن ما أَمَر به من الأعمال الصالحة خيره ومصلحته راجح، وإن كان فيه شرّ فهو مغمور جدًّا بالنسبة إلى خيره، وما نهى عنه من الأعمال والأقوال القبيحة فشرّه ومفسدته راجح، والخير الذي فيه مغمور جدًّا بالنسبة إلى شره.
فسنّته سبحانه في خلقه وأمره فِعْل (1) الخير الخالص والراجح، والأمر بالخير الخالص والراجح، فإذا تناقضت أسباب الخير والشر ــ والجمع بين النقيضين محال ــ قدّم أسباب الخير الراجحة على المرجوحة، ولم يكن تفويت المرجوحة شرًّا، ودفع أسباب الشر الراجحة بالأسباب المرجوحة، ولم يكن حصول المرجوحة شرًّا بالنسبة إلى ما اندفع بها من الشرّ الراجح.
_________
(1) «م»: «هو فعل».
(2/282)
________________________________________
وكذلك سنّته في شرعه وأمره، فهو يقدم الخير الراجح وإن كان في ضمنه شرٌّ مرجوح، ويعطل الشر الراجح وإن فات بتعطيله خير مرجوح، هذه سنّته فيما يحدثه ويبدعه في سماواته وأرضه، وما يأمر به وينهى عنه، وكذلك سنّته في الآخرة.
وهو سبحانه وتعالى قد أحسن كل شيء خلقه، وقد أتقن كل ما صنع، وهذا أمر يعلمه العالمون بالله جملة، ويتفاوتون في العلم بتفاصيله.
وإذا عُرِف ذلك فالآلام والمشاق إما إحسان ورحمة، وإما عدل وحكمة، وإما إصلاح وتهيئة لخير يحصل بعدها، وإما لدفع ألم هو أصعب منها، وإما لتولّدها عن لذّات ونِعَم، يولّدها عنها أمر لازم لتلك اللذات، وإما أن يكون من لوازم العدل، أو لوازم الفضل والإحسان، فيكون من لوازم الخير التي إن عُطِّلتْ عُطِّلتْ ملزوماتها، وفات بتعطيلها خير أعظم من مفسدة تلك الآلام، والشرع والقدر أعدل شاهدين بذلك.
فكم في طلوع الشمس من ألم لمسافر وحاضر، وكم في نزول الغيث والثلوج من أذى، كما سمَّاه الله تعالى بقوله: {كَانَ (1) بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ} [النساء: 102]، وكم في هذا الحرِّ والبرد والرياح من أذى موجِب لأنواع من الآلام لصنوف الحيوانات.
وأعظم لذّات الدنيا لذّة الأكل والشرب والنكاح واللباس والرياسة، ومعظم آلام أهل الأرض أو كلها ناشئة عنها ومتولّدة منها، بل الكمالات
_________
(1) «د» «م»: «وإن».
(2/283)
________________________________________
الإنسانية لا تنال (1) إلا بالآلام والمشاقّ، كالعلم والشجاعة والزهد والعِفّة والحلم والمروءة والصبر والإحسان، كما قال:
لولا المشقةُ ساد الناسُ كلهمُ ... الجودُ يُفْقِرُ والإقدامُ قَتَّالُ (2)
وإذا كانت الآلام أسبابًا لِلَذّاتٍ أعظم منها وأدوم؛ كان العقل يقضي باحتمالها.
وكثيرًا ما تكون الآلام أسبابًا لصحة لولا تلك الآلام لفاتت، وهذا شأن أكثر أمراض الأبدان.
فهذه الحمّى فيها من المنافع للأبدان ما لا يعلمه إلا الله، وفيها من إذابة الفضلات وإنضاج المواد الفِجّة (3) وإخراجها ما لا يصل إليه دواء غيرها، وكثير من الأمراض إذا عرض لصاحبها الحمّى استبشر بها الطبيب.
وأما انتفاع القلب والروح بالآلام والأمراض فأمرٌ لا يحسّ به إلا من فيه حياة، فصحة القلوب والأرواح موقوفة على آلام الأبدان ومشاقها، وقد أُحْصِيت فوائد الأمراض فزادت على مائة فائدة.
وقد حجب الله سبحانه أعظم اللذات بأنواع المكاره، وجعلها جسرًا موصلًا إليها، كما حجب أعظم الآلام بالشهوات واللذات، وجعلها جسرًا
_________
(1) «م»: «لا تتبين».
(2) البيت لأبي الطيب المتنبي، «شرح الديوان» للعكبري (1/ 163).
(3) الفِج من كل شيء ما لم ينضج، كما في «تاج العروس» (6/ 137)، وانظر: «القانون» لابن سينا (2/ 627).
(2/284)
________________________________________
موصلًا إليها (1).
ولهذا كانت العقلاء قاطبة على أن النعيم لا يُدرك بالنعيم، وأن الراحة لا تنال بالراحة، وأن من آثر اللذات فاتته اللذات، فهذه الآلام والأمراض والمشاق من أعظم النعم؛ إذ هي أسباب النعم.
وما ينال الحيوانات غير المكلفة منها فمغمور جدًّا بالنسبة إلى مصالحها ومنافعها، كما ينالها من حرِّ الصيف وبرد الشتاء، وحَبْس المطر والثلج، وألم الحمل والولادة، والسعي في طلب أقواتها، وغير ذلك، ولكن لذاتها أضعاف أضعاف آلامها، وما ينالها من المنافع والخيرات أضعاف ما ينالها من الشرور والآلام.
فسنّة الله في خلقه وأمره هي التي أوجبها كمال علمه وحكمته وعزّته، ولو اجتمعت عقول العقلاء كلهم على أن يقترحوا أحسن منها لعجزوا عن ذلك، وقيل لكل منهم: ارجع بصر العقل؛ هل ترى من خلل؟ ثم ارجع البصر كَرّتين ينقلب إليك البصر خاسِئًا وهو حَسِير.
فتبارك الذي من كمال حكمته وقدرته أن أخرج الأضداد من أضدادها، والأشياء من خلافها، فأخرج الأضداد والأشياء من خلافها (2)، فأخرج الحي من الميت، والميت من الحي، والرطب من اليابس، واليابس من الرطب، فكذلك أنشأ اللذات من الآلام، والآلام من اللذات، فأعظم اللذات ثمرات الآلام ونتائجها، وأعظم الآلام ثمرات اللذات ونتائجها.
_________
(1) من قوله: «كما حجب أعظم الآلام» إلى هنا ساقط من «م».
(2) جملة: «فأخرج الأضداد والأشياء من خلافها» زيادة من «م».
(2/285)
________________________________________
وبعدُ؛ فاللذة والسرور والخير والنعيم والعافية والمصلحة والرحمة في هذه الدار المملوءة بالمحن والبلاء أكثر من أضدادها بأضعاف مضاعفة، فأين آلام الحيوان من لذته؟ وأين سقمه من صحته؟ وأين جوعه وعطشه من شبعه وريِّه، وتعبه من راحته؟
قال تعالى: {(4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ} [الشرح: 5 - 6]، ولن يغلب عسرٌ يُسْرَين، وهذا لأنّ الرحمةَ غلبت الغضب، والعفوَ سبق العقوبة، والنعمةَ تقدمت المحنة.
والخير في الصفات والأفعال، والشر في المفعولات لا في الأفعال، فأوصافه كلّها كمال، وأفعاله كلّها خيرات.
فإنْ ألِمَ الحيوانُ لم يعدم تألمه عافية من ألم هو أشد من ذلك الألم، أو تهيئة لقوة وصحة وكمال، أو عوضًا لا نسبة لذلك الألم إليه بوجه ما، فآلام الدنيا جميعها نسبتها إلى لذات الآخرة وخيراتها أقل من نسبة ذرة إلى جبال الدنيا بكثير، وكذلك لذات الدنيا جميعها بالنسبة إلى آلام الآخرة، والله سبحانه لم يخلق الآلام واللذات سُدى، ولم يقدرهما عبثًا، ومن كمال قدرته وحكمته أن جَعل كل واحدة منهما تُثمر الأخرى.
هذا ولوازم الخِلْقة يستحيل ارتفاعها، كما يستحيل ارتفاع الفقر والحاجة والنقص عن المخلوق، فلا يكون المخلوق إلا فقيرًا محتاجًا ناقص العلم والقدرة، فلو كان الإنسان وغيره من الحيوان لا يجوع ولا يعطش ولا يألم في عالم الكَوْن والفساد لم يكن حيوانًا، ولكانت هذه الدار دار بقاء ولذة مطلقة كاملة، والله لم يجعلها كذلك، وإنما جعلها دارًا ممتزجًا ألمُها بلذتها، وسرورُها بأحزانها، وغمومُها وصحتُها بسقمها؛ حكمةً منه بالغة.
(2/286)
________________________________________
فصل
ولمّا كانت الآلام كالأدوية للأرواح والأبدان كانت كمالًا للحيوان، خصوصًا لنوع الإنسان؛ فإن فاطره وبارئه إنما أمرضه ليشفيه، وإنما ابتلاه ليعافيه، وإنما أماته ليحييه، فهو سبحانه يسوق الحيوان والإنسان في مراتب الكمال طورًا بعد طور إلى آخر كماله بأسباب لا بدّ له منها، وكماله موقوف على تلك الأسباب، ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع، كوجود المخلوق بدون الحاجة والفقر والنقص ولوازم ذلك، ولوازم تلك اللوازم.
ولكن أكثر النفوس جاهلة بالله وحكمته وعلمه وكماله، فتفرض أمورًا ممتنعة وتقدّرها تقديرًا ذهنيًا، وتحسب أنها أكمل من الممكن الواقع، ومع هذا فربّها يرحمها لجهلها وعجزها ونقصها، فإن اعترفت بذلك واعترفت له بكماله وحمده، وقامت بمقتضى هذين الاعترافين؛ كان نصيبها من الرحمة أوفر.
والله سبحانه افتتح الخلق بالحمد، وختم أمر هذا العالم بالحمد، فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام: 1]، وقال: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)} [الزمر: 75]، وأنزل كتابه بالحمد، وشرع دينه بالحمد، وأوجب ثوابه وعقابه بالحمد، فحمده من لوازم ذاته؛ إذ يستحيل أن يكون إلا محمودًا.
فالحمد سبب الخلق وغايته، الحمدُ أوجبه، وللحمد وُجِد.
فحمده واسع لما وسعه علمه ورحمته، وقد وسع ربنا كل شيء رحمة وعلمًا، فلم يوجِدْ شيئًا ولم يقدّره ولم يشرَعْه إلا بحمده ولحمده.
(2/287)
________________________________________
وكل ما خلقه وشرعه فهو متضمن للغايات الحميدة، ولابد من لوازمها ولوازم لوازمها، ولهذا ملأ حمده سماواته وأرضه وما بينهما، وما شاء من شيء بعد، مما خلقه ويخلقه هناك بعد هذا الخلق، فحمده ملأ ذلك كله.
وحمده تعالى أنواع: حمد على ربوبيته، وحمد على تفرده بها، وحمد على ألوهيته وتفرده بها، وحمد على نعمته، وحمد على منّته، وحمد على حكمته، وحمد على عدله في خلقه، وحمد على غناه عن اتخاذ الولد والشريك والولي من الذل، وحمد على كماله الذي لا يليق بغيره، فهو محمود على كل حال، وفي كل آن ونَفَس، وعلى كل ما فعل وكل ما شرع، وعلى كل ما هو متصف به، وعلى كل ما هو منزّه عنه، وعلى كل ما في الوجود من خير وشَرّ، ولذّة وألم، وعافية وبلاء.
فكما أن المُلك كله له، والقدرة كلها له، والعزة كلها له، والعلم كله له، والجمال كله له= فالحمد كله له، كما في الدعاء المأثور: «اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، وأنت أهل أن تُحمد» (1).
وما عُمِرت الدنيا إلا بحمده، ولا الجنة إلا بحمده، ولا النار إلا بحمده، حتى إن أهلها ليحمدونه، كما قال الحسن: «لقد دخل أهلُ النارِ النارَ وإنّ قلوبهم لتحمده، ما وجدوا عليه من حجة ولا سبيل» (2).
_________
(1) أخرجه عبد الرزاق (7949)، وأحمد (23355)، والطبراني في «الدعاء» (1746) من حديث رجل ــ وفي رواية: رجل من أهل فدك، وفي أخرى: رجل من ولد حذيفة ــ عن حذيفة، في حكاية رويت مرفوعة وموقوفة، وإسناده ضعيف؛ لجهالة التابعي.
(2) تقدم تخريجه في (1/ 442).
تنبيه: وقع بعد قول الحسن في نسخة «م» وحدها ما نصه: «هَبْ أن ما ذكره يتأتى في آلام الدنيا ومصائبها، فكيف يتأتى في آلام الآخرة ومصائبها»، والظاهر من السياق أنها من اعتراضات بعض من طالع النسخة الأم؛ فأدخلها الناسخ سهوًا، والله أعلم.
(2/288)
________________________________________
فصل
فإن قيل: فأي لذة وأي خير ينشأ من العذاب الشديد الدائم الذي لا ينقطع ولا يفتر عن أهله، بل أهله فيه أبد الآباد، {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء: 56]، {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} [فاطر: 36]، ولا يُخفَّف عنهم طرفة عين؟
قيل: لعمر الله هذا سؤال يُقَلْقِلُ الجبال، فضلًا عن قلوب الرجال.
وعن هذا السؤال أنكر من أنكر من المُقرِّين بالمعاد حكمة العزيز الحكيم، وردّ الأمر إلى مشيئة محضة لا سبب لها ولا غاية، وجَوّز على الله أن يعذب أهل طاعته وأولياءه، وينزلهم إلى أسفل الجحيم، وينعم أعداءه المشركين به، ويرفعهم إلى أعلى جنات النعيم أبد الآباد، وأن يدخل النار من يشاء بغير سبب ولا عمل أصلًا، وأن يفاوت بين أهلها مع تساويهم في الأعمال، ويسوّي بينهم في العذاب مع تفاوتهم في الأعمال، وأن يعذب الرجل بذنب غيره، وأن يبطل حسناته كلّها فلا يثيبه بها، أو يثيب بها غيره، كل ذلك جائز عليه، لا نعلم أنه لا يفعله (1) إلا بخبر صادق؛ إذ نسبة ذلك وضدّه إليه على حد سواء.
وقالوا: ولا مَخْلص عن هذا السؤال إلا بهذا الأصل.
_________
(1) «م»: «أنه يفعله» بإسقاط حرف النفي.
(2/289)
________________________________________
وربما تمسكوا بظاهر من القول لم يضعوه على مواضعه، ولم يجمعوا بينه وبين أدلة العدل والحكمة، وتعليق الأمور بأسبابها، وترتيبها عليها، وآيات الموازنة والمقابلة، وأخطؤوا في فهم القرآن كما أخطؤوا في وصف الربّ بما لا يليق به، وفي التجويز عليه بما لا يجوز عليه.
وقابلهم مثبتو الأسباب والحِكَم من القدرية، وزعموا أنهم يتخلصون من قبيح هذا القول بما أثبتوه من الحكمة والتعليل، ولكن وقعوا في نظيره أو ما هو شر منه، حيث أوجبوا على الله سبحانه تخليد من أفنى عمره في طاعته، ثم ارتكب كبيرة واحدة ومات مُصِرًّا عليها في النار مع أعدائه الكفار أبد الآباد، ولم يرقبوا له طاعة، ولم يرعوا له إسلامًا.
وهم في هذا المذهب شرٌّ قولًا من إخوانهم الجبرية؛ فإن أولئك لم يوجبوا على الله ذلك الحُكْم، وإنما جوّزوه عليه، وجوّزوا أن لا يفعله، وهؤلاء أوجبوا عليه تخليد أهل الكبائر مع الكفار، ولم يجوّزوا عليه إخراجهم منها، وأصابهم في غلطهم على القرآن والسنة، وما يجوز على الرب وما لا يجوز عليه= ما أصاب إخوانهم من الجبرية.
ولمّا ظنَّ غيرهم من أهل النظر والبحث أن هذا هو المعاد الذي أخبرت به الرسل، وعلموا أن هذا منافٍ للحكمة والرحمة والعدل والمصلحة= قالوا: إن ذلك تخويف وتخييل لا حقيقة له، يَزَعُ النفوس السَّبْعِية والبهيمية عن عدوانها وشهواتها، فتقوم بذلك مصلحة الوجود.
وكان من أكبر أسباب إلحاد هؤلاء وكفرهم بالله واليوم الآخر نسبةُ أولئك مذاهبَهُم الباطلة وأقوالهم الفاسدة إلى الرسل، وإخبارَهُم أنهم دعوا
(2/290)
________________________________________
إلى الإيمان بها، كما أصابهم معهم في مسألة (1) حدوث العالم، حيث أخبروهم أن الرسل أخبرت عن الله تعالى أنه لم يزل معطَّلًا عن الفعل، والفعل غير ممكن منه، ثم انقلب من الإحالة الذاتية إلى الإمكان الذاتي عند ابتدائه بلا تجدّد سبب، ولا أمر قام بالفاعل، وقالوا: من لم يعتقد هذا فليس بمؤمن، ولا مصدِّق للرسل، فهذا في المبدأ، وذاك في المعاد.
ثم جاءت طائفة أخرى فطووا بساط الخلق والأمر جملة، وقالوا: كل هذا محال وتلبيس، وما ثَمّ وجودان، بل الوجود كله واحد، ليس هناك خالق ومخلوق، وربّ ومربوب، وطاعة ومعصية، وما الأمر إلا نَسَق (2) واحد، والتفريق من أحكام الوهم والخيال، فالسماوات والأرض، والدنيا والآخرة، والأزل والأبد، والحسن والقبيح كله شيء واحد، وهو من عين واحدة، ثم استدركوا فقالوا: لا بل هو العين الواحدة.
ونشأ الناس ــ إلا من شاء الله ــ بين هؤلاء الطوائف الأربع، لا يعرفون سوى أقوالهم ومذاهبهم، فعظمت البليّة، واشتدت المصيبة، وصار أذكياءُ العالم زنادقةَ الناس، وأدناهم إلى الخلاص أهلُ البَلادة والبَلَه، والعقل والسمع عن هذه الفرق بمعزل، ومنازلهم منهما أبعد منزل.
فنقول والله المستعان، وعليه التكلان، وبيده التوفيق (3):
قد دلَّ القرآن والسنة والفطرة وأدلة العقول أنه سبحانه خلق السماوات
_________
(1) «د»: «أصابهم تعميم في باب مسألة» دون إعجام.
(2) «د»: «فسق»، «م»: «فتق»، كلاهما تحريف، انظر: «طريق الهجرتين» (2/ 566).
(3) «د»: «فنقول وبالله والتوفيق، والله المستعان، وعليه التكلان».
(2/291)
________________________________________
والأرض وما بينهما بالحق، ولم يخلق ذلك عبثًا ولا سُدى ولا باطلًا، وإنما أوجد العالم العلوي والسفلي ومن فيهما بالحق الذي هو وصفه واسمه وقوله وفعله، وهو سبحانه الحق المبين، فلا يصدر عنه إلا حق، ولا يقول إلا حقًّا، ولا يفعل إلا حقًّا، ولا يأمر إلا بالحق، ولا يجازي إلا بحق.
فالباطل لا يُضاف إليه، بل الباطل ما لم يُضَف إليه، كالحكم الباطل، والدين الباطل الذي لم يأذن فيه ولم يشرعه على ألسنة رسله، والمعبود الباطل الذي لا يستحق العبادة وليس أهلًا لها، فعبادته باطلة، ودعوته باطلة، والقول الباطل هو الكذب والزور، والمحال من القول الذي لا يتعلق بحق موجود، بل متعلَّقه باطل لا حقيقة له.
وهو سبحانه إنما خلق خلقه لعبادته ومعرفته، وأصل عبادته محبته على آلائه ونعمه، وعلى كماله وجلاله، وذلك أمر فطري ابتدأ الله عليه خلقه، وهي فطرته التي فطر الناس عليها، كما فطرهم على الإقرار به، كما قالت الرسل صلوات الله عليهم لأممهم: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ} [إبراهيم: 10]، فالخلق مفطورون على معرفته وتوحيده، فلو خُلّوا وهذه الفطرة لنشؤوا على معرفته وعبادته وحده.
وهذه الفطرة أمر خَلْقي خُلِقوا عليه، ولا تبديل لخَلْقه، فمضى الناس على هذه الفطرة قرونًا عديدة، ثم عرض لها موجِب فسادِها وخروجِها عن الصحة والاستقامة، بمنزلة ما يعرض للبدن الصحيح والطبيعة الصحيحة مما يوجب خروجهما عن الصحة إلى الانحراف.
فأرسل الله رسله بردِّ الناس إلى فطرتهم الأولى التي فُطِروا عليها، فانقسم الناس معهم ثلاثة أقسام:
(2/292)
________________________________________
منهم من استجاب لهم كل الاستجابة، وانقاد إليهم كلّ الانقياد، فرجعت فطرتُهُ إلى ما كانت عليه، مع ما حصل لها من الكمال والتمام في قُوَّتَي العلم النافع والعمل الصالح، فازدادت فطرتهم كمالًا إلى كمالها، فهؤلاء لا يحتاجون في المعاد إلى تهذيب وتأديب، ونار تذيب فضلاتهم الخبيثة، وتطهّرهم من الأدران والأوساخ؛ فإن انقيادهم للرسل أزال عنهم ذلك كله.
وقسم استجابوا لهم من وجه دون وجه، فبقيت عليهم بقية من الأدران والأوساخ التي تنافي الحق الذي خُلِقوا له (1)، فهيَّأ لهم العليم الحكيم من أدوية الابتلاء والامتحان بحسب تلك الأدواء التي قامت بهم، فإن وَفَتْ بالخلاص منها في هذه الدار وإلا ففي البرزخ، فإن وَفَى بالخلاص وإلا ففي موقف القيامة وأهوالها ما يخلصهم من تلك البقية، فإن وَفَى بها وإلا فلابدّ من المداواة بالدواء الأعظم، وآخر الطب الكي، فيدخلون كِيْرَ التمحيص والتخليص، حتى إذا هُذّبوا ونُقّوا ولم يبق للدواء فائدة؛ أُخْرِجوا من مارَسْتان المرضى إلى دار أهل العافية، كما دلّ على ذلك السنة المتواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصَرَّح به في قوله: «حتى إذا هُذّبوا ونُقّوا أذن لهم في دخول الجنة» (2)، فذلك قوله تعالى: {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73]، فلم يأذن لهم في دخولها إلا بعد طيبهم؛ فإنها دار الطيبين، فليس فيها شيء من الخَبَث أصلًا، ولهذا يلبث هؤلاء في النار على قدر حاجتهم إلى التطهير وزوال الخَبَث.
_________
(1) هكذا في الأصول: «خلقوا له»، ولعل الأشبه بالمعنى: «خلقوا عليه».
(2) جزء من حديث أخرجه البخاري (6535) من حديث أبي سعيد الخدري.
(2/293)
________________________________________
القسم الثالث: قوم لم يستجيبوا للرسل، ولا انقادوا لهم، بل استمروا على الخروج عن الفطرة، ولم يرجعوا إليها، واستحكم فسادها فيهم أتم استحكام، بحيث لا يُرْجَى لهم صلاح، فهؤلاء لا تفي محنُ الدنيا ومُصَابُ الموت وما بعده وأهوالُ القيامة بزوال أوساخهم وأدرانهم، ولا يليق بحكمة العليم الحكيم أن يجاور بهم الطيبين في دارهم، ولم يُخْلَقوا للفناء، فهؤلاء أهل دار الابتلاء والامتحان، باقون فيها ببقاء ما معهم من درن الكفر والشرك، والنار إنما أُوْقِدت عليهم بأعمالهم الخبيثة، فعذابهم بنفس أعمالهم، أُنشِئ لهم منها صورٌ من العذاب تناسبها وتشاكلها (1)، فالعذاب باقٍ عليهم ما بقيت حقائق تلك الأعمال وما تولد منها، فما دامت موجِبات العذاب باقية فالعذاب باقٍ.
يبقى أن يقال: فهل ذهب أثر الفطرة الأولى بالكلية، بحيث صارت كأن لم تكن، وبطلت بالكلية، وانتقل الأمر إلى العارض المفسد لها، وعلى هذا فلا سبيل إلى خلاصهم من العذاب؛ إذ هو أثر ذلك الفساد الذي أزال الفطرة؟
أو يقال: الفطرة لم تذهب بالكلية، وإنما استحكم مرضها وفسادها وأصلها باقٍ، كما يستحكم مرض البدن وفساده والحياة قائمة به، لكنها حياة لا تنفع، فإذا قُدّر دواءٌ كريه صعب التناول لا سبيل إلى الصحة إلا بتكرّر تناوله مرارًا كثيرة العدد جدًّا تزيل ذلك المرض العارض، فيظهر أثر الفطرة الأولى، فلا يحتاج بعده إلى الدواء؟
_________
(1) «م»: «صورتها من العذاب تشبهها وتشاكلها».
(2/294)
________________________________________
هذا سر المسألة، ومن يذهب إلى هذا التقدير الثاني فإنه يقول: العقل لا يدل على امتناع ذلك، أو ليس فيه ما يحيله.
ونقول: بل قد دلّ العقل والنقل والفطرة على أن الربّ تعالى حكيم رحيم، والحكمة والرحمة تأبى بقاء هذه النفوس في العذاب سرمدًا أبد الآباد، بحيث يدوم عذابها بدوام الله، فهذا ليس في الحكمة والرحمة (1).
قالوا: وقد دلَّت الدلائل الكثيرة من النصوص والاعتبار، على أن ما شرعه الله في هذه الدار، أو قدَّره من العذاب والعقوبات، فإنما هو لتهذيب النفوس وتصفيتها من الشر الذي فيها، ولحصول مصلحة الزجر والاتعاظ، وفَطْمًا للنفوس عن المعاودة، وغير ذلك من الحكم التي إذا حصلت خلا التعذيب عن الحكمة والمصلحة فيبطل؛ فإنه تعذيب عليم حكيم رحيم لا يعذّب سدى، ولا لنفع يعود إليه بالتعذيب، بل كلا الأمرين محال، فإذًا لا يقع التعذيب إلا لمصلحة المعذِّب أو مصلحة غيره، ومعلوم أنه لا مصلحة له ولا لغيره في بقائه في العذاب سرمدًا أبد الآباد.
قالوا: فمما دَلّ عليه القرآن والسنة أنّ جنس الآلام لمصلحة بني آدم قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120]، وقوله تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 141]، فأخبر أنّ ألم القتل والجراح في سبيله تمحيص، أي تطهير وتصفية للمؤمنين، وبَشَّر الصابرين على ألم الجوع
_________
(1) ناقش المؤلف هذه المسألة وذيولها في عدة مواضع من مصنفاته، من أوفاها ما حرره في «الصواعق المرسلة - المختصر» (2/ 635 - 690).
(2/295)
________________________________________
والخوف والفقر وفَقْد الأحباب وغيرهم بصلاته عليهم ورحمته وهدايته.
وقال تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123]، قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: يا رسول الله، جاءت قاصمة الظهر، وأيّنا لم يعمل سوءًا؟ فقال: «يا أبا بكر، ألستَ تَنْصَب؟ ألستَ تحزن؟ أليس يصيبك الأذى؟» قال: بلى، قال: «فذلك مما تُجْزَون به» (1).
وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]، وفي هذا تبشير وتحذير، إذ أعلمنا أن مصائب الدنيا عقوبات لذنوبنا، وهو أرحم أن يُثَنّي العقوبة على عبده بذنب قد عاقبه به في الدنيا، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «من بُليَ بشيء من هذه القاذورات فستره الله، فأمره إلى الله: إن شاء عذّبه، وإن شاء غفر له، ومن عُوقب به في الدنيا فالله أكرم من أن يُثَنّي العقوبة على عبده» (2).
وفي الحديث: «الحدود كفارات لأهلها» (3).
_________
(1) أخرجه سعيد بن منصور في «السنن - التفسير» (4/ 1381 - 1397)، وأحمد (68)، والترمذي (3039)، والطبري (7/ 522 - 523) بألفاظ مختلفة من عدة أوجه عن الصدّيق، قال الترمذي: «هذا حديث غريب، وفي إسناده مقال ... وقد روي هذا الحديث من غير هذا الوجه عن أبي بكر، وليس له إسناد صحيح أيضًا، وفي الباب عن عائشة»، وانظر: «علل الدارقطني» (74).
وفي الباب من حديث أبي هريرة عند مسلم (2574).
(2) لم أقف عليه بهذا السياق، وأخرجه بنحوه أحمد (775)، والترمذي (2626)، وابن ماجه (2604)، قال الترمذي: «حديث حسن غريب».
وفي الباب عن عبادة بن الصامت وغيره، انظر: «فتح الباري» (1/ 67).
(3) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وإن كان معناه قد جاء في غير ما حديث كما سيذكره المصنف.
وعن أبي هريرة يرفعه: «ما أدري: الحدود كفارات لأهلها أم لا؟» أخرجه البزار (8519) والحاكم (104)، وأعله البخاري وغيره إسنادًا ومتنًا، انظر: «التاريخ الكبير» (1/ 153)، «السنن الكبرى» للبيهقي (8/ 570)، «فتح الباري» لابن رجب (1/ 78 - 79).
(2/296)
________________________________________
وفي «الصحيحين» (1) من حديث عبادة: «ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به في الدنيا فهو كفَّارة له».
وفي «الصحيح» (2) عنه - صلى الله عليه وسلم -: «ما يصيب المؤمن من وَصَب ولا نَصَب، ولا هَمٍّ ولا حَزَن، ولا أذى حتى الشوكة يُشاكها= إلا كَفّر الله بها من خطاياه».
وقال: «لا يزال البلاء بالمؤمن في أهله وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة» (3).
وفي حديث آخر: «إن المؤمن إذا مرض خرج مثل البَرَدة في صفائها ولونها» (4).
وفي الحديث الآخر: «إن الحمّى تنفي الذنوب كما ينفي الكِيْرُ خَبَث
_________
(1) البخاري (3892)، ومسلم (1709).
(2) البخاري (5641)، ومسلم (2573) من حديث أبي سعيد وأبي هريرة.
(3) أخرجه أحمد (7859)، والترمذي (2399)، من حديث أبي هريرة، قال الترمذي: «حسن صحيح».
(4) أخرجه ابن أبي الدنيا في «المرض والكفارات» (22)، والبزار (6355) من حديث أنس، وهو حديث باطل، تفرد به الوليد الموَقّري وهو متهم، انظر: «الضعفاء» للعقيلي (4/ 140)، «الموضوعات» لابن الجوزي (3/ 481).
(2/297)
________________________________________
الحديد» (1).
وفي حديث آخر: «لا تسبّي الحمّى؛ فإنها تُذْهِب خطايا بني آدم» (2).
ومن أسماء الحمّى: مكفرة الذنوب.
وفي الحديث الصحيح: «يقول الله عز وجل يوم القيامة: عبدي، مرضتُ فلم تعدني، قال: كيف أعودك وأنت ربُّ العالمين؟ قال: مرض عبدي فلان فلم تعده، أما لو عدتَه لوجدتني عنده» (3). وهذا أبلغ من قوله في الإطعام والإسقاء: «لوجدتَ ذلك عندي»، فهو سبحانه عند المبتلَى بالمرض رحمةً منه له وجبرًا وقربًا منه لكسر قلبه بالمرض، فإنه عند المنكسرة قلوبهم.
وهذا أكثر من أن يُذْكَر.
وربّ الدنيا والآخرة واحد، وحكمته ورحمته موجودة في الدنيا والآخرة، بل ظهور رحمته في الآخرة أعظم، فعذاب المؤمنين بالنار في الآخرة هو من هذا الباب كعذابهم في الدنيا بالمصائب والحدود، وكذلك حبسهم بين الجنة والنار حتى يُهذَّبوا ويُنقَّوا.
وقد عُلِم بالنصوص الصحيحة الصريحة أن عذابهم في النار متفاوت قدْرًا ووقتًا بحسب ذنوبهم، وأنهم لا يخرجون منها جملةً واحدة، بل شيئًا
_________
(1) ذكره بهذا اللفظ أبو عبيد في «غريب الحديث» (2/ 192)، ولم أقف عليه مسندًا، وسيأتي في سياق الحديث التالي نحوه.
(2) أخرجه مسلم (2575) من حديث أم السائب أو أم المسيب، وتمامه: «كما يذهب الكير خبث الحديد».
(3) أخرجه مسلم (2569) بنحوه من حديث أبي هريرة.
(2/298)
________________________________________
بعد شيء، حتى يبقى رجل هو آخرهم خروجًا منها.
وكذلك عذاب الكفار فيها متفاوت تفاوتًا عظيمًا، فالمنافقون في دركها الأسفل، وأبو طالب أخفّ أهلها عذابًا في ضَحْضاح من نار (1)، يغلي منه دماغه، وآل فرعون في أشد العذاب.
قالوا: فإذا كان العذاب في الدار التي فيها رحمة واحدة من مائة رحمة، هو رحمة بأهله ومصلحة لهم ولطف بهم؛ فكيف في الدار التي تظهر فيها مائة رحمة، كل رحمة منها طِبَاق ما بين السماء والأرض؟!
وقد قال تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 21]، فأخبر أنه يعذبهم رحمةً بهم ليردّهم العذاب إليه، كما يعذِّب الأبُ الشفيقُ الرحيمُ ولدَه إذا فرّ منه إلى عدوه؛ ليرجع إلى بِرّه وكرامته.
وقال الله تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء: 147]، وأنت تجد تحت هذه الكلمات أنّ تعذيبه لكم لا يزيد في ملكه ولا ينتفع به، ولا هو سُدى خالٍ من حكمة ومصلحة، وأنكم إذا بدّلتم الشكر والإيمان بالكفر كان عذابكم منكم، وكان كفركم هو الذي عُذِّبتم به، وإلا فأي شيء يلحقه سبحانه من عذابكم، وأي نفع يصل إليه منكم (2)؟
قالوا: وحينئذ فالحكمة تقتضي أن النفوس الشريرة لا بدّ لها من عذاب
_________
(1) الضَّحْضاح في الأصل: ما رقّ من الماء على وجه الأرض مما يبلغ الكعبين، «النهاية في غريب الحديث» (3/ 75).
(2) «د»: «منه».
(2/299)
________________________________________
يهذّبها بحسب ذنوبها، كما دلّ على ذلك السمع والعقل، وذلك يوجب الانتهاء لا الدوام.
قالوا: والله تعالى لم يخلق الإنسان عبثًا، وإنما خلقه ليرحمه لا ليعذبه، وإنما اكتسب موجِب العذاب بعد خلقه له، فرحمته له سبقت غضبه، وموجِب الرحمة فيه سابق على موجِب الغضب وغالب له، وتعذيبه ليس هو الغاية بخلقه، وإنما تعذيبه بحكمة ورحمة، والحكمة والرحمة تأبى أن يتصل عذابه سرمدًا إلى غير نهاية.
أما الرحمة فظاهر، وأما الحكمة فلأنه إنما عُذِّب على أمر طرأ على الفطرة وغَيَّرها، ولم يُخلَق عليه من أصل الخِلْقة، ولا خُلِق له، فهو لم يُخْلَق للإشراك ولا للعذاب، وإنما خُلِق للعبادة والرحمة، ولكن طرأ عليه موجِب العذاب فاستحق عليه العذاب، وذلك الموجِب لا دوام له، فإنه باطل، بخلاف الحق الذي هو موجِب الرحمة، فإنه دائم بدوام الحق سبحانه وهو الغاية، وليس موجِب العذاب غاية، كما أن العذاب ليس بغاية، بخلاف الرحمة فإنها غاية، وموجِبها غاية، فتأمله حق التأمل، فإنه سرّ المسألة.
قالوا: والرب تعالى تسمّى بالغفور الرحيم، ولم يتسمّ بالمعذِّب ولا بالمعاقِب، بل جعل العذاب والعقاب في أفعاله، كما قال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِيَ أَنِّيَ أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر: 49 - 50]، وقال تعالى: {إِنَّ سَرِيعُ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ} [الأنعام: 165]، وقال: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهْوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج: 12 - 14]، وقال: {(1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي} [غافر: 1 - 3]، وهذا كثير في القرآن.
(2/300)
________________________________________
فإنه سبحانه يتمدّح بالعفو والمغفرة والرحمة والكرم والحلم، ويتسمّى بها، ولم يتمدّح بأنه المعاقِب ولا الغضبان ولا المعذِّب ولا المنتقِم إلا في الحديث الذي فيه تعديد الأسماء الحسنى، ولم يثبت (1).
وقد كتب على نفسه كتابًا أنّ رحمته سبقت غضبَه، وكذلك هو في أهل النار، فإن رحمته فيهم سبقت غضبَه، فإنه رحمهم أنواعًا من الرحمة قبل أن أغضبوه بشركهم، ورحمهم في حال شركهم، ورحمهم بإقامة الحجة عليهم، ورحمهم بدعوتهم إليه بعد أن أغضبوه وآذوا رسله وكذبوهم، وأمهلهم ولم يعاجلهم، بل وسعتهم رحمتُه، فرحمته غلبت غضبه، ولولا ذلك لخرب العالم، وسقطت السماوات على الأرض، وخرّت الجبال.
وإذا كانت الرحمة غالبة للغضب سابقة عليه؛ امتنع أن يكون موجِب الغضب دائمًا بدوامه، غالبًا لرحمته.
قالوا: والتعذيب إما أن يكون عبثًا أو لمصلحة وحكمة، وكونه عبثًا مما يُنزَّه أحكم الحاكمين عنه، ونسبته إليه نسبةٌ لما هو من أعظم النقائص إليه.
وإن كان لمصلحة فالمصلحة هي المنفعة ولوازمها وملزوماتها، وهي إما أن تعود على الرب تعالى ــ وهو يتعالى عن ذلك ويتقدّس عنه ــ، وإما أن تعود إلى المخلوق، وذلك المخلوق إما نفس المعذَّب وإما غيره، أو هما، والأول ممتنع؛ إذ لا مصلحة له في دوام العقوبة بلا نهاية، وأما مصلحة غيره: فإن كانت هي الاتعاظ والانزجار فقد حصلت، وإن كانت تكميل لذته
_________
(1) أخرجه الترمذي (3507)، وابن ماجه (3861) من حديث أبي هريرة، وقد أعل بالاضطراب والإدراج، انظر: «فتح الباري» (11/ 214) وما بعدها.
(2/301)
________________________________________
وبهجته وسروره بأن يرى عدوه في تلك الحال وهو في غاية النعيم؛ فهذا لو كان أقسى الخلق لرقّ لعدوه من طول عذابه ودوام ما يقاسيه= فلم يبق إلا كسر تلك النفوس الجبّارة العنيدة ومُداواتها بما يصل إلى مادة أدوائها وأمراضها فيَحْسمها، وتلك المادة شر طارئ على خير خُلِقت عليه في ابتداء فطرتها.
قالوا: والأقسام الممكنة في الخلق خمسة لا مزيد عليها: خير محض ومقابله، وخير راجح ومقابله، وخير وشر متساويان، والحكمة تقتضي إيجاد قسمين منها، وهما الخير الخالص والراجح.
وأما الشر الخالص أو الراجح فإن الحكمة لا تقتضي وجوده، بل تأبى ذلك؛ فإن كل ما خلقه الله تعالى فإنما خلقه بحكمةٍ وجودها أولى من عدمها، وخَلَق الدواب الشرّيرة والأفعال التي هي شر لما يترتّب على خَلْقها من الخير المحبوب، فلم تُخْلَق لمجرد الشر الذي لا يستلزم خيرًا بوجه ما، هذا غاية المحال، فالخير هو المقصود بالذات وبالقصد الأول، والشر إنما قُصِد قَصْد الوسائل والمبادئ لا قَصْد الغايات والنهايات.
وحينئذ فإذا حصلت الغاية المقصودة بخلقه بطل وزال، كما تبطل الوسائل عند الانتهاء إلى غاياتها، كما هو معلوم بالحسّ والعقل.
وعلى هذا فالعذاب شرّ وله غاية تُطلب به، وهو وسيلة إليها، فإذا حصلت غايته كان بمنزلة الطريق الموصلة إلى القصد، فإذا وصل بها السائر (1) إلى مقصده لم يبق لسلوكها فائدة.
_________
(1) «م»: «دخل فيها المسافر».
(2/302)
________________________________________
وسر المسألة: أن الرحمة غاية الخلق والأمر لا العذاب، فالعذاب من مخلوقاته، وذلك يقتضي أنه خلقه لغاية محمودة، ولا بدّ من ظهور أسمائه وأثر صفاته عمومًا وإطلاقًا، فإن هذا هو الكمال، والربّ جل جلاله موصوف بالكمال، مُنزّه عن النقص.
قالوا: وقد قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 106 - 107]، وقال: {النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 128].
قال أبو سعيد الخدري: «هذه تقضي على كل آية في القرآن»، ذكره البيهقي وحرب وغيرهما (1).
وقال عبد الله بن مسعود: «ليأتينّ على جهنم زمان ليس فيها أحد، وذلك بعدما يلبثون فيها أحقابًا» (2).
وعن عمر بن الخطاب وأبي هريرة مثله (3)، ذكره جماعة من المصنفين في السنة.
_________
(1) «الأسماء والصفات» للبيهقي (337)، «مسائل حرب ــ من كتاب النكاح إلى نهاية الكتاب» (1868) بنحوه، ورواه عبد الرزاق في «التفسير» (1251) ــ ومن طريقه الطبري (12/ 581) ــ، وابن بطة في «الإبانة الكبرى» (1310).
والآية المقصودة هي: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}.
(2) أسنده ابن المنذر وأبو الشيخ كما في «الدر المنثور» (4/ 478).
(3) سيذكرهما المصنف قريبًا (2/ 309 - 310).
(2/303)
________________________________________
وهذا يقتضي أن الدار التي لا يبقى فيها أحد هي التي يلبث فيها أهلها أحقابًا.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: «أخبرنا الله بالذي يشاء لأهل الجنة، فقال تعالى: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108]، ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار» (1).
قالوا: ويكفينا ما في سورة الأنعام من قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} إلى قوله: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأنعام: 128 - 130]، وهذا خطاب للكفار من الجن والإنس من وجوه:
أحدها: استكثارهم منهم، أي: من إغوائهم وإضلالهم، وإنما استكثروا من الكفار.
الثاني: قوله: {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ} وأولياؤهم هم الكفار، كما قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27]، فحزب الشيطان هم أولياؤه.
_________
(1) أسنده الطبري (12/ 582).
(2/304)
________________________________________
الثالث: قوله تعالى: {وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} ومع هذا فقال: {النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ}، ثم ختم الآية بقوله: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (1)، فتعذيبهم متعلق بعلمه وحكمته، وكذلك الاستثناء صادر عن علم وحكمة، فهو عليم بما يفعل بهم، حكيم في ذلك.
قالوا: وقد أكثر في القرآن أنه سبحانه إذا ذكر جزاء أهل رحمته وأهل غضبه معًا أبَّدَ جزاء أهل الرحمة، وأطلق جزاء أهل الغضب، كقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سَعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 106 - 108].
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 6 - 8].
وقوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)} [آل عمران: 106 - 107].
وقد يقرن بينهما في الذكر ويقضي لهما بالخلود، وقد يفرد أهل الغضب
_________
(1) «د» «م»: «عليم حكيم».
(2/305)
________________________________________
بالذكر ويقضي لهم بالخلود (1)،كقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23]، وقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 14].
ولكن مجرد ذكر الخلود والتأبيد لا يقتضي عدم النهاية، بل الخلود هو المكث الطويل، كقولهم: «قَيْد مُخَلّد» و «تأبيد كل شيء بحسبه»، فقد يكون التأبيد لمدة الحياة، وقد يكون لمدة الدنيا، قال تعالى عن اليهود: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: 95]، ومعلوم أنهم يتمنّونه في النار حيث يقولون: {يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77].
وإنما استفيد عدم انتهاء نعيم الجنة بقوله تعالى: {(53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ} [ص: 54]، وقوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108]، وقوله: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [الإنشقاق: 25]، أي غير مقطوع (2)، ومَن قال: لا يُمَنُّ به عليهم، فقد أخطأ أقبح الخطأ. ولم يجئ مثل ذلك في عذاب أهل النار.
وقوله عز وجل: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 167]، {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48]، وقوله تعالى: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36]، وقوله تعالى: {أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ} [السجدة: 30] في موضعين من القرآن، وقوله: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء: 56] غير مصروف عن ظاهره وحقيقته على الصحيح.
_________
(1) جملة: «وقد يفرد أهل الغضب بالذكر ويقضي لهم بالخلود» ساقطة من «د».
(2) «د»: «أي مقطوع».
(2/306)
________________________________________
وقد زعمت طائفة أن إطلاق هذه الآيات مُقيّد بآيات التقييد بالاستثناء بالمشيئة، فيكون من باب تخصيص العموم، وهذا كأنه قول مَنْ قال مِنَ السلف في آية الاستثناء: إنها تقضي على كل وعيد في القرآن.
والصحيح أن هذه الآيات على عمومها وإطلاقها، ولكن ليس فيها ما يدل على أن نفس النار دائمة بدوام الله لا انتهاء لها، هذا ليس في القرآن ولا في السنة ما يدل عليه بوجه ما، وفرق بين أن يكون عذاب أهلها دائمًا بدوامها، وبين أن تكون هي أبدية لا انقطاع لها، فلا تستحيل ولا تضمحل، فهذا شيء، وهذا شيء.
ولا يقال: فلا فرق على هذا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة؛ إذ كان كل منهما يضمحل وينقطع.
قيل: ما أظهر الفرق بينهما، والأمر أبين من أن يحتاج إلى فرق.
وأيضًا: فعذاب الدنيا ينقطع بموت المعذَّب وإقلاع العذاب عنه، وأما عذاب الآخرة فلا يموت من استحق الخلود فيه، ولا يُقلع العذاب عنه، ولا يدفعه عنه أحد، كما قال تعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور: 7 - 8]، وهو لازم لا يفارق، قال تعالى: {عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)} [الفرقان: 65] أي لازمًا، ومنه سُمّي الغريم غريمًا لملازمته غريمه.
فصل (1)
وأما الآثار في هذه المسألة، فقال الطبراني: حدثنا عبد الرحمن بن سَلْم،
_________
(1) سيقتبس المؤلف كثيرًا في هذا الفصل وما يليه من رسالة شيخ الإسلام: «الرد على من قال بفناء الجنة والنار».
(2/307)
________________________________________
حدثنا سهل بن عثمان، حدثنا عبد الله بن مِسْعَر بن كِدَام، عن جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ليأتينّ على جهنم يوم كأنها وَرَق (1) هاجَ واحمَرَّ، تخفق أبوابها» (2).
وقال حرب في «مسائله» (3): سألت إسحاق، قلت: قول الله عز وجل: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 107] قال: أتت هذه الآية على كل وعيد في القرآن.
حدثنا عبد الله بن معاذ، حدثنا معتمر بن سليمان، قال: قال أبي: حدثنا أبو نَضْرة، عن جابر أو أبي سعيد، أو بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: هذه الآية تأتي على القرآن كله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}، قال المعتمر: قال أبي: كل وعيد في القرآن.
ثم تأوّل حرب ذلك، فقال: معناه عندي ــ والله أعلم ــ أنها تأتي على كل وعيد في القرآن لأهل التوحيد.
وكذلك قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} استثناء من أهل القبلة الذين يخرجون من النار (4).
_________
(1) كذا في «د» «م»، وفي مصادر التخريج: «زرع».
(2) «المعجم الكبير» (7969)، وبنحوه الخطيب في «تاريخ بغداد» (10/ 177)، وهو حديث موضوع، ابن مسعر متروك، وابن الزبير كذاب، كما في «الميزان» (1/ 406) (2/ 502)، وانظر: «الموضوعات» (3/ 268).
(3) برقم (1867).
(4) «مسائل حرب» (3/ 1157 - 1158).
(2/308)
________________________________________
وهذا التأويل لا يصح؛ لأن الاستثناء إنما هو في وعيد الكفار، فإنه سبحانه قال: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ} الآية [هود: 105 - 106]، ثم قال: {وَأَمَّا الَّذِينَ سَعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ} [هود: 108]، فأهل التوحيد من الذين سُعِدوا لا من الذين شَقُوا، وآية الأنعام صريحة في حق الكفار، كما تقدم بيانه.
قال حرب: وحدثنا عبيد الله بن معاذ، حدثنا أبي، ثنا شعبة، عن أبي بَلْج (1)، سمع عمرو بن ميمون يحدِّث عن عبد الله بن عمرو، قال: «ليأتينّ على جهنم يوم تصطفق فيه أبوابها، ليس فيها أحد، وذلك بعدما يلبثون فيها أحقابًا» (2).
حدثنا عبيد الله، حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن يحيى بن أيوب، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: «أما الذي أقول: إنه سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد، وقرأ: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ} الآية».
قال عبيد الله: كان أصحابنا يقولون: يعني بها الموحّدين (3).
وقد تقدم أن هذا التأويل لا يصح.
_________
(1) اضطربت نسخة «د» «م» في رسمها وإعجامها، والمثبت من كتب التراجم والرواية.
(2) «مسائل حرب» (1869)، ورواه الفسوي في «المعرفة» (2/ 103)، والبزار (2478)، ورجاله ثقات خلا أبا بَلْج يحيى بن سليم فمختلف فيه، وعد الذهبي في «الميزان» (4/ 385) هذا الحديث من بلاياه، ونقل الفسوي عقيب روايته عن ثابت قال: سألت الحسن عن هذا الحديث فأنكره.
(3) «مسائل حرب» (1870).
(2/309)
________________________________________
وقال عَبْد بن حميد في «تفسيره»: أخبرنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن الحسن، قال: قال عمر - رضي الله عنه -: «لو لبث أهل النار في النار بقدر رَمْل عالِج (1) لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيه».
وقال: أخبرنا حجّاج بن مِنْهال، عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن، أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: «لو لبث أهل النار في النار عدد رَمْل عالِج لكان لهم يوم يخرجون فيه» (2).
ورواة هذا الأثر أئمة ثقات كلهم، والحسن سمعه من بعض التابعين، ورواه غير مُنكِر له، فدلّ على أن هذا الحديث كان متداولًا بين هؤلاء الأئمة لا ينكرونه، وقد كانوا ينكرون على من خرج عن السنة أدنى شيء، ويرْوُون الأحاديث المُبطِلة لقوله (3).
وكان الإمام أحمد يقول: «أحاديث حماد بن سلمة هي الشَّجا في حلوق المبتدعة» (4).
_________
(1) رمل عالِج: كثبان صحراوية عظيمة في شمال نجد من جزيرة العرب، وتعرف اليوم بالنفود الكبير، انظر: «معجم البلدان» (4/ 69)، «معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية» (197).
(2) أورده ابن كثير في «مسند الفاروق» (2/ 541) من طريق عبد: ثنا سليمان: ثنا حماد، عن حميد به، قال ابن كثير: «فيه انقطاع بين الحسن وعمرَ، فإنَّه لم يَسْمع منه، وفيه غرابة جدًّا»، وعزاه في «الدر المنثور» (4/ 478) إلى ابن المنذر.
(3) «د»: «لفعله».
(4) انظر: «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 303)، «الرد على من قال بفناء الجنة والنار» (54 - 55).
والشجا ما اعترض في الحلق من عظم ونحوه، كما في «تاج العروس» (38/ 352).
(2/310)
________________________________________
فلو كان هذا القول عندهم من البدع المخالفة للسنة والإجماع لسارعوا إلى رده وإنكاره.
وفي تفسير علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله تعالى: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 128]، قال: «لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه، ولا ينزلهم جنة ولا نارًا» (1).
قال الطبري: «وروي عن ابن عباس أنه كان يتأوّل في هذا الاستثناء أن الله جعل أمر هؤلاء في مَبْلغ عذابه إياهم إلى مشيئته» (2).
وهذا التفسير من ابن عباس يُبطِل قول من تأوّل الآية على أن معناها: سوى ما شاء الله من أنواع العذاب. أو قال: المعنى: إلا مدة مقامهم قبل الدخول من حين بُعِثوا إلى أن دخلوا. أو أنها في أهل القبلة، «وما» بمعنى «مِن» أو أنها بمعنى الواو، أي: وما شاء الله.
وهذه كلها تأويلات باردة ركيكة، لا تليق بالآية، ومَن تأمّلها جزم ببطلانها.
وقال السُّدِّي في قوله تعالى: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ: 23]، قال: «سبعمائة حُقْب، كل حُقْب سبعون سنة، كل سنة ثلاثمائة وستون يومًا، كل يوم كألف سنة مما تعدون» (3).
_________
(1) رواه الطبري (9/ 557)، وابن أبي حاتم في «التفسير» (7897).
(2) «جامع البيان» (9/ 557).
(3) نسبه إليه ابن تيمية في «الرد على من قال بفناء الجنة والنار» (63)، و ابن كثير (8/ 306)، وانظر في تقدير الأحقاب: «الدر المنثور» (8/ 394 - 395).
(2/311)
________________________________________
وتقييد لُبْثهم فيها بالأحقاب يدل على مدة مقدّرة يحصرها العَدّ (1)، وهذا قول الأكثرين.
ولهذا تأوّل الزجّاج الآية على أن الأحقاب تقييد لقوله: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا} [النبأ: 24]، وأما مدة لُبْثهم فيها فلا تتقدَّر بالأحقاب (2).
وهذا تأويل فاسد؛ فإنه يقتضي أن يكونوا بعد الأحقاب ذائقين للبرد والشراب.
وقالت طائفة أخرى: الآية منسوخة بقوله: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48]، وقوله: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 39]، وهذا فاسد أيضًا إنْ أرادوا بالنسخ الرفع، فإنه لا يدخل في الخَبَر إلا إذا كان بمعنى الطلب، وإنْ أرادوا بالنسخ البيان فهو صحيح، وهو إنما يدل على أن عذابهم دائم مستمر ما دامت باقية، فهم فيها خالدون، وما هم بمخرجين، وهذا حقٌّ معلومٌ دلالة القرآن والسنة عليه.
ولكن الشأن في أمر آخر، وهو أن النار أبدية دائمة بدوام الرب، فأين الدليل على هذا من القرآن أو السنة بوجه من الوجوه؟
وقالت طائفة: هي في أهل التوحيد.
وهذا أقبح مما قبله، وسياق الآيات يرده ردًّا صريحًا.
_________
(1) «د»: «العدد».
(2) «معاني القرآن وإعرابه» (5/ 273).
(2/312)
________________________________________
ولما رأى غيرهم بطلان هذه التأويلات قال: لا يدل ذِكْر الأحقاب على النهاية؛ فإنها غير مقدّرة بالعدد، فإنه لم يقل: عشرة، ولا مائة، ولو قُدِّرت بالعدد لم يدل على النهاية إلا بالمفهوم، فكيف إذا لم تُقَدّر؟
قالوا: ومعنى الآية: أنه كلما مضى حُقْب تبعه حُقْب لا إلى نهاية.
وهذا الذي قالوه لا تدل الآية عليه بوجه.
وقولهم: «إن الأحقاب فيها غير مُقَدّرة»، فيقال: لو أريد بالآية بيان عدم انتهاء مدة العذاب لم تُقَيّد بالأحقاب؛ فإنّ ما لا نهاية له لا يقال: هو باقٍ أحقابًا ودهورًا وأعصارًا ونحو ذلك، ولهذا لا يقال ذلك في نعيم أهل الجنة، ولا يقال للأبدي الذي لا يزول: هو باقٍ أحقابًا أو آلافًا من السنين.
فالصحابة أفهمُ الأمة لمعاني القرآن، وقد فَهِم منها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خلاف فَهْم هؤلاء، كما فَهِم ابن عباس من آية الاستثناء خلاف فَهْم أولئك، وفَهْم الصحابة في القرآن هو الغاية التي عليها المُعَوَّل.
وقد قال ابن مسعود: «ليأتينّ على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد، وذلك بعدما يلبثون فيها أحقابًا» (1).
وقال ابن جرير: حُدِّثتُ عن المُسيّب، عمن ذكره، عن ابن عباس: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 107] قال: أمر الله النار أن تأكلهم.
_________
(1) تقدم عزوه (2/ 303).
(2/313)
________________________________________
قال: وقال ابن مسعود فذكره (1).
وقال: حدثنا محمد بن حميد، حدثنا جرير، عن بيان، عن الشعبي قال: «جهنم أسرع الدارَيْن عمرانًا، وأسرعهما خرابًا» (2).
قلت: لا يدلُّ قوله: «أسرعهما خرابًا» على خراب الدار الأخرى، كما في قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24]، وقوله: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59]، وقوله في الحديث: «الله أعلى وأجلّ» (3).
وقوله: «أسرعهما عمرانًا» يحتمل معنيين:
أحدهما: مسارعة الناس إلى الأعمال التي يدخلون بها جهنم، وإبطاؤهم عن أعمال الدار الأخرى.
والثاني: أن أهلها يدخلونها قبل دخول أهل الجنة إليها، فإن أهل الجنة إنما يدخلونها بعد عبورهم على الصراط، وبعد حبسهم على القنطرة التي وراءه، وأهل النار قد تبوَّؤوا منازلهم منها، فإنهم لا يَجُوزون على الصراط، ولا يُحْبسون على تلك القنطرة.
وأيضًا ففي الحديث الصحيح أنه لما ينادي المنادي: «لتتَّبِع كلُّ أمة ما كانت تعبد، فيتبع المشركون أوثانهم وآلهتهم، فتتساقط بهم في النار، وتبقى هذه الأمة في الموقف حتى يأتيها ربها عز وجل، ويقول: ألا تنطلقون حيث
_________
(1) «جامع البيان» (12/ 582).
(2) «جامع البيان» (12/ 582).
(3) جزء من حديث أخرجه البخاري (3039) من حديث البراء بن عازب.
(2/314)
________________________________________
انطلق الناس» (1).
وقد ذكر الخطيب في «تاريخه» (2) في ترجمة سهل بن عبيد الله بن داود بن سليمان أبي نصر البخاري: حدثنا محمد بن نوح الجُنْدَيْسَابوري، حدثنا جعفر بن محمد بن عيسى الناقد، حدثنا سهل بن عثمان، حدثنا عبد الله بن مِسْعر بن كِدَام، عن جعفر، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يأتي على جهنم يوم ما فيها من بني آدم أحد، تخفق أبوابها، كأنها أبواب الموحدين»، وليس العمدة على هذا وحده؛ فإن إسناده ضعيف.
وقد روي من وجه آخر عن ابن مسعود قد تقدم (3).
فصل (4)
والذين قطعوا بأبدية النار وأنها لا تفنى لهم طرق:
أحدها: الآيات والأحاديث الدالة على خلودهم فيها، وأنهم لا يموتون، وما هم منها بمخرجين، وأن الموت يُذْبح بين الجنة والنار، وأن الكفار لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سَمّ الخِيَاط، وأمثال هذه النصوص، وهذه الطريق لا تدل على ما ذكروه، وإنما تدل على أنها ما دامت باقية فهم
_________
(1) قطعة من حديث اختصرها المؤلف، وهو عند البخاري (4581)، ومسلم (302) من حديث أبي سعيد الخدري.
(2) (10/ 177)، وقد تقدم تخريجه وبيان وضعه (2/ 308).
(3) انظر: (2/ 303).
(4) انظر: «الرد على من قال بفناء الجنة والنار» (71 - 79).
(2/315)
________________________________________
فيها، فأين فيها ما يدل على عدم فنائها؟
الطريق الثاني: دعوى الإجماع على ذلك، وقد ذكرنا من أقوال الصحابة والتابعين ما يدل على أن الأمر بخلاف ما قالوا، حتى لقد ادُّعِي إجماع الصحابة من هذا الجانب استنادًا إلى تلك النقول التي لا يُعْلم عنهم خلافُها.
الطريق الثالث: إنه كالمعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن الجنة والنار لا تفنيان، بل هما باقيتان، ولهذا أنكر أهل السنة كلهم على أبي الهُذَيل وجَهْم وشيعتهما ممن قال بفناء الجنة والنار، وعدوا أقوالهم من أقوال أهل البدع المخالفة لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا ريب أن هذا من أقوال أهل البدع (1) التي خرجوا بها عن السنة.
ولكن من أين تصح دعوى العلم النظري أن النار باقية ببقاء الله، دائمة بدوامه؟ فضلًا عن العلم الضروري، فأين في الأدلة الشرعية أو العقلية دليل واحد يقتضي ذلك؟
الطريق الرابع: أن السنة المستفيضة أو المتواترة أخبرت بخروج أهل التوحيد من النار دون الكفار، وهذا معلوم من السنة قطعًا، وهذا الذي قالوه حق لا ريب فيه، ولكن أهل التوحيد خرجوا منها وهي باقية لم تفنَ ولم تعدم، والكفار لا يحصل لهم ذلك، بل هم باقون فيها ما بقيت.
الطريق الخامس: أن العقل يدل على خلود الكفار فيها، وعدم خروجهم منها، فإن نفوسهم غير قابلة للخير، فإنهم لو خرجوا منها لعادوا كفارًا كما كانوا، وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:
_________
(1) من قوله: «المخالفة لما جاء» إلى هنا ساقط من «م».
(2/316)
________________________________________
28]، وهذا يدل على غاية عُتُوِّهم وإصرارهم، وعدم قبول الخير فيهم بوجه من الوجوه، فلا تصلح نفوسهم الشرّيرة الخبيثة إلا للعذاب، ولو صلحت لصلحت على طول العذاب.
فحيث لم يؤثّر عذابهم تلك الأحقاب الطويلة في نفوسهم، ولم يطيّبها؛ عُلِم أنه لا قابلية فيهم للخير أصلًا، وأن أسباب العذاب لم تطفأ من نفوسهم، فلا يُطفَأ العذاب المترتب عليها.
وهذه الطريق وإن أُنْكِرت ببادئ الرأي فهي طريق قوية، وهي ترجع إلى طريق الحكمة، وأن الحكمة التي اقتضت دخولهم هي التي اقتضت خلودهم.
ولكن هذه الطريق مُحَرّم سلوكها على نفاة الحكمة، وعلى مثبتيها من المعتزلة والقدرية، أما النفاة فظاهر، وأما المثبتة فالحكمة عندهم أن عذابهم لمصلحتهم، وهذا إنما يصح إذا كان لهم حالتان: حالة يُعَذَّبون فيها لأجل مصلحتهم، وحالة يزول عنهم العذاب لتحصل لهم تلك المصلحة، وإلا فكيف تكون مصلحتهم في عذاب لا انقطاع له أبدًا؟!
وأما من يثبت حكمة راجعة إلى الرب تعالى، فيمكنهم سلوك هذه الطريق، لكن يقال: الحكمة لا تقتضي دوام عذابهم بدوام بقائه سبحانه، وهو لم يخبر بأنه خلقهم لذلك، وإنما يُعذّبون لغاية محمودة إذا حصلت حصل المقصود من عذابهم، وهو سبحانه لا يعذّب خلقه سُدى، وهو قادر على أن ينشئهم بعد العذاب الطويل نشأة أخرى مجرّدة عن تلك الشرور والخبائث التي كانت في نفوسهم، وقد أزالها طولُ العذاب، فإنهم خُلِقوا قابلين للخير على الفطرة، وهذا القبول لازم لخلقتهم، وبه أقرّوا بصانعهم وفاطرهم،
(2/317)
________________________________________
وإنما طرأ عليه ما أبطل مقتضاه، فإذا زال ذلك الطارئ بالعذاب الطويل بقي أصل القبول بلا معارض.
وأما قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} فهذا قبل مباشرتهم للعذاب، قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبُ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 27 - 28]، فتلك الخبائث والشرور قائمة بنفوسهم لم تُزِلها النار، فلو رُدّوا لعادوا؛ لقيام المُقتضِي للعَوْد، ولكن أين أخبر سبحانه أنه لو رَدّهم بعد العذاب الطويل السّرمد لعادوا لما نهوا عنه؟
وسر المسألة أن الفطرة الأصلية لابدّ أن تعمل عملها، كما عمل الطارئ عليها عمله، وهذه الفطرة عامة لجميع بني آدم، كما في «الصحيحين» (1) من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة ــ وفي لفظ ــ على هذه الملة».
وفي «صحيح مسلم» (2) من حديث عياض بن حمار المُجَاشِعي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه قال: «وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أُنزل به سلطانًا».
فأخبر أن الأصل فيهم الحنيفية، وأنهم خُلِقوا عليها، وأن ضدّها عارض فيهم باقتطاع الشياطين لهم عنها، فمن الممتنع أن يَعْمل أثرُ اقتطاع الشياطين
_________
(1) تقدم تخريجه (1/ 103)، واللفظ المشار إليه عند مسلم (2658).
(2) تقدم تخريجه (2/ 65).
(2/318)
________________________________________
عمَلَهُ ولا يَعْمل أثرُ خَلْق الرحمن جل جلاله عمَلَه، والكل خَلْقه سبحانه، فلا خالق سواه، ولكن ذاك خَلْق يحبه ويرضاه، ويضاف أثره إليه، وهذا خَلْق يبغضه ويسخطه، ولا يضاف أثره إليه؛ فإن الشر ليس إليه، والخير كله في يديه.
فإن قيل: فقد قال سبحانه: {(22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23]، وهذا يقتضي أنه لا قابلية فيهم، ولا خير عندهم البتّة، ولو كان عندهم خير لخرجوا به من النار مع الموحدين؛ فإنه سبحانه يُخْرِج مِن النار مَن في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من خير، فعُلِم أن هؤلاء ليس معهم هذا القدر اليسير من الخير.
قيل: الخير في هذا الحديث هو الإيمان بالله ورسله، كما في اللفظ الآخر: «أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان» (1)، وهو تصديقُ رسله والانقياد لهم بالقلب والجوارح.
وأما الخير في الآية فالمراد به: القبول والزكاة والنور ومعرفة قدر النعمة وشكر المنعِم عليها، فلو علم الله سبحانه ذلك فيهم لأسمعهم إسماعًا ينتفعون به؛ فإنهم قد سمعوا سماعًا تقوم به عليهم الحجة، فتلك القابلية ذهب أثرها، وتعطّلت بالكفر والجحود، وعادت كالشيء المعدوم الذي لا يُنْتَفع به، وإنما ظهر أثرها في قيام الحجة عليهم، ولم يظهر أثرها في انتفاعهم بما علموه وتيقنوه.
فإن قيل: فالغلام الذي قتله الخضر طُبِع يوم طُبِع كافرًا.
_________
(1) أخرجه البخاري (7510)، ومسلم (193) من حديث أنس.
(2/319)
________________________________________
وقال نوح عليه السلام عن قومه: {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 27].
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد والترمذي (1) مرفوعًا: «إن بني آدم خُلِقوا على طبقات شَتَّى، فمنهم من يولد مؤمنًا، ويحيى مؤمنًا، ويموت مؤمنًا، ومنهم من يولد كافرًا، ويحيى كافرًا، ويموت كافرًا» الحديث.
قيل: هذا لا يناقض كونه مولودًا على الفطرة؛ فإنه طُبِع ووُلِد مقدَّرًا كفرُه إذا عقل، وإلا ففي حال ولادته لا يَعرف كفرًا ولا إيمانًا، فهي حال مقدَّرة لا مقارِنة للعامل، فهو مولود على الفطرة ومولود كافرًا باعتبارين صحيحين ثابتين له، هذا بالقبول وإيثار الإسلام لو خُلِّي، وهذا بالفعل والإرادة إذا عقل، فإذا جَمَعْتَ بين الفطرة السابقة، والرحمة السابغة الغالبة، والحكمة البالغة، والغنى التام، وقَرَنْتَ بين فطرته ورحمته، وحكمته وغناه= تبيّن لك الأمر.
الطريق السادس: قياس دار العدل على دار الفضل، وأن هذه كما أنها أبدية فالأخرى كذلك؛ لأن هذه توجب رحمته، وهذه توجب عدله، وعدله ورحمته من لوازم ذاته.
وهذه الطريق غير نافذة؛ فإنّ العدلَ حقُّهُ سبحانه، لا يجب عليه أن يستوفيه، ولا يلحقه بتركه نقصٌ ولا ذمٌّ بوجه من الوجوه، والفضلَ وعدُهُ الذي وَعَد
_________
(1) أحمد (11143)، والترمذي (2191) من حديث أبي سعيد الخدري، وقال الترمذي: «حسن صحيح»، وفي إسناده علي بن جدعان ضعيف، وقد انفرد بهذا السياق، انظر: «السلسلة الضعيفة» (2927).
(2/320)
________________________________________
به عباده، وأحقّه على نفسه، والفرق بين الدارين من وجوه عديدة شرعًا وعقلًا (1):
أحدها: أن الله سبحانه أخبر بأن نعيم الجنة ما له من نفاد، وأن عطاء أهلها غير مجذوذ، وأنه غير ممنون، ولم يجئ ذلك في عذاب أهل النار.
الثاني: أنه أخبر بما يدل على انتهاء عذاب أهل النار في عدة آيات، كما تقدم، ولم يخبر بما يدل على انتهاء نعيم أهل الجنة، ولهذا احتاج القائلون بالتأبيد الذي لا انقطاع له إلى تأويل تلك الآيات، ولم يجئ في نعيم أهل الجنة ما يحتاجون إلى تخصيصه بالتأويل.
الثالث: أن الأحاديث التي جاءت في انتهاء عذاب النار لم يجئ شيء منها في انتهاء نعيم الجنة.
الرابع: أن الصحابة والتابعين إنما ذكروا انقطاع العذاب، ولم يذكر أحد منهم انقطاع النعيم.
الخامس: أنه قد ثبت أن الله سبحانه يُدْخِل الجنة بلا عمل أصلًا، بخلاف النار.
السادس: أنه سبحانه يُنْشِئ في الجنة خلقًا ينعّمهم فيها، ولا يُنْشِئ في النار خلقًا يعذّبهم بها.
السابع: أن الجنة من مقتضى رحمته، والنار من مقتضى غضبه، وأن الذين يدخلون النار أضعاف أضعاف الذين يدخلون الجنة، فلو دام عذاب
_________
(1) انظر: «الرد على من قال بفناء الجنة والنار» (80 - 83).
(2/321)
________________________________________
هؤلاء كدوام نعيم هؤلاء لغلب غضبُهُ رحمتَه، فكان الغضب هو الغالب السابق، وهذا ممتنع.
الثامن: أن الجنة دار فضله، والنار دار عدله، وفضلُهُ يغلب عدلَه.
التاسع: أن النار دار استيفاء حقه الذي له، والجنة دار وفاء حقه الذي أحقّه هو على نفسه، وهو سبحانه يترك حقّه ولا يترك الحق الذي أحقّه على نفسه.
العاشر: أن الجنة هي الغاية التي خُلِقوا لها في الآخرة، وأعمالها هي الغاية التي خُلِقوا لها في الدنيا، بخلاف النار؛ فإنه سبحانه لم يخلق خلقه للكفر به والإشراك، وإنما خلقهم لعبادته، وليرحمهم.
الحادي عشر: أن النعيم من موجَب أسمائه وصفاته، والعذاب إنما هو من أفعاله، قال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِيَ أَنِّيَ أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر: 49 - 50]، وقال: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ} [الأعراف: 167]، وقال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 98]، وما كان من مقتضى أسمائه وصفاته فإنه يدوم بدوامه.
فإن قيل: فإنّ العذاب صادر عن عزّته وحكمته وعدله، وهذه أسماء حسنى وصفات كمال، فيدوم ما صدر عنها بدوامها.
قيل: لعَمرُ الله؛ إن العذاب صدر عن عزّة وحكمة وعدل، وانتهاؤه عند حصول المقصود منه يصدر عن عزّة وحكمة وعدل، فلم يَخرج العذاب ولا انقطاعه عن عزّته وحكمته وعدله، ولكن عند انتهائه تكون عزّة مقرونة
(2/322)
________________________________________
برحمة، وحكمة مقرونة بجود وإحسان وعفو وصفح، فالعزّة والحكمة لم تزولا ولم تنقصا، بل يصدر جميع ما خلقه ويخلقه، وأمر به ويأمر: عن عزّته وحكمته.
الثاني عشر: أن العذاب مقصود لغيره لا لنفسه، وأما الرحمة والإحسان والنعيم فمقصود لنفسه، فالنعيم والإحسان غاية، والعذاب والألم وسيلة، فكيف يُقاس (1) أحدُهما بالآخر؟
الثالث عشر: أنه سبحانه أخبر أن رحمته وسعت كل شيء، وأن رحمته سبقت غضبه، وأنه كتب على نفسه الرحمة، فلابد أن تسع رحمتُه هؤلاء المعذَّبين، فلو بقوا في العذاب لا إلى غاية لم تسعهم رحمتُه، وهذا ظاهر جدًّا.
فإن قيل: فقد قال سبحانه عقيبها: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} إلى آخر الآية [الأعراف: 156]، فخرج غيرهم منها لخروجهم من الوصف الذي تُسْتحق به.
قيل: الرحمة المكتوبة لهؤلاء هي غير الرحمة الواسعة لجميع الخلق، بل هي رحمة خاصة خصّهم بها دون غيرهم، وكتبها لهم دون من سواهم، وهم أهل الفلاح الذين لا يُعذَّبون، بل هم أهل الرحمة والفوز والنعيم، وذُكِرَ الخاصُّ بعد العام استطرادًا، وهو كثير في القرآن، بل قد يُسْتطرَد من الخاص إلى العام، كقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ
_________
(1) «م»: «يقابل».
(2/323)
________________________________________
آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف: 189 - 190]، فهذا استطراد من ذِكْر الأبوين إلى ذِكْر الذرّية.
ومن الاستطراد قوله: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ (1) وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5]، فالتي جُعِلتْ رجومًا ليست هي التي زُيِّنتْ بها السماء، ولكن استطرد من ذكر النوع إلى نوع آخر، وأعاد ضمير الثاني على الأول؛ لدخولهما تحت جنس واحد.
فهكذا قوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 156]، فالمكتوب للذين يتقون نوع خاص من الرحمة الواسعة.
والمقصود أن الرحمة لابد أن تسع أهلَ النار، ولابد أن تنتهي حيث ينتهي العلم، كما قالت الملائكة: {كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ} [غافر: 7].
الرابع عشر: أنه قد صَحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - في حديث الشفاعة قول أولي العزم: «إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله» (2)، وهذا صريح في أن ذلك الغضب العظيم لا يدوم، ومعلوم أن أهل النار إنما دخلوها بذلك الغضب، فلو دام ذلك الغضب لدام عذابهم؛ إذ هو
_________
(1) «د» «م»: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ [الدُّنْيَا] بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات:6]، وهو سهو من المؤلف فيما يظهر جمع فيه بين آيتي الصافات والملك، بدلالة إشارته إلى عود الضمير الثاني، وهذا ينطبق على آية الملك فحسب.
(2) تقدم تخريجه (2/ 263).
(2/324)
________________________________________
موجَب ذلك الغضب، فإذا رضي الرب تبارك وتعالى وزال ذلك الغضب زال موجَبه.
وهذا كما أن عقوبات الدنيا العامة وبلاؤها آثار غضبه، فإذا استمر غضبه استمر ذلك البلاء، فإذا رضي وزال غضبه زال البلاء، وخَلَفتْه الرحمة.
الخامس عشر: أنّ رضاه أحبُّ إليه من غضبه، وعفوَهُ أحبُّ إليه من عقوبته، ورحمتَهُ أحبُّ إليه من عذابه، وعطاءَهُ أحبُّ إليه من منعه، وإنما يقع الغضب والعقوبة والمنع بأسباب تناقض موجَب تلك الصفات والأسماء.
وهو سبحانه كما يحب أسماءه وصفاته فإنه يحب آثارها وموجبَها، كما في الحديث: «إنه وتر يحب الوتر» (1)، «جميل يحب الجمال» (2)، «نظيف يحب النظافة» (3)، «عفو يحب العفو» (4)، وهو شكور يحب الشاكرين، عليم يحب العالِمين، جواد يحب أهل الجود، حَيِيّ سِتِّير يحب أهل الحياء والستر، صبور يحب الصابرين، رحيم يحب الرحماء.
فهو يكره ما يضاد ذلك، ولذلك كره الكفر والفسوق والعصيان والظلم والجهل؛ لمضادة هذه الأوصاف لأوصاف كماله، فلا بدّ أن يكون المترتب
_________
(1) جزء من حديث أخرجه البخاري (6410)، ومسلم (2677) من حديث أبي هريرة.
(2) جزء من حديث أخرجه مسلم (91) من حديث عبد الله بن مسعود.
(3) جزء من حديث أخرجه الترمذي (2799)، وأبو يعلى (790) من حديث سعد بن أبي وقاص، قال الترمذي: «هذا حديث غريب، وخالد بن إلياس يُضعّف»، وانظر: «الكامل» لابن عدي (4/ 239).
(4) هو بهذا اللفظ عند أحمد (3977) وغيره بإسناد ليّن، ويشهد له حديث عائشة الصحيح في دعاء ليلة القدر عند الترمذي (3531) وغيره.
(2/325)
________________________________________
على هذه الأوصاف أكره إليه من الأثر الذي يترتب على الأوصاف (1) الموافقة لأسمائه وصفاته، ولكن يريده سبحانه لاستلزامه ما يحبه ويرضاه، فهو مراد له إرادة اللوازم المقصودة لغيرها، إذ هي مفضية إلى ما يُحب، فإذا حصل بها ما يحبّه، وأدت إلى الغاية المقصودة له سبحانه؛ لم تبق مقصودة لا لنفسها ولا لغيرها، فتزول وتخلفها أضدادها التي هي أحب إليه سبحانه منها، وهي موجَب أسمائه وصفاته.
فإن فهمتَ سرّ هذا الوجه وإلا فجاوزه إلى ما قبله، ولا تعجل بإنكاره.
هذا، وسرّ المسألة أنه سبحانه حكيم رحيم إنما يخلق بحكمة ورحمة، فإذا عَذّب من يعذبه بحكمة كان هذا جاريًا على مقتضاها، كما يوجد في الدنيا من العقوبات الشرعية والقدرية، إذ فيها (2) من التهذيب والتأديب والزجر والرحمة واللطف ما يزكّي النفوس ويطيبها ويمحّصها ويخلّصها من شرها وخبثها.
والنفوس الشريرة الظالمة التي لو رُدَّت إلى الدنيا قبل العذاب لعادت لما نُهِيت عنه لا يصلح أن تسكن دار السلام التي تنافي الكذب والشرّ والظلم، فإذا عُذِّبت هذه النفوس بالنار عذابًا يخلّصها من ذلك الشر، ويُخرِج خبثها؛ كان هذا معقولًا في الحكمة، كما يوجد في عذاب الدنيا.
وخَلْق مَنْ فيه شر يزول بالتعذيب من تمام الحكمة.
أما خَلْق نفوس شرّيرة لا يزول شرّها البتّة، وإنما خُلِقت للشر المحض،
_________
(1) من قوله: «فلابد أن يكون» إلى هنا ساقط من «د».
(2) «إذ فيها» من «م».
(2/326)
________________________________________
وللعذاب السّرْمَد الدائم بدوام خالقها سبحانه= فهذا لا تظهر موافقته للحكمة والرحمة، وإن دخل تحت القدرة، فدخوله تحت الحكمة والرحمة ليس بالبيّن.
فهذا ما وصل إليه النظر في هذه المسألة التي تَكِع (1) فيها عقول العقلاء.
وكنت سألتُ عنها شيخ الإسلام ــ قدّس الله روحه ــ فقال لي: «هذه مسألة عظيمة كبيرة»، ولم يُجِب فيها بشيء.
فمضى على ذلك زمن حتى رأيت في «تفسير عَبْد بن حُمَيد الكَشِّي» بعض تلك الآثار التي ذَكرْتُ، فأرسلتُ إليه الكتاب وهو في محبسه (2) الآخِر، وعلّمتُ على ذلك الموضع، وقلتُ للرسول: قل له: إن هذا الموضع يُشكل عليه، ولا يدري ما هو؟
فكتب فيها مصنَّفه المشهور رحمة الله عليه (3).
فمن كان عنده فَضْل علم فلْيَجُدْ به، فإنّ فوق كل ذي علم عليم.
وأنا في هذه المسألة على قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، فإنه ذَكَر دخول أهلِ الجنةِ الجنةَ، وأهلِ النارِ النارَ، ووصف ذلك أحسن صفة، ثم قال: «ويفعل الله بعد ذلك في خلقه ما يشاء» (4).
_________
(1) من كَعَّ عن الشيء إذا ارتد عنه هيبة، كما في «جمهرة اللغة» (1/ 156)، ورسمت في «م»: «بلغ» بإهمال أوله.
(2) «د»: «مجلسه» تحريف.
(3) وهي الرسالة المعنونة بـ «الرد على من قال بفناء الجنة والنار» والله أعلم.
(4) لم أقف عليه، وقد أورده المؤلف في «الصواعق - مختصره» (663)، و «حادي الأرواح» (2/ 791).
(2/327)
________________________________________
وعلى مذهب عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - حيث يقول: «لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه، ولا ينزلهم جنة ولا نارًا»، ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 128] (1).
وعلى مذهب أبي سعيد الخدري، حيث يقول: «انتهى القرآن كله إلى هذه الآية: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 107]» (2).
وعلى مذهب قتادة حيث يقول في قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ}: «الله أعلم بثَنِيّته (3) على ما وقعت» (4).
وعلى مذهب ابن زيد حيث يقول: «أخبَرَنا الله بالذي يشاء لأهل الجنة فقال: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}، ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار» (5).
والقول بأن النار وعذابها دائم بدوام الله خبر عن الله عز وجل بما يفعله، فإن لم يكن مطابقًا لخبره عن نفسه بذلك وإلا كان قولًا عليه بغير علم، والنصوص لا تُفْهِم ذلك، والله أعلم.
_________
(1) تقدم تخريجه (2/ 311).
(2) تقدم تخريجه بنحوه (2/ 303).
(3) الثَنِيّة والثُّنْيا بمعنى: ما استثنيته من الشيء، كما في «المحكم» (10/ 200).
وتحرّفت في «م» إلى: «بمشيئته»، وفي «ط»: «بتبيّنه».
(4) أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» (1250)، وابن جرير (12/ 579)، وابن أبي حاتم (11237).
(5) أخرجه ابن جرير (12/ 583).
(2/328)
________________________________________
فصل
وههنا مذاهب أخرى باطلة:
منها قول من قال: إنهم يعذَّبون في النار مدة لُبْثهم في الدنيا.
وقول من قال: إنها تنقلب عليهم طبيعة نارية يلتذّون بها، كما يلتذّ صاحب الجَرَب بالحكّ.
وقول من يقول: إنها تفنى هي والجنة جميعًا، وتعودان عدمًا محضًا.
وقول من يقول: تفنى حركاتهما، ويبقى أهلهما (1) في سكون دائم.
ولم يوفَّق للصواب في هذا الباب غير الصحابة ــ رضوان الله عليهم ــ ومَن سلك سبيلهم، وبالله التوفيق.
فصل
فإن قيل: فما الحكمة في كون الكفار أكثر من المؤمنين، وأهل النار أضعاف أضعاف أهل الجنة، كما قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103]، وقال: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]، وقال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24]، وقال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116]، وبعْثُ النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، وواحد إلى الجنة؟
_________
(1) «د»: «تفنى حركاتها، ويبقى أهلها» على الإفراد، والمثبت من «م» موافق لما ذكره المؤلف في «حادي الأرواح» (2/ 733) من أن أبا الهذيل العلاف كان يرى ذلك في الجنة والنار طردًا لامتناع حوادث لا نهاية لها.
(2/329)
________________________________________
وكيف نشأ هذا عن الرحمة الواسعة الغالبة، وعن الحكمة البالغة، وهلّا كان الأمر بالضدّ من ذلك؟!
قيل: هذا السؤال من أظهر الأدلة على قول الصحابة والتابعين في هذه المسألة، وأنّ الأمر يعود إلى الرحمة التي وسعت كل شيء، وسبقت الغضب وغلبته، وعلى هذا فاندفع السؤال بالكلية.
ثم نقول: المادة الأرضية اقتضت حصول التفاوت في النوع الإنساني، كما في «المسند» و «الترمذي» (1) عنه - صلى الله عليه وسلم -: «إنّ الله خَلَق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فكان منهم الخبيث والطيب، والسَّهْل والحَزْن، وغير ذلك»، فاقتضت مادة النوع الإنساني تفاوتهم في أخلاقهم وإراداتهم وأعمالهم.
ثم اقتضت حكمة العزيز الحكيم أن ابتلى المخلوق من هذه المادة بالشهوة والغضب والحبّ والبغض ولوازمها، وابتلاه بعدوّه الذي لا يألوه خبالًا، ولا يغفل عنه، ثم ابتلاه مع ذلك بزينة الدنيا، وبالهوى الذي أُمِر بمخالفته، هذا على ضعفه وحاجته، وزَيّن له حُبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المُقَنْطرة من الذهب والفضة والخيل المُسَوَّمة والأنعام والحرث، وأمره بترك قضاء أوطاره وشهواته في هذه الدار الحاضرة العتيدة المشاهدَة إلى دار أخرى، غايته إنما تحصل فيها بعد طي الدنيا والذهاب بها.
وكان مقتضى الطبيعة الإنسانية أن لا يثبت على هذا الابتلاء أحد، وأنْ يذهب الناس كلهم مع مَيْل الطبع، وداعي الغضب والشهوة، فلم يَحُل بينهم
_________
(1) تقدم تخريجه (2/ 246).
(2/330)
________________________________________
وبين ذلك خالقُهم وفاطرُهم، بل أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وبيّن لهم مواقع رضاه وغضبه، ووعدهم على مخالفة هواهم وطبائعهم أكمل اللذات في دار النعيم، فلم تَقْوَ عقولُ الأكثرين على إيثار الآجل المنتظَر بعد زوال الدنيا على هذا الحاضر العاجل المشاهَد.
وقالوا: كيف يباع نقد حاضر ــ وهو قَبْض باليد ــ بنسيئة مؤخَّرة وُعِدنا بحصولها بعد طي الدنيا وخراب العالم؟
ولسان حال أكثرهم يقول:
خُذ ما تراه ودع شيئًا سمعتَ به (1)
فساعدَ التوفيقُ الإلهي مَنْ عَلِم أنه يصلح لمواقع فضله، فأمدّه بقوة إيمان وبصيرة، رأى في ضوئها حقيقة الآخرة ودوامها، وما أعد الله فيها لأهل طاعته وأهل معصيته، ورأى حقيقةَ الدنيا وسرعةَ انقضائها وقلّةَ وفائها وظلمَ شركائها، وأنها كما وصفها الله تعالى لعبٌ ولهو وزينة، وتفاخر بين أهلها، وتكاثر في الأموال والأولاد، وأنها كغيث أعجب الكفارَ نباتُه، ثم يهيج فتراه مصفرًّا، ثم يكون حطامًا.
فنشأنا في هذه الدار ونحن منها وبنوها، لا نألف غيرها، وحَكَمت العاداتُ، وقَهَر سلطانُ الهوى، وساعده داعي النفوس، وتقاضاه موجِب الطباع، وغلب الحسُّ على العقل، وكانت الدولة له، والناس على دين الملك.
ولا ريب أن الذي يخرق هذه الحجب كلها، ويقطع هذه العلائق،
_________
(1) تقدمت نسبته (2/ 77).
(2/331)
________________________________________
ويخالف العوائد، ولا يستجيب لداعي الطبع، ويعصي سلطان الهوى= لا يكون إلا الأقل.
ولهذا كانت المادة النارية أقل اقتضاء لهذا الصنف من المادة الترابية؛ لخفة النار وطيشها، وكثرة تقلّبها، وسرعة حركتها، وعدم ثباتها، وأما المادة المَلَكية فبريئة من ذلك، فلذلك كان المخلوق منها خيرًا كله، فالعقلاء المخاطَبون مخلوقون من هذه المواد الثلاث.
واقتضت الحكمة أن يكونوا على هذه الصفة والخلقة، ولو كانوا على غير ذلك لم يحصل مقصود الامتحان والابتلاء، وتنوّع العبودية، وظهور آثار الأسماء والصفات، فلو كان أهل الإيمان والخير هم الأكثرين الغالبين لفاتت مصلحة الجهاد وتوابعه التي هي من أجَلّ أنواع العبودية، وفات الكمال المترتّب على ذلك، فلا أحسن مما اقتضته حكمة أحكم الحاكمين في المخلوق من هذه المواد.
ثم إنه سبحانه يُخَلّص ما في المخلوق من تَيْنك المادّتين من الخَبَث والشر، ويمحّصه ويستخرج طَيّبه إلى دار الطيبين، ويلقي خبيثه حيث تُلْقَى الخبائث والأوساخ، وهذا غاية الحكمة، كما هو الواقع في جواهر المعادن المنتفَع بها من الذهب والفضة والحديد والصُّفْر، فخلاصة هذه المواد وطيبها أقل من وسخها وخبيثها، والناس زَرْع الأرض، والجزء الصافي من الزرع بعد زُوَانِه وقَصْله وعَصْفه وتِبْنه (1) أقل من بقية الأجزاء؛ وتلك
_________
(1) الزُوَان والقَصْل والعَصْف والتِبْن: ما يُرمى من القشور والعوالق ونحوها عند نَخْل الحبوب بالغِرْبال، وهي من رديء الطعام، على فروق بينها تنظر في المظان، كـ «المخصص» (3/ 181، 184 - 185).
(2/332)
________________________________________
الأجزاء كالصِّوَان له والوقاية، كالحطب والشوك للثمر، والتراب والحجارة للمعادن النفيسة.
فصل
الوجه السابع والثلاثون: قوله: «وأيّ حكمة في تسليط أعدائه على أوليائه يسومونهم سوء العذاب؟»
فكم لله في ذلك من حِكَم باهرة:
منها: حصول محبوبه من عبودية الصبر والجهاد وتحمّل الأذى فيه، والرضا عنه في السراء والضراء، والثبات على عبوديته، وطاعته مع قوة المعارِض وغلبته وشوكته، وتمحيص أوليائه من أحكام البشرية ودواعي الطباع ببذل نفوسهم له، وأذى أعدائه لهم، وتميّز الصادق من الكاذب، ومَن يريد الله ويعبده على جميع الحالات ممن يعبده على حرف، ولتحصل لهم مرتبة الشهادة التي هي من أعلى المراتب، ولا شيء أبرّ عند الحبيب من بذل محبة نفسه في مرضاته، ومجاهدة عدوّه.
فلله كم في هذا التسليط من نعمة ورحمة وحكمة.
وإذا شئت أن تعلم ذلك فتأمل الآيات من أواخر آل عمران من قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} إلى قوله: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} إلى قوله: {كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا} [آل عمران: 137 - 179]، فكان هذا التمييز من بعض حِكَم ذلك التسليط.
ولولا ذلك التسليط لم تظهر فضيلة الصبر والعفو والحلم وكظم الغيظ،
(2/333)
________________________________________
ولا حلاوة النصر والظفر والقهر؛ فإن الأشياء يَظهر حُسْنُها بأضدادها، ولولا ذلك التسليط لم يستوجب الأعداء المَحْق والإهانة والكَبْت.
فاستخرج ذلك التسليط من القوة إلى الفعل ما عند أوليائه؛ فاستحقوا كرامتهم عليه، وما عند أعدائه؛ فاستحقوا عقوبتهم عليه، فكان هذا التسليط مما أظهر حكمته وعزته ورحمته ونعمته في الفريقين، وهو العزيز الحكيم.
الوجه الثامن والثلاثون: قوله: «وأي حكمة في تكليف الثَّقَلَيْن وتعريضهم بذلك للعقوبة وأنواع المشاق؟».
فاعلم أنه لولا التكليف لكان خَلْق الإنسان عبثًا وسُدى، والله يتعالى عن ذلك، وقد نزّه نفسه عنه، كما نزّه نفسه عن العيوب والنقائص، قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]، وقال: {أَيَحْسِبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36]، قال الشافعي: «لا يؤمر ولا يُنهى» (1).
ومعلوم أنّ تَرْك الإنسان كالبهائم مهمَلًا معطَّلًا مضادٌّ للحكمة؛ فإنه خُلِق لغاية كماله، وكماله أن يكون عارفًا بربه، محبًّا له، قائمًا بعبوديته، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وقال: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12]، وقال: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المائدة: 97].
_________
(1) «أحكام القرآن» للشافعي، جمع البيهقي (1/ 36).
(2/334)
________________________________________
فهذه المعرفة وهذه العبودية هما غاية الخلق والأمر، وهما أعظم كمال الإنسان، والله تعالى من عنايته به ورحمته له عَرّضه لهذا الكمال، وهيَّأ له أسبابه الظاهرة والباطنة، ومكَّنه منها.
ومدار التكليف على الإسلام والإيمان والإحسان، وهي ترجع إلى شكر المُنْعِم (1) كلها، دقيقها ووضيعها وجليلها منه، وتعظيمه وإجلاله ومعاملته بما يليق أن يعامَل به، فتُذكر آلاؤه، ويُشكر فلا يُكفر، ويُطاع فلا يُعصى، ويُذكر فلا يُنسى.
هذا مع تضمّن التكليف لاتصاف العبد بكل خلق جميل، وإتيانه بكل فعل حسن وقول سديد، واجتنابه لكل خلق سيئ، وترك كل فعل قبيح وقول زور، فتكليفه متضمّن لمكارم الأخلاق، ومحاسن الأفعال، وصدق القول، والإحسان إلى الخليقة، وتكميل نفسه بأنواع الكمالات، وهجر أضداد ذلك، والتنزّه عنها، مع تعريضه بذلك التكليف للثواب الجزيل الدائم، ومجاورة ربه في دار البقاء.
فأيّ الأمرين أليق بالحكمة؟ هذا أو إرساله هَمَلًا كالخيل والبغال والحمير، يأكل ويشرب وينكح كالبهائم؟!
وهل يقتضي كماله المقدّس ذلك؟!
{فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 116].
_________
(1) «د»: «من النعم»، والمثبت من «م» على احتمال.
(2/335)
________________________________________
وكيف يليق بذلك الكمال طيُّ بساط الأمر والنهي، والثواب والعقاب، وترْكُ إرسالِ الرسل، وإنزالِ الكتب، وشرْعِ الشرائع، وتقريرِ الأحكام؟
وهل عرف الله مَن جوّز عليه خلاف ذلك؟
وهل ذلك إلا من سوء الظن به؟
قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91].
فحُسْن التكليف في العقول كحُسْن الإحسان والإنعام والتفضّل والطَّوْل، بل هو من أبلغ أنواع الإحسان والإنعام، ولهذا سمّى سبحانه ذلك نعمة ومنّة وفضلًا ورحمة، وأخبر أن الفرح به خير من الفرح بالنِّعم المشتركة بين الأبرار والفجار، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) اللَّهِ كُفْرًا} [إبراهيم: 28]، فنعمة الله ههنا هي نعمته بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وما بعثه به من الهدى ودين الحق.
وقال: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهْوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 2 - 4]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وقال: {(57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا} [يونس: 58]، وقال: {الْيَوْمَ
(2/336)
________________________________________
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، وقال: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} [البقرة: 231]، وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات: 7 - 8]، وقال لرسوله: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ
عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113].
وهل النعمة والفضل في الحقيقة إلا ذلك وتوابعه، وثمرته في القلوب والأبدان والدنيا والآخرة؟
وهل في العقول السليمة، والفطر المستقيمة أحسن من ذلك، وأليق بكمال الربّ وأسمائه وصفاته؟
الوجه التاسع والثلاثون: قوله في مناظرة الأشعري للجُبّائي في الإخوة الثلاثة الذين مات أحدهم صغيرًا، وبلغ الآخر كافرًا، والثالث مسلمًا: «إنها مناظرة كافية في إبطال الحكمة والتعليل، ورعاية الأصلح».
فلعمر الله؛ إنها مبطلة لطريقة أهل البدع من المعتزلة والقدرية الذين يوجبون على ربهم مراعاة الأصلح لكل عبد، وهو الأصلح عندهم، وفي ظنّهم، فيشرعون له شريعة بعقولهم، ويحجرون عليه، ويحرّمون عليه أن يخرج عنها، ويوجبون عليه القيام بها، ولذلك كانوا من أحمق الناس، وأعظمهم تشبيهًا للخالق بالمخلوق في أفعاله، وأعظمهم له تعطيلًا عن صفات كماله، فنزّهوه عن صفات الكمال، وشبّهوه بخلقه في الأفعال، وأدخلوه تحت الشريعة الموضوعة
(2/337)
________________________________________
بآراء الرجال، وسمّوا ذلك عدلًا وتوحيدًا بالزور والبهتان، وتلك تسمية ما أنزل الله بها من سلطان، فالعدل قيامه بالقسط في أفعاله، والتوحيد إثبات صفات كماله، {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 18 - 19]، فهذا التوحيد والعدل الذي جاء به المرسلون، وذلك التوحيد والعدل الذي جاء به المعطِّلون.
والمقصود أن هذه المناظرة وإن أبطلت قول هؤلاء وزلزلت قواعدهم؛ فإنها لا تبطل حكمة الله التي اختص بها دون خلقه، وطوى بساط الإحاطة بها عنهم، ولم يطلعهم منها إلا على ما نسبته إلى ما خفي عنهم كقطرة من بحار الدنيا.
فكم لله سبحانه من حكمة في ذلك الذي اخترمه صغيرًا، وحكمةٍ في الذي مَدّ له في العمر حتى بلغ وأسلم، وحكمةٍ في الذي أبقاه حتى بلغ وكفر، ولو كان كل مَن عَلِم أنه إذا بلغ يكفر يخترمه صغيرًا لتعطّل الجهاد والعبودية التي يحبها الله ويرضاها، ولم يكن هناك معارِض، وكان الناس أمة واحدة، ولم تظهر آياته وعجائبه في الأمم، ووقائعه وأيامه في أعدائه، وإقامة الحجج وجدال أهل الباطل بما يدحض شبههم، وينصر الحق ويظهره على الباطل، إلى أضعاف أضعاف ذلك من الحِكَم التي لا يحصيها إلا الله سبحانه.
والله سبحانه يحب ظهور أثر أسمائه وصفاته في الخليقة، فلو اخترم كل مَن عَلِم أنه يكفر إذا بلغ لفات ذلك، وفواته منافٍ لكمال تلك الأسماء والصفات واقتضائها لآثارها، وقد تقدم بسط ذلك أتم من هذا.
الوجه الأربعون: قوله: «إنه سبحانه ردّ الأمر إلى محض مشيئته بقوله
(2/338)
________________________________________
تعالى: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} [العنكبوت: 21]، وقوله: {فَيَغْفِر لِّمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّب مَّن يَشَاءُ} [البقرة: 284]، وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [فاطر: 8]، وقوله: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23]».
فهذا كله حق، ولكن أين فيه إبطال حكمته وحمده والغايات المحمودة المطلوبة بفعله، وأنه لا يفعل شيئًا لشيء، ولا يأمر بشيء لأجل شيء، ولا سبب لفعله ولا غاية؟!
أَفَتَرى أصحابَ الحكمة والتعليل يقولون: إنه لا يفعل بمشيئته، أو أنه يُسأل عما يفعل؟
بل يقولون: إنه يفعل بمشيئة مقارنة للحكمة والمصلحة، ووضع الأشياء مواضعها، وإنه يفعل ما يشاء بأسباب وحِكَم، ولغايات مطلوبة، وعواقب حميدة، فهم مثبتون لملكه وحمده، وغيرهم يثبت ملكًا بلا حمد، أو نوعًا من الحمد مع هضم المُلْك، إذ الربّ (1) تعالى له كمال المُلْك وكمال الحمد، فكونه (2) يفعل ما يشاء لا يمنع أن يشاء بأسباب وحِكَم وغايات، وأنه لا يشاء إلا ذلك.
وأما قوله تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]، فهذا لكمال علمه وحكمته، لا لعدم ذلك.
وأيضًا فسياق الآية في معنى آخر، وهو إبطال إلهية مَن سواه، وإثبات
_________
(1) «م»: «والرب».
(2) «م»: «وكونه».
(2/339)
________________________________________
إلهيته له وحده؛ فإنه سبحانه قال: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 21 - 23]، فأين في هذا ما يدل على إبطال الحكمة والتعليل بوجه من الوجوه؟!
ولكن أهل الباطل يتعلقون بألفاظ ينزلونها على باطلهم لا تدل عليه، وبمعان متشابهة يشتبه فيها الحق بالباطل، فعمدتهم المتشابه من الألفاظ والمعاني، فإذا فُصِّلت وبُيِّنت تبيّن أنها لا دلالة فيها، وأنها مع ذلك قد تدل على نقيض مطلوبهم، وبالله التوفيق.
(2/340)
________________________________________
الباب الرابع والعشرون
في معنى قول السلف: «من أصول الإيمان: الإيمان بالقدر خيره وشرّه، حلوه ومرّه»
قد تقدم أن القدر لا شرّ فيه بوجه من الوجوه؛ فإنه علم الله، وقدرته، وكتابته (1)، ومشيئته، وذلك خير محض وكمال من كل وجه.
فالشرُّ ليس إلى الربّ تعالى بوجه من الوجوه، لا في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.
وإنما يدخل الشر الجزئي الإضافي في المَقْضِيّ المقدَّر، ويكون شرًّا بالنسبة إلى محل، وخيرًا بالنسبة إلى محل آخر، وقد يكون خيرًا بالنسبة إلى المحل القائم به من وجه، كما هو شرّ له من وجه، بل هذا هو الغالب.
وهذا كالقصاص، وإقامة الحدود، وقتل الكفار؛ فإنه شرّ بالنسبة إليهم لا من كل وجه، بل من وجه دون وجه، وخير بالنسبة إلى غيرهم؛ لما فيه من مصلحة الزجر والنّكال، ودَفْع الناس بعضهم ببعض، وكذلك الآلام والأمراض ــ وإن كانت شرورًا من وجه ــ فهي خيرات من وجوه عديدة، وقد تقدم تقرير ذلك.
فالخير والشر من جنس اللذة والألم، والنفع والضرر، وذلك في المَقْضِيّ المقدَّر لا في نفس صفة الربّ وفعله القائم به، فإنّ قطع يد السارق شرّ مؤلم ضارّ له، وأما قضاء الرب ذلك وتقديره عليه فعدل وخير وحكمة ومصلحة، كما يأتي في الباب الذي بعد هذا إن شاء الله.
_________
(1) «د»: «وكتابه».
(2/341)
________________________________________
فإن قيل: فما الفرق بين كون القدر خيرًا وشرًّا، وكونه حلوًا ومرًّا؟
قيل: الحلاوة والمرارة تعود إلى مباشرة الأسباب في العاجل، والخير والشر يرجع إلى حسن العاقبة وسوئها، فهو حلو ومرّ في مبدئه وأوله، وخير وشر في منتهاه وعاقبته.
وقد أجرى الله سبحانه سنته (1) وعادته أنّ حلاوة الأسباب في العاجل تعقب المرارةَ في الآجل، ومرارتَها تعقب الحلاوة، فحلو الدنيا مرّ الآخرة، ومرّ الدنيا حلو الآخرة.
وقد اقتضت حكمته سبحانه أنْ جعل اللذات تثمر الآلام، والآلام تثمر اللذات، والقضاء والقدر منتظم لذلك انتظامًا لا يخرج عنه (2) شيء البتّة.
والشر مرجعه إلى الآلام وأسبابها، والخير مرجعه إلى (3) اللذات وأسبابها، والخير المطلوب هو اللذات الدائمة، والشر المرهوب هو الآلام الدائمة، فأسباب هذه شرور وإن (4) اشتملت على لذة ما، وأسباب تلك خيرات وإن اشتملت على ألم، فألم تعقبه (5) اللذةُ الدائمةُ أولى بالإيثار والتحمّل من لذة يعقبها الألم الدائم، فلذة ساعة في جنب ألم طويل كلا لذة، وألم ساعة في جنب لذة طويلة كلا ألم.
_________
(1) «م»: «سبَبَه» تصحيف.
(2) زاد في «م»: «منه» سهو.
(3) قوله: «الآلام وأسبابها، والخير مرجعه إلى» ساقط من «د».
(4) «م»: «ولذة» تحريف.
(5) «د» «ط»: «يعقب» وفي الموضع التالي: «تعقب»، تحريفان مفسدان للمعنى.
(2/342)
________________________________________
الباب الخامس والعشرون
في امتناع إطلاق القول نفيًا وإثباتًا: «إن الربّ تعالى مريد للشرّ وفاعل له»
هذا موضع اختلف مثبتو القدر ونفاته فيه.
فقال النفاة: لا يجوز أن يقال: إنّ الله سبحانه مريد للشرّ أو فاعل له.
قالوا: لأن مريد الشرّ وفاعله شرّير، هذا هو المعروف لغة وعقلًا وشرعًا، كما أن الظالم فاعل الظلم، والفاجر فاعل الفجور ومريده، والربّ يتعالى ويتنزّه عن ثبوت معاني أسماء السوء له؛ فإن أسماءه كلها حسنى، وأفعاله كلّها خير، فيستحيل أن يريد الشرّ أو يفعل الشر، فالشرّ ليس بإرادته ولا بفعله.
قالوا: وقد قام الدليل على أن فعله سبحانه عين مفعوله، والشرّ ليس بفعل له، فلا يكون مفعولًا له.
وقابلهم الجبرية فقالوا: بل الربّ سبحانه يريد الشرّ ويفعله.
قالوا: لأن الشرّ موجود فلا بدّ له من خالق، ولا خالق إلا الله، وهو سبحانه إنما يخلق بإرادته، فكل مخلوق فهو مراد له، وهو فعله.
ووافقوا إخوانهم على أن الفعل عين المفعول، والخلق نفس المخلوق.
ثم قالوا: والشر مخلوق له ومفعول، فهو فِعْله وخَلْقه وواقع بإرادته.
قالوا: وإنما لم نطلق القول: إنه يريد الشرّ، ويفعل الشرّ؛ أدبًا لفظيًّا فقط،
(2/343)
________________________________________
كما لا نطلق القول بأنه ربّ الكلاب والخنازير، ونطلق القول بأنه ربّ كل شيء وخالقه.
قالوا: وأما قولكم: إن الشرّير مريد الشرّ وفاعله، فجوابه من وجهين:
أحدهما: إنما نمنع ذلك بأن (1) الشرّير من قام به الشر، وفعل الشر لم يقم بذات الربّ؛ فإن أفعاله لا تقوم به، إذ هي نفس مفعولاته، وإنما هي قائمة بالخلق، ولذلك اشتُقّت لهم منها الأسماء، كالفاجر والفاسق والمصلي والحاج والصائم ونحوها.
الجواب الثاني: أن أسماء الربّ تعالى توقيفية، ولم يسمِّ نفسه إلا بأحسن الأسماء.
قالوا: والرب تعالى أعظم من أن يكون في ملكه ما لا يريده ولا يخلقه؛ فإنه الغالب غير المغلوب.
وتحقيق القول في ذلك أنه يمتنع إطلاق إرادة الشر عليه وفعله نفيًا وإثباتًا؛ لما في إطلاق لفظ الإرادة والفعل من إيهام المعنى الباطل ونفي المعنى الصحيح؛ فإن الإرادة تُطلق بمعنى المشيئة، وبمعنى المحبة والرضا (2).
فالأول كقوله تعالى: {لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34]، وقوله: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ} [الأنعام: 125]، وقوله: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} [الإسراء:16].
_________
(1) «د» «م»: «بل»، والمثبت من «ط» أشبه بالسياق.
(2) «م»: «والإرادة».
(2/344)
________________________________________
والثاني: كقوله: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 27]، وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ} [البقرة: 185].
فالإرادة بالمعنى الأول: تستلزم وقوع المراد، ولا تستلزم محبته والرضا به.
وبالمعنى الثاني: لا تستلزم وقوع المراد، وتستلزم محبته والرضا به.
هذا إذا تعلقت الإرادة بأفعال العباد.
وأما إذا تعلقت بأفعاله هو سبحانه (1) فإنها لا تنقسم، بل كل ما أراده من أفعاله فهو محبوب مرضيّ له، ففرق بين إرادة أفعاله وإرادة مفعولاته، فإن أفعاله خير كلها وعدل ومصلحة وحكمة، لا شر فيها بوجه من الوجوه، وأما مفعولاته فهي مَوْرد الانقسام.
وهذا إنما يتحقق على قول أهل السنة: إن الفعل غير المفعول، والخلق غير المخلوق، كما هو الموافق للعقول والفِطَر واللغة، ودلالة القرآن والحديث، وإجماع أهل السنة، كما حكاه البغوي في «شرح السنة» عنهم (2).
وعلى هذا فههنا إرادتان ومرادان: إرادة أن يفعل، ومرادها فعله القائم به. وإرادة أن يفعل عبده، ومرادها مفعوله المنفصل عنه، وليسا بمتلازمين، فقد يريد من عبده أن يفعل، ولا يريد من نفسه إعانته على الفعل، وتوفيقه له، وصَرْف موانعه عنه، كما أراد من إبليس أن يسجد لآدم، ولم يرد من نفسه أن يعينه على السجود، ويوفّقه له، ويثبّت قلبه عليه، ويصرفه إليه، ولو أراد ذلك
_________
(1) من قوله: «والرضا به» إلى هنا ساقط من «د».
(2) تقدم توثيقه (1/ 425).
(2/345)
________________________________________
منه لسجد له لا محالة.
وقوله: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 107] إخباره عن إرادته لفعله لا لأفعال عبيده، وهذا الفعل والإرادة لا ينقسم إلى خير وشرّ كما تقدم.
وعلى هذا؛ فإذا قيل: هو مريد للشر؛ أوهم أنه محب له، راضٍ به.
وإذا قيل: إنه لم يرده؛ أوهم أنه لم يخلقه، ولا كوّنه.
وكلاهما باطل.
وكذلك إذا قيل: إن الشر فعله، أو إنه يفعل الشر؛ أوهم أن الشر فعله القائم به. وهذا محال.
وإذا قيل: لم يفعله، أو ليس بفعل له؛ أوهم أنه لم يخلقه، ولم يكوّنه. وهذا محال.
فانظر ما في إطلاق هذه الألفاظ في النفي والإثبات من الحق والباطل الذي يتبيّن بالاستفصال والتفصيل، وأنّ الصواب (1) في هذا الباب ما دلّ عليه القرآن والسنة من أن الشرّ لا يضاف إلى الربِّ تعالى وصفًا ولا فعلًا، ولا يتسمّى باسمه بوجه من الوجوه، وإنما يدخل في مفعولاته بطريق العموم، كقوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق: 1 - 2]، فـ «ما» ههنا موصولة، أو مصدرية، والمصدر بمعنى المفعول، أي: من شرّ الذي خلقه، أو من شرّ مخلوقه.
وقد يُحذَف فاعله، كقوله حكاية عن مؤمني الجن: {وَإِنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10].
_________
(1) «م»: «أن الصواب»، وسياق الكلام قبله لا يساعده.
(2/346)
________________________________________
وقد يُسنَد إلى محله القائم به، كقول إبراهيم الخليل: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهْوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهْوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 78 - 80]، وقول الخضر: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79]، وقال في بلوغ الغلامين: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [الكهف: 82].
وقد جَمع الأنواع الثلاثة في الفاتحة في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6 - 7].
والله تعالى إنما نسب إلى نفسه الخير دون الشر، فقال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران: 26].
وأخطأ من قال: المعنى: بيدك الخير والشر؛ لثلاثة أوجه:
أحدها: أنه ليس في اللفظ ما يدل على إرادة هذا المحذوف، بل تَرَكَ ذكرَهُ قصدًا وبيانًا أنه ليس بمراد.
الثاني: أنّ الذي بيد الرب تعالى نوعان: فضل وعدل، كما في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يمين الله مَلْأى، لا يَغِيضها نفقةٌ، سَحّاءُ، الليلَ والنهارَ، أرأيتم ما أنفق منذ خلق الخلق؛ فإنه لم يَغِضْ ما في يمينه، وبيده الأخرى القسط، يخفض ويرفع» (1)، فالفضل لإحدى اليدين، والعدل
_________
(1) أخرجه البخاري (7419)، ومسلم (993) من حديث أبي هريرة، وفيهما: «القبض» بدل «القسط»، وهذا الحرف رواه ابن منده في «التوحيد» (337).
(2/347)
________________________________________
للأخرى، وكلاهما خير لا شر فيه بوجه.
الثالث: أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لبَّيك وسعديك، والخير في يديك، والشر ليس إليك» (1) كالتفسير للآية؛ ففرَّق بين الخير والشر، وجعل أحدهما في يدي الربّ سبحانه، وقطَع إضافة الآخر إليه مع إثبات عموم خلقه لكل شيء.
فصل
والربّ تعالى يُشتق له من أوصافه ومن أفعاله أسماء، ولا يُشتق له من مخلوقاته، فكل اسم من أسمائه فهو مشتق من صفة من صفاته، أو فعل قائم به، فلو كان يُشتق له اسم باعتبار المخلوق المنفصل لسُمّي: متكوِّنًا ومتحرِّكًا وساكنًا وطويلًا وأبيض وغير ذلك؛ لأنه خالق هذه الصفات، فلما لم يُطلَق عليه اسمٌ من ذلك مع أنه خالقه؛ عُلِم أنما تُشتق (2) أسماؤه من أفعاله وأوصافه القائمة به، وهو سبحانه لا يتصف بما هو مخلوق منفصل عنه، ولا يتسمّى باسمه.
ولهذا كان قول من قال: إنه يُسمّى متكلّمًا بكلام منفصل عنه، خَلَقه في غيره، ومريدًا بإرادة منفصلة عنه، وعادلًا بعدل مخلوق منفصل (3)، وخالقًا بخلق منفصل عنه هو المخلوق= قولًا باطلًا مخالفًا للعقل والنقل واللغة، مع تناقضه في نفسه؛ فإنه إنِ اشتُقّ له اسم باعتبار مخلوقاته لزم طَرْد ذلك في
_________
(1) تقدم تخريجه في (1/ 382).
(2) كذا في «د»: «علم أنما تشتق»، وهي مطموسة في «م».
(3) زاد بعده في «م»: «هو المخلوق»، ولا محل لهذه الزيادة هنا، كأنها انتقال نظر.
(2/348)
________________________________________
كل صفة أو فعل خَلَقه، وإن خُصّ ذلك ببعض الأفعال والصفات دون بعض كان تحكّمًا لا معنى له.
وحقيقة قول هؤلاء: إنه لم يقم به عدل، ولا إحسان، ولا كلام، ولا إرادة، ولا فعل البتّة.
ومن تَجهّم منهم نفى حقائق الصفات، وقال: لم تقم به صفة ثبوتية.
فنفوا صفاته وردّوها إلى السُّلوب والإضافات، ونفوا أفعاله وردّوها إلى المصنوعات المخلوقات.
وحقيقة هذا أن أسماءه تعالى ألفاظ فارغة عن المعاني لا حقائق لها، وهذا من الإلحاد فيها، وإنكار أن تكون حسنى، وقد قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180].
وقد دلَّ القرآن والسنة على إثبات مصادر هذه الأسماء له سبحانه وصفًا، كقوله تعالى: {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [البقرة: 165]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58]، وقوله: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود: 14]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لأحرقَتْ سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» (1)، وقول عائشة: «الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات» (2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - (3):
_________
(1) جزء من حديث أخرجه مسلم (179) من حديث أبي موسى الأشعري.
(2) أخرجه البخاري معلقًا مجزومًا به في باب قول الله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)}، ووصله أحمد (24195)، والنسائي (3460)، وابن ماجه (188).
(3) من قوله: «لأحرقت» إلى هنا ساقط من «م».
(2/349)
________________________________________
«أعوذ برضاك من سخطك» (1)، وقوله: «أسألك بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق» (2)، وقوله: «أعوذ بعزّتك أن تضلني» (3).
ولولا هذه المصادر لانتفت حقائق الأسماء والصفات والأفعال؛ فإن أفعاله عن صفاته، وأسماءه عن أفعاله وصفاته، فإذا لم يقم به فعل ولا صفة؛ فلا معنى للاسم المجرّد، وهو بمنزلة صوت لا يفيد شيئًا، وهذا غاية الإلحاد.
_________
(1) تقدم تخريجه (1/ 378).
(2) جزء من حديث أخرجه أحمد (18325)، والنسائي (1305) من حديث عمار بن ياسر، وصححه ابن حبان (1971)، والحاكم (1923).
(3) جزء من حديث أخرجه البخاري (7383)، ومسلم (2717) من حديث ابن عباس.
(2/350)
________________________________________
الباب السادس والعشرون
فيما دلّ عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» ... (1) من تحقيق القدر وإثباته، وما تضمّنه الحديث من الأسرار العظيمة
قد دلّ هذا الحديث الشريف العظيم القدر على أمور:
منها: أنه يُستعاذ بصفات الربّ تعالى كما يُستعاذ بذاته، وكذلك يُستغاث بصفاته كما يُستغاث بذاته، كما في الحديث: «يا حيُّ يا قيوم، يا بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك» (2).
وكذلك قوله في الحديث الآخر: «أعوذ بعزّتك أن تضلني» (3)، وكذلك استعاذته بكلمات الله التامات (4)، وبوجهه الكريم وبعظمته (5).
وفي هذا ما يدل على أن هذه صفات ثابتة وجودية؛ إذ لا يُستعاذ بالعدم،
_________
(1) بياض بنحو ثلاث كلمات في «د» «م»، وأشار ناسخ الأخيرة إلى وجوده في الأصل.
(2) تقدم تخريجه (1/ 331).
(3) تقدم تخريجه (2/ 350).
(4) أخرجه مسلم (2708) من حديث خولة بنت حكيم.
(5) أخرج الاستعاذة بوجهه سبحانه البخاري (4628) من حديث جابر.
(2/351)
________________________________________
وأنها قائمة به غير مخلوقة؛ إذ لا يُستعاذ بالمخلوق، وبهذا احتج الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة على أن كلمات الله غير مخلوقة (1)، وهو احتجاج صحيح؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يستعيذ بمخلوق، ولا يستغيث به، ولا يدلّ أمته على ذلك.
ومنها: أن العفو من صفات الفعل القائمة به، وفيه ردٌّ على من زعم أن فعله عين مفعوله؛ فإن المفعول مخلوق ولا يُستعاذ به.
ومنها: أن بعض صفاته وأفعاله سبحانه أفضل من بعض؛ فإن المُستعاذ به منها أفضل من المُستعاذ منه، وهذا كما أن صفة الرحمة أفضل من صفة الغضب، ولذلك كان لها الغلبة والسبق.
وكذلك كلامه سبحانه هو صفته، ومعلوم أن كلامه الذي يُثْنِي به على نفسه، ويَذْكُر فيه أوصافه وتوحيده؛ أفضلُ من كلامه الذي يذم به أعداءه، ويذكر أوصافهم.
ولهذا كانت سورة «الإخلاص» أفضل من سورة «تبت»، وكانت تعدل ثلث القرآن دونها، وكانت آية الكرسي أعظم (2) آية في القرآن.
ولا تُصغِ إلى قول من غَلُظ حجابُه: إن الصفات قديمة، والقديم لا يتفاضل؛ فإن الأدلة السمعية والعقلية تبطل قوله.
وقد جعل سبحانه ما كان من الفضل والعطاء والخير وأهل السعادة بيده اليمنى، وما كان من العدل والقبض باليد الأخرى، ولهذا جعل أهل السعادة
_________
(1) من قوله: «وبهذا احتج» إلى هنا ساقط من «د».
(2) «د»: «أفضل».
(2/352)
________________________________________
في قبضته اليمنى، وأهل الشقاوة في القبضة الأخرى، والمقسطون على منابر من نور عن يمينه، والسماوات مطويات بيمينه، والأرض باليد الأخرى.
ومنها أن الغضب والرضا والعفو والعقوبة لمّا كانت متقابلة استعاذ بأحدهما من الآخر، فلما جاء إلى الذات المقدّسة التي لا ضدّ لها ولا مقابل قال: «وأعوذ بك منك»، فاستعاذ بصفة الرضا من صفة الغضب، وبفعل العفو من فعل العقوبة، وبالموصوف بهذه الصفات والأفعال منه، وهذا يتضمن كمال الإثبات للقدر والتوحيد بأوجز لفظ وأخصره؛ فإن الذي يُستعاذ منه من الشرّ وأسبابه هو واقع بقضاء الرب تعالى وقدره، وهو المتفرّد بخلقه وتقديره وتكوينه، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
فالمُستعاذ منه: إما وصفه، وإما فعله، وإما مفعوله الذي هو أثر فعله، والمفعول ليس إليه نفع ولا ضر، ولا يضر إلا بإذن خالقه، كما قال تعالى في أعظم ما يتضرر به العبد ــ وهو السحر ــ: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102]، فالذي يُستعاذ منه هو بمشيئته وقضائه وقدرته، وإعاذته منه وصرفه عن المستعيذ إنما هو بمشيئته أيضًا وقضائه وقدره، فهو المعيذ من قدره بقدره، ومِن ما مصدره عن مشيئته وإذنه بما مصدره (1) عن مشيئته وإذنه.
والجميع واقع بإرادته الكونية القدرية، فهو يعيذ من إرادته بإرادته؛ إذ الجميع خلقُه وقدَرُه وقضاؤه، فليس هناك خلق لغيره فيعيذ منه هو، بل المُستعاذ منه خَلْقٌ له، فهو الذي يعيذ عبدَهُ من نفسه بنفسه،، فيعيذه مما
_________
(1) «م»: «يصدره».
(2/353)
________________________________________
يريده به بما يريده به، فليس هناك أسباب مخلوقة لغيره يستعيذ منها المستعيذ به، كما يستعيذ مَنْ ظَلَمه رجلٌ وقهرَهُ برجل أقوى منه أو نظيره.
فالمُستعاذ منه هو الذنوب وعقوباتها، والآلام وأسبابها، والسبب من قضائه، والمسبَّب من قضائه، والإعاذة بقضائه (1)، فهو الذي يعيذ من قضائه بقضائه، فلم يُعِذ إلا بما قدّره وشاءه، وقدّر (2) الاستعاذة منه وشاءها، وقدّر الإعاذة وشاءها، فالجميع قضاؤه وقدره وموجَب مشيئته.
فنَتَجَتْ هذه الكلمة ــ التي لو قالها غير الرسول - صلى الله عليه وسلم - لبادر المتكلّم الجاهل إلى إنكارها وردّها ــ: أنه لا يملك الضر والنفع، والخلق والأمر، والإعاذة غيرك، وأنّ المُستعاذ منه هو بيدك، وتحت تصرفك، ومخلوق من خلقك، فما استعذتُ إلا بك، ولا استعذتُ إلا منك.
وهذا نظير قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخر: «لا مَلْجأ ولا مَنْجا منك إلا إليك» (3)، فهو الذي ينجّي من نفسه بنفسه، ويعيذ من نفسه بنفسه، وكذلك الفرار؛ يفرّ عبده منه إليه.
وهذا كله تحقيق للتوحيد والقدر، وأنه لا ربّ غيره، ولا خالق سواه، ولا يملك المخلوق لنفسه ولا لغيره ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، بل الأمر كله لله، ليس لأحد سواه منه شيء، كما قال تعالى لأكرم خلقه عليه، وأحبهم إليه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128]، وقال
_________
(1) «م»: «والإيمان بقضائه» سبق قلم من الناسخ.
(2) «د»: «وذلك»!
(3) جزء من حديث أخرجه البخاري (7488)، ومسلم (2710) من حديث البراء.
(2/354)
________________________________________
جوابًا لمن قال: {هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلُّهُ لِلَّهِ} [آل عمران: 154].
فالمُلك كله له، والأمر كله له، والحمد كله له، والشفاعة كلها له، والخير كله في يديه، وهذا تحقيق تفرده بالربوبية والألوهية، فلا إله غيره، ولا ربّ سواه.
{قُلْ (1) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ كَاشِفَاتٌ ضُرَّهُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ مُمْسِكَاتٌ رَّحْمَتَهُ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ} [الزمر: 38]، {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهْوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام: 17]، {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهْوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر: 2].
فاستَعِذْ به منه، وفِرَّ منه إليه، واجْعَل لَجَأك منه إليه؛ فالأمر كله له، لا يملك أحد معه منه شيئًا، ولا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو، ولا تتحرك ذرة فما فوقها إلا بإذنه، ولا يضرّ سمٌّ ولا سحرٌ ولا شيطانٌ ولا حيوانٌ ولا غيرُهُ إلا بإذنه ومشيئته، يصيب بذلك من يشاء، ويصرفه عمن يشاء.
فأعرف الخلق به وأقومهم بتوحيده مَن قال في دعائه: «وأعوذ بك منك»، فليس للخلق مَعَاذ سواه، ولا مُسْتعاذ منه إلا وهو ربه وخالقه ومليكه، وتحت قهره وسلطانه.
_________
(1) «د» «م»: «أرأيتم».
(2/355)
________________________________________
ثم خَتَم هذا الدعاء بقوله: «لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك»؛ اعترافًا بأن شأنه وعظمته ونعوت كماله وصفاته أعظم وأجلّ من أن يحصيها أحد من الخلق، أو بلغ أحدٌ حقيقة الثناء عليه غيره سبحانه.
فهذا توحيد في الأسماء والصفات والنعوت، وذاك توحيد في العبودية والتألّه، وإفراده تعالى بالخوف والرجاء والاستعاذة، وهذا يضاده الشرك، وذاك يضاده (1) التعطيل، وبالله التوفيق.
_________
(1) «د»: «مضاد» في الموضعين.
(2/356)
________________________________________
الباب السابع والعشرون
في دخول الإيمان بالقضاء والقدر والعدل والتوحيد والحكمة تحت قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ماضٍ فيّ حكمك، عدلٌ فيّ قضاؤك» وبيان ما في هذا الحديث من القواعد
ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما أصاب عبدًا قطّ هَمٌّ ولا غَمٌّ ولا حزنٌ، فقال: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدلٌ فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سَمّيتَ به نفسك، أو أنزلتَه في كتابك، أو علّمتَه أحدًا من خلقك، أو استأثرتَ به في علم الغيب عندك: أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همّي وغمّي؛ إلا أذهب الله همّه وغمّه، وأبدله مكانه فرحًا»، قالوا: يا رسول الله، أفلا نتعلمهنّ؟ قال: «بلى، ينبغي لمن يسمعهنّ أن يتعلمهنّ» (1).
فقد دلَّ هذا الحديث الصحيح على أمور:
منها: أنه استوعب أقسام المكروه الواردة على القلب، فالهمّ يكون على مكروه يُتوقّع في المستقبل يهتم به القلب. والحزن على مكروه ماضٍ ــ من فوات محبوب أو حصول مكروه ــ إذا تذكّره أحدث له حزنًا. والغمّ يكون على مكروه حاصل في الحال يوجب لصاحبه الغمّ.
فهذه المكروهات الثلاث (2) هي من أعظم أمراض القلب وأدوائه، وقد
_________
(1) تقدم تخريجه (1/ 285).
(2) كذا في «م»: «الثلاث»، وهي ساقطة من «د».
(2/357)
________________________________________
تنوع الناس في طرق أدويتها والخلاص منها، وتباينت طرقهم في ذلك تباينًا لا يحصيه إلا الله، بل كل أحد يسعى في التخلص منها بما يظن أو يتوهّم أنه يخلصه منها.
وأكثر الطرق والأدوية التي يستعملها الناس في الخلاص منها لا تزيدها إلا شدة، كمن يتداوى منها بالمعاصي على اختلاف أنواعها، من أكبر كبائرها إلى أصغرها، وكمن يتداوى منها باللهو واللعب والغناء وسماع الأصوات المطربة وغير ذلك، فأكثر سعي بني آدم، أو كله إنما هو لدفع هذه الأمور والتخلص منها.
وكلهم قد أخطأ الطريق، إلا من سعى في إزالتها بالدواء الذي وصفه الله لإزالتها، وهو دواء مركّب من مجموع أمور، متى نقص منها جزء نقص من الشفاء بقدره.
وأعظم أجزاء هذا الدواء هو التوحيد والاستغفار، قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاَسْتَغْفِر لِّذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19]، وفي الحديث: «قال الشيطان: أهلكتُ بني آدم بالذنوب، وأهلكوني بالاستغفار وبلا إله إلا الله، فلما رأيتُ ذلك بثثتُ فيهم الأهواء، فهم يذنبون ولا يتوبون؛ لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا» (1).
_________
(1) أخرجه بنحوه ابن أبي عاصم في «السنة» (7)، وأبو يعلى (136)، والطبراني في «الدعاء» (1780) من حديث أبي بكر مرفوعًا، وإسناده تالف، فيه عثمان بن مطر وعبد الغفور الواسطي كلاهما منكر الحديث، كما في «التاريخ الكبير» (6/ 253، 137).
وفي الباب عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا بإسناد حسن، انظر: «الأمالي المطلقة» (137).
(2/358)
________________________________________
ولذلك كان الدعاء المفرِّج للكرب محض التوحيد، وهو: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله ربُّ العرش العظيم، لا إله إلا الله ربُّ السماوات السبع وربُّ الأرض، ربُّ العرش الكريم» (1).
وفي «الترمذي» (2) وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «دعوة أخي ذي النون ما دعا بها مكروبٌ إلا فرّج الله كربَه: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين».
فالتوحيد يُدخِل العبدَ على الله، والاستغفار والتوبة يرفع المانع، ويزيل الحجاب الذي يحجب القلب عن الوصول إليه، فإذا وصل القلب إليه زال عنه همُّه وغمُّه وحزنُه، وإذا انقطع عنه حضرته الهموم والغموم والأحزان، وأتته من كل طريق، ودخلت عليه من كل باب.
فلذلك صدّر هذا الدعاء المُذْهِب للهمّ والغمّ والحزن (3) بالاعتراف له بالعبودية حقًّا منه ومن آبائه (4).
ثم أتبع ذلك باعترافه بأنه في قبضته وملكه، وتحت تصرّفه؛ بكون ناصيته في يده، يصرّفه كيف يشاء، كما يُقاد مَن أمسك بناصيته شديدُ القوى، لا يستطيع إلا الانقياد له.
_________
(1) أخرجه أحمد (3147)، والبخاري (6346)، ومسلم (2730) من حديث ابن عباس.
(2) الترمذي (3505) بنحوه، والنسائي في «الكبرى» (10416) وأحمد (1462) مطولًا، من حديث سعد بن أبي وقاص، وقد وقع في إسناده اختلاف لا يضر أشار إليه الترمذي عقب روايته، والحديث صححه الحاكم (1862).
(3) يقصد الحديث المتقدم: «ما أصاب عبدًا قطّ هَمٌّ ... ».
(4) تصحّفت في «ط» إلى: «وآياته».
(2/359)
________________________________________
ثم أتبع ذلك بإقراره له بنفاذ حكمه فيه، وجريانه عليه، شاء أم أبى، وإذا حكم فيه بحكم لم يستطع غيرُه ردَّه أبدًا، وهذا اعتراف لربّه بكمال القدرة عليه، واعتراف من نفسه بغاية العجز والضعف، فكأنه قال: أنا عبد ضعيف مسكين، يحكم فيه قوي قاهر غالب، وإذا حكم فيه بحكم مضى حكمه فيه ولا بدّ.
ثم أتبع ذلك باعترافه بأن كل حُكم وكل قضية (1) ينفذها فيه هذا الحاكم فهي عدل محض بمشيئة (2)، لا جور فيها ولا ظلم بوجهٍ من الوجوه، فقال: «ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك»، وهذا يعمّ جميعَ أقضيته سبحانه في عبده: قضاءَه السابقَ فيه قبل إيجاده، وقضاءَه فيه المقارِن لحياته، وقضاءَه فيه بعد مماته، وقضاءَه فيه يوم معاده، ويتناول قضاءَه فيه بالذنب، وقضاءَه فيه بالجزاء عليه.
ومن لم يثلج صدره لهذا، ويكون له كالعلم الضروري؛ لم يعرف ربَّه وكماله، ولا نفسه وعيبه (3)، ولا عدَلَ في حكمه، بل هو جهول ظلوم، فلا عِلْم ولا إنصاف.
وفي قوله عليه السلام: «ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك» ردٌّ على طائفتي القدرية والجبرية، وإن اعترفوا بذلك بألسنتهم فأصولهم تناقضه.
فإن القدرية تنكر قدرته سبحانه على خلق ما به يهتدي العبد غير ما
_________
(1) «م»: «مصيبة»، والمثبت ألصق بسياق الحديث: «قضاؤك»، والكلام هنا عن القضاء.
(2) كذا في «م» ونحوها في «د»، والأشبه: «بمشيئته».
(3) «وعيبه» مهملة في «د» «م»، وفي «د»: «ونفسه وعيبه» دون أداة النفي.
(2/360)
________________________________________
خَلَقه فيه، وجَعَله عليه، فليس عندهم لله حكمٌ نافذ في عبده غير الحكم الشرعي بالأمر والنهي، ومعلوم أنه لا يصح حمل الحديث على هذا الحكم؛ فإن العبد يطيعه تارة ويعصيه تارة أخرى، بخلاف الحكم الكوني القدري فإنه ماضٍ في العبد ولابدّ، فإنه بكلماته التامات التي لا يجاوزهن بَرٌّ ولا فاجر.
ثم قوله بعد ذلك: «عدلٌ فيَّ قضاؤك» دليلٌ على أن الله سبحانه عادل في كل ما يفعله بعبده من قضائه كله، خيرِه وشرِّه، حلوِه ومرِّه، فعلِه وجزائه، فدلّ الحديث على الإيمان بالقدر، والإيمان بأن الله عادل فيما قضاه، فالأول التوحيد، والثاني العدل.
وعند القدرية النفاة: لو كان حُكْمُه فيه ماضيًا لكان ظالمًا له بإضلاله وعقوبته.
وأما القدرية الجبرية فعندهم: الظلم لا حقيقة له، بل هو الممتنع لذاته، الذي لا يدخل تحت القدرة، فلا يقدر الرب تعالى عندهم على ما يُسمّى ظلمًا حتى يقال: تَرَك الظلم، وفَعَل العدل.
فعلى قولهم: لا فائدة في قوله: «عدلٌ فيَّ قضاؤك»، بل هو بمنزلة أن يقال: نافذ فيَّ قضاؤك ولابدّ، وهو معنى قوله: «ماض فيَّ حكمك»؛ فيكون تكريرًا لا فائدة فيه.
وعلى قولهم: فلا يكون ممدوحًا بترك الظلم؛ إذ لا يُمْدَح بترك المستحيل لذاته.
ولا فائدة في قوله: «إني حرمت الظلم على نفسي» (1)، أو يصير معناه: إني
_________
(1) جزء من حديث أبي ذر المتقدم تخريجه في (1/ 158).
(2/361)
________________________________________
حرمت على نفسي ما لا يدخل تحت قدرتي (1)، وهو المستحيلات.
ولا فائدة في قوله: {فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} [طه: 112]؛ فإن كل أحد لا يخاف من المستحيل لذاته أن يقع.
ولا فائدة في قوله: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر: 31]، ولا في قوله: {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق: 29]؛ فنفوذ حُكْمِه في عباده بملكه وعدله فيهم بحمده، وهو سبحانه له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.
ونظير هذا قوله سبحانه حكاية عن نبيه هود - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56]، فقوله: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ناصيتي بيدك ماضٍ فيَّ حكمك»، وقوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} مثل قوله عليه السلام: «عدل فيَّ قضاؤك» أي: لا يتصرف في تلك النواصي إلا بالعدل والحكمة والمصلحة والرحمة، لا يَظلم أصحابَها، ولا يعاقبهم بما لم يعملوه، ولا يهضمهم حسناتِ ما عملوه، فهو سبحانه على صراط مستقيم في قوله وفعله، يقول الحق، ويفعل الخير والرشد.
وقد أخبر سبحانه أنه على الصراط المستقيم في سورة هود، وفي سورة النحل، فأخبر في هود أنه على صراط مستقيم في تصرفه في النواصي التي هي في قبضته وتحت يده، وأخبر في النحل أنه يأمر بالعدل ويفعله.
وقد زعمت الجبرية أن العدل هو المقدور، وزعمت القدرية (2) أن
_________
(1) بياض في «د» بنحو كلمة.
(2) «د»: «الجبرية» مكررة.
(2/362)
________________________________________
العدل إخراج أفعال الملائكة والجنّ والإنس عن قدرته وخلقه، وأخطأ الطائفتان جميعًا في ذلك.
والصواب أن العدل وَضْع الأشياء في مواضعها التي تليق بها، وإنزالها منازلها، كما أن الظلم وَضْع الشيء في غير موضعه، وقد تسمّى سبحانه بالحَكَم العَدْل.
والقدرية تنكر حقيقة اسم الحَكَم، وتردّه إلى الحُكْم الشرعي الديني، وتزعم أنها تُثبِت حقيقة العدل، والعدل عندهم إنكار القدر، ومع هذا فينسبونه إلى غاية الظلم؛ فإنهم يقولون: إنه يُخَلِّد في العذاب الأليم مَن أفنى عمره في طاعته، ثم فَعَل كبيرة واحدة، ومات عليها.
فإن قيل: فالقضاء بالجزاء عدل؛ إذ هو عقوبة على الذنب، فكيف يكون القضاء بالذنب عدلًا على أصول أهل السنة؟
وهذا السؤال لا يلزم القدرية ولا الجبرية؛ أما القدرية فعندهم أنه لم يقضِ المعصية، وأما الجبرية فعندهم أن كل مقدور عدل، وإنما يلزمكم أنتم هذا السؤال.
قيل: نعم، كلّ قضائه عدل في عبده؛ فإنه وَضْعٌ له في موضعه الذي لا يَحْسُن في غيره، فإنه وَضَع العقوبةَ في موضعها، ووَضَع القضاءَ بسببها وموجَبها في موضعه، فإنه سبحانه كما يجازي بالعقوبة فإنه يعاقب بنفس قضاء الذنب، فيكون حكمه بالذنب عقوبة على ذنب سابق؛ فإن الذنوب يُكسِب بعضُها بعضًا، وذلك الذنب السابق عقوبة على غفلته عن ربّه وإعراضه عنه، وتلك الغفلة والإعراض هي في أصل الجِبِلّة والنّشأة، فمن
(2/363)
________________________________________
أراد يكمّله (1) أقبل بقلبه، وجَذَبه إليه، وألهمه رشده، وألقى فيه أسباب الخير، ومن لم يرد يكمّله تَرَكه وطَبْعه، وخَلّى بينه وبين نفسه؛ لأنه لا يصلح للتكميل، وليس محله أهلًا، ولا قابلًا لما يوضع فيه من الخير.
وههنا انتهى عِلْم العباد بالقدر.
وأما كونه تعالى جعل هذا يصلح (2) وأعطاه ما يصلح له، وهذا لا يصلح فمنعه ما لا يصلح له= فذاك موجَب ربوبيته وإلهيّته وعلمه وحكمته؛ فإنه سبحانه خالق الأشياء وأضدادها، وهذا مقتضى كماله وظهور أسمائه وصفاته، كما تقدم تقريره.
والمقصود أنه أعدل العادلين في قضائه بالسبب، وقضائه بالمسبَّب، فما قضى في عبده بقضاء إلا وهو واقع في محله الذي لا يليق به غيره، إذ هو الحَكَم العدل، الغني الحميد.
فصل
وقوله: «أسألك بكل اسم هو لك، سمّيتَ به نفسك، أو أنزلتَه في كتابك، أو علّمتَه أحدًا من خلقك، أو استأثرتَ به في علم الغيب عندك».
إنْ كانت الرواية محفوظة هكذا ففيها إشكال؛ فإنه جعل ما أنزله في كتابه، أو علّمه أحدًا من خلقه، أو استأثر به في علم الغيب عنده= قسيمًا لِمَا سمّى به نفسه، ومعلوم أنّ هذا تقسيم وتفصيل لما سمّى به نفسه.
_________
(1) كذا في «د» «م»: «أراد يكمله» مهملة هنا وفي الموضع الآتي، والأشبه: «تكميله».
(2) «م»: «مصلحا»، والمثبت من «د» أليق بما بعده وأقوم.
(2/364)
________________________________________
فوجه الكلام أن يقال: سمّيتَ به نفسك فأنزلتَه في كتابك، أو علّمتَه أحدًا من خلقك، أو استأثرتَ به في علم الغيب عندك، فإن هذه الأقسام الثلاثة تفصيل لما سمّى به نفسه.
وجواب هذا الإشكال: أن «أو» حرف عطف، والمعطوف بها أخص مما قبله، فيكون من باب عطف الخاص على العام؛ فإن ما سمّى به نفسه يتناول جميع الأنواع المذكورة بعده، فيكون عَطْفُ كلِّ جملة منها من باب عَطْف الخاص على العام.
فإن قيل: المعهود من عَطْف الخاص على العام أن يكون بالواو دون سائر حروف العطف؟
قيل: المسوّغ لذلك في الواو هو (1) تخصيص المعطوف بالذكر بالواو (2) لمرتبة من بين الجنس، واختصاصه بخاصّة تميّزه منه حتى كأنه غيره، أو إرادة (3) لذكره مرتين باسمه الخاص وباللفظ العام، وهذا لا فرق فيه بين العطف بالواو أو بأو، مع أن في العطف بأو على العام فائدة أخرى، وهي بناء الكلام على التقسيم والتنويع، كما يُبنى عليه بإمّا، فيقال: سمّيتَ به نفسك: فإما أنزلتَه في كتابك، وإما علمتَه أحدًا من خلقك.
وقد دلَّ الحديث على أن أسماء الله غير مخلوقة، بل هو الذي تكلم بها، وسمَّى بها نفسه، ولهذا لم يقل: بكل اسم خلقتَه لنفسك، ولو كانت مخلوقة
_________
(1) «د»: «وهو» تحريف يفسد المعنى.
(2) «بالواو» من «م».
(3) «د»: «إرادتين».
(2/365)
________________________________________
لم يسأله بها؛ فإن الله لا يُقسَم عليه بشيء من خلقه.
فالحديث صريح في أن أسماءه ليست من فعل الآدميين وتسمياتهم.
وأيضًا فإن أسماءه مشتقة من صفاته، وصفاته قديمة قائمة به، فأسماؤها غير مخلوقة.
فإن قيل: فالاسم عندكم هو المسمَّى أو غيره؟
قيل: طالما غلط الناس في ذلك، وجهلوا الصواب فيه.
فالاسم يراد به المسمَّى تارة، ويراد به اللفظ الدال عليه أخرى.
فإذا قلت: قال الله كذا، واستوى الله على عرشه، وسمع الله، ورأى وخلق= فهذا المراد به المسمَّى نفسَه.
وإذا قلت: الله اسم عربي، والرحمن اسم عربي، والرحمن من أسماء الله، والرحمن وزنه فَعْلان، والرحمن مشتقّ من الرحمة ونحو ذلك= فالاسم (1) ههنا للمسمَّى (2)، ولا يقال غيره؛ لما في لفظ الغير من الإجمال، فإن أريد بالمغايرة أن اللفظ غير المعنى فحق، وإن أريد أن الله سبحانه كان ولا اسم له حتى خَلَق لنفسه اسمًا، أو حتى سمّاه خَلْقه بأسماء من صنعهم= فهذا من أعظم الضلال والإلحاد.
فقوله في الحديث: «سمَّيتَ به نفسك»، ولم يقل: خلقتَه لنفسك، ولا قال: سَمَّاك به خَلْقك؛ دليلٌ على أنه سبحانه تكلّم بذلك الاسم، وسمّى به
_________
(1) «د»: «فالاننى» دون إعجام.
(2) كذا في «د»: «للمسمَّى»، وطمست في «م» مع سابقتها.
(2/366)
________________________________________
نفسه، كما سمّى نفسه في كتبه التي تكلّم بها حقيقة بأسمائه.
وقوله: «أو استأثرتَ به في علم الغيب عندك» دليلٌ على أن أسماءه أكثر من تسعة وتسعين، وأن له أسماء وصفات استأثر بها في علم الغيب عنده لا يعلمها غيره.
وعلى هذا فقوله عليه السلام: «إن لله تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة» (1) لا ينفي أن يكون له غيرها، والكلام جملة واحدة، أي: له أسماء موصوفة بهذه الصفة، كما يقال: لفلان مائة عبد أعدّهم للتجارة، وله مائة فرس أعدّها للجهاد.
وهذا قول الجمهور، وخالفهم ابن حزم، فزعم أن أسماءه تعالى تنحصر في هذا العدد (2).
وقد دلَّ الحديث على أنّ التوسل إليه سبحانه بأسمائه وصفاته أحبُّ إليه وأنفع للعبد من التوسل إليه بمخلوقاته، وكذلك سائر الأحاديث، كما في حديث اسم الله الأعظم (3): «اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت الحنّان المنّان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم» (4).
وفي الحديث الآخر: «أسألك بأني أشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا
_________
(1) أخرجه البخاري (2736)، ومسلم (2677) من حديث أبي هريرة.
(2) انظر: «الفصل» (2/ 126)، «المحلى» (1/ 30).
(3) «د»: «الاسم الأعظم».
(4) تقدم تخريجه (1/ 331).
(2/367)
________________________________________
أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد» (1).
وفي الحديث الآخر: «اللهم إني أسألك بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق» (2).
وكلها أحاديث صحاح، رواها ابن حبان والإمام أحمد والحاكم.
وهذا تحقيق لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180].
وقوله: «أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري» يجمع أصلين: الحياة والنور؛ فإن الربيع هو المطر الذي يحيي الأرض فينبت الربيع، فسأل اللهَ بعبوديته له وتوحيده وأسمائه وصفاته أن يجعل كتابه الذي جعله روحًا للعالمين ونورًا حياةً (3) لقلبه؛ بمنزلة الماء الذي تحيى به الأرض، ونورًا له؛ بمنزلة الشمس التي تستنير بها الأرض، والحياة والنور جماع الخير كله.
قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام: 122]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]، فأخبر أنه روح تحصل به الحياة، ونور تحصل به الهداية، فأتباعه
_________
(1) أخرجه أحمد (22965)، وأبو داود (1493)، والترمذي (3475) من طرق عن بريدة مطولًا ومختصرًا، قال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب»، وصححه ابن حبان (891)، والحاكم (1858).
(2) تقدم تخريجه (2/ 350).
(3) «د»: «وحياة».
(2/368)
________________________________________
لهم الحياة والهداية، ومخالفوه لهم الموت والضلال.
وقد ضرب سبحانه المثل لأوليائه وأعدائه بهذين الأصلين في أول سورة البقرة، وفي وسط سورة النور، وفي سورة الرعد، وهما المثل المائي والمثل الناري.
وقوله عليه السلام: «وجلاء حزني، وذهاب همّي وغمي (1)» إن جلاء هذا يتضمن إزالة المؤذي الضار، وذلك يتضمن تحصيل النافع السار، فتضمن الحديث طلب أصول الخير كله، ودفع الشر، وبالله التوفيق.
_________
(1) «م»: «غمي وحزني»، والمثبت من «د» موافق للرواية التي أوردها المصنف آنفًا.
(2/369)
________________________________________
الباب الثامن والعشرون
في أحكام الرضا بالقضاء، واختلاف الناس في ذلك، وتحقيق القول فيه
هذا الباب من تمام الإيمان بالقضاء والقدر.
وقد تنازع الناس: هل هو واجب أو مستحب؟ على قولين، وهما وجهان لأصحاب أحمد.
فمنهم من أوجبه، واحتج على وجوبه بأنه من لوازم الرضا بالله ربًّا، وذلك واجب، واحتج بأثر إسرائيلي: «من لم يرضَ بقضائي، ولم يصبر على بلائي؛ فليتخذ له ربًّا سواي» (1).
ومنهم مَن قال: هو مستحب غير واجب؛ فإن الإيجاب يستلزم دليلًا شرعيًا، ولا دليل يدل على الوجوب.
وهذا القول أرجح؛ فإن الرضا من مقامات الإحسان التي هي من أعلى المندوبات.
وقد غلط في هذا الأصل طائفتان أقبح غلط.
فقالت القدرية النفاة: الرضا بالقضاء طاعة وقربة، والرضا بالمعاصي لا
_________
(1) أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (807)، وابن حبان في «المجروحين» (1/ 327) من حديث أبي هند الداري مرفوعًا، قال الهيثمي في «المجمع» (7/ 207): «رواه الطبراني، وفيه سعيد بن زياد بن هند وهو متروك».
(2/370)
________________________________________
يجوز، فليست بقضائه وقدره.
وقالت غلاة الجبرية الذين طووا بساط الأمر والنهي: المعاصي بقضاء الله وقدره، والرضا بالقضاء قربة وطاعة، فنحن نرضى بها ولا نسخطها.
واختلفت طرق أهل الإثبات في جواب الطائفتين.
فأجابتهم طائفة بأن لها وجهين: وجهًا يرضى بها منه، وهو إضافتها إلى الله سبحانه خلقًا ومشيئة، ووجهًا يسخط منه، وهو إضافتها إلى العبد فعلًا واكتسابًا.
وهذا جواب جيد لو وفّوا به؛ فإن الكَسْب الذي أثبته كثير منهم لا حقيقة له؛ إذ هو عندهم مقارَنة الفعل للإرادة والقدرة الحادثة من غير أن يكون لهما فيه (1) تأثير بوجه ما، وقد تقدم الكلام في ذلك بما فيه كفاية (2).
وأجابهم طائفة أخرى بأنّا نرضى بالقضاء الذي هو فعل الربّ، ونسخط المَقْضِيّ الذي هو فعل العبد.
وهذا جواب جيد لو لم يعودوا عليه بالنقض والإبطال؛ فإنهم قالوا: الفعل عين المفعول، فالقضاء عندهم نفس المَقْضِي، فلو قال الأولون بأنّ للكَسْب تأثيرًا في إيجاد الفعل، وأنه سبب لوجوده، وقال الآخرون بأنّ الفعل غير المفعول= لأصابوا في الجواب.
وأجابهم طائفة أخرى بأنّ من القضاء ما يؤمر بالرضا به، ومنه ما يُنْهى
_________
(1) «فيه» بالكاد تقرأ في «م»، وهي ساقطة من «د».
(2) أفاض المؤلف في بيان ذلك في الباب السابع عشر (1/ 391).
(2/371)
________________________________________
عن الرضا به، فالقضاء الذي يحبه الله ويرضاه نرضى به، والذي يبغضه ويسخطه لا نرضى به، وهذا كما أن من المخلوقات ما يبغضه ويسخطه وهو خالقه، كالأعيان المسخوطة له، فهكذا الكلام في الأفعال والأقوال سواء.
وهذا جواب جيد، غير أنه يحتاج إلى تمام، فنقول:
الحكم والقضاء نوعان: ديني وكوني.
فالديني يجب الرضا به، وهو من لوازم الإسلام.
والكوني: منه ما يجب الرضا به، كالنعم التي يجب شكرها، ومن تمام شكرها الرضا بها، ومنه ما لا يجوز الرضا به، كالمعايب والذنوب التي يسخطها الله، وإن كانت بقضائه وقدره، ومنه ما يُستحَب الرضا به، كالمصائب، وفي وجوبه قولان.
هذا كله في الرضا بالقضاء الذي هو المَقْضِي.
وأما القضاء الذي هو وصفه سبحانه وفعله، كعِلْمه وكتابته وتقديره ومشيئته؛ فالرضا به من تمام الرضا بالله ربًّا وإلهًا ومالكًا ومدبّرًا.
فبهذا التفصيل يتبين الصواب، ويزول اللبس في هذه المسألة العظيمة التي هي مفرق طرق بين الناس.
فإن قيل: فكيف يجتمع الرضا بالقضاء بالمصائب مع شدة الكراهة والنّفْرة منها؟
وكيف يُكَلَّف العبدُ أن يرضى بما هو مؤلم له وهو كاره له، والألم يقتضي الكراهة والبُغض المضاد للرضا، واجتماع الضدين محال؟
(2/372)
________________________________________
قيل: الشيء قد يكون محبوبًا مرضيًا من جهة، ومكروهًا من جهة أخرى، كشرب الدواء النافع الكريه؛ فإن المريض يرضى به مع شدة كراهته له، وكصوم اليوم الشديد الحر؛ فإن الصائم يرضى به مع كراهته له، وكالجهاد للأعداء، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهْوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهْوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216]، فالمجاهد المخلص يعلم أن القتال خير له فيرضى به، وهو يكرهه لما فيه من التعرّض لِتِلاف النفس وألمها ومفارقة المحبوب.
ومتى قوي الرضا بالشيء وتمكّن انقلبت كراهتُه محبة ــ وإن لم يخلُ من الألم ــ، فالألم بالشيء لا ينافي الرضا به، وكراهته من وجه لا تنافي محبته وإرادته والرضا به من وجه آخر.
فإن قيل: فهذا في حكم رضا العبد بقضاء الرب؛ فهل يرضى سبحانه ما قضى به من الكفر والفسوق والعصيان بوجه من الوجوه؟
قيل: هذا الموضع أشكل من الذي قبله.
وقد قال كثير من الأشعرية ــ بل جمهورهم ومن اتبعهم ــ: إن الرضا والمحبة والإرادة في حق الرب تعالى بمعنى واحد، وإن كل ما شاءه وأراده فقد أحبه ورضيه.
ثم أوردوا على أنفسهم هذا السؤال، وأجابوا بأنه لا يمتنع أن يقال: إنه يرضى بها، ولكن لا على وجه التخصيص، بل يقال: يرضى بكل ما خلقه وقضاه وقدّره، ولا نُفْرِد من ذلك الأمور المذمومة، كما يقال: هو ربّ كل شيء، ولا يقال: رب كذا وكذا للأشياء الحقيرة الخسيسة.
(2/373)
________________________________________
وهذا تصريح منهم بأنه راضٍ بها في نفس الأمر، وإنما امتَنَع الإطلاق أدبًا واحترامًا فقط.
فلما أورد عليهم قوله: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7]، أجابوا عنه بجوابين:
أحدهما: لا يرضاه ممن لم يقع منه، وأما من وقع منه فهو يرضاه؛ إذ هو بمشيئته وإرادته.
والثاني: لا يرضاه لهم دينًا، أي: لا يشرعه لهم، ولا يأمرهم به، ويرضاه منهم كونًا.
وعلى قولهم فيكون معنى الآية: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} حيث لم يوجد منهم، فلو وُجِد منهم أحبه ورضيه، وهذا في البطلان والفساد كما تراه.
وقد أخبر سبحانه أنه لا يرضى ما وُجِد من ذلك، وإن وقع بمشيئته، كما قال تعالى: {وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: 108]، فهذا قول واقع بمشيئته وتقديره، وقد أخبر سبحانه أنه لا يرضاه.
وكذلك قوله سبحانه: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205]، فهو سبحانه لا يحبه كونًا ولا دينًا، وإن وقع بتقديره، كما لا يحب إبليسَ وجنودَه، وفرعونَ وحزبَه، وهو ربّهم وخالقهم.
فمن جعل المحبة والرضا بمعنى الإرادة والمشيئة لزمه أن يكون الله سبحانه محبًّا لإبليس وجنوده، وفرعون وهامان وقارون، وجميع الكفار وكفرهم، والظلمة وفعلهم، وهذا كما أنه خلاف القرآن والسنة والإجماع المعلوم بالضرورة؛ فهو خلاف ما عليه فِطَرُ العالمين التي لم تغير بالتواطؤ
(2/374)
________________________________________
والتواصي بالأقوال الباطلة.
وقد أخبر سبحانه أنه يمقت أفعالًا كثيرة ويكرهها ويبغضها ويسخطها، فقال تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ اَلنِّسَا إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء: 22]، وقال: {وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا} [محمد: 28]، وقال: {(2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا} [الصف: 3] (1)، وقال: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة: 46]، ومُحَال حَمْل هذه الكراهة على الكراهة الدينية الأمرية؛ لأنه أمرهم بالجهاد. وقال: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئَةً عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 38].
فأخبر أنه يكره ويبغض ويمقت ويسخط ويعادي ويذم ويلعن، ومُحَال أنه يحب ذلك ويرضى به، وهو سبحانه يتنزَّه ويتقدس عن محبة ذلك، وعن الرضا به، بل لا يليق ذلك بعبده؛ فإنه نقص وعيب في المخلوق أنْ يحبّ الفساد والشر والظلم والبغي والكفر ويرضاه، فكيف يجوز نسبة ذلك إلى الله تبارك وتعالى؟!
وهذا الأصل من أعظم ما غلط فيه كثير من مثبتي القدر، وغلطهم فيه يوازي (2) غلط النفاة في إنكار القدر، أو هو أقبح منه، وبه تسلّط عليهم النفاة ونادوا (3) على قبح قولهم، وأعظموا الشناعة عليهم به.
_________
(1) من قوله «وقال: {وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ}» إلى هنا ساقط من «م».
(2) «د»: «يوازن».
(3) مهملة الأول في «م»، ومثلها في «د»، غير أنها برسم: «وتمادو».
(2/375)
________________________________________
فهؤلاء قالوا: يحب الكفر والفسوق والعصيان والظلم والبغي والفساد.
وأولئك قالوا: لا يدخل تحت مشيئته وقدرته وخلقه.
وأولئك قالوا: لا يكون في ملكه إلا ما يحبه ويرضاه.
وهؤلاء قالوا: يكون في ملكه ما لا يشاء، ويشاء ما لا يكون.
فسبحان الله وتعالى عما يقول الفريقان علوًّا كبيرًا، والحمد لله الذي هدانا لما أرسل به رسوله، وأنزل به كتابه، وفطر عليه عباده، وبرَّأنا من بدع هؤلاء وهؤلاء، فله الحمد والمنّة، والفضل والنعمة، والثناء الحسن الجميل، ونسأله التوفيق لما يحبه ويرضاه، وأن يجنبنا مضلات البدع والفتن.
(2/376)
________________________________________
الباب التاسع والعشرون
في انقسام القضاء والحُكْم والإرادة والكتابة والأمر والإذن والجَعْل والكلمات والبعث والإرسال والتحريم والإنشاء إلى كوني متعلِّق بخلقه، وإلى ديني متعلِّق بأمره، وما في تحقيق ذلك من إزالة اللبس والإشكال
هذا الباب متصل بالباب الذي قبله، وكل منهما مُقَرِّرٌ لصاحبه، فما كان من الكوني فهو متعلِّق بربوبيته وخلقه، وما كان من الديني فهو متعلِّق بإلهيته وشرعه، وهو كما أخبر عن نفسه سبحانه: {الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]، فالخلق قضاؤه وقدره وفعله، والأمر شرعه ودينه، فهو الذي خلق وشرع وأمر.
وأحكامه جارية على خَلْقه قدرًا وشرعًا، ولا خروج لأحد عن حكمه الكوني القدري، وأما حكمه الديني الشرعي فيعصيه الفجّار والفسّاق، والأمران غير متلازمين، فقد يقضي ويقدّر ما لا يأمر به ولا شرعه، وقد يشرع ويأمر بما لا يقضيه ولا يقدّره، ويجتمع الأمران فيما وقع من طاعات عباده وإيمانهم، وينتفي الأمران عما لم يقع من المعاصي والفسق والكفر، وينفرد القضاء الديني والحكم الشرعي فيما أمر به وشرعه ولم يفعله المأمور، وينفرد الحكم الكوني فيما وقع من المعاصي.
إذا عُرِفَ ذلك؛ فالقضاء في كتاب الله نوعان:
كوني قدري، كقوله: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} [سبأ: 14]، وقوله: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} [الزمر: 69].
(2/377)
________________________________________
وشرعي ديني، كقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23]، أي: أمر وشرع، ولو كان قضاءً كونيًّا لما عُبِد غيرُ الله.
والحكم أيضًا نوعان:
فالكوني كقوله: {قُل رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} [الأنبياء: 112]، أي: افْعَلْ ما تنصر به عبادك، وتخذل به أعداءك.
والديني كقوله: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة: 10]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1].
وقد يرد بالمعنيين معًا، كقوله: {وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: 26]، فهذا يتناول حكمه الكوني، وحكمه الشرعي.
والإرادة أيضًا نوعان:
فالكونية كقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 107]، وقوله: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} [الإسراء: 16]، وقوله: {لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34]، وقوله: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 5].
والدينية كقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ} [البقرة: 185]، وقوله: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 27]، فلو كانت هذه الإرادة كونية لما حصل العسر لأحد منا، ولَوَقَعَت (1) التوبة من جميع المكلفين.
_________
(1) «د»: «ولو وقعت».
(2/378)
________________________________________
وبهذا التفصيل يزول الاشتباه في مسألة الأمر والإرادة: هل هما متلازمان أم لا؟
فقالت القدرية: الأمر يستلزم الإرادة، واحتجوا بحجج لا تندفع.
وقالت المثبتة: الأمر لا يستلزم الإرادة، واحتجوا بحجج لا تندفع.
والصواب أن الأمر يستلزم الإرادة الدينية، ولا يستلزم الإرادة الكونية؛ فإنه لا يأمر إلا بما يريده شرعًا ودينًا.
وقد يأمر بما لا يريده كونًا وقدرًا، كإيمان مَنْ أَمَرَهُ ولم يوفّقه للإيمان؛ مرادٌ له دينًا لا كونًا، وكذلك (1) أَمَر خليله بذبح ابنه، ولم يرده كونًا وقدرًا، وأَمَر رسوله بخمسين صلاة، ولم يرد ذلك كونًا وقدرًا.
وبين هذين الأمرين وأَمْرِ مَن لم يؤمن بالإيمان فرق؛ فإنه سبحانه لم يحب من إبراهيم ذبح ولده، وإنما أحب منه عزمه على الامتثال وتوطين نفسه عليه، وكذلك أَمْرُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء بخمسين صلاة، وأما أَمْرُ مَنْ عَلِم أنه لا يؤمن بالإيمان فإنه سبحانه يحب من عباده أن يؤمنوا به وبرسله، ولكن اقتضت حكمته أن أعان بعضهم على فعل ما أمره به ووفّقه له، وخَذَل بعضهم فلم يعنه ولم يوفّقه، فلم تحصل مصلحة الأمر منهم، وحصلت من الأمر بالذبح.
فصل
وأما الكتابة: فالكونية كقوله: {(20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21]، وقوله: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ
_________
(1) «م»: «ولذلك»، والمقام مقام تمثيل لا تعليل.
(2/379)
________________________________________
الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]، وقوله: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج: 4].
والشرعية الأمرية كقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} إلى قوله: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23 - 24]، وقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45].
فالأولى: كتابة بمعنى القدر، والثانية: كتابة بمعنى الأمر.
فصل
والأمر الكوني: كقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، وقوله: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50]، وقوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [النساء: 47]، وقوله: {وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} [مريم: 21].
وقوله: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء: 16]، فهذا أَمْرُ تقديرٍ كوني لا أمرٌ ديني شرعي؛ فإن الله لا يأمر بالفحشاء، والمعنى: قضينا ذلك وقدّرناه.
وقالت طائفة: بل هو أمر ديني، والمعنى: أمرناهم بالطاعة فخالفونا وفسقوا.
والقول الأول أرجح؛ لوجوه:
أحدها: أنّ الإضمار على خلاف الأصل، فلا يُصار إليه إلا إذا لم يمكن تصحيح الكلام بدونه.
(2/380)
________________________________________
الثاني: أنّ ذلك يستلزم إضمارين:
أحدهما: أمرناهم بطاعتنا.
الثاني: فخالفونا أو عصونا ونحو ذلك.
الثالث: أنّ ما بعد الفاء في مثل هذا التركيب هو المأمور به نفسه، كقولك: أَمَرْتُهُ ففعل، وأَمَرْتُهُ فقام، وأَمَرْتُهُ فركب، لا يفهم المخاطَب غير هذا.
الرابع: أنه سبحانه جعل سبب هلاك القرية أَمْرَه المذكور، ومن المعلوم أنّ أمره بالطاعة والتوحيد لا يصلح أن يكون سببًا للهلاك، بل هو سبب النجاة والفوز.
فإن قيل: أَمْره بالطاعة مع الفسق هو سبب الهلاك.
قيل: هذا يبطل بالوجه الخامس: وهو أنّ هذا الأمر لا يختص بالمترفين، بل هو سبحانه يأمر بطاعته واتباع رسله المترفين وغيرَهم، فلا يصح تخصيص الأمر بالطاعة بالمترفين.
يوضحه الوجه السادس: أنّ الأمر لو كان بالطاعة لكان هو نفس إرسال رسله إليهم، ومعلوم أنه لا يحسن أن يقال: أرسلنا رسلنا إلى مترفيها ففسقوا فيها؛ فإن الإرسال لو كان إلى المترفين لقال من عداهم: نحن لم يُرْسَل إلينا.
السابع: أنّ إرادة الله سبحانه لإهلاك القرية إنما تكون بعد إرسال الرسل إليهم وتكذيبهم، وإلا فقبل ذلك هو لا يريد إهلاكهم؛ لأنهم معذورون بغفلتهم وعدم بلوغ الرسالة إليهم، قال تعالى: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ
(2/381)
________________________________________
مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا} (1) [الأنعام: 131]، فإذا أرسل الرسل إليهم فكذبوهم أراد إهلاكها؛ فأمر رؤساءها ومترفيها أمرًا كونيًّا قدريًّا ــ لا شرعيًّا دينيًّا ــ بالفسق في القرية، فاجتمع على أهلها تكذيبهم وفِسْق رؤسائهم، فحينئذ جاءها أمر الله، وحقّ عليها قولُه بالإهلاك.
والمقصود ذِكْر الأمر الكوني والديني.
ومن الديني قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]، وهو كثير.
فصل
وأما الإذن الكوني: فكقوله تعالى في السِّحر: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102]، أي بمشيئته وقدره.
وأما الديني فكقوله: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر: 5]، أي بأمره ورضاه، وقوله: {(58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ} [يونس: 59]، وقوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21].
_________
(1) «م» «د»: «وما كان («م»: ربك، «د»: الله) ليهلك القرى بظلم وأهلها غافلون»، كذا وقع خلط بين آيتي الأنعام (131) وهود (117)، وأثبتُّ الأولى لاشتمالها على موضع الشاهد.
(2/382)
________________________________________
فصل
وأما الجَعْل الكوني فكقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهْيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سُدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سُدًّا} [يس: 8 - 9]، وقوله: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [يونس: 100]، وقوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [النحل: 72]، وهو كثير.
وأما الجَعْل الديني فكقوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} [المائدة: 103]، أي: ما شرع ذلك ولا أمر به، وإلا فهو مخلوق له، واقع بقدره ومشيئته.
وأما قوله: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة: 97]، فهذا يتناول الجَعْلَيْن؛ فإنما (1) جَعَلها كذلك بقدره وشرعه، وليس هذا استعمالًا للمشترك في معنييه، بل إطلاق اللفظ وإرادة القَدْر المشترك بين معنييه، فتأمّله.
فصل
وأما الكلمات الكونية فكقوله: {كَذَلِكَ (2) حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 33]، وقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف: 137]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أعوذ بكلمات الله التامّات التي لا يجاوزهنّ برٌّ ولا فاجر من شرّ ما خلق» (3).
_________
(1) «م» «د»: «فإنها» تحريف، والصواب ما أثبت.
(2) «م» «د»: «وكذلك».
(3) تقدم تخريجه (2/ 351).
(2/383)
________________________________________
فهذه كلماته الكونية التي يخلق بها ويكوِّن، ولو كانت الكلمات الدينية التي يأمر بها وينهى لكانت مما يجاوزهنّ الفجّار والكفّار.
وأما الدينية فكقوله: {رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ} [التوبة: 6]، والمراد به القرآن، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في النساء: «واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله» (1) أي: بإباحته ودينه، وهي قوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3].
وقد اجتمع النوعان في قوله: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} [التحريم: 12]، فكتبه كلماته التي يأمر بها وينهى، ويحلّ ويحرم، وكلماته التي يخلق بها ويُكوِّن، فأخبر أنها ليست جَهْمية تنكر كلمات دينه وكلمات تكوينه، وتجعلها خلقًا من جملة مخلوقاته.
فصل
وأما البعث الكوني فكقوله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الإسراء: 5]، وقوله: {(30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي} [المائدة: 31].
وأما البعث الديني فكقوله: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة: 2]، وقوله: {اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ} [البقرة: 213].
_________
(1) جزء من حديث جابر في حجة الوداع أخرجه مسلم (1218).
(2/384)
________________________________________
فصل
وأما الإرسال الكوني فكقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم: 83]، وقوله: {وَهْوَ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ} [الفرقان: 48].
وأما الديني فكقوله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة: 33]، وقوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا} [المزمل: 15].
فصل
وأما التحريم الكوني فكقوله: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص: 12]، وقوله: {(25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [المائدة: 26]، وقوله: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 95].
وأما التحريم الديني فكقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]، و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96]، {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275].
فصل
وأما الإيتاء الكوني فكقوله: {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 247]، وقوله: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26]، وقوله: {وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء: 54].
وأما الإيتاء الديني فكقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7]،
(2/385)
________________________________________
وقوله: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة: 63].
وأما قوله: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]، فهذا يتناول النوعين، فإنه يؤتيها من يشاء أمرًا ودينًا، وتوفيقًا وإلهامًا.
فصل
وأنبياؤه ورسله وأتباعهم حظّهم من هذه الأمور الديني منها، وأعداؤه واقفون مع الكوني القدري، فحيث ما مال القدر مالوا معه، فدينهم دين القدر، ودين الرسل وأتباعهم دين الأمر، فهم يدينون بأمره، ويؤمنون بقدره، وخصماء الله يعصون أمره، ويحتجون بقدره، ويقولون: نحن واقفون مع مراد الله!
نعم، مع مراده الديني أو الكوني؟
ولا ينفعكم وقوفكم مع المراد الكوني، ولا يكون ذلكم عذرًا لكم عنده؛ إذ لو عَذَر بذلك لم يَذُمّ أحدًا مِن خلقه، ولم يعاقبه، ولم يكن في خلقه عاصٍ ولا كافر، ومن زعم ذلك فقد كفر بالله وكتبه كلها، وجميع رسله.
وبالله التوفيق.
(2/386)
________________________________________
الباب الموفي ثلاثين
في ذِكْر الفطرة الأولى ومعناها، واختلاف الناس في المراد بها، وأنها لا تنافي القضاء والقدر بالشقاوة والضلال
قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم: 30 - 31].
وفي «الصحيحين» (1) من حديث أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه ويُمَجِّسانه، كما تُنْتَج البهيمة جَمْعاء، هل تحسّون فيها من جَدْعاء؟ حتى تكونوا أنتم تجدعونها»، ثم قرأ أبو هريرة: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}، وفي لفظ آخر: «ما من مولود إلا يولد على هذه الملة».
وقد اختلف الناس في معنى هذه الفطرة والمراد بها.
فقال القاضي أبو يعلى: في معنى الفطرة ههنا روايتان عن أحمد (2):
_________
(1) تقدم تخريجه في (1/ 103).
(2) لم أقف على قول القاضي فيما بين يدي من كتابه «الروايتين»، والمؤلف ينقل في هذا الموضع من كتاب شيخه «درء التعارض» (8/ 359) وما بعدها.
وحول كلام الإمام أحمد انظر: «السنة» (3/ 534 - 536)، «أحكام أهل الملل من الجامع لمسائل الإمام أحمد» كلاهما للخلال (14 - 18).
(2/387)
________________________________________
إحداهما: الإقرار بمعرفة الله تعالى، وهو العهد الذي أخذه الله عليهم في أصلاب آبائهم، حين مسح ظهر آدم فأخرج (1) من ذرّيته إلى يوم القيامة أمثال الذر، وأشهدهم على أنفسهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172].
فليس أحد إلا وهو مقرٌّ بأن له صانعًا ومدبّرًا، وإن سمَّاه بغير اسمه، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87]، فكل مولود يولد على ذلك الإقرار الأول.
قال (2): وليس الفطرة هنا الإسلام لوجهين:
أحدهما: أنّ معنى الفطرة ابتداء الخلقة، ومنه قوله تعالى: {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الشورى: 11]، أي: مبتدئهما. وإذا كانت الفطرة هي الابتداء وجب أن تكون تلك هي التي وقعت لأول الخليقة، وجرت في فطرة المعقول (3)، وهو استخراجهم ذرية؛ لأن تلك حالة ابتدائهم.
ولأنها لو كانت الفطرة هنا الإسلام؛ لوجب إذا وُلِد بين أبوين كافرين أن لايرثهما ولا يرثانه ما دام طفلًا؛ لأنه مسلم، واختلاف الدين يمنع الإرث، ولوجب أن لا يصحّ استرقاقه، ولا يُحْكَم بإسلامه بإسلام أبيه؛ لأنه مسلم.
_________
(1) «م»: «فاجتمع»، والمثبت من «د» موافق لمصدر النقل.
(2) من قوله: «تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ}» إلى هنا ساقط من «د».
(3) كذا في الأصول، وفي مصدر المؤلف، ووقعت في مصدر القاضي نفسه ــ وهو كتاب «إصلاح غلط أبي عبيد في غريب الحديث» لابن قتيبة (58) ــ: «فَطْر العقول»، أي: ابتداءها، وهو الصواب فيما يظهر.
(2/388)
________________________________________
قال: وهذا تأويل ابن قتيبة، وذكره ابن بطة في «الإبانة» (1).
قال: وليس كل من ثبت له المعرفة حُكِم بإسلامه، كالبالغين من الكفار؛ فإنّ المعرفة حاصلة لهم وليسوا بمسلمين.
قال: وقد أومأ أحمد إلى هذا التأويل في رواية الميموني فقال: الفطرة الأولى التي فُطِر الناس عليها. فقال الميموني: الفطرة: الدين؟ قال: نعم (2).
قال القاضي: وأراد أحمد بالدين: المعرفة التي ذكرناها.
قال: والرواية الثانية: الفطرة هنا ابتداء خلقه في بطن أمه؛ لأنّ (3) حَمْله على العهد الذي أخذه عليهم ــ وهو الإقرار بمعرفته ــ حَمْلٌ للفطرة على الإسلام؛ لأن الإقرار بالمعرفة إقرار بالإيمان، والمؤمن مسلم، ولو كانت الفطرة الإسلام لوجب إذا وُلِد بين أبوين كافرين أن لا يرثانه ولا يرثهما.
قال: ولأن ذلك يمنع أن يكون الكفر خَلْقًا لله، وأصول أهل السنة بخلافه.
قال: وقد أومأ أحمد إلى هذا في رواية علي بن سعيد ــ وقد سأله عن قوله: «كل مولود يولد على الفطرة» ــ فقال: على الشقاوة والسعادة.
وكذلك نقل محمد بن يحيى الكحّال: أنه سأله فقال: هي التي فُطِر الناس عليها: شقي أو سعيد.
_________
(1) «إصلاح غلط أبي عبيد في غريب الحديث» (57 - 58) ــ نص عليه في «درء التعارض» (8/ 360) ــ، «الإبانة الكبرى» (4/ 70).
(2) انظر: «أحكام أهل الملل من الجامع لمسائل الإمام أحمد» (16).
(3) نهاية نسخة «م»، وما يلي سيكون الاعتماد فيه على «د»، وما يلزم من «ت».
(2/389)
________________________________________
وكذلك نقل حنبل عنه، قال: الفطرة التي فطر الله عليها العباد من الشقاوة والسعادة (1).
قال: وهذا كله يدل من كلامه على أن المراد بالفطرة ههنا ابتداء خلقه في بطن أمه.
قال شيخنا أبو العباس ابن تيمية (2): أحمد لم يذكر العهد الأول، وإنما قال: الفطرة الأولى التي فُطِر الناس عليها، وهي الدين. وقال في غير موضع: إن الكافر إذا مات أبواه أو أحدهما حُكِم بإسلامه. واستدلَّ بهذا الحديث، فدلّ على أنه فسَّرَ الحديث بأنه يولد على فطرة الإسلام، كما جاء ذلك مصرَّحًا به في الحديث، ولو لم تكن الفطرة عنده الإسلام لما صحّ استدلاله بالحديث.
وقوله في موضع آخر: يولد على ما فُطِر عليه من شقاوة وسعادة، لا ينافي ذلك؛ فإن الله سبحانه قدّر السعادة والشقاوة وكتبهما، وقدّر أنها تكون بالأسباب التي تحصل بها، كفعل الأبوين.
فتهويد الأبوين وتنصيرهما وتمجيسهما هو مما قدره الله أنه يُفْعَل بالمولود، والمولود وُلِد على الفطرة سليمًا، ووُلِد على أن هذه الفطرة السليمة يغيّرها الأبوان، كما قَدَّر سبحانه ذلك وكتبه.
كما مثّل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك بقوله: «كما تُنْتَج البهيمة جَمْعاء، هل تحسّون فيها من جَدْعاء؟»، فبيّن أن البهيمة تولد سليمة ثم يجدعها الناس، وذلك
_________
(1) انظر: «أحكام أهل الملل من الجامع لمسائل الإمام أحمد» (16 - 17).
(2) «درء التعارض» (8/ 361) وما بعدها.
(2/390)
________________________________________
بقضاء الله وقدره، فكذلك المولود يولد على الفطرة سليمًا، ثم يفسده أبواه، وذلك أيضًا بقضاء الله وقدره.
وإنما قال أحمد وغيره من الأئمة: على ما فُطِر عليه من شقاوة أو سعادة؛ لأنّ القدرية كانوا يحتجون بهذا الحديث على [أن] (1) الكفر والمعاصي ليس بقضاء الله وقدره، بل مما ابتدأ الناس إحداثه.
ولهذا قالوا لمالك بن أنس: إن القدرية يحتجون علينا بأول الحديث؟ فقال: احتجوا عليهم بآخره، وهو قوله: «الله أعلم بما كانوا عاملين» (2).
فبيَّن الإمام أحمد وغيره أنه لا حجّة فيه للقدرية؛ فإنهم لا يقولون: إن نفس الأبوين خَلَقَا تهويده وتنصيره، بل هو تَهوَّد وتَنصَّر باختياره، لكن كانا سببًا في حصول ذلك بالتعليم والتلقين، فإذا أضيف إليهما بهذا الاعتبار فلأن يُضاف إلى الله الذي هو خالق كل شيء بطريق الأولى؛ لأنه سبحانه وإن كان خلقه مولودًا على الفطرة سليمًا فقد قَدَّر عليه ما سيكون بعد ذلك من تغييره، وعلم ذلك.
كما في الحديث الصحيح: «إن الغلام الذي قتله الخضر طُبِع يوم طُبِع كافرًا، ولو بلغ لأرهق أبويه طغيانًا وكفرًا» (3).
فقوله: «طُبِع يوم طُبِع» أي قُدِّر وقُضِي في الكتاب أنه يكفر، لا أن كفره كان موجودًا قبل أن يولد، ولا في حال ولادته؛ فإنه مولود على الفطرة
_________
(1) زيادة لازمة من مصدر النقل.
(2) أسنده من هذا الوجه أبو داود (4715).
(3) جزء من حديث أبي بن كعب في قصة موسى والخضر أخرجه بنحوه مسلم (2380).
(2/391)
________________________________________
السليمة، وعلى أنه بعد ذلك يتغير ويكفر.
ومن ظن أنّ الطبع على قلبه، وهو (1) الطبع المذكور على قلوب الكفار؛ فهو غالط؛ فإن ذلك لا يقال فيه: طُبِع يوم طُبِع؛ إذ كان الطبع على قلبه إنما يوجد بعد كفره.
وقد ثبت في «صحيح مسلم» (2) عن عياض بن حمار، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربّه تبارك وتعالى أنه قال: «خَلَقْتُ عبادي حنفاء كلهم، فاجتالتهم الشياطين، وحَرّمتْ عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا»، وهذا صريح في أنه خلقهم على الحنيفية، وأن الشياطين اجتالتهم بعد ذلك.
وكذلك في حديث الأسود بن سَرِيع الذي رواه أحمد وغيره (3) قال: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - سرية فأفضى بهم القتل إلى الذرية، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما حملكم على قَتْل الذرّية؟» قالوا: يا رسول الله، أليسوا أولاد المشركين؟ قال: «أوَ ليس خياركم أولاد المشركين؟!»، ثم قام النبي - صلى الله عليه وسلم - خطيبًا فقال: «ألا إنّ كل مولود يولد على الفطرة حتى يُعْرِبَ عنه لسانُهُ».
فخطبته لهم بهذا الحديث عقيب نهيه لهم عن قتل أولاد المشركين،
_________
(1) كذا في «د» ومصدر النقل: «وهو»، والأليق بالسياق: «هو» دون واو.
(2) تقدم تخريجه (2/ 65).
(3) أحمد (15588)، ومعمر في «الجامع» (20090)، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (1160) من حديث الحسن عن الأسود بن سريع، والحسن لم يسمع منه، كما جزم به ابن المديني في «العلل» (55)، وانظر: «تحفة التحصيل» (71). والحديث صححه الحاكم (2566).
(2/392)
________________________________________
وقوله لهم: «أوَ ليس خياركم أولاد المشركين؟!» = نصٌّ أنه أراد أنهم ولدوا غير كفار (1)، ثم الكفر طرأ بعد ذلك، ولو أراد أن المولود حين يولد يكون إما مسلمًا وإما كافرًا على ما سبق له به القدر؛ لم يكن فيما ذَكَر حجّةٌ على ما قَصَد من نهيه عن قتل أولاد المشركين.
وقد ظنّ بعضهم أن معنى قوله: «أوَ ليس خياركم أولاد المشركين؟!» أنه قد يكون سبق (2) في علم الله أنهم لو بقوا لآمنوا، فيكون النهي راجعًا إلى هذا المعنى من التجويز.
وليس هذا معنى الحديث، لكن معناه أن خياركم هم السابقون الأولون وهؤلاء من أولاد المشركين، فإن آباءهم كانوا كفارًا، ثم إن البنين أسلموا بعد ذلك، فلا يضر الطفل أن يكون من أولاد المشركين إذا كان مؤمنًا؛ فإن الله إنما يجزيه بعمله لا بعمل أبويه، وهو سبحانه يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، كما يخرج الحيّ من الميت، ويخرج الميت من الحيّ.
فصل (3)
وهذا الحديث قد روي بألفاظ يفسِّر بعضها بعضًا، ففي «الصحيحين» (4) ــ واللفظ للبخاري ــ عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه
_________
(1) كذا في «د»، وفي مصدر النقل: «يبين أنه أراد ... ».
(2) «سبق» من «ت»، ومصدر المؤلف.
(3) لا يزال النقل مستمرًّا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية.
(4) تقدم تخريجه (1/ 103).
(2/393)
________________________________________
يُهَوِّدانه، أو يُنَصِّرانه، أو يُمَجِّسانه، كما تُنْتَج البهيمة جَمْعاء (1)، هل تحسّون فيها من جَدْعاء؟»، ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30]، قالوا: يا رسول الله، أفرأيت مَن يموت صغيرًا؟ قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين».
وفي «الصحيح» (2) قال الزهري: يُصلَّى على كل مولود متوفّى وإن كان لِغَيَّةٍ (3)؛ من أجل أنه وُلِد على فطرة الإسلام؛ إذا استهلّ صارخًا، ولا نصلي على من لم يستهلّ؛ من أجل أنه سِقْطٌ، فإن أبا هريرة كان يحدث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدانه، أو يُنَصِّرانه، أو يُمَجِّسانه، كما تُنْتَج البهيمة جَمْعاء، هل تحسّون فيها من جَدْعاء؟»، ثم يقول أبو هريرة {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}.
وفي «الصحيحين» (4) من رواية الأعمش: «ما من مولود (5) إلا وهو على الملة».
وفي رواية أبي معاوية عنه: «إلا على هذه الملة، حتى يُعْرِب عنه لسانه».
_________
(1) كذا في «د»: «تنتج البهيمة جمعاء» هنا وفي الموضع الآتي، وفي مصدري النقل والرواية: «تنتج البهيمة بهمية جمعاء».
(2) البخاري (1358).
(3) أي من زنا، من الغي وهو ضد الرشد، انظر: «إرشاد الساري» (2/ 449).
(4) مسلم (2658/ 33) هذه الرواية والتي تليها، ولم أقف عليها عند البخاري، وكأن قوله: «وفي الصحيحين» سبق قلم من المؤلف؛ بدلالة عزوها إلى الصحيح وحده في مصدر النقل.
(5) في مصدري النقل والرواية: «ما من مولود يولد».
(2/394)
________________________________________
فهذا صريح أنه يولد على ملة الإسلام، كما فسَّره ابن شهاب راوي الحديث، واستشهاد أبي هريرة بالآية يدل على ذلك.
قال ابن عبد البر (1): وقد سئل ابن شهاب عن رجل عليه رقبة مؤمنة: أيجزئ الصبي عنه أن يعتقه وهو رضيع؟
قال: نعم، لأنه وُلد على الفطرة (2).
وقال أبو عمر ــ وقد ذكر النزاع في تفسير الحديث ــ (3): وقال آخرون: الفطرة ههنا الإسلام.
قالوا: وهو المعروف عند عامة السلف أهل التأويل، قد أجمعوا في تأويل قول الله عز وجل: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} قالوا: فطرة الله: دين الله الإسلام.
واحتجوا بقول أبي هريرة في هذا الحديث: اقرؤوا ــ إن شئتم ــ: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}.
وذكروا عن عكرمة ومجاهد والحسن وإبراهيم والضحاك وقتادة في قوله عز وجل: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} قالوا: فطرة الله: دين الله الإسلام، {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} قالوا: لدين الله (4).
_________
(1) «التمهيد» (18/ 76) وقد ساقه بإسناده.
(2) لم أقف عليه في مصدر آخر.
(3) «التمهيد» (18/ 72 - 77).
(4) أسندها الطبري (18/ 493 - 496) خلا قول الحسن.
(2/395)
________________________________________
واحتجوا بحديث محمد بن إسحاق، عن ثور بن يزيد، عن يحيى بن جابر، عن عبد الرحمن بن عائذ الأزدي، عن عياض بن حمار المجاشعي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال للناس يومًا: «ألا أحدثكم بما حدثني الله في الكتاب، إن الله خلق آدم وبنيه حنفاء مسلمين، وأعطاهم المال حلالًا لا حرام فيه، فجعلوا ما أعطاهم الله حرامًا وحلالًا ... » الحديث (1).
قال: وكذلك روى بكر بن مهاجر، عن ثور بن يزيد، بإسناده مثله في هذا الحديث: «حنفاء مسلمين» (2).
قال أبو عمر: روى هذا الحديث قتادة، عن مُطَرِّف بن عبد الله، عن عياض، ولم يسمعه قتادة من مُطَرِّف، ولكن قال: حدثني ثلاثة: عقبة بن عبد الغافر، ويزيد بن عبد الله بن الشِّخِّير، والعلاء بن زياد، كلهم يقول: حدثني مُطَرِّف، عن عياض، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال فيه: «وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم»، لم يقل: «مسلمين» (3).
وكذلك رواه الحسن عن مطرف (4).
ورواه ابن إسحاق عمن لا يتّهم، عن قتادة بإسناده، قال فيه: «وإني
_________
(1) أخرجه من هذا الوجه ابن أبي خيثمة في «التاريخ الكبير» (1/ 404)، والطبراني في «الكبير» (997).
(2) لم أقف عليه في مصدر آخر.
(3) أخرجه من هذا الوجه ابن أبي خيثمة في «التاريخ الكبير» (1/ 403)، والطبراني في «الكبير» (992، 993).
(4) أخرجه الطبراني في «الكبير» (996).
(2/396)
________________________________________
خلقت عبادي حنفاء كلهم» (1)، ولم يقل: «مسلمين».
قال: فدلّ هذا على حفظ محمد بن إسحاق وإتقانه وضبطه؛ لأنه ذكر «مسلمين» في روايته عن ثور بن يزيد لهذا الحديث، وأسقطه من رواية قتادة، وكذلك رواه الناس عن قتادة، قصر فيه عن قوله: «مسلمين»، وزاده ثور بإسناده، فالله أعلم.
قال: والحنيف في كلام العرب المستقيم المُخْلِص، ولا استقامة أكثر من الإسلام.
قال: وقد روي عن الحسن: «الحنيفية حجُّ البيت» (2)، وهذا يدلّ أنه أراد الإسلام.
وكذلك رُوِي عن الضحاك والسُّدِّي قال (3): «حنفاء: حجاجًا» (4).
وعن مجاهد: «حنفاء مُتَّبِعين» (5).
قال: وهذا كله يدل على أن الحنيفية الإسلام.
قال: وقال أكثر العلماء: الحنيف المُخْلِص، وقال الله عز وجل: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} [آل عمران: 67]،
_________
(1) أخرجه ابن أبي خيثمة في «التاريخ الكبير» (1/ 402).
(2) أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» (131)، والحربي في «غريب الحديث» (1/ 292).
(3) كذا في «د»، تبعًا لواسطة النقل (8/ 370).
(4) أخرجهما ابن المنذر في «التفسير» (1/ 246).
(5) أخرجه الطبري (2/ 593)، وابن أبي حاتم (3651).
(2/397)
________________________________________
وقال تعالى: {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا} [آل عمران: 95]، وقال: {أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي} [الحج: 78].
وقال الشاعر ــ وهو الراعي ــ:
أخليفةَ الرحمنِ إنا معشرٌ ... حنفاءُ نسجد بكرةً وأصيلًا
عَربٌ نرى لله في أموالنا ... حقّ الزكاة منزّلًا تنزيلًا (1)
قال: فهذا وصف الحنيفية بالإسلام، وهو أمر واضح لا خفاء به.
قال: ومما احتج به من ذهب في هذا الحديث إلى أن الفطرة في هذا الحديث: الإسلام؛ قوله - صلى الله عليه وسلم -: «خمسٌ من الفطرة» (2)، ويُروى: «عشرٌ من الفطرة» (3).
قال شيخنا (4): والدلائل على ذلك كثيرة، ولو لم يكن المراد بالفطرة الإسلام؛ لمَا سألوا عقيب ذلك: «أرأيت من يموت من أطفال المشركين؟»؛ لأنه [لو] (5) لم يكن هناك ما يغيّر تلك الفطرة لما سألوه، والعلم القديم وما يجري مجراه لا يتغيّر.
_________
(1) البيتان للراعي النميري من قصيدة يخاطب فيها عبد الملك بن مروان كما في «الديوان» بشرح د. الصمد (206)، وأوّله: أوليّ أمر الله إنا معشر ... ، وانظر: «الزاهر» (1/ 313)، «الموشح» (207).
(2) أخرجه البخاري (5889)، ومسلم (257) من حديث أبي هريرة.
(3) أخرجه مسلم (261) من حديث عائشة.
(4) «درء التعارض» (8/ 371 - 377).
(5) زيادة لازمة من مصدر القول.
(2/398)
________________________________________
وقوله: «فأبواه يُهَوِّدانه» بَيّن فيه أنهم يغيّرون الفطرة التي فُطِر عليها.
وأيضًا: فإنه شبّه ذلك بالبهيمة التي تولَد مُجْتَمعة الخَلْق لا نقص فيها، ثم تُجْدَع بعد ذلك، فعُلِم أنّ التغيير وارد على الفطرة السليمة التي وُلِد العبد عليها.
وأيضًا: فإن الحديث مطابق للقرآن، كقوله: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]، وهذا يعم جميع الناس، فعُلِم أنّ الله سبحانه فطر الناس كلهم على فطرته المذكورة.
وأيضًا: فإنه أضاف الفطرة إليه إضافة مدح لا إضافة ذم، فعُلِم أنها فطرة محمودة لا مذمومة، كدين الله وبيته وناقته.
وأيضًا: فإنه قال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]، وهذا نَصْبٌ على المصدر الذي دلّ عليه الفعل الأول عند سيبويه وأصحابه، فدلَّ على أن إقامة الوجه لله (1) حنيفًا هو فطرة الله التي فطر الناس عليها.
وأيضًا: فإن هذا تفسير السلف كما تقدم.
قال ابن جرير (2): يقول: فسدِّد وجهك نحو الوجه الذي وجّهك الله يا محمد لطاعته ــ وهي الدين ــ، {حَنِيفًا} يقول: مستقيمًا لدينه وطاعته، {فِطْرَتَ اللَّهِ} يقول: صنعة الله التي خَلَق الناس عليها، ونَصْبُ {فِطْرَتَ}
_________
(1) كذا في «د»: «لله» كأنه سبق قلم، وفي «درء التعارض»: «للدين»، وهو الأشبه.
(2) «جامع البيان» (1/ 313).
(2/399)
________________________________________
على المصدر [من] (1) معنى قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا}، أي المعنى: فَطَر اللهُ الناسَ على ذلك فطرةً.
قال: وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ثم روى عن ابن زيد قال: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} قال: الإسلام، منذ خلقهم الله من آدم جميعًا يقرّون بذلك (2).
وعن مجاهد: {فِطْرَتَ اللَّهِ} قال: الدين الإسلام (3).
ثم روى عن يزيد بن أبي مريم قال: مرّ عمرُ بمعاذ بن جبل، فقال: ما قِوَام هذه الأمة؟ قال معاذ: ثلاث، وهنّ المنجيات: الإخلاص ـ وهو الفطرة {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} ــ، والصلاة ــ وهي الملة ــ، والطاعة ــ وهي العصمة ــ. فقال عمر: صدقت (4).
وقوله: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} يقول: لا تغيير لدين الله، أي: لا يصلح ذلك، ولا ينبغي أن يُفْعَل.
قال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} قال: لدين الله (5).
_________
(1) زيادة من مصدر القول.
(2) لم أقف عليه في مصدر آخر.
(3) «تفسير مجاهد» (214).
(4) لم أقف عليه في مصدر آخر.
(5) التفسير المنسوب إلى مجاهد (539).
(2/400)
________________________________________
ثم ذكر أنّ مجاهدًا أرسل إلى عكرمة يسأله عن قوله: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} فقال: هو الخِصَاء، فقال مجاهد: أخطأ، {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}: إنما هو الدين، ثم قرأ: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (1).
وروى عن عكرمة: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} قال: لدين الله (2).
وعنه: {فِطْرَتَ اللَّهِ} قال: الإسلام (3).
وقال قتادة: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} قال: لدين الله، وهو [قول] (4) سعيد ابن جبير والضحاك وإبراهيم النخعي وابن زيد (5).
وعن ابن عباس وعكرمة ومجاهد: هو الخِصَاء (6).
ولا منافاة بين القولين، كما قال تعالى: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119]، فتغيير ما فَطَرَ اللهُ عبادَهُ من الدين تغييرٌ لخَلْقه، والخِصَاء وقَطْع آذان الأنعام تغييرٌ لخَلْقه أيضًا.
ولهذا شَبّه النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدهما بالآخر، فأولئك يغيّرون الشريعة، وهؤلاء يغيّرون الخِلْقة، فذاك تغييرُ ما خُلِقت عليه نفسُهُ وروحُهُ، وهذا تغييرُ ما خُلِق عليه بدنُهُ.
_________
(1) أخرجه بنحوه عبد الرزاق في «التفسير» (640).
(2) لم أقف عليه في مصدر آخر.
(3) عزاه السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 493) إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر.
(4) زيادة لازمة من مصدر المؤلف.
(5) تقدم عزوها قريبًا.
(6) انظر: «تفسير مجاهد» (539)، «الدر المنثور» (2/ 690).
(2/401)
________________________________________
فصل (1)
ولمّا صار القدرية يحتجون بهذا الحديث على قولهم؛ صار الناس يتأوّلونه على تأويلات يخرجونه بها عن مقتضاه.
فقالت القدرية: كل مولود يولد على الإسلام، والله سبحانه لا يضلّ أحدًا، وإنما أبواه يضلّانه.
قال لهم أهل السنة: أنتم لا تقولون بأول الحديث ولا بآخره.
أمّا أوّله: فإنه لم يولَد أحدٌ عندكم على الإسلام أصلًا، ولا جَعَل الله أحدًا مسلمًا ولا كافرًا عندكم، بل هذا أحدث لنفسه الكفر، وهذا أحدث لنفسه الإسلام، والله لم يخلق واحدًا منهما، ولكن دعاهما إلى الإسلام، وأزاح عللهما، وأعطاهما قدرة مماثلة فيهما تصلح للضدين، ولم يخص المؤمن بسبب يقتضي حصول الإيمان، فإن ذلك عندكم غير مقدور له، ولو كان مقدورًا لكان مَنْع الكافر منه ظلمًا.
هذا قول عامة القدرية، وإن كان أبو الحسين يقول: إنه خَصّ المؤمن بداعي الإيمان.
ويقول: عند الداعي والقدرة يجب وجود الإيمان.
وهذا في الحقيقة موافق لقول أهل السنة.
قالوا: [وأيضًا] فأنتم [تقولون] (2): إن معرفة الله لا تحصل إلا بالنظر
_________
(1) هذا الفصل كسابقه مستفاد من «درء التعارض» (8/ 377) وما بعدها، وأورده أيضًا في كتابه: «أحكام أهل الذمة» (2/ 969).
(2) ما بين المعقوفات زيادة من مصدر المؤلف.
(2/402)
________________________________________
المشروط بالعقل، ويستحيل أن تكون المعرفة عندكم ضرورة، أو تكون من فعل الله.
وأما كونكم لا تقولون بآخره فهو أنه نَسَب فيه التهويد والتنصير إلى الأبوين، وعندكم أنّ المولود هو الذي أحدث لنفسه التهويد والتنصير دون الأبوين، والأبوان لا قدرة لهما على ذلك البتّة.
وأيضًا: فقوله: «الله أعلم بما كانوا عاملين» دليل على أن الله يعلم ما يصيرون إليه بعد ولادتهم على الفطرة: هل يبقون عليها فيكونون مؤمنين، أو يغيّرونها فيصيرون كفارًا؟ فهو دليل على تقدّم العلم الذي ينكره غلاة القدرية، واتفق السلف على تكفيرهم بإنكاره.
فالذي استدللتم به من الحديث على قولكم الباطل ــ وهو قوله: «فأبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه» ــ لا حجة لكم فيه، بل هو حجة عليكم، فغير الله لا يقدر على جَعْل الهدى أو الضلال في قلب أحد، بل المراد بالحديث دعوة الأبوين إلى ذلك، وتربيتهما له على ذلك، مما يفعله المعلم والمربّي.
وخَصّ الأبوين بالذكر [بناء] (1) على الغالب؛ إذ (2) لكل طفل أبوان، وإلا فقد يقع من أحدهما ومن غيرهما.
فصل (3)
قال أبو عمر بن عبد البر (4): اختلف العلماء في الفطرة المذكورة في هذا
_________
(1) زيادة لازمة من مصدر المؤلف.
(2) تحرّفت في «د»: «إن»، والتصحيح من «درء التعارض».
(3) انظر: «درء التعارض» (8/ 382 - 383)، والمؤلف صادر عنه.
(4) «التمهيد» (18/ 66 - 68)، «الاستذكار» (3/ 102 - 103)، «درء التعارض» (8/ 382 - 383)، والمؤلف صادر عنه.
(2/403)
________________________________________
الحديث اختلافًا كثيرًا.
وكذلك اختلفوا في الأطفال وحكمهم في الدنيا والآخرة، فسُئل عنه ابن المبارك فقال: تفسيره آخر الحديث، وهو قوله: «والله أعلم بما كانوا عاملين»، هكذا ذكر أبو عبيد عن ابن المبارك لم يزد شيئًا.
وذكر أنه سأل محمد بن الحسن عن تأويل هذا الحديث فقال: كان هذا القول من النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يؤمر الناس بالجهاد، هذا ما ذكره أبو عبيد (1).
قال أبو عمر: أما ما ذكره عن ابن المبارك فقد روي عن مالك نحو ذلك، وليس فيه مُقْنِع من التأويل، ولا شرح مُوعِب في أمر الأطفال، ولكنها جملة تؤدي إلى الوقوف عن القطع فيهم بكفر أو إيمان أو جنة أو نار، ما لم يبلغوا العمل.
قال: وأما ما ذكره عن محمد بن الحسن فأظن محمدًا حاد عن الجواب فيه؛ إما لإشكاله عليه، وإما لجهله به، أو لما شاء الله.
وأما قوله: «إن ذلك كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يؤمر الناس بالجهاد»، فلا أدري ما هذا! فإن كان أراد أن ذلك منسوخ، فغير جائز عند العلماء دخول النسخ في أخبار الله ورسوله؛ لأن المخبر بشيء ــ كان أو يكون ــ إذا رجع عن ذلك لم يخل رجوعه من تكذيبه لنفسه، أو غلطه فيما أخبر به، أو نسيانه، وقد
_________
(1) «د»: «أبو عبيدة» تحريف وهو على الصواب في مصدر المؤلف وأصله، وانظر: «غريب الحديث» (2/ 265 - 266).
(2/404)
________________________________________
جلَّ الله عن ذلك، وعصم رسوله منه، وهذا لا يجهله ولا يخالف فيه أحد.
وقول محمد بن الحسن: «إن هذا كان قبل أن يؤمر الناس بالجهاد»، ليس كما قال؛ لأن في حديث الأسود بن سَرِيع ما يبيّن أن ذلك كان منه بعد الأمر بالجهاد.
ثم روى بإسناده عن الحسن، عن الأسود بن سَرِيع قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما بال أقوام بلغوا في القتل حتى قتلوا الولدان؟» فقال رجل: أوَليس إنما هم أولاد المشركين؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أوَليس خياركم أولاد المشركين؟ إنه ليس من [مولود] (1) يولد إلا على الفطرة، حتى يعبّر عنه لسانُه، ويهوّده أبواه أو يُنَصِّرانه» (2).
قال: وروى هذا الحديث عن الحسن جماعة، منهم: بكر (3) المُزَني، والعلاء بن زياد، والسَّرِيّ بن يحيى، وقد رُوِي عن الأحنف، عن الأسود بن سَرِيع.
قال: وهو حديث بصري صحيح.
قال: وروى عوف الأعرابي، عن سمرة بن جُنْدُب (4)، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
_________
(1) زيادة من «درء التعارض» ومصادر التخريج.
(2) تقدم تخريجه (2/ 392).
(3) «د»: «أبو بكر» خطأ، والتصويب من مصدر المؤلف.
(4) كذا في «د» و «درء التعارض» (8/ 382) ــ والمؤلف صادر عنه ــ: «عوف الأعرابي، عن سمرة بن جندب»، بإسقاط أبي رجاء العطاردي بينهما، وهو على الوجه في «التمهيد» (18/ 68).
(2/405)
________________________________________
قال: «كل مولود يولد على الفطرة»، فناداه الناس: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ قال: «وأولاد المشركين» (1).
قال شيخنا: أما ما ذكره أبو عمر عن مالك وابن المبارك؛ فيمكن أن يقال: إن المقصود أنّ آخر الحديث يبيّن أنّ الأولاد (2) قد سبق في علم الله [ما] (3) يعملون إذا بلغوا، أو أن منهم من يؤمن فيدخل الجنة، ومنهم من يكفر فيدخل النار، فلا يُحْتَج بقوله: «كل مولود يولد على الفطرة» على نفي القدر، كما احتجت القدرية به، ولا على أن أطفال الكفار كلهم في الجنة؛ لكونهم وُلِدوا على الفطرة، فيكون مقصود مالك وابن المبارك أنّ حُكْم الأطفال على ما في آخر الحديث.
وأما قول محمد فإنه رأى الشريعة قد استقرّت على أن وَلَد اليهودي والنصراني يتبع أبويه في الدين في أحكام الدنيا، فيُحْكَم له بحكم الكفر في أنه لا يُصلّى عليه، ولا يُدفَن في مقابر المسلمين، ولا يرثه المسلمون، ويجوز استرقاقهم، فلم يجز لأحد أن يحتج بهذا الحديث على أن حكم الأطفال في الدنيا حكم المؤمنين، حتى تُعْرِب عنهم ألسنتُهم، وهذا حق، لكن ظَنَّ أن الحديث اقتضى الحكم لهم في الدنيا بأحكام المؤمنين فقال: هذا منسوخ؛ كان قبل الجهاد؛ لأنه بالجهاد أُبِيح استرقاق النساء والأطفال، والمؤمن لا يُسْتَرق، ولكن كون الطفل يتبع أباه في الدين في الأحكام الدنيوية أمر ما زال
_________
(1) جزء من حديث قصة المعراج أخرجه البخاري (7047).
(2) «د»: «الأول» تحريف.
(3) زيادة لازمة من «درء التعارض».
(2/406)
________________________________________
مشروعًا، وما زال الأطفال تبعًا لأبويهم في الأمور الدنيوية، والحديث لم يقصد بيان هذه الأحكام، وإنما قصد بيان ما وُلِد عليه الأطفال من الفطرة.
فصل (1)
ومما ينبغي أن يُعلم أنه إذا قيل: وُلِد على الفطرة أو على الإسلام أو على هذه الملّة، أو خُلِق حنيفًا؛ فليس المراد به أنه حين خرج من بطن أمه يعلم هذا الدين ويريده، فإن الله يقول: {قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا} [النحل: 78]، ولكن فطرته موجِبة مقتضِية لدين الإسلام، لمعرفته (2) ومحبته، فنفس الفطرة تستلزم الإقرار بخالقه ومحبته وإخلاص الدين له، وموجِبات الفطرة ومقتضياتها تحصل شيئًا بعد شيء، بحسب كمال الفطرة إذا سلمت من المعارض.
وليس المراد أيضًا مجرّد قبول الفطرة لذلك؛ فإن هذا القبول [لا] (3) يُغيَّر بتهويد الأبوين وتنصيرهما، بحيث يُخْرِجان الفطرة عن قبولها، وإن سعيا بتربيتهما ودعائهما في امتناع حصول المقبول.
وأيضًا: فإنّ هذا القبول ليس هو الإسلام، وليس هو هذه الملّة، وليس هو الحنيفية.
وأيضًا: فإنه شبَّه تغيير الفطرة بجَدْع البهيمة الجَمْعاء، ومعلوم أنهم لم
_________
(1) انظر: «درء التعارض» (8/ 383 - 384).
(2) «لمعرفته» غير مقروءة في «د»، والمثبت من مصدر المؤلف.
(3) زيادة لازمة لإقامة السياق.
(2/407)
________________________________________
يغيّروا قبوله، ولو تغيّر القبول وزال لم تقم عليه الحجة بإرسال الرسل وإنزال الكتب، بل المراد أنّ كل مولود فإنه يولد على محبته لفاطره وإخلاصه له، وإقراره بربوبيته (1)، وإذعانه له بالعبودية، فلو خُلّي وعدم المعارض لم يعدل عن ذلك إلى غيره.
كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من الأغذية والأشربة، فيشتهي اللبن الذي يناسبه ويغذيه، وهذا من قوله تعالى: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50]، وقوله: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 2 - 3]، فهو سبحانه خلق الحيوان مهتديًا إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره.
ثم هذا الحب والبغض يحصل فيه شيئًا فشيئًا بحسب حاجته.
ثم قد يعرض لكثير من الأبدان ما يفسد ما وُلِد عليه من الطبيعة السليمة والعادة الصحيحة.
فهكذا ما وُلِد عليه من الفطرة.
ولهذا شُبِّهت الفطرةُ باللبن، بل كانت إياه في التأويل للرؤيا.
ولما عُرِض على النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء اللبن والخمر: أخذ اللبن، فقيل له: «أخذتَ الفطرة، ولو أخذتَ الخمر لغوت أمتك»، فمناسبة اللبن لبدنه وصلاحه عليه دون غيره كمناسبة الفطرة لقلبه وصلاحه بها دون غيرها (2).
_________
(1) «د»: «وإقراره له بربوبيته» بدل: «وإخلاصه له، وإقراره بربوبيته»، والمثبت من «ت».
(2) «د»: «غيره» تحريف.
(2/408)
________________________________________
فصل (1)
قال ابن عبد البر (2): وقالت طائفة: المراد بالفطرة في هذا الحديث الخِلْقة التي خُلِق عليها المولود من المعرفة بربّه، فكأنه قال: كل مولود يولد على خِلْقة يعرف بها ربّه إذا بلغ مبلغ المعرفة، يريد أنه خُلِق خِلْقة مخالفة لخِلْقة البهائم التي لا تصل بخَلْقها (3) إلى معرفته.
قالوا: والفاطر هو الخالق.
وأنكرت أن يكون المولود يُفطَر على إيمان أو كفر.
قال شيخنا: صاحب هذا القول إن أراد بالفطرة التمكّن من المعرفة والقدرة عليها؛ فهذا ضعيف؛ فإن مجرّد القدرة على ذلك لا يقتضي أن يكون حنيفًا، ولا أن يكون على الملّة، ولا يحتاج أن يُذْكَر تغييرُ أبويه لفطرته حين يُسأل عمن مات صغيرًا، ولأن القدرة في الكبير أكمل منها في الصغير.
وهو لمّا نهاهم عن قتل الصبيان فقالوا: إنهم أولاد المشركين؟ قال: «أَوَليس خياركم أولاد المشركين؟ ما من مولود إلا ويولد على الفطرة»، ولو أريد القدرة لكان البالغون كذلك، مع كونهم مشركين مستوجبين للقتل.
وإن أراد بالفطرة القدرة على المعرفة مع إرادتها؛ فالقدرة الكاملة مع الإرادة التامة تستلزم وجود المراد المقدور، فدلّ على أنهم فُطِروا على القدرة على المعرفة وإرادتها، وذلك مُسْتَلزِم للإيمان.
_________
(1) انظر: «درء التعارض» (8/ 384 - 385).
(2) «التمهيد» (18/ 68 - 69)، «الاستذكار» (3/ 101).
(3) «درء التعارض» ومصدره: «بخلقتها».
(2/409)
________________________________________
فصل (1)
قال أبو عمر (2): وقال آخرون معنى قوله: «يولد على الفطرة» يعني: البداءة التي ابتدأهم عليها، يريد أنه مولود على ما فَطَر اللهُ عليه خلقه من أنه ابتدأهم للحياة والموت، والسعادة والشقاء، إلى ما يصيرون إليه عند البلوغ من قبولهم عن آبائهم (3) واعتقادهم.
قالوا: والفطرة في كلام العرب: البداءة، والفاطر المبتدئ، وكأنه قال: يولد على ما ابتدأه الله عليه من الشقاء والسعادة وغير ذلك، مما يصير إليه، وقد فُطِر عليه.
واحتجوا بقوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمِ الضَّلَالَةُ} [الأعراف: 29 - 30].
وروى بإسناده إلى ابن عباس قال: لم أدرِ ما فاطر السماوات والأرض، حتى أتى أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها. أي: ابتدأتها (4).
وذكر دعاء علي: «اللهم جبّار القلوب على فطراتها، شقيّها وسعيدها» (5).
_________
(1) انظر: «درء التعارض» (8/ 386 - 387).
(2) «التمهيد» (18/ 78).
(3) «د»: «إيمانهم» مهملة، والمثبت من «التمهيد» و «درء التعارض».
(4) أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» (345)، وابن جرير (9/ 175).
(5) تقدم عزوه في (1/ 421).
(2/410)
________________________________________
قال شيخنا: حقيقة هذا القول: أنّ كل مولود فإنه يولد على ما سبق في علم الله أنه صائر إليه، ومعلوم أن جميع المخلوقات بهذه المثابة، فجميع البهائم مولودة على ما سبق في علم الله لها، والأشجار مخلوقة على ما سبق في علم الله، وحينئذ فيكون كل مخلوق قد خُلِق على الفطرة.
وأيضًا: فلو كان المراد ذلك، لم يكن لقوله: «فأبواه يُهَوِّدانه» معنى، فإنهما فعلا به ما هو الفطرة التي وُلِد عليها.
وعلى هذا القول فلا فرق بين التهويد والتنصير وبين تلقين الإسلام وتعليمه، وبين تعليم سائر الحِرَف والصنائع؛ فإن ذلك كله واحد (1) فيما سبق به العلم.
وأيضًا: فتمثيله ذلك بالبهيمة التي وُلِدت جَمْعاء ثم جُدِعت؛ يبيّن أنّ أبويه غَيَّرا ما وُلِد عليه.
وأيضًا: فقوله: «على هذه الملّة»، وقوله: «إني خلقت عبادي حنفاء»؛ مخالف لهذا.
وأيضًا: فلا فرق بين حال الولادة وسائر أحوال الإنسان؛ فإنه من حين كان جنينًا إلى ما لا نهاية له من أحواله على ما سبق في علم الله، فتخصيص الولادة بكونها على مقتضى القدر تخصيص بلا مُخصِّص.
وقد ثبت في «الصحيح» (2) أنه قبل نفخ الروح فيه يُكتَب رزقُهُ وأجلُهُ وعملُهُ وشقيٌّ أو سعيد، فلو قيل: كل مولود يُنفَخ فيه الروح على الفطرة؛
_________
(1) كذا في «د»، وفي «درء التعارض»: «داخل» وهي أشبه.
(2) تقدم تخريجه في (1/ 63).
(2/411)
________________________________________
لكان أشبه بهذا المعنى، مع أن النفخ هو بعد الكتابة.
فصل (1)
قال أبو عمر (2): قال محمد بن نصر المروزي (3): وهذا المذهب شبيه بما حكاه أبو عبيد عن ابن المبارك: أنه سئل عن هذا الحديث، فقال: يفسّره قوله: «الله أعلم بما كانوا عاملين» (4).
قال المروزي: وقد كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا القول، ثم تركه.
قال أبو عمر: وما رسمه مالك في «موطئه» (5)، وذكره (6) في أبواب القدر؛ فيه من الآثار [ما] (7) يدلّ على أن مذهبه في ذلك نحو هذا.
قال شيخنا: أئمة السنة مقصودهم أن الخلق صائرون إلى ما سبق في علم الله فيهم من إيمان وكفر، كما في الحديث الآخر: أن الغلام الذي قتله الخضر طُبِع يوم طُبِع كافرًا، والطَّبْع: الكتاب، أي: كُتِب كافرًا، كما في الحديث الصحيح: «فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد» (8).
_________
(1) انظر: «درء التعارض» (8/ 388 - 389).
(2) «التمهيد» (18/ 79)، «غريب الحديث» (2/ 265 - 266).
(3) لم أقف عليه في ما بين يدي من كتبه المطبوعة.
(4) «غريب الحديث» (2/ 265 - 266).
(5) «الموطأ» برواية الليثي (2/ 898 - 901).
(6) «د»: «وذكر»، والمثبت من «درء التعارض» و «التمهيد».
(7) زيادة من مصدر النقل.
(8) تقدم تخريجه في (1/ 63).
(2/412)
________________________________________
وليس إذا كان الله كتبه كافرًا يقتضي أنه حين الولادة كافر، بل يقتضي أنه لا بدّ أن يكفر، وذلك الكفر هو التغيير، كما أن البهيمة التي وُلِدت جَمْعاء ــ وقد سبق في علمه أنها تُجْدَع ــ كَتَب أنها مجدوعة بجَدْع يحدث لها بعد الولادة، ولا يجب أن تكون عند الولادة مجدوعة.
فصل (1)
وكلام أحمد في أجوبة له أخرى يدل على أن الفطرة عنده الإسلام، كما ذكر محمد بن نصر عنه أنه آخر قوليه، فإنه كان يقول: إن صبيان أهل الحرب إذا سُبُوا بدون الأبوين كانوا مسلمين، وإن كانوا معهما فهم على دينهما، فإن سُبُوا مع أحدهما ففيه عنه روايتان، وكان يحتج بالحديث.
قال الخلال في «الجامع» (2): أنا أبو بكر المَرُّوذي: [أنّ] أبا عبد الله قال [في] (3) سبي أهل الحرب: إنهم مسلمون إذا كانوا صغارًا، وإن كانوا مع أحد الأبوين.
وكان يحتج بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فأبواه يُهَوِّدانه
_________
(1) انظر: «درء التعارض» (8/ 389 - 395)، «أحكام أهل الذمة» (2/ 1025) وما بعدها.
(2) «أحكام أهل الملل من الجامع» (30 - 32).
(3) زيادة لازمة لإقامة السياق في الموضعين من مصدر النقل.
(2/413)
________________________________________
ويُنَصِّرانه».
قال: وأما أهل الثغر فيقولون: إذا كان مع أبويه: أنهم يجبرونه على الإسلام.
قال: ونحن لا نذهب إلى هذا، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فأبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه».
قال الخلال: أنا عبد الملك الميموني، قال: سألت أبا عبد الله قبل الحبس: عن الصغير يخرج من أرض الروم، وليس معه أبواه؟
فقال: إن مات صلّى عليه المسلمون.
قلت: يُكْرَه على الإسلام؟
قال: إذا كانوا صغارًا يُصلّون عليهم، أكره عليه (1).
قلت: فإن كان معه أبواه؟
قال: إذا كان معه أبواه أو أحدهما لم يُكْرَه، ودينه على دين أبويه.
قلت: إلى أي شيء تذهب؟ إلى حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه ... » (2).
قال: نعم، وعمر بن عبد العزيز فَادَى به، فلم يردّه (3) إلى بلاد الروم إلا وحكمه حكمهم.
قلت: في الحديث: كان معه أبواه؟
قال: لا، وليس ينبغي إلا أن يكون معه أبواه (4).
_________
(1) كذا في «د»: «أكره عليه»! وفي كتاب الخلال: «أكره أن يليه إلا هم، وحكمه حكمهم».
(2) تقدم تخريجه (2/ 392).
(3) في «جامع الخلال» و «درء التعارض»: «فرده» على الإثبات، وما هنا أقوم.
(4) كذا وقعت هذه الجملة في «د» و «درء التعارض» وعند الخلال: «وليس يتبع»، ولم يظهر لي معناها، والله أعلم.
(2/414)
________________________________________
قال الخلال: ما رواه الميموني قولٌ أولُ لأبي عبد الله.
وكذلك نَقَلَ إسحاق بن منصور (1): أن أبا عبد الله قال: إذا لم يكن معه أبواه فهو مسلم.
قلت: لا يجبرون على الإسلام إذا كان معه أبواه أو أحدهما؟
قال: نعم.
قال الخلال: وقد روى هذه المسألة عن أبي عبد الله خَلْقٌ، كلهم قال: إذا كان مع أحد أبويه فهو مسلم (2).
وهؤلاء النفر سمعوا من أبي عبد الله بعد الحبس، وبعضهم قبل وبعد.
والذي أذهب إليه ما رواه الجماعة.
قال الخلال (3): وحدثنا أبو بكر المَرّوذي قال: قلت لأبي عبد الله: إني كنت بواسط، فسألوني عن الذي يموت هو وامرأته ويدعان (4) طفلين، ولهما عَمٌّ، ما تقول فيهما؟ فإنهم قد كتبوا إليّ بالبصرة فيها.
فقال: أكره أن أقول فيهما برأي، دع حتى أنظر؛ لعل فيها عمن تقدم.
فلما كان بعد شهر عاودته، قال: نظرتُ فيها فإذا [قول] (5) النبي - صلى الله عليه وسلم -:
_________
(1) «مسائل الكوسج» (6/ 2828).
(2) يعني نحكم بإسلام الطفل مطلقًا، سواء كان مع والديه الكافرين أو بمفرده.
(3) «أحكام أهل الملل من الجامع» (23 - 26).
(4) «د»: «ويدعا»، والتصويب من مصدر النقل.
(5) زيادة من مصدر النقل.
(2/415)
________________________________________
«فأبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه»، وهذا ليس له أبوان.
قلت: يُجْبَر على الإسلام؟
قال: نعم، هؤلاء مسلمون لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وكذلك نقل يعقوب بن بختان، قال: قال أبو عبد الله: الذّمّي إذا مات أبواه وهو صغير أُجْبِر على الإسلام. وذكر الحديث: «فأبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه».
ونقل عنه عبد الكريم بن الهيثم العاقولي في المجوسِيَّيْنِ يولد لهما ولد، فيقولان: هذا مسلم، فيمكث خمس سنين ثم يُتوفى؟
قال: ذاك يدفنه المسلمون، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فأبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه».
وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن قوم يزوجون بناتهم من قوم على أنه ما كان من ذكر فهو للرجل مسلم، وما كان من أنثى فهي مشركة يهودية أو مجوسية أو نصرانية؟
فقال: يُجْبَر هؤلاء مَنْ أبَى منهم على الإسلام؛ لأنّ أباهم مسلم (1)؛ حديث (2) النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فأبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه»، يُردّون كلهم إلى الإسلام.
ومثل هذا كثير في أجوبته، يحتج بالحديث على [أن الطفل] (3) إنما
_________
(1) «د»: «مسلما»، والوجه الرفع على الخبرية، وكذلك هو في كتاب الخلال.
(2) كذا في «د» و «درء التعارض» (8/ 394): «حديث»، وفي مطبوعة الخلال: «وحديث».
(3) زيادة من مصدر النقل.
(2/416)
________________________________________
يصير كافرًا بأبويه، فإذا لم يكن مع أبوين كافرين فهو مسلم، فلو لم تكن الفطرة الإسلام لم يكن بعدم أبويه يصير مسلمًا؛ فإن الحديث إنما دلّ على أنه يولد على الفطرة.
ونقل عنه الميموني: أنّ الفطرة هي الدين، وهي الفطرة الأولى.
قال الخلال (1): أخبرني الميموني، أنه قال لأبي عبد الله: «كل مولود يولد على الفطرة»، يدخل عليه إذا كان أبواه معه أن يكون حكمه حكم ما كانوا صغارًا؟
فقال لي: نعم، ولكن يدخل عليك في هذا.
فتناظرنا بما يدخل عليَّ من هذا القول، وبما يكون بقوله (2).
قلت لأبي عبد الله: فما تقول أنت فيها؟ وإلى أي شيء تذهب؟
قال: [أَيْش] (3) أقول! أنا ما أدري؟ أخبرك هي مسلمة (4) كما ترى.
ثم قال لي: والذي يقول: «كل مولود يولد» ينظر أيضًا إلى الفطرة الأولى التي فُطِر الناس عليها.
_________
(1) «أحكام أهل الملل من الجامع» (15 - 16).
(2) قراءة محتملة من «د»، ترجحها موافقة مصدر النقل، ووقعت في كتاب الخلال: «يقويه».
(3) زيادة من مصدر النقل.
(4) كذا في «د»، وإحدى النسخ الخطية لـ «درء التعارض» (8/ 395)، ولم أتبين وجهها، ويغلب على الظن أنها محرّفة عن «مسألة» وهي الأليق بمقام تردد الإمام، كذلك جاءت في نسخة أخرى من «درء التعارض»، وفي كتاب الخلال (16)، والله أعلم.
(2/417)
________________________________________
قلت له: فما الفطرة الأولى؟ هي الدين؟
قال: نعم، فمن الناس من يحتج بالفطرة الأولى مع قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كل مولود يولد على الفطرة».
قلت لأبي عبد الله: فما تقول لأعرفَ قولك؟
قال: أقول: إنه على الفطرة الأولى.
قال شيخنا: فجواب أحمد أنه على الفطرة الأولى، وقوله: إنها الدين= يوافق القول بأنه على دين الإسلام (1).
فصل (2)
وأما جواب أحمد أنه على ما فُطِر عليه من شقاوة وسعادة، الذي ذكر محمد بن نصر أنه كان يقول به، ثم تركه؛ فقال الخلال (3): أخبرني محمد ابن يحيى الكحال، أنه قال لأبي عبد الله: «كل مولود يولد على الفطرة» ما تفسيرها؟
قال: هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها، شقي أو سعيد.
وكذلك نقل عنه الفضل بن زياد وحنبل وأبو الحارث: أنهم سمعوا أبا عبد الله في هذه المسألة قال: الفطرة التي فطر الله العباد عليها من الشقاوة والسعادة.
_________
(1) «درء التعارض» (8/ 395).
(2) انظر: «درء التعارض» (8/ 395 - 396).
(3) «أحكام أهل الملل من الجامع» (16 - 17).
(2/418)
________________________________________
وكذلك نقل عنه علي بن سعيد أنه سأل أبا عبد [الله] عن «كل مولود يولد على الفطرة» قال: [على] الشقاوة والسعادة، قال: يرجع إلى ما خلق (1).
وعن الحسن بن ثواب، قال: سألت أبا عبد الله عن أولاد المشركين، قلت: إن ابن أبي شيبة أبا بكر، قال: هو على الفطرة حتى يهوّده أبواه أو يُنَصِّرانه؟
فلم يعجبه شيء من هذا القول، وقال: كل مولود من أطفال المشركين على الفطرة، يولد على الفطرة التي خُلِق عليها من الشقاء والسعادة التي سبقت في أمّ الكتاب، أَرْفَعُ (2) ذلك إلى الأصل، هذا معنى: «كل مولود يولد على الفطرة».
فمن أصحابه [مَن جعل] هذا قولًا قديمًا له، ثم تركه، ومنهم من جعل المسألة على روايتين وأطلق، ومنهم من حكى عنه فيها ثلاث روايات: الثالثة الوقف.
فصل (3)
قال شيخنا: والإجماع والآثار المنقولة عن السلف لا يدل إلا على
_________
(1) في «درء التعارض»: «فإليه يرجع على ما خلق»، وما بين المعقوفات مستدرك منه.
(2) وتحتمل الضبط على الأمر: «ارْفَعْ»، وفي كتاب الخلال: «ارجع»، والمعنى فيهما متقارب، كأنه يريد أن الفطرة هي ما كُتِب على المولود في اللوح المحفوظ ــ وهو الأصل ــ.
(3) انظر: «درء التعارض» (8/ 410 - 413)، وما بين المعقوفات منه.
(2/419)
________________________________________
القول الذي رجحناه، وهو أنهم [ولدوا] على الفطرة، ثم صاروا إلى ما سبق في علم الله فيهم من سعادة وشقاوة، لا يدل على أنهم حين الولادة لم يكونوا على فطرة سليمة مقتضية للإيمان، ومستلزمة له لولا المعارِض.
وروى ابن عبد البر بإسناده عن موسى بن عُبَيدة: سمعت محمد بن كعب القرظي في قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمِ الضَّلَالَةُ} [الأعراف: 29 - 30]، قال: من ابتدأ الله خلقه على الهدى صَيَّره إلى الهدى، وإن عمل بعمل أهل الضلالة، ومن ابتدأ خلقه للضلالة صيَّره إلى الضلالة، وإن عمل بعمل أهل الهدى، ابتدأ خلق إبليس على الضلالة، وعمل بعمل أهل السعادة مع الملائكة، ثم ردَّه الله إلى ما ابتدأ خلقه عليه من الضلالة، فقال: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34]، وابتدأ خلق السحرة على الهدى، وعملوا بعمل الضلالة، ثم هداهم الله إلى الهدى والسعادة، وتوفاهم عليها مسلمين (1).
فهذا المنقول عن محمد بن كعب يبيّن أن الذي ابتدأهم عليه هو ما كتب أنهم صائرون إليه، وأنهم قد يعملون قبل ذلك غيره، وأن من ابْتُدِئ على الضلالة ــ أي كُتِب أن يموت ضالًّا ــ فقد يكون قبل ذلك عاملًا بعمل أهل الهدى، وحينئذ فمن وُلِد على الفطرة السليمة المقتضية للهدى لا يمنع (2) أن يعرض لها ما يغيرها، فيصير إلى ما سبق به القدر.
كما في الحديث الصحيح: «إنّ أحدكم يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما
_________
(1) «التمهيد» (18/ 80).
(2) في «درء التعارض»: «لا يمتنع».
(2/420)
________________________________________
يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة» (1).
وقال سعيد بن جبير في قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} قال: كما كتب عليكم تكونون.
وقال مجاهد: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} شقي وسعيد.
وقال أيضًا: يُبْعَث المسلم مسلمًا، والكافر كافرًا.
وقال أبو العالية: عادوا إلى علمه فيهم: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} (2).
قلت: هذا المعنى صحيح في نفسه، دلّ عليه القرآن والسنة والآثار السلفية، وإجماع أهل السنة، وأما كونه هو المراد بالآية ففيه ما فيه.
والذي يظهر من الآية أن معناها معنى نظرائها وأمثالها من الآيات التي يحتج الله سبحانه فيها على النشأة الثانية بالأولى، [و] (3) على المعاد بالمبدأ، فجاء باحتجاج في غاية الاختصار والبيان، فقال: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}، كقوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الحج: 5]، وقوله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ} الآية [يس: 78]، وقوله:
_________
(1) تقدم تخريجه (1/ 63).
(2) أخرج هذه الآثار ابن عبد البر في «التمهيد» (18/ 81).
(3) زيادة لازمة من «ت»، وكذلك ما سيأتي من مواضع.
(2/421)
________________________________________
{أَيَحْسِبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ تُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38)} إلى قوله: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 36 - 40]، وقوله: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} [الطارق: 5 - 8]، أي على رَجْع الإنسان حيًّا بعد موته.
هذا هو الصواب في معنى الآية (1).
يبقى أن يقال: فكيف يرتبط هذا بقوله: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ}؟
فيقال: هذا الذي أوجب لأصحاب ذلك القول ما تأولوا به الآية، ومَن تأمّل الآية علم أن [هذا] القول أولى بها.
ووجه الارتباط أنّ الآية تضمّنت قواعد الدين علمًا وعملًا واعتقادًا، فأمر سبحانه فيها بالقسط ــ وهو [العدل]ــ الذي هو حقيقة شرعه ودينه، وهو يتضمّن التوحيد، فإنه أعدل العدل، والعدل في معاملة الخلق، والعدل في العبادة ــ وهو الاقتصاد في السنة ــ ويتضمن الأمر بالإقبال على الله، وإقامة عبوديته في بيوته، ويتضمّن الإخلاص له، وهو عبوديته وحده لا شريك له، فهذا ما فيها من العمل.
ثم أخبر بمبدئهم ومعادهم، فتضمّن ذلك حدوث الخلق وإعادته، فذلك الإيمان بالمبدأ والمعاد.
_________
(1) انظر: «التبيان في أيمان القرآن» (164 - 165).
(2/422)
________________________________________
ثم أخبر عن القدر الذي هو نظام التوحيد، فقال: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمِ الضَّلَالَةُ} [الأعراف: 30].
فتضمّنت الآية الإيمان بالقدر والشرع، والمبدأ والمعاد، والأمر بالعدل والإخلاص.
ثم ختم الآية بذكر حال من لم يصدّق هذا الخبر، ولم يطع هذا الأمر؛ بأنه قد والى الشيطان دون ربّه، وأنه على ضلال وهو يحسب أنه على هدى، والله أعلم.
فصل (1)
وقال آخرون: معنى قوله: «كل مولود يولد على الفطرة» أنّ الله فطرهم على الإنكار والمعرفة، وعلى الكفر والإيمان، فأخذ من ذرية آدم الميثاق حين خلقهم فقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ}؟ قالوا جميعًا: {بَلَى} [الأعراف: 172]، فأما أهل السعادة فقالوا: بلى على معرفة له طوعًا من قلوبهم، وأما أهل الشقاء فقالوا: بلى كرهًا غير طوع.
قالوا: ويصدّق ذلك قوله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83].
قالوا: وكذلك قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمِ الضَّلَالَةُ} [الأعراف: 29 - 30].
قال محمد بن نصر المروزي: سمعت إسحاق بن راهويه يذهب إلى
_________
(1) انظر: «التمهيد» (18/ 81)، «درء التعارض» (8/ 413).
(2/423)
________________________________________
هذا المعنى، واحتج بقول أبي هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30].
قال إسحاق: يقول لا تبديل للخلقة التي جُبِل عليها ولد آدم كلهم، يعني من الكفر والإيمان، والمعرفة والإنكار.
واحتج بقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ} الآية [الأعراف: 172].
قال إسحاق: أجمع أهل العلم أنها الأرواح قبل الأجساد، استنطقهم وأشهدهم على أنفسهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]، قال: انظروا ألا تقولوا: إنا كنّا عن هذا غافلين، أو تقولوا: إنما أشرك آباؤنا من قبل.
وذكر حديث أبي بن كعب في قصة الغلام الذي قتله الخضر، قال: وكان الظاهر ما قال موسى: أقتلت نفسًا زاكيةً بغير نفس؟! فأعلم الله الخضر ما كان الغلام عليه في الفطرة التي فطره عليها، وأنه لا تبديل لخلق الله، فأمر بقتله؛ لأنه كان قد طُبِع كافرًا.
وفي «صحيح البخاري» (1) أن ابن عباس كان يقرؤها: «وأما الغلام فكان كافرًا وكان أبواه مؤمنين».
قال إسحاق: فلو ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس ولم يبيّن لهم حكم الأطفال لم يعرفوا المؤمنين منهم من الكافرين؛ لأنهم لا يدرون ما جُبِل كل واحد عليه
_________
(1) ضمن حديث رقم (3401).
(2/424)
________________________________________
حتى (1) أخرج من ظهر آدم، فبيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم الأطفال في الدنيا (2): أبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه ويُمَجِّسانه، يقول: أنتم لا تعلمون ما طُبِع عليه في الفطرة الأولى، لكن حكم الطفل في الدنيا حكم أبويه، فاعرفوا ذلك بالأبوين، فمن كان صغيرًا بين أبوين مسلمين أُلْحِق بحكم الإسلام.
وأما إيمان ذلك وكفره مما يصير إليه؛ فعِلْم ذلك إلى الله، وبِعِلْم ذلك فَضَّل الله الخضر في علمه بهذا على موسى؛ إذ أطلعه الله عليه في ذلك الغلام، وخَصَّه بذلك.
قال: ولقد سئل ابن عباس عن ولدان المسلمين والمشركين، فقال: حسبك ما اختصم فيه موسى والخضر.
قال إسحاق: ألا ترى إلى قول عائشة ــ حين مات صبي من الأنصار بين أبوين مسلمين ــ: طوبى له، عصفور من عصافير الجنة. فردَّ عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: «مَهْ يا عائشة، وما يدريك؟ إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلًا، وخلق النار وخلق لها أهلًا» (3).
قال إسحاق: فهذا الأصل الذي يعتمد عليه أهل العلم.
_________
(1) كذا في «د»: «حتى»، وكذلك وقعت في نسخة خطية من «درء التعارض» (8/ 415)، وفي باقي النسخ: «حين».
(2) كذا في «د»، وفي أصول «درء التعارض» (8/ 416) كما أشار إليه المحقق: «حكم الدنيا في الأطفال»، وفي «التمهيد» (18/ 87): «حكم الطفل في الدنيا فقال»، وهي الأليق.
(3) أخرجه مسلم (2662).
(2/425)
________________________________________
وسئل حماد بن سلمة، عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كل مولود يولد على الفطرة»، فقال: هذا عندنا حيث أخذ العهد عليهم في أصلاب آبائهم (1).
قال ابن قتيبة: يريد حين مسح ظهر آدم، فاستخرج منه ذريته إلى يوم القيامة أمثال الذر، وأشهدهم على أنفسهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] (2).
قال شيخنا (3): أصلُ مقصودِ الأئمة صحيح، وهو منع احتجاج القدرية بهذا الحديث على نفي القدر، لكن لا يُحتاج مع ذلك أن يُفسَّر القرآن والحديث إلا بما هو مراد الله ورسوله، ويجب أن يُتّبع في ذلك ما دلّ عليه الدليل.
وما ذكروه أنّ الله فطرهم على الكفر والإيمان والمعرفة والنَّكَرة إن أرادوا به أنّ الله سبق علمُهُ وقدرُهُ بأنهم سيؤمنون ويكفرون ويعرفون وينكرون، وأن ذلك كان بمشيئة الله وقدره وخلقه= فهذا حقٌّ تردّه القدرية، فغلاتُهم ينكرون العلم، وجميعهم ينكرون عموم خلقه ومشيئته وقدرته.
وإن أرادوا أن هذه المعرفة والنَّكَرة كانت موجودة حين أخذ الميثاق كما في ظاهر المنقول عن إسحاق= فهذا يتضمن شيئين:
أحدهما: أنهم حينئذ كانت المعرفة والإيمان موجودًا فيهم، كما قال ذلك طوائف من السلف، وهو الذي حكى إسحاق الإجماع عليه.
_________
(1) رواه أبو داود (4716).
(2) «إصلاح غلط أبي عبيد» (57).
(3) «درء التعارض» (8/ 421).
(2/426)
________________________________________
وفي تفسير الآية نزاع بين الأئمة (1)، وكذلك في خلق الأرواح قبل الأجساد قولان معروفان.
لكن المقصود هنا أن هذا إن كان حقًّا فهو توكيد لكونهم ولدوا على تلك المعرفة والإقرار، فهذا لا يخالف ما دلت عليه الأحاديث من أنه يولد على الملة، وأن الله خلق خلقه حنفاء، بل هو مؤيد لذلك (2).
وأما قول القائل: إنهم في ذلك الإقرار انقسموا إلى مطيع وكافر، فهذا لم يُنقل عن أحد من السلف فيما أعلم إلا عن السُّدِّي في تفسيره، قال: لما أخرج الله آدم من الجنة ــ قبل أن يهبطه من السماء ــ مسح صفحة ظهره اليمنى، فأخرج منه ذرّية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذرّ، فقال لهم: ادخلوا الجنة برحمتي. ومسح صفحة ظهره اليسرى، فأخرج منه ذرّية سوداء كهيئة الذرّ، فقال: ادخلوا النار ولا أبالي. ذلك قوله: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ} [الواقعة: 27]، {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ} [الواقعة: 41] ثم أخذ منهم الميثاق، فقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} فأعطاه طائفةٌ طائعين، وطائفةٌ كارهين على وجه التَّقِيّة، فقال هو والملائكة: {شَهِدْنَا يَقُولُوا تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا} [الأعراف: 172]، فليس أحد من ولد آدم إلا وهو يعرف الله بأنه ربّه، وذلك قوله عز وجل: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83]، وكذلك (3) قوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}
_________
(1) تحتمل في «د»: «الأمة»، والمثبت أليق بالسياق.
(2) كذا في «د» و «درء التعارض»: «مؤيد لذلك»، وفي نسخة خطية منه: «مريد لذلك».
(3) كذا في «د»: «وكذلك»، وفي مصدر النقل: «وذلك»، وهو الأقرب.
(2/427)
________________________________________
[الأنعام: 149] يعني يوم أخذ الميثاق (1).
قال شيخنا: ومثل (2) هذا الأثر لا يوثق به؛ فإن في «تفسير السُّدِّي» أشياء قد عُرِف بطلان بعضها، وهو ثقة في نفسه، وأحسن أحوال هذا وأمثاله أن يكون كالمراسيل إن كان مأخوذًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكيف إذا كان مأخوذًا عن أهل الكتاب؟!
ولو لم يكن في هذا إلا معارضة لسائر الآثار التي تتضمن التسوية بين جميع الناس في الإقرار (3).
وأما قوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83]، فإنما هو في الإسلام الموجود منهم بعد خلقهم؛ لم يقل: إنهم حين العهد الأول أسلموا طوعًا وكرهًا.
يدل على ذلك أنّ ذلك الإقرار الأول جعله الله حجة عليهم عند مَن يثبته، ولو كان فيهم كاره لقال: لم أقرّ طوعًا بل كرهًا. فلا تقوم به عليه حجة.
وأما احتجاج [إسحاق] رحمه [الله] (4) بقول أبي هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]؛ فهذه الآية فيها قولان:
أحدهما: أن معناها النهي، كما تقدم عن ابن جرير أنه فسّرها
_________
(1) تقدم تخريجه (1/ 37)، وقد نقله السدي عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما.
(2) «د»: «وقيل» دون إعجام، والتصويب من «درء التعارض».
(3) زاد بعده في «ت»: «لكفى»، وليست هي في مصدر المؤلف.
(4) ما بين المعقوفات مستدرك من «درء التعارض».
(2/428)
________________________________________
[بذلك] (1)، فقال: أي لا تبدّلوا دين الله الذي فطر عليه عباده.
وهذا قول غير واحد من المفسرين، لم يذكروا غيره.
والثاني: ما قاله إسحاق، وهو أنها خبر على ظاهرها، وأنّ خَلْق الله لا يبدله أحد. وظاهر اللفظ [أنه] (2) خبر فلا يُجْعل نهيًا بغير حجة، وهذا أصحُّ.
وحينئذ فيكون المراد: أنّ ما جَبَلهم عليه من الفطرة لا يُبدَّل، فلا يُجْبلون على غير الفطرة، لا يقع هذا أصلًا.
والمعنى: أن الخلق لا يتبدّل، فيُخلقون على غير الفطرة، ولم يرد بذلك أن الفطرة لا تتغيّر بعد الخلق، بل نفس الحديث يبين أنها تتغيّر، ولهذا شبّهها بالبهيمة التي تولد جَمْعاء، ثم تُجْدع، ولا تولد بهيمة مَخْصِيّة ولا مَجْدوعة.
وقد قال تعالى عن الشيطان: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119]، فاللهُ أَقْدَرَ الخلقَ على أن يغيّروا ما خلقهم عليه بقدرته ومشيئته، وأما (3) تبديل الخلق بأن يُخلَقوا على غير تلك الفطرة؛ فهذا لا يقدر عليه إلا الله، والله لا يفعله، كما قال: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}، ولم يقل: لا تغيير؛ فإن تبديل الشيء يكون بذهابه وحصول بدله، ولكن إذا غُيِّر بعد وجوده لم يكن الخلق الموجود عند الولادة [قد حصل بدله] (4).
وأما قول القائل: لا تبديل للخلقة التي جُبِل عليها بنو آدم كلهم من كفر
_________
(1) «بذلك» من «ت»، وفي مصدر المؤلف: «بالنهي».
(2) «أنه» من «ت»، ومصدر المؤلف.
(3) «د»: «وإنما» تحريف، والتصحيح من «درء التعارض».
(4) «قد حصل بدله» من مصدر المؤلف.
(2/429)
________________________________________
وإيمان؛ فإن عنى به [أن] (1) ما سبق به القدر من الكفر والإيمان لا يقع خلافه؛ فهذا حق، ولكن ذلك لا يقتضي أن تبديل الكفر بالإيمان ــ وبالعكس ــ ممتنع، ولا أنه غير مقدور، بل العبد قادرٌ على ما أمره الله به من الإيمان، وعلى ترك ما نهاه عنه من الكفر، وعلى أن يبدّل حسناته بالسيئات، وسيئاته بالحسنات، كما قال الله: {إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ} [النمل: 11].
وهذا التبديل كله بقضاء الله وقدره، وهذا بخلاف ما فُطِروا عليه حين الولادة؛ فإن ذلك خَلْق الله الذي لا يقدر على تبديله غيرُه، وهو سبحانه لا يبدّله، بخلاف تبديل الكفر بالإيمان وبالعكس؛ فإنه يبدّله كثيرًا، والعبد قادرٌ على تبديله بإقدار الربّ له على ذلك.
ومما يوضح ذلك قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]، فهذه فطرة محمودة، أَمَرَ الله بها نبيه، فكيف تنقسم إلى كفر وإيمان مع أَمْرِ الله تعالى بها؟!
وقد تقدم تفسير السلف: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} أي: لدين الله، أو النهي عن الخِصَاء ونحوه.
ولم يقل أحد منهم: إن المعنى: لا تبديل لأحوال العباد من كفر إلى إيمان وعكسه؛ فإن تبديل ذلك موجود، ومهما وقع كان هو الذي سبق به القدر، والرب تعالى عالم بما سيكون، لا يقع خلاف معلومه، فإذا وقع التبديل كان هو الذي علمه.
_________
(1) «أن» من «ت».
(2/430)
________________________________________
وأما قوله عن الغلام: «إنه طُبِع يوم طُبِع كافرًا»، فالمراد به أنه كُتِب كذلك وقُدِّر وخُتِم، فهو من طَبْع الكتاب، ولفظ الطَّبْع لما صار يستعمله كثير من الناس في الطبيعة التي هي بمعنى الجِبِلّة والخِلْقة ظَنّ الظانّ أن هذا مراد الحديث.
وهذا الغلام الذي قتله الخضر ليس في القرآن ما يبيّن أنه كان غير بالغ ولا مكلّف، بل قراءة ابن عباس تدل على أنه كان كافرًا في الحال، وتسميته غلامًا لا تمنع أن يكون مكلّفًا قريبَ عهدٍ بالصغر، ويدل عليه أن موسى لم ينكر قتله لصغره، بل لكونه زاكيًا، ولم يقتل نفسًا.
لكن يقال: في الحديث الصحيح ما يدلّ على أنه كان غير بالغ من وجهين:
أحدهما: أنه قال: «فمرّ بصبي يلعب مع الصبيان».
الثاني: أنه قال: «ولو أدرك لأرهق أبويه طغيانًا وكفرًا»، وهذا دليل على كونه لم يدرك بعد.
فيقال: الكلام على الآية على التقديرين:
فإن كان بالغًا وقد كفر؛ فقد قُتِل على كفره الواقع بعد البلوغ، ولا إشكال.
وإن كان غير بالغ فلعل تلك الشريعة كان فيها التكليف قبل الاحتلام (1) عند قوة عقل الصبي وكمال تمييزه.
_________
(1) «د»: «الاحكام» تحريف، والتصحيح من «درء التعارض».
(2/431)
________________________________________
وإن لم يكن التكليف قبل البلوغ بالشرائع واقعًا؛ فلا يمتنع وقوعه بالتوحيد ومعرفة الله، كما قاله طوائف من أهل الكلام والفقه من أصحاب أبي حنيفة وأحمد وغيرهم.
وعلى هذا فيمكن أن يكون مكلّفًا بالإيمان قبل البلوغ، وإن لم يكن مكلّفًا بشرائعه، وكُفْر الصبي المميِّز [صحيح] (1) عند أكثر العلماء، فإذا ارتدّ صار مرتدًّا، لكن لا يُقتَل حتى يبلغ.
فالغلام الذي قتله الخضر: إما أن يكون كافرًا بعد البلوغ؛ فلا إشكال، وإما أن يكون غير بالغ وهو مكلف في تلك الشريعة؛ فلا إشكال أيضًا، وإما أن يكون مكلفًا بالتوحيد والمعرفة غير مكلف بالشرائع؛ فيجوز قتله في تلك الشريعة، وإما أن لا يكون مكلفًا [أصلًا] (2)؛ فقُتِل لئلا يفتن أبويه عن دينهما، كما يُقتل الصبي الكافر في ديننا إذا لم يندفع ضرره عن المسلمين إلا بالقتل، [بل الصبي الذي يقاتل المسلمين يقتل، فقتل الصبي الكافر يجوز لدفع صياله الذي لا يندفع إلا بالقتل] (3).
وأما قتلُ صبي لم يكفر بعد، بين أبوين مؤمنين؛ للعلم بأنه إذا بلغ كفَرَ وفَتَن أبويه؛ فقد يُقال: ليس في القرآن ولا في السنة ما يدل عليه.
وأيضًا فإن الله لم يأمر أن يُعاقَب أحدٌ بما يُعلم أنه يكون منه قبل أن يكون منه، ولا هو سبحانه يُعاقِب العباد على ما يَعلم أنهم سيفعلونه حتى يفعلوه.
_________
(1) «صحيح» من «درء التعارض».
(2) «أصلًا» من «ت».
(3) من قوله: «بل الصبي» إلى هنا مستدرك من «ت»، ونحوه في «درء التعارض».
(2/432)
________________________________________
وقائل هذا القول يقول: إنه ليس في قصة الخضر شيء من الاطلاع على الغيب الذي لا يعلمه عموم الناس، وإنما فيها عِلْمه بأسباب لم يكن عَلِم بها موسى، مثل عِلْمه بأنّ السفينة لمساكين يعملون، ووراءهم ملك ظالم، وهذا أمر يعلمه غيره. وكذلك كون الجدار كان لغلامين يتيمين، وأنّ أباهما كان رجلًا صالحًا، وأنّ تحته كنزًا لهما؛ مما يمكن أن يعلمه كثيرٌ من الناس. وكذلك كُفْر الصبي مما يمكن أنه كان يعلمه كثير من الناس حتى أبواه، لكن لمحبتهما له لا ينكران عليه، أو لا يقبل منهما.
فإن كان الأمر على ذلك؛ فليس في الآية حُجّة على قولهم أصلًا.
وإن [كان] (1) ذلك الغلام لم يكفر بعد، ولكن سبق في العلم أنه إذا بلغ كَفَر؛ فمن يقول هذا يقول: إنّ قَتْله دفعًا لشره (2)، كما قال نوح: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 26 - 27].
وعلى هذا فلم يكن قبل قيام الكفر به كافرًا.
وقراءة ابن عباس: «وأما الغلام فكان كافرًا وكان أبواه مؤمنين»؛ ظاهرة أنه كان حينئذٍ كافرًا.
فإن قيل: فهذا الغلام كان أبواه مؤمنين؛ فلو كان مولودًا على فطرة الإسلام ــ وهو بين أبوين مسلمين ــ لكان مسلمًا تبعًا لهما، وبحكم الفطرة، فكيف يُقتَل والحالة هذه؟
_________
(1) «كان» من «ت».
(2) «درء التعارض»: «إنه قُتِل دفعًا لشره».
(2/433)
________________________________________
قيل: إن كان بالغًا فلا إشكال، وإن كان مميِّزًا وقد كفر فيصح كفره وردَّته عند كثيرٌ من العلماء، وإن [كان] (1) لا يُقتَل حتى يبلغ عندهم، فلعل في تلك الشريعة يجوز قتْل المميِّز الكافر، وإن كان صغيرًا غير (2) مميِّز فيكون قتْله خاصًّا به؛ لأن الله أطلع الخضر على أنه لو بلغ لاختار غير دين الأبوين.
وعلى هذا يدل قول ابن عباس لنجدة ــ وقد سأله عن قَتْل صبيان الكفار فقال ــ: «إن علمتَ فيهم ما علمه الخضر من الغلام فاقتلهم» (3).
فإن قيل: إذا كان مولودًا على الفطرة وأبواه مؤمنين؛ فمن أين جاءه الكفر؟
قيل: إنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك على الغالب، وإلا فالكفر قد يأتيه من قبل غير أبويه، فهذا الغلام إن كان كافرًا في الحال فقد جاءه الكفر من غير جهة أبويه، وإن كان المراد أنه إذا بلغ سيكفر باختياره فلا إشكال.
فصل (4)
وأما تفسير قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فأبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه ويُمَجِّسانه» أنه أراد به مجرّد الإلحاق في أحكام الدنيا دون أن يكون أراد أنهما يغيّران الفطرة= فهذا خلاف ما يدلّ عليه الحديث؛ فإنه شَبّه تكفير الأطفال بجَدْع البهائم تشبيهًا للتغيير بالتغيير.
_________
(1) «كان» من «ت».
(2) «د»: «وإن كان غير صغيرا غير»، والمثبت من «ت».
(3) أخرجه مسلم (1812).
(4) انظر: «درء التعارض» (8/ 430 - 432).
(2/434)
________________________________________
وأيضًا فإنه ذكر هذا الحديث لمّا قتلوا (1) أولاد المشركين فنهاهم عن قتلهم، وقال: «أليس خياركم أولاد المشركين؟ كل مولود يولد على الفطرة»، فلو أراد أنه تابعٌ لأبويه في الدنيا لكان هذا حجة له، يقولون: هم كفار كآبائهم؛ [فنقْتُلُهم كآبائهم] (2).
وكون الصغير يتبع أبواه (3) في أحكام الدنيا هو لضرورة بقائه في الدنيا؛ فإنه لابدّ له من مربٍّ يربيه، وإنما يربيه أبواه، فكان تابعًا لهما ضرورة.
ولهذا مَن سُبِي منفردًا عنهما صار تابعًا لسابِيهِ عند جمهور العلماء، كأبي حنيفة والشافعي وأحمد والأوزاعي وغيرهم؛ لكونه هو الذي يربّيه.
وإذا سُبِي منفردًا عن أحدهما أو معهما ففيه نزاع بين العلماء.
واحتجاج الفقهاء كأحمد وغيره بهذا الحديث على أنه متى سُبِي منفردًا عن أبويه يصير مسلمًا؛ لا (4) يستلزم أن يكون المراد بتكفير الأبوين (5) مجرد لحاقه بهما (6) في الدين، ولكن وجه الحجة أنه إذا وُلِد على الملّة فإنما ينقله عنها الأبوان اللذان يغيرانه عن (7) الفطرة، فمتى سباه المسلمون منفردًا
_________
(1) «د»: «قتل»، والمثبت من «درء التعارض».
(2) «فنقتلهم كآبائهم» من «ت».
(3) كذا في «د»: «أبواه»، والجادة فيه النصب على المفعول: «أبويه»، ووقع في مصدر المؤلف: «أباه».
(4) «د»: «إذ»، والصواب من «درء التعارض».
(5) «د»: «الأبوين لهما» بزيادة «لهما» ولا معنى لها، وليست في مصدر المؤلف.
(6) «د»: «لهما» تحريف، والتصحيح من «درء التعارض».
(7) «د»: «على»، والتصحيح من المصدر.
(2/435)
________________________________________
عنهما لم يكن هناك من يغير دينه، وهو مولود على الملة الحنيفية فيصير مسلمًا بالمُقْتضِي السالم عن المعارض.
ولو كان الأبوان يجعلانه كافرًا في نفس الأمر بدون تعليم وتلقين لكان الصبي المَسْبِي بمنزلة البالغ الكافر، ومعلوم أن البالغ الكافر إذا سباه المسلمون لم يصر مسلمًا؛ لأنه صار كافرًا حقيقة، فلو كان الصبي التابع لأبويه كافرًا حقيقة لم ينتقل عن الكفر بالسّباء، فعُلِم أنه كان يجري عليه حكم الكفر في الدنيا تبعًا لأبويه، لا لأنه صار كافرًا في نفس الأمر.
يبين ذلك: أنه لو سباه كفار ولم يكن معه أبواه لم يصر مسلمًا، فهو هنا كافر في حكم الدنيا، وإن لم يكن أبواه هوّداه ونصّراه.
فعُلِم أن المراد بالحديث: أنّ الأبوين يلقّنانه (1) الكفر ويعلمانه إياه.
وذَكَر النبي - صلى الله عليه وسلم - الأبوين لأنهما الأصل العام الغالب في تربية الأطفال؛ فإن كل طفل فلا بدّ له من أبوين، وهما اللذان يربيانه مع بقائهما وقدرتهما.
ومما يبين ذلك: قوله في الحديث الآخر: «كل مولود يولد على الفطرة حتى يُعْرِب عنه لسانه: فإما شاكرًا وإما كفورًا» (2)، فجعله على الفطرة إلى أن يعقل ويميز، فحينئذ يتبين له أحد الأمرين، ولو كان كافرًا في الباطن بكفر
_________
(1) «د»: «يلقناه» خطأ، والصواب من «درء التعارض».
(2) أخرجه أحمد (14805)، واللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (999) من حديث الحسن عن جابر به، وفي إسناده مقال، الحسن لم يسمع من جابر كما في «المراسيل» (36)، وفيه أيضًا أبو جعفر الرازي ليّن الحديث، انظر: «تهذيب الكمال» (30/ 199).
ويشهد لأوله حديث أبي هريرة المتقدم في الصحيح.
(2/436)
________________________________________
الأبوين لكان ذلك من حين يولد قبل أن يُعْرِب عنه لسانه.
وكذلك قوله في الحديث الصحيح: «إني خلقتُ عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وحرّمتْ عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا» (1)؛ صريح في أنهم خُلِقوا على الحنيفية، وأن الشياطين اجتالتهم، وحرّمتْ عليهم الحلال، وأمرَتْهم بالشرك.
فلو كان الطفل يصير كافرًا في نفس الأمر من حين يولد؛ لكونه يتبع أبويه في الدين قبل أن يعلّمه أحدٌ الكفرَ ويلقّنه إياه= لم يكن الشياطين هم الذين غَيّروهم عن الحنيفية، وأمروهم بالشرك.
فصل (2)
ومنشأ الاشتباه في هذه المسألة اشتباه أحكام الكفر في الدنيا بأحكام الكفر في الآخرة؛ فإن أولاد الكفار لمَّا كان يجري عليهم أحكام الكفر في الدنيا، مثل ثبوت الولاية عليهم لآبائهم، وحضانتهم لهم، وتمكينهم من تعليمهم وتأديبهم، والموارثة بينهم وبينهم، واسترقاقهم وغير ذلك= صار يظن من يظن أنهم كفار في نفس الأمر، كالذي تكلم بالكفر وعمل به.
ومن ههنا قال محمد بن الحسن: إن هذا الحديث ــ وهو قوله: «كل مولود يولد على الفطرة» ــ كان قبل أن تنزل الأحكام.
فإذا عُرِف أنّ كونهم وُلِدوا على الفطرة لا ينافي أن يكونوا تبعًا لآبائهم في أحكام الدنيا زالت الشبهة.
_________
(1) تقدم تخريجه (2/ 65).
(2) «درء التعارض» (8/ 432).
(2/437)
________________________________________
وقد يكون في بلاد الكفر من هو مؤمن يكتم إيمانه، ولا يعلم المسلمون حاله، فلا يُغسَّل ولا يُصلَّى عليه، ويُدفن مع المشركين، وهو في الآخرة من أهل الجنة، كما أن المنافقين في الدنيا تجري عليهم أحكام المسلمين، وهم في الدرك الأسفل من النار، فحكم الدار الآخرة غير حكم الدار الدنيا.
وقوله: «كل مولود يولد على الفطرة» إنما أراد به الإخبار بالحقيقة التي خُلِقوا عليها، وعليها (1) الثواب والعقاب في الآخرة إذا عملوا بموجَبها، وسلمت عن المعارِض، ولم يرد به الإخبار بأحكام الدنيا؛ فإنه قد عُلِم بالاضطرار من شَرْع الرسول أنّ أولاد الكفار تبعٌ لآبائهم في أحكام الدنيا، وأنّ أولادهم لا يُنْزَعون منهم إذا كانوا ذمّة، فإن كانوا محاربين استُرِقّوا، ولم يتنازع المسلمون في ذلك.
لكن تنازعوا في الطفل إذا مات أبواه أو أحدهما، هل يُحْكَم بإسلامه؟
وعن أحمد في ذلك ثلاث روايات:
إحداهن: يُحكم بإسلامه بموت الأبوين أو أحدهما؛ لقوله: «فأبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه»، وهذا ليس معه أبواه، وهو على الفطرة وهي الإسلام لِمَا تقدم؛ فيكون مسلمًا.
والثانية: لا يُحكم بإسلامه بذلك، وهذا قول الجمهور.
قال شيخنا (2): وهذا القول هو الصواب، بل هو إجماع قديم من السلف والخلف، بل هو ثابت بالسنة التي لا ريب فيها.
_________
(1) «د»: «وعلى»، والتصويب من مصدر النقل.
(2) «درء التعارض» (8/ 434).
(2/438)
________________________________________
فقد عُلِم أن أهل الذمة كانوا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، ووادي القرى، وخيبر، ونجران، واليمن، وغير ذلك، وكان فيهم من يموت وله ولد صغير، ولم يحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسلام [يتامى] (1) أهل الذمة ولا خلفاؤه.
وأهل الذمة كانوا في زمانهم طَبَقَ الأرض بالشام، ومصر، والعراق وخراسان، وفيهم من يتاماهم عدد كثير، ولم يحكموا بإسلام واحد منهم؛ فإنّ عَقْد الذمّة اقتضى أن يتولّى بعضهم بعضًا، فهم يتولّون حضانة يتاماهم، كما كان الأبوان يتولون تربيتهم.
وأحمد يقول: إن الذمّي إذا مات ورثه ابنه الطفل، مع قوله في إحدى الروايات: إنه يصير مسلمًا؛ لأن أهل الذمّة ما زال أولادهم يرثونهم؛ لأن الإسلام حصل مع استحقاق الإرث، لم يحصل قبله، ونَصّ على أنه إذا مات الذمّي عن حَمْل منه لم يرثه؛ للحكم بإسلامه قبل وضعه، وكذلك لو كان الحمل من غيره، كما إذا مات وخلّف امرأة ابنه أو أخيه حاملًا فأسلمت أمه قبل وضعه؛ لم يرثه؛ لأنا حكمنا بإسلامه من حين أسلمت أمه، وكذلك هناك حكمنا بإسلامه من حين مات أبوه.
وقد وافق الإمام أحمد الجمهورَ على أن الطفل إذا مات أبواه في دار الحرب لا يُحكم بإسلامه، ولو كان موت الأبوين يجعله مسلمًا بحكم الفطرة الأولى لم يفترق الحال بين دار الحرب ودار الإسلام؛ لوجود المقتضِي للإسلام وهو الفطرة، وعدم المانع وهو الأبوان.
وقد التزم بعض أصحابه الحكمَ بإسلامه، وهو باطل قطعًا؛ إذ من
_________
(1) زيادة لازمة لإقامة المعنى من مصدر القول.
(2/439)
________________________________________
المعلوم بالضرورة أن أهل الحرب فيهم من بلغ يتيمًا كغيره، وأحكام الكفار المحاربين جارية عليهم.
والرواية الثالثة: إنْ كفله أهل دينه فهو باقٍ في دين أبويه، وإنْ كفله المسلمون فهو مسلم، نَصّ عليه في رواية يعقوب بن بختان، كما ذكره الخلّال في «جامعه» (1) عنه قال: سئل أبو عبد الله عن جارية نصرانية لقوم، فولدت عندهم، ثم ماتت، ما يكون الولد؟
قال: إذا كفله المسلمون ولم يكن له مَن يكفله إلا هم فهم مسلمون (2).
قيل له: فإن مات بعد الأم بقليل؟
قال: يدفنه المسلمون.
وقال في رواية أبي الحارث في جارية نصرانية لرجل مسلم، لها زوج نصراني، فولدت عنده، وماتت عند المسلم، وبقي ولدها عنده، ما يكون حكم هذا الصبي؟
قال: إذا كفله المسلمون فهو مسلم.
وهذه الرواية وإن لم يذكرها عامة الأصحاب، وهي من «جامع الخلال»؛ فهي أصح الأقوال في هذه المسألة دليلًا، وهي التي نختارها، وبها تجتمع الأدلة.
_________
(1) «أحكام أهل الملل من الجامع» (27).
(2) كذا في «د» على الجمع، والأشبه بالسياق الإفراد: «فهو مسلم»، وكذلك هو في كتاب الخلال، و «أحكام أهل الذمة» (2/ 943).
(2/440)
________________________________________
فإن الطفل يتبع مالكه وسابِيهِ، فكذلك يتبع كافله وحاضنه؛ فإنه لا يستقل بنفسه، بل لا بدّ له ممن يتبعه ويكون معه، فتبعيّته لحاضنه وكافله أولى من جعله كافرًا بكون أبويه كافرين، وقد انقطعت تبعيّته لهما. بخلاف ما إذا كفله أهل دين الأبوين فإنهم يقومون مقامهما، ولا أثر لفقد الأبوين إذا كفله جده وجدته أو غيرهما من أقاربه.
فهذا القول أرجح في النظر، والله أعلم.
وليس المقصود ذكر هذه المسائل وما يصير به الطفل مسلمًا، فإنا قد استوفيناها في كتابنا في «أحكام أهل الملل» بأدلتها واختلاف العلماء من السلف والخلف فيها، وذِكْر مآخذهم، وإنما المقصود ذِكْر الفطرة، وأنها هي الحنيفية، وأنها لا تنافي القدر السابق بالشقاوة، والله أعلم.
فصل (1)
قال أبو عمر (2): وقال آخرون في معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كل مولود يولد على الفطرة» لم يرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذكر الفطرة ههنا كفرًا ولا إيمانًا ولا معرفة ولا إنكارًا، وإنما أراد أنّ كل مولود يولد على السلامة خِلْقة وطَبْعًا وبِنْية ليس معها كفر ولا إيمان، ولا معرفة ولا إنكار، ثم يعتقد الكفر أو الإيمان بعد البلوغ إذا ميّز.
واحتجوا بقوله في الحديث: «كما تُنْتَج البهيمة بهيمة جَمْعاء» يعني: سالمة «هل تحسّون فيها من جَدْعاء» يعني: مقطوعة الأذن، فمَثَّل قلوب بني
_________
(1) انظر: «درء التعارض» (8/ 442).
(2) «التمهيد» (18/ 69)، «الاستذكار» (3/ 101).
(2/441)
________________________________________
آدم بالبهائم؛ لأنها تولد كاملة الخلق لا يتبين فيها نقصان، ثم تقطع آذانها بعد وأنوفها، فيقال: هذه السوائب وهذه البحائر.
يقول: كذلك قلوب الأطفال في حين ولادتهم، ليس لهم حينئذ كفر ولا إيمان، ولا معرفة ولا إنكار، كالبهائم السالمة، فلما بلغوا استهوتهم الشياطين، فكفر أكثرهم، وعصم الله أقلهم.
قالوا: ولو كان الأطفال قد فُطِروا على شيء من الكفر والإيمان في أوليّة أمرهم؛ ما انتقلوا عنه أبدًا، فقد نجدهم يؤمنون، ثم يكفرون، ثم يؤمنون.
قالوا: ويستحيل في العقول أن يكون الطفل في حال ولادته يعقل كفرًا أو إيمانًا؛ لأن الله أخرجهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئًا، فمن لم يعلم شيئًا استحال منه كفر أو إيمان أو معرفة أو إنكار.
قال أبو عمر: هذا القول أصحّ ما قيل في معنى الفطرة التي يولد الوِلْدان عليها.
وذلك أن الفطرة: السلامة والاستقامة، بدليل قوله تعالى في حديث عياض بن حمار: «إني خلقتُ عبادي حنفاء»، يعني: على استقامة وسلامة. وكأنه ــ والله أعلم ــ أراد الذين خلصوا من الآفات كلها، والمعاصي والطاعات، فلا طاعة منهم ولا معصية إذا لم يعملوا بواحدة منهما
ومن الحجة أيضًا في هذا قول الله تعالى: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التحريم: 7]، و {أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ} [المدثر: 38]، ومن لم يبلغ وقت العمل لم يرتهن بشيء، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
(2/442)
________________________________________
قال شيخنا (1): هذا القائل إن أراد بهذا القول: أنهم خُلِقوا خاليين من المعرفة والإنكار، من غير أن تكون الفطرة تقتضي واحدًا منهما، بل يكون القلب كاللوح الذي يقبل كتابة الإيمان والكفر، وليس هو لأحدهما أقبل منه للآخر، وهذا هو الذي يُشْعِر به ظاهر الكلام= فهذا قول فاسد؛ لأنه حينئذ لا فرق بالنسبة إلى الفطرة بين المعرفة والإنكار، والتهويد والتنصير والإسلام، وإنما ذلك بحسب الأسباب.
فكان ينبغي أن يقال: فأبواه يسلّمانه و يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه ويُمَجِّسانه، فلما ذكر أن أبويه يكفّرانه، وذكر الملل الفاسدة دون الإسلام؛ عُلِم أن حكمه في حصول ذلك بسبب منفصل غير حكم الكفر.
وأيضًا: فإنه على هذا التقدير لا يكون في القلب سلامة ولا عَطَب ولا استقامة ولا زيغ؛ إذ نسبته إلى كل منهما نسبة واحدة، وليس هو بأحدهما بأولى منه بالآخر، كما أن اللوح قبل الكتابة لا يثبت له حكم مدح ولا ذم، فما كان قابلًا للممدوح والمذموم على السواء لم يستحق مدحًا ولا ذمًّا.
والله تعالى يقول: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]، فأمَرَه بلزوم فطرته التي فَطَر الناس عليها، فكيف لا تكون ممدوحة؟!
وأيضًا: فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - شبّهها بالبهيمة المُجْتَمِعة الخَلْق، وشبَّه ما طرأ عليها من الكفر بجَدْع الأنف والأذن، ومعلوم أن كمالهما محمود، ونقصهما مذموم، فكيف تكون قبل النقص لا محمودة ولا مذمومة؟!
_________
(1) «درء التعارض» (8/ 444 - 445).
(2/443)
________________________________________
فصل (1)
وإن كان المراد بهذا القول ما قاله طائفة من العلماء: إن المراد أنهم وُلِدوا على الفطرة السليمة، التي لو تُرِكت مع صحتها لاختارت المعرفة على الإنكار، والإيمان على الكفر، ولكن بما عَرَض لها من الفساد خرجت عن هذه الفطرة= فهذا القول قد يقال: لا يَرِدُ عليه ما يَرِدُ على القول الذي قبله؛ فإن صاحبه يقول: في الفطرة قوة تميل بها إلى المعرفة والإيمان، كما في البدن السليم قوة يحب بها (2) الأغذية النافعة، وبهذا كانت محمودة، وذُمّ من أفسدها.
لكن يقال: فهذه الفطرة التي فيها هذه القوة والقبول والاستعداد والصلاحية: هل هي كافية في حصول المعرفة، أو تقف المعرفة على أدلة من خارج؟
فإن كانت المعرفة تقف على أدلة من خارج أمكن أن توجد تارة وتعدم أخرى. ثم ذلك السبب الخارج يمتنع أن يكون موجِبًا للمعرفة بنفسه، بل غايته أن يكون مُعَرِّفًا ومُذَكِّرًا، فعند ذلك إن وجب حصول المعرفة كانت واجبة الحصول عند وجود تلك الأسباب، وإلا فلا.
وحينئذ فلا يكون فيها إلا قبول المعرفة والإيمان، وحينئذ فلا فرق فيها بين الإيمان والكفر، والمعرفة والإنكار، إنما فيها قوة قابلة لكل منهما واستعداد له، لكن يتوقف على المؤثِّر الفاعل من خارج، وهذا هو القسم
_________
(1) انظر: «درء التعارض» (8/ 445 - 450).
(2) «د»: «بها إلى».
(2/444)
________________________________________
الأول الذي أبطلناه، وبيّنا أنه ليس في ذلك مَدْحٌ للفطرة.
وأما إن كان فيها قوة تقتضي المعرفة بنفسها ــ وإن لم يوجد مَن يعلّمها أدلةَ المعرفة ــ[لزم حصول المعرفة] (1) فيها بدون ما تسمعه من الأدلة، سواء قيل: إن المعرفة ضرورية فيها، أو قيل: إنها تحصل بأسباب تنتظم في النفس.
وإن لم تَسْمَعْ كلام مُستدِل فإن النفس قد يقوم بها من النظر والاستدلال ما لا يحتاج (2) معه إلى كلام الناس، فإن كان كل مولود يولد على هذه الفطرة لزم أن يكون المقتضِي للمعرفة حاصلًا لكل مولود، وهو المطلوب، والمقتضِي التام يستلزم مقتضاه، فتبين أنّ أحد الأمرين لازم: إما كون الفطرة مستلزمة للمعرفة، وإما استواء الأمرين بالنسبة إليها، وذلك ينفي مدحها.
وتلخيص ذلك أن يقال: المعرفة والإيمان بالنسبة إليها ممكن بلا ريب: فإما أن تكون هي موجِبة مستلزمة لذلك، وإما أن لا تكون مستلزمة له، فلا يكون واجبًا لها، فإن كان الثاني لم يكن فرق بين الكفر والإيمان بالنسبة إليها، أو كلاهما ممكن لها، فثبت أن المعرفة لازمة لها، إلا أن يعارضها معارض.
فإن قيل: ليست موجِبة مستلزمة للمعرفة، ولكن هي إليها أَمْيل، مع قبولها للنَّكَرة.
قيل: فحينئذ إذا لم تستلزم المعرفة؛ وُجِدت (3) تارة، وعُدِمت تارة،
_________
(1) «لزم حصول المعرفة» من «ت»، و «درء التعارض».
(2) «د»: «ما يحتاج» مفسد للمعنى، والتصويب من مصدر النقل.
(3) «درء التعارض» (8/ 447): «وجبت».
(2/445)
________________________________________
وهي وحدها لا تحصّلها، فلا تحصل إلا بشخص آخر كالأبوين، فيكون الإسلام والتهويد والتنصير والتَّمْجِيس.
ومعلوم أن هذه أنواعٌ بعضها أبعد عن الفطرة من بعض، كالتَّمْجِيس، فإن لم تكن الفطرة مقتضية للإسلام صار نسبتها إلى ذلك كنسبة التهويد والتنصير إلى التَّمْجِيس، فوجب أن يذكر كما ذكر ذلك.
ويكون هذا ككون (1) الفطرة لا تقتضي الرضاع إلا بسبب منفصل، وليس كذلك، بل الطفل يختار مصّ اللبن بنفسه، فإذا مُكِّن من الثدي وجدت الرضاعة لا محالة، فارتضاعه ضروري إذا لم يوجد معارض، وهو مولود على أن يرضع، فكذلك هو مولود على أن يعرف الله، والمعرفة ضرورية لا محالة إذا لم يوجد معارض.
وأيضًا فإن حُبَّ النفس لله وخضوعها له وإخلاصها له، مع الكفر به والشرك والإعراض عنه ونسيان ذكره: إما أن يكون نسبتهما إلى الفطرة سواء، أو الفطرة مقتضية للأول دون الثاني؟
فإن كانا سواء لزم انتفاء المدح كما تقدم، ولم (2) يكن فرق بين دعائها إلى الكفر ودعائها إلى الإيمان، ويكون تَمْجِيسها كتحنيفها، وقد عُرِف بطلان هذا.
وإن كان فيها مقتضٍ لهذا: فإما أن يكون المقتضِي مستلزمًا لمقتضاه عند عدم المعارض، وإما أن يكون متوقّفًا على شخص خارج عنها. فإن كان
_________
(1) «د»: «كمكون»، والصواب المثبت.
(2) «د»: «وإن لم»، والتصويب من مصدر القول.
(2/446)
________________________________________
الأول ثبت [أن] (1) ذلك من لوازمها، وأنها مفطورة عليه، لا يُفْقَد إلا إذا فسدت الفطرة، وإن قُدِّر أنه متوقّف على شخص فذلك الشخص هو الذي يجعلها حنيفية كما يجعلها مجوسية. وحينئذ فلا فرق بين هذا وهذا.
وإذا قيل: هي إلى الحنيفية أميل، كان كما يقال: هي إلى غيرها أميل، فتبيّن أن فيها قوة موجِبة لحب (2) الله، والذلّ له، وإخلاص الدين له، وأنها موجِبة لمقتضاها إذا سلمت من المعارض، كما أن فيها قوة تقتضي شرب اللبن الذي فُطِرت على محبته وطلبه.
ومما يبين هذا: أنّ كل حركة إرادية فإن الموجِب لها قوة في المريد، فإذا أمكن في الإنسان أن يحب الله ويعبده ويخلص له الدين؛ كان فيه قوة تقتضي ذلك، إذ الأفعال الإرادية لا يكون سببها إلا من نفس الحيّ المريد الفاعل، ولا يشترط في إرادته إلا مجرّد الشعور بالمراد، فما في النفوس من قوة المحبة له إذا شَعَرت به تقتضي حبّه إذا لم يحصل معارض، وهذا موجود في محبة الأطعمة والأشربة والنكاح والعلم وغيرها.
وقد ثبت أن في النفس قوة المحبة لله والإخلاص والذل والخضوع، وأن فيها قوة الشعور به، فيلزم قطعًا وجود المحبة له والتعظيم والخضوع بالفعل؛ لوجود المقتضِي، إذا سلم عن المعارض.
وتبين أن المعرفة والمحبة لا يشترط فيهما وجود شخص منفصل، وإن كان وجوده قد يذكِّر ويحرِّك، كما لو خوطب الجائع أو الظمآن بوصف
_________
(1) «أن» من «ت».
(2) «د»: «تحب» مهملة، والتصحيح من «درء التعارض» (8/ 449).
(2/447)
________________________________________
طعام، أو خوطب المُغْتَلِم بوصف النساء؛ فإن هذا مما يذكّره ويحرّكه ويثير شهوته الكامنة بالقوة في نفسه، لا أنه يُحْدِث له نفس تلك الإرادة والشهوة بعد أن لم تكن فيه، فيجعلها موجودة بعد أن كانت عدمًا.
فكذلك الأسباب الخارجة عن الفطرة، لا يتوقف عليها وجود ما في الفطرة من الشعور بالخالق ومحبته وتعظيمه والخضوع له، وإن كان ذلك مذكّرًا ومحرّكًا ومنبّهًا، ومزيلًا للعارض المانع.
ولذلك سَمّى الله سبحانه ما كمَّل به موجبات الفطرة: تذكيرًا وذكرى، وجعل رسوله مذكّرًا، فقال: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية: 21]، وقال: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى: 9]، وقال: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ} [غافر: 13]، وقال: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو} [الزمر: 9]، وقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37]، وقال: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17]، وقال: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الدخان: 58].
وهذا كثير في القرآن، يخبر أنّ كتابه ورسوله مذكِّر لهم بما هو مركوز في فِطَرهم من معرفته ومحبته وتعظيمه وإجلاله والخضوع له والإخلاص له، ومحبة شرعه الذي هو العدل المحض، وإيثاره على ما سواه.
فالفِطَر مركوز فيها معرفته ومحبته والإخلاص له، والإقرار بشرعه، وإيثاره على غيره، فهي تعرف ذلك وتشعر به مجملًا ومفصّلًا بعض التفصيل، فجاءت الرسل تذكّرها بذلك، وتنبّهها عليه، وتفصّله لها وتبيّنه، وتعرّفها الأسباب المعارضة لموجِب الفطرة، المانعة من اقتضائها أثرها.
(2/448)
________________________________________
وهكذا شأن الشرائع التي جاءت بها الرسل، فإنها أَمْر بمعروف، ونَهْي عن منكر، وإباحة طيّب، وتحريم خبيث، وأَمْر بعدل، ونَهْي عن ظلم. وهذا كله مركوز في الفطرة، وكمال تفصيله وتبيينه موقوف على الرسل.
وهكذا باب التوحيد وإثبات الصفات، فإن في الفطرة الإقرار بالكمال المطلق الذي لا نقص فيه للخالق سبحانه، ولكن معرفة هذا الكمال على التفصيل مما يتوقف على الرسل، وكذلك تنزيهه عن النقائص والعيوب هو أمر مستقرّ في فِطَر الخلائق، خلافًا لمن قال من المتكلمين: إنه لم يقم دليل عقلي على تنزيهه عن النقائص، وإنما عُلِم بالإجماع.
فقُبْحًا لهاتيك العقول فإنها ... عقال على أصحابها ووبالُ (1)
فليس في العقول أبين ولا أجلى من معرفتها بكمال خالق هذا العالم، وتنزيهه عن العيوب والنقائص، وجاءت الرسل بالتذكرة بهذه المعرفة وتفصيلها.
وكذلك في الفِطَر الإقرار بسعادة النفوس البشرية وشقاوتها، وجزائها بكسبها في غير هذه الدار، وأما تفصيل ذلك الجزاء والسعادة والشقاوة فلا يُعلم إلا بالرسل.
وكذلك فيها معرفة العدل ومحبته وإيثاره، وأما تفاصيل العدل الذي هو شرع الربّ تعالى فلا يُعلم إلا بالرسل.
فالرسل تذكّر بما في الفِطَر، وتفصّله وتبيّنه.
_________
(1) لم أقف عليه في مصدر آخر.
(2/449)
________________________________________
ولهذا كان العقل الصريح موافقًا للنقل الصحيح، والشِّرْعة مطابقة للفطرة، تتصادقان ولا تتعارضان، خلافًا لمن قال: إذا تعارض العقل والوحي قدّمنا العقل على الوحي.
فقُبْحًا (1) لعقل يَنقضُ الوحيَ حكمُهُ ... ويشهد حقًّا أنه هو كاذبُ (2)
والمقصود أنّ الله فطر عباده على فطرة فيها الإقرار به ومحبته والإخلاص له، والإنابة إليه، وإجلاله وتعظيمه، وأنّ الشخص الخارج عنها لا يُحْدِث فيها ذلك، ويجعله فيها بعد أن لم يكن، وإنما يذكّرها بما فيها، وينبّهها عليه، ويحرّكها له، ويفصّله لها ويبيّنه، ويعرّفها الأسباب المقوّية، والأسباب المعارضة له، والمانعة من كماله، كما أنّ الشخص الخارج لا يجعل في الفطرة شهوة اللبن عند الرضاع، والأكل والشرب والنكاح، وإنما يذكّر النفس ويحرّكها لما هو مركوز فيها بالقوة.
فصل (3)
ومما يبين ذلك: أنّ الإقرار بالصانع مع خلو القلب عن محبته والخضوع له وإخلاص الدين له؛ لا يكون نافعًا، بل الإقرار به مع الإعراض عنه وعن محبته وتعظيمه والخضوع له؛ أعظم استحقاقًا للعذاب، فلا بدّ أن يكون في الفطرة مقتضٍ للعلم، ومقتضٍ للمحبة، والمحبة مشروطة بالعلم؛ فإن ما لا يشعر به الإنسان لا يحبّه، والحب للمحبوبات لا يكون بسبب من
_________
(1) «د»: «قبيحا»، والتصويب من «ت».
(2) لم أقف عليه في مصدر آخر.
(3) انظر: «درء التعارض» (8/ 450 - 451).
(2/450)
________________________________________
خارج، بل هو جِبلّي فطري، فإذا كانت المحبة جِبلّية فطرية فشَرْطها ــ وهو المعرفة ــ أيضًا جِبلّي فطري، فلا بُدَّ أن يكون في الفطرة محبة الخالق مع الإقرار به.
وهذا أصل الحنيفية التي خلق الله خلقه عليها، وفطرته [التي] (1) فطرهم عليها.
فعُلم أن الحنيفية من موجِبات الفطرة ومقتضياتها، والحب لله والخضوع له والإخلاص هو أصل أعمال الحنيفية، وذلك مستلزم للإقرار والمعرفة، ولازم اللازم لازم، وملزوم الملزوم ملزوم، فالفطرة ملزومة لهذه الأحوال، وهذه الأحوال لازمة لها.
فصل (2)
فقد تبين دلالة الكتاب والسنة والآثار واتفاق السلف على أنّ الخلق مفطورون على دين الله، الذي هو معرفته والإقرار به ومحبته والخضوع له، وأن ذلك موجِب فطرتهم ومقتضاها، يجب حصوله فيها إن لم يحصل ما يعارضه، ويقتضي حصول ضده، وأن حصول ذلك فيها لا يقف على وجود شرط، بل على انتفاء المانع، فإذا لم يوجد فهو لوجود منافيه لا لعدم مقتضيه.
ولهذا لم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - لوجود الفطرة شرطًا، بل ذكر ما يمنع موجِبها، حيث قال: «فأبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه ويُمَجِّسانه»، فحصول هذا التهويد
_________
(1) زيادة يقتضيها السياق.
(2) انظر: «درء التعارض» (8/ 454).
(2/451)
________________________________________
والتنصير موقوف على أسباب خارجة عن الفطرة، وحصول الحنيفية والإخلاص ومعرفة الربّ والخضوع له لا يتوقّف أصله على غير الفطرة، وإن توقّف كماله وتفصيله على غيرها، وبالله التوفيق.
فصل (1)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى: «إني خلقتُ عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين، وحرّمتْ عليهم ما أحللتُ لهم» (2)، يتضمن أصلين عظيمين مقصودين لأنفسهما، ووسيلة تعين عليهما:
أحدهما: عبادته وحده لا شريك له.
والثاني: [أنه] (3) إنما يُعبد بما شرعه وأحبَّه وأمر به.
وهذان الأصلان هما المقصود الذي خُلِق له الخلق، وضدهما الشرك والبدع، فالمشرك يعبد مع الله غيره، وصاحب البدعة يتقرّب إلى الله بما لم يأمر به ولم يشرعه ولا أحبه.
وجعل سبحانه حِلّ الطيبات مما يُستعان به على ذلك، ويُتَوسّل به إليه.
فمدار الدين على هذين الأصلين وهذه الوسيلة.
فأخبر سبحانه أن الشياطين اقتطعت عباده عن هذا المقصود، وعن هذه الوسيلة؛ فأمرتهم أن يشركوا به ما لم ينزل به سلطانًا، وهذا يتناول الإشراك
_________
(1) انظر: «درء التعارض» (8/ 455 - 456).
(2) تقدم تخريجه (2/ 65).
(3) «أنه» من «ت».
(2/452)
________________________________________
بالمعبود الحق، بأن يُعبد معه غيره، والإشراك بعبادته الحقّة (1)، بأن يُعبد بغير شرعه.
وكثيرًا ما يجتمع الشركان: فيَعبد المشركُ معه غيره بعبادة لم يشرع سبحانه أن يتعبّد له بها، وقد ينفرد أحد المشركين فيشرك به غيره في نفس العبادة التي شرعها، أو يعبده وحده بعبادة شركية لم يشرعها، أو يتوسّل إلى عبادته بتحريم ما أحله.
وقد ذمّ الله سبحانه المشركين على هذين النوعين في كتابه في سورة الأنعام والأعراف وغيرهما، يذكر فيها ذمّهم على ما حرموه من المطاعم والملابس، وذمّهم على ما أشركوا به من عبادة غيره، أو على ما ابتدعوه من عبادته بما لم يشرعه.
وفي «المسند» (2): «أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة»، فهي حنيفية في التوحيد وعدم الشرك، سمحة في العمل وعدم الآصار والأغلال، بتحريم كثير من الطيبات الحلال.
فيُعبَد سبحانه بما أحبَّه، ويُستعان على عبادته بما أحلّه، قال تعالى:
_________
(1) «د»: «الحق»، والمثبت أشبه.
(2) برقم (2107)، وأخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (287)، وعبد بن حميد «المنتخب» (569)، من طريق محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس يرفعه، وإسناده ضعيف؛ ابن إسحاق لم يصرح بالسماع، وفي رواية ابن الحصين عن عكرمة شيء، كما في «فتح الباري» لابن رجب (1/ 148).
وللحديث عدة شواهد مسانيد ومراسيل يشد بعضها بعضًا يحسن بها، وقد علقه البخاري جازمًا في «الصحيح» (1/ 16)، وانظر: «تغليق التعليق» (2/ 41).
(2/453)
________________________________________
{يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51].
وهذا هو الذي فطر الله عليه خلقه، وهو محبوب لكل أحد، مستقر سنته (1) في كل فطرة، فإنه يتضمن التوحيد وإخلاص القصد والحب لله وحده، وعبادته وحده بما يحب أن يُعبد به، والأمر بالمعروف الذي تحبّه القلوب، والنهي عن المنكر الذي تبغضه وتنفر منه، وتحليل الطيبات النافعة، وتحريم الخبائث الضارة.
فصل (2)
وهذا [الذي] (3) أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من أن كل مولود يولد على الفطرة الحنيفية هو الذي تقوم الأدلة العقلية على صحته، وأنه كما أخبر به الصادق المصدوق، ومن خالف ذلك فقد غلط، وبيان ذلك من وجوه:
أحدها: أن الإنسان قد يحصل له من الاعتقادات والإرادات ما يكون حقًّا، وقد يحصل له منها ما يكون باطلًا؛ إذ اعتقاداته قد تكون مطابقة لمعتقَدها وهي الحق، والخبر عنها يُسمّى صدقًا، وقد تكون غير مطابقة وهي الباطل، والخبر عنها يُسمّى كذبًا.
والإرادات تنقسم إلى ما تكون نافعة له، متضمّنة لمصلحته، ومرادها هو الخير والحُسْن، وإلى ما هو ضارّة له، مخالفة لمصلحته، ومرادها هو الشر والقبيح.
_________
(1) قراءة محتملة من «د».
(2) انظر: «درء التعارض» (8/ 456 - 464).
(3) زيادة لازمة من مصدر المؤلف.
(2/454)
________________________________________
وإذا كان الإنسان تارة يكون معتقدًا للحق، مريدًا للخير، وتارة يكون معتقدًا للباطل، مريدًا للشر؛ فلا يخلو إما أن تكون نسبة نفسه الناطقة (1) إلى النوعين نسبة واحدة، بحيث لا يكون فيها مرجّحًا لأحدهما على الآخر، أو تكون نفسه مرجّحة لأحد الأمرين على الآخر. فإن كان الأول لزم أن لا يوجد أحد النوعين إلا بمرجّح منفصل عنه، فإذا قُدِّر مرجّحان: أحدهما يرجّح هذا، والآخر يرجّح هذا؛ فإما أن يتكافأ المرجّحان، أو يترجّح أحدهما، فإن تكافآ لزم أن لا يحصل واحد منهما، وهو خلاف المعلوم بالضرورة؛ فإنا نعلم أنه إذا عُرِض على كل أحد أن يعتقد الحق ويصدق، وأن يريد ما ينفعه، وعُرِض عليه أن يعتقد الباطل ويكذب، ويريد ما يضره= مال بفطرته إلى الأول، ونفر عن الثاني، فعُلِم أن [في] (2) فطرة الإنسان قوة تقتضي اعتقاد الحق وإرادة الخير.
وحينئذ ... (3) [فـ] الإقرار بوجود فاطره وخالقه ومعرفته ومحبته والإيمان به وتعظيمه والإخلاص له إما أن يكون من النوع الأول أو الثاني، وكونه من الثاني معلوم الفساد بالضرورة، فتعيّن أن يكون من الأول.
وحينئذ فيجب أن يكون في الفطرة ما يقتضي محبته ومعرفته والإيمان به، والتوسل إليه بمحابّه.
الوجه الثاني: أن عبادته وحده بما يحبه إما أن تكون أكمل للناس علمًا
_________
(1) «د»: «الباطنة» تحريف.
(2) زيادة لإقامة السياق من «درء التعارض» (8/ 458)، وسيأتي ما يعززها في الوجه الرابع.
(3) بياض في «د» بمقدار كلمة، وما بين المعقوفين من مصدر المؤلف.
(2/455)
________________________________________
وقصدًا، أو الإشراك به أكمل، والثاني معلوم الفساد بالضرورة، فتعيّن الأول، وهو أن يكون في الفطرة مقتضٍ يقتضي توحيده وتأليهه (1) وتعظيمه.
الوجه الثالث: أن الحنيفية التي هي دين الله ولا دين له غيرها، إما أن تكون مع غيرها من الأديان متماثلين، أو الحنيفية أرجح، أو تكون مرجوحة، والأول والثالث باطلان قطعًا، فوجب أن يكون في الفطرة مرجّح يرجّح الحنيفية، وامتنع أن تكون نسبتها ونسبة غيرها من الأديان إلى الفطرة سواء.
الوجه الرابع: أنه إذا ثبت أن في الفطرة قوة تقتضي طلب معرفة الحق وإيثاره على ما سواه، وأن ذلك حاصل مركوز فيها من غير تعليم (2) الأبوين ولا غيرهما، بل لو فُرِض أنّ الإنسان تربّى وحده، ثم عقل وميّز لوجد نفسه مائلة إلى ذلك، نافرة عن ضده، كما تجد الصبي عند أول تمييزه يعلم أن الحادث لا بدّ له من مُحْدِث، فهو يلتفت إذا ضُرِب من خلفه؛ لعلمه أن تلك الضربة لا بدّ لها من ضارب، فإذا شعر به بكى حتى يُقتصّ له منه فيسكن= فقد رُكِز في فطرته الإقرار بالصانع وهو التوحيد، ومحبة القصاص وهو العدل.
وإذا ثبت ذلك ثبت أن نفس الفطرة مقتضية لمعرفته سبحانه ومحبته وإجلاله وتعظيمه والخضوع له من غير تعليم ولا دعاء إلى ذلك، وإن لم تكن فطرة كل أحد مستقلة بتحصيل ذلك، بل يحتاج كثير منهم إلى سبب مُعِين للفطرة مقوٍّ لها، وقد بيّنا أن هذا السبب لا يحدث في الفطرة ما لم يكن فيها، بل يعينها ويذكّرها ويقوّيها.
_________
(1) «د»: «تألهه»، والمثبت أشبه بالسياق.
(2) «د»: «تعلم»، والصواب المثبت.
(2/456)
________________________________________
فبعث الله النبيين مبشّرين ومنذرين، يدعون العباد إلى موجَب هذه الفطرة، فإذا لم يحصل مانع يمنع الفطرة من مقتضاها استجابت لدعوة الرسل ولا بدّ، بما فيها من المقتضِي لذلك، كمن دعا جائعًا أو ظمآن إلى طعام وشراب نافع لذيذ، لا تبعة فيه عليه، ولا يكلّفه ثمنه؛ فإنه ما لم يحصل هناك مانع فإنه يجيبه ولا بدّ.
الوجه الخامس: أنا نعلم بالضرورة أن الطفل حين وِلادِه ليس له معرفة بهذا الأمر، ولا عنده إرادة له، ونعلم أنه كلما حصل فيه قوة العلم والإرادة حصل له من معرفته بربه ومحبته له ما يناسب قوة فطرته وضعفها، وهذا كما نشاهد في الأطفال من محبة جلب المنافع ودفع المضار بحسب كمال التمييز وضعفه، فكلاهما أمر حاصل مع النشأة على التدريج شيئًا فشيئًا، إلى أن يصل إلى حدّه الذي ليس في الفطرة استعداد لأكبر منه، لكن قد يتفق لكثير من الفِطَر موانع متنوعة تحول بينها وبين مقتضاها وموجَبها.
الوجه السادس: أنه من المعلوم أن النفوس إذا حصل لها معلّم وداعٍ حصل لها من العلم والإرادة بحسبه، ومن المعلوم أن كل نفس قابلة لمعرفة الحق وإرادة الخير، ومجرّد التعليم لا يوجب تلك القابلية، فلولا أن في النفس قوة تقبل ذلك لم يحصل لها المقبول؛ فإن حصوله في المحل مشروط بقبوله له، وذلك القبول هو كونه مهيّأ له، مستعدًا (1) لحصوله فيه، وقد بينا أنه يمتنع أن يكون نسبة ذلك وضده إلى النفس سواء.
الوجه السابع: أنه من المعلوم مشاركة الإنسان لنوع الحيوان في
_________
(1) «د»: «مستعد».
(2/457)
________________________________________
الإحساس والحركة الإرادية وجنس الشعور، وأن الحيوان البهيم قد يكون أقوى إحساسًا وحياة وشعورًا من الإنسان، وليس بقابل لما الإنسان قابل له من معرفة الحق وإرادته دون غيره، فلولا قوة في الفطرة والنفس الناطقة اختص بها الإنسان دون الحيوان، يقبل بها أن يعرف الحق ويريد الخير؛ لكان هو والحيوان في هذا العدم سواء.
وحينئذ يلزم أحد أمرين كلاهما ممتنع: إما كون الإنسان فاقدًا لهذه المعرفة والإرادة كغيره من الحيوانات، أو تكون حاصلة لها كحصولها للإنسان، فلولا أن في الفطرة والنفس الناطقة قوة تقتضي ذلك لما حصل لها، ولو كان بغير قوة ومقتضٍ منها لأمكن (1) حصوله للجمادات والحيوانات، لكن فاطرها وبارئها خصها بهذه القوة والقابلية، وفطرها عليها.
يوضحه الوجه الثامن: أنه لو كان السبب مجرّد التعليم من غير قوة قابلة لحصل ذلك في الجمادات والحيوانات؛ لأن السبب واحد، ولا قوة هناك يميز بها (2) هذا المحل من غيره، فعُلِم أن حصول ذلك في محل دون محل هو لاختلاف القوابل والاستعدادات.
الوجه التاسع: أن حصول هذه المعرفة والإرادة في العدم المحض محال، فلابدّ من وجود المحل، وحصوله في موجود غير قابل محال، بل لابدّ من قبول المحل، وحصوله من غير مَدَد من الفاعل إلى القابل [محال] (3)، فلو قطع الفاعل إمداده لذلك المحل القابل لم يوجد ذلك
_________
(1) «د»: «لا يمكن» مهملة، وهو خلاف المراد من الجملة، والمثبت أوفق.
(2) تحتمل في «د»: «يهيء بها»، والمثبت من «ت» أصح.
(3) «ت»: «بحال»، وهي ساقطة من «د»، والمثبت أشبه بالسياق.
(2/458)
________________________________________
المقبول، فلابدّ من الإيجاد والإعداد والإمداد، فإذا استحال وجود القبول من غير إيجاد المحل استحال وجوده من غير إعداده وإمداده، والخلّاق العليم سبحانه هو الموجِد المُعِدّ المُمِدّ.
الوجه العاشر: أنه من المعلوم أن النفس لا توجب بنفسها لنفسها حصول العلم والإرادة، بل لابدّ فيها من قوة تقبل بها ذلك، لا تكون هي المعطية لتلك القوة، وتلك القوة لا تتوقف على أخرى، وإلا لزم التسلسل الممتنع أو الدور الممتنع، وكلاهما ممتنع، فهنا ثلاثة أمور:
أحدها: وجود قوة قابلة.
الثاني: أن تلك القوة ليست هي المعطية لها.
الثالث: أن تلك القوة لا تتوقف على قوة أخرى.
فحينئذ لزم أن يكون فاطرها وبارئها قد فطرها على تلك القوة، وأعدّها بها لقبول ما خُلِقت له، وقد عُلِم بالضرورة أن نسبة ذلك إليها وضده ليسا على السواء.
الوجه الحادي عشر: أنا لو فرضنا توقّف هذه المعرفة والمحبة على سبب من خارج، أليس عند حصول ذلك السبب يوجد في الفطرة ترجيح ذلك ومحبته على ضده؟ فهذا الترجيح والمحبة والإيثار أمر مركوز في الفطرة.
الوجه الثاني عشر: أنا لو فرضنا أنه لم يحصل المُفْسِد الخارج، ولا المُصْلِح الخارج؛ لكانت الفطرة مقتضية لإرادة المُصْلِح وإيثاره على ما سواه، وإذا كان المقتضي موجودًا والمانع مفقودًا وجب حصول الأثر؛ فإنه
(2/459)
________________________________________
لا يتخلف إلا لعدم مقتضيه أو لوجود مانعه، فإذا كان المانع زائلًا حصل الأثر بالمقتضي السالم عن المعارض المقاوم.
الوجه الثالث عشر: أن السبب الذي في الفطرة لمعرفة الله ومحبته والإخلاص له إما أن يكون مستلزمًا لذلك، وإما أن يكون مقتضيًا بدون استلزام، إذ (1) يستحيل أن لا يكون له أثر البتّة، وعلى التقديرين يترتب أثره عليه: إما وحده على التقدير الأول، وإما بانضمام أمر آخر إليه على التقدير الثاني.
الوجه الرابع عشر: أن النفس الناطقة لا تخلو عن الشعور والإرادة، بل هذا الخلو (2) ممتنع فيها؛ فإن الشعور والإرادة من لوازم حقيقتها، فلا يُتصوّر أن تكون إلا شاعرة مريدة، ولا يجوز أن يقال: إنها قد تخلو في حق خالقها وفاطرها عن الشعور بوجوده وعن محبته وإرادته، فلا يكون إقرارها به ومحبته من لوازم ذاتها، هذا باطل قطعًا؛ فإن النفس لها مطلوب مراد بضرورة فطرتها، وكونها مريدة هو من لوازم ذاتها؛ فإنها حية، وكل حي شاعر متحرّك بالإرادة.
وإذا كان كذلك فلا بدّ لكل مريد من مراد، والمراد إما أن يكون مرادًا لنفسه أو لغيره، والمراد لغيره لا بدّ أن ينتهي إلى مراد لنفسه؛ قَطْعًا للتسلسل في العلل الغائية، فإنه محال، كالتسلسل في العلل الفاعلة.
وإذا كان لابدّ للإنسان من مراد لنفسه فهو الله الذي لا إله إلا هو، الذي
_________
(1) «د»: «أو» تحريف يخرج الجملة عن مقصودها، والمثبت أوفق بالمعنى.
(2) «د»: «الخلق» تحريف، والتصحيح من «درء التعارض» (8/ 464).
(2/460)
________________________________________
تألهه النفوس، وتحبه القلوب، وتعرفه الفِطَر، وتقرّ به العقول، وتشهد بأنه ربّها ومليكها وفاطرها، فلا بدّ لكل أحد من إله يألهه، وصمد يصمد إليه.
والعباد مفطورون على محبة الإله الحق، ومعلوم بالضرورة أنهم ليسوا مفطورين على تألّه غيره، فإذن: إنما فُطِروا على تألّهه وعبادته وحده، فلو خُلّوا وفطرَهم لما عبدوا غيره، ولا تألّهوا سواه.
يوضحه الوجه الخامس عشر: أنه يستحيل أن تكون الفطرة خالية عن التألّه والمحبة، ويستحيل أن يكون فيها تألّه غير الله لوجوه:
منها: أن ذلك خلاف الواقع.
ومنها: أن ذلك المخلوق ليس أولى أن يكون إلهًا لكل الخلق من المخلوق الآخر.
ومنها: أن المشركين لم يتفقوا على إله واحد، بل كل (1) طائفة تعبد ما تستحسنه.
ومنها: أن ذلك المخلوق إن كان ميتًا، فالحي أكمل منه، فيمتنع أن يكون الناس مفطورين على عبادة الميت، وإن كان حيًا فهو أيضًا مريد، فله إله يألهه، وحينئذ فيلزم الدور الممتنع، أو التسلسل الممتنع، فلا بدّ للخلق كلهم من إله يألهونه، ولا يأله هو غيرَه، وهذا برهان قطعي ضروري.
فإن قلت: هذا يستلزم أنه لابد لكل حي مخلوق من إله، ولكن لِمَ لا يجوز أن يكون مطلوب النفس هو مطلق التألّه والمألوه، لا إلهًا معيّنًا كما
_________
(1) «د»: «لكل» تحريف.
(2/461)
________________________________________
تقوله طوائف الاتحادية؟
قلت: هذا يتبين بـ
الوجه السادس عشر: وهو أن المراد إما أن يراد لنوعه أو لعينه، فالأول كإرادة العطشان والجائع والعاري لنوع الشراب والطعام واللباس، فإنه إنما يريد النوع، وحيث أراد العين فهو القدر المشترك بين أفراده، وذلك القدر المشترك كُلِّي، لا وجود له في الخارج، فيستحيل أن يراد لذاته؛ إذ المراد لذاته لا يكون إلا معيّنًا، ويستحيل أن يوجد في اثنين؛ فإنّ إرادة كل واحد منهما لذاته تنافي إرادته لذاته، إذ المعنى بإرادته لذاته أنه وحده هو المراد لذاته الخاصة، وهذا يمنع أن يراد معه ثان لذاته.
وإذا عُرِف ذلك، فلو كان القدر المشترك بين أفراد النوع، أو بين الاثنين هو المراد لذاته؛ لزم أن يكون ما يختص به أحدهما (1) ليس مرادًا لذاته، وكذلك ما يختص به الآخر، والموجود في الخارج إنما هو الذات المختصة لا الكُلِّي المشترك، [فلو] (2) تعلّق التألّه بالقدر المشترك لم يكن للخلق في الخارج إله، ولكان إلههم أمرًا ذهنيًا وجوده في الأذهان لا في الأعيان.
وهذا هو الذي تألهه طوائف أهل الوحدة والجهمية، الذين أنكروا أن يكون الله تعالى خارج العالم ولا داخله، فإن هذا إنما هو إله مفروض يفرضه الذهن كما يفرض سائر الممتنعات [في] (3) الخارج، ويظنه واجب الوجود،
_________
(1) «د»: «أحدها»، والمثبت من «درء التعارض» (8/ 466).
(2) بياض في «د»، والمثبت من «ت».
(3) «في» من «ت».
(2/462)
________________________________________
وليس هو ممكن الوجود فضلًا عن وجوبه.
وبهذا يتبين أن الجهمية وإخوانهم من القائلين بوحدة الوجود ليس لهم إله معين في الخارج يألهونه ويعبدونه، بل هؤلاء ألّهوا الوجود المطلق الكلي، وأولئك ألّهوا المعدوم الممتنع وجوده.
[والرسل] (1) وأتباعهم إلههم الله الذي لا إله إلا هو، الذي {خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه: 4 - 8].
وهو الذي فُطِرت القلوب على محبته، والإقرار به، وإجلاله وتعظيمه، وإثبات صفات الكمال له، وتنزيهه عن صفات النقائص والعيوب، وعلى أنه فوق سماواته، بائن من خلقه، تصعد إليه أعمالهم على تعاقب الأوقات، وتُرْفَع إليه أيديهم عند الرغبات، يخافونه من فوقهم، ويرجون رحمته تنزل إليهم من عنده، فهِمَمُهم صاعدة إلى عرشه، تطلب فوقه إلهًا عليًّا عظيمًا، قد استوى على عرشه، واستولى على خلقه، {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ اَلسَّمَا إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [السجدة: 5 - 6].
والمقصود أنه إذا لم يكن في المعيَّنات الخارجة عن الأذهان ما هو مراد لذاته؛ لم يكن فيها ما يستحق أن يألهه أحد، فضلًا أن يكون فيها ما يجب أن يألهه كل أحد.
_________
(1) «والرسل» من «ت».
(2/463)
________________________________________
فتبيّن أنه لابدّ من إله معين هو المحبوب المراد لذاته، ومن الممتنع أن يكون هذا غير فاطر السماوات والأرض، وتبيّن أنه لو كان في السماوات والأرض إله غيره لفسدتا، وأنّ كل مولود يولد على محبته ومعرفته وإجلاله وتعظيمه، وهذا دليل مستقل كافٍ فيما نحن فيه، وبالله التوفيق.
يوضحه الوجه السابع عشر (1): أن الحي العبدي (2) مفطور على إرادة ما يقيم بنيته، ويندفع به عنه الألم المنافي لبقائه، ولا غرض له في التعيين، بل أي فرد حصل له به مقصوده تعلّقت به إرادته، ولهذا يختلف ذلك باختلاف العوائد والمَرْبى والمنشأ، كما تختلف الأغذية والملابس والأدوية باختلاف الزمان والمكان والعادة، وكل هذه أمور مرادة لغيرها؛ إذ المراد دفع ألم الجوع والعطش والحر والبرد، وطلب لذة الأكل والشرب والجماع، فإذا حصل للإنسان مراده بذلك واندفع عنه الألم الحاصل بفقده؛ لم يرده.
فإذا كان مفطورًا على إرادة ذلك، وفيه قوة الشعور به ومحبته وإيثاره على غيره؛ فكيف بما لا صلاح لقلبه وروحه إلا بمعرفته وإرادته ومحبته؟!
وهل يجوز لعاقل أن يتوهّم أنه مفطور على إرادة هذا الأدنى ومحبته والشعور به، الذي هو غير مراد لذاته، ولا يكون مفطورًا على محبة الأعلى الذي لا بدّ له منه، ولا غناء له عنه، ولا صلاح له ولا نعيم، ولا حياة حقيقية إلا بمعرفته ومحبته وعبادته وحده لا شريك له؟!
_________
(1) من هنا إلى آخر الكتاب وقعت تحريفات وخروم كثيرة جدًّا في «د»، سأقوم باستدراكها من «ت» دون تنبيه على مواضعها.
تنبيه: هنا تنتهي نشرة «ط» وجميع الطبعات الصادرة عنها.
(2) كذا في «د»، ولعلها: «المقتدر».
(2/464)
________________________________________
وهذا عند التأمل قطعي ضروري.
الوجه الثامن عشر: أن النفوس ليست إلى شيء أحوج منها إلى ذلك، وحاجتها إليه واقعة في مرتبة الضرورة التي هي فوق الحاجة، فإذا كانت قد فُطِرت على محبة ما حاجتها إليه دون ذلك بكثير، وعلى معرفته وإيثاره؛ فكيف لا تكون مفطورة على ما هي إليه في غاية الاضطرار؟!
يوضحه الوجه التاسع عشر: أنها إنما خُلِقت لذلك، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، ومعلوم أن ما خُلِق لشيء من الأشياء أن الغاية والحكمة تقتضي أن يُهَيَّأ له، ويُجْعل فيه استعداد وقبول لما خُلِق، وهذا حال جميع المخلوقات حيوانها ونباتها ومعادنها وأركانها (1)، كما جعل في الماء قوة أُعين بها لما خُلِق له، وكذلك في النار والهواء والتراب وسائر المخلوقات، فكيف بمن خلقه لمعرفته ومحبته وعبادته؟!
قد هيَّؤوك لأمر لو فطنتَ له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهَمَلِ (2)
الوجه العشرون: أن بني آدم في معرفة الحق وقصده ومحبته على مراتب: فمنهم من عنده نوع من معرفة بالحق لكن بلا عمل به، بل مع بُغض له، رغبة عنه، واستكبارًا على أهله، وهذا يغلب على الأمة الغضبية. ومنهم من معه نوع من التألّه والمحبة والطلب والإرادة والأخلاق الجميلة، لكن مع
_________
(1) كذا في «د»، ولعل الصواب: «وأكوانها».
(2) البيت لمؤيد الدين الحسين بن علي الطغرائي من قصيدته المشهورة بـ «لامية العجم»، في ديوانه (309) وفيه: «قد رشحوك»، انظر: «معجم الأدباء» (3/ 1113).
(2/465)
________________________________________
ضلال وجهل بالحق، وهذا يغلب على الأمة الضالة.
فالأولى اليهود، والثانية النصارى.
وفي «صحيح ابن حبان» و «المسند» و «الترمذي» (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون».
وقد أمرنا الله سبحانه أن نقول في كل صلاة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6 - 7]، فإن النعمة المطلقة لا تحصل إلا بمعرفة الحق واتباعه.
وإذا كان كذلك، والإنسان يحتاج إلى هذا وهذا ففطرته السليمة إما أن تكون مقتضية لمعرفة الحق دون العمل به ومحبته، أو لمحبته دون معرفته، أو لا تقتضي لا هذا ولا هذا، أو تقتضي الأمرين، والأقسام الثلاثة باطلة؛ فتعيّن الرابع، فإنها لو لم تقتض لا هذا ولا هذا كان الصدق والكذب، والإحسان والإساءة، والبر والفجور، والشكر والكفر؛ عندها سواء، وكذلك يكون اعتقاد الباطل واعتقاد الحق، وإرادة الخير وإرادة الشر بالنسبة إليها سواء، وذلك من أبطل الباطل، وهو خلاف ما هو معلوم بالحسِّ الباطن والظاهر والشرع والعقل، وخلاف ما فطر الله عليه عباده.
ولا يجوز أن تكون مفطورة على المحبة والعمل دون العلم؛ فإن ذلك يوجب أن يستوي عندها العلم والجهل، والاعتقاد الصحيح والباطل، وذلك محال.
_________
(1) «صحيح ابن حبان» (6246)، «المسند» (19381)، «الترمذي» (2954) من حديث عدي بن حاتم.
(2/466)
________________________________________
وكذلك لا يجوز أن تكون مفطورة على الشعور والعلم بالخير النافع دون محبته وإرادته، وعلى معرفة بارئها وفاطرها دون محبته والإخلاص له والإنابة إليه؛ فإن ذلك يستلزم أن يستوي عندها إرادة الخير والشر، والشكر والكفر به (1)، وجحود نعمه، وهذا أيضًا خلاف الحسّ والعقل، وما يجده كل أحد في فطرته.
فتبين بالضرورة أنه لا يستوي عندها هذان الأمران، بل لا بدّ أن يترجّح عندها معرفة الحق واعتقاده ومحبته وإيثاره على غيره.
وحينئذ فلا تكون مفطورة على يهودية ولا نصرانية ولا مجوسية، بل على الحنيفية السمحة، {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 30 - 32].
ونختم الـ ... (2) دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يدعو به في قيام الليل: «اللهم رب جبريل و [ميكائيل، وإسرافيل] فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم [بين عبادك] فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهد [ي من تشاء] إلى صراط مستقيم» (3).
_________
(1) «د»: «ومحبة فاطرها، والإعراض ... وتعظيمه وإجلاله والكفر به».
(2) خرم في «د».
(3) أخرجه مسلم (770) من حديث عائشة، وما بين المعقوفات مستدرك منه.
(2/467)
________________________________________
آخر الكتاب، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على ... (1).
تم بحمد الله وعونه، وحسن توفيقه، وله الحمد والمنة وصلواته على محمد وآله.
والحمد لله رب العالمين.
_________
(1) من قوله: «ونختم» إلى هنا من «د» فقط.
(2/468)
________________________________________
ثبت مصادر الدراسة والتحقيق
- إصلاح غلط أبي عبيد في غريب الحديث، عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (276 ه)، ت: عبد الله الجبوري، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط (1)، 1403 ه.
- الإبانة الكبرى، عبيد الله بن محمد العُكْبَري المعروف بابن بَطَّة (387 ه)، ت: رضا معطي وآخرين، دار الراية للنشر والتوزيع، الرياض، ط (1)، 1415 ه.
- إبطال التأويلات لأخبار الصفات، أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء (458 ه)، ت: محمد بن حمد النجدي، دار إيلاف الدولية، الكويت.
- ابن قيم الجوزية: حياته آثاره موارده، بكر بن عبد الله أبو زيد (1429 ه)، دار العاصمة، الرياض، ط (2)، 1423 ه.
- إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة، أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل البوصيري (840 ه)، ت: دار المشكاة للبحث العلمي، دار الوطن للنشر، الرياض، ط (1)، 1420 ه.
- الأثبات في مخطوطات الأئمة: شيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة ابن القيم، والحافظ ابن رجب، علي بن عبد العزيز الشبل، مكتبة الملك فهد الوطنية، الرياض، 1423 ه.
- الآحاد والمثاني، أحمد بن عمرو أبو بكر بن أبي عاصم (287 ه)، ت: باسم فيصل الجوابرة، دار الراية، الرياض، ط (1)، 1411 ه.
- الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (354 ه)، علي بن بلبان الفارسي (739 ه)، ت: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط (3)، 1418 ه.
- أحكام القرآن للشافعي، جمع: أحمد بن الحسين البيهقي (458 ه)، ت: عبد الغني عبد الخالق، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط (2)، 1414 ه.
- أحكام القرآن، أحمد بن علي أبو بكر الجصاص الحنفي (370 ه)، ت: محمد صادق القمحاوي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405 ه.
- أحكام القرآن، محمد بن عبد الله أبو بكر بن العربي (543 ه)، ت: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط (3)، 1424 ه.
(2/609)
________________________________________
- أحكام أهل الذمة، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية (751 هـ)، ت: يوسف البكري - شاكر العاروري، رمادى للنشر، الدمام، ط (1)، 1418 هـ.
- أخبار أبي تمام، محمد بن يحيى الصولي (335 هـ)، ت: خليل محمود وآخرين، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط (3)، 1400 هـ.
- الأدب المفرد، محمد بن إسماعيل البخاري (256 هـ)، ت: محمد فؤاد عبد الباقي، دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط (3)، 1409 هـ.
- الأربعين في أصول الدين، محمد بن عمر فخر الدين الرازي (606 هـ)، ت: أحمد السقا، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة.
- إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، أحمد بن محمد القسطلاني (923 هـ)، المطبعة الكبرى الأميرية، مصر، 1323 هـ.
- أسباب نزول القرآن، علي بن أحمد الواحدي (468 هـ)، ت: عصام الحميدان، دار الإصلاح، الدمام، ط (2)، 1412 هـ.
- الاستذكار، يوسف بن عبد البر النمري (463 هـ)، ت: عبد المعطي قلعجي، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ط (1)، 1413 هـ.
- الاستقامة، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية (728 هـ)، ت: محمد رشاد سالم، ط (1)، 1403 هـ.
- الاستيعاب في معرفة الأصحاب، يوسف بن عبد البر النمري (463 هـ)، ت: علي محمد البجاوي، دار الجيل، بيروت، ط (1)، 1412 هـ.
- الأسماء والصفات، أحمد بن الحسين أبو بكر البيهقي (458 هـ)، ت: عبد الله بن محمد الحاشدي، مكتبة السوادي، جدة، ط (1)، 1413 هـ.
- الإشارات والتنبيهات مع شرح الطوسي، الحسين بن عبد الله بن سينا (428 هـ)، ت: سليمان دنيا، دار المعارف، ط (3).
- الإشراف في منازل الأشراف، عبد الله بن محمد القرشي المعروف بابن أبي الدنيا (281 هـ)، ت: نجم عبد الرحمن خلف، مكتبة الرشد، الرياض، ط (1)،1411 هـ.
(2/610)
________________________________________
- أعلام الحديث (شرح صحيح البخاري)، حمد بن محمد أبو سليمان الخطابي (388 هـ)، ت: محمد بن سعد آل سعود، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، ط (1)، 1409 هـ.
- أعلام الموقعين عن رب العالمين، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية (751 هـ)، ت: مشهور حسن آل سلمان، دار ابن الجوزي، الدمام، ط (1)، 1423 هـ.
- إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان (ضمن مجموع الرسائل)، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية (751 هـ)، ت: عبد الرحمن بن حسن بن قائد، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، ط (1)، 1425 هـ.
- إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية (751 هـ)، ت: محمد عزير شمس، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، ط (1)، 1432 هـ.
- الأغاني، علي بن الحسين أبو الفرج الأصبهاني (356 هـ)، ت: لجنة من الأدباء بإشراف عبد الستار فراج، دار الثقافة، بيروت، ط (8)، 1410 هـ.
- الأفعال، علي بن جعفر المعروف بابن القَطَّاع الصقلي (515 هـ)، عالم الكتب، بيروت، ط (1)، 1403 هـ.
- إكمال المعلم بفوائد مسلم، عياض بن موسى اليحصبي (544 هـ)، ت: يحْيَى إِسْمَاعِيل، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، مصر، ط (1)، 1419 هـ.
- الأم، محمد بن إدريس الشافعي (204 هـ)، دار المعرفة، بيروت، 1410 هـ.
- الأمالي المطلقة، أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني (852 هـ)، ت: حمدي عبد المجيد السلفي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط (1)، 1416 هـ.
- الأمالي، إسماعيل بن القاسم القالي (356 هـ)، ت: محمد عبد الجواد الأصمعي، دار الكتب المصرية، القاهرة، ط (2)، 1344 هـ.
- الأمالي، عبد الملك بن محمد بن بشْران (430 هـ)، ت: عادل بن يوسف العزازي (الجزء الأول)، أحمد بن سليمان (الجزء الثاني)، دار الوطن، الرياض، ط (1)، 1418 - 1420 هـ.
(2/611)
________________________________________
- أنساب الأشراف، أحمد بن يحي البَلَاذُري (279 هـ)، ت: سهيل زكار ورياض الزركلي، دار الفكر، بيروت، ط (1)، 1417 هـ.
- الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، علي بن سليمان المرداوي (885 هـ)، دار إحياء التراث العربي، ط (2).
- الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به، أبو بكر بن الطيب الباقلاني (403 هـ)، ت: محمد زاهد الكوثري، المكتبة الأزهرية، القاهرة، ط (2)، 1421 هـ.
- أهل الملل والردة والزنادقة وتارك الصلاة والفرائض من كتاب: الجامع لمسائل الإمام أحمد، أحمد بن محمد أبو بكر الخَلَّال (311 هـ)، ت: إبراهيم السلطان، مكتبة المعارف، الرياض، ط (1)، 1416 هـ.
- أهل الملل والردة والزنادقة وتارك الصلاة والفرائض من كتاب: الجامع لمسائل الإمام أحمد، أحمد بن محمد أبو بكر الخَلَّال (311 هـ)، ت: سيد كسروي حسن، دار الكتب العلمية، بيروت، ط (1)، 1414 هـ.
- إيضاح الوقف والابتداء، محمد بن القاسم الأنباري (328 هـ)، ت: محيي الدين عبد الرحمن رمضان، مجمع اللغة العربية، دمشق، 1390 هـ.
- الإيمان، محمد بن إسحاق ابن منده (395 هـ)، ت: علي بن محمد الفقيهي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط (2)، 1406 هـ.
- البحر المحيط في التفسير، أبو حيان محمد بن يوسف الأندلسي (745 هـ)، ت: صدقي محمد جميل، دار الفكر، بيروت، 1420 هـ.
- البداية والنهاية، إسماعيل بن عمر بن كثير (774 هـ)، ت: عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار هجر، القاهرة، ط (1)، 1417 هـ.
- البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، محمد بن علي الشوكاني (1250 هـ)، دار المعرفة، بيروت.
- البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير، عمر بن علي بن أحمد ابن الملقن (802 هـ)، ت: مصطفى أبو الغيط وآخرين، دار الهجرة للنشر والتوزيع، الرياض، ط (1)، 1425 هـ.
(2/612)
________________________________________
- البرهان في علوم القرآن، محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي (794 هـ)، ت: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركائه، ط (1)، 1376 هـ.
- البصائر والذخائر، علي بن محمد أبو حيان التوحيدي (نحو 400 هـ)، ت: وداد القاضي، دار صادر، بيروت، ط (1)، 1408 هـ.
- بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث، علي بن أبي بكر الهيثمي (807 هـ)، ت: حسين أحمد الباكري، مركز خدمة السنة والسيرة النبوية، المدينة المنورة، ط (1)، 1413 هـ.
- بهجة المجالس وأنس المجالس، يوسف بن عبد البر النمري (463 هـ)، ت: محمد مرسي الخولي.
- بيان الدليل على بطلان التحليل، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية (728 هـ)، ت: أحمد الخليل، دار ابن الجوزي، الدمام.
- تاج العروس من جواهر القاموس، محمد بن محمد الزبيدي (1205 هـ)، ت: عبد الستار أحمد فراج وآخرين، وزارة الإعلام، الكويت، ط (1)، 1965 م فما بعدها.
- تاريخ ابن معين برواية الدوري، يحيى بن معين (233 هـ)، ت: أحمد نور سيف، جامعة الملك عبد العزيز، مكة المكرمة، 1984 م.
- تاريخ آداب العرب، مصطفى صادق الرافعي (1356 هـ)، دار الكتاب العربي، بيروت.
- تاريخ الإسلام، محمد بن أحمد الذهبي (748 هـ)، ت: بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط (1)، 1424 هـ.
- التاريخ الكبير، أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة (279 هـ)، ت: صلاح بن فتحي هلل، دار الفاروق الحديثة، القاهرة، ط (1)، 1427 هـ.
- التاريخ الكبير، محمد بن إسماعيل البخاري (256 هـ)، ت: هاشم الندوي وآخرين، دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد.
- تاريخ جرجان، حمزة بن يوسف السهمي (427 هـ)، ت: محمد عبد المعين خان، عالم الكتب، بيروت، ط (3)، 981 م.
(2/613)
________________________________________
- تاريخ دمشق، علي بن الحسن بن هبة الله أبو القاسم ابن عساكر (571 هـ)، ت: عمرو غرامة العمروي، دار الفكر، بيروت، ط (1)، 1415 هـ.
- تاريخ مدينة السلام (بغداد)، أحمد بن علي الخطيب البغدادي (463 هـ)، ت: بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط (1)، 2001 م.
- تأويل مشكل القرآن، عبد الله بن مسلم بن قتيبة (276 هـ)، ت: السيد أحمد صقر، دار التراث، بيروت.
- التبيان في أيمان القرآن، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية (751 هـ)، ت: عبد الله بن سالم البطاطي، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، ط (1)، 1429 هـ.
- التحصيل لفوائد كتاب التفصيل، أحمد بن عمار المهدوي (440 هـ)، ت: محمد زياد شعبان وفرح صبري، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية القطرية، الدوحة، ط (1)، 1435 هـ.
- تحفة التحصيل في ذكر رواة المراسيل، أحمد بن عبد الرحيم أبو زرعة ابن العراقي (826 هـ)، ت: عبد الله نوارة، مكتبة الرشد، الرياض، ط (1)، 1419 هـ.
- تخريج أحاديث إحياء علوم الدين، عبد الرحيم بن الحسين العراقي (806 هـ)، عبد الوهاب بن علي السبكي (771 هـ)، محمد بن محمد الزبيدي (1205 هـ)، استِخرَاج: مَحمُود بِن مُحَمّد الحَدّاد، دار العاصمة، الرياض، ط (1)، 1408 هـ.
- تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في تفسير الكشاف للزمخشري، عبد الله بن يوسف الزيلعي (762 هـ)، ت: عبد الله بن عبد الرحمن السعد، دار ابن خزيمة، الرياض، ط (1)، 1414 هـ.
- التدوين في أخبار قزوين، عبد الكريم بن محمد الرافعي (623 هـ)، ت: عزيز الله العطاردي، المطبعة العزيزية، حيدر آباد، 1984 م.
- تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (852 هـ)، ت: إكرام الله إمداد الحق، دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط (1)، 1416 هـ.
- تغليق التعليق، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (852 هـ)، ت: سعيد عبد الرحمن القزقي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط (1)، 1405 هـ.
(2/614)
________________________________________
- تفسير ابن سلام، يحيى بن سلام القيرواني (200 هـ)، ت: هند شلبي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط (1)، 1425 هـ.
- التفسير البسيط، علي بن أحمد الواحدي (468 هـ)، ت: جماعة من الباحثين، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، ط (1)، 1430 هـ.
- تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)، محمد رشيد رضا (1354 هـ)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1990 م.
- تفسير القرآن العظيم، إسماعيل بن عمر بن كثير (774 هـ)، ت: سامي بن محمد سلامة، دار طيبة، الرياض، ط (2)، 1420 هـ.
- تفسير القرآن العظيم، عبد الرحمن بن محمد ابن أبي حاتم (327 هـ)، ت: أسعد محمد الطيب، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط (3)، 1419 هـ.
- تفسير القرآن من الجامع، عبد الله بن وهب القرشي (197 هـ)، ت: ميكلوش موراني، دار الغرب الإسلامي، ط (1)، 2003 م.
- تفسير القرآن، أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري (319 هـ)، ت: سعد بن محمد السعد، دار المآثر، المدينة النبوية، ط (1)، 1423 هـ.
- تفسير عبد الرزاق، عبد الرزاق بن همام الصنعاني (211 هـ)، ت: محمود محمد عبده، دار الكتب العلمية، بيروت، ط (1)، 1419 هـ.
- تفسير غريب القرآن، عبد الله بن مسلم بن قتيبة (276 هـ)، ت: السيد أحمد صقر، دار الكتب العلمية، 1398 هـ.
- تفسير مجاهد، مجاهد بن جبر المكي (104 هـ)، ت: محمد عبد السلام أبو النيل، دار الفكر الإسلامي الحديثة، مصر، ط (1)، 1410 هـ.
- تفسير مقاتل بن سليمان (150 هـ)، ت: عبد الله محمود شحاته، دار إحياء التراث، بيروت، ط (1)، 1423 هـ.
- التفسير من سنن سعيد بن منصور (227 هـ)، ت: سعد بن عبد الله آل حميد، دار الصميعي، الرياض، ط (1)، 1417 هـ.
(2/615)
________________________________________
- التقفية، اليمان بن أبي اليمان البَندنيجي (284 هـ)، ت: خليل إبراهيم العطية، وزارة الأوقاف، بغداد، 1976 م.
- تكملة المعاجم العربية، رينهارت دوزي (1300 هـ)، ترجمة محمد سليم النعيمي، منشورات وزارة الثقافة والفنون، بغداد، 1978 م وما بعدها.
- التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، يوسف بن عبد الله بن عبد البر (463 هـ)، ت: مصطفى بن أحمد العلوي وآخرين، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب، 1387 هـ.
- التمهيد، أبو بكر بن الطيب الباقلاني (403 هـ)، ت: رتشرو يوسف، المكتبة الشرقية، بيروت، 1957 م.
- تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية (728 هـ)، ت: علي بن محمد العمران ومحمد عزير شمس، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، ط (1)، 1425 هـ.
- تهذيب التهذيب، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (852 هـ)، ت: إبراهيم الزيبق وعادل مرشد، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط (1)، 1996 م.
- تهذيب الكمال في أسماء الرجال، يوسف بن عبد الرحمن أبو الحجاج المزي (742 هـ)، ت: بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط (1)، 1422 هـ.
- تهذيب اللغة، محمد بن أحمد الأزهري (370 هـ)، ت: عبد السلام هارون وآخرين، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة، 1384 هـ.
- تهذيب سنن أبي داود وإيضاح علله ومشكلاته، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية (751 هـ)، ت: علي بن محمد العمران ونبيل السندي، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، ط (1)، 1437 هـ.
- التواضع والخمول، أبو بكر عبد الله بن محمد المعروف بابن أبي الدنيا (281 هـ)، ت: محمد عبد القادر أحمد عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط (1)، 1409 هـ.
(2/616)
________________________________________
- التوحيد ومعرفة أسماء الله عز وجل وصفاته على الاتفاق والتفرد، أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن مَنْدَه (395 هـ)، ت: علي بن محمد الفقيهي، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط (1)، 1423 هـ.
- التوحيد ومعرفة أسماء الله عز وجل وصفاته على الاتفاق والتفرد، محمد بن إسحاق بن مَنْدَه (395 هـ)، ت: علي بن محمد الفقيهي، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط (1)، 1423 هـ.
- الثقات، محمد بن حبان البستي (354 هـ)، ت: عبد الرحمن المعلمي، دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، ط (1)، 1393 هـ.
- ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، عبد الملك بن محمد الثعالبي (429 هـ)، دار المعارف، القاهرة.
- جامع الأصول في أحاديث الرسول، المبارك بن محمد ابن الأثير الجزري (606 هـ)، ت: عبد القادر الأرناؤوط، وبشير عيون، ط (1).
- جامع البيان عن تأويل آي القرآن، محمد بن جرير الطبري (310 هـ)، ت: عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار هجر، القاهرة، ط (1)، 1422 هـ.
- جامع التحصيل في أحكام المراسيل، خليل بن كيكلدي العلائي (761 هـ)، ت: حمدي عبد المجيد السلفي، عالم الكتب، بيروت، ط (2)، 1407 هـ.
- جامع الرسائل، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية (728 هـ)، ت: محمد رشاد سالم، دار العطاء، الرياض، ط (1)، 1422 هـ.
- جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم، عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي (795 هـ)، ت: شعيب الأرناؤوط وإبراهيم باجس، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط (7)، 1422 هـ.
- الجامع الكبير (سنن الترمذي)، محمد بن عيسى الترمذي (279 هـ)، ت: أحمد بن محمد بن شاكر وآخرين، دار الحديث، القاهرة.
- الجامع برواية عبد الرزاق، معمر بن راشد الأزدي (153 هـ)، [ملحق بآخر مصنف عبد الرزاق]، ت: حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط (2)، 1403 هـ.
(2/617)
________________________________________
- الجامع لأحكام القرآن، محمد بن أحمد القرطبي (671 هـ)، ت: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية، القاهرة، ط (2)، 1384 هـ.
- الجرح والتعديل، عبد الرحمن بن محمد الرازي ابن أبي حاتم (327 هـ)، ت: عبد الرحمن المعلمي، دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، ط (1)، 1953 م.
- الجزء فيه من حديث أبي عمرو عثمان بن عمر الدراج (361 هـ)، رواية: أبي طالب علي بن عبد الرزاق الحريري عنه، ت: عبد الله مرحول السوالمة، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، الكويت، العدد 47، 2001 م.
- الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي، المعافى بن زكريا أبو الفرج النهرواني (390 هـ)، ت: محمد مرسي الخولي، وإحسان عباس، عالم الكتب، بيروت، ط (1)، 1413 هـ.
- جمهرة اللغة، محمد بن الحسن بن دريد أبو بكر الأزدي (321 هـ)، ت: رمزي منير بعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت، ط (1)، 1987 م.
- الجهاد، أحمد بن عمرو أبو بكر بن أبي عاصم (287 هـ)، ت: مساعد بن سليمان الراشد، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط (1)، 1409 هـ.
- حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية (751 هـ)، ت: زائد النشيري، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، ط (1).
- الحجة للقراء السبعة، الحسن بن أحمد أبو علي الفارسيّ (377 هـ)، ت: بدر الدين قهوجي وبشير جويجابي، دار المأمون للتراث، دمشق، ط (2)، 1413 هـ.
- حسن الظن بالله: أبو بكر عبد الله بن محمد القرشي المعروف بابن أبي الدنيا (281 هـ)، مخلص محمد الناشر: دار طيبة - الرياض الطبعة: الأولى، 1408.
- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أحمد بن عبد الله أبو نعيم الأصبهاني (430 هـ)، دار الكتاب العربي، بيروت، ط (5)، 1407 هـ.
- حياة الحيوان الكبرى، محمد بن موسى الدميري (808 هـ)، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، ط (1)، 1424 هـ.
(2/618)
________________________________________
- الحيدة والاعتذار في الرد على من قال بخلق القرآن، عبد العزيز بن يحيى الكناني (240 هـ)، ت: علي بن محمد بن ناصر الفقهي، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط (2)، 1423 هـ.
- الحيوان، عمرو بن بحر الجاحظ (255 هـ)، ت: عبد السلام هارون، دار الكتب العلمية، بيروت.
- خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، عبد القادر بن عمر البغدادي (1093 هـ)، ت: عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط (4)، 1418 هـ.
- خلاصة الأحكام في مهمات السنن وقواعد الإسلام، يحيى بن شرف النووي (676 هـ)، ت: حسين إسماعيل الجمل، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط (1)، 1418 هـ.
- خلق أفعال العباد، محمد بن إسماعيل البخاري (256 هـ)، ت: عبد الرحمن عميرة، دار المعارف، الرياض، ط (2).
- الداء والدواء، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية (751 هـ)، ت: محمد أجمل الإصلاحي، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، ط (1)، 1437 هـ.
- الدر المنثور في التفسير بالمأثور، عبد الرحمن بن أبي بكر جلال الدين السيوطي (911 هـ)، دار الفكر، بيروت.
- درء تعارض العقل والنقل، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية (728 هـ)، ت: محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، ط (2)، 1411 هـ.
- الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (852 هـ)، دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، ط (2)، 1392 هـ.
- الدعاء، سليمان بن أحمد الطبراني (360 هـ)، ت: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط (1)، 1413 هـ.
- الدلائل في غريب الحديث، قاسم بن ثابت السرقسطي (302 هـ)، ت: محمد بن عبد الله القناص، مكتبة العبيكان، الرياض، ط (1)،1422 هـ.
- الدلائل والاعتبار على الخلق والتدبير، عمرو بن بحر الجاحظ (255 هـ)، ت: محمد راغب الطباخ، المطبعة العلمية، حلب، 1346 هـ.
(2/619)
________________________________________
- ديوان ذي الرمة غيلان بن عقبة العدوي (117 هـ)، شرح أحمد بن حاتم الباهلي، ت: عبد القدوس أبو صالح، مؤسسة الإيمان، جدة، ط (1)، 1402 هـ.
- ديوان عمر بن أبي ربيعة، شرح محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة، ط (1)، 1371 هـ.
- ديوان الراعي النميري، شرح واضح الصمد، دار الجيل، بيروت، ط (1)، 1416 هـ.
- ديوان الفرزدق، شرح علي فاعور، دار الكتب العلمية، بيروت، ط (1)، 1407 هـ.
- أبو العتاهية أشعاره وأخباره، ت: شكري فيصل، مطبعة جامعة دمشق، 1384 هـ.
- ديوان أبي نواس الحسن بن هانئ، ت: إيفالد فاغنر، الكتاب العربي، بيروت، ط (2)، 1422 هـ.
- ديوان الأعشى الكبير ميمون بن قيس، ت: محمد حسين، مكتبة الآداب، القاهرة.
- ديوان البحتري، ت: حسن كامل الصيرفي، دار المعارف، القاهرة، ط (3).
- ديوان الحسين بن علي الطغرائي، ت: علي جواد الطاهر و يحيى الجبوري، مطابع الدوحة الحديثة، الدوحة، ط (2)، 1406 هـ.
- ديوان الحطيئة، برواية وشرح ابن السكيت، ت: نعمان طه، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط (1)، 1407 هـ.
- ديوان الحلاج (ضمن الأعمال الكاملة)، جمع: قاسم محمد عباس، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، ط (1).
- ديوان الصبابة، أحمد بن حجلة المغربي (776 هـ)، دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1404 هـ.
- ديوان العجاج، برواية عبد الملك الأصمعي وشرحه، ت: عبد الحفيظ السطلي، مكتبة أطلس، دمشق.
- ديوان المعاني، الحسن بن عبد الله العسكري (395 هـ)، دار الجيل، بيروت.
- ديوان امرئ القيس، ت: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، ط (5).
- ديوان أمية بن أبي الصلت، صنعة عبد الحفيظ السطلي.
(2/620)
________________________________________
- ديوان جرير، بشرح محمد بن حبيب، ت: نعمان طه، دار المعارف، ط (3).
- ديوان حميد بن ثور الهلالي، ت: عبد العزيز الميمني، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، 1384 هـ.
- ديوان ليلى الأخيلية، جمع: خليل العطية وجليل العطية، وزارة الثقافة والإرشاد، بغداد.
- ذم الهوى، عبد الرحمن بن علي أبو الفرج الجوزي (597 هـ)، ت: مصطفى عبد الواحد.
- ذيل طبقات الحنابلة، عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي (795 هـ)، ت: عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، مكتبة العبيكان، الرياض، ط (1)، 1425 هـ.
- الرد على الجهمية، عثمان بن سعيد الدارمي (280 هـ)، ت: بدر بن عبد الله البدر، دار ابن الأثير، الكويت، ط (2)، 1416 هـ.
- الرد على الجهمية، محمد بن إسحاق ابن منده (395 هـ)، ت: علي بن محمد الفقيهي، مكتبة الغرباء الأثرية، ط (1)، 1414 هـ.
- الرد على المنطقيين، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية (728 هـ)، دار المعرفة، بيروت.
- الرد على من قال بفناء الجنة والنار وبيان الأقوال في ذلك، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية (728 هـ)، ت: محمد بن عبد الله السمهري، دار بلنسية، الرياض، ط (1)، 1415 هـ.
- الرسالة، محمد بن إدريس الشافعي (204 هـ)، ت: أحمد شاكر، مكتبه الحلبي، القاهرة، ط (1)، 1358 هـ.
- الرضا عن الله بقضائه، عبد الله بن محمد القرشي المعروف بابن أبي الدنيا (281 هـ)، ت: ضياء الحسن السلفي، الدار السلفية، بومباي، ط (1)، 1410 هـ.
- روضة المحبين ونزهة المشتاقين، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية (751 هـ)، ت: محمد عزير شمس، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، ط (3)، 1438 هـ.
- زاد المسير في علم التفسير، عبد الرحمن بن علي أبو الفرج الجوزي (597 هـ)، المكتب الإسلامي، بيروت.
(2/621)
________________________________________
- زاد المعاد في هدي خير العباد، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية (751 هـ)، ت: علي محمد العمران وآخرين، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، ط (1)، 1439 هـ.
- الزاهر في ألفاظ غريب الشافعي، محمد بن أحمد الأزهري (370 هـ)، ت: عبد المنعم بشناني، دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط (1)، 1419 هـ.
- الزهد الكبير أحمد بن الحسين البيهقي (458 هـ)، ت: عامر أحمد حيدر، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ط (3)، 1996 م.
- الزهد والرقائق، عبد الله بن المبارك المرْوزي (181 هـ)، ت: حبيب الرحمن الأعظمي، دار الكتب العلمية، بيروت.
- الزهد، وكيع بن الجراح الرؤاسي (197 هـ)، ت: عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائي، مكتبة الدار، المدينة المنورة، ط (1)، 1404 هـ.
- الزهد، أحمد بن عمرو بن الضحاك المعروف بابن أبي عاصم (287 هـ)، ت: عبد العلي عبد الحميد حامد، دار الريان للتراث، القاهرة، ط (2)، 1408 هـ.
- الزهد، أحمد بن محمد بن حنبل (241 هـ)، ت: محمد عبد السلام شاهين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط (1)،1420 هـ.
- الزهد، سليمان بن الأشعث السجستاني (275 هـ)، ت: ياسر بن إبراهيم وغنيم عباس، دار المشكاة، حلوان، ط (1)، 1414 هـ.
- الزهد، هَنَّاد بن السَّرِي الكوفي (243 هـ)، ت: عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائي، دار الخلفاء للكتاب الإسلامي، الكويت، ط (1)، 1406 هـ.
- سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها، محمد ناصر الدين الألباني (1420 هـ)، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض، ط (1)، 1415 هـ وما بعدها.
- سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة، محمد ناصر الدين الألباني (1420 هـ)، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض، ط (1)، 1412 هـ.
- السنة، عبد الله بن أحمد بن حنبل (290 هـ)، ت: محمد بن سعيد القحطاني، دار ابن القيم، الدمام، ط (1)، 1406 هـ.
(2/622)
________________________________________
- السنة، أحمد بن عمرو بن الضحاك المعروف بابن أبي عاصم (287 هـ)، ت: محمد بن ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط (1)، 1400 هـ.
- السنة، أحمد بن محمد أبو بكر الخَلَّال (311 هـ)، ت: عطية الزهراني، دار الراية، الرياض، ط (1)، 1410 هـ.
- السنة، ضمن كتاب زاد المسافر في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، أبو بكر غلام الخلال (363 هـ)، ت: أبي جنة الحنبلي، ط (1)، 1437 ه.
- السنن الصغرى (المجتبى من السنن)، أحمد بن شعيب النسائي (303 هـ)، ترقيم: عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، ط (2)، 1406 هـ.
- السنن الكبرى، أحمد بن الحسين البيهقي (458 هـ)، ت: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط (3)، 1424 هـ.
- السنن الكبرى، أحمد بن شعيب النسائي (303 هـ)، ت: حسن عبد المنعم شلبي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط (1)، 1421 هـ.
- السنن، سليمان بن الأشعث أبو داود السجستاني (275 هـ)، ت: محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، بيروت.
- السنن، علي بن عمر الدارقطني (385 هـ)، ت: عبد الله هاشم يماني، دار المحاسن للطباعة، القاهرة.،
- السنن، محمد بن يزيد بن ماجه (273 هـ)، ت: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، بيروت.
- السيرة النبوية، عبد الملك بن هشام المعافري (213 هـ)، ت: مصطفى السقا وآخرين، مكتبة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، ط (2)، 1375 هـ.
- الشامل في أصول الدين، عبد الملك بن عبد الله أبو المعالي الجويني (478 هـ)، ت: علي النشار وآخرين، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1969 م.
- شأن الدعاء، حمد بن محمد الخطابي (388 هـ)، ت: أحمد يوسف الدّقاق، دار الثقافة العربية، بيروت، ط (1)، 1404 هـ.
(2/623)
________________________________________
- شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، هبة الله بن الحسن اللالكائي (418 هـ)، ت: أحمد بن سعد بن الغامدي، دار طيبة، السعودية، ط (8)، 1423 هـ.
- شرح الإرشاد، سلمان بن ناصر الأنصاري (511 هـ)، مخطوط، مكتبة أيا صوفيا، رقم (1205).
- شرح الأصول الخمسة، عبد الجبار بن أحمد الهمداني (415 هـ)، ت: عبد الكريم عثمان، مكتبة وهبة، ط (3)، 1416 هـ.
- شرح السنة، الحسين بن مسعود البغوي (516 هـ)، ت: شعيب الأرناؤوط ومحمد زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، ط (2)، 1403 هـ.
- شرح القصائد العشر، زكريا بن يحيى الخطيب التبريزي (502 هـ)، ت: فخر الدين قباوة، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1980 م.
- شرح المواقف، عضد الدين عبد الرحمن الإيجي (756 هـ)، ت: عبد الرحمن عميرة، دار الجيل، بيروت، ط (1)، 1997 م.
- شرح ديوان المتنبي، عبد الله بن الحسين العكبري (616 هـ)، ت: مصطفى السقا وآخرين، دار المعرفة، بيروت.
- شرح ديوان المتنبي، علي بن أحمد الواحدي (468 هـ)، ت: فريدرخ، برلين، 1891 م.
- شرح علل الترمذي، عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي (795 هـ)، ت: نور الدين عتر، دار العطاء، الرياض، ط (4)، 1421 هـ.
- شرح مشكل الآثار، أحمد بن محمد الطحاوي (321 هـ)، ت: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط (1)، 1415 هـ.
- شرح معاني الآثار، أحمد بن محمد الطحاوي (321 هـ)، ت: محمد زهري النجار، علام الكتب، بيروت، ط (1)، 1414 هـ.
- الشريعة، محمد بن الحسين الآجُرِّيُّ (360 هـ)، ت: عبد الله بن عمر الدميجي، دار الوطن، الرياض، ط (2)، 1420 هـ.
(2/624)
________________________________________
- شعب الإيمان، أحمد بن الحسين البيهقي (458 هـ)، ت: عبد العلي عبد الحميد حامد، مكتبة الرشد، الرياض، ط (1)، 1423 هـ.
- شعر أبي حية النميري، جمع وتحقيق: يحيى الجبوري، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1975 م.
- شعر دعبل بن علي الخزاعي، صنعة عبد الكريم الأشتر، مجمع اللغة العربية، دمشق، ط (2)، 1403 هـ.
- شعر زهير بن أبي سلمى، صنعة الأعلم الشنتمري، ت: فخر الدين قباوة، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط (3)، 1400 هـ.
- شعر عمرو بن أحمر الباهلي، جمع وتحقيق: حسين عطوان، مجمع اللغة العربية، دمشق.
- شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية (751 هـ)، ت: الحساني حسن عبد الله، دار التراث، القاهرة.
- شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية (751 هـ)، ت: محمد بدر الدين أبو فراس النعساني، المطبعة الحسينية، القاهرة، (1323 هـ).
- شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية (751 هـ)، ت: عمر بن سليمان الحفيان، مكتبة العبيكان، الرياض، ط (2)، 1420 هـ.
- شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية (751 هـ)، ت: أحمد بن صالح الصمعاني وعلي بن محمد العجلان، دار الصميعي، الرياض، ط (2)، 1434 هـ.
- الشكر، عبد الله بن محمد القرشي المعروف بابن أبي الدنيا (281 هـ)، ت: بدر البدر، المكتب الإسلامي، الكويت، ط (3)، 1400 هـ.
- الصحاح، إسماعيل بن حماد الجوهري (393 هـ)، ت: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين، بيروت، ط (4)، 1407 هـ.
(2/625)
________________________________________
- صحيح ابن خزيمة، محمد بن إسحاق بن خزيمة (311 هـ)، ت: محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط (2)، 1412 هـ.
- صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري (256 هـ)، دار طوق النجاة، بيروت، ط (1)، 1422 هـ، (مصورة عن الطبعة السلطانية بإضافة ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي).
- صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج القشيري (261 هـ)، ت: محمد فؤاد عبد الباقي، مكتبة عيسى البابي الحلبي، القاهرة.
- صفة الجنة، أبو بكر عبد الله بن محمد المعروف بابن أبي الدنيا (281 هـ)، ت: عمرو عبد المنعم سليم، مكتبة ابن تيمية، القاهرة.
- الصفدية، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية (728 هـ)، ت: محمد رشاد سالم، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، ط (2)، 1406 هـ.
- الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، أحمد بن عمرو أبو بكر بن أبي عاصم (287 هـ)، ت: حمدي عبد المجيد السلفي، دار المأمون للتراث، دمشق، ط (1)، 1415 هـ.
- الصناعتين، الحسن بن عبد الله العسكري (395 هـ)، ت: علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العنصرية، بيروت،1419 هـ.
- الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية (751 هـ)، ت: علي بن محمد الدخيل الله، دار العاصمة، الرياض، ط (1)، 1408 هـ.
- الضعفاء، محمد بن عمرو أبو جعفر العقيلي (322 هـ)، ت: عبد المعطي أمين قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط (1)، 1404 هـ.
- طبقات الشافعية الكبرى، عبد الوهاب بن علي السبكي (771 هـ)، ت: محمود محمد الطناحي وعبد الفتاح محمد الحلو، هجر للطباعة والنشر، ط (2)، 1413 هـ.
- طبقات الفقهاء الشافعية، عثمان بن عبد الرحمن الشهير بأبي عمرو ابن الصلاح (643 هـ)، ت: محيي الدين علي نجيب، دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط (1)، 1992 م.
(2/626)
________________________________________
- الطبقات الكبرى، محمد بن سعد البغدادي (230 هـ)، دار صادر، بيروت، ط (1)، 1968 م.
- طبقات المحدثين بأصبهان والواردين عليها، عبد الله بن محمد المعروف بأبِي الشيخ الأصبهاني (369 هـ)، ت: عبد الغفور عبد الحق البلوشي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط (2)، 1412 هـ.
- طريق الهجرتين وباب السعادتين، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية (751 هـ)، ت: محمد أجمل الإصلاحي، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، (3)، 1438 هـ.
- عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية (751 هـ)، ت: إسماعيل بن غازي مرحبا، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، (3)، 1438 هـ.
- العزلة، حمد بن محمد الخطابي (388 هـ)، المطبعة السلفية، القاهرة، ط (2)، 1399 هـ.
- العظمة، عبد الله بن محمد المعروف بأبِي الشيخ الأصبهاني (369 هـ)، ت: رضاء الله بن محمد المباركفوري، دار العاصمة، الرياض، ط (1)، 1408 هـ.
- العلل الكبير (ترتيب أبي طالب القاضي)، محمد بن عيسى الترمذي (279 هـ)، ت: صبحي السامرائي وآخرين، عالم الكتب، بيروت، ط (1)، 1409 هـ.
- العلل الواردة في الأحاديث النبوية، علي بن عمر الدارقطني (385 هـ)، ت: محفوظ الرحمن زين الله السلفي، دار طيبة، الرياض، 1405 هـ.
- العلل، عبد الرحمن بن محمد الرازي ابن أبي حاتم (327 هـ)، ت: فريق من الباحثين بإشراف: سعد بن عبد الله الحميد وخالد بن عبد الرحمن الجريسي، مطابع الحميضي، ط (1)، 1427 هـ.
- العلل، علي بن عبد الله المديني (234 هـ)، ت: محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط (2)، 1980 م.
- عمل اليوم والليلة، أحمد بن محمد الدِّيْنَوَريُّ المعروف بابن السُّنِّي (364 هـ)، ت: عبد الرحمن كوثر البرني، دار الأرقم بن أبي الأرقم، بيروت، ط (1)، 1418 هـ.
- العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي (170 هـ)، ت: مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال.
(2/627)
________________________________________
- غاية المرام في علم الكلام، سيف الدين الآمدي (631 هـ)، ت: حسن محمود، لجنة إحياء التراث الإسلام، القاهرة، 1391 هـ.
- غاية النهاية في طبقات القراء، محمد بن محمد بن يوسف ابن الجزري (833 هـ)، ت: ج. برجستراسر، 1351 هـ.
- غريب الحديث، إبراهيم بن إسحاق الحربي (285 هـ)، ت: سليمان إبراهيم العايد، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، ط (1)، 1405 هـ.
- الغريب المصنف، القاسم بن سلاّم أبو عُبيد الهروي (224 هـ)، ت: صفوان عدنان داوودي، دار الفيحاء، دمشق، ط (1)، 1426 هـ.
- الغريبين في القرآن والحديث، أحمد بن محمد أبو عبيد الهروي (401 هـ)، ت: أحمد فريد المزيدي، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط (1)، 1419 هـ.
- الغنية في الكلام، سلمان بن ناصر الأنصاري (511 هـ)، ت: مصطفى حسين، دار السلام، القاهرة، ط (1)، 1431 هـ.
- فتاوى ابن الصلاح، عثمان بن عبد الرحمن أبو عمرو ابن الصلاح (643 هـ)، ت: موفق عبد الله عبد القادر، عالم الكتب، بيروت، ط (1)، 1407 هـ.
- فتح الباري شرح صحيح البخاري، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (852 هـ)، دار المعرفة، بيروت.
- فتح الباري شرح صحيح البخاري، عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي (795 هـ)، ت: محمود بن شعبان بن عبد المقصود وآخرين، مكتبة الغرباء الأثرية، المدينة المنورة، ط (1)، 1417 هـ.
- الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية (728 هـ)، ت: عبد القادر الأرناؤوط، مكتبة دار البيان، دمشق، 1405 هـ.
- الفروع، محمد بن مفلح الحنبلي (763 هـ)، ت: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، ط (1)، 1424 هـ.
- الفصل في الملل والأهواء والنحل، علي بن أحمد بن حزم الأندلسي (456 هـ)، مكتبة الخانجي، القاهرة.
(2/628)
________________________________________
- فضائل القرآن، أبو عُبيد القاسم بن سلاّم الهروي (224 هـ)، ت: مروان العطية وآخرين، دار ابن كثير، بيروت، ط (1)، 1415 هـ.
- فضيلة الشكر لله على نعمته، محمد بن جعفر الخرائطي (327 هـ)، ت: محمد مطيع الحافظ وعبد الكريم اليافي، دار الفكر، دمشق، ط (1)، 1402 هـ.
- فهرس المخطوطات العربية في مكتبة الأوقاف العامة في بغداد، عبد الله الجبوري، رئاسة ديوان الأوقاف، بغداد، 1974 م.
- فهرس مخطوطات أبي العباس المرسي، يوسف زيدان، الهيئة العامة لمكتبة الإسكندرية، 1417 هـ.
- الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة، محمد بن علي الشوكاني (1250 هـ)، ت: عبد الرحمن بن يحي المعلمي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
- الفوائد، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية (751 هـ)، ت: محمد عزير شمس، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، ط (3)، 1438 هـ.
- فيض القدير شرح الجامع الصغير، محمد عبد الرؤوف بن علي المناوي (1031 هـ)، المكتبة التجارية الكبرى، مصر، ط (1)، 1356 هـ.
- القاموس المحيط، محمد بن يعقوب الفيروزآبادى (817 هـ)، ت: مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة، بإشراف: محمد نعيم العرقسُوسي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط (8)، 1426 هـ.
- القانون، الحسين بن عبد الله بن سينا (428 هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت، ط (1)، 1420 هـ.
- القدر وما ورد في ذلك من الآثار، عبد الله بن وهب القرشي (197 هـ)، ت: عبد العزيز عبد الرحمن العثيم، دار السلطان، مكة المكرمة، ط (1)، 1406 هـ.
- القدر وما ورد في ذلك من الآثار، عبد الله بن وهب القرشي (197 هـ)، ت: عمر الحفيان، دار العطاء، الرياض، ط (1)، 1424 هـ.
- القدر، جعفر بن محمد الفريابي (301 هـ)، ت: عبد الله بن حمد المنصور، أضواء السلف، الرياض، ط (1)، 1418 هـ.
(2/629)
________________________________________
- القصيدة اليتيمة برواية القاضي علي بن المحسن التنوخي، ت: صلاح الدين المنجد، دار الكتاب الجديد، بيروت، ط (3)، 1983 م.
- القضاء والقدر، أحمد بن الحسين البيهقي (458 هـ)، ت: محمد بن عبد الله آل عامر، مكتبة العبيكان، الرياض، ط (1)، 1421 ه.
- قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد، محمد بن علي الحارثي أبو طالب المكي (386 هـ)، ت: عاصم إبراهيم الكيالي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط (2)، 1426 هـ.
- الكامل في القراءات والأربعين الزائدة عليها، يوسف بن علي بن جبارة الهُذَلي (465 هـ)، ت: جمال بن السيد الشايب، مؤسسة سما للتوزيع والنشر، القاهرة، ط (1)، 1428 هـ.
- الكامل في اللغة والأدب، محمد بن يزيد المبرد (285 هـ)، ت: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر العربي، القاهرة، ط (3)، 1417 هـ.
- الكامل في ضعفاء الرجال، عبد الله بن عدي الجرجاني (365 هـ)، ت: مازن محمد السرساوي، مكتبة الرشد، الرياض، ط (1)،1434 هـ.
- كتاب الروح، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية (751 هـ)، ت: محمد أجمل الإصلاحي، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، ط (2)، 1436 هـ.
- كتاب الصلاة، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية (751 هـ)، ت: عدنان بن صفاخان البخاري، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، ط (1)، 1438 هـ.
- الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، محمود بن عمرو الزمخشري (538 هـ)، دار الكتاب العربي، بيروت، ط (3)، 1407 هـ.
- كشف الأستار عن زوائد البزار، علي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي (807 هـ)، ت: حبيب الرحمن الأعظمي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط (1)، 1399 هـ.
- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، مصطفى بن عبد الله المعروف بحاجي خليفة (1067 هـ)، تصوير دار الكتب العلمية، بيروت، 1941 م.
(2/630)
________________________________________
- الكشف والبيان عن تفسير القرآن، أحمد بن محمد الثعلبي (427 هـ)، ت: أبو محمد بن عاشور، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط (1)، 1422 هـ.
- الكلام على مسألة السماع، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية (751 هـ)، ت: محمد عزير شمس، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، ط (1)، 1432 هـ.
- الكنى والأسماء، محمد بن أحمد أبو بشر الدولابي (310 هـ)، ت: نظر محمد الفريابي، دار ابن حزم، بيروت، 1421 هـ.
- لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية، محمد بن أحمد السفاريني (1188 هـ)، مؤسسة الخافقين ومكتبتها، دمشق، ط (2)، 1402 هـ.
- المباحث المشرقية، محمد بن عمر فخر الدين الرازي (606 هـ)، انتشارات بيدار، قم، 1370 هـ.
- مجاز القرآن، أبو عبيدة معمر بن المثنى (209 هـ)، ت: محمد فواد سزگين، مكتبة الخانجى، القاهرة، 1381 هـ.
- المجالسة وجواهر العلم، أحمد بن مروان أبو بكر الدينوري (333 هـ)، ت: مشهور بن حسن آل سلمان، جمعية التربية الإسلامية، البحرين، ط (1)، 1419 هـ.
- مجرد مقالات الأشعري، محمد بن الحسن بن فورك (406 هـ)، ت: أحمد السايح، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ط (1)، 1425 هـ.
- المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين، محمد بن حبان البستي (354 هـ)، ت: محمود إبراهيم زايد، دار الوعي، حلب، ط (1)، 1396 هـ.
- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، علي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي (807 هـ)، ت: حسام الدين القدسي، مكتبة القدسي، القاهرة، 1414 هـ.
- مجموع الفتاوى، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية (728 هـ)، ت: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، 1416 هـ.
- المحتضرون، أبو بكر عبد الله بن محمد المعروف بابن أبي الدنيا (281 هـ)، ت: محمد خير رمضان يوسف، دار ابن حزم، بيروت، ط (1)، 1417 هـ.
(2/631)
________________________________________
- المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (542 هـ (، ت: عبد الله الأنصاري والسيد عبد العال، دار الفكر العربي، ط (2).
- محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين، محمد بن عمر فخر الدين الرازي (606 هـ)، ت: طه عبد الرؤوف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة.
- المحكم والمحيط الأعظم، علي بن إسماعيل بن سيده المرسي (458 هـ)، ت: عبد الفتاح السيد سليم وآخرين، معهد المخطوطات العربية، القاهرة، 1424 هـ.
- المحلى بالآثار، علي بن أحمد بن حزم الأندلسي (456 هـ)، ت: أحمد شاكر، دار الجيل، بيروت.
- محيط المحيط، بطرس البستاني (1883 م)، مكتبة لبنان، بيروت، 1987 م.
- مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، محمد بن محمد المشهور بابن الموصلي، ت: الحسن بن عبد الرحمن العلوي، أضواء السلف، الرياض، ط (1)، 1425 هـ.
- مختصر شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، خالد عبد الرحمن العك، دار المعرفة، بيروت، 1996 م.
- مختصر قيام الليل للمروزي، أحمد بن علي المقريزي (845 هـ)، حديث أكادمي، فيصل آباد، ط (1)، 1408 هـ.
- المختصر من كتاب السياق لتاريخ نيسابور، مؤلف من القرن السادس، ت: محمد كاظم المحمودي، مرآة التراث، طهران.
- المخصص، علي بن إسماعيل بن سيده (458 هـ)، ت: خليل إبراهم جفال، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط (1)، 1417 هـ.
- المخلصيات، محمد بن عبد الرحمن المخَلِّص (393 هـ)، ت: نبيل سعد الدين جرار، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر، ط (1)، 1429 هـ.
- مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية (751 هـ)، ت: ناصر السعوي وآخرين، دار الصميعي، الرياض، ط (1)، 1432 هـ.
(2/632)
________________________________________
- المدهش، عبد الرحمن بن علي أبو الفرج بن الجوزي (597 هـ)، ت: مروان قباني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط (2)، 1405 هـ.
- المراسيل، عبد الرحمن بن محمد الرازي ابن أبي حاتم (327 هـ)، ت: شكر الله بن نعمة الله قوجاني، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط (1)، 1397 هـ.
- المرض والكفارات، أبو بكر عبد الله بن محمد المعروف بابن أبي الدنيا (281 هـ)، ت: عبد الوكيل الندوي، الدار السلفية، بومباي، ط (1)، 1411 هـ.
- مسائل أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه برواية إسحاق منصور الكوسج، ت: جماعة من الباحثين، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، ط (1)، 2004 م.
- مسائل الإمام أحمد، برواية إسحاق بن إبراهيم بن هانئ (265 هـ)، ت: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، ط (1)، 1400 هـ.
- مسائل حرب الكرماني (من كتاب النكاح إلى نهاية الكتاب)، حرب بن إسماعيل بن خلف الكرماني (280 هـ)، ت: فايز بن أحمد حابس، جامعة أم القرى، مكة، 1422 هـ.
- المستخرج، يعقوب بن إسحاق أبو عوانة النيسابوري (316 هـ)، ت: أيمن بن عارف الدمشقي، دار المعرفة، بيروت، ط (1)، 1419 هـ.
- المستدرك على الصحيحين، محمد بن عبد الله أبو عبد الله الحاكم النيسابوري (405 هـ)، ت: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط (1)، 1411 هـ.
- مسند أبي يعلى، أحمد بن علي أبو يعلى الموصلي (303 هـ)، ت: حسين سليم أسد، دار الثقافة العربية، دمشق، ط (1)، 1412 هـ.
- مسند أبي داود الطيالسي، سليمان بن داود أبو داود الطيالسي (204 هـ)،ت: محمد بن عبد المحسن التركي، دار هجر، القاهرة، ط (1)، 1419 هـ.
- مسند أحمد، أحمد بن محمد بن حنبل (241 هـ)، ت: شعيب الأرناؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط (1)، 1421 هـ.
- مسند إسحاق، إسحاق بن إبراهيم المعروف بابن راهويه (238 هـ)، ت: عبد الغفور بن عبد الحق البلوشي، مكتبة الإيمان، المدينة المنورة، ط (1)، 1412 هـ.
(2/633)
________________________________________
- مسند الشاميين: سليمان بن أحمد الطبراني (360 هـ)، ت: حمدي بن عبد المجيد السلفي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط (1)، 1405 هـ.
- مسند الفاروق أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأقواله على أبواب العلم، إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي (774 هـ)، ت: إمام بن علي بن إمام، دار الفلاح، الفيوم، ط (1)، 1430 هـ.
- مسند علي بن الجعد (230 هـ)، رواية وجمع عبد الله بن محمد أبو القاسم البغوي (317 هـ)، ت: عامر أحمد حيدر، مؤسسة نادر، بيروت، ط (1)، 1410 هـ.
- المسند، أحمد بن عمرو البزار (292 هـ)، ت: محفوظ الرحمن زين الله، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط (1)، 1409 هـ.
- مشكلة الشر ووجود الله، سامي عامري، تكوين للدراسات والأبحاث، الخبر، ط (2)، 1437 هـ.
- المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، أحمد بن محمد بن علي الفيومي (نحو 770 هـ)، المكتبة العلمية، بيروت.
- المصنف، عبد الرزاق بن همام الصنعاني (211 هـ)، ت: حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط (2)، 1403 هـ.
- المُصَنَّف، عبد الله بن محمد أبو بكر بن أبي شيبة (235 هـ)، ت: محمد عوامة، دار القبلة، جدة، ط (1)، 1427 هـ.
- المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (852 هـ)، ت: مجموعة من الباحثين، دار العاصمة، الرياض، ط (1)، 1419 هـ.
- المطالب العالية من العلم الإلهي، محمد بن عمر فخر الدين الرازي (606 هـ)، ت: أحمد حجازي السقا، دار الكتاب العربي، بيروت،
- معالم التنزيل في تفسير القرآن، الحسين بن مسعود البغوي (516 هـ)، ت: محمد عبد الله النمر وآخرين، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط (4)، 1417 هـ.
- معالم السنن، حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي (388 هـ)، ت: محمد راغب الطباخ، المطبعة العلمية، حلب، ط (1)، 1351 هـ.
(2/634)
________________________________________
- معانى القرآن، أبو الحسن المجاشعي المعروف بالأخفش الأوسط (215 هـ)، ت: هدى محمود قراعة، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط (1)،1411 هـ.
- معاني القرآن وإعرابه، إبراهيم بن السري أبو إسحاق الزجاج (311 هـ)، ت: عبد الجليل عبده شلبي، عالم الكتب، بيروت، ط (1)، 1408 هـ.
- معاني القرآن، يحيى بن زياد الفراء (207 هـ)، ت: أحمد يوسف النجاتي وآخرين، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة، ط (1).
- المعتمد في أصول الدين، أبو يعلى محمد بن الحسين الحنبلي (458 هـ)، ت: وديع زيدان، دار المشرق، بيروت.
- معجم الأدباء، ياقوت بن عبد الله الرومي (626 هـ)، ت: إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط (1)، 1414 هـ.
- المعجم الأوسط، سليمان بن أحمد الطبراني (360 هـ)، ت: طارق بن عوض الله وعبد المحسن الحسيني، دار الحرمين، القاهرة، 1415 هـ.
- معجم البلدان، ياقوت بن عبد الله الرومي (626 هـ)، دار صادر، بيروت، ط (2)، 1995 م.
- معجم الحيوان، أمين فهد المعلوف (1362 هـ)، تصوير دار الرائد العربي، بيروت.
- معجم الشيوخ، علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر (571 هـ)، ت: وفاء تقي الدين، دار البشائر، دمشق، ط (1)، 1421 هـ.
- المعجم الصغير (الروض الداني إلى المعجم الصغير للطبراني)، سليمان بن أحمد الطبراني (360 هـ)، ت: محمد شكور الحاج أمرير، المكتب الإسلامي، بيروت، ط (1)، 1405 هـ.
- المعجم الكبير، سليمان بن أحمد الطبراني (360 هـ)، ت: حمدي عبد المجيد السلفي، دار إحياء التراث الإسلامي، ط (2).
- معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية: عاتق بن غيث البلادي (1431 هـ)، دار مكة للنشر والتوزيع، مكة المكرمة، ط (1)، 1402 هـ.
(2/635)
________________________________________
- معجم الموضوعات المطروقة في التأليف الإسلامي، عبد الله محمد الحبشي، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، أبو ظبي، ط (1)، 1430 هـ.
- المعجم الوسيط، إبراهيم مصطفى وآخرين، مجمع اللغة العربية، القاهرة، ط (2)، 1392 هـ.
- المعجم، أحمد بن محمد بن زياد أبو سعيد بن الأعرابي (340 هـ)، ت: عبد المحسن بن إبراهيم الحسيني، دار ابن الجوزي، الدمام، ط (1)، 1418 هـ.
- المعجم، عَبْد الخالق بْن أسد بْن ثابت (564 هـ)، ت: نبيل سعد الدين جرَّار، دار البشائر الإسلامية، ط (1)، 1434 هـ.
- معرفة الصحابة، أحمد بن عبد الله أبو نعيم الأصبهاني (430 هـ)، ت: عادل بن يوسف العزازي، دار الوطن، الرياض، 1998 م.
- المعرفة والتاريخ، يعقوب بن سفيان الفسوي (277 هـ)، ت: أكرم ضياء العمري، مكتبة الدار، المدينة المنورة، 1410 هـ.
- المغني في أبواب التوحيد والعدل، عبد الجبار بن أحمد الهمداني (415 هـ)، ت: مجموعة من المحققين، القاهرة.
- المغني، عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي (620 هـ)، ت: عبد الله التركي وعبد الفتاح الحلو، دار عالم الكتب، القاهرة، ط (3)، 1417 هـ.
- مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم، أحمد مصطفى الشهير بطاشكبري زاده (968 هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت، ط (1)، 1405 هـ.
- مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية (751 هـ)، ت: عبد الرحمن بن حسن بن قائد، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، ط (1)، 1432 هـ.
- مقاتل الطالبيين، علي بن الحسين أبو الفرج الأصبهاني (356 هـ)، ت: السيد أحمد صقر، دار المعرفة، بيروت.
- مقالات الإسلاميين، أبو الحسن علي بن إسماعيل (324 هـ)، ت: هلموت ريتر، دار فرانز شتايز، ألمانيا، ط (3)، 1400 هـ.
(2/636)
________________________________________
- مقاييس اللغة، أحمد بن فارس الرازي (395 هـ)، ت: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، بيروت، 1399 هـ.
- الملل والنحل، محمد بن عبد الكريم الشهرستاني (548 هـ)، ت: محمد سيد كيلاني، مصطفى البابي الحلبي، ط (2)، 1395 هـ.
- منازل السائرين، أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الهروي (481 هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت.
- مناقب الشافعي، أحمد بن الحسين البيهقي (458 هـ)، ت: السيد أحمد صقر، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط (1)، 1390 هـ.
- مناقب الشافعي، محمد بن الحسين أبو الحسن الآبري (363 هـ)، ت: جمال عزون، الدار الأثرية، ط (1)، 1430 هـ.
- المنتخب من كتاب السياق لتاريخ نيسابور، إبراهيم بن محمد الصَّرِيفيني (641 هـ)، ت: خالد حيدر، دار الفكر، بيروت، 1414 هـ.
- المنتخب من مسند عبد بن حميد، عبد الحميد بن حميد بن نصر (249 هـ)، ت: صبحي السامرائي ومحمود خليل الصعيدي، مكتبة السنة، القاهرة، ط (1)، 1408 هـ.
- منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية (728 هـ)، ت: محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، ط (1)، 1406 هـ.
- المنية والأمل، عبد الجبار بن أحمد الهمداني (415 هـ)، ت: سامي النشار وعصام الدين محمد، دار المطبوعات الجامعية، الإسكندرية، 1972 م.
- موافقة الخبر الخبر في تخريج أحاديث المختصر، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (852 هـ)، ت: حمدي عبد المجيد السلفي وصبحي السامرائي، مكتبة الرشد، الرياض، ط (2)، 1414 هـ.
- الموشح، محمد بن عمران المرزباني (384 هـ)، ت: علي البجاوي، نهضة مصر للطباعة، القاهرة.
(2/637)
________________________________________
- الموضوعات من الأحاديث المرفوعات، عبد الرحمن بن علي أبو الفرج بن الجوزي (597 هـ)، ت: نور الدين بن شكري جيلار، أضواء السلف، الرياض، ط (1)، 1418 هـ.
- الموطأ، مالك بن أنس (179 هـ)، رواية: يحيى بن يحيى الليثي (244 هـ)، ت: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1406 هـ.
- ميزان الاعتدال في نقد الرجال، محمد بن أحمد الذهبي (748 هـ)، ت: علي بن محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت، ط (1)، 1382 هـ.
- النبوات، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية (728 هـ)، ت: عبد العزيز بن صالح الطويان، أضواء السلف، الرياض، ط (1)، 1420 هـ.
- نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (852 هـ)، ت: حمد عبد المجيد السلفي، دار ابن كثير، دمشق، ط (2)، 1429 هـ.
- نسب قريش، المصعب بن عبد الله الزبيري (236 هـ)، ت: ليفي بروفنسال، دار المعارف، القاهرة، ط (3).
- النشر، محمد بن محمد بن يوسف ابن الجزري (833 هـ)، ت: علي محمد الضباع، المطبعة التجارية الكبرى، القاهرة، 1380 هـ.
- النظامية، عبد الملك بن عبد الله أبو المعالي الجويني (478 هـ)، ت: محمد زاهد الكوثري، المكتبة الأزهرية للتراث، القاهرة، 1412 هـ.
- نفائس الأصول في شرح المحصول، شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي (684 هـ)، ت: عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط (1)، 1416 هـ.
- نقض الإمام أبي سعيد عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد فيما افترى على الله عز وجل من التوحيد، عثمان بن سعيد الدارمي (280 هـ)، ت: رشيد بن حسن الألمعي، مكتبة الرشد، الرياض، ط (1)، 1418 هـ.
- النكت والعيون، علي بن محمد الماوردي (450 هـ)، ت: السيد بن عبد المقصود بن عبد الرحيم، دار الكتب العلمية، بيروت.
(2/638)
________________________________________
- نهاية الإقدام في علم الكلام، محمد بن عبد الكريم الشهرستاني (548 هـ)، ت: ألفريد جيوم، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ط (1)، 1430 هـ.
- النهاية في غريب الحديث والأثر، المبارك بن محمد بن محمد مجد الدين ابن الأثير الجزري (606 هـ)، ت: طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمد الطناحي، المكتبة العلمية، بيروت، 1399 هـ.
- الهداية إلى بلوغ النهاية، مكي بن أبي طالب القيسي (437 هـ)، ت: مجموعة من الباحثين، بإشراف: الشاهد البوشيخي، كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة الشارقة، ط (1)، 1429 هـ.
- الوسيط في التفسير، علي بن أحمد الواحدي (468 هـ)، ت: عادل أحمد عبد الموجود وآخرين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط (1)، 1415 هـ.
- وفيات الأعيان، أحمد بن محمد بن خلكان (681 هـ)، ت: إحسان عباس، دار صادر، بيروت.
* * *
(2/639)
________________________________________