الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة
التصنيفات
الوصف المفصل
- الصواعق
المرسلة على الجهمية والمعطلة
- الفصل الأول في معرفة حقيقة التأويل ومسمَّاه لغةً واصطلاحًا
- الفصل الثاني وهو: انقسام التأويل إلى صحيح وباطل
- الفصل الثالث (1) في أنَّ التأويل إخبارٌ عن مراد المتكلم لا إنشاءٌ
- الفصل الرابع (1) في الفرق بين تأويل الخبر وتأويل الطلب
- الفصل الخامس (1) في الفرق بين تأويل التحريف وتأويل التفسير
- الفصل السادس (1) في تعجيز المتأولين عن تحقيق (2) الفرق بين ما يسوغ تأويلُه من آيات (3) الصِّفات وأحاديثها وما لا يسوغ
- الفصل السابع (1) في إلزامهم في المعنى الذي جعلوه تأويلًا نظير ما فروا منه
- الفصل الثامن (1) في بيان خطئهم في فهمهم من النصوص المعانيَ الباطلةَ التي تأوَّلوها لأجلها فجمعوا بين التشبيه والتعطيل
- الفصل التاسع (1) في الوظائف الواجبة على المتأوِّل التي (2) لا يُقبل منه تأويله إلَّا بها
- الفصل العاشر (1) في أن التأويل شرٌّ من التعطيل
- الفصل الحادي عشر (1) في أن قصْدَ المتكلم من المخاطب حملَ كلامه على خلاف ظاهره وحقيقته ينافي قصدَ البيان والإرشاد والهدى، وأن القصدين يتنافيان (2)، وأنَّ تركَه بدون ذلك الخطاب خيرٌ له وأقرب إلى الهدى لمَّا كان المقصود بالخطاب دلالة السَّامع وإفهامه مرادَ المتكلم بكلامه، وتبيينه له ما في نفسه من المعاني ودلالته عليها بأقرب الطرق، كان ذلك موقوفًا (3) على أمرين: بيان المتكلم، وتمكُّن السامع من الفهم.
- الفصل الثاني (1) عشر في بيان أنه مع كمال عِلم المتكلم وفصاحته وبيانه ونصحه يمتنع عليه أن يريد بكلامه خلافَ ظاهره وحقيقته وعدمُ البيان في أهم الأمور وما تشتد الحاجة إلى بيانه
- الفصل الثالث (1) عشر في بيان أن تيسير القرآن للذكر يُنافي حملَه على التأويل المخالف لحقيقته وظاهره
- الفصل الرابع (1) عشر في أن التأويل يعود على المقصود من (2) وضع اللغات بالإبطال
- الفصل الخامس (1) عشر في جنايات التأويل على أديان الرُّسل
- الفصل السادس (1) عشر في بيان ما يقبل التأويلَ من الكلام وما لا يقبله
- الفصل السابع (1) عشر في أن التأويل يُفسِد العلوم كلها إنْ سُلِّط (2) عليها ويرفع الثقة بالكلام ولا يمكن أُمةً من الأمم أن تعيش عليه
- الفصل الثامن عشر في انقسام الناس في نصوص الوحي إلى أصحاب تأويلٍ وأصحاب تخييلٍ وأصحاب تجهيلٍ وأصحاب تمثيلٍ (1) وأصحاب سواء السبيل
- الفصل التاسع عشر في الأسباب التي تسهل على النفوس الجاهلة قبول التأويل مع مخالفته للبيان (1) الذي علَّمه الله الإنسان وفَطَره على قبوله
- الفصل العشرون في بيان أن أهل التأويل لا يمكنهم إقامة الدليل السمعي على مبطل أبدًا
- الفصل الحادي والعشرون في الأسباب الجالبة (1) للتأويل
- الفصل الثاني والعشرون في أنواع الاختلاف الناشئة عن التأويل
- الفصل الثالث والعشرون في أسباب الخلاف الواقع بين الأئمة بعد اتفاقهم على أصلٍ واحدٍ وتحاكمهم إليه وهو كتاب الله وسُنَّة رسوله
- الفصل الرَّابع والعشرون في ذكر الطَّواغيت الأربع التي هدم بها أصحابُ التأويل الباطل معاقلَ الدِّين
الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة
تأليف الإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (691 هـ - 751 هـ) تحقيق حسين بن عكاشة بن رمضان تخريج حسين بن حسن باقر - كريم محمد عيد وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالى) دار عطاءات العلم - دار ابن حزم
(المقدمة/1)
راجع هذا الجزء محمد أجمل الإصلاحي سعود بن عبد العزيز العريفي
(المقدمة/3)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدِّين. أمَّا بعد، فيعدّ الإمام شمس الدِّين ابن القيِّم (ت 751 هـ) ـ رحمه الله تعالى ـ أحد المصنِّفين الذين عمَّ النفع بكتبهم شرقًا وغربًا عجمًا وعربًا، ومصنَّفاته من أعظم الكتب التي انتفع بها المسلمون في العقائد والفقه والسِّيرة النبوية والزُّهد والرَّقائق والأذكار وفي الحديث والعلل والأصول والفرق والمذاهب. وكتاب «الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة» أحد أنفس الكتب في الرد على الجهمية والمعطلة، وهو كتابٌ جليل الشأن، محكم البنيان، هدم فيه الإمام ابن القيِّم حصونهم من أساسها، وحشد لنقض مذاهبهم أدلة المنقول والمعقول، فلم يُبق لهم حجةً يتعلقون بها لا منقولًا صحيحًا ولا معقولًا صريحًا. وهو من أكبر الكتب في الردِّ على الجهمية والمعطلة ونُصرة العقيدة السلفية، مع استطرادات كثيرة جدًّا، شحنه ابن القيِّم بفوائد: عقدية وتفسيرية وفقهية وحديثية ولغوية وغيرها، وطالع له كتبًا كثيرةً جدًّا. ومن دواعي الأسى أننا لم نعثر إلَّا على نحو نصف الكتاب فقط، ولم نجد بقيته بعدُ، نسأل الله أن ييسر الحصول عليها بمنِّه وكرمه. وهذا الكتاب حقيق أن تكثر به الطبعات ليعم النفع به، فإنه من أحسن الكتب في بابه وأقواها حجة.
(المقدمة/5)
وقد قدمت بين يدي التحقيق تعريفًا بالكتاب قسمته على مباحث، هذا مسردها: (1) توثيق نسبة الكتاب إلى ابن القيِّم. (2) عنوان الكتاب. (3) حجم الكتاب. (4) عرض موجز لموضوعات الكتاب. (5) منهج الكتاب. (6) مصادر الكتاب. (7) مكانة الكتاب. (8) مختصرات الكتاب. (9) طبعات الكتاب السابقة. (10) مخطوطات الكتاب. (11) منهج التحقيق. وأتقدم بالشكر لكل من أعان على إتمام هذه الطبعة، وأسأل الله أن ينفع بها عموم المسلمين، إنه جواد كريم. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
(المقدمة/6)
(1) توثيق نسبة الكتاب إلى ابن القيِّم كتاب «الصواعق» ثابت النسبة للإمام ابن القيِّم ـ رحمه الله تعالى ـ وقد تضافرت على ذلك الأدلة، وقد قسمتها إلى أدلة داخلية من الكتاب، وأدلة خارجية: أمَّا الأدلة الداخلية فمنها: الأول: ما في ثنايا الكتاب من إحالة الإمام ابن القيِّم على كتبه المشهورة: فقد أحال على ثلاثة من كتبه المشهورة، هي: 1 - «اجتماع الجيوش الإسلامية» في قوله (ص 846): «وقد ذكرنا في كتاب «اجتماع العساكر الإسلامية على غزو الفرقة الجهمية» أضعاف أضعاف هذه النقول عن الصحابة والتابعين وتابعيهم والأئمة الأربعة نصًّا صريحًا عنهم، نقل أصحابهم وغيرهم، وأئمة التفسير، وأئمة اللغة، وأئمة النحو، وأئمة الفقه، وسادات الصوفية، وشعراء الجاهلية والإسلام، ممَّا في بعضه كفاية لمن أراد الله هدايته». وفي قوله (ص 890): «وهذه النقول التي حكيناها قليلٌ من كثيرٍ، وقد ذكرنا أضعاف أضعافها في كتاب «اجتماع العساكر الإسلامية على غزو الفرقة الجهمية». وهذه الأقوال في «اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص 162 - 510). 2 - «حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح» في قوله (ص 915): «وقد ذكرنا في كتاب «صفة الجنة» أربعين دليلًا على مسألة الرُّؤية من الكتاب والسُّنَّة». وهي في «حادي الأرواح» (2/ 605 - 714). 3 - «مفتاح دار السعادة» في قوله (ص 1025 - 1026): «وعلى هذا
(المقدمة/7)
الأصل تنشأ مسألة التحسين والتقبيح، وقد ذكرناها مستوفاةً في كتاب «المفتاح» وذكرنا على صحتها فوق الخمسين دليلًا». وهي في «مفتاح دار السعادة» (2/ 875 - 891). الثاني: ما في ثنايا الكتاب من نقل الإمام ابن القيِّم عن شيوخه المعروفين: فقد ذكر ابن القيِّم في كتابه هذا اثنين من شيوخه المشهورين، هما: 1 - شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية (ت 728 هـ). ذكره في غير موضع وكان به حفيًّا. 2 - الشيخ عبد الله بن عبد الحليم ابن تيمية (ت 727 هـ) (1). ذكر ابن القيم (ص 131) مناظرة وقال: «حدثني بمضمونها شيخُنا عبد الله ابن تيمية - رحمه الله -». الثالث: اختيارات ابن القيِّم المشهورة وإحالاته على أبحاثه عنها، منها: 1 - مسألة دخول الكفّارة في الحلف بالطلاق وكون الثلاث في كلمةٍ واحدةٍ واحدةً، قال (ص 335): «فالذي يَجزِم به أن دخول الكفارة في الحلف بالطلاق وكون الثلاث في كلمةٍ واحدةٍ واحدةً أحد الوجهين في مذهب أحمد، وهو مخرَّج على أصوله أصحَّ تخريج، والغرض نقض قول مَن ادعى الإجماع في ذلك، ولتقرير هذه المسألة موضع آخر». وينظر: «زاد المعاد» (5/ 344 - 383) و «إغاثة اللهفان» (1/ 499 - 569) و «بدائع الفوائد» (3/ 31 - 38). ولقد نصر الإمام ابن القيم هذه المسألة وأُوذي بسببها كما _________ (1) ترجمته في: «المعجم المختص بالمحدثين» للذهبي (ص 121) و «أعيان العصر» للصفدي (2/ 692) و «ذيل طبقات الحنابلة» لابن رجب (4/ 477).
(المقدمة/8)
هو معلوم. 2 - مسألة طلاق الحائض، لما ذكر حديث عبد الله بن عمر طلَّق امرأته وهي حائض، قال (ص 340): «والكلام على هذا الحديث وعلى الحديث الآخر: «أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ» وبيان عدم التعارض بينهما له موضعٌ آخَرُ». وقد تكلم الإمام ابن القيم - رحمه الله - على هذه المسألة بتوسُّع في «تهذيب السنن» (1/ 483 - 516) وختمها بقوله: «وقد أفردت لهذه المسألة مصنَّفًا مستقلًّا، ذَكَرتُ فيه مذاهب الناس ومآخذهم، وترجيح القول الراجح، والجواب عمَّا احتجَّ به أصحاب القول الآخر». 3 - مسألة نكاح المحلل، قال (ص 299): «وغير ذلك من الوجوه التي أَفهَمَتْ منها الآية بطلانَ نكاح المحلِّل، وهي عشرة، قد ذكرناها في موضع آخر». وينظر عن نكاح المحلل «زاد المعاد» (5/ 154 - 157) و «إغاثة اللهفان» (1/ 473 - 495). الرابع: أسلوب الإمام ابن القيِّم الذي لا يخطئه من يعرفه. أسلوب يمتاز بعذوبة اللفظ، وسلاسة العبارة، وحُسن التقسيم، مع الإحاطة بأطراف المسائل وكثرة الاستشهاد بالكتاب والسُّنة وآثار السلف، فتأتي كتبه في غاية القوة مع الإنصاف وحُسن العبارة؛ قال الشوكاني في «البدر الطالع» (2/ 144 - 145): «وله من حُسن التَّصرف مع العذوبة الزَّائدة، وحُسن السِّياق ما لا يقدر عليه غالب المصنِّفين، بحيث تعشق الأفهام كلامه، وتميل إليه الأذهان، وتحبُّه القلوب، وليس له على غير الدَّليل معوَّل في الغالب ... وغالب أبحاثه الإنصاف والميل مع الدَّليل حيث مال، وعدم التَّعويل على القيل والقال، وإذا استوعب الكلام في بحثٍ وطوَّل ذيوله أتى
(المقدمة/9)
بما لم يأت به غيره، وساق ما ينشرح له صدور الرَّاغبين في أخذ مذاهبهم عن الدَّليل». وأمَّا الأدلة الخارجية فكثيرة، منها: الأول: أن الإمام ابن القيِّم نفسه أحال عليه في عدة كتبٍ من كتبه المشهورة: منها: قوله في «مدارج السالكين» (4/ 306): «وكذلك كان تأويل آيات الصفات وأحاديثها بما يخرجها عن حقائقها من جنس تأويل آيات المعاد وأخباره، بل أبعد منه لوجوهٍ كثيرةٍ، ذكرتها في كتاب «الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة». ومنها: قوله في «إغاثة اللهفان» (2/ 526): «وقد دل على هذا نسبة الله سبحانه ذلك الكيد إلى نفسه بقوله: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ اِلْمَلِكِ إِلَّا أَن يَشَاءَ اَللَّهُ} [يوسف: 76] وهو سبحانه ينسب إلى نفسه أحسن هذه المعاني، وما هو منها حكمة وحق وصواب، وجزاء للمسيء، وذلك غاية العدل والحق ... كما قد بسطنا هذا المعنى واستوفينا عليه الكلام في كتاب «الصواعق». ومنها: قوله في «الكافية الشافية» (ص 517): عشرون وجهًا تبطل التأويل باسـ ... ـتولى ف لا تخرج عن القرآن قد أفردت بمصنف هو عندنا ... تصنيف حبر عالم رباني ولقد ذكرنا أربعين طريقة ... قد أبطلت هذا بحسن بيان هي في «الصواعق» إن ترد تحقيقها ... لا تختفي إ لا على العميان
(المقدمة/10)
الثاني: وجود «مختصر الصواعق» للإمام محمد الموصلي تلميذ مصنِّفه. وهو مختصرٌ نافعٌ جدًّا، مشهور مطبوع عدة طبعات، وهو مختصر يحافظ على عبارة المصنِّف غالبًا، وسيأتي الكلام عليه. وكذلك وجود «مختصر الصواعق» للشيخ محمد بن عبد الوهاب. الثالث: نقل أهل العلم عن «الصواعق». للأسف لم أقف على نقول كثيرة من «الصواعق»، وممَّن وقفت على نقله عنه: الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب في «فتح المجيد» (ص 56 - 57) وفي «كشف ما ألقاه إبليس من البهرج والتلبيس على قلب داود بن جرجيس» (ص 144 - 146، 149 - 152) والشيخ سليمان بن سحمان في «إقامة الحجة والدليل وإيضاح المحجة والسبيل» (ص 48 - 49). الرابع: نسب «الصواعق» إلى الإمام ابن القيِّم جماعةٌ كثيرةٌ من أهل العلم. منهم: شهاب الدِّين ابن رجب في «معجم شيوخه» -كما في «المنتقى من معجم شيوخ ابن رجب» (ص 101) - وابنه زين الدِّين ابن رجب في «ذيل طبقات الحنابلة» (5/ 175) وابن حجر في «الدُّرر الكامنة» (3/ 402) والعليمي في «الدُّر المنضد» (2/ 522) وفي «المنهج الأحمد» (5/ 94) والدَّاودي في «طبقات المفسرين» (2/ 96) وحاجي خليفة في «سلم الوصول» (3/ 62) وفي «كشف الظنون» (2/ 1083) وابن العماد في «شذرات الذهب» (8/ 290) والشَّوكاني في «البدر الطَّالع» (2/ 144) وابن
(المقدمة/11)
بدران في «منادمة الأطلال» (ص 241) وصدِّيق حسن خان في «التَّاج المكلَّل» (ص 411) وفي «أبجد العلوم» (3/ 140) وإسماعيل البغدادي في «هدية العارفين» (2/ 158 - 159) والشَّطي في «مختصر طبقات الحنابلة» (69) والآلوسي في «جلاء العينينِ» (ص 49 - 51) والزِّركلي في «الأعلام» (6/ 56) وكحالة في «معجم المؤلفين» (3/ 165) وغيرهم. كل هذا يجعلنا لا نرتاب في صحة نسبة «الصواعق المرسلة» إلى الإمام ابن القيِّم. * * * * *
(المقدمة/12)
(2) عنوان الكتاب اختلف عنوان الكتاب في المخطوطات والمصادر اختلافًا يسيرًا، بيانه أن العنوان قد ذُكر على أوجه: الأول: «الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة». كذا سمَّاه الإمام ابن القيِّم نفسه في «مدارج السالكين» (4/ 306). وكذا سمَّاه محمد بن الموصلي في أول «مختصره» (1/ 3). وكذا سمَّاه ابن حجر في «الدُّرر الكامنة» (3/ 403) وابن العماد في «شذرات الذهب» (8/ 290) وحاجي خليفة في «كشف الظنون» (2/ 1083) والشَّوكاني في «البدر الطَّالع» (2/ 144) وصدِّيق حسن خان في «التَّاج المكلَّل» (ص 411) والآلوسي في «جلاء العينينِ» (ص 49 - 51) والزِّركلي في «الأعلام» (6/ 56) وغيرهم. ووقع في «هدية العارفين» (2/ 159): «الصَّواعق المرسلة على الجهميَّة المعطِّلة». بغير واو. الثاني: «الصَّواعق المرسلة على المعطِّلة». كذا سمَّاه شهاب الدِّين ابن رجب في «معجم شيوخه»، كما في «المنتقى منه (ص 101). الثالث: «الصَّواعق المنزلة على الجهمية والمعطِّلة». كذا سمَّاه زين الدِّين ابن رجب في «ذيل طبقات الحنابلة» (5/ 175): والعليمي في «الدُّر المنضد» (2/ 522) و «المنهج الأحمد» (5/ 94)
(المقدمة/13)
والدَّاودي في «طبقات المفسرين» (2/ 96) وابن بدران في «منادمة الأطلال» (ص 241) وصدِّيق حسن خان في «أبجد العلوم» (3/ 140) والشَّطي في «مختصر طبقات الحنابلة» (69) وكحالة في «معجم المؤلفين» (3/ 165). الرابع: «الصَّواعق المرسلة على فرق المعتزلة والجهميَّة المعطِّلة». كذا جاء عنوان الكتاب في مخطوطة برلين، وكتب على حاشيته: ويقال: «الصواعق المرسلة على فرق البدع المتأولة». الخامس: «الصَّواعق المنزلة على الطائفة الجهمية والمعطِّلة». كذا جاء عنوان الكتاب في مخطوطة حلب، وكذا سمَّاه كحالة في «معجم المؤلفين» (3/ 165). وقد رأيت أن العنوان الأول أوثق وأشهر وأكثر ورودًا في المصادر؛ فأثبته. * * * * *
(المقدمة/14)
(3) حجم الكتاب اختلفت المصادر في تحديد حجم الكتاب، وعدد مجلداته، على أوجهٍ: الأول: أنه في مجلدات. كذا قال كلٌّ من: شهاب الدِّين ابن رجب في «معجم شيوخه» ـ كما في «المنتقى منه» (ص 101) ـ وابنه زين الدِّين ابن رجب في «ذيل طبقات الحنابلة» (5/ 175)، والعليمي في «الدُّر المنضد» (2/ 522)، وفي «المنهج الأحمد» (5/ 94)، وصدِّيق حسن خان في «التَّاج المكلَّل» (ص 411) و «أبجد العلوم» (3/ 140)، والشَّطي في «مختصر طبقات الحنابلة» (69). الثاني: أنه في مجلدين. كذا قال ابن العماد في «شذرات الذهب» (8/ 290)، وابن بدران في «منادمة الأطلال» (ص 241). الثالث: أنه في مجلد. كذا قال الدَّاودي في «طبقات المفسرين» (2/ 96). وحجم المجلدات يختلف باختلاف عدد أوراقها وعدد الأسطر ومقاس الورق وحجم الخط وطريقة الكتابة، فمثلًا «صحيح البخاري» مخطوطاته لا تُحصى، فنجد نسخةً تامةً في مجلدٍ واحدٍ، ونسخة في مجلدين، وثلاثة، إلى ثلاثين مجلدًا. ولا شك أن كتاب «الصواعق المرسلة» كبير الحجم، فهو أكبر من مجلدٍ بالحجم المعتاد، فربما يقع في مجلدين كبار أو في مجلدات، فالقدر الذي وقفنا عليه يقع في نسخة حلب في 137 ورقة مسطرتها 35 سطرًا، وقد
(المقدمة/15)
تبين أن أصلها كان في مجلدين، فقد وجدت على حاشية الورقة 92 من هذه النسخة: «مطلب أول الجزء الثاني». ووجدت المؤرخ إبراهيم بن صالح بن عيسى النجدي يقول في رسالة للشيخ عبد الله بن خلف الدحيان: «ومن طرف المجلد الذي ذكرنا لجنابكم عنه أنه خرج من أيدينا، الذي هو من «الصواعق»، فهو مجلد قطع الربع لطيف، وخطه وسط، ولا عليه تصحيحات، وهو المجلد الأول، ولا بعد وقفت على «الصواعق» بكاملها، ولا رأيت غير المجلد المذكور منها، ولا أدري كم هي من مجلد؟ والتراجم التي عندي لابن القيم إذا ذُكرت فيها مصنَّفاته قالوا: وله كتاب «الصواعق» مجلدات» (1). * * * * * _________ (1) «مجموع رسائل وإجازات ونظم الشيخ المؤرخ النسابة إبراهيم بن صالح بن عيسى» (ص 16).
(المقدمة/16)
(4) عرض موجز لموضوعات الكتاب بدأه الإمام ابن القيِّم بمقدمةٍ رائقةٍ حمد الله تعالى فيها، وشهد لله تعالى بالوحدانية، وأنه موصوف بصفات الجلال، ومنعوت بنعوت الكمال، وشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، وحُجته على عباده، بعثه اللهُ وأهلُ الأرض أحوجُ إلى رسالته من غيث السماء، ومن نور الشمس الذي يُذهِب عنهم حَنَادِسَ الظَّلماء، فحاجتهم إلى رسالته فوق جميع الحاجات، وضرورتهم إليها مقدَّمة على جميع الضرورات؛ فإنه لا حياةَ للقلوب ولا نعيم ولا لذة ولا سرور ولا أمان ولا طمأنينة إلَّا بأن تَعْرِفَ ربها ومعبودها وفاطرها بأسمائه وصفاته وأفعاله، ويكون أحبَّ إليها ممَّا سواه، ويكون سعيُها في ما يقرِّبها إليه ويُدنِيها من مرضاته، ومن المحال أن تستقل العقول البشرية بمعرفة ذلك وإدراكه على التفصيل؛ فأساسُ دعوة الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- معرفةُ الله سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله. ثم ختمها بسؤال نقله عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو: «كيف يكون هؤلاء المحجوبون المنقوصون الحيارى المتهوِّكون أعلمَ بالله وصفاته وأسمائه وآياته من السابقين الأوَّلِين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ورثةِ الأنبياء وخلفاءِ الرُّسل، ومصابيح الدُّجى وأعلام الهُدى، الذين بهم قام الكتابُ وبه قاموا، وبهم نطق الكتابُ وبه نطقوا، الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء، وأحاطوا من حقائق المعارف بما لو جُمعت حكمةُ مَن عداهم وعلومهم إليه لاستحى مَن يطلب المقابلة! ثم كيف يكون أفراخُ المتفلسفة وأتباع الهند واليونان
(المقدمة/17)
وورثة المجوس والمشركين وضُلَّال الصابئين وأشباههم وأشكالهم أعلمَ بالله من ورثة الأنبياء وأهل القرآن والإيمان!». وجعل ابنُ القيِّم الكتابَ كلَّه جوابًا على هذا السؤال، فقال: «إنما يتبيَّنُ حقيقةُ الجواب بفصول». ثم ذكر فصول الكتاب، وعددها أربعة وعشرون فصلًا، متفاوتة الحجم، فيقع بعضها في صفحتين أو صفحات قليلة، ويقع بعضها في عشرات الصفحات، ويقع الفصل الرابع والعشرون منها في مئات الصفحات. وهذا عرضٌ موجزٌ لفصول الكتاب وموضوعاتها الرئيسة: الفصل الأول: في معرفة حقيقة التأويل ومسمَّاه لغةً واصطلاحًا. التأويل هو تفسيرُ ما يؤولُ إليه الشيءُ، ثم تُسمَّى العاقبة تأويلًا، وتُسمَّى حقيقة الشيء المخبَر به تأويلًا، ويُسمَّى تعبيرُ الرؤيا تأويلًا بالاعتبارين؛ فإنه تفسيرٌ لها، وهو عاقبتها وما تؤول إليه، وتُسمَّى العِلة الغائية والحكمة المطلوبة بالفعل تأويلًا؛ لأنها بيانٌ لمقصود الفاعل وغرضه من الفعل الذي لم يعرف الرائي له غرضَه به. والتأويل في اصطلاح أهل التفسير والسلف من أهل الفقه والحديث مرادهم به معنى التفسير والبيان، وأمَّا المعتزلة والجهمية وغيرهم من فرق المتكلمين فمرادهم بالتأويل: صرف اللفظ عن ظاهره وحقيقته إلى مجازه وما يخالف ظاهرَه. الفصل الثاني: وهو انقسام التأويل إلى صحيح وباطل. التأويل الصحيح هو الذي يُوافق ما دلَّت عليه النصوص، وجاءت به
(المقدمة/18)
السُّنَّة ويطابقها. والتأويل الفاسد هو الذي يُخالف ما دلَّت عليه النصوصُ وجاءت به السُّنَّة، ولا فرقَ بين باب الخبر والأمر في ذلك. وكل تأويلٍ وافق ما جاء به الرسول فهو المقبول، وما خالفه فهو المردود. ثم قسم التأويل الباطل إلى عشرة أنواعٍ، ثم قال: «فهذه بعض الوجوه التي يُفَرَّقُ بها بين التأويل الصحيح والباطل». الفصل الثالث: في أنَّ التأويل إخبارٌ عن مراد المتكلم لا إنشاء. المقصود فَهْمُ مراد المتكلم بكلامه، فإذا قيل معنى اللفظ كذا وكذا، كان إخبارًا بالذي عَنَاه المتكلم، فإن لم يكن هذا الخبرُ مطابقًا كان كذبًا على المتكلم، فالحملُ إمَّا إخبارٌ عن المتكلم بأنه أراد ذلك المعنى، فهذا الخبر إمَّا صادقٌ إن كان ذلك المعنى هو المفهوم من لفظ المتكلم، وإمَّا كاذبٌ إن كان لفظُه لم يدلَّ عليه، وإمَّا إنشاءٌ لاستعمال ذلك اللفظ في هذا المعنى، وهذا إنما يكون في كلام تُنشِئه أنت، لا في كلام الغير. الفصل الرابع: في الفرق بين تأويل الخبر وتأويل الطلب. المقصود من تأويل الخبر هو تصديق مُخبِره، ومن تأويل الطلب هو امتثاله، وكل تأويلٍ يعود على المخبر بالتعطيل وعلى الطلب بالمخالفة تأويل باطل. الفصل الخامس: في الفرق بين تأويل التحريف وتأويل التفسير وأن الأول ممتنعٌ وقوعُه في الخبر والطلب والثاني يقع فيهما. التفسير هو: إبانة المعنى وإيضاحه، والتحريف: العدول بالكلام عن وجهه وصوابِه إلى غيره. وهو نوعان: تحريفُ لفظه، وتحريفُ معناه.
(المقدمة/19)
والتأويل يتجاذبه أصلانِ: التفسير والتحريف، فتأويل التفسير هو الحق، وتأويل التحريف هو الباطل. فالتأويل الباطل هو إلحادٌ وتحريفٌ، وإن سمَّاه أصحابُه تحقيقًا وعرفانًا وتأويلًا. الفصل السادس: في تعجيز المتأولين عن تحقيق الفرق بين ما يسوغ تأويلُه من آيات الصِّفات وأحاديثها وما لا يسوغ. حقيقة الأمر أن كل طائفةٍ تتأوَّل ما يخالف نِحْلتَها ومذهبَها، فالعيارُ على ما يُتأوَّل وما لا يُتأوَّل هو المذهبُ الذي ذهبتْ إليه والقواعد التي أصَّلَتْها، فما وافقها أقرُّوه ولم يتأوَّلوه، وما خالفها فإن أمكنهم دفعُه، وإلَّا تأوَّلوه. وكلٌّ مِن هؤلاء يتأول دليلًا سمعيًّا، ويُقِرُّ على ظاهره نظيرَه أو ما هو أشد قبولًا للتأويل منه؛ لأنه ليس عندهم في نفس الأمر ضابطٌ كُلي مطَّرِد منعكس، يُفرَّق به بين ما يُتأوَّل وما لا يُتأوَّل، إن هو إلَّا المذهب وقواعده وما قاله الشيوخ. وهؤلاء لا يمكن أحدًا منهم أن يحتج على مبطِلٍ بحُجةٍ سمعيةٍ؛ لأنه يسلك في تأويلها نظير ما سلكَه هو في تأويل ما خالف مذهبَه. الفصل السابع: في إلزامهم في المعنى الذي جعلوه تأويلًا نظير ما فروا منه. هذا فصلٌ بديعٌ لمن تأمله، يعلم به أن المتأوِّلين لم يستفيدوا بتأويلهم إلَّا تعطيلَ حقائق النصوص والتلاعب بها وانتهاك حرمتها، وأنهم لم يتخلصوا ممَّا ظنُّوه محذورًا، بل هو لازمٌ لهم فيما فرُّوا إليه كلزومه فيما فرُّوا منه. بل قد يقعون فيما هو أعظمُ محذورًا، والمقصود أن المتأول يفر من أمرٍ، فيقع في نظيره.
(المقدمة/20)
فهلَّا أقرَّ النصوص على ما هي عليه، ولم ينتهك حُرمتَها؛ إذ كان التأويل لا يُخرِجه ممَّا فرَّ منه، فإن المتأول إمَّا أن يذكر معنًى ثبوتيًّا، أو يتأوَّل اللفظ بما هو عدمٌ محضٌ، فإنْ تأوَّله بمعنى ثبوتي كائنًا ما كان لزمه فيه نظيرُ ما فرَّ منه. فهو في تأويله بين التعطيل والتشبيه مع جِنايته على النَّص وانتهاكه حُرمته، فهلَّا عظَّم قَدْره، وحفظ حرمتَه، وأقرّه وأمرّه مع نفي التشبيه والتخلص من التعطيل! الفصل الثامن: في بيان خطئهم في فهمهم من النصوص المعانيَ الباطلةَ التي تأوَّلوها لأجلها فجمعوا بين التشبيه والتعطيل. هذا الفصل في الكشف عن عجيب أمر المتأوِّلين، فإنهم فهموا من النصوص الباطلَ الذي لا يجوز إرادتُه، ثم أخرجوها عن معناها الحقِّ المراد منها، فأساؤوا الظنَّ بها وبالمتكلِّم بها، وعطَّلوها عن حقائقها التي هي عين كمال الموصوف بها. فانظر إلى أقبح التشبيه والتمثيل الذي ادَّعوا أنه ظاهر النصوص، وإلى التعطيل الذي سطَوْا به عليها وسمَّوْه تأويلًا! فصحَّ أنهم جمعوا بين فَهْم التشبيه منها، واعتقاد التعطيل، ونسبة قائلها إلى قصد ما يضاد البيان والإرشاد. الفصل التاسع: في الوظائف الواجبة على المتأوِّل التي لا يُقبل منه تأويله إلَّا بها. عليه أربعة أمورٍ لا يتم له دعواه إلَّا بها: الأمر الأول: بيان احتمال اللفظ للمعنى الذي تأوَّله في ذلك التركيب الذي وقع فيه، وإلَّا كان كاذبًا على اللغة مُنشِئًا وضعًا مِن عنده.
(المقدمة/21)
الثاني: بيان تعيين ذلك المعنى؛ فإنه إذا أُخرج عن حقيقته قد يكون له معانٍ، فتعيين ذلك المعنى يحتاج إلى دليل. الثالث: إقامة الدليل الصارِف للفظ عن حقيقته وظاهره، فلا يجوز العدول عنه إلَّا بدليلٍ صارفٍ يكون أقوى منه. الرابع: الجواب عن المعارض، فإن مُدَّعي الحقيقة قد أقام الدليل العقلي والسمعي على إرادة الحقيقة. الفصل العاشر في أن التأويل شرٌّ من التعطيل فإنه يتضمن التشبيه والتعطيل والتلاعب بالنصوص وإساءة الظن بها. فإن المُعطِّل والمؤوِّل قد اشتركا في نفي حقائق الأسماء والصِّفات، وامتاز المُؤوِّل بتلاعبه بالنصوص وانتهاكه لحُرمتها وإساءة الظن بها، ونسبة قائلها إلى التكلم بما ظاهرُه الضلال والإضلال، فجمعوا بين أربعة محاذير: المحذور الأول: اعتقادهم أن ظاهر كلام الله ورسوله المُحال الباطل، ففهموا التشبيه أولًا. ثم انتقلوا عنه إلى المحذور الثاني وهو: التعطيل، فعطلوا حقائقها بناءً منهم على ذلك الفهم الذي يليق بهم، ولا يليق بالرَّبِّ جل جلاله. المحذور الثالث: نسبة المتكلِّم، الكاملِ العلمِ، الكاملِ البيانِ، التامِّ النصحِ إلى ضد البيان والهدى والإرشاد، وأن المتحيِّرين المتهوِّكين أجادوا العبارة في هذا الباب، وعبَّرُوا بعبارةٍ لا تُوهِم من الباطل ما أوهمتْه عبارة المتكلم بتلك النصوص. ولا ريب عند كل عاقلٍ أن ذلك يتضمن أنهم كانوا أعلمَ منه أو أفصحَ أو أنصحَ للناس.
(المقدمة/22)
المحذور الرابع: تلاعُبهم بالنصوص وانتهاك حرماتها. الفصل الحادي عشر: في أن قصْدَ المتكلم من المخاطب حملَ كلامه على خلاف ظاهره وحقيقته ينافي قصدَ البيان والإرشاد والهدى، وأن القصدين يتنافيان، وأنَّ تركَه بدون ذلك الخطاب خيرٌ له وأقرب إلى الهدى. لو أراد اللهُ ورسوله من كلامه خلافَ حقيقته وظاهره الذي يفهمه المخاطب لَكان قد كلَّفه أن يفهم مراده بما لا يدل عليه، بل بما يدل على نقيض مراده، وأراد منه فَهْمَ النفي بما يدل على غاية الإثبات، وفَهْمَ الشيء بما يدل على ضدِّه. الفصل الثاني عشر: في بيان أنه مع كمال عِلم المتكلم وفصاحته وبيانه ونصحه يمتنع عليه أن يريد بكلامه خلافَ ظاهره وحقيقته وعدمُ البيان في أهم الأمور وما تشتد الحاجة إلى بيانه اكتفى من هذا الفصل بذِكْر مناظرةٍ جرَتْ بين جهميٍّ معطِّلٍ وسُنِّيٍّ مُثبِتٍ. الفصل الثالث عشر: في بيان أن تيسير القرآن للذكر يُنافي حملَه على التأويل المخالف لحقيقته لا تجد كلامًا أحسن تفسيرًا ولا أتمَّ بيانًا من كلام الله سبحانه، ولهذا سمَّاه سبحانه بيانًا، وأخبر أنه يسَّره للذِّكر. وتيسيرُه للذكر يتضمن: تيسير ألفاظه للحفظ، وتيسير معانيه للفهم، وتيسير أوامره ونواهيه للامتثال. ومعلوم أنه لو كان بألفاظٍ لا يفهمها المخاطب لم يكن مُيسَّرًا له، بل كان مُعسَّرًا عليه. فهكذا إذا أُريدَ مِن المخاطب أن يفهم من ألفاظه ما لا يدل
(المقدمة/23)
عليه من المعاني، أو يدل على خلافه، فهذا من أشد التعسير، وهو منافٍ للتيسير. الفصل الرابع عشر في أن التأويل يعود على المقصود من وضع اللغات بالإبطال. المقصود أن العبد لا يعلم ما في ضمير صاحبه إلَّا بالألفاظ الدالة على ذلك، فإذا حمل السامعُ كلامَ المتكلم على خلاف ما وُضع له وخلاف ما يُفهم منه عند التخاطب عاد على مقصود اللغات بالإبطال، ولم يحصل مقصود المتكلم، ولا مصلحة المخاطَب، وكان ذلك أقبحَ من تعطيل اللسان عن كلامه، ولهذا كان التأويل الباطل فتحًا لباب الزندقة والإلحاد، وتطريقًا لأعداء الدِّين على نقضه. الفصل الخامس عشر: في جنايات التأويل على أديان الرُّسل وأن خراب العالم وفساد الدنيا والدِّين بسبب فتح باب التأويل. الآفات التي جَنَتْها ويجنيها كل وقتٍ أصحابُها على الملة والأُمة من التأويلات الفاسدة أكثرُ من أن تُحصَى أو يبلغها وصفُ واصفٍ، أو يحيط بها ذِكْر ذاكرٍ، ولكنها في جملة القول أصل كل فسادٍ وفتنةٍ، وأساس كل ضلالٍ وبدعةٍ، والمولِّدة لكل اختلافٍ وفُرقةٍ، والناتِجة أسبابَ كلِّ تباينٍ وعداوةٍ وبغضة. الفصل السادس عشر: في بيان ما يقبل التأويلَ من الكلام وما لا يقبله. المقصود أن الكلام الذي هو عرضة التأويل أن يكون له عدة معانٍ، وليس معه ما يبيِّن مراد المتكلم، فهذا للتأويل فيه مجالٌ واسعٌ، وليس في كلام الله ورسوله من هذا النوع شيءٌ من الجُمَل المركبة، وإنْ وقَعَ في
(المقدمة/24)
الحروف المفتتَح بها السورُ. الفصل السابع عشر: في أن التأويل يُفسِد العلوم كلها إنْ سُلِّط عليها ويرفع الثقة بالكلام ولا يمكن أُمةً من الأمم أن تعيش عليه. معلومٌ أن العلوم إنما قصد بها مصنِّفوها بيانَها وإيضاحها للمتعلمين، وتفهيمهم إياها بأقربِ ما يَقْدِرون عليه من الطرق. فإن سُلِّط التأويل على ألفاظهم، وحملها على غير ظواهرها، لم يُنتفَع بها وفسدت، وعاد ذلك على موضوعها ومقصودها بالإبطال. فكيف يُسلَّط التأويلُ على كلام مَن لا يجوز عليه الخطأ والغلط والتناقض وضد البيان والإرشاد؟! هذا مع كمال علمه، وكمال قدرته على أعلى أنواع البيان، وكمال نُصحِه وهُداه وإحسانه، وقصده الإفهامَ والبيانَ لا التعميةَ والإلغاز. فصل: في بيان أنه إنْ سُلِّط على آيات التوحيد القولي العلمي وأخباره لزم تسليطُه على آيات التوحيد العملي وأخباره وفسد التوحيد معرفةً وقصدًا. إنْ سُلِّط التأويل على التوحيد الخبري العلمي كان تسليطه على التوحيد العملي القصدي أسهلَ، وانمحت رسوم التوحيد، وقامت معالم التعطيل والشرك. ولهذا كان الشرك والتعطيل متلازمينِ، لا ينفك أحدهما عن صاحبه. الفصل الثامن عشر: في انقسام الناس في نصوص الوحي إلى أصحاب تأويلٍ وأصحاب تخييلٍ وأصحاب تجهيلٍ وأصحاب تمثيلٍ وأصحاب سواء السبيل. هذه خمسة أصناف انقسم الناس إليها في هذا الباب بحسب اعتقادهم ما
(المقدمة/25)
أُريدَ بالنصوص، ثم بيَّن الإمام ابن القيِّم هذه الأصناف، وختم الفصل بقوله: «فقاتَلَ اللهُ أصحابَ التحريف والتأويل، وأصحابَ التخييل، وأصحاب التجهيل، وأصحاب التشبيه والتمثيل. ماذا حُرِمُوه من الحقائق الإيمانية والمعارف الإلهية، وماذا تعوضوا به من زُبالة الأذهان ونُخالة الأفكار! فما أشبَهَهم بمن كان غذاؤهم المَنَّ والسَّلْوى بلا تعبٍ ولا كُلْفةٍ، فآثَروا عليه الفُومَ والعدس والبصل، وقد جرت عادةُ الله سبحانه أن يُذِلَّ مَن آثَرَ الأدنى على الأعلى، ويجعله عبرةً للعقلاء». الفصل التاسع عشر: في الأسباب التي تسهل على النفوس الجاهلة قبول التأويل مع مخالفته للبيان الذي علَّمه الله الإنسان وفَطَره على قبوله. التأويل يجري مَجرى مخالفة الطبيعة الإنسانية والفطرة التي فُطر عليها العبد، فإنه ردُّ الفهم من جريانه مع الأمر المعتاد المألوف إلى الأمر الذي لم يُعهَد ولم يُؤلف. وما كان هذا سبيلَه فإن الطباع السليمة لا تتقاضاه بل تنفر منه وتأباه، فلذلك وضع له أربابُه أصولًا ومهَّدوا له أسبابًا تدعو إلى قبوله، وهي أنواع. ثم ذكر منها ستة أنواع. الفصل العشرون: في بيان أن أهل التأويل لا يمكنهم إقامة الدليل السمعي على مبطل أبدًا. قال فيه: «من المعلوم أن كل مبطلٍ أنكر على خصمه شيئًا من الباطل قد شاركه في بعضه أو في نظيره، فإنه لا يتمكن مِن دحْضِ حُجته وكسرِ باطله؛ لأن خصمه تسلَّط عليه بمثل ما تسلط هو به عليه». ثم بيَّن ذلك، وذكر كثيرًا من حجج القرآن، وأشار أن مقصوده بيان أن القرآن متضمِّنٌ للأدلة العقلية والبراهين القطعية التي لا مطمعَ في التشكيك والأَسْوِلة عليها إلَّا لمعاندٍ مكابرٍ.
(المقدمة/26)
الفصل الحادي والعشرون: في الأسباب الجالبة للتأويل. وهي أربعة أسباب: نقصان بيان المتكلم، وسوء قَصْده. وسوء فهم السامع، وسوء قَصْده. ودرجات الفهم متفاوتة في الناس أعظم تفاوتٍ، فإنَّ قُوى الأذهان كقوى الأبدان، والناس متفاوتون في هذا وهذا تفاوُتًا لا ينضبط. الفصل الثاني والعشرون: في أنواع الاختلاف الناشئة عن التأويل وانقسام الاختلاف إلى محمود ومذموم. تكلم فيه عن نوعي الاختلاف في كتاب الله. الفصل الثالث والعشرون: في أسباب الخلاف الواقع بين الأئمة بعد اتفاقهم على أصلٍ واحدٍ وتحاكمهم إليه وهو كتاب الله وسُنَّة رسوله. نقل فيه عن أبي محمد بن حزم، ثم نقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية أسباب الاختلاف وهذَّبها وزادها إيضاحًا وبيانًا، وهذا الفصل حقيق أن يُفرد بالطباعة ليعم النفع به، وهو يتكلم عن أسباب الخلاف في الفروع لذلك يبدو لي أن الأنسب له كتاب «أعلام الموقعين» أو كتاب «بدائع الفوائد». الفصل الرابع والعشرون: في ذكر الطواغيت الأربع التي هدم بها أصحابُ التأويل الباطل معاقلَ الدِّين، وانتهكوا بها حُرمة القرآن، ومحَوْا بها رُسومَ الإيمان، وهي: قولهم: إنَّ كلام الله وكلام رسوله أدلةٌ لفظية لا تفيد علمًا ولا يحصل منها يقين. وقولهم: إنَّ آيات الصِّفات وأحاديث الصِّفات مجازاتٌ لا حقيقة لها.
(المقدمة/27)
وقولهم: إنَّ أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحيحة لا تفيد العلم، وغايتها أن تفيد الظن. وقولهم: إذا تعارَضَ العقلُ ونصوصُ الوحي أخذنا بالعقل ولم نلتفت إلى الوحي (1). وهذا الفصل هو بيت القصيد وغاية المريد من الكتاب، وكل ما قبله تمهيد له. قال المصنِّف: «فهذه الطَّواغيت الأربع هي التي فعلتْ بالإسلام ما فعلتْ، وهي التي مَحَتْ رُسُومَه، وأزالتْ مَعالِمَه، وهدمتْ قواعِدَه، وأسقطتْ حُرمةَ النُّصوص من القلوب، ونهجتْ طريق الطَّعن فيها لكل زنديقٍ ومُلحِدٍ، فلا يحتجُّ عليه المحتجُّ بحجَّة من كتاب الله أو سُنَّة رسوله إلَّا لجأ إلى طاغوتٍ من هذه الطَّواغيت واعتصم به، واتخذه جُنَّةً يصدُّ به عن سبيل الله. والله تعالى بحوله وقُوَّته ومنِّه وفضله قد كسر هذه الطَّواغيت طاغوتًا طاغوتًا على أَلسنة خُلفاء رُسُله وورثة أنبيائه، فلم يَزَلْ أنصار الله ورسوله يَصيحون بأهلها من أقطار الأرض، ويرجمونهم بشُهُب الوحي، وأدلة المعقول، ونحن نُفرِد الكلام عليها طاغوتًا طاغوتًا». أمَّا الطَّاغوت الأول: وهو قولهم: «نصوص الوحي أدلةٌ لفظيةٌ، وهي لا تُفيد اليقين». فقد أبطله من ثلاثةٍ وسبعين وجهًا، ولم يترك لهم حجةً ولاشبهةً. _________ (1) كذا أخَّر ابن القيِّم هذا الطاغوت في مقدمة الفصل، وعند الرد المفصل قدَّمه فعدَّه الطاغوت الثاني، وهو الذي استغرق الرد عليه نحو نصف الموجود من الكتاب.
(المقدمة/28)
وأمَّا الطَّاغوت الثَّاني: وهو قولهم: «إن تعارَضَ العقل والنقل وجب تقديم العقل». فقد انتفع في إبطاله بكتاب شيخه ابن تيمية «درء تعارض العقل والنقل» انتفاعًا كبيرًا، ولم يغفل الإشارة إلى ذلك، بل قال: «وقد أشفى شيخ الإسلام في هذا الباب بما لا مَزِيدَ عليه، وبَيَّنَ بطلانَ هذه الشُّبهة وكَسَّرَ هذا الطَّاغوت في كتابه الكبير، ونحن نشير إلى كلماتٍ يسيرةٍ هي قطرة من بحره، تتضمن كسره ودحضه، وذلك يظهر من وجوهٍ». فذكر مائتين واثنين وأربعين وجهًا حسب ما وُجد من الكتاب، واستغرق نحو ثلثي الموجود من الكتاب. وينبغي التفطن لموضعين: الأول: أن في المخطوط (ق 54 ب) انتقل من الوجه السابع والأربعين إلى الوجه الخمسين مباشرة، ولم يذكر الوجهين الثَّامن والأربعين والتَّاسع والأربعين، فإمَّا أن يكون سقط الوجهان الثَّامن والأربعون والتَّاسع والأربعون، أو يكون ترقيم الوجوه خطأً. والثاني: أن في المخطوط (ق 69 ب) انتقل من الوجه الثاني والسبعين إلى الوجه التاسع والسبعين مباشرة، فلم يذكر من الثالث والسبعين إلى الثامن والسبعين. وكتب الناسخ بحاشية «ح»: «هكذا في الأصل». فيكون الموجود من أوجه الرد على هذا الطاغوت مائتين وأربعة وثلاثين وجهًا فقط. فهذا هو القدر الموجود من الكتاب، وبقي ما يتعلق بكسر الطاغوتين الثالث والرابع لم نعثر عليه بعد.
(المقدمة/29)
- مع التنبه إلى أن الإمام ابن القيِّم بدا له في ثنايا الكتاب أن يزيد فصلًا في آخره بعد هذه الفصول الأربعة والعشرين، فقد قال (ص 472): «وسنفرد الكلام على هذا بفصلٍ مستقلٍّ بعد كسر الطواغيت الأربعة التي نصبوها لهدم معاقل الدِّين، ونبيِّن معنى المحكم بمعناه، ونبيِّن أن آيات الصِّفات محكمةٌ فإنها من أبين الكتاب إحكامًا، وأن ما تضمنته من الإحكام أعظم ممَّا تضمنه ما عداها، بعون الله وتوفيقه». وهذا الفصل لم يُذكر في آخر «مختصر الصواعق» للموصلي، فالله أعلم هل كتبه ابن القيِّم أم لا. * * * * *
(المقدمة/30)
(5) منهج المؤلف في كتابه هذه بعض معالم منهجه في الكتاب: - بنى الكتاب بناءً محكمًا معتمدًا على النبعين الصافيين: القرآن والسُّنة، وقد عاش حياته ناصرًا لهما داعيًا إليهما، واستمع إليه وهو يقول (ص 269): «إذا كان الأصل واحدًا والغاية المطلوبة واحدةً، والطريق المسلوكة واحدةً، لم يكد يقعُ اختلافٌ، وإن وقع كان اختلافًا لا يضر، كما تقدم من اختلاف الصحابة؛ فإن الأصلَ الذي بنوا عليه واحدٌ، وهو كتاب الله وسُنة رسوله، والقصدَ واحدٌ، وهو طاعة الله ورسوله، والطريقَ واحدٌ، وهو النظرُ في أدلة القرآن والسُّنَّة وتقديمها على كل قولٍ ورأيٍ وقياسٍ وذوقٍ وسياسةٍ». أمَّا القرآن فقد كان يستحضر آياته وقت حاجته إليها كأنها بين عينيه، وقد شحن الكتاب بالآيات البينات، مع تأمله وتدبره في معانيها ومعرفته بالتفسير وعلومه؛ ويراجع فهرس الآيات وفهرس التفسير. وأمَّا السُّنة فابن القيِّم حافظٌ كبيرٌ؛ ويكفي للدلالة على علو قدره في حفظ الحديث وفهم معانيه شهادة شيخه حافظ الدُّنيا جمال الدِّين المِزِّي؛ قال الحافظ أبو بكر محمد بن المحب: قلت أمام شيخنا المِزِّيِّ: ابن القيِّم في درجة ابن خُزيمة. فقال: «هو في هذا الزَّمان كابن خُزيمة في زمانه» (1). ويظهر حفظه في استحضاره للأحاديث وقت حاجته إليها، وعزوه غالب الأحاديث إلى مصادرها من كتب السُّنة، ومحافظته على لفظ الرواية غالبًا، وانتقائه _________ (1) نقله ابن ناصر الدِّين في «الرد الوافر» (ص 120).
(المقدمة/31)
لأصح الروايات في الباب، فإن جُلَّ الأحاديث المذكورة في الكتاب للاستدلال أحاديث صحيحة مشهورة، والنزر اليسير المضعف منها هو مع قلته من النوع المتجاذب بين الحفاظ فمنهم من يقويه ومنهم من يضعفه، كحديث الأطيط (1)، وأما النادر الضعيف كحديث: «بَيْنَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ إِذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ، فَرَفَعُوا رُؤُوسَهُمْ، فَإِذَا الْجَبَّارُ جَلَّ جَلَالُهُ قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ» فهو يذكره للاستشهاد مع الأدلة الأخرى، أو يذكره عرضًا في استطراداته. وتمكن ابن القيِّم من الكتاب والسُّنة قوَّى حجته وأعانه على الجمع بين الروايات والترجيح بينها وبيان الصحيح منها والسقيم، ودحض شبهات الفرق ورد أباطيلهم، من ذلك: قوله (ص 500 - 501): «إن المسائل التي يُقال إنه قد تعارَض فيها العقل والسمع ليست من المسائل المعلومة بصريح العقل كمسائل الحساب والهندسة والطبيعيات اليقينية، فلم يجئ في القرآن ولا في السُّنَّة حرفٌ واحدٌ يخالف العقل في هذا الباب. وما جاء من ذلك فهو مكذوبٌ ومفترًى كحديث: «إن الله لمَّا أراد أن يخلق نفسه خَلَقَ خيلًا فأجراها فعَرِقت، فخلق نفسه من ذلك العرق»، وحديث: «نزوله عشية عرفة على جمل أورق يصافح الركبان، ويعانق المشاة». وقوله (ص 1106 - 1007): «ومن هذا معارضة بعضهم الأحاديث الصحيحة الصريحة التي تكلم فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - بأين الله؟ وسمع السؤال بأين الله؟ وأقرَّ السائل عليه ولم ينكره. كما كفره هؤلاء، فعارضوها كلها بحديثٍ _________ (1) ينظر تخريجه (ص 994).
(المقدمة/32)
مكذوبٍ موضوعٍ في إسناده من لا يُدرى من أي الدوابِّ هو، كشيحة الذي لا ذكر له في شيءٍ من كتب الحديث، ولعل بعض الوضاعين نسبه إلى واحد الشِّيح. والحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وقد سُئل أين الله؟ فقال: «لَا يُقَالُ أَيْنَ لِمَنْ أَيَّنَ الْأَيْنَ». فعارض هذا الأحاديث الصحيحة المستفيضة التي نطق فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأين، وأقرَّ على إطلاقها بهذا الحديث الركيك الذي يستحيي من التكلُّم به آحاد الناس، فضلًا عن سيِّد ولد آدم». وقوله (ص 723): «ولهذا لمَّا علم هؤلاء أنه يستحيل كتمان ذلك عن خواصه وضعوا أحاديث بيَّنوا فيها أنه كان له خطابٌ مع خاصَّته غير الخطاب العامِّي، مثل الحديث المُختلق المُفترى عن عمر أنه قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحدث مع أبي بكر وكنت كالزنجي بينهما». - وأكثر ابن القيِّم من الاستشهاد بأقوال السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، وقد نقل كثيرًا منها من كتاب «خلق أفعال العباد» للإمام البخاري. - وكذلك استشهد بكثير من الأشعار، وذكر بعض الأشعار للرد عليها، وكان أحيانا يسمي منشدها، وأحيانًا يغفل ذكره، وقد ترجح لي أن بعض هذه الأشعار للإمام ابن القيِّم نفسه، كما في (ص 372، 617 - 619). - وجمع ابن القيِّم بين المنقول والمعقول، ممَّا أعانه على تمييز صحيح الأقوال والآراء والمذاهب من ضعيفها وحقها من باطلها، وهذا ظاهر في الكتاب. - وحرَّر ابن القيم في كل مسألة موضع النزاع وبيَّن معاني المصطلحات المجملة؛ وأظهر ما حوته من المعاني الصحيحة والباطلة، وأعانه على ذلك
(المقدمة/33)
تمكنه من اللغة، وهو يقول (ص 572 - 573): «إن هؤلاء المعارضين للكتاب والسُّنَّة بعقلياتهم ـ التي هي في الحقيقة جهليات ـ إنما يبنون أمرهم في ذلك على أقوالٍ مشتبهةٍ مجملةٍ تحتمل معاني متعددة، ويكون ما فيها من الاشتباه في المعنى والإجمال في اللفظ يوجب تناولها بحقٍّ وباطلٍ، فبما فيها من الحقِّ يقبل من لم يُحِط بها علمًا ما فيها من الباطل لأجل الاشتباه والالتباس، ثم يُعارضون بما فيها من الباطل نصوص الأنبياء. وهذا منشأ ضلال من ضلَّ من الأمم قبلنا. وهو منشأ البدع كلها». ومن أمثلة ذلك: قوله (ص 583 - 584): «لفظ الجسم لم ينطق به الوحي إثباتًا، فتكون له حرمة الإثبات، ولا نفيًا، فيكون له إلغاء النفي، فمن أطلقه نفيًا أو إثباتًا سُئل عمَّا أراد به». ثم بين ما يحتمله لفظه من المعاني الصحيحة والباطلة. وقوله (ص 589): «إن التركيب يُطلق ويُراد به خمسة معانٍ». ثم بيَّنها. وقوله (ص 575): «التوحيد اسم لستة معانٍ: توحيد الفلاسفة، وتوحيد الجهمية، وتوحيد القدرية الجبرية، وتوحيد الاتحادية؛ فهذه الأربعة أنواعٍ من التوحيد جاءت الرسل بإبطالها، ودلَّ على بطلانها العقل والنقل». ثم أفاض في بيان بطلانها. - وألزم ابن القيِّم المخالفين إلزامات في غاية القوة، منها: قوله (ص 619): «أمَّا الفلاسفة فأثبتوا وجود الصَّانع بطريق التركيب، وهو أن الأجسام مركبة، والمركب يفتقر إلى أجزائه، وكل مفتقرٍ ممكنٌ، والممكن لا بد له من وجود واجبٍ، وتستحيل الكثرة في ذات الواجب بوجهٍ من الوجوه؛ إذ يلزم تركيبه وافتقاره، وذلك ينافي وجوبه. وهذا هو غاية
(المقدمة/34)
توحيدهم، وبه أثبتوا الخالق على زعمهم، ومعلومٌ أن هذا من أعظم الأدلة على نفي الخالق؛ فإنه ينفي قدرته ومشيئته وعلمه وحياته؛ إذ لو ثبتت له هذه الصِّفات ـ بزعمهم ـ لكان مركبًا، والمركب مفتقرٌ إلى غيره، فلا يكون واجبًا بنفسه». وقوله (ص 832): «إن اللوازم التي تلزم المعطلة النُّفاة شرٌّ من اللوازم التي تلزم المشبهة المحضة، دع المثبتة لحقائق الأسماء والصفات المنزهين الله عن شبه المخلوقات، فإنهم يلزمهم عشرة لوازم». ثم فصَّلها. وينظر (ص 646 - 647، 675، 913). ثم قرر قاعدةً عامةً فيقول (ص 1078): «هذا شأن جميع قضاياهم الكاذبة التي تتضمن تعطيل ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله، فإنها تستلزم إثبات الباطل وإبطال الحقِّ». - وبيَّن مخالفتهم للعقل مع ادعائهم التمسك به، فيقول (ص 1109): «والعجب أن هؤلاء مع شدة تمسكهم بالعقليات واعتنائهم بها حين عارضوا بينها وبين الوحي يجمعون بين النقيضين، ويُثبتون الشيء وينفون لازمه، وينفون اللازم ويثبتون ملزومه، وذلك مخالفةٌ لصريح العقل». - ودفع إلزامات المخالفين لأهل السنة اللوازم الباطلة، وبيَّن أنها غير لازمة لهم، ويبين أن لازم الحق حقٌّ. - وأحال ابن القيِّم لاستيفاء الأدلة على كتبه الأخرى أحيانًا؛ كما في (ص 846، 890، 915، 1025). - وكرر ابن القيِّم بعض المعاني مرارًا بألفاظ مختلفة ليثبت المعنى ويرسخه في الأذهان.
(المقدمة/35)
- وفي الكتاب استطرادات كثيرة حافلة بالفوائد، وما أجمل استطراداته في تفسير آيات كريمات وتدبُّر معانيها، وكذلك استطرادته في التدبُّر في خلق الله تعالى. - ومع الإسهاب الظاهر في مباحث الكتاب إلا أن ابن القيِّم أشار في عدَّة مواضع إلى أنه كَتَبه مختصرًا؛ وتمنى لو تيسر له بسطه، ومن هذه الإشارات: قوله (ص 473): «وهذا قطرةٌ من بحرٍ نبَّهنا به تنبيهًا يعلم به اللبيب ما وراءه، وإلا فلو أعطينا هذا الموضع حقَّه ـ وهيهات أن يصل إلى ذلك علمنا أو قدرتنا ـ لكتبنا فيه عدة أسفارٍ. وكذا كل وجهٍ من هذه الوجوه، فإنه لو بُسط وفُصِّل لاحتمل سفرًا أو أكثر، والله المستعان، وبه التوفيق». وقوله (ص 642): «إن كل شُبهةٍ من شُبه أرباب المعقولات عارضوا بها الوحي فعندنا ما يبطلها بأكثر من الوجوه التي أبطلنا بها معارضة شيخ القوم، وإن مدَّ الله في الأجل أفردنا في ذلك كتابًا كبيرًا». وينظر (ص 783، 825). - وظهر في الكتاب إنصاف الإمام ابن القيِّم، وكان يُوثق الأقوال بعزوها إلى مصادرها، ويقول (ص 904): «ونحن لا نحيلك على عدمٍ، بل نحكي ألفاظهم بعينها معزوةً إلى مكانها». ويُفرق بين القول ولا زمه، فيقول (ص 777): «أن هؤلاء المعارضين للوحي بآرائهم جعلوا كلام الله ورسوله من الطرق الضعيفة المزيفة التي لا يتمسك فيها في العلم واليقين. ولعلك تقول إنا حكينا ذلك عنهم بلازم قولهم، فاسمع حكاية ألفاظهم». ثم حكاها. فمن إنصافه أنه عاب على من يحكي مذاهب الناس بما يعتقده لازمًا لأقوالهم؛ فقال (ص 826): «ولعل جاهلًا أن يقول: إنَّا قلنا عليهم ما لم
(المقدمة/36)
يقولوا، أو استجزنا ما يستجيزونه هم من حكاية مذاهب الناس عنهم بما يعتقدونه هم لازمًا لأقوالهم، فيكذبون عليهم كذبًا صريحًا ... فنحن لا نستجيز ذلك على أحدٍ من الناس، ولكن هذه كتب القوم فراجعها، ولا تُقلِّد الحاكي عنهم». - وظهرت في الكتاب روح الإمام ابن القيِّم الناقدة، فكما انتقد المذاهب والآراء والأقوال، وبيَّن صحيحها من سقيمها، انتقد الأشخاص والكتب. أمَّا انتقاده وتقويمه للأشخاص فمنه: وصفه (ص 881) لسعيد بن عامر الضُّبَعي بأنه «إمام أهل البصرة علمًا ودينًا من طبقة شيوخ الشافعي وأحمد وإسحاق». ووصفه (ص 848) لعبد الوهاب الوراق بأنه «الرجل الصالح العالم، الذي سُئل الإمام أحمد من يُسأل بعدك؟ فقال: سلوا عبد الوهاب الوراق». ووصفه (ص 1009) للإمام محمد بن إسماعيل البخاري بأنه «حافظ الإسلام». وقوله (ص 330) عن أبي بكر بن المنذر: «هو من أعلم الناس بالإجماع والاختلاف». ووصفه (ص 872) لأبي عمر الطلمنكي المالكي بأنه «أحد أئمة وقته بالأندلس». ووصفه (ص 870) للإمام ابن عبد البر بأنه «إمام أهل السُّنَّة ببلاد الغرب».
(المقدمة/37)
ووصفه (ص 867) لعبد القادر الكيلاني بأنه «الشيخ المتفق على كراماته وآياته وولايته، المقبول عند جميع الفرق». ووصفه (ص 877) لأبي محمد موفق الدِّين بن قدامة المقدسي بأنه «الشيخ الإمام المتفق على إمامته وعلمه وصلاحه وكراماته». وقوله (ص 508) عن أبي الوليد بن رشد: «هو من أعلم النَّاس بمذاهب الفلاسفة ومقالاتهم». وقوله (ص 508) عن أبي الحسن الآمدي: «أفضل المتأخرين في زمانه». وقوله (ص 335) عن شيخ الإسلام ابن تيمية: «حكاه شيخنا واختاره وأفتى به، وأقلُّ درجات اختياراته أن يكون وجهًا في المذهب. ومن الممتنع أن يكون اختيار ابن عقيل وأبي الخطاب والشيخ أبي محمد وجوهًا يُفتى بها، واختيارات شيخ الإسلام لا تصل إلى هذه المرتبة». وينظر أيضًا (ص 642). وأمَّا نقده وتقويمه للكتب فمنه: قوله (ص 1009 - 1010) عن كتاب «خلق أفعال العباد» للبخاري: «هو من أجلِّ كُتبه الصغار». وقوله (ص 869) عن «الموجز» لأبي الحسن الأشعري: «أجلّ كتبه وأكبرها». وقوله عنه (ص 839): «من أجلِّ كتبه المتوسطات». ووصف (ص 869 - 870) «الإبانة» لأبي الحسن الأشعري أنها أشهر كتب الأشعري، وقال: «اعتمد عليها أنصر الناس له وأعظمهم ذبًّا عنه من
(المقدمة/38)
أهل الحديث أبو القاسم بن عساكر؛ فإنه اعتمد على هذا الكتاب وجعله من أعظم مناقبه في كتاب «تبيين كذب المفتري». وقوله (ص 337) عن «الأحاديث المختارة» للضياء المقدسي: «هي أصح من صحيح الحاكم». ولما نقل عن الحميدي فصلًا من كلام أبي محمد بن حزم في أسباب اختلاف الأئمة قال (ص 270): «وهو من أحسن كلامه». وقوله (ص 507) عن المِجَسْطي لبطليموس: «فيه قضايا كثيرة لا يقوم عليها دليلٌ صحيحٌ، وقضايا ينازعه فيها غيره، وقضايا مبنية على أرصاد منقولة عن غيره تقبل الغلط والكذب، وفيه قضايا برهانية صادقة». - وقد ظهر في الكتاب جليًّا محبة الإمام ابن القيِّم للعلم وحرصه على تحصيله، حتى قال (ص 642): «ولو نعلم أن في الأرض من يقول ذلك ويقوم به تبلغ إليه أكباد الإبل لاقتدينا بالمسير إليه بموسى في سفره إلى الخضر، وبجابر بن عبد الله في سفره إلى عبد الله بن أُنيسٍ لسماع حديثٍ واحدٍ، ولكن أزهد النَّاس في عالمٍ قومه». - وقد انتفع ابن القيِّم في هذا الكتاب بشيخ الإسلام ابن تيمية وبكتبه عامةً وبكتابه «درء تعارض العقل والنقل» خاصةً. والكتاب يُظهِر أن الإمام ابن القيِّم -رحمه الله تعالى- «تفنن في علوم الإسلام، وكان عارفًا بالتفسير لا يُجارى فيه، وبأصول الدِّين، وإليه فيهما المنتهى، والحديث ومعانيه وفقهه ودقائق الاستنباط منه، لا يُلحق في ذلك، وبالفقه وأصوله وبالعربية، وله فيها اليد الطُّولى، وتعلم الكلام والنَّحو وغير ذلك، وكان عالمًا بعلم السُّلوك وكلام أهل التَّصوف وإشاراتهم ودقائقهم، له
(المقدمة/39)
في كل فنٍّ من هذه الفنون اليد الطُّولى». كما وصفه تلميذه زين الدِّين ابن رجب في «الذيل على طبقات الحنابلة» (5/ 171 - 172). وأمَّا الكلام على أسلوب الإمام ابن القيِّم الأدبي ومميزاته فقد سبقنا للكلام عليه جماعة من الباحثين جزاهم الله خيرًا (1). * * * * * _________ (1) منهم الأستاذ الدكتور محمود رزق سليم في كتابه «عصر سلاطين المماليك» (3/ 268 - 271) والدكتور طاهر سليمان حمودة في كتابه «ابن قيم الجوزية جهوده في الدرس اللغوي» (58 - 63).
(المقدمة/40)
(6) مصادر الكتاب تنقسم مصادر الإمام ابن القيِّم -رحمه الله تعالى- إلى ثلاثة أقسام: الأول: مشاهدات ابن القيِّم: قال (ص 135): «وقريبٌ من هذه المناظرة ما جرى لي مع بعض علماء أهل الكتاب (1)، فإنه جمعَني وإياه مجلسُ خلوةٍ، أفضى بنا الكلام إلى أن جرى ذِكر مسبَّة النصارى لربِّ العالمين مسبةً ما سبَّه إيَّاها أحدٌ من البشر، فقلت له: وأنتم بإنكاركم نبوةَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - قد سببتم الربَّ تعالى أعظمَ مسبةً». وقال (ص 141 - 142): «فطريقتهم ضدُّ طريقة القرآن من كل وجهٍ، إذ طريقة القرآن حقٌّ بأحسن تفسيرٍ وأبينِ عبارةٍ، وطريقتهم معانٍ باطلة بأعقدِ عبارةٍ وأطولها وأبعدها من الفهم، فيجهد الرجل الظمآن نفسَه وراءهم حتى تنفد قُواه، فإذا هو قد اطلع على سرابٍ بِقِيعَةٍ ... والله يعلم أنَّا لم نَقُلْ ذلك تقليدًا لغيرنا، بل إخبارًا عمَّا شاهدناه ورأيناه». وقال (ص 1004): «وأمَّا إطلاقهم العبارات القبيحة الدالة على الاستهانة، فهم لا يتحاشون منها، بل يُصرِّحون بقولهم: أي شيءٍ في المصحف سوى المِداد والورق. ويقولون: ليس في المصحف كلام الله، ولم ينزل إلى الأرض لله كلام، وهذا الذي يقرؤُه المسلمون ليس بكلام الله حقيقةً. وقد رأينا نحن وغيرنا هؤلاء مشاهدةً، وسمعنا بعض أقوالهم التي حكيناها، وهذه الفروع واللوازم فروع ذلك الأصل الباطل». _________ (1) ذكر ابن القيِّم هذه المناظرة أيضًا في «التبيان في أيمان القرآن» (ص 270 - 274) وغيره، وبيَّن أنه كانت مع أكبر علماء اليهود.
(المقدمة/41)
الثاني: مشافهة شيوخه له. وقد صرَّح بمشافهة اثنين من شيوخه: فقال (ص 508): «وحدثني شيخ الإسلام قال: حكى لي بعض الأذكياء وكان قد قرأ على أفضل أهل زمانه في الكلام والفلسفة، وهو ابن واصل الحموي ... ». وقال في الفصل الثاني عشر (ص 131): «نكتفي من هذا الفصل بذِكْر مناظرةٍ جرَتْ بين جهميٍّ معطِّلٍ وسُنِّيٍّ مُثبِتٍ، حدثني بمضمونها شيخُنا عبد الله ابن تيمية - رحمه الله -». الثالث: نقله عن أهل العلم. كان الإمام ابن القيِّم محبًّا للكُتب جمَّاعًا لها، ومكتبته كانت غاية في الكبر والتنوع، قال ابن كثير في «البداية والنهاية» (18/ 524): «اقتنى من الكتب ما لا يتهيَّأ لغيره تحصيل عُشره من كتب السَّلف والخلف». وقال الصفدي في «أعيان العصر» (4/ 368): «ما جمع أحدٌ من الكتب ما جمع، لأن عمره أنفقه في تحصيل ذلك، ولمَّا مات شيخنا فتح الدِّين (1) اشترى من كتبه أمهات وأصولًا كبارًا جيدة، وكان عنده من كل شيءٍ في غير ما فنٍّ ولا مذهب، بكل كتابٍ نسخ عديدة». وقد جمعت ما وقفت عليه من أسماء الكتب التي نقل عنها الإمام ابن القيِّم في الجزء الموجود من الكتاب فبلغت مائة وخمسة وعشرين مصنَّفًا، وهي: _________ (1) هو الحافظ فتح الدِّين محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله ابن سيِّد الناس اليَعْمَري الأندلسي (ت 734 هـ) ترجمته في «أعيان العصر» (5/ 201 - 244).
(المقدمة/42)
1 - «الآراء والديانات» للنوبختي. 2 - «الإبانة» لأبي الحسن الأشعري. 3 - «الإبانة» لأبي بكر الباقلاني. 4 - «الإبانة» لأبي نصر السجزي. 5 - «إبطال التأويلات لأخبار الصفات» للقاضي أبي يعلى. 6 - «أبكار الأفكار» للآمدي. 7 - «إثبات صفة العلو» لابن قدامة المقدسي. 8 - «الإجماع» لابن المنذر. 9 - «الأحاديث المختارة» للضياء المقدسي. 10 - «إحياء علوم الدين» للغزالي. 11 - «كتاب اختلاف العلماء» لإسحاق بن راهويه. 12 - «الإرشاد» لأبي المعالي الجويني. 13 - «أساس التقديس» للرازي، ولم يُسمِّ الكتاب. 14 - «الاستذكار» لابن عبد البر. 15 - «الأسماء والصفات» للبيهقي. 16 - «أقسام اللذات» لفخر الدِّين الرازي. 17 - «الأم» للشافعي. 18 - «الإنجيل».
(المقدمة/43)
19 - «الأوسط» لابن المنذر، ولم يُسمِّ الكتاب. 20 - «بُد العارف» لابن سبعين، نقل من مقدمته. 21 - «البدع والنهي عنها» لابن وضَّاح، وسمَّاه «الحوادث والبدع». 22 - «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي، وسمَّاه «تاريخ الخطيب». 23 - «تاريخ نيسابور» للحاكم. 24 - «تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى أبي الحسن الأشعري» للحافظ أبي القاسم ابن عساكر. 25 - «التفسير البسيط» للواحدي. نقل منه ابن القيم في غير موضع، ولم يُسمِّه، بل صرح باسم الواحدي في بعضها، ولم يصرح في بعضها. 26 - «تفسير ابن الخطيب» هو «مفاتيح الغيب» للفخر الرازي. 27 - «تفسير سُنيد بن داود». 28 - «تفسير عبد بن حُميد»، ولم يُسمِّ الكتاب. 29 - «التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد» لابن عبد البر. 30 - «التمهيد في أصول الدِّين» لأبي بكر الباقلاني. 31 - «تهافت التهافت» لابن رشد. 32 - «تهافت الفلاسفة» لأبي حامد الغزالي. 33 - «كتاب التوحيد» لابن خزيمة. 34 - «التوراة».
(المقدمة/44)
35 - «الجامع» للترمذي. 36 - «الجامع» للخلَّال. 37 - «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي. 38 - «جامع بيان العلم وفضله» لابن عبد البر، وسمَّاه «فضل العلم». 39 - «جامع البيان عن تأويل آي القرآن» لابن جرير الطبري، ولم يُسمِّ الكتاب. 40 - «الجمع بين الصحيحين» للحميدي. نقل منه ابن القيم فصلًا رائعًا عن أسباب اختلاف العلماء، رواه الحميدي عن شيخه ابن حزم، ولم يُسم الكتاب (1). 41 - «الحاوي» للماوردي. 42 - «الحجة على تارك المحجة» للشيخ نصر بن إبراهيم المقدسي الشافعي. 43 - «حقائق التفسير» لأبي عبد الرحمن السلمي. 44 - «الخصائص» لأبي الفتح عثمان بن جني، ولم يُسمِّ الكتاب. 45 - «خلق أفعال العباد» للإمام البخاري. أكثر المصنِّف من النقل عنه في الرد على الجهمية، وسمَّاه «خلق الأفعال». _________ (1) لهذا فات العلامة بكر أبو زيد - رحمه الله - ذِكْره في موارد ابن القيِّم في كتابه «ابن قيم الجوزية حياته وآثاره وموارده» (ص 340)، وكذا الدكتور دخيل الله في مقدمة طبعته من الصواعق (ص 87).
(المقدمة/45)
46 - «درء تعارض العقل والنقل» لشيخ الإسلام ابن تيمية. ولقد عظمت استفادة المصنِّف من هذا الكتاب فلخَّصه وهذَّبه ورتَّبه في هذا الكتاب، وقد كان به حفيًّا؛ فقال في «الكافية الشافية» (ص 769): واقرأ كتاب العقل والنقل الذي ... 1 - ... ما في الوجود له نظير ثان 47 - «ديوان الأخطل». 48 - «الدقائق» لأبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني. 49 - «الذخيرة البرهانية» للإمام ابن مازة نقل منه أقوال أئمة الحنفية في مسألة الطلاق، وسمَّاه «الذخيرة» مهملًا دون تقييد (1). 50 - «ذم الكلام وأهله» لإسماعيل بن عبد الله الهروي. 51 - «الرد على الجهمية والزنادقة» للإمام أحمد. نقل منه المصنِّف في مواطن عدة، وانتفع به كثيرًا. 52 - «الرد على الجهمية» لعبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي. 53 - «رد عثمان بن سعيد على بشر المريسي العنيد». وقد كان ابن القيِّم بكتاب الدارمي هذا وكتابه الآخر «الرد على الجهمية» حفيًّا؛ فقال في «اجتماع الجيوش الإسلامية» (1/ 347 - 348): «كتاباه من أجلِّ الكتب المصنَّفة في السُّنة وأنفعها، وينبغي لكل طالب سُنةٍ -مراده الوقوف على ما كان عليه الصحابة والتابعون والأئمة- أن يقرأ كتابيه، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يوصي بهذين الكتابين أشد الوصية ويعظمهما جدًّا، وفيهما _________ (1) فليس هو «الذخيرة» للقرافي كما ظن العلامة بكر أبو زيد - رحمه الله - في كتابه «ابن قيم الجوزية حياته وآثاره وموارده» (ص 344) والدكتور دخيل الله في مقدمته (ص 88).
(المقدمة/46)
من تقرير التوحيد والأسماء والصفات بالعقل والنقل ما ليس في غيرهما». 54 - «رسائل إخوان الصفا». 55 - «رسالة الأشعري إلى أهل الثغر». 56 - «الرسالة الأضحوية» لابن سينا. 57 - «الرسالة النظامية» لأبي المعالي الجويني. 58 - «الرسالة» للإمام الشافعي. 59 - «رسالة» لأبي عثمان النيسابوري، وهو كتاب «عقيدة السلف وأصحاب الحديث» لأبي عثمان الصابوني. 60 - «رفع الملام عن الأئمة الأعلام» لشيخ الإسلام ابن تيمية. لخَّصه المصنِّف في كلامه على أسباب اختلاف العلماء وهذَّبه وزاد عليه وزاده إيضاحًا. 61 - «السُّنة» لعبد الله بن الإمام أحمد. 62 - «السُّنة» لأبي بكر الخلال. 63 - «السُّنن» لأبي داود السجستاني. 64 - «السُّنن» لابن ماجه القزويني. 65 - «السنن» للنسائي. 66 - «السِّيرة النبوية» لابن هشام، ولم يُسمِّ الكتاب. 67 - «شرح أسماء الله الحسنى» لأبي عبد الله القرطبي.
(المقدمة/47)
68 - «شرح الإنجيل». نقل عنه بواسطة الشهرستاني. 69 - «شرح التفريع» للتلمساني المالكي. 70 - «شرح التنبيه» لأبي القاسم عبد الرحمن بن يونس. نقل منه فصلًا عن الطلاق. 71 - «شرح القدوري». نقل منه بواسطة «الذخيرة البرهانية» لابن مازة. 72 - «شعار الدِّين» للخطابي، ولم يُسم الكتاب إنما صرَّح بالنقل عن الخطابي، وربما نقل عنه بواسطة «منهاج السُّنة» لابن تيمية. 73 - «الشفاء» لابن سينا. 74 - «الصحاح» للجوهري. 75 - «صحيح البخاري». 76 - «صحيح ابن حِبَّان». 77 - «صحيح مسلم». 78 - «كتاب الصفات» لأبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب. 79 - «كتاب الطهور» لإبراهيم بن مسلم الخوارزمي، نقل منه مسألة في نقض الوضوء بمس الذَّكَر. 80 - «العقيدة» لأبي أحمد الكرجي. 81 - «عقيدة أبي نعيم الأصبهاني». 82 - «العلل» للدارقطني. ذكر منه حديثًا هو فيه معلقٌ.
(المقدمة/48)
83 - «علوم الحديث» للحاكم. 84 - «العمدة» لابن قدامة المقدسي. 85 - «الغنية» لعبد القادر الكيلاني، ولم يُسمِّ الكتاب. 86 - «فتاوى القفال». 87 - «الفتوى الحموية الكبرى» لابن تيمية، ولم يُسمِّ الكتاب. 88 - «فصوص الحكم» لابن عربي. نقل منه ما زعمه أن خاتم الأنبياء يأخذ عن خاتم الأولياء. 89 - «الفنون» لأبي الوفاء بن عقيل. نقل منه فصلًا كبيرًا، ولم يُسم الكتاب. 90 - «القضاء» لأبي عُبيدٍ القاسم بن سلام. 91 - «الكتاب» لسيبويه، صرَّح بالنقل عن سيبويه ولم يُسمِّ الكتاب. 92 - «الكشاف» للزمخشري. 93 - «الكشف عن مناهج الأدلة» لأبي الوليد بن رشد. نقل منه المصنِّف فصلًا في تقرير علو الله تعالى على عرشه والرد على الفلاسفة. 94 - «المجسطي» لبطليموس. 95 - «المحصل» للرازي، ولم يُسمِّ الكتاب. 96 - «المحلى» لابن حزم، ولم يُسمِّ الكتاب. 97 - «مختصر المُزَني».
(المقدمة/49)
98 - «المدخل لعلم السنن» للبيهقي. 99 - «المراسيل» لأبي داود السجستاني. 100 - «مسائل أحمد وإسحاق» لإسحاق بن منصور الكوسج. 101 - «مسائل أحمد وإسحاق» لحرب الكرماني. 102 - «مسائل صالح بن أحمد بن حنبل لأبيه». 103 - «المستدرك على الصحيحين» للحاكم النيسابوري، ويُسميه «صحيح الحاكم». 104 - «المسند» للإمام أحمد بن حنبل. 105 - «مسند علي» للحافظ مطين. نقل منه حديثًا. 106 - «مشارق الأنوار على صحاح الآثار» للقاضي عياض، أحال عليه في تفسير حديث: «لا طلاق في إغلاق». 107 - «المصنَّف» لعبد الرزاق، وسمَّاه «الجامع». 108 - «المضنون به على غير أهله» لأبي حامد الغزالي. 109 - «مطالع الأنوار» لأبي إسحاق بن قرقول. أحال عليه في تفسير حديث: «لا طلاق في إغلاق». 110 - «مطامح الأفهام في شرح كتاب الأحكام» لعبد العزيز بن إبراهيم بن أحمد المعروف بابن بزيزة. نقل منه فصلًا عن الطلاق الثلاث. 111 - «معجم الطبراني». أطلقه المصنِّف ولم يُحدد أي المعاجم هو، وحيث أُطلق فالمراد «المعجم الكبير» للطبراني، والحديث الذي ذكره
(المقدمة/50)
المصنِّف موجود في المعجمين «الكبير» و «الأوسط». 112 - كتاب «المعرفة» لأبي أحمد العسال. 113 - «مقالات غير الإسلاميين» لأبي الحسن الأشعري. 114 - «المقالات الكبير» لأبي الحسن الأشعري. 115 - «مقالات المصلين» لأبي الحسن الأشعري. 116 - «المقدمات الممهدات في الأحكام الشرعية» لابن رشد. 117 - «الملل والنحل» للشهرستاني. 118 - «الموجز» لأبي الحسن الأشعري. 119 - «الموطأ» للإمام مالك. 120 - «نظم السلوك» قصيدة ابن الفارض. 121 - «النظم». نقل منه غالبًا بواسطة «التفسير البسيط» للواحدي، ولم يُسم صاحبه. 122 - «نهاية العقول في دراية الأصول» للرازي. 123 - «الوثائق» لابن مغيث المالكي. 124 - «الوصول إلى معرفة الأصول» لأبي عمر الطلمنكي. 125 - «الهداية» لأبي الخطاب الكلوذاني، ولم يُسمِّ الكتاب. هذا ما وقفت عليه من المصادر التي صرَّح بها ابن القيِّم أو صرَّح باسم مصنِّفها وتبين لي مصدر نقله، ومن هذا العرض يتبين أن مصادره متنوعة
(المقدمة/51)
تنوعًا كبيرًا، فمنها كتب في التفسير وعلومه، وكتب في الحديث وعلومه، وكتب في شروح الحديث وفقهه، وكتب في التوحيد والعقيدة، وكتب في الفرق والملل والنحل، وكتب في الرد على الجهمية، وكتب الفلاسفة والمنطقيين، وكتب في الرد عليهم، وكتب في اللغة وغريب الحديث، وكتب في فقه المذاهب الأربعة وأصولها، وكتب في فقه المذاهب الأخرى، وكتب في الآداب والسلوك، وكتب في التاريخ، وكتب عامة. * * * * *
(المقدمة/52)
(7) مكانة الكتاب «الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة» أحد أنفس كتب الإمام ابن القيِّم وأقواها، وهو من أقوى الكتب في الرد على الجهمية والمعطلة بل على الفرق المبتدعة في العقيدة مطلقًا، قد جمع بين صحيح المنقول وصريح المعقول، فقد وافق اسمه مسمَّاه؛ فهو كما سمَّاه مصنِّفه صواعق مرسلة على المبتدعة، يُقرر عقيدة أهل السُّنة والجماعة ويُبطل ما خالفها بالدليل الساطع والبرهان الناصع، مع الإنصاف التامِّ، وحُسن العرض، وسلاسة الأسلوب، لا يكاد يدانيه في ذلك كتاب آخر. وهذا الكتاب الجليل يُظهر تمكُّن الإمام ابن القيِّم - رحمه الله - في العلوم، مع قوة تأصيله وبساطة تفصيله. وقد أثنى عليه جماعة من أهل العلم ثناءً حسنًا، منهم: العلَّامة عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، قال بعد ذكره لابن تيمية: «ولتلميذه العلَّامة ابن القيِّم في بيان أنواع التوحيد والرد على أهل البدع المصنَّفات الكثيرة المفيدة، فمن أحسنها: «إغاثة اللهفان»، وكتاب «الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة» (1). والعلَّامة أحمد بن إبراهيم بن عيسى، قال في «توضيح المقاصد» (2/ 27) عن «الصواعق»: «هو في مجلدات، في غاية الإجادة والنفاسة». والعلَّامة محمود شكري الألوسي، قال (2): «وتفصيل الكلام في هذا _________ (1) «الدرر السنية في الأجوبة النجدية» (2/ 219). (2) «غاية الأماني في الرد على النبهاني» (1/ 447).
(المقدمة/53)
المقام يُطلب من كتب شيخ الإسلام وتلامذته، فإنهم أحسن من صنَّف في هذه المسائل، وفيها يجد المنشد ضالته، وقد ألف الشيخ الحافظ أبو بكر الشهير بابن القيِّم كتابه «غزو الجيوش الإسلامية في الرد على الجهمية» وكتابه «الصواعق المرسلة على الدهرية (1) والمعطلة» في هذه المطالب العالية، وبسط كلامه فيها كل البسط، كما هو شأن كرمهم وجودهم في سخاء نفوسهم ببذل كنوز العلم طيب الله تعالى ثراهم». والشيخ محمد حامد الفقي، قال: «وخير كتابٍ لابن القيِّم في هذا الباب وأشده وقعًا، وأنكاه فعلاً في هذه البدع الزائفة كتاب «الصواعق المرسلة»؛ فهو ـ والله ـ كاسمه صواعق أرسلها اللهُ من قلم ابن القيِّم على رؤوس أهل الزيغ والضلال والتعطيل والإلحاد، لم يُبقِ ـ والله ـ لقائل قولًا، ولا لشيطان كيدًا، وحق على كل مسلم غيور على دينه أن يقرأ هذا الكتاب قراءة تدبرٍ وإمعانٍ، وأن يتقلد بغالي درره، التي يعز مطلبها، ويقل وجودها إلَّا في هذا البحر العُباب» (2). والشيخ عبد الرحمن الوكيل، قال في تعليقه على «الروض الأنف» (6/ 556) في الكلام على صفات الله تعالى كاليد والعين: «من خير من كتب عن هذا الإمام ابن القيِّم في كتابه «الصواعق المرسلة» فراجعه». * * * * * _________ (1) كذا، والصواب «الجهمية». (2) من مقال منشور في مجلة الإصلاح، في غرة شوال سنة 1347 هـ.
(المقدمة/54)
(8) مختصرات الكتاب للكتاب حسب علمي مختصران: المختصر الأول: مختصر العلَّامة شمس الدِّين محمد بن الموصلي (ت 774 هـ) وهو أقدم المختصَرَينِ وأشهرهما، وأكبرهما حجمًا، وأكثرهما فائدة، وقد طُبع عدَّة طبعات، وانتشرت طبعاته قبل أن يُوجد شيءٌ من «الصواعق» نفسه وبعده، وقد عمَّ النفع به. ولم يُفصح المختصر عن منهجه في الاختصار، إنما قال في مقدمته: «أمَّا بعد، فهذا استعجال «الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة» انتخبته من كلام شيخ الإسلام وقدوة الأنام ناصر السُّنة شمس الدِّين أبي عبد الله محمد ابن قيِّم الجوزية رحمه الله تعالى». ثم بدأ في الكتاب. وهو مختصرٌ حافظ على روح كتاب «الصواعق» وحافظ على أسلوب ابن القيِّم وعباراته، ونادرًا ما غيَّر من كلامه شيئًا، بل حذف بعض الكلمات وبعض العبارات وربط بين ما تبقى ليبقى السياق متصلًا، وكذلك حذف بعض الفقرات والأوجه التي ذكرها ابن القيِّم، وبعض استطراداته في ثنايا هذه الأوجه. فمثلًا قد أبطل ابن القيِّم الطاغوت الأول ـ وهو قولهم: «نصوص الوحي أدلةٌ لفظيةٌ، وهي لا تُفيد اليقين» ـ من ثلاثةٍ وسبعين وجهًا، فاكتفى المختصر منها بذكر سبعة وخمسين وجهًا. وأبطل ابن القيِّم الطاغوت الثاني ـ وهو قولهم: «إن تعارَضَ العقل
(المقدمة/55)
والنقل وجب تقديم العقل» ـ من مائتين واثنين وأربعين وجهًا، فاكتفى المختصر منها بذكر اثنين وخمسين وجهًا فقط. مع اختصارٍ أيضًا في ذكر بعض هذه الوجوه (1). والنسخة التي جرت عليها الإحالة هي التي حققها الدكتور الحسن بن عبد الرحمن العلوي، في أربعة مجلدات، وطُبعت في مكتبة أضواء السلف بالرياض، الطبعة الأولى سنة 1425 هـ- 2004 م. ولم يسلم المختصر من السقط، فمع تعدد مخطوطاته التي وقفت عليها (2) فقد وقع سقطٌ كبيرٌ في جميعها للأسف، وهو يقابل من «الصواعق» من أثناء (ص 255) إلى آخر (ص 422). وسيأتي ذكره عند وصف النسخة «م»، وينظر تعليق محققه (1/ 210). وقد انتفعنا بهذا المختصر في ضبط نصِّ الكتاب نفعًا كبيرًا، وقد اعتمدت في المقابلة والمراجعة على أنفس مخطوطاته المكتوبة سنة 758 هـ، وسميتها «م»، وسيأتي وصفها، وإنما اعتمدتها دون المطبوع لنفاستها ولضبط كثيرٍ من كلماتها. وتعظم أهمية هذا المختصر لأنه حوى اختصار الجزء المفقود من «الصواعق»، وهو جزءٌ كبيرٌ، يبدأ من أثناء (ص 570) وينتهي آخر (ص 1648). _________ (1) ينظر مقدمة طبعة أضواء السلف للمختصر (ص 73 - 77). (2) وقفنا لـ «مختصر الصواعق» على تسع نسخ، أربع منها في الهند، وأربع في المملكة، والتاسعة في القاهرة، وأنفسها نسخة مكتبة دار العلوم لندوة العلماء في لكنو بالهند، التي اعتمدناها، وبقيتها نسخ حديثة، وقد ترجح لي أنها كلها ترجع إلى النسخة «م» إمَّا مباشرة أو بواسطة.
(المقدمة/56)
المختصر الثاني: مختصر الإمام محمد بن عبد الوهاب (ت 1206 هـ). وقفنا عليه مؤخرًا، وهذه بياناته: «مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة للإمام ابن القيِّم» اختصره الإمام محمد بن عبد الوهاب، تحقيق د. دغش بن شبيب العجمي، طُبع في مكتبة أهل الأثر بالكويت، الطبعة الأولى، 1437 هـ- 2016 م. وهو منتقى صغير من الكتاب، إذ جاء بمقدمته وفهارسه في مائتين وأربع وخمسين صفحة، ولعله يصلح أن يكون مدخلًا لكتاب «الصواعق». * * * * *
(المقدمة/57)
(9) طبعات الكتاب الطبعة الأولى: حققها الدكتور علي بن محمد الدخيل الله ـ جزاه الله خيرًا ـ وطُبعت في دار العاصمة بالرياض، في أربع مجلدات، الطبعة الأولى سنة 1408 هـ، وأصلها رسالة دكتوراة مقدمة لكلية أصول الدِّين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، بإشراف الأستاذ الدكتور محمد رشاد سالم. وهي طبعة جيدة بذل فيها المحقق الفاضل جهدًا كبيرًا في ضبط الكتاب وتقويم نصِّه واستدراك ما سقط منه، والتقديم له وفهرسة محتواه، كما يُشكر له أنه أول من حقق الموجود من الكتاب كاملًا، ويُؤخذ عليه قلة رجوعه للمختصر في مواطن الإشكال. وقد انتفع الناس بهذه الطبعة لأكثر من ثلاثين سنة، وهي التي كانت بين يدي أثناء العمل، وقد انتفعت بها كثيرًا، وخالفت محققها كثيرًا أيضًا. ومع جودة الطبعة فلم تسلم من شوائب التصحيف والسقط والخلل، خاصة في الفهارس، وأكبر سقط وقع فيها كان في (4/ 1258) أثناء السطر العاشر فقد سقطت ثمانية أسطر قبل قوله: «ولا ضابط لفرقة منكم»، وهي: «فإن قلتم: إن العقل يُعارض جميع المنقول كان هذا من الكفر والإلحاد والزندقة ما لا مزيد عليه. وإن قلتم: بل المعارضة حاصلةٌ بين العقل وبين بعض المنقول دون بعض، قيل لكم: فما هو القدر الذي عارضه العقل من المنقول وما جنسه وصفته، وفي أي باب هو؟ فإن قلتم: ما خالف صريح العقل. كان هذا تعريفًا دوريًا غير مقيد، وكان حاصل كلامكم إذا عارض العقل لما خالف العقل وجب تقديم العقل، وهذا من جنس الهذيان.
(المقدمة/58)
فإن قلتم: نحن قلنا إذا جاء النقل بخلاف العقل وجب تقديم العقل. قيل لكم: فالسؤال عائد بعينه، والمطالبة قائمة، ففي أي الأنواع جاء النقل مناقضًا للعقل». قد اكتفيت بذكر هذا المثال الواحد، ولم أر من ضرورة لتسويد الصفحات بأمثلة التصحيف والسقط. الطبعة الثانية: حققها الدكتور أحمد عطية الغامدي والدكتور علي بن ناصر الفقيهي، وطُبعت في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، كلية الدعوة وأصول الدِّين، الطبعة الأولى سنة 1406 هـ، وطُبعت بعنوان «الصواعق المنزلة على الطائفة الجهمية والمعطلة»، وقد ذكر المحققان في مقدمتها أنها في ثلاث مجلدات، ولم أقف إلا على المجلدين الأول والثاني منها فقط. * * * * *
(المقدمة/59)
(10) مخطوطات الكتاب للأسف لم نقف على نسخة تامة من الكتاب، ولا نعلم للكتاب إلا ثلاث نسخ: نسخة حلب، ونسخة برلين، ونسخة المتحف العراقي (1)، ولما كانت نسخة المتحف العراقي منقولة من نسخة حلب فقد استغنينا عنها بوجود أصلها المنقولة منه. النسخة الأولى نسخة حلب: نسخة محفوظة في المكتبة العثمانية بحلب، وقد ضُمت إلى مكتبة الأسد الوطنية تحت رقم 15324. تقع في 137 ورقة، 273 صحيفة، من الحجم الكبير، مسطرتها 35 سطرًا، متوسط عدد الكلمات في السطر سبع عشرة كلمة. عنوانها: «كتاب الصواعق المنزلة على الطائفة الجهمية والمعطلة تصنيف الإمام العلَّامة محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن القيم الحنبلي رحمه الله تعالى». أولها: أول الكتاب. وآخرها: آخر الموجود من الكتاب، ثم كتب الناسخ: «أنهاه كاتبه يوم _________ (1) حاولنا الحصول على هذه النسخة مرارًا وبوسائل مختلفة، لكن لم نتمكن من ذلك، وكانت نتيجة إحدى المحاولات ناجحة لكن لما وصلنا المخطوط من العراق تبين أنه نسخة من المختصر لا الأصل! وهنا نشكر كل من أعان في سبيل الحصول عليها ومنهم د. ياسر البدري، والشيخ إبراهيم الهاشمي الأمير، ونهيب بمن يتمكن من الحصول على مصورتها أن يتواصل معنا. [علي العمران].
(المقدمة/60)
17 من ذي القعدة سنة 1110 على ما وجدناه في الأصل، ونعوذ بالله من الزيادة والنقصان». ولم يذكر الناسخ اسمه، واتبع نظام التعقيبة. وكتب الناسخ آخره: «جملته كراس 14 إلا 3 أوراق». كتب الناسخ على حاشيتها بعض العناوين الجانبية للموضوعات، تحت عنوان «مطلب»، لم نجد كبير فائدة في الإشارة إليها. كُتبت النسخة بالمداد الأسود إلا عناوين الفصول وبعض الوجوه فقد كُتبت بالمداد الأحمر، ووُضعت خطوط حمراء فوق بعض الكلمات، وجُعلت الكتابة داخل إطار مستطيل باللون الأحمر، والصفحة الأولى مذَهَّبة ومزخرفة بزخارف نباتية. وعلى لوحة العنوان تملّك نصه: «تملكه عبده الضعيف الحقير شيخ الحرم سابقا أبو بكر أغا في 10 جماد الآخر سنة 1112». وعليها خاتم بيضاوي صغير لم يتبين ما فيه، وخاتم مستطيل فيه وقفية المكتبة العثمانية. وهذه النسخة مقابلة على أصلها المنقولة منه، يدل على ذلك وجود اللحوقات المصححة على حواشي بعض أوراقها، وهي أتم النسختين، ويعيبها كثرة التصحيف والسقط، وقد يقصر السقط وقد يطول، وأطول سقط وقع بها كان في السطر الأول من الورقة السابعة والثلاثين، فقد سقط منها عشرات الصفحات، وكُتب بحاشيتها: «هكذا وجدنا في الأصل». فظهر أن السقط كان في أصلها، وقد استدركت هذا السقط من النسخة «ب». وقد رمزت لهذه النسخة بحرف «ح».
(المقدمة/61)
النسخة الثانية نسخة برلين: نسخة محفوظة في مكتبة برلين ضمن مجموع رقم 2094، «الصواعق» هي الرسالة الأولى في المجموع، ثم يليها فوائد نحوية في نصف صفحة، ثم «الرسالة التبوكية» للمصنف (ق 100 ب-113 ب). تقع في 97 ورقة، من 3 ب إلى 100 أ، من الحجم المتوسط، مسطرتها 23 سطرًا، متوسط عدد الكلمات في السطر ثلاث عشرة كلمة. عنوانها: «كتاب الصَّواعق المرسلة على فرق المعتزلة والجهميَّة والمعطِّلة تصنيف الشيخ الإمام العالم العلَّامة الذاب عن كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - شمس الدِّين أبي عبد الله محمد بن الشَّيخ الصَّالح أبي بكر بن أيوب ابن القيِّم الجوزيَّة [كذا]». وكتب على الحاشية: «ويقال الصواعق المرسلة على فرق البدع المتأولة». أولها: أول الكتاب. وآخرها: «وتأمَّلْ أقوالهم تعلمْ أيَّ النوعين معه العقل، ومن الذي خرج عن صريحه! وبالله التوفيق». فهي تمثل قرابة ثلث الموجود من الكتاب فقط. ولم يذكر اسم الناسخ ولا تاريخ النسخ، واتبع الناسخ نظام التعقيبة. وليس على النسخة تملّكات ولا وقفيات. وهذه النسخة مقابلة على أصلها، يدل على ذلك قول الناسخ آخرها: «بلغ بحمد الله مقابلة حسب الطاقة». وكذلك وجود اللحوقات المصححة على حواشي بعض أوراقها، وهذه النسخة أصح من نسخة حلب، ولم تسلم
(المقدمة/62)
أيضًا من التصحيف والسقط، وترك الناسخ نصف وجه الورقة الخامسة والتسعين بياضًا، وكتب: «أظنه بياض صحيح». ثم ترك ظهرها كله بياضًا، وكتب: «أظنه بياض صحيح». وعلى النسخة حواش كثيرة، بعضها شرح لكلمات غريبة، وبعضها عناوين لبعض الموضوعات، ولم نشر إليها في التعليقات لقلة جدواها. وقد رمزت لهذه النسخة بحرف «ب». فقد ظهر من هذا الوصف أن نسخة حلب أتم النسختين؛ فقد تفردت بنحو ثلثي القدر الموجود من الكتاب، لكنها للأسف كثيرة التصحيف، وأن نسخة برلين أوثق النسختين، وقد سدت نقص نسخة حلب في مواضع، بل لقد تفردت بفصول بأكملها، سقطت من نسخة حلب، وأنها لم تسلم كذلك من تصحيف وسقط، لذلك راجعت نسخ «مختصر الصواعق»، واخترت أوثقها فجعلتها نسخة مساعدة في ضبط الكتاب، وهذا وصفها: وصف نسخة «مختصر الصواعق»: نسخة محفوظة في مكتبة دار العلوم لندوة العلماء في لكنو بالهند. تقع في 260 ورقة، مسطرتها 23 سطرًا، متوسط عدد الكلمات في السطر خمس عشرة كلمة. عنوانها: «مختصر كتاب الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة تأليف الإمام العالم العلَّامة مفتي المسلمين الشيخ شمس الدِّين أبي عبد الله محمد بن الشيخ الإمام العالم أبي بكر الشهير بابن قيم الجوزية قدس الله روحه ونور ضريحه».
(المقدمة/63)
أولها: أول الكتاب. وآخرها: آخر الكتاب، ثم كتب الناسخ: «تم الكتاب بحمد الله وعونه في خامس شهر شعبان المبارك سنة ثمانٍ وخمسين وسبعمائة على يد العبد الفقير إلى الله تعالى محمد بن عثمان بن محمد بن سلمان الزرعي الدمشقي غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين، ولمن نظر فيه ودعا لكتابه بالمغفرة والرحمة، حامدًا لله تعالى ومصليًا على رسوله محمدٍ وآله وصحبه، وحسبنا الله ونعم الوكيل». واتبع الناسخ نظام التعقيبة أحيانًا. وكُتب على بعض حواشي ورقاتها تعليقات، لم نجد كبير فائدة في الإشارة إليها. وعلى لوحة العنوان تملكات ومطالعات كثيرة. وهي نسخة في غاية الجودة، كثيرٌ من كلماتها مشكولٌ، وقد نفعنا الله بها في تصحيح كثيرٍ من التصحيفات واستدراك كثيرٍ من السقوطات، وللأسف قد ضاع منها عدة كراسات موضعها بين الورقتين الثانية والثلاثين والثالثة والثلاثين، وقد تبين لي أن هذه النسخة هي أصل كل النسخ التي وقفت عليها للمختصر ـ فقد انتقل هذا السقط منها إلى كل المخطوطات الأخرى، ومن ثم وقع هذا السقط في طبعات المختصر جميعها. وقد رمزت لهذه النسخة بحرف «م». * * * * *
(المقدمة/64)
(11) منهج التحقيق تسلمت عند الاتفاق على تحقيق الكتاب من الجهة الراعية لذلك ملفًا فيه متن الكتاب مخرَّج الأحاديث الأحاديث والآثار، ونسخة من المنهج المتبع في تحقيق كتب المشروع. وكان تفصيل عملنا في تحقيق الكتاب: ضبط النصِّ، والتعليق عليه، والتقديم له، وفهرسة محتوياته. أمَّا ضبط النصِّ: - فقد قابلنا النَّصَّ على المخطوطتين، ثم على ما وجُد منه في نسخة المختصر «م»، وقد قرأ عليّ الكتاب أخي مجدي السيد أمين وأنا ممسك بالمخطوطات. - وقابلت النقول على مصادرها، وأثبتنا الرَّاجح في المتن، وما كان من غير النسخ الثلاث وضعته بين معقوفين. - وقسمت النصَّ إلى فقرات، وأضفت إليه علامات الترقيم المناسبة. - ووضع أخي عاطف بن محمود الآيات الكريمة من المصحف مشكولة بالرسم العثماني وفق رواية الدوري عن أبي عمرو البصري، وهي القراءة المعروفة في عصر المؤلف -رحمه الله تعالى-، وقد وافق رسم الآيات في مخطوطات الكتاب هذه القراءة إلا في موضعين نبهتُ عليهما في الهوامش، وقد وضعنا تخريج الآيات داخل المتن عقب كل آية بين معقوفين بحجم أقل من حجم الكتابة. - وضبطنا الأحاديث النَّبوية الشَّريفة بالشَّكل التام، وكذا الأشعار.
(المقدمة/65)
- وضبطنا بالشَّكل ما يُشكل من الألفاظ والأسماء والكنى والأنساب والأماكن والبلدان وغيرها. - وضعنا في النص أوائل ورقات المخطوطة «ح» هكذا [ق 1 ب]، إلا في الجزء الذي سقط منها فوضعنا أوائل ورقات النسخة «ب» هكذا [ب 75 أ]. وأمَّا التعليق على النصِّ: - فقد وثَّقنا نُقول الكتاب بعزوها إلى مصادرها، وعزونا الأشعار إلى دواوينها ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا، وإلَّا عزوناها إلى كتب اللغة والأدب. - خرج أحاديث الكتاب الأخ حسين باقر ثم راجعها الأخ كريم بن محمد عيد، فعدّل وأكمل، ثم راجعته مرة ثانية فاستوفيت التعديل والإكمال. - واستوفينا عزو إحالات المصنِّف لما تقدم من الكتاب وما سيأتي إلى صفحاتها، وذلك لربط أجزاء الكتاب ببعضها. - وعلَّقنا على بعض ما يحتاج إلى بيانٍ وإيضاحٍ من نصوص الكتاب، كشرح كلمةٍ غريبةٍ أو إيضاح إبهامٍ أو إزالة لبسٍ أو استدراك، كل ذلك على وجه الاختصار. - وربطنا أبحاث ابن القيِّم بكتبه الأخرى. ثم راجع الكتاب الشيخان الفاضلان د. محمد أجمل الإصلاحي ود. سعود بن عبد العزيز العريفي ـ جزاهما الله خيرًا ـ فصححا كثيرًا من الأخطاء، ونبها على كثيرٍ من المواضع التي تحتاج إلى مراجعة وتدقيق، وأشارا بحذف بعض الشروحات اللغوية ونحوها، ودققا علامات الترقيم وغيرها. وأمَّا مقدمة التحقيق: فكتبتها في أحد عشر مباحثًا سبق سردها.
(المقدمة/66)
وأمَّا الفهارس فقد صنعنا الفهارس التي تيسر الانتفاع بالكتاب، وهي نوعان فهارس لفظية وعلمية: أولًا: الفهارس اللفظية: (1) فهرس الآيات القرآنية. (2) فهرس الأحاديث والآثار. (3) فهرس الأعلام. (4) فهرس الفرق والجماعات. (5) فهرس الأماكن والبلدان. (6) فهرس الكتب. (7) فهرس الأشعار. ثانيًا: الفهارس العلمية: (1) فهرس التفسير وعلوم القرآن. (2) فهرس الحديث وعلومه. (3) فهرس العقيدة. (4) فهرس الفقه وأصوله. (5) فهرس اللغة والنحو (6) فهرس الفوائد المتفرقة. ثم فهرس الموضوعات.
(المقدمة/67)
وقد عاونني في عمل جُلِّ هذه الفهارس أخي مجدي السيد أمين. ووضعت عقب المقدمة نماذج من صور المخطوطات المعتمدة في التحقيق. والخلاصة أن طبعتنا تميزت بعدة ميزات: منها: الاجتهاد في ضبط الكتاب، ومن ذلك وضع الآيات بالرسم العثماني من المصحف وفق قراءة الدوري عن أبي عمرو البصري ـ وهي قراءة الإمام ابن القيِّم (1) ـ وضبط الأحاديث والأشعار بالشكل التام، وضبط المشكل ممَّا سواهما. ومنها: اعتماد أنفس نسخ «مختصر الصواعق» نسخة مساعدة في ضبط المتن، ممَّا أعان على تصويب كثيرٍ من الأخطاء واستدراك كثيرٍ من السقوطات. ومنها: العناية الكبيرة بتخريج الأحاديث والأشعار وتوثيق النقول والأقوال، ومقابلتها على أصولها، ممَّا أعان على تصويب كثيرٍ من الأخطاء واستدراك كثيرٍ من الخلل والسقط أيضًا. ومنها: العناية الكبيرة بفهرسة محتويات الكتاب. ومنها: حُسن التنسيق والطباعة، ولملمة حجم الكتاب في مجلدين بدلًا من أربعة في الطبعة المتداولة. * * * * * _________ (1) معرفة قراءة المصنِّف في غاية الأهمية لضبط الكتاب، وإلا سيُخطأ الصواب، كما وقع لمحقق «الصواعق» (756) ولمحقق «مختصر الصواعق» (1/ 235) في قوله تعالى: {وَاَلَّيْلِ إِذَا دَبَرَ} [المدثر: 33].
(المقدمة/68)
نماذج من صور المخطوطات
(المقدمة/69)
(المقدمة/70)
عنوان نسخة حلب «ح»
(المقدمة/71)
أول نسخة حلب (ح)
(المقدمة/72)
آخر نسخة حلب (ح)
(المقدمة/73)
أول نسخة برلين «ب»
(المقدمة/74)
آخر نسخة برلين «ب»
(المقدمة/75)
عنوان «مختصر الصواعق» «م»
(المقدمة/76)
أول نسخة المختصر «م»
(المقدمة/77)
آخر نسخة المختصر «م»
(المقدمة/78)
بسم الله الرحمن الرحيم ربِّ يسِّر بفضلك يا كريم، وصلَّى الله على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلَّم أجمعين (1). الحمدُ لله ربِّ العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلَّا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، الموصوف بصفات الجلال، المنعوت بنعوت (2) الكمال، المُنزَّه عمَّا يضاد كماله مِن سلبِ حقائق أسمائه وصفاته، المستلزم لوصفه (3) بالنقائص وشبه (4) المخلوقين، فنفْيُ حقائق أسمائه وصفاته متضمِّنٌ للتعطيل والتشبيه، وإثباتُ حقائقها على وجه الكمال الذي لا يستحقه سواه هو حقيقة التوحيد والتنزيه، فالمُعطِّلُ جاحدٌ لكمال المعبود، والمُمثِّلُ مشبِّهٌ له بالعبيد، والمُوحِّدُ مُثبِتٌ (5) لحقائق أسمائه وكمال أوصافه، وذلك قُطب رَحَى التوحيد، فالمُعطِّل يعبد عدمًا، والمُمثِّل يعبد صنمًا، والمُوحِّد يعبد ربًّا ليس كمثله شيءٌ، له الأسماء الحُسنى والصِّفات العُلى، وسع كلَّ شيءٍ رحمةً وعلمًا. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، وحُجته على عباده، فهو رحمته المهداة إلى العالمين، ونعمته التي أتمَّها على أتباعه من المؤمنين، أرسله على حين فترةٍ من الرُّسل، ودروسٍ من الكتب، _________ (1) من قوله «رب يسر» إلى هنا في «ب»: «وبه أستعين». (2) «ح»: «ونعوت». (3) «ح»: «بوصفه». (4) «ح»: «وسنة». (5) «ح»: «مبين».
(1/3)
وطموسٍ من السُّبل (1)، وقد استوجب أهل الأرض أن ينزل بساحتهم العذاب، وقد نظر الجبار جلَّ جلاله إليهم، فمقتهم (2) عربَهم وعجمهم إلَّا بقايا من أهل الكتاب، وكانت الأمم إذ ذاك ما بين مشركٍ بالرحمن، عابدٍ للأوثان، وعابدٍ للنيران، وعابدٍ للصلبان، أو عابدٍ للشمس والقمر والنجوم، كافرٍ بالله الحي القيوم، أو تائهٍ في بيداءِ ضلالتِه حيرانَ، قد استهواه الشيطان، وسدَّ عليه طريق الهدى والإيمان، فالمعروف عنده ما وافَقَ إرادته ورضاه، والمنكر ما خالف هواه، قد تخلى عنه الرحمنُ، وقارنَه الخِذلان، يسمع ويبصر بهواه لا بمولاه، ويبطش ويمشي بنفسه وشيطانِه لا بالله، فبابُ الهُدى دونه مسدود، وهو عن الوصول إلى معرفة ربِّه واتباع مرضاته مصدود، فأهل الأرض بين تائهٍ حيرانَ، وعبدٍ للدنيا فهو عليها لهفان، ومنقادٍ للشيطان، جاهلٍ أو جاحدٍ أو مشركٍ بالرحمن. فالأرض قد غَشِيتها ظُلمةُ الكفر والشرك والجهل والعناد، وقد استولى عليها أئمة (3) الكفر وعساكر الفساد، وقد استند كلُّ قومٍ إلى ظُلمات آرائهم، وحكموا على الله وبين عباده بمقالاتهم الباطلة وأهوائهم، فسُوق الباطل نافقةٌ لها القيام، وسوق الحق كاسدةٌ لا تُقام، فالأرض قد صالت جيوش الباطل في أقطارها ونواحيها، وظنَّت أن تلك الدولة تدوم لها، وأنه لا مطمعَ بجند الله وحزبه فيها. فبعث اللهُ رسولَه وأهلُ الأرض أحوجُ إلى رسالته من غيث السماء، _________ (1) «السبل» سقط من «ح». (2) «ح»: «فمنهم». (3) «ح»: «أمة».
(1/4)
ومن نور الشمس الذي يُذهِب عنهم حَنَادِسَ (1) الظَّلماء، فحاجتهم إلى رسالته فوق جميع الحاجات، وضرورتهم إليها مقدَّمة على جميع الضرورات؛ فإنه لا حياةَ للقلوب ولا نعيم ولا لذة ولا سرور ولا أمان ولا طمأنينة إلَّا بأن تَعْرِفَ ربها ومعبودها وفاطرها بأسمائه وصفاته وأفعاله، ويكون أحبَّ إليها ممَّا سواه، ويكون سعيُها في ما يقرِّبها إليه ويُدنِيها من مرضاته، ومن المحال أن تستقل العقول البشرية بمعرفة ذلك وإدراكه على التفصيل؛ فاقتضت رحمةُ العزيز الرحيم أنْ بَعَثَ الرسلَ به مُعَرِّفِين، وإليه دَاعِين، ولمن أجابهم مُبَشِّرِين، ولمن خالفهم مُنْذِرين، وجعل مفتاح دعوتهم وزُبدة رسالتهم معرفة المعبود سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله؛ إذ على هذه المعرفة تنبني مطالبُ الرسالة جميعها، فإن (2) الخوف والرجاء والمحبة والطاعة والعبودية تابعةٌ لمعرفة المَرْجُوِّ المَخُوف المَحْبُوب المُطَاع المَعْبُود. ولمَّا كان مفتاح الدعوة الإلهية معرفة الربِّ تعالى قال أفضلُ الداعين إليه سبحانه لمعاذ بن جبل وقد أرسله إلى اليمن: «إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ ... » وذكر باقي الحديث، وهو في الصحيحين (3)، وهذا اللفظ لمسلم. فأساسُ دعوة الرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ معرفةُ الله سبحانه _________ (1) جمع حِنْدِس، وهو الليل شديد الظلمة. «الصحاح» (3/ 916). (2) «ب»: «وإن». (3) البخاري (1496) ومسلم (19).
(1/5)
بأسمائه وصفاته وأفعاله، ثم يتبع ذلك أصلانِ عظيمان (1): أحدهما: تعريف الطريق المُوصِلة إليه، وهي شريعته المتضمِّنة لأمره ونهيه. الثاني: تعريف السالكين ما لهم بعد الوصول إليه من النعيم الذي لا ينفَد، وقُرةِ العين التي لا تنقطع. وهذان الأصلان تابعان للأصل الأول، ومبنيَّان عليه، فأعرفُ الناس بالله أتبعُهم للطريق الموصل إليه، وأعرفُهم بحال السالكين عند القدوم عليه. ولهذا سمَّى اللهُ سبحانه ما أنزل (2) على رسوله رُوحًا لتوقُّف الحياة الحقيقية عليه، ونورًا لتوقف الهداية عليه. قال الله تبارك وتعالى: {يُلْقِي اِلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [غافر: 14] في موضعين من كتابه (3). وقال [ق 2 أ] عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا اَلْكِتَابُ وَلَا اَلْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 49]. فلا روحَ إلَّا فيما جاء به، ولا نورَ إلَّا فيما استضاء (4) به، فهو الحياة والنور، والعصمة والشفاء، والنجاة والأمن. والله سبحانه وتعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، فلا هدى إلَّا _________ (1) «ب»: «أصلين عظيمين». (2) «ب»: «أنزله». (3) يقصد بالموضع الثاني قوله تعالى: {يُنزِلُ اُلْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل: 2]. (4) «ب»: «في الاستضاءة».
(1/6)
فيما جاء به، ولا يقبل الله من أحدٍ دِينًا يَدِينه به إلَّا أن يكون موافقًا لدينه. وقد نزَّه سبحانه وتعالى نفسه عمَّا يصفه به العباد، إلَّا ما وصفه به المرسلون (1) فقال: {سُبْحَانَ اَللَّهِ عمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اَللَّهِ اِلْمُخْلِصِينَ} [الصافات: 159 - 160] قال غيرُ واحدٍ من السلف: هم الرُّسل (2). وقال الله سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ اِلْعِزَّةِ عمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى اَلْمُرْسَلِينَ (181) وَاَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اِلْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 - 182] فنزَّه نفسَه عمَّا يصفه به الخلقُ، ثم سلَّم على المرسلين؛ لسلامة ما وصفوه به من النقائص والعيوب، ثم حمد نفسَه على تفرُّده بالأوصاف التي يستحق عليها كمال الحمد. الإسلام والرعيل الأول، ثم فَرَق على أثرهم التابعون (3)، وتَبِعهم على منهاجهم اللاحقون، يوصي بها الأولُ الآخِرَ، ويقتدي فيه اللاحقُ بالسابق، وهم في ذلك بنبيهم مقتدون، وعلى منهاجه سالكون، قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اَللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اِتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]. فـ {مَنِ اِتَّبَعَنِي} إن كان عطفًا على الضمير في {أَدْعُوا _________ (1) «ح»: «ما وصف به المرسلين». وهو يقلب المعنى. (2) لم نقف عليه، وقال ابن كثير في «تفسيره» (7/ 42): «وقوله: {سُبْحَانَ اَللَّهِ عمَّا يَصِفُونَ} أي: تعالى وتقدس وتنزَّه عن أن يكون له ولدٌ، وعمَّا يصفه به الظالمون الملحدون علوًّا كبيرًا، وقوله: {إِلَّا عِبَادَ اَللَّهِ اِلْمُخْلِصِينَ} استثناء منقطع، وهو من مُثبَت، إلا أن يكون الضمير في قوله: {عمَّا يَصِفُونَ} عائدًا إلى جميع الناس، ثم استثنى منهم المخلِصين، وهم المتَّبِعون للحق المنزَل على كل نبي ومرسَل». (3) أي: فزعوا ومضوا على أثرهم، ينظر «زاد المعاد» للمصنِّف (3/ 864).
(1/7)
فتضمنت هذه الكلمة إثبات صفات الكمال الذي أثبته لنفسه (1)، وتنزيهه عن العيوب والنقائص والتمثيل، وأنَّ ما وصف به نفسه فهو الذي يوصف به، لا ما وصفه به (2) الخلق، ثم قال: «والحمد لله الذي لا يُؤدَّى شكرُ نعمةٍ من نعمه إلَّا بنعمةٍ منه تُوجب على مُؤدِّي شكرِ ماضي نعمه بأدائها نعمةً حادثةً يجب عليه شكرُه بها» (3). فأثبت في هذا القدر أنَّ فِعل الشكر إنَّما هو بنعمته على الشاكر، وهذا يدل على أنه - رحمه الله - مثبتٌ للصفات والقدر. وعلى ذلك درَجَ يَزَكُ (4) الإسلام والرعيل الأول، ثم فَرَق على أثرهم التابعون (5)، وتَبِعهم على منهاجهم اللاحقون، يوصي بها الأولُ الآخِرَ، ويقتدي فيه اللاحقُ بالسابق، وهم في ذلك بنبيهم مقتدون، وعلى منهاجه سالكون، قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اَللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اِتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]. فـ {مَنِ اِتَّبَعَنِي} إن كان عطفًا على الضمير في {أَدْعُوا __________ (1) «ح»: «لرؤيته». (2) «به». سقط من «ح». (3) «الرسالة» (ص 7 - 8). (4) «ح» يزل. باللام، واليزك: كلمة فارسية معناها حرس الطليعة. «تكملة المعاجم العربية» (11/ 118) وقد استعملها المصنِّف ـ رحمه الله تعالى ـ في «النونية» وبيَّن معناها فقال: 2437 قومٌ أقامهم الإلهُ لحفظ هذا الـ ... ـدين من ذي بدعةٍ شيطانِ 2438 وأقامهم حرسًا من التبديل ... والتحريف والتتميم والنقصانِ 2439 يَزَك على الإسلام بل حصن له ... يأوي إليه عساكر الفرقان (5) أي: فزعوا ومضوا على أثرهم، ينظر «زاد المعاد» للمصنِّف (3/ 864).
(1/8)
إِلَى اَللَّهِ} فهو دليلٌ أنَّ أتباعه هم الدعاة إلى الله، وإن كان عطفًا على الضمير المنفصل فهو صريح أنَّ أتباعَه هم أهل البصيرة فيما جاء به دون من عداهم (1). والتحقيق أن العطف يتضمَّنُ المعنيين، فأتباعه هم أهل البصيرة الذين يدعون إلى الله. وقد شهِد سبحانه لمن يرى أن ما جاء به من عند الله هو الحقُّ لا آراء الرجال بالعلم، فقال تعالى: {وَيَرَى اَلَّذِينَ أُوتُوا اُلْعِلْمَ اَلَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ اَلْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ اِلْعَزِيزِ اِلْحَمِيدِ} [سبأ: 6]. وقال تعالى: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ اَلْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد: 21]. فمن تعارَضَ عنده حقائقُ ما جاء به وآراء الرجال، فقدَّمها عليه أو (2) توقَّف فيه، أو قدحت في كمال معرفته وإيمانه به؛ لم يكن من الذين شَهِد الله لهم بالعلم، ولا يجوز أن يُسمَّى بأنه من أهل العلم. فكيف يكون الداعي إلى الله على بصيرةٍ ـ الذي وصفه الله بأنه سراجٌ منيرٌ (3)، وبأنه هادٍ إلى صراطٍ مستقيم (4)، وبأنَّ من اتبع النور الذي أنزل معه فهو المفلح لا غيره (5)، وأنَّ من لم يُحَكِّمْه في كل ما ينازع فيه المتنازعون _________ (1) ذكَر القولين في تفسير الآية: الواحدي في «البسيط» (12/ 263)، والبغوي في «معالم التنزيل» (4/ 284). (2) «ح»: «إذا». (3) في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اَللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} [الأحزاب: 45 - 46]. (4) في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 49]. (5) في قوله تعالى: {فَاَلَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاَتَّبَعُوا اُلنُّورَ اَلَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ اُلْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157].
(1/9)
وينقاد لحُكْمِه، ولا يكون عنده حرجٌ منه، فليس بمؤمنٍ (1) ـ قد أخبر الأُمة عن الله وأسمائه وصفاته بما الحقُّ في خلاف ظاهره، والهُدى في إخراجه عن حقائقه، وحمله على وحشي اللغات ومستكرَهات التأويل، وأنَّ حقائقه ضلالٌ وتشبيهٌ وإلحادٌ، والهدى والعلم في مجازه وإخراجه عن حقائقه، وإحالة (2) الأُمة فيه على آراء المتحيرين وعقول المتهوِّكين (3)؛ فيقول: إذا أخبرتكم عن الله وصفاته العلى بشيءٍ فلا تعتقدوا حقيقته، وخذوا معرفة مُرادي به من آراء الرجال ومعقولها؛ فإن الهدى والعلم فيه. والدِّين إذا أُحِيلَ (4) على تأويلات المتأولين انتقضتْ عُرَاه كلها، ولا تشاء طائفةٌ من طوائف أهل الضلال أن تتأول النصوص على مذهبها إلَّا وجدت السبيل إليه، وقالت لمن فتح لها باب التأويل: إنَّا تأولنا كما تأولتم، والنصوص أخبرتْ بما تأوَّلناه، كما أخبرتْ بما تأولتموه، فما الذي جعلكم في تأويلكم مأجورين، وجعلَنا عليه مأزورين (5)؟ والذي قادكم إلى التأويل _________ (1) بعده في «ح»: «لأن الرسول عنده». وأراها زائدة. وقوله: «وأنَّ من لم يُحَكِّمْه في كل ما ينازع فيه المتنازعون وينقاد لحُكْمِه ولا يكون عنده حرج منه فليس بمؤمنٍ». كذا وقع في النسختين وفي «المختصر»، وفيه إشكال، والمعنى المراد ظاهر، مقتبَس من قوله تعالى: {* فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 64]. (2) «ح»: «وأحال». (3) التهوك كالتهور، وهو الوقوع في الأمر بغير روية، والمتهوك: الذي يقع في كل أمر، وقيل: هو التحير .. «النهاية في غريب الحديث» (5/ 282). (4) «إذا أحيل». سقط من «ح». (5) «ب»: «مأزورين عليه».
(1/10)
ما تقولون إنه معقول فمعنا نظيرُه أو أقوى منه أو دونه. وسيأتي تمامُ هذا في بيان عجز المتأوِّلين عن الفرق بين ما يسوغ تأويله وما لا يسوغ (1). والمقصود أنَّ الله سبحانه قد أخبر أنه أكملَ له ولأُمَّتِه به دينَهم، وأتمَّ عليهم به نعمته، ومحالٌ مع هذا أن يَدَع أهم ما خُلِق له الخَلْق، وأُرْسِلَت به الرُّسل، وأُنْزِلَت به الكتب، ونُصِبَت عليه القِبلة، وأُسِّست (2) عليه المِلَّة ـ وهو باب الإيمان به ومعرفته ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله ـ ملتبسًا مشتبهًا حقُّه بباطله، لم يتكلم فيه بما هو الحق، بل تكلم بما ظاهرُه الباطل، والحق في إخراجه عن ظاهره. وكيف يكون أفضلُ الرُّسل وأجلُّ الكتب غيرَ وافٍ بتعريف ذلك على أتمِّ [ق 2 ب] الوجوه، مبيِّنٍ له بأكمل البيان، موضِّحٍ له غاية الإيضاح، مع شدة حاجة النفوس إلى معرفته، ومع كونه أفضل ما اكتسبته النفوس، وأجلَّ ما حصَّلته القلوب. ومن أبْينِ المُحَال أن يكون أفضلُ الرُّسل قد علَّم أُمَّتَه آدابَ البول قبله وبعده ومعه، وآدابَ الوطء، وآدابَ الطعام والشراب، ويترك أن يعلِّمهم ما يقولونه بألسنتهم وتعتقده قلوبهم في ربهم ومعبودهم الذي معرفتُه غايةُ المعارف، والوصول إليه أجلُّ المطالب، وعبادته وحده لا شريك له أقربُ الوسائل؛ ويخبرهم فيه بما ظاهره باطلٌ وإلحاد، ويحيلهم في فَهْم ما أخبرهم _________ (1) وهو الفصل السادس. (2) «ح»: «وانتصبت».
(1/11)
به على مستكرَهات التأويلات ومستنكَرات المجازات، ثم يحيلهم في معرفة الحق على ما تحكم به عقولهم، وتُوجِبه آراؤهم. هذا وهو القائل: «تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ» (1). وهو القائل: «مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيَنْهَاهُم عَن شَرِّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ» (2). وقال أبو ذرٍّ: «لقد تُوفِّيَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما طائرٌ يقلِّبُ جناحيه في السماء إلَّا ذَكَّرَنا منه عِلمًا» (3). وقال عمر بن الخطاب: «قام فينا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مَقامًا، فذكر بدء الخَلْق، حتى دخل أهل الجنة منازلهم، وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك مَن حفظَه ونسيه مَن نسيه» ذكره البخاري (4). و «صلَّى بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة _________ (1) أخرجه الإمام أحمد (17606) وابن ماجه (43) وابن أبي عاصم في «السنة» (48، 49) والحاكم (1/ 96) عن العرباض بن سارية - رضي الله عنه -. وهو قطعة من حديث الموعظة البليغة المشهور. وقال المنذري في «الترغيب والترهيب» (1/ 88): «رواه ابن أبي عاصم في كتاب «السنة» بإسناد حسن». (2) أخرجه مسلم (1844) عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -. (3) أخرجه الإمام أحمد في «المسند» (21970، 22053) والبزار في «المسند» (9/ 341) وابن حبان (65) والطبراني في «المعجم الكبير» (2/ 155). وقال الهيثمي في «المجمع» (8/ 264): «ورجال الطبراني رجال الصحيح، غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ وهو ثقة، وفي إسناد أحمد من لم يُسم». واختُلِف في وصل هذا الحديث وإرساله، ورجح الدارقطني إرساله. يُنظر: «علل الدارقطني» (1148) و «أطراف الغرائب» (4712). وروى مسلم في «صحيحه» (262) «قيل لسلمان الفارسي - رضي الله عنه -: قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة؟ قال: أجل». (4) «صحيح البخاري» (3192).
(1/12)
الظهر، ثم خطبهم حتى حضرت العصرُ، فصلى العصر، ثم خطب بهم حتى غربت الشمس، فلم يَدَع شيئًا كان ولا يكون مِن خَلْقِ آدم إلى قيام الساعة حتى أخبرهم به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه» (1). فكيف يتوهَّم مَن لله ولرسوله ودِينه في قلبه وقارٌ أن يكون رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمسك عن بيان هذا الأمرِ العظيم، ولم يتكلم فيه بالصواب، بل تكلَّم بما ظاهره خلافُ الصواب؟! بل لا يتم الإيمان إلَّا باعتقاد أن بيان ذلك قد وقَعَ من الرسول على أتمِّ الوجوه وأوضحه غاية الإيضاح، ولم يدَعْ بعده لقائلٍ مقالًا ولا لمتأولٍ تأويلًا. ثم من المحال أن يكون خيرُ الأُمة وأفضلُها وأعلمها وأسبقها إلى كل فضلٍ وهُدًى ومعرفةٍ قصَّروا في هذا الباب فجفَوْا عنه، أو تجاوزوا فغَلَوْا فيه، وإنما ابْتُلِيَ مَن خرج عن منهاجهم بهذين الداءين، وهُدوا لأحد الانحرافين. ويَزَك الإسلام (2) وعصابة الإيمان وحُماة الدِّين هم الذين كانوا في هذا الباب قائلين بالحقِّ معتقدين له داعين إليه. فإن قيل: القوم كانوا عن هذا الباب مُعرِضِين، وبالزهد والعبادة والجهاد مشتغلين، لم يكن هذا الباب من هِمَّتهم ولا عنايتهم به. قيل: هذا من أَبْيَنِ المحال وأبطلِ الباطل، بل كانت عنايتهم بهذا الباب فوق كل عنايةٍ، واهتمامهم به فوق كل اهتمامٍ؛ وذلك بحسب حياة قلوبهم ومحبتهم لمعبودهم ومنافستهم في القرب منه، فمَن في قلبه أدنى حياةٍ أو _________ (1) أخرجه مسلم (2892) عن أبي زيد عمرو بن أخطب الأنصاري - رضي الله عنه - بنحوه. (2) أي: حرسه، كما تقدم (ص 8).
(1/13)
محبةٍ لربه وإرادةٍ لوجهه وشوقٍ إلى لقائه فطلبُه لهذا الباب وحرصُه على معرفته وازدياده من التبصر فيه وسؤاله واستكشافه عنه هو أكبرُ مقاصده، وأعظم مطالبه وأجلُّ غاياته، وليست القلوب الصحيحة والنفوس المطمئنة إلى شيءٍ من الأشياء أشوقَ منها إلى معرفة هذا الأمر، ولا فرحُها بشيءٍ أعظمَ من فرحها بالظفر بمعرفة الحقِّ فيه. فكيف يمكن مع قيام هذا المقتضي ـ الذي هو من أقوى المقتضيات ـ أن يتخلف عنه أثره في خيار الأُمة وسادات أهل العلم والإيمان، الذين هِمَمهم أشرف الهمم، ومطالبهم أجلُّ المطالب، ونفوسهم أزكى النفوس، فكيف يُظن بهم الإعراضُ عن مثل هذا الأمر العظيم أو الغفلة عنه، أو التكلم بخلاف الصواب فيه واعتقاد الباطل. ومن المُحال أن يكون تلاميذ المعتزلة وورثةُ الصابئين وأفراخ اليونان ـ الذين شهدوا على أنفسهم بالحيرة والشك وعدم العلم الذي يطمئن إليه القلب، وأشهدوا اللهَ وملائكته عليهم به (1)، وشهد به عليهم الأشهادُ من أتباع الرُّسل ـ أعلم بالله وأسمائه وصفاته وأعرف به ممَّن شهد الله ورسوله لهم بالعلم والإيمان، وفضَّلهم على من سبقهم ومَن يجيء بعدهم إلى يوم القيامة، ما خلا النبيين والمرسلين. وهل يقول هذا إلَّا غبيٌّ جاهلٌ لم يَقدِر قدْر السلف، ولا عرف الله ورسوله وما جاء به! قال شيخنا (2): «وإنما أُتي (3) هؤلاء المبتدعةُ ـ الذين فضَّلوا طريقة الخلف على طريقة السَّلف ـ من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد _________ (1) «به» ليس في «ب». (2) «الفتوى الحموية الكبرى» (ص 188 - 195) بتصرف. (3) «ح»: «والحال في».
(1/14)
الإيمان بألفاظ القرآن والحديث، من غير فقهٍ ولا فهمٍ لمراد الله تعالى ورسوله منها، واعتقدوا أنهم بمنزلة الأُميين الذين قال الله فيهم: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ اَلْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة: 77]، وأن طريقة المتأخرين هي استخراجُ معاني النصوص وصرفُها عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات ومستنكر التأويلات. فهذا الظن الفاسد أوجبَ تلك المقالةَ التي مضمونها نبذُ الكتاب والسُّنَّة وأقوال الصحابة والتابعين [ق 3 أ] وراء ظهورهم، فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف والكذب عليهم، وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف، وسببُ ذلك اعتقادُهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلَّت عليها هذه النصوص. فلمَّا اعتقدوا التعطيل وانتفاء الصِّفات في نفس الأمر، ورأوا أنه لا بد للنصوص من معنًى، بقوا متردِّدين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى ـ وهذا الذي هو طريقة السلف عندهم ـ وبين صرف اللفظ عن حقيقته وما وُضِعَ له إلى ما لم يُوضَع له ولا دَلَّ عليه بأنواع من المجازات والتكلُّفات (1)، التي هي بالألغاز والأحاجي أشبهُ منها بالبيان والهدى، كما سيأتي بيانه مفصَّلًا إن شاء الله. وصار هذا الباطل مركَّبًا من فساد العقل والجهل بالسمع، فلا سمعَ ولا عقل، فإن النفي والتعطيل إنما اعتمدوا فيه على شبهاتٍ فاسدةٍ ظنوها معقولاتٍ صحيحةً، فحرَّفوا لها النصوص السمعية عن مواضعها، فلمَّا ابتُني (2) أمرُهم على هاتين المقدمتين الكاذبتين كانت النتيجة استجهالَ _________ (1) «ح»: «وبالتكليفات». (2) في «الفتوى الحموية»: «انبنى».
(1/15)
السابقين ـ الذين هم أعلمُ الأُمة بالله وصفاته ـ واعتقاد أنهم كانوا أُميين بمنزلة الصالحين البُلْه، الذين لم يتبحروا في حقائق العلم بالله، ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي، وأن الخلف هم الفضلاء العلماء الذين حازوا قصَبَ السبقِ، واستولوا على الغاية، وظفروا من الغنيمة بما فات السابقين الأوَّلين. فكيف يتوهَّم مَن له أدنى مُسكةٍ (1) من عقلٍ وإيمانٍ أن هؤلاء المتحيِّرين الذين كَثُرَ في باب العلم بالله اضطرابُهم، وغلظ عن معرفة الله حجابُهم، وأخبر الواقف على نهايات إقدامهم بما انتهى إليه من مَرَامهم وأنه الشك والحيرة حيث يقول (2): لَعَمْرِي لَقَدْ طُفْتُ (3) المَعَاهِدَ كُلَّهَا ... وَسَيَّرْتُ طَرْفِي بَيْنَ تِلْكَ الْمَعَالِمِ فَلَمْ أَرَ إِلَّا وَاضِعًا كَفَّ حَائِرٍ ... عَلَى ذَقَنٍ أَوْ قَارِعًا سِنَّ نَادِم ويقول الآخر (4): _________ (1) يقال: فيه مُسكة من خير بالضم: أي بقية. «الصحاح» (4/ 1608). (2) البيتان أنشدهما الشهرستاني في «نهاية الإقدام» (ص 3) ولم ينسبهما لأحد. وقال ابن خلِّكان في «وفيات الأعيان» (4/ 274) في ترجمة الشهرستاني: «وذكر في أوَّل كتاب «نهاية الإقدام» بيتين وهما ـ فذكرهما ـ ولم يذكر لمن هذان البيتان. وقال غيره: هما لأبي بكر محمد بن باجه المعروف بابن الصائغ الأندلسي». وقال ابن خلكان في «وفيات الأعيان» (2/ 161) في ترجمة ابن سينا: «ويُنسب إليه البيتان اللذان ذكرهما الشهرستاني في أول كتاب «نهاية الإقدام». (3) زاد بعده في «ح»: «في تلك». (4) الأبيات أنشدها الفخر الرازي في «رسالة ذم لذات الدنيا» (ص 262) لنفسه، ورواها الشاطبي في «الإفادات والإنشادات» (1/ 84 - 85) بإسناده إليه.
(1/16)
نِهَايَةُ إِقْدَامِ العُقُولِ عِقَالُ ... وَأَكْثَرُ سَعْيِ الْعَالَمِينَ ضَلَالُ وَأَرْوَاحُنَا فِي وَحْشَةٍ مِنْ جُسُومِنَا ... وَغَايَةُ دُنْيَانَا أَذًى وَوَبَالُ ولَمْ نَسْتَفِدْ مِنْ بَحْثِنَا طُولَ عُمْرِنَا ... سِوَى أَنْ جَمَعْنَا فِيهِ قِيلَ وَقَالُوا وقال الآخر (1): «لقد خضتُ البحر الخِضَمَّ (2)، وتركتُ أهلَ الإسلام وعلومهم، وخضتُ في الذي نهَوْني (3) عنه، والآن إن (4) لم يتداركني ربي برحمته فالويل لي، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي». وقال آخر (5): «أكثرُ الناس شكًّا عند الموت أصحاب الكلام» (6). وقال آخر منهم عند موته (7): «اشهدوا عليَّ أني أموتُ وما عرفت شيئًا إلَّا أن الممكن يفتقر إلى واجبٍ. ثم قال: والافتقار أمرٌ عدميٌّ، فلم أعرف شيئًا». وقال آخر، وقد نزلت به نازلةٌ من سلطانه، فاستغاث بربِّ الفلاسفة فلم _________ (1) هو إمام الحرمين الجويني، نسبَه له شيخُ الإسلام في «درء تعارض العقل والنقل» (1/ 407) وفي غيره، والسبكي في «الطبقات الكبرى» (5/ 185). (2) البحر الخضم: كثير الماء. «جمهرة اللغة» (1/ 608) شبَّه به الآراء والأهواء لكثرتها وتفرقها. (3) «ح»: «نهوا». (4) «إن» سقط من «ب». (5) نسبَه شيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (4/ 28) لأبي حامد الغزالي. (6) هذا آخر النقل من «الفتوى الحموية». (7) هو الخونجي، قال ابن تيمية في «درء تعارض العقل والنقل» (3/ 262): «وقد بلغني بإسنادٍ متصلٍ عن بعض رؤوسهم، وهو الخونجي صاحب «كشف الأسرار في المنطق»، وهو عند كثير منهم غاية في هذا الفن». فذكره.
(1/17)
يُغَثْ، قال (1): «ثم استغثتُ بربِّ الجهمية فلم يُغِثْني، ثم استغثتُ بربِّ القدَرية فلم يغثني، ثم استغثتُ بربِّ المعتزلة فلم يغثني. قال: فاستغثت بربِّ العامة فأغاثني». قال شيخنا (2): «وكيف يكون هؤلاء المحجوبون المنقوصون الحيارى (3) المتهوِّكون أعلمَ بالله وصفاته وأسمائه وآياته من السابقين الأوَّلِين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ورثةِ الأنبياء وخلفاءِ الرُّسل، ومصابيح الدُّجى وأعلام الهُدى، الذين بهم قام الكتابُ وبه قاموا، وبهم نطق الكتابُ وبه نطقوا، الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء، وأحاطوا من حقائق المعارف بما لو جُمعت حكمةُ مَن عداهم وعلومهم إليه لاستحى مَن يطلب المقابلة! ثم كيف يكون أفراخُ المتفلسفة وأتباع الهند واليونان وورثة المجوس والمشركين وضُلَّال الصابئين وأشباههم وأشكالهم أعلمَ بالله من ورثة الأنبياء وأهل القرآن والإيمان!». * * * * * _________ (1) لم أقف على قائله. (2) «شيخنا» ليس في «ح». والنقل من «الفتوى الحموية» (ص 196 - 200). (3) «ب»: «الجبارين».
(1/18)
فصل فهذه مقدِّمة بين يدَيْ جواب السؤال المذكور، وإنما يتبيَّنُ (1) حقيقةُ الجواب بفصول: الفصل الأول: في (2) معرفة حقيقة التأويل ومسمَّاه لغةً واصطلاحًا. الفصل (3) الثاني: في انقسام التأويل إلى صحيحٍ وباطلٍ. الفصل الثالث: في أنَّ التأويل إخبارٌ عن مراد المتكلم لا إنشاء. الفصل الرابع: في الفرق بين تأويل الخبر وتأويل الطلب. الفصل الخامس: في الفرق بين تأويل التحريف وتأويل التفسير، وأنَّ الأول يمتنع وقوعُه في الخبر والطلب، والثاني يقع فيهما. الفصل السادس: في تعجيز المتأوِّلين عن تحقيق الفرق بين ما يسوغ تأويلُه من آيات الصِّفات وأحاديثها وما لا يسوغ. الفصل السابع: في إلزامهم في المعنى الذي جعلوه تأويلًا نظيرَ ما فرُّوا منه. الفصل الثامن: في بيان خطئهم في فَهْمهم من النصوص المعاني الباطلة التي تأوَّلوها لأجلها، فجمعوا بين التشبيه والتعطيل. الفصل التاسع: في الوظائف الواجبة على المتأوِّل التي لا يقبل منه تأويله إلَّا بها. _________ (1) «ح»: «تبيين». (2) «الفصل الأول في». في «ح»: «أحدها». (3) من قوله: «الفصل الثاني». إلى آخر فهرس الفصول ليس في «ح».
(1/19)
الفصل العاشر: في أنَّ التأويل شرٌّ من التعطيل، فإنه يتضمن التشبيه والتعطيل، والتلاعب بالنصوص. الفصل الحادي عشر: في أن قصدَ المتكلم من المخاطب حمْلَ كلامه على خلاف ظاهره وحقيقته ينافي قصد البيان والإرشاد (1). الفصل الثاني عشر: في بيان أنه مع كمال عِلم المتكلم وفصاحته وبيانه ونُصحه يمتنع عليه أن يريد بكلامه خلافَ ظاهره وحقيقته، وعدم البيان في أهم الأمور وما تشتد الحاجة إلى بيانه. الفصل الثالث عشر: في بيان أن تيسير القرآن للذِّكر يُنافي حمْله على التأويل المخالف لحقيقته وظاهره. الفصل الرابع عشر: في أن التأويل يعود على المقصود من وضع اللغات بالإبطال. الفصل الخامس عشر: في جنايات التأويل على أديان الرُّسل، وأن خراب العالم وفساد الدنيا والدِّين بسبب فتح باب التأويل. الفصل السادس عشر: في بيان ما يقبل التأويلَ من الكلام وما لا يقبله. الفصل السابع عشر: في أنَّ التأويل يُفسِد العلوم كلها إنْ سُلِّط عليها، ويرفع الثقة بالكلام إن سُلِّط عليه (2)، ....................................... _________ (1) «ب»: «والاعتقاد». والمثبت من عنوان الفصل فيما سيأتي. (2) في «ب»: «عليها». والصواب ما أثبت، وقد يكون «إنْ سُلِّط عليها» تكرَّر خطأ في «ب»، فإنه لم يرد في عنوان الفصل فيما سيأتي.
(1/20)
ولا يمكن أُمةً من الأمم أن (1) تعيش عليه. الفصل الثامن عشر: في انقسام الناس في نصوص الوحي إلى أصحاب تأويل، وأصحاب تخييل، وأصحاب تمثيل، وأصحاب تجهيل، وأصحاب سواء السبيل. الفصل التاسع عشر: في الأسباب التي تُسهِّل على النفوس الجاهلة قَبولَ التأويل مع مخالفته للبيان (2) الذي علَّمه الله الإنسان وفطَرَه على قبوله. الفصل العشرون: في بيان أنَّ أهل التأويل لا يمكنهم إقامة الدليل السمعي على مبطلٍ أبدًا. الفصل الحادي والعشرون: في الأسباب الجالِبة للتأويل. الفصل الثاني والعشرون: في أنواع الاختلاف الناشئة عن التأويل، وانقسام الاختلاف إلى محمودٍ ومذمومٍ. الفصل الثالث والعشرون: في أسباب الخلاف الواقع بين الأئمة بعد اتفاقهم على أصلٍ واحدٍ وتحاكُمهم إليه، وهو كتاب الله وسُنَّة رسوله. الفصل الرابع والعشرون: في ذكر الطواغيت الأربع التي هدم بها أصحابُ التأويل الباطل معاقلَ الدِّين، وانتهكوا بها حرمة القرآن، ومحَوْا بها رُسومَ الإيمان، وهي: قولهم: إنَّ كلام الله وكلام رسوله أدلةٌ لفظية لا تفيد علمًا ولا يحصل _________ (1) «أن» أثبتُّه من عنوان الفصل فيما سيأتي. (2) «للبيان» سقط من «ب» في هذا الموضع، وأثبتناه من عنوان الفصل في موضعه.
(1/21)
منها يقين. وقولهم: إنَّ آيات الصِّفات وأحاديث الصِّفات مجازاتٌ لا حقيقة لها. وقولهم: إنَّ أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحيحة لا تفيد العلم، وغايتها أن تفيد الظن. وقولهم: إذا تعارَضَ العقلُ ونصوصُ الوحي أخذنا بالعقل ولم نلتفت إلى الوحي (1). والله المسؤول أن يُريَنا الحقَّ حقًّا ويوفِّقَنا لاتباعه، ويرينا الباطل باطلًا ويُعِيننا على اجتنابه، وألَّا يجعلنا ممَّن يتقدم بين يديه ويدي رسوله، ولا ممن يُقَدِّم آراء الرجال وما نحتته أفكارها على نصوص الوحي. وهو المسؤول أن يوفِّقَنا لما طلبناه، وأن يجعله خالصًا لوجهه، مُدْنِيًا مِن رضاه، إنه خير مسؤولٍ، وأكرم مأمولٍ، وبه المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلَّا بالله. * * * _________ (1) آخر السقط من «ح».
(1/22)
الفصل الأول في معرفة حقيقة التأويل ومسمَّاه لغةً واصطلاحًا
التأويل: تفعيل مِن آلَ يؤولُ إلى كذا: إذا صار إليه، فالتأويل: التصيير، وأَوَّلتُه تأويلًا: إذا صيرتَه إليه، فآلَ وتأوَّلَ، وهو مطاوِعُ أوَّلْتَه. وقال الجوهري (1): «التأويل: تفسيرُ ما يؤولُ إليه الشيءُ، وقد أوَّلتُه تأويلًا وتأوَّلْتُه بمعنًى؛ قال الأعشى (2): عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ تَأَوَّلُ حُبَّهَا ... تَأَوُّلَ رِبْعِيِّ السِّقَابِ فَأَصْحَبَا قال أبو عبيدة: يعني تفسير حبِّها ومرجعه، أي أنه كان صغيرًا في قلبه فلم يزل يَنبُتُ حتى صار قديمًا كهذا [ق 3 ب] السَّقب (3) الصغير، لم يزل يشبُّ حتى صار كبيرًا مثل أمه وصار له ابنٌ يصحبه». انتهى كلامه. ثم تُسمَّى العاقبة تأويلًا؛ لأنَّ الأمر يصير إليها، ومنه قوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللَّهِ وَاَلرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاَلْيَوْمِ اِلْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 58]. وتُسمَّى حقيقة الشيء المخبَر به تأويلًا؛ لأن الأمر ينتهي إليها، ومنه قوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ اُلَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَد جَّاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 52] فمجيءُ تأويله مجيءُ نفس ما أخبرت _________ (1) «تاج اللغة وصحاح العربية» (4/ 1627). (2) «ديوان الأعشى» (ص 113). (3) «ح»: «الشهب». وهو تصحيف، قال الجوهري في «الصحاح» (1/ 148): «السقب: الذكر من ولد الناقة، ولا يقال للأنثى سقبة، ولكن حائل».
(1/23)
به الرُسل من اليوم الآخر والمعاد وتفاصيله والجنة والنار. ويُسمَّى تعبيرُ الرؤيا تأويلًا بالاعتبارين؛ فإنه تفسيرٌ لها، وهو عاقبتها وما تؤول إليه، وقال يوسف لأبيه: {يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيَايَ مِن قَبْلُ} [يوسف: 100] أي: حقيقتها ومصيرها إلى هاهنا انتهت. وتُسمَّى العِلة الغائية والحكمة المطلوبة بالفعل تأويلًا؛ لأنها بيانٌ لمقصود الفاعل وغرضه من الفعل الذي لم يعرف الرائي له غرضَه به. ومنه قول الخضر لموسى ـ عليهما السلام ـ بعد أن ذكَر له الحكمة المقصودة بما فعله من تخريق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار بلا عوض: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 77]. فلمَّا أخبره بالعلة الغائية التي انتهى إليها فعله قال: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 81]. فالتأويل في كتاب الله سبحانه وتعالى المراد به: حقيقة المعنى الذي يؤول اللفظ إليه، وهي الحقيقة الموجودة في الخارج، فإن الكلام نوعان: خبرٌ وطلبٌ. فتأويل الخبر هو الحقيقة، وتأويل الوعد والوعيد هو نفس الموعود والمتوعد به، وتأويل ما أخبر الله به مِن صفاته وأفعاله نفس ما هو عليه سبحانه، وما هو موصوفٌ به من الصِّفات العُلى، وتأويل الأمر هو نفس الأفعال المأمور بها. قالت عائشة: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في ركوعه وسجوده: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ. يتأوَّلُ القرآنَ» (1). فهذا التأويل هو نفس فِعل المأمور به (2)، فهذا التأويل في كلام الله ورسوله. _________ (1) أخرجه البخاري (817) ومسلم (484). (2) «به» ليس في «ب».
(1/24)
وأمَّا التأويل في اصطلاح أهل التفسير والسلف من أهل الفقه والحديث فمرادهم به معنى التفسير والبيان. ومنه قول ابن جرير وغيره: «القول في تأويل قوله تعالى كذا وكذا»، يريد: تفسيره. ومنه قول الإمام أحمد في كتابه في «الرد على الجهمية» (1): «فيما تأولته مِن القرآن على غير تأويله». فأبطلَ تلك التأويلاتِ التي ذكروها، وهي تفسيرها المراد بها، وهو تأويلها عنده. فهذا التأويل يرجع إلى فَهْم المعنى (2) وتحصيله في الذهن، والأول يعود إلى وقوع حقيقته في الخارج. وأمَّا المعتزلة والجهمية وغيرهم من فرق المتكلمين فمرادهم بالتأويل: صرف اللفظ عن ظاهره وحقيقته إلى مجازه وما يخالف ظاهرَه (3). وهذا هو الشائع في عُرف المتأخرين من أهل الأصول والفقه، ولهذا يقولون: «التأويل على خلاف الأصل»، و «التأويل يحتاج إلى دليل». وهذا التأويل هو الذي صُنِّف في تسويغه وإبطاله من الجانبين، فصَنَّف جماعةٌ في تأويل آيات (4) الصِّفات وأخبارها، كأبي بكر بن فُورَك (5) وابن مهدي الطبري (6) وغيرهما، وعارَضهم آخرون فصنَّفوا في إبطال تلك _________ (1) «الرد على الجهمية» (ص 97). (2) «ح»: «المؤمن». (3) «وحقيقته إلى مجازه وما يخالف ظاهره» ليس في «ح». (4) «ب»: «إثبات». (5) كتابه «مشكل الحديث وبيانه» مطبوع معروف متداوَل. (6) هو أبو الحسن علي بن محمد بن مهدي الطبري تلميذ الشيخ أبي الحسن الأشعري، له كتاب «مشكل الأحاديث الواردة في الصفات» أو «تأويل الأحاديث المشكلات الواردات في الصفات»، كما في ترجمته في «تبيين كذب المفتري» لابن عساكر (ص 195 - 196) و «تاريخ الإسلام» للذهبي (8/ 492) و «طبقات الشافعية الكبرى» للسبكي (3/ 466). وله مخطوط اسمه «تأويل الآيات المشكلة الموضحة» محفوظ في مكتبة طلعت المودعة بدار الكتب المصرية، في مجموع رقم 491.
(1/25)
التأويلات (1)، كالقاضي أبي يعلى (2) والشيخ موفَّق الدِّين ابن قُدامة (3). وهو الذي حكى (4) غيرُ واحدٍ إجماعَ السلف على عدم القول به، كما سيأتي حكاية ألفاظهم، إن شاء الله تعالى. * * * * * _________ (1) «ح»: «ذلك التأويل». (2) كتابه «إبطال التأويلات لأخبار الصفات» مطبوع معروف متداوَل. (3) رسالته «ذم التأويل» مطبوعة معروفة متداوَلة. (4) «ب»: «حكي عن».
(1/26)
فصل وعلى هذا ينبني (1) الكلام في (2)
الفصل الثاني وهو: انقسام التأويل إلى صحيح وباطل
فالتأويل الصحيح هو القسمان الأولان، وهما حقيقة المعنى وما يؤول إليه في الخارج، أو تفسيره وبيان معناه، وهذا التأويل يعمُّ المحكم والمتشابه والأمر والخبر. قال جابر بن عبد الله في حديث حجة الوداع: «ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بين أَظهُرنا ينزل عليه القرآنُ، وهو يعلم تأويلَه، فما عَمِل به من شيءٍ عملنا به» (3). فعِلْمُه صلوات الله وسلامه عليه بتأويله هو عِلمه بتفسيره وما يدل عليه، وعَملُه (4) به هو تأويلُ ما أُمِر به ونُهِيَ عنه. ودخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة في عمرة القضاء، وعبد الله بن رواحة آخِذٌ بخِطام ناقته وهو يقول (5): _________ (1) «ح»: «يبنى». (2) «في» ليس في «ب». (3) أخرجه مسلم (1218) في حديث حجة الوداع الطويل. (4) «ب»: «وعلمه». وهو تصحيف. (5) الحديث أخرجه الطبري في «تاريخه» (3/ 24) والطبراني في «المعجم الكبير» (14999) وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (4114) والبيهقي في «دلائل النبوة» (4/ 323) عن محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر مرسلًا. وأخرجه الفاكهي في «أخبار مكة» (627) عن أم عمارة الأنصارية - رضي الله عنها - به. وأخرجه الترمذي (2847) والنسائي (2873) وابن خزيمة (2680) وابن حبان (4521) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - دون قوله: «نحن قتلناكم على تأويله» ـ وهو موضع الشاهد هنا ـ وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح غريب».
(1/27)
خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ ... خَلُّوا فكُلُّ الْخَيْرِ فِي رَسُولِهِ يَا رَبِّ إِنِّي مُؤْمِنٌ بِقِيلِهِ (1) ... أَعْرِفُ حَقَّ اللهِ فِي قَبُولِهِ نَحْنُ قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهِ ... كَمَا قَتَلْنَاكُمْ (2) عَلَى تَنْزِيلِهِ ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ ... وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِه قال ابن هشام (3): «نحن قتلناكم على تأويله ... إلى آخر الأبيات لعمار بن ياسر في غير هذا اليوم. والدليل على ذلك أن ابن رواحة إنما أراد المشركين، والمشركون لم يُقِرُّوا بالتنزيل، وإنما يُقاتل على التأويل مَن أقرَّ بالتنزيل». وهذا لا يلزم إن صحَّ الشِّعر عن ابن رواحة؛ لأن المراد بقتالهم على التأويل هو تأويل قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرَامَ إِن شَاءَ اَللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27]. وكان دخولُهم المسجد الحرام عامَ القضية آمنين هو تأويلَ هذه الرؤيا التي أراها (4) [ق 4 أ] رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وأنزلها الله في كتابه. ويدل عليه أن الشِّعر إنما يناسب خطاب الكفار. _________ (1) «يا رب إني مؤمن بقيله». في «ح»: «رسالة من هو من مثله». (2) «ب»: «قلناكم». وهو تصحيف. (3) «تهذيب السيرة» (2/ 371). (4) «ب»: «رآها».
(1/28)
يبقى أن يقال: فلم يكن هناك قتالٌ حتى يقول: نحن (1) قتلناكم؟ فيقال: هذا تخويف (2) وتهديد، أي: إن قاتلتمونا قاتلناكم، وقتلناكم على التأويل والتنزيل. وعلى التقديرين فليس المرادُ بالتأويل صرْفَ اللفظ عن حقيقته إلى مجازه. ومن هذا قول الزُّهري: «وقعت الفتنة وأصحاب محمدٍ متوافِرون، فأجمعوا أن كل مالٍ أو دمٍ أُصيب بتأويل القرآن فهو هدَرٌ، أَنزلوهم منزلة أهل الجاهلية» (3). أي: إن القبيلتين في الفتنة إنما اقتتلوا على تأويل القرآن ـ وهو تفسيره ـ وما ظهر لكل طائفةٍ منه حتى دعاهم إلى القتال. فأهلُ الجمل وصِفين إنما اقتتلوا على تأويل القرآن (4)، وهؤلاء يحتجون به وهؤلاء يحتجون به (5). نعم، التأويل الباطل تأويل أهل الشام قوله - صلى الله عليه وسلم - لعمار: «تَقْتُلُكَ الفِئَةُ البَاغِيَةُ» (6). فقالوا: نحن لم نقتله، إنما قتله مَن جاء به حتى أوقعه بين _________ (1) «نحن» ليس في «ح». (2) في «ح»: «تحريف». وهو تصحيف. (3) أخرجه الخلال في «السنة» (127). (4) من قوله: «وهو تفسيره» إلى هنا ليس في «ب». (5) «وهؤلاء يحتجون به» ليس في «ح». (6) أخرجه مسلم (2915، 2916) عن أبي سعيد الخدري عن أبي قتادة الأنصاري وأم سلمة - رضي الله عنهم -. ووقعت هذه اللفظة في بعض روايات «صحيح البخاري» (447) عن أبي سعيد الخدري، وينظر «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (35/ 74) و «فتح الباري» لابن حجر (1/ 542). وقال ابن حجر في «فتح الباري» (1/ 543): «روى حديث: «تقتلُ عمارًا الفئةُ الباغيةُ» جماعة من الصحابة، منهم: قتادة بن النعمان كما تقدم، وأم سلمة عند مسلم، وأبو هريرة عند الترمذي، وعبد الله بن عمرو بن العاص عند النسائي، وعثمان بن عفان وحذيفة وأبو أيوب وأبو رافع وخزيمة بن ثابت ومعاوية وعمرو بن العاص وأبو اليسر وعمار ـ نفسه ـ وكلها عند الطبراني وغيره، وغالب طرقها صحيحة أو حسنة، وفيه عن جماعة آخرين يطول عدُّهم». وقال النووي في «شرح صحيح مسلم» (18/ 40): «قال العلماء: هذا الحديث حُجةٌ ظاهرةٌ في أن عليًّا - رضي الله عنه - كان محقًّا مصيبًا، والطائفة الأخرى بغاة، لكنهم مجتهدون فلا إثم عليهم لذلك».
(1/29)
رماحنا. فهذا هو التأويل الباطل المخالِف لحقيقة اللفظ وظاهره؛ فإن الذي قتله هو الذي باشَرَ قتْلَه، لا مَن استنصر به. ولهذا ردَّ عليهم مَن هو أولى بالحق والحقيقة منهم؛ فقالوا: فيكون رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه هم الذين قتلوا حمزة والشهداء معه؛ لأنهم أتوا بهم حتى أوقعوهم تحت سيوف المشركين. ومن هذا قول عروة بن الزبير لمَّا روى حديث عائشة: «فُرضت الصلاةُ ركعتين ركعتين، فزِيدَ في صلاة الحضر، وأُقرَّت صلاةُ السفر. فقيل له: فما بال عائشة أتمَّت في السفر (1)؟ قال: تأوَّلت كما تأول عثمان» (2). وليس مراده أن عائشة وعثمان تأوَّلا آية القصر على خلاف ظاهرها، وإنما مراده أنهما تأولا دليلًا قام عندهما اقتضى جوازَ الإتمام فعملا به، وكان عملُهما به هو تأويلَه، فإن العمل بدليل الأمر هو تأويله، كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتأول قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاَسْتَغْفِرْهُ} [النصر: 3] بامتثاله بقوله: _________ (1) «فقيل له فما بال عائشة أتمت في السفر» ليس في «ب». (2) أخرجه البخاري (1090) ومسلم (685).
(1/30)
«سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» (1). وكأن عائشة وعثمان تأوَّلا قوله: {فَإِذَا اَطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا اُلصَّلَاةَ} [النساء: 102] وإنَّ إتمامها من إقامتها. وقيل: تأوَّلت عائشة أنها أُم المؤمنين، وأن أُمهم حيث كانت فكأنها مقيمة بينهم، وأن عثمان كان إمامَ المسلمين، فحيث كان فهو منزله. أو أنه كان قد عزم على الاستيطان بمنى، أو أنه كان قد تأهَّل بها، ومَن تأهَّل (2) ببلدٍ لم يثبت له حُكم المسافر. أو أن الأعراب كانوا قد كثروا في ذلك الموسم، فأحبَّ أن يعلمهم فرض الصلاة وأنه أربعٌ. أو غير ذلك من التأويلات التي ظنَّاها أدلةً مقيِّدة لمطلق القصر أو مخصصة لعمومه، وإن كانت كلها ضعيفة. والصواب هَدْيُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه كان إمامَ المسلمين، وعائشة أُم المؤمنين في حياته وبعد وفاته، وقد قَصَرَت معه، ولم يكن عثمان لِيقيمَ بمكة وقد بلغه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما رَخَّصَ بها للمهاجر (3) بعد قضاء نُسكه ثلاثًا» (4). والمسافر إذا تزوج في طريقه لم يثبت له حُكمُ الإقامة بمجرد التزوج ما لم يُزمِعِ (5) الإقامة وقَطْع السفر. وبالجملة فالتأويل الذي يُوافق ما دلَّت عليه النصوص، وجاءت به السُّنَّة _________ (1) متفق عليه، وقد تقدم. (2) من قوله: «أو أنه كان قد عزم» إلى هنا سقط من «ح». (3) «ب»: «للمهاجرين». (4) أخرجه البخاري (3933) ومسلم (1352) عن العلاء بن الحضرمي - رضي الله عنه -. (5) «ب»: «ترفع». وهو تصحيف.
(1/31)
ويطابقها، هو التأويل الصحيح. والتأويل الذي يُخالف ما دلَّت عليه النصوصُ وجاءت به السُّنَّة هو التأويل الفاسد، ولا فرقَ بين باب الخبر والأمر في ذلك. وكل تأويلٍ وافق ما جاء به الرسول فهو المقبول، وما خالفه فهو المردود. فالتأويل الباطل أنواعٌ: أحدها: ما لم يحتمله اللفظُ بوضعه، كتأويل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ عَلَيْهَا رِجْلَهُ» (1) بأنَّ الرِّجْلَ جماعةٌ من الناس، فإن هذا لا يُعرف في شيءٍ من لغة العرب البتةَ. الثاني: ما لم يحتمله اللفظُ ببِنْيته الخاصة من تثنية أو جمعٍ، وإن احتملَه مفردًا، كتأويل قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 74] بالقدرة. الثالث: ما لم يحتمله سياقُه (2) وتركيبه، وإن احتمله في غير ذلك السياق، كتأويل قوله: {* هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ اُلْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 159] بأن إتيان الرب إتيانُ بعض آياته التي هي أمرُه. وهذا يأباه السياق كلَّ الإباء؛ فإنه يمتنع حملُه على ذلك مع التقسيم والترديد والتنويع. وكتأويل قوله: «إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ صَحْوًا لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ، وَكَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ فِي الظَّهِيرَةِ صَحْوًا لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ» (3). _________ (1) أخرجه البخاري (4850) ومسلم (2846) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (2) «ب»: «بسياقه». (3) أخرجه البخاري (7439) ومسلم (183) عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - بنحوه. وأحاديث الرؤية متواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، رواها عنه جماعة كبيرة من الصحابة - رضي الله عنهم -، وقد جمعها المصنف في آخر كتابه «حادي الأرواح» (2/ 625 - 685).
(1/32)
فتأويل الرُّؤية في هذا السياق بما يخالف حقيقتَها وظاهرها في غاية الامتناع، وهو ردٌّ وتكذيبٌ تَستَّرَ صاحبُه بالتأويل. الرابع: ما لم يُؤلَف استعمالُه في ذلك المعنى في لغة المخاطب، وإنْ أُلِفَ في الاصطلاح الحادث. وهذا موضع زلَّت فيه (1) أقدامُ كثيرٍ من الناس، وضلَّت فيه أفهامهم؛ حيث تأولوا كثيرًا من ألفاظ النصوص بما لم يُؤلَفِ استعمالُ اللفظ له في لغة العرب البتةَ، وإن كان معهودًا في اصطلاح المتأخرين. وهذا ممَّا ينبغي التنبُّه له؛ فإنه حصل بسببه من الكذب على الله ورسوله ما حصل. كما تأوَّلت طائفةٌ قوله تعالى: {فَلَمَّا أَفَلَ} [الأنعام: 77، 78] بالحركة، وقالوا: استدلَّ بحركته على بطلان ربوبيته. ولا يُعرف في اللغة التي نزل بها القرآنُ أن الأفول هو الحركةُ البتةَ في موضعٍ واحدٍ. وكذلك تأويل «الأحد» بأنه الذي لا يتميز منه شيءٌ عن شيءٍ البتةَ. ثم قالوا: لو كان فوق العرش [ق 4 ب] لم يكن أحدًا. فإن تأويل الأحد بهذا المعنى لا يعرفه أحدٌ من العرب ولا أهل اللغة، ولا يُعرَف استعمالُه في لغة القوم في هذا المعنى في موضعٍ واحدٍ أصلًا، وإنما هو اصطلاح الجهمية والفلاسفة والمعتزلة ومَن وافقهم. وكتأويل قوله: {ثُمَّ اَسْتَوَى عَلَى اَلْعَرْشِ} [الأعراف: 53] بأن المعنى أقبل _________ (1) زاد بعده في «ب»: «أكثر».
(1/33)
على خلق العرش، فإن هذا لا يُعرف في لغة العرب، بل ولا غيرها من الأُمم أن مَنْ أقبل على الشيء يقال: قد استوى عليه، ولا يقال لمن أقبل على الرجل: قد استوى عليه، ولا لمن أقبل على عمل من الأعمال من قراءة أو كتابة أو صناعة: قد استوى عليها، ولا لمن أقبل على الأكل قد استوى على الطعام. فهذه لغة القوم وأشعارهم وألفاظهم موجودة ليس في شيءٍ (1) منها ذلك البتة. وهذا التأويل يَبطُل من وجوهٍ كثيرةٍ سنذكرها في موضعها (2)، لو لم يكن منها إلَّا تكذيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصاحب هذا التأويل لكفاه، فإنه قد ثبت في الصحيح (3): «إِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ». فكان العرش موجودًا قبل خلْقِ السماوات والأرض بأكثر من خمسين ألف سنة، فكيف يقال إنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم أقبل على خلق العرش. والتأويل إذا تضمَّن تكذيب صاحبه (4) فحسبُه ذلك بطلانًا، وأكثر تأويلات القوم من هذا الطراز، وسيمر بك منها ما هو قُرة عين لكل موحدٍ، وسخنة عين لكل ملحدٍ. _________ (1) «ب»: «بشيء». (2) للأسف هو في الجزء المفقود من الكتاب، وهو في «مختصر الصواعق» (3/ 888 - 946). (3) صحيح مسلم (2653) عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -. (4) «ب»: «الرسول».
(1/34)
الخامس: ما أُلِفَ استعماله في ذلك المعنى لكن في غير التركيب الذي ورد به النصُّ، فيحمله المتأوِّل في هذا التركيب الذي لا يحتمله على مجيئه في تركيبٍ آخر يحتمله، وهذا مِن أقبحِ الغلط والتلبيس (1)، كتأويل اليدين في قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 74] بالنعمة. ولا ريب أن العرب تقول: لفلان عندي يدٌ، وقال عروة بن مسعود للصدِّيق: «لولا يدٌ لك عندي لم أَجْزِكَ بها لَأجبتُك» (2)؛ ولكن وقوع اليد في هذا التركيب الذي أضاف سبحانه فيه الفعلَ إلى نفسه، ثم تعدَّى الفعلُ إلى اليد بالباء التي هي نظير: كتبتُ بالقلم، وثنَّى (3) اليد، وجعل ذلك خاصةً خَصَّ بها صفِيَّه آدمَ دون البشر، كما خَصَّ المسيح بأنه نفَخَ فيه مِن رُوحه، وخَصَّ موسى بأنه كلَّمه بلا واسطة، فهذا ممَّا يحيل تأويل اليد في النصِّ بالنعمة، وإن كانت في تركيبٍ آخر تصلح لذلك، فلا يلزم من صلاحية اللفظ لمعنًى ما في تركيبٍ صلاحيته له في كل تركيبٍ. وكذلك قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (21) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 21 - 22] يستحيل فيها تأويلُ النظر بانتظار الثواب؛ فإنه أضاف النظرَ إلى الوجوه التي هي محلُّه، وعدَّاه بحرف «إلى» التي إذا اتصل بها فِعل النظر كان مِن نَظرِ العين ليس إلَّا، ووصَفَ الوجوهَ بالنضرة التي لا تحصل إلَّا مع حضور ما يُتنعَّم به لا مع التنغيص بانتظاره، ويستحيل مع هذا التركيب تأويلُ النظر بغير الرؤية، وإن _________ (1) «ب»: «والبلية». (2) أخرجه البخاري (2731) عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم في حديث صلح الحديبية الطويل. (3) «ح»: «وهي».
(1/35)
كان النظرُ بمعنى الانتظار قد استُعْمِل في قوله: {اُنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} [الحديد: 13] وقوله تعالى: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ اُلْمُرْسَلُونَ} [النمل: 36]. ومثلُ هذا قولُ الجهمي المُلبِّس: «إذا قال لك المشبِّه: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4] فقل له: العرش له عدَّة (1) معانٍ، والاستواء له خمسةُ معانٍ، فأي ذلك المراد؟ فإن المشبِّه يتحير ولا يدري ما يقول، ويكفيك مؤونته». فيقال لهذا الجاهل الظالم الفاتن المفتون: ويلَك! ما ذنب الموحِّد الذي سمَّيتَه أنت وأصحابك مُشبِّهًا، وقد قال لك نفس ما قال الله، فوالله لو كان مُشبِّهًا ـ كما تزعم ـ لكان أولى بالله ورسوله منك؛ لأنه لم يتعدَّ النص. وأمَّا قولك: «للعرش سبعة معانٍ أو نحوها، وللاستواء خمسة معانٍ». فتلبيسٌ منك، وتمويهٌ على الجُهال، وكذبٌ ظاهرٌ؛ فإنه ليس لعرش الرحمن الذي استوى عليه إلَّا معنًى واحد، وإن كان للعرش من حيث الجملة عدة معانٍ، فاللام للعهد، وقد صار بها العرشُ مُعَيَّنًا، وهو عرش الربِّ جل جلاله الذي هو سَرِير مُلكه، الذي اتفقت عليه الرُّسل (2)، وأقرَّت به الأُمم إلَّا مَن نابَذَ الرُّسلَ. وقولك: «الاستواء له عدَّة معانٍ». تلبيسٌ آخر؛ فإن الاستواء المُعدَّى بأداة «على» ليس له إلَّا معنًى واحد. وأمَّا الاستواء المطلق فله عدة معانٍ، _________ (1) «ح»: «عنده» والمثبت من «ب»، «م»، وكتب فوقه في «ب»: «سبعة». وعليه «ظ» أي أنه استظهار من الناسخ. (2) من قوله: «جل جلاله» إلى هنا سقط من «ح».
(1/36)
فإن العرب تقول: استوى كذا: إذا انتهى وكملَ. ومنه قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاَسْتَوَى} [القصص: 13]. وتقول: استوى وكذا: إذا ساواه، نحو قولهم: استوى الماءُ والخشبةُ، واستوى الليلُ والنهارُ. وتقول: استوى إلى كذا: إذا قصدَ إليه عُلوًّا وارتفاعًا، نحو: استوى إلى السطح والجبل. واستوى على كذا أي: إذا ارتفع عليه وعلا عليه. لا تعرف العربُ غيرَ هذا. فالاستواء في هذا التركيب نَصٌّ لا يحتمل غيرَ معناه، كما هو نصٌّ في قوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاَسْتَوَى} [القصص: 13] لا يحتمل غيرَ معناه، ونصٌّ في قولهم: «استوى الليلُ والنهارُ» في معناه لا يحتمل غيره. فدعوا التلبيس (1) فإنه لا يُجدِي عليكم إلَّا مقتًا عند الله وعند الذين آمنوا. السادس: اللفظ الذي اطَّرد استعمالُه في معنًى هو ظاهرٌ فيه، ولم يُعهَد استعمالُه في المعنى المؤوَّل، أو عُهِدَ استعمالُه فيه نادرًا، فتأويلُه حيث وردَ، وحملُه على خلاف المعهود من استعماله باطلٌ، فإنه يكون تلبيسًا وتدليسًا يُناقض البيانَ والهداية. بل إذا أرادوا استعمال مثل هذا في غير معناه المعهود حفُّوا به من القرائن ما يُبيِّن للسامع مرادَهم به؛ لئلَّا يسبق فهمه إلى معناه المألوف. ومن تأمَّل [ق 5 أ] لغةَ القوم وكمالَ هذه اللغة وحكمةُ واضعها تبيَّن له صحة ذلك. وأمَّا أنهم يأتون إلى لفظٍ له معنًى قد أُلف استعمالُه فيه، فيُخرِجونه عن معناه، ويطردون استعماله في غيره، مع تأكيده بقرائن تدل على أنهم أرادوا معناه الأصلي؛ فهذا من أمحلِ المحالِ. مثاله قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اَللَّهُ مُوسى _________ (1) «ب»: «التلبس».
(1/37)
يا تَكْلِيمًا} [النساء: 163]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ وَلَا حَاجِبٌ يَحْجُبُهُ» (1)، وقوله: «إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا» (2). وهذا شأن أكثر نصوص الصِّفات إذا تأمَّلها مَن شرح الله صدره لقَبولها، وفرح بما أُنزِلَ على الرسول منها، يراها قد حُفَّت (3) من القرائن والمؤكِّدات بما (4) ينفي عنها تأويلَ المتأوِّل. السابع: كل تأويلٍ يعود على أصل النصِّ بالإبطال فهو باطلٌ، كتأويل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَنْكَحَتْ (5) نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ» (6) بحمله على الأَمَةِ؛ فإن هذا التأويل ـ مع شدة مخالفته لظاهر اللفظ ـ يرجع على أصل النصِّ بالإبطال، وهو قوله: «فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا»، ومهرُ الأَمة إنما هو للسيد، فقالوا: نحمله على المكاتَبة. وهذا _________ (1) أخرجه البخاري (7443) ومسلم (1016) عن عدي بن حاتم - رضي الله عنه -، وهذا لفظ البخاري. (2) متفق عليه، وقد تقدم تخريجه. (3) بعده في «ب»: «به». (4) «ب»: «ما». (5) «ب»: «نكحت». (6) أخرجه أحمد (25104) وأبو داود (2083) والترمذي (1102) وابن ماجه (1879) وابن حبان (4074) والحاكم (2/ 182) عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -، وحسَّنَه الترمذي، وصححه الحاكم وابن حبان وابن عبد الهادي في «التنقيح» (4/ 286) وابن الملقن في «البدر المنير» (7/ 533) ونقل ابن حجر في «البلوغ» (379) عن أبي عوانة تصحيحه. وينظر «نصب الراية» للزيلعي (3/ 184) و «موافقة الخُبر الخَبر» لابن حجر (2/ 205).
(1/38)
يرجع على أصل النص بالإبطال من وجهٍ آخر، فإنه أتى فيه بـ «أي» الشرطية التي هي من أدوات العموم، وأكَّدها بـ «ما» المقتضية تأكيدَ العموم (1)، وأتى بالنكرة في سياق الشرط، وهي تقتضي العموم، وعلَّق بطلان النكاح بالوصف المناسب له المقتضي لوجود الحكم بوجوده، وهو نكاحها نفسها، ونبَّهَ على العلة المقتضية للبطلان، وهي افتياتها على وليها، وأكد الحُكم بالبطلان مرةً بعد مرةٍ ثلاثَ مرات، فحملُه على صورة لا تقع في العالَم إلَّا نادرًا يرجع على مقصود النص بالإبطال (2). وأنت إذا تأملتَ عامة تأويلات الجهمية رأيتَها من هذا الجنس بل أشنع. الثامن: تأويل اللفظ الذي له معنًى ظاهر لا يُفهَم منه عند إطلاقه سواه بالمعنى الخفي الذي لا يطَّلع عليه إلَّا أفراد من أهل النظر والكلام، كتأويل لفظ الأحد الذي تفهمه الخاصةُ والعامة بالذات المجردة عن الصِّفات التي لا يكون فيها معنيان (3) بوجهٍ ما، فإن هذا لو أمكن ثبوتُه في الخارج لم يُعرَف إلَّا بعد مقدمات طويلة صعبة (4) جدًّا، فكيف وهو محال في الخارج، وإنَّما يفرضه الذهن فرضًا، ثم يستدل على وجوده الخارجي! فيستحيل وضعُ اللفظ المشهور عند كل أحدٍ لهذا المعنى الذي هو في غاية الخفاء، وستمرُّ بك نظائرُه إن شاء الله تعالى. التاسع: التأويل الذي يُوجِب تعطيل المعنى الذي هو في غاية العلوِّ _________ (1) «وأكدها بما المقتضية تأكيد العموم». سقط من «ح». (2) «ب»: «بالبطلان». (3) في النسختين: «معنيين». والمثبت من «م». (4) «ب»: «ضعيفة».
(1/39)
والشرف، ويحطه إلى معنًى دونه بمراتبَ كثيرةٍ. وهو شبيه بعزلِ سلطانٍ عن مُلكه، وتوليته مرتبةً دون المُلك بكثيرٍ. مثالُه تأويل الجهمية قولَه: {وَهْوَ اَلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 19] وقولَه: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] ونظائره بأنها فوقية الشرف، كقولهم: الدرهم فوق الفَلْس، والدينار فوق الدرهم. فتأمَّلْ تعطيلَ المتأوِّلين حقيقةَ الفوقية المطلقة التي هي من خصائص الربوبية، وهي المستلزِمة لعظمة الربِّ جل جلاله، وحطَّها إلى كَوْن قَدْره فوق قَدْر بني آدم، وأنه أشرفُ منهم. وكذلك تأويلهم علوَّه بهذا المعنى، وأنه كعلوِّ الذهب على الفضة. وكذلك تأويلهم استواءَه على عرشه بقدرته عليه، وأنه غالب له. فيالله العجب هل ضلَّت العقول، وتاهت الأحلام (1)، وشكَّت العقلاءُ في كونه سبحانه غالبًا لعرشه قادرًا عليه، حتى يُخبِرَ به سبحانه في سبعة مواضعَ من كتابه مطردةٍ بلفظٍ واحدٍ، ليس فيها موضعٌ واحدٌ يُراد به المعنى الذي أبداه المتأوِّلون، وهذا التمدُّح والتعظيم كله لأجل أن يُعرِّفنا أنه قد غلب عرشَه وقدَرَ عليه، وكان ذلك بعد خلق السماوات والأرض! أفترى أنه (2) لم يكن سبحانه غالبًا للعرش قادرًا عليه في مدة تزيد على خمسين ألف سنةٍ، ثم تَجدَّدَ له ذلك بعد خَلْقِ هذا العالَم؟! العاشر: تأويلُ اللفظ بمعنًى لم يدل عليه دليلٌ من السياق ولا معه قرينة تقتضيه، فإن هذا لا يقصده المبيِّنُ الهادي بكلامه، إذ لو قصدَه لحفَّ بالكلام قرائنَ تدل على المعنى المخالِف لظاهره؛ حتى لا يُوقِعَ السامعَ في اللبس _________ (1) «ح»: «الأحكام». وهو تصحيف. (2) «أنه» من «ب».
(1/40)
والخطأ، فإن الله سبحانه أنزل كلامه بيانًا وهدًى، فإذا أراد به خلاف ظاهره، ولم يحفَّ به قرائنَ تدل على المعنى الذي يتبادر غيرُه إلى فَهْم كل أحدٍ لم يكن بيانًا ولا هدًى. فهذه بعض الوجوه التي يُفَرَّقُ بها بين التأويل الصحيح والباطل، وبالله المستعان. * * * * *
(1/41)
الفصل الثالث (1) في أنَّ التأويل إخبارٌ عن مراد المتكلم لا إنشاءٌ
فهذا (2) الموضع ممَّا يغلط فيه كثيرٌ من الناس غلطًا قبيحًا، فإن المقصود فَهْمُ مراد المتكلم بكلامه، فإذا قيل معنى اللفظ كذا وكذا، كان إخبارًا بالذي عَنَاه المتكلم، فإن لم يكن هذا الخبرُ مطابقًا كان كذبًا على المتكلم. ويُعْرَف مراد المتكلِّم بطرقٍ متعددةٍ: منها: أن يُصرِّح بإرادة ذلك المعنى. ومنها: أن يستعمل اللفظَ الذي له معنًى ظاهر بالوضع، ولا تبيَّن (3) بقرينة تصحب الكلامَ أنه لم يُردْ ذلك المعنى. فكيف إذا حفَّ بكلامه ما يدل على أنه إنما أراد حقيقتَه وما وُضِعَ له، كقوله: {وَكَلَّمَ اَللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 163]. و «إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ فِي (4) الظَّهِيرَةِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ» (5). و «اللهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ أَضَلَّ رَاحِلَتَهُ بِأَرْضٍ دَوِّيَّةٍ مَهْلَكَةٍ (6)، عَلَيْهَا طَعَامُهُ _________ (1) «ح»: «الثاني». (2) «ب»: «هذا». (3) كذا في النسختين. (4) «في» ليس في «ب». (5) متفق عليه، وقد تقدم تخريجه. (6) أمَّا دوية فاتفق العلماء على أنها بفتح الدال وتشديد الواو والياء جميعًا، والدوية: الأرض القفر والفلاة الخالية، وأمَّا المهلكة فهي بفتح الميم وبفتح اللام وكسرها، وهي موضع خوف الهلاك. «شرح صحيح مسلم» للنووي (17/ 61).
(1/42)
وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا، فَنَامَ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ فَإِذَا رَاحِلَتُه عِنْدَ رَأْسِهِ، فاللهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ» (1). فهذا ممَّا يقطع السامعُ فيه بمراد المتكلمِ، فإذا أخبر عن مراده [ق 5 ب] بما دلَّ عليه حقيقة لفظه الذي وُضِعَ له (2) مع القرائن المؤكِّدة له كان صادقًا في إخباره. وأمَّا إذا تأوَّل كلامَه بما لم (3) يدلَّ عليه لفظه، ولا اقترن به (4) ما يدلُّ عليه، فإخبارُه بأن هذا مراده كذبٌ عليه. فقول القائل: يُحمَلُ (5) اللفظُ على كذا وكذا. يقال له: ما تعني بالحمل؟ أتعني به أن اللفظ موضوع لهذا المعنى، فهذا نقلٌ مجردٌ موضعُه كتب اللغة، فلا أثرَ لحملك. أم تعني به اعتقادَ أن المتكلم أراد ذلك المعنى الذي حملتَه عليه، فهذا قولٌ عليه بلا علمٍ، وهو كذبٌ مفترًى إن لم تأتِ بدليلٍ يدل على أن المتكلم أراده. أم تعني به أنك أنشأت (6) له معنًى، فإذا سمعتَه اعتقدت أن ذلك معناه؛ وهذا حقيقة قولك وإن لم تُرِدْه. فالحملُ إمَّا إخبارٌ عن المتكلم بأنه أراد ذلك المعنى، فهذا الخبر إمَّا صادقٌ إن كان ذلك المعنى هو المفهوم من لفظ المتكلم، وإمَّا كاذبٌ إن كان _________ (1) أخرجه البخاري (6308) ومسلم (2744) عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. (2) «له» ليس في «ح». (3) «لم» ليس في «ب». (4) «ب»: «عليه». (5) «ح»: «ويحمل». (6) «ب»: «أن الشيء».
(1/43)
لفظُه لم يدلَّ عليه، وإمَّا إنشاءٌ لاستعمال ذلك اللفظ في هذا المعنى، وهذا إنما يكون في كلام تُنشِئه أنت، لا في كلام الغير. وحقيقة الأمر أن قول القائل: نحمله على كذا، أو نتأولُه بكذا. إنما هو من باب دفْعِ دلالة اللفظ على ما وُضِعَ له، فإن منازعَه لما احتجَّ عليه به، ولم يمكنه دفعُ ورودِه، دفَعَ معناه، وقال: أحملُه على خلاف ظاهره. فإن قيل: بل للحمل معنًى آخر لم تذكروه، وهو أن اللفظ لمَّا استحال أن يراد به حقيقتُه وظاهرُه ولا يمكن تعطيله، استدللنا بوروده وعدم إرادة ظاهره على أن مجازه هو المراد، فحملناه عليه دلالةً، لا ابتداءً وإنشاءً. قيل: فهذا المعنى هو الإخبار عن المتكلم أنه أراده، وهو إمَّا صدقٌ أو كذبٌ ـ كما تقدم ـ ومن الممتنع أن يريد خلاف حقيقته وظاهره، ولا يُبَيِّن للسامع المعنى الذي أراده، بل يقترن (1) بكلامه ما يُؤكد إرادة الحقيقة، ونحن لا نمنع أن المتكلم قد يريد بكلامه خلاف ظاهره إذا قصد التعميةَ على السامع حيث يسوغ ذلك، كما في المعاريض التي يجب أو يسوغ تعاطيها، ولكن المنكر غاية الإنكار أن يريد بكلامه خلافَ ظاهره وحقيقته إذا قصد البيانَ والإيضاح وإفهام مراده. فالخطاب نوعان: نوعٌ يُقصَد به التعميةُ على السامع، ونوعٌ يُقصَد به البيانُ والهداية والإرشاد. فإطلاقُ اللفظ وإرادةُ خلاف حقيقته وظاهره من غير قرائنَ تحتفُّ به تُبيِّنُ المعنى (2) المراد، محلُّه النوع الأول لا الثاني، والله أعلم. _________ (1) «ب»: «يعرب».ولعله تحريف «يقرن». (2) «المعنى» ليس في «ب».
(1/44)
الفصل الرابع (1) في الفرق بين تأويل الخبر وتأويل الطلب
لمَّا كان الكلام نوعان (2): خبرٌ وطلبٌ، وكان المقصود من الخبر تصديقه، ومن الطلب امتثاله، كان المقصود من تأويل الخبر هو تصديق مُخبِره، ومن تأويل الطلب هو امتثاله، وكان كل تأويلٍ يعود على المخبِر بالتعطيل وعلى الطلب بالمخالفة تأويلًا باطلًا. والمقصود الفرقُ بين تأويل الأمر والنهي وتأويل الخبر، فالأول معرفته فرضٌ على كل مكلَّفٍ؛ لأنه لا يمكنه الامتثالُ إلَّا بعد معرفة تأويله. قال سفيان بن عيينة: «السُّنَّة هي تأويل الأمر والنهي» (3). ولا خلاف بين الأُمة أنَّ الراسخين في العلم يعلمون هذا التأويل، وأرسخُهم في العلم أعلمُهم به. ولو كان معرفة هذا التأويل ممتنعًا على البشر لا يعلمه إلَّا اللهُ لكان العمل بنصوصه ممتنعًا، كيف والعمل بها واجبٌ، فلا بد أن يكون في الأُمة من يعرف تأويلَها، وإلا كانت الأُمة كلها مضيعةً لما أُمرت به. وقد يكون معنى النَّص بيِّنًا جليًّا، فلا تختلف الأُمة في تأويله، وإن وقع الخلاف في حُكمه لخفائه على من لم يبلغه، أو لقيام معارضٍ عنده، أو _________ (1) «ح»: «الثالث». (2) كذا في النسختين بالألف، وهو خبر كان. (3) لم نقف عليه مسندًا إلى ابن عيينة بهذا اللفظ، وقد نسبه له شيخ الإِسلام ابن تيمية في «درء تعارض العقل والنقل» (1/ 206) و «التدمرية» (ص 94).
(1/45)
لنسيانه = فهذا يُعذَر فيه المخالف إذا كان قصدُه اتباعَ الحق، ويثيبه اللهُ على قصده. وأمَّا من بلغه النَّصُّ وذكره، ولم يقم عنده ما يعارضه، فإنه لا يسعه مخالفتُه، ولا يُعذَر عند الله بتركه لقول أحدٍ كائنًا من كان. وقد تكون دلالة اللفظ غير جليةٍ، فيشتبه المرادُ به بغيره، فهنا مُعترَك النزاع بين أهل الاجتهاد في تأويله، ولأجل التشابه وقع النزاع، فيَفهم منها هذا (1) معنًى فيؤولها به، ويَفهم منها غيره معنًى آخر فيؤولها به. وقد يكون كلا الفهمين صحيحًا، والآية دلت على هذا وهذا، ويكون الراسخ في العلم هو الذي أوَّلَها بهذا وهذا، ومَن أثبت أحد المعنيين ونفى الآخر أقلُّ رسوخًا. وقد يكون أحدُ المعنيين هو المراد لا سيما إذا كانا متضادين، والراسخ في العلم هو الذي أصابه. فالتأويل في هذا القسم مأمورٌ به، مأجورٌ عليه صاحبُه، إمَّا أجرًا واحدًا وإمَّا أجرينِ (2). وقد تنازع الصحابة في تأويل قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَا اَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ اُلنِّكَاحِ} [البقرة: 235] هل هو الأب أو الزوج (3). وتنازعوا في تأويل قوله: {أَوْ لَامَسْتُمُ اُلنِّسَاءَ} [النساء: 43] هل هو الجماع، أو اللمس باليد والقُبلة ونحوها (4). وتنازعوا في تأويل قوله: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43] هل _________ (1) «ب»: «هذا منها». (2) «ب»: «أجران». (3) يُنظر: «تفسير الطبري» (4/ 317 - 332) و «الدر المنثور» للسيوطي (3/ 30 - 31). (4) يُنظر: «تفسير الطبري» (7/ 62 - 75) و «الدر المنثور» (4/ 457 - 460).
(1/46)
هو المسافر يصلي بالتيمم مع الجنابة، أو المجتاز بمواضع الصلاة كالمساجد وهو جنب (1). وتنازعوا في تأويل ذوي القربى المستحقين من الخُمس، هل هم قَرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو قرابة الإمام (2). وتنازعوا [ق 6 أ] في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِيئَ اَلْقُرْآنُ فَاَسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف: 204] هل يدخل فيه قراءة الصلاة الواجبة أم لا (3)؟ وتنازعوا في تأويل قوله: {وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 232] هل يتناول اللفظُ الحاملَ أم هو للحائل (4) فقط (5)؟ وتنازعوا في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اُلْمَيْتَةُ} [المائدة: 4] هل يدخل فيه ما مات في البحر أم لا (6)؟ _________ (1) يُنظر: «تفسير الطبري» (7/ 49 - 54) و «الدر المنثور» (4/ 453 - 455). (2) يُنظر: «تفسير الطبري» (11/ 193 - 196) و «تفسير ابن أبي حاتم» (5/ 1704 - 1705). (3) يُنظر: «تفسير الطبري» (10/ 658 - 667) و «تفسير ابن أبي حاتم» (5/ 1645 - 1647). (4) «ب»: «للحامل». (5) يُنظر: «أحكام القرآن» للجصاص (2/ 119 - 120) و «الاستذكار» لابن عبد البر (18/ 175) و «زاد المعاد» للمصنف (5/ 528 - 529). (6) يُنظر: «أحكام القرآن» للجصاص (1/ 132 - 135) و «التجريد» للقدوري (12/ 62 - 63) و «التمهيد» لابن عبد البر (23/ 12).
(1/47)
وتنازعوا في تأويل الكلالة (1). وفي تأويل قوله تعالى: {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ اِلسُّدُسُ} (2) [النساء: 11]. وأمثال ذلك. ولم يتنازعوا في تأويل آيات الصِّفات وأخبارها في موضعٍ واحدٍ، بل اتفقتْ كلمتُهم وكلمة التابعين بعدهم على إقرارها وإمرارها، مع فهم معانيها وإثبات حقائقها. وهذا يدل على أنها أعظم النوعين بيانًا، وأن العناية ببيانها أهمُّ؛ لأنها من تمام تحقيق الشهادتين، وإثباتها من لوازم التوحيد، فبيَّنها الله ورسوله بيانًا شافيًا (3) لا يقع فيه لبسٌ ولا إشكالٌ يوقع الراسخين في العلم في منازعةٍ ولا اشتباهٍ. ومَن شرَح الله لها صدره ونوَّر لها قلبه يعلم أن دلالتها على معانيها أظهرُ من دلالة كثير من آيات الأحكام على معانيها. ولهذا آيات الأحكام لا يكاد يفهم معانيَها إلَّا الخاصةُ من الناس، وأمَّا آيات الأسماء والصفات فيشترك _________ (1) الكلالة: من قولك: تكلَّله النسب. وهو مَن مات ولم يكن له والد ولا ولدٌ، ورُوي عن ابن عباس أن الكلالة ما دون الولد، وروي عن غيره أن الكلالة ما خلا الأب. ويُنظر: «تفسير الطبري» (6/ 475 - 480) و «تفسير ابن أبي حاتم» (3/ 887) و «الدر المنثور» (5/ 143 - 152). (2) اختُلف في عدد الإخوة الذين يحجبون الأم من الثلث إلى السدس، فقيل اثنان، ورُوي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن أقلهم ثلاثة. ينظر: «تفسير الطبري» (6/ 464 - 467) و «السنن الكبرى» للبيهقي (7/ 227). وأفرد الحافظ ابن عبد الهادي لهذه المسألة جزءًا، ذكره ابن رجب في «ذيل الطبقات» (5/ 129). (3) «شافيا» ليس في «ب».
(1/48)
في فهمها الخاص والعام، أعني: فَهْم أصل المعنى لا فهم الكُنْه والكيفية. ولهذا أشكل على بعض الصحابة قوله: {يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اُلْخَيْطُ اُلْأَبْيَضُ مِنَ اَلْخَيْطِ اِلْأَسْوَدِ} حتى بُيِّنَ لهم بقوله: {مِنَ اَلْفَجْرِ} [البقرة: 186] ولم يشكل عليه ولا على غيره قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 185] وأمثالها من آيات الصِّفات، وأشكل على عمر بن الخطاب آية الكلالة، ولم يشكل عليه أول الحديد وآخر الحشر وأول سورة طه، ونحوها من آيات الصِّفات (1). وأيضًا فإن بعض آيات الأحكام مجملة عُرِفَ بيانها بالسُّنَّة؛ كقوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 195] فهذا مجملٌ في قدْر الصيام والإطعام، فبيَّنته السُّنَّة بأنه صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، أو ذبح شاة (2). وكذلك قوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ اِلْعَتِيقِ} [الحج: 27] مجملٌ في مقدار الطواف، فبيَّنته السُّنَّة بأنه سبعٌ (3). ونظائره كثيرة، كآية السرقة وآية الزكاة وآية الحج. وليس في آيات الصِّفات وأحاديثها مجملٌ يحتاج إلى بيانٍ مِن خارج، بل بيانها فيها، وإن جاءت السُّنَّة بزيادة في البيان والتفصيل فلم تكن آيات الصِّفات مجملةً محتملةً لا يُعلَم (4) المرادُ منها إلَّا بالسُّنَّة، _________ (1) من قوله: «وأشكل على عمر» إلى هنا ليس في «ح». (2) «بأنه صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين أو ذبح شاة». في «ب»: «بنسك شاة أو إطعام ستة مساكين أو صيام ثلاثة أيام». والحديث أخرجه البخاري (1814) ومسلم (1201) عن كعب بن عجرة - رضي الله عنه -. (3) من قوله: «وكذلك قوله» إلى هنا ليس في «ح». (4) في «ب»: «مجملة لا يفهم».
(1/49)
بخلاف آيات الأحكام. فإن قيل: هذا يرده ما قد عُرِفَ أن آياتِ الأمر والنهي والحلال والحرام مُحْكَمَةٌ، وآياتِ الصِّفات مُتشابهةٌ، فكيف يكون المُتشابه أوضحَ من المُحْكم؟! قيل: التشابه والإحكام نوعان: تشابُه وإحكام يعمُّ الكتابَ كله، وتشابُه وإحكام يخص بعضه دون بعضٍ. فالأول: كقوله تعالى: {اِللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ اَلْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا} [الزمر: 22] وقوله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1] وقوله: {يس وَاَلْقُرْآنِ اِلْحَكِيمِ} [يس: 1]. والثاني: كقوله: {هُوَ اَلَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ اُلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]. فإن أردتم بتشابه آيات الصِّفات النوع الأول فنَعَم، هي متشابهة غير متناقضة، يشبه بعضها بعضًا، وكذلك آيات الأحكام. وإن أردتم أنه (1) يشتبه المرادُ بها بغير المراد، فهذا وإن كان يعرض لبعض الناس فهو أمر نسبي إضافي، فيكون متشابهًا بالنسبة إليه دون غيره. ولا فرقَ في هذا بين آيات الأحكام وآيات الصِّفات، فإن المراد قد يشتبه (2) فيهما بغيره على بعض الناس دون بعض. وقد تنازَعَ الناس في المحكم والمتشابه تنازُعًا كثيرًا، ولم يُعرف عن أحدٍ _________ (1) في «ح»: «أن». (2) في «ح»: «تشبه».
(1/50)
من الصحابة قط أن المتشابه آيات الصِّفات، بل المنقول عنهم يدل على خلاف ذلك، فكيف تكون آيات الصِّفات متشابهة (1) عندهم، وهم لا يتنازعون في شيءٍ منها، وآيات الأحكام هي المُحكَمة، وقد وقع بينهم النزاع في بعضها؟! وإنَّما هذا قول بعض المتأخرين، وسيأتي إشباع الكلام في هذا في الفصل المعقود له إن شاء الله تعالى. * * * * * _________ (1) في «ح»: «متشابه».
(1/51)
الفصل الخامس (1) في الفرق بين تأويل التحريف وتأويل التفسير
وأن الأول ممتنعٌ (2) وقوعُه في الخبر والطلب والثاني يقع فيهما ذكَر الله سبحانه التحريف ـ وذمَّه حيث ذكره ـ وذكر التفسير وذكر التأويل. فالتفسير هو: إبانة المعنى وإيضاحه، قال الله تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33] وهذا غاية الكمال، أن يكون المعنى في نفسه حقًّا، والتعبير عنه أفصحَ تعبيرٍ وأحسنه. وهذا شأن القرآن وكلام الرسول صلوات الله وسلامه عليه. والتحريف: العدول بالكلام عن وجهه وصوابِه إلى غيره. وهو نوعان: تحريفُ لفظه، وتحريفُ معناه. والنوعان مأخوذان في الأصل عن اليهود، فهم الراسخون فيهما (3)، وهم شيوخ المحرِّفين وسلفُهم؛ فإنهم حرَّفوا كثيرًا من ألفاظ التوراة، وما غُلِبوا عن تحريف لفظه حرَّفوا معناه، ولهذا وُصفوا بالتحريف في القرآن دون غيرهم من الأُمم. ودرج على آثارهم في ذلك الرافضةُ؛ فهم أشبهُ بهم من القُذَّة بالقُذَّة (4)، والجهميةُ؛ فإنهم سلكوا في _________ (1) «ح»: «الرابع». (2) «ب»: «يمتنع». (3) «ح»: «فيها». (4) القذة: ريشة السهم، وقوله: «أشبه بهم من القذة بالقذة» أراد تمام الشبه بينهما؛ لأن كل واحدة من القذتين تُقَّدر على قدر صاحبتها وتقطع. ينظر «النهاية في غريب الحديث» (4/ 28).
(1/52)
تحريف النصوص الواردة (1) في الصِّفات مسالكَ إخوانهم من اليهود. ولمَّا لم يتمكنوا من تحريف نصوص القرآن حرَّفوا معانيَه وسطَوْا عليها، وفتحوا باب التأويل لكل ملحدٍ يكيد الدِّين، فإنه جاء فوجد بابًا مفتوحًا وطريقًا مسلوكة، ولم يمكنهم أن يُخرِجوه من بابٍ، أو يردُّوه من طريقٍ قد شاركوه فيها. وإن كان الملحد قد وسَّع بابًا هم فتحوه وطريقًا [ق 6 ب] هم اشتقوه (2) فهُمَا بمنزلة رجلين ائتُمِنا على مالٍ، فتأوَّل أحدهما وأكل منه دينارًا، فتأوَّل الآخر، وأكل منه عشرة. فإذا (3) أنكر عليه صاحبُه قال: إن حلَّ (4) أكلُ الدينار بالتأويل حلَّ (5) أكلُ العشرة به. ولا سيما إذا زعم آكِلُ الدينار أن الذي ائتمنه إنما أراد منه التأويل، وأن المتأول أعلم بمراده من الممسك، فيقول له صاحبه: أنا أسعدُ منك وأولى بأكل هذا المال. والمقصود أن التأويل يتجاذبه أصلانِ: التفسير والتحريف، فتأويل التفسير هو الحق، وتأويل التحريف هو الباطل. فتأويل التحريف من جنس الإلحاد؛ فإنه هو المَيْل بالنصوص عمَّا هي عليه، إمَّا بالطعن فيها، أو بإخراجها عن حقائقها مع الإقرار بلفظها. وكذلك الإلحاد في أسماء الله، تارةً يكون بجحد معانيها وحقائقها، وتارةً يكون بإنكار المُسمَّى بها، وتارة يكون بالتشريك بينه وبين غيره فيها. فالتأويل الباطل هو _________ (1) «الواردة» ليس في «ب». (2) «ح»: «استبقوه». (3) «ح»: «وإذا». (4) «ح»: «أكل». (5) «ح»: «أكل».
(1/53)
إلحادٌ وتحريفٌ، وإن سمَّاه أصحابُه تحقيقًا وعرفانًا وتأويلًا. فمِن تأويل التحريف والإلحاد تأويل الجهمية قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اَللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 163] أي: جرَّحَ قلبَه بالحِكم والمعارف تجريحًا. ومن تحريف اللفظ تحريف إعراب قوله: {وَكَلَّمَ اَللَّهُ} من الرفع إلى النصب، وقال: وكلم اللهَ، أي: موسى كلم الله، ولم يكلمه اللهُ. وهذا من جنس تحريف اليهود، بل أقبح منه، واليهود في هذا الموضع أولى بالحق منهم. ولمَّا حرَّفها بعض الجهمية هذا التحريفَ قال له بعض أهل التوحيد: فكيف تصنع بقوله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143]؟! فبُهت المحرِّف. ومن هذا أن بعض الفرعونية سأل بعض أئمة العربية: هل يمكن أن يُقرأ «العرشُ» بالرفع في قوله: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4]؟ وقصد الفرعوني بهذا التحريف أن يكون الاستواءُ صفةً للمخلوق لا للخالق، ولو تيسر لهذا الفرعوني هذا التحريف في هذا الموضع لم يتيسر له في سائر الآيات! ومن تأويل التحريف تأويل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاواتِ كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ (1) عَلَى الصَّفْوَانِ فَيُصْعَقُونَ، فَيَكُون أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ جِبْرِيلُ» (2). قالوا: تأويله إذا تكلَّم مَلَكُ الله بالوحي، لا أن الله يتكلم. فجعلوا _________ (1) كذا، وفي «سنن أبي داود» وغيره من مصادر التخريج: «صلصلة كجر السلسلة». (2) أخرجه أبو داود (4738) وابن خزيمة في «التوحيد» (207) وابن حبان (37) واللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (548) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (433) عن ابن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعًا بنحوه. ورواه البخاري في «خلق أفعال العباد» (482، 484) وابن خزيمة في «التوحيد» (208) واللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (549) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (432) عن ابن مسعود - رضي الله عنه - موقوفًا. وعلقه البخاري في «صحيحه» (9/ 141). ورجح الموقوف الدارقطني في «العلل» (852) والخطيب في «تاريخه» (13/ 328). ولم أقف في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - على قوله: «فيكون أول من يفيق جبريل». وقد وجدت المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ في «تهذيب السنن» (3/ 303) عقب ذكره لحديث ابن مسعود عزا نحو هذا اللفظ للبيهقي من حديث نعيم بن حماد، حدثنا الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن يزيد بن جابر، عن ابن أبي زكريا، عن رجاء بن حيوة، عن النواس بن سمعان - رضي الله عنه -. قلت: والحديث في «الأسماء والصفات» (435)، وقد رواه ابن أبي عاصم في «السنة» (515) وابن خزيمة في «التوحيد» (206) وغيرهما. لكن قال عنه عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم: لا أصل له. نقله عنه أبو زرعة الدمشقي في «تاريخه» (1783). وروى البخاري في «صحيحه» (7481) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا نحو حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -. وفي الباب عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - مرفوعًا وموقوفًا، ينظر: «الدر المنثور» (12/ 208 - 211).
(1/54)
صعقَ الملائكة وخرورهم سُجَّدًا لكلام جبريل الذي قد صُعق معهم مِن كلام نفسه. ومن تأويل التحريف تأويلُ القدرية المجوسية نصوصَ القَدَرِ بما أخرجها عن حقائقها ومعانيها، وتأويلُ الجهمية نصوصَ الصِّفات بما أخرجها عن حقائقها، وأوجبَ تعطيل الربِّ جل جلاله عن صفات كماله،
(1/55)
كما عطلته القدريةُ عن كمال قدرته ومشيئته. فنحن لا ننكر التأويل، بل حقيقةُ العلم هو التأويلُ، والراسخون في العلم هم أهل التأويل، ولكن أي التأويلينِ؟ فنحن أسعدُ بتأويل التفسير من غيرنا، وغيرنا أشقى بتأويل التحريف منَّا، والله الموفِّق للصواب. * * * * *
(1/56)
الفصل السادس (1) في تعجيز المتأولين عن تحقيق (2) الفرق بين ما يسوغ تأويلُه من آيات (3) الصِّفات وأحاديثها وما لا يسوغ
لا ريب أنَّ الله سبحانه وصف نفسه بصفات، وسمَّى نفسه بأسماء، وأخبر عن نفسه بأفعال. فسمَّى نفسه بالرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر، إلى سائر ما ذَكَر من أسمائه الحُسنى. ووصف نفسه بما ذكره من الصِّفات، كسورة الإخلاص وأول الحديد وأول طه وغير ذلك، ووصف نفسه بأنه يحب ويكره، ويمقت ويرضى، ويغضب ويأسف ويسخط، ويجيء ويأتي وينزل إلى سماء الدنيا، وأنه استوى على عرشه، وأن له عِلمًا وحياة وقدرة وإرادة وسمعًا وبصرًا ووجهًا، وأنَّ له يدين، وأنَّه فوق عباده، وأن الملائكة تعرج إليه وتنزل بالأمر من عنده، وأنه قريب، وأنه مع المحسنين، ومع الصابرين، ومع المتقين، وأنَّ السماوات مطويات بيمينه. ووصفه رسوله بأنه يفرح ويضحك، وأن قلوب العباد بين أصابعه، وغير ذلك ممَّا وصف به نفسَه ووصفه به رسولُه. فيقال للمتأوِّل: هل تتأول هذا كله على خلاف ظاهره، وتمنع حملَه على حقيقته، أم تُقِرُّ (4) الجميع على ظاهره وحقيقته، أم تفرِّق بين بعض _________ (1) «ح»: «الخامس». (2) «ح»: «حقيقة». (3) «ح»: «إثبات». (4) «ح»: «تفسر».
(1/57)
ذلك وبعضه؟ فإن تأوَّلت الجميع وحملتَه على خلاف حقيقته كان ذلك عنادًا ظاهرًا وكفرًا صُراحًا وجحدًا للربوبية (1)، وحينئذٍ فلا تستقر لك قدمٌ على إثبات ذات الرب تعالى، ولا صفة من صفاته، ولا فعل من أفعاله. فإن أعطيتَ هذا من نفسك ولم تستهجنه التحقتَ (2) بإخوانك الدهرية الملاحدة الذين لا يُثْبتون للعالَم خالقًا ولا ربًّا. فإن قلتَ: بل أُثْبِتُ أنَّ للعالَم صانعًا وخالقًا، ولكن لا أصفه بصفة تقع على خلقه، وحيث وصف بما يقع على المخلوق أتأوَّلُه. قيل لك: فهذه الأسماء الحُسنى والصفات التي وصف بها نفسَه هل تدل على معانٍ ثابتة هي حقٌّ في نفسها أم لا تدل؟ فإن نفيتَ دلالتها على معنًى ثابت كان ذلك غايةَ التعطيل، وإن أثبتَّ دلالتها [ق 7 أ] على معانٍ هي حقٌّ ثابتٌ، قيل لك: فما الذي سوَّغ لك تأويل بعضها دون بعض؟ وما الفرق بين ما أثبتَّه ونفيتَه وسكتَّ عن إثباته ونفيه من جهة السمع أو (3) العقل؟ ودلالة النصوص (4) على أنَّ له سمعًا وبصرًا وعلمًا وقدرةً وإرادةً وحياةً وكلامًا كدلالتها على أن له رحمةً ومحبةً وغضبًا ورضًى وفرحًا وضحكًا ووجهًا ويدينِ، فدلالة النصوص على ذلك سواء، فلِمَ نفيتَ حقيقةَ رحمتِه _________ (1) «ح»: «لربوبيته». (2) «ح»: «ألحقت». (3) «ب»: «و». (4) «ح»: «النص».
(1/58)
ومحبته ورضاه وغضبه وفرحه وضحكه وأولتَها بنفس الإرادة؟ فإن قلتَ: لأن (1) إثباتَ الإرادة والمشيئة لا يستلزم تشبيهًا وتجسيمًا، وإثباتَ حقائق هذه الصِّفات يستلزم التشبيهَ والتجسيم، فإنها لا تُعقَل إلَّا في الأجسام، فإن الرحمة رقَّة تعتري طبيعة الحيوان، والمحبة ميل النفس لجلب ما ينفعها، والغضب غليان دم القلب طلبًا للانتقام، والفرح انبساط دم القلب لورود ما يسرُّه عليه. قيل لك (2): وكذلك الإرادة هي مَيْلُ النفس إلى جلب ما ينفعها ودفْعِ ما يضرها، وكذلك جميع ما أثبتَّه من الصِّفات إنما هي أعراض قائمة بالأجسام في الشاهد، فإن العلم انطباع صورة المعلوم (3) في نفس العالِم، أو صفة عَرَضية قائمة به، وكذلك السمع والبصر والحياة أعراض قائمة بالموصوف، فكيف لزم التشبيهُ والتجسيم من إثبات تلك الصِّفات، ولم يلزم من إثبات هذه؟ فإن قلتَ: لأني (4) أثبتُّها على وجهٍ لا يُماثل صفاتنا ولا يشابهها. قيل لك: فهلَّا أثبتَّ الجميع على وجه لا يُماثل صفات المخلوقين ولا يشابهها (5)، ولِمَ فهمتَ من إطلاق هذا (6) التشبيهَ والتجسيم، وفهمتَ _________ (1) «ح»: «إن». (2) «ح»: «قبل ذلك». (3) «ب»: «العلوم». (4) «ح»: «أنا». (5) من قوله: «قيل لك: فهلا أثبت» إلى هنا ليس في «ح». (6) «ح»: «هذه».
(1/59)
من إطلاق تلك التنزيهَ والتوحيد؟ وهلَّا قلتَ: أثبتُّ له رحمةً (1) ومحبةً وغضبًا ورضًى وضحكًا ليس من جنس صفات المخلوقين. فإن قلتَ: هذا لا يُعقل. قيل لك: فكيف عقلتَ سمعًا وبصرًا وحياةً وإرادةً ومشيئةً ليست من جنس صفات المخلوقين؟! فإن قلتَ: أنا أفرِّق بين ما يُتأوَّل وبين (2) ما لا يُتأوَّل بأن (3) ما دلَّ العقل على ثبوته يمتنع تأويلُه، كالعلم والحياة والقدرة والسمع والبصر. وما لا يدل عليه العقلُ يجب أو يسوغ تأويله، كالوجه واليد والضحك والفرح والغضب والرضى، فإن الفعل (4) المحكَم دلَّ على قدرة الفاعل، وإحكامه دلَّ على علمه، والتخصيص دلَّ على الإرادة، فيمتنع مخالفة ما دلَّ عليه صريح العقل. قيل لك أولًا: وكذلك الإنعام والإحسان وكشْف الضر وتفريج الكربات دلَّ على الرحمة، كدلالة التخصيص على الإرادة سواء. والتخصيصُ بالكرامة والاصطفاءُ والاجتباءُ دالٌّ على المحبة كدلالة ما ذكرتَ على الإرادة، والإهانةُ والطردُ والإبعادُ والحرمانُ دالٌّ على المقت والبغض كدلالة ضده على الحب والرضى، والعقوبةُ والبطشُ والانتقامُ (5) دالٌّ على الغضب كدلالة ضدِّه على الرضى. _________ (1) «ح»: «وجه». (2) «بين» ليس في «ب». (3) «ب»: «فإن». (4) «ب»: «العقل». (5) «ح»: «والإسقام».
(1/60)
ويقال ثانيًا: هَبْ أن العقل لا يدل على إثبات هذه الصِّفات التي نفيتَها، فإنه لا ينفيها، والسمع دليلٌ مستقلٌّ بنفسه، بل الطمأنينة إليه في هذا الباب أعظمُ من الطمأنينة إلى مجرد العقل، فما الذي يُسوِّغ لك نفيَ مدلوله؟ ويقال لك ثالثًا: إن كان ظاهر النصوص يقتضي تشبيهًا وتجسيمًا فهو يقتضيه في الجميع، فأوِّلِ الجميعَ، وإن كان لا يقتضي ذلك لم يَجُزْ تأويلُ شيءٍ منه. وإن زعمتَ أن (1) بعضها يقتضيه وبعضها لا يقتضيه طُولِبتَ بالفرق بين الأمرين، وعادت المطالبة جذَعًا. ولمَّا تفطَّنَ بعضُهم لتعذُّر الفرق قال: ما دلَّ عليه الإجماعُ كالصِّفات السبعة لا يُتأوَّل، وما لم يدلَّ عليه إجماعٌ فإنه يُتأوَّل. وهذا كما تراه مِن أفسد الفروق، فإن مضمونه أن الإجماع أثبتَ ما يدل على التجسيم والتشبيه، ولولا ذلك لتأولناه، فقد اعترفوا بانعقاد الإجماع على التشبيه والتجسيم، وهذا قدحٌ في الإجماع فإنه لا ينعقد على باطل. ثم يقال: إن كان الإجماع قد انعقد على إثبات هذه الصِّفات، وظاهرُها يقتضي التجسيم والتشبيه (2)، بطل نفيُكم لذلك، وإن لم ينعقد عليها بطل التفريقُ به. ثم يقال: خصومكم من المعتزلة لم تُجمِع (3) معكم على إثبات هذه الصِّفات. _________ (1) «أن» ليس في «ب». (2) «ح»: «التشبيه والتجسيم». (3) في النسختين: «يجمع». والمثبت من «م».
(1/61)
فإن قلتم: انعقد الإجماع قبلهم. قيل: صدقتم والله، والذين أجمعوا قبلهم على هذه الصِّفات أجمعوا على إثبات سائر الصِّفات ولم يخصُّوها بسبعٍ، بل تخصيصُها بسبع خلافُ قول السلف وقول الجهمية والمعتزلة. فالناس كانوا طائفتين: سلفية وجهمية، فحدَثَت الطائفةُ السَّبعية، واشتقت قولًا بين القولين، فلا للسلف اتبعوا، ولا مع الجهمية بقوا. وقالت طائفة أخرى: ما لم يكن ظاهرُه جوارح وأبعاض، كالعلم والحياة والقدرة والإرادة والكلام لا يُتأوَّل. وما كان ظاهره جوارح وأبعاض، كالوجه واليدين والقدم والسَّاق والإصبع، فإنه يتعين تأويلُه؛ لاستلزام إثباته التركيبَ والتجسيم. قال المُثبِتون: جوابُنا لكم بعين الجواب (1) الذي تُجِيبون به (2) خصومَكم من الجهمية والمعتزلة نفاةِ الصِّفات، فإنهم قالوا لكم: لو قام به سبحانه صفةٌ وجودية [ق 7 ب]، كالسمع والبصر والعلم والقدرة والحياة، لكان مَحَلًّا للأعراض، ولزم التركيبُ والتجسيم والانقسام، كما قلتم: لو كان له وجهٌ ويدٌ وإصبعٌ لزم التركيبُ والانقسام. فحينئذٍ فما هو جوابكم لهؤلاء نجيبكم به. فإن قلتم: نحن نُثبِت هذه الصِّفات على وجهٍ لا تكون أعراضًا، ولا نسمِّيها أعراضًا، فلا يستلزم تركيبًا ولا تجسيمًا. _________ (1) «الجواب» من «ب». (2) «به» من «ب».
(1/62)
قيل لكم: ونحن نُثبِت الصِّفات التي أثبتها اللهُ لنفسه و (1) نفيتموها أنتم عنه على وجهٍ لا يستلزم الأبعاضَ والجوارح، ولا يُسمَّى المتصفُ بها مركَّبًا ولا جسمًا ولا منقسمًا. فإن قلتم: هذه لا يُعقل منها إلَّا الأجزاء والأبعاض. قلنا لكم: وتلك لا يُعقل منها إلَّا الأعراض. فإن قلتم: العَرَضُ لا يبقى زمانينِ، وصفاتُ الربِّ باقيةٌ قديمة أبدية فليست أعراضًا. قلنا: وكذلك الأبعاض، هي ما جاز مفارقتُها وانفصالها وانفكاكها، وذلك في حقِّ الربِّ تعالى مُحالٌ، فليست أبعاضًا ولا جوارحَ، فمفارقة الصِّفات الإلهية للموصوف بها مستحيلٌ مطلقًا في النوعين، والمخلوق يجوز أن تفارقه أعراضه وأبعاضه. فإن قلتم: إن كان الوجهُ عينَ اليد وعينَ الساق والإصبع فهو مُحالٌ، وإن كان غيرَه لزم التميزُ (2)، ويلزم التركيب. قلنا لكم: وإن كان السمع هو عين البصر، وهما نفس العِلم، وهي نفس الحياة والقدرة، فهو مُحالٌ، وإن تميزت لزم التركيب. فما هو جوابٌ لكم فالجواب مشتركٌ. فإن قلتم: نحن نعقل صفاتٍ ليست أعراضًا تقوم بغير جسمٍ متحيزٍ (3)، _________ (1) «ب»: «إذ». (2) «ح»: «التمييز». (3) ليس في «ح».
(1/63)
وإن لم يكن لها نظيرٌ في الشاهد. قلنا لكم: فاعقلوا صفاتٍ ليست بأبعاض تقوم بغير جسمٍ، وإن لم يكن له (1) في الشاهد نظير. ونحن لا ننكر الفرق بين النوعين في الجملة، ولكنْ فرقٌ غير نافعٍ لكم في التفريق بين النوعين، وأنَّ أحدهما يستلزم التجسيمَ والتركيب والآخرَ لا يستلزمه. ولمَّا أخذ هذا الإلزامُ بحُلُوق (2) الجهمية قالوا: الباب كله عندنا واحد، ونحن ننفي الجميعَ. فتَبَيَّن (3) أنه لا بد لكم من واحدٍ من أمورٍ ثلاثةٍ: إمَّا هذا (4) النفي العام والتعطيل المحض، وإمَّا أن تصفوا الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسولُه، ولا تتجاوزوا القرآن والحديث، وتتَّبعُوا في ذلك سبيل السلف الماضين (5)، الذين هم أعلمُ الأمة بهذا الشأن نفيًا وإثباتًا، وأشد تعظيمًا لله وتنزيهًا له عمَّا لا يليق بجلاله. فإن المعاني المفهومة من الكتاب والسُّنَّة لا تُرد بالشُّبهات، فيكون ردُّها من باب تحريف الكَلِم عن مواضعه. ولا يترك تدبرها ومعرفتها، فيكون ذلك مشابَهةً للذين إذا ذُكِّروا بآيات ربهم خرُّوا عليها صُمًّا وعُميانًا. _________ (1) من قوله: «نظير في الشاهد» إلى هنا ليس في «ح». (2) «ح»: «بحراق». (3) «ح»: «فبين». (4) «ح»: «هكذا». (5) «ح»: «الماضي».
(1/64)
ولا يقال: هي ألفاظ لا تُعقَل معانيها ولا يُعرف المرادُ منها، فيكون ذلك مشابَهةً للذين لا يعلمون الكتاب إلَّا أمانيَّ. بل هي آياتٌ بيناتٌ دالةٌ على أشرف المعاني وأجلِّها، قائمة حقائقها في صدور الذين أُوتوا العلم والإيمان إثباتًا بلا تشبيهٍ، وتنزيهًا بلا تعطيلٍ، كما قامت حقائق سائر صفات الكمال في قلوبهم كذلك. فكان الباب عندهم بابًا واحدًا، قد اطمأنت به قلوبهم، وسكنت إليه نفوسهم، فآنَسُوا من صفات كماله ونعوت جلاله بما استوحش منه الجاهلون المعطِّلون، وسكنت قلوبهم إلى ما نفر منه الجاحدون. وعلموا أن الصِّفات حُكمها حكمُ الذات، فكما أن ذاته سبحانه لا تُشبِه الذوات فصفاتُه لا تشبه الصِّفات. فما جاءهم من الصِّفات عن المعصوم تلقَّوْه بالقبول، وقابلوه بالمعرفة والإيمان والإقرار لعلمهم بأنه صفةُ مَن لا شبيهَ (1) لذاته ولا لصفاته. قال الإمام أحمد: «إنما التشبيه أنِّي أقول (2): يدٌ كَيَدٍ، أو وجهٌ كوجهٍ» (3). فأمَّا إثبات يدٍ ليست كالأيدي، ووجهٍ ليس كالوجوه، فهو كإثبات ذات ليست كالذوات، وحياةٍ ليست كغيرها من الحياة، وسمعٍ وبصرٍ ليس كالأسماع والأبصار. _________ (1) «ح»: «يشبه». (2) «ب»: «أن تقول». (3) أخرجه ابن بطة في «الإبانة الكبرى» (7/ 326) ... من رواية حنبل بن إسحاق عن الإمام أحمد، ونقله القاضي أبو يعلى في «إبطال التأويلات» (1/ 43).
(1/65)
وليس إلَّا هذا المسلك، أو مسلك التعطيل المحض، أو التناقض الذي لا يَثبُت لصاحبه قدمٌ في النفي ولا في الإثبات، وبالله التوفيق. وحقيقة الأمر أن كل طائفةٍ تتأوَّل ما يخالف نِحْلتَها (1) ومذهبَها، فالعيارُ على ما يُتأوَّل وما لا يُتأوَّل هو المذهبُ الذي ذهبتْ (2) إليه والقواعد التي أصَّلَتْها (3)، فما وافقها أقرُّوه ولم يتأوَّلوه، وما خالفها فإن أمكنهم دفعُه، وإلَّا تأوَّلوه. ولهذا لما أصَّلتِ الرافضةُ عداوةَ الصحابة ردوا كل ما جاء في فضائلهم والثناء عليهم أو تأوَّلُوه. ولمَّا أصَّلت الجهميةُ أنَّ الله لا يتكلم ولا يكلِّم أحدًا، ولا يُرى بالأبصار، ولا هو فوق عرشه مبايِنٌ لخلقه، ولا له صفة تقوم به. أوَّلوا كل ما خالف ما أصَّلوه. ولمَّا أصَّلتِ القدريةُ أنَّ الله سبحانه لم يخلق أفعالَ عباده ولم يُقدِّرها عليهم، أوَّلُوا كل ما خالف أصولهم (4). _________ (1) «ح»: «نحلها». (2) «ح»: «ذهب». (3) «ح»: «أصلها». (4) «ب»: «ذلك».
(1/66)
ولمَّا أصَّلت المعتزلةُ القول بنفوذ الوعيد، وأن مَنْ دخل النار لم يخرج منها أبدًا، أوَّلُوا كل ما خالف أصولهم (1). ولمَّا أصَّلت المرجئةُ أنَّ الإيمان هو المعرفة، وأنَّها لا تزيد ولا تنقص، أوَّلوا ما خالف أصولهم. ولمَّا أصَّلت الكُلَّابيةُ أنَّ الله سبحانه لا يقوم به ما يتعلق بقدرته ومشيئته، وسمَّوْا ذلك حلولَ الحوادث، أوَّلوا كل ما خالف هذا الأصل. ولمَّا أصَّلت الجبريةُ أنَّ قدرة العبد لا تأثيرَ لها في الفعل بوجهٍ من الوجوه، وأن حركات [ق 8 أ] العباد بمنزلة هُبوب الرياح وحركات الأشجار، أوَّلوا كل ما جاء بخلاف ذلك. فهذا في (2) الحقيقة هو عيار التأويل عند الفرق كلِّها، حتى المقلِّدين في الفروع ـ أتباع الأئمة الذين اعتقدوا المذهب ثم طلبوا الدليل عليه ـ ضابطُ ما يُتأوَّل عندهم وما لا يُتأوَّل: ما خالف المذهبَ أو وافقَه. ومَن تأمَّل مقالات الفرق ومذاهبها رأى ذلك عِيانًا، وبالله التوفيق. وكلٌّ مِن هؤلاء يتأول دليلًا سمعيًّا، ويُقِرُّ على ظاهره نظيرَه أو ما هو أشد (3) قبولًا للتأويل منه؛ لأنه ليس عندهم في نفس الأمر ضابطٌ كُلي (4) مطَّرِد منعكس، يُفرَّق به بين (5) ما يُتأوَّل وما لا يُتأوَّل، إن هو إلَّا المذهب وقواعده وما قاله الشيوخ. وهؤلاء لا يمكن أحدًا (6) منهم أن يحتج على _________ (1) قوله: «ولما أصَّلت المعتزلة» إلى هنا ليس في «ح». (2) في «ب»: «هو». وكتب فوقه: «في». (3) «ب»: «شواهد». (4) «ح»: «جلي». (5) «به بين» من «ب». (6) «ح»: «أحد».
(1/67)
مبطِلٍ بحُجةٍ سمعيةٍ؛ لأنه يسلك في تأويلها نظير ما سلكَه هو في تأويل ما خالف مذهبَه، كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله (1). * * * * * _________ (1) سيأتي في الفصل العشرين.
(1/68)
الفصل السابع (1) في إلزامهم في المعنى الذي جعلوه تأويلًا نظير ما فروا منه
هذا فصلٌ بديعٌ لمن تأمله، يعلم به أن المتأوِّلين لم يستفيدوا بتأويلهم إلَّا تعطيلَ حقائق النصوص والتلاعب بها وانتهاك حرمتها، وأنهم لم يتخلصوا ممَّا ظنُّوه محذورًا، بل هو لازمٌ لهم فيما فرُّوا إليه كلزومه فيما فرُّوا منه. بل قد يقعون (2) فيما هو أعظمُ محذورًا، كحال الذين تأوَّلوا (3) نصوص العلو والفوقية والاستواء فرارًا من التحيز والحصر، ثم قالوا: هو في كل مكانٍ بذاته. فنزهوه عن استوائه على عرشه ومباينته لخلقه، وجعلوه في أجواف البيوت والآبار والأواني والأمكنة التي (4) يُرغَب عن ذكرها. فهؤلاء قُدماء الجهمية، فلما عَلِم متأخِّروهم فسادَ ذلك قالوا: ليس وراء العالَم ولا فوق العرش إلَّا العدمُ المحض، وليس هناك ربٌّ يُعبد، ولا إله يُصلَّى له (5) ويُسجَد، ولا هو أيضًا في العالَم، فجعلوا نسبته إلى العرش كنسبته إلى أخسِّ مكانٍ، تعالى اللهُ عن قولهم علوًّا كبيرًا. وكذلك فَعَل الذين نفَوُا القدَرَ السابق تنزيهًا لله عن مشيئة القبائح وخَلْقها، ونسبوه إلى أن يكون في مُلكه ما لا يشاء، ويشاء ما لا يكون، ولا يَقدِر على أن يَهدي ضالًّا ولا يُضِل مهتديًا، ولا يَقلِبُ قلبَ العاصي إلى _________ (1) «ح»: «السادس». (2) «ح»: «ينفون». وهو تحريف. (3) «ح»: «قالوا». (4) «ح»: «الذي». (5) «ح»: «إليه».
(1/69)
الطاعة ولا المطيعِ إلى المعصية. وكذلك الذين نزَّهوه عن أفعاله وقيامها به، وجعلوه كالجماد الذي لا يقوم به فعلٌ. وكذلك الذين نزَّهوه عن الكلام القائم به بقدرته ومشيئته، وجعلوه كالأبكم الذي لا يَقدِر أن يتكلَّم. وكذلك الذين نزَّهوه عن صفات كماله وشبَّهوه بالناقص الفاقد لها أو بالمعدوم. وهذه حال كل مُبطِل مُعطِّل لما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله. والمقصود أن المتأول يفر من أمرٍ (1)، فيقع في نظيره. مثاله: إذا تأوَّل المحبةَ والرحمة والرضى والغضب والمقت بالإرادة. قيل له: يلزمك في الإرادة ما لَزِمك في هذه الصِّفات، كما تقدَّم تقريره. وإذا تأوَّل الوجهَ بالذات، قيل له: فيلزمك في الذات ما لَزِمك في الوجه، فإنَّ لفظ الذات يقع على القديم والمُحْدَث، كما يقع لفظ الوجه على القديم والمُحْدَث (2). وإذا تأوَّل لفظَ اليد بالقدرة، فالقدرة يُوصَف بها الخالقُ والمخلوق، فإن فررتَ من اليد لأنها تكون للمخلوق، ففِرَّ من القدرة لأنه يُوصف بها. وإذا تأوَّل السمعَ والبصر بالعلم فِرارًا من التشبيه، لزمه ما فرَّ منه في العلم. وإذا تأوَّل الفَوْقية بفوقية القهر، لَزِمه فيها ما فرَّ منه من فوقية الذات، فإن _________ (1) «ب»: «الأمر». (2) «كما يقع لفظ الوجه على القديم والمحدث» ليس في «ح».
(1/70)
القاهر مَنِ اتصف بالقوة والغلبة، ولا يُعقل هذا (1) إلَّا جسمًا، فإن أثبته العقل غير جسمٍ لم يعجز عن إثبات فوقية الذات لغير جسمٍ. وكذلك مَن تأوَّل الإصبعَ بالقدرة، فإن القدرة أيضًا صفةٌ قائمة بالموصوف وعَرَضٌ من أعراضه، ففَرَّ من صفةٍ إلى صفةٍ. وكذلك من تأوَّل الضحِكَ بالرضى، والرضى بالإرادة، إنما فرَّ من صفةٍ إلى صفةٍ. فهلَّا أقرَّ النصوص على ما هي عليه، ولم ينتهك حُرمتَها؛ إذ (2) كان التأويل لا يُخرِجه ممَّا فرَّ منه، فإن المتأول إمَّا أن يذكر معنًى ثبوتيًّا، أو يتأوَّل اللفظ بما هو عدمٌ محضٌ، فإنْ تأوَّله بمعنى ثبوتي كائنًا ما كان لزمه فيه نظيرُ ما فرَّ منه. فإن قال: أنا أثبتُّ ذلك المعنى على وجهٍ لا يستلزم تشبيهًا. قيل له: فهلَّا أثبتَّ المعنى الذي تأوَّلتَه على وجهٍ لا يستلزم تشبيهًا. فإن قال: ذلك أمر (3) لا يُعقَل. قيل له: فكيف عَقلتَه في المعنى الذي أثبتَّه، وأنت وسائرُ أهل الأرض إنما تفهم المعانيَ الغائبة بما تفهمها به في الشاهد (4)، ولولا ذلك لما عقلتَ أنت ولا أحدٌ شيئًا غائبًا البتةَ، فما أبديتَه في التأويل إن كان له نظيرٌ في الشاهد _________ (1) «هذا» ليس في «ح». (2) «ح»: «أو». (3) «ب»: «أمرًا». (4) «ح»: «المشاهدة».
(1/71)
لزمك التشبيهُ، وإن لم يكن له نظيرٌ لم يمكنك تعقله البتة. وإن أوَّلتَ النَّص بالعدم عطَّلتَه. فأنت في تأويلك بين التعطيل والتشبيه مع جِنايتك على النَّص وانتهاكك حُرمته، فهلَّا عظَّمتَ قَدْره، وحفظتَ حرمتَه، وأقررتَه وأمررتَه مع نفي التشبيه والتخلص من التعطيل! وبالله التوفيق (1). * * * * * _________ (1) «من التعطيل وبالله التوفيق» ليس في «ب».
(1/72)
الفصل الثامن (1) في بيان خطئهم في فهمهم من النصوص المعانيَ الباطلةَ التي تأوَّلوها لأجلها فجمعوا بين التشبيه والتعطيل
هذا الفصل من عجيب [ق 8 ب] أمر المتأوِّلين، فإنهم فهموا من النصوص الباطلَ الذي لا يجوز إرادتُه، ثم أخرجوها عن معناها الحقِّ المراد منها، فأساؤوا الظنَّ بها وبالمتكلِّم بها، وعطَّلوها عن حقائقها التي هي عين كمال الموصوف بها. ونقتصر من ذلك على مثالٍ ذكره بعض الجهمية، ونذكر ما عليه فيه. قال الجهمي: ورد في القرآن ذِكرُ الوجه، وذكر الأعين، وذكر العين الواحدة، وذكر الجَنْب الواحد، وذكر الساق الواحد (2)، وذكر الأيدي، وذكر اليدين، وذكر اليد الواحدة (3). فلو أخذنا بالظاهر لزمنا إثبات شخصٍ له وجهٌ، وعلى ذلك الوجه أعينٌ كثيرةٌ، وله جنبٌ واحدٌ، وعليه أيدٍ كثيرةٌ، وله ساقٌ واحدٌ، ولا نرى (4) في الدنيا شخصًا أقبح صورة من هذه الصورة المتخيَّلة، ولا نظن أن عاقلًا يرى أن يصف ربه بهذه الصفة (5). _________ (1) «ح»: «السابع». (2) كذا بالتذكير، وسيأتي له نظائر، والساق مؤنث. وفي مصدر النقل وهو «أساس التقديس»: «الواحدة» على الأصل. (3) «وذكر اليدين وذكر اليد الواحدة» ليس في «ب». (4) في النسختين: «يرى». وهو تصحيف (5) قاله الرازي في «أساس التقديس» (ص 105).
(1/73)
قال السُّني (1) المعظِّم لحرمات كلام الله: قدِ ادعيتَ أيها الجهمي أن ظاهر القرآن، الذي هو حُجَّة الله على عباده، والذي هو خير الكلام وأصدقُه وأحسنه وأفصحه، وهو الذي هدى اللهُ به عباده، وجعله شفاءً لما في الصدور وهدًى ورحمةً للمؤمنين، ولم ينزل كتابٌ من السماء أهدى منه ولا أحسنُ ولا أكمل، فانتهكتَ حُرمته وعضهته (2)، ونسبتَه إلى أقبح النقص والعيب؛ فادعيتَ أن ظاهره ومدلوله إثبات شخصٍ له وجهٌ وفيه أعينٌ كثيرةٌ، وله جنبٌ واحدٌ وعليه أيدٍ كثيرةٌ، وله ساقٌ واحدٌ. فادعيتَ أن ظاهر ما وصف اللهُ به نفسه في كتابه يدل على هذه الصفة الشنيعة المستقبَحة، فيكون سبحانه قد وصف نفسه بأشنع الصِّفات في ظاهر كلامه. فأيُّ طعنٍ في القرآن أعظمُ مِن طعن مَن يجعل هذا ظاهره ومدلوله؟! وهل هذا إلَّا مِن جنس قول الذين جعلوا القرآن عِضين (3)، فعضهوه (4) بالباطل، وقالوا: هو سحر أو شِعر أو كذبٌ مُفترى؟ بل هذا أقبح من قولهم من وجهٍ، فإن أولئك أقروا بعظمة الكلام وشرف قدْره وعلوِّه وجلالته، حتى قال فيه رأسُ الكفر: «والله إن لِكلامه لَحلاوةً، وإن عليه لَطلاوةً، وإن أسفله لمُغدِق، وإن أعلاه لجنًى (5) _________ (1) «السني» ليس في «ح». (2) «ح»: «وعظمته». وعضهته: أي رميته بالكذب والبهتان. «الصحاح» (6/ 2241). (3) قال الواحدي في «التفسير البسيط» (12/ 662 - 663): «قال ابن عباس في قوله {اَلَّذِينَ جَعَلُوا اُلْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر: 91]: «يريد جزَّؤوه أجزاءً، فقالوا: سحر، وقالوا: أساطير الأولين، وقالوا: مفترى». وهذا قول قتادة، واختيار الزجاج وأبي العباس وأبي عبيدة». (4) في «ب»: «فعظهوه» بالظاء. وفي «ح»: «فعظموه». وهو تحريف. (5) «ب»: «لمثمر» وعليه علامة نسخة. ثم كتب على الحاشية: «لجنًى» وصححه. قلت: المشهور في هذا الأثر لفظ «لمثمر». فكأن المثبت رواية بالمعنى ..
(1/74)
وإنه لَيعلو وما يُعلى، وما يشبه كلام البشر» (1). ولم يَدَّعِ أعداءُ الرسول الذين جاهروه بالمحاربة والعداوة أن ظاهر كلامه أبطلُ الباطل وأبينُ المحال، وهو (2) وصف الخالق سبحانه بأقبحِ الهيئات والصور. ولو كان ذلك ظاهر القرآن لَكان ذلك من أقرب الطرق لهم إلى الطعن فيه، وقالوا: كيف تدعونا إلى عبادة ربٍّ له وجهٌ عليه عيون كثيرة وجَنْبٌ واحد، وساق واحد، وأيدٍ كثيرة؟ فكيف كانوا يسكتون له على ذلك، وهم يُورِدُون عليه ما هو أقل من هذا بكثيرٍ، كما أوردوا عليه المسيح لما قال (3): {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اِللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 97] فتعلقوا (4) بظاهر ما لم يدل على ما أوردوه، وهو دخول المسيح فيما عُبِدَ من دون الله، إمَّا بعموم (5) لفظ «ما»، وإمَّا بعموم المعنى، فأوردوا على هذا الظاهر هذا الإيرادَ. _________ (1) قاله الوليد بن المغيرة، أخرجه الحاكم في «المستدرك» (2/ 506) والبيهقي في «شعب الإيمان» (133) وفي «دلائل النبوة» (2/ 198) والواحدي في «أسباب النزول» (436) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن الوليد. ورواه عبد الرزاق في «التفسير» (2/ 328) والطبري في «التفسير» (23/ 429) عن عكرمة عن الوليد بن المغيرة مرسلًا لم يذكر ابن عباس. (2) «هو» ليس في «ح». (3) «ح»: «قالوا». (4) «ب»: «فتعقلوا». (5) «ب»: «لعموم».
(1/75)
وأورد (1) أهلُ الكتاب على قوله: {يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ اِمْرَأَ سَوْءٍ} [مريم: 27] أن بين هارون وعيسى ما بينهما (2)، وليس ظاهر القرآن أنه هارون بن عمران بوجهٍ. وكانوا يتعنتون فيما يوردونه على القرآن هذا ودونه (3)، فكيف يجدون ما ظاهره إثبات ربٍّ شأنُه وهيئته ما ذكَره هذا الجهمي، ولا يصيحون به على رؤوس الأشهاد، ويُشنِّعون عليه بإثباته في كل حاضرٍ وبادٍ! فالقوم على شِركهم وشدةِ عداوتهم لله ورسوله كانوا أصحَّ أفهامًا (4) من الجهمية الذين نسبوا ظاهر القرآن إلى هذه الصفة القبيحة، ولكنَّ الأذهان الغُلْف والقلوب العُمْيَ والبصائر الخُفَّاشية (5) لا يكثر عليها أن تفهم هذا من ظاهر القرآن. قال أنصارُ الله: ونحن نبيِّن أن هذه الصورة الشنيعة ليست (6) ظاهرَ _________ (1) «ح»: «وأوردوا». (2) أخرج مسلم (2135) عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قال: «لما قدمتُ نجران سألوني فقالوا: إنكم تقرؤون {يَاأُخْتَ هَارُونَ} وموسى قبل عيسى بكذا وكذا. فلما قدمتُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألتُه عن ذلك، فقال: إنهم كانوا يُسمُّون بأنبيائهم والصالحين قبلَهم». (3) «على القرآن هذا ودونه» ليس في «ب». (4) «ح»: «أذهانًا». (5) نسبة للخفاش؛ وذلك لأنه لا يكاد يبصر بالنهار. «المصباح المنير» (1/ 175). قال المصنِّف في «مفتاح دار السعادة» (2/ 857): «أصحابُ البصائر الضعيفة الخفاشية الذين نسبة أبصارهم إلى هذا النور كنسبة أبصار الخفاش إلى جرم الشمس، فهم تبعٌ لآبائهم وأسلافهم؛ دينهم دين العادة والمنشأ». (6) بعده في «ح»: «تفهم». والسياق لا يستقيم بها.
(1/76)
القرآن من وجوهٍ: أحدها: أنَّ الله سبحانه إنَّما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14] وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم ممَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس: 70]. فدعوى الجهمي أن ظاهر هذا إثباتُ (1) أعين كثيرة وأيدٍ كثيرة فِرْيةٌ ظاهرة، فإنه إنْ دلَّ ظاهره على إثبات أعين كثيرة وأيدٍ كثيرة دلَّ على خالقينَ كثيرينَ؛ فإن لفظ الأيدي مضاف إلى ضمير الجمع، فادَّعِ أيها الجهمي أن ظاهره إثبات أيدٍ كثيرة لآلهةٍ متعددةٍ، وإلَّا فدعواك أنَّ ظاهره أيدٍ كثيرة لِذاتٍ واحدة خلاف الظاهر. وكذلك قوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14] إنما ظاهره بزعمك أعينٌ كثيرة على ذوات متعددة، لا على ذات واحدة. الثاني: أن يقال لك: دعواك أن ظاهر القرآن إثبات أيدٍ كثيرة في جنبٍ واحدٍ كذبٌ آخر، فأين في ظاهر القرآن أن الأيدي في الجنب؟ وكأنك إنما أخذت هذا من القياس على بني آدم، فشبَّهتَ أولًا وعطَّلتَ ثانيًا. وكذلك جعْلك الأعينَ الكثيرة في (2) الوجه الواحد ليس في ظاهر القرآن ما يدل على هذا، وإنما أخذتَه من التشبيه بالآدمي والحيوان. ولهذا قال بعض أهل العلم: «إن كل مُعطِّلٍ مشبِّهٌ، ولا يستقيم له التعطيل إلَّا بعد التشبيه». الثالث: أن يقال: أين في ظاهر القرآن إثبات ساقٍ واحدٍ لله وجنبٍ واحدٍ؟ فإنه سبحانه قال: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} [القلم: 42] [ق 9 أ] وقال: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اِللَّهِ} [الزمر: 53] فعلى _________ (1) «إثبات» ليس في «ب». (2) «في» ليس في «ب».
(1/77)
تقدير أن يكون السَّاق والجنب من الصِّفات، فليس في ظاهر القرآن ما يُوجِب ألَّا يكون له إلَّا ساق واحد وجنب واحد، فلو دلَّ على ما ذكرتَ لم يدلَّ على نفي ما زاد على ذلك، لا بمنطوقه ولا بمفهومه. حتى إن (1) القائلين بمفهوم اللقب (2) لا يدل ذلك عندهم على نفي ما عدا المذكور؛ لأنه متى كان للتخصيص بالذكر سببٌ غير الاختصاص (3) بالحكم لم يكن المفهوم مرادًا بالاتفاق. وليس المراد بالآيتين إثبات الصفة حتى يكون تخصيص أحد الأمرين بالذكر مرادًا، بل المقصود حُكم آخر؛ وهو بيان تفريط العبد في حقِّ الله وبيان سجود الخلائق إذا كشفَ عن ساقٍ، وهذا حُكم قد يختص بالمذكور دون غيره، فلا يكون له مفهومٌ. الرابع: هَبْ أنه سبحانه أخبر أنه يكشف عن ساقٍ واحدةٍ هي صفة، فمن أين في ظاهر القرآن (4) أنه (5) ليس له إلَّا تلك الصِّفة الواحدة؟ وأنت لو سمعتَ قائلًا يقول: كشفتُ عن عيني، وأبديتُ عن ركبتي وعن ساقي أو قدمي أو يدي؟ هل يُفهَم منه أنه ليس له (6) إلَّا ذلك الواحدُ فقط، فكم هذا _________ (1) «إن» ليس في «ب». (2) «ب»: «القلب». ومفهوم اللقب: إذا عُلق الحكم باسم جنس، كتخصيص الرِّبَوِيات الستة بتحريم التفاضل، أو اسم علم كقولك: زيد عالم. والجمهور على أنه ليس بحجة. ينظر «شرح مختصر الروضة» للطوفي (2/ 771 - 775). (3) «ب»: «سببا لاختصاص». (4) «القرآن» ليس في النسختين، وأثبته من «م». (5) في «ب»: «آية». (6) في النسختين: «لك». والمثبت من «م».
(1/78)
التلبيس والتدليس! فلو قال واحدٌ من الناس هذا لم يكن ظاهر كلامه ذلك، فكيف يكون ظاهر أفصح الكلام (1) وأبينه ذلك؟ الخامس: أن المفرد المضاف يُراد به ما هو أكثر من واحدٍ، كقوله: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اَللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18] وقوله: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكِتَابِهِ (2)} [التحريم: 12] وقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 186]. فلو كان الجنب والساق صفةً لكان بمنزلة قوله: {بِيَدِهِ اِلْمُلْكُ} [الملك: 1] و {بِيَدِكَ اَلْخَيْرُ} (3) [آل عمران: 26] و {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِيَ} [طه: 39]. السادس: أن يقال: من أين في ظاهر القرآن إثبات جنبٍ واحدٍ هو صفة الله؟ ومن المعلوم أن هذا لا يُثبِته أحدٌ من بني آدم، وأعظم الناس إثباتًا للصفات هم أهل السُّنَّة والحديث، الذين يثبتون لله الصِّفات الخبرية، _________ (1) بعده في «ح»: «هذا لم يكن». (2) قرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم وخارجة عن نافع {وكُتُبِهِ} جماعة، وقرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم ـ في رواية أبي بكر ـ وحمزة والكسائي {وَكِتَابِهِ} واحدًا. حُجة مَن قال: {وكتبه} فجمع، أنه موضع جمع، ألا ترى أنها قد صدَّقتْ بجميع كُتب اللَّه، فمعنى الجمع لائق بالموضع حسن. ومَن قال: {كتابه} أراد الكثرة والشياع، وقد يجيء ذلك في الأسماء المضافة، كما جاء في المفردة التي بالألف واللام، قال: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اَللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 36]، فكما أن المراد بنعمة اللَّه الكثرة، كذلك في قوله: {وكتابه}. قاله أبو علي الفارسي في «الحجة للقراء السبعة» (6/ 304). (3) قدمها في «ب» على قوله: {بِيَدِهِ اِلْمُلْكُ}.
(1/79)
ولا يقولون إن لله جنبًا واحدًا ولا (1) ساقًا واحدةً. قال عثمان بن سعيد الدارمي في «نقضه على المريسي» (2): «وادَّعى المُعارِض زُورًا على قوم أنهم يقولون في تفسير قول الله: {يَاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اِللَّهِ} [الزمر: 53] إنهم يعنون بذلك (3) الجنب الذي هو العضو، وليس ذلك على ما يتوهمونه». قال الدَّارمي: «فيقال لهذا المعارِض: ما أرخصَ الكذبَ عندك وأخفَّه على لسانك! فإن كنتَ صادقًا في دعواك فأشِرْ بها إلى أحدٍ من بني آدم قاله، وإلَّا فلِمَ تُشنِّع بالكذب على قومٍ هم أعلم بهذا التفسير منك، وأبصرُ بتأويل كتاب الله منك ومن إمامك؟ إنما تفسيرها عندهم تحسر الكفار على ما فرطوا في الإيمان والفضائل التي تدعو إلى ذات الله، واختاروا عليها الكفرَ والسخرية بأولياء الله فسمَّاهم الساخرين. فهذا تفسير الجَنْب عندهم، فمن أنبأك أنهم قالوا جَنْبٌ من الجنوب؟ فإنه لا يجهل هذا المعنى كثيرٌ من عوامِّ المسلمين، فضلًا عن علمائهم. وقد قال أبو بكر الصدِّيق - رضي الله عنه -: «الكذب مجانِبٌ للإيمان» (4). وقال ابن مسعود: «لا يجوز من الكذب جدٌّ ولا هزلٌ» (5). _________ (1) «لا» ليس في «ب». (2) «نقض عثمان بن سعيد على المريسي» (2/ 807). (3) «بذلك» ليس في «ح». (4) أخرجه الإمام أحمد في «المسند» (17) والبيهقي في «السنن الكبرى» (10/ 196) والضياء في «المختارة» (1/ 145). وقال البيهقي: هذا موقوف، وهو الصحيح، وقد روي مرفوعًا. وينظر «المقاصد الحسنة» للسخاوي (796). (5) أخرجه الإمام أحمد في «المسند» (3973) وسعيد بن منصور في «التفسير» (1047) وابن أبي شيبة في «المصنف» (26114). ورواه الحاكم في «المستدرك» (1/ 127) مرفوعًا، وقال: «إنما تواترت الرواياتُ بتوقيف أكثر هذه الكلمات».
(1/80)
وقال الشَّعبي: «من كان كذابًا فهو منافقٌ» (1). وتوجيه ذلك أنَّ الله قال: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (53) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (54) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (55) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر: 53 - 56] فهذا إخبارٌ عمَّا تقوله هذه النفس الموصوفة بما وُصفت به، وعامة هذه النفوس لا تعلم أن لله جَنبًا، ولا تقر بذلك كما هو الموجود منها في الدنيا، فكيف يكون ظاهر القرآن أن الله أخبر عنهم بذلك؟ وقد قال عنهم: {يَاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اِللَّهِ}. والتفريط فعلٌ أو تركُ فعلٍ، وهذا لا يكون قائمًا بذات الله، لا في جَنب ولا في غيره، بل يكون منفصلًا عن (2) الله، وهذا معلوم بالحسِّ والمشاهدة. وظاهر القرآن يدل على أن قول القائل: {يَاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اِللَّهِ} ليس أنه جعل فِعله أو تركَه في جَنبٍ يكون من صفات الله وأبعاضه، فأين في ظاهر القرآن ما يدل على أنه ليس لله إلَّا جنبٌ واحدٌ يعني به الشِّق؟ السابع: أن يقال: هَبْ أن القرآن دلَّ ظاهره على إثبات جَنبٍ هو صفة، فمن أين يدلُّ ظاهره أو باطنه على أنه جنبٌ واحدٌ وشِقٌّ واحدٌ؟ ومعلوم أن _________ (1) أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (26118) وابن بطة في «الإبانة الكبرى» (2/ 699). وأثر الشعبي آخر النقل عن الإمام الدارمي. (2) «ب»: «من».
(1/81)
إطلاق مثل هذا لا يدلُّ على أنه شِقٌّ واحدٌ (1)، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمران بن حصين: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» (2). وهذا لا يدل على أنه ليس لعمران بن حصين (3) إلَّا جنبٌ واحدٌ. فإن قيل: المراد على جنبٍ من جنبيك. قلنا: فقد عُلم أن ذكر الجنب مفردًا لا ينفي أن يكون معه غيرُه، ولا يدل ظاهر اللفظ على ذلك بوجهٍ. ونظير هذا اللفظ: «القَدَم»، إذا ذُكِرَ مفردًا لم يدلَّ على أنه ليس لمن نُسِبَ إليه إلَّا قَدَمٌ واحدٌ، كما في الحديث الصحيح: «حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ عَلَيْهَا (4) قَدَمَهُ» (5). وفي الحديث: «أَنَا الْعَاقِبُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي» (6). الثامن: [ق 9 ب] أن نقول: من أين في ظاهر القرآن أن لله ساقًا؟ وليس معك إلَّا قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} [القلم: 42]، والصحابة متنازعون في تفسير الآية: هل المراد (7) الكشف عن الشدة، ................. _________ (1) قوله: «ومعلوم أن إطلاق» إلى هنا سقط من «ح». (2) أخرجه البخاري (1117). (3) «بن حصين» ليس في «ب». (4) «ح»: «عليها رب العزة». (5) متفق عليه، وقد تقدم تخريجه. (6) أخرجه البخاري (3532) ومسلم (2354) عن جبير بن مطعم - رضي الله عنه - بلفظ: «وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي». (7) بعده في «ح»: «به».
(1/82)
أو المراد بها (1) أن الربَّ تعالى يكشف عن ساقه (2)؟ ولا يُحفَظ عن الصحابة والتابعين نزاعٌ فيما يُذكَر أنه من الصِّفات أم لا في غير هذا الموضع، وليس في ظاهر القرآن ما يدل على أن (3) ذلك صفةٌ لله؛ لأنه سبحانه لم يُضِف السَّاق إليه، وإنما ذكره مجردًا عن الإضافة منكَّرًا. والذين أثبتوا ذلك صفةً كاليدين والإصبع لم يأخذوا ذلك من ظاهر القرآن، وإنما أثبتوه بحديث أبي سعيد الخدري المتفَق على صحته ـ وهو حديث الشفاعة الطويل ـ وفيه: «فَيَكْشِفُ الرَّبُّ عَنْ سَاقِهِ، فَيَخِرُّونَ لَهُ سُجَّدًا» (4). ومَن حملَ الآية على ذلك قال: قولُه تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى اَلسُّجُودِ} [القلم: 42] مطابقٌ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ فَيَخِرُونَ لَهُ سُجَّدًا». وتنكيره للتعظيم والتفخيم، كأنه قال: يُكشف عن ساقٍ عظيمةٍ جلَّت عظمتُها وتعالى شأنُها أن يكون لها نظيرٌ أو مثيلٌ أو شبيهٌ. قالوا: وحملُ الآية على الشدة لا يصح بوجهٍ؛ فإن لغة القوم في مثل ذلك أن يقال: كشفت الشدة (5)، لا كشفت (6) عنها. كما قال الله تعالى: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ اُلْعَذَابَ} [الزخرف: 49]، وقال: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ} [المؤمنون: 76]. فالعذاب والشدة هو المكشوف لا المكشوف عنه. _________ (1) «ح»: «به». (2) ينظر «الدر المنثور» (14/ 642 - 648). (3) بعده في «ح»: «بعد». (4) أخرجه البخاري (4919) ومسلم (183). (5) بعده في «ح»: «عن القدم». وبعده في «م»: «عن القوم». (6) «ب»: «كشف».
(1/83)
وأيضًا فهناك تحدث الشدة وتشتدُّ لا تُزَال إلَّا (1) بدخول الجنة، وهناك لا يُدعَوْن إلى السجود، وإنما يُدعَوْن إليه أشد ما كانت الشدة. التاسع: أنَّ دعوى الجهمي أنَّ ظاهر القرآن يدلُّ على أنَّ لله سبحانه أيديًا كثيرةً على جنبٍ واحدٍ، وأعينًا كثيرةً على وجهٍ واحدٍ، عضهٌ للقرآن وتنقُّصٌ له وذمٌّ، ولا يدل ظاهر القرآن ولا باطنه على ذلك بوجهٍ ما، ولا فَهِمَه مَن له عقلٌ. ولو كان ذلك ظاهر القرآن لكان المخبِر به مُنفِّرًا للمدعوين عن الإيمان بالله ورسوله، ومُطَرِّقًا (2) لهم إلى (3) الطعن عليه. والله سبحانه قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14]، وقال: {وَاَصْنَعِ اِلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37]، وقال: {وَاَصْبِر لِّحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 46]، وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا (4) أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم ممَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس: 70]، وقال في قصة موسى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِيَ} [طه: 39] فذكر العين المفردة مضافةً إلى الضمير المفرد، والأعينَ مجموعةً مضافةً إلى ضمير الجمع. وذِكرُ العين مفردةً لا يدل على أنها عينٌ واحدةٌ، ليس إلَّا كما يقول القائل: أفعل هذا على عيني، وأجيئك على عيني؛ وأحمله على عيني. ولا يريد به أن له عينًا واحدةً، فلو فهم أحدٌ هذا من (5) ظاهر كلام المخلوق _________ (1) «ب»: «إنما تزال». (2) طرَّق له: إذا جعل له طريقًا، ويقال: طرَّق طريقًا: إذا سهَّله حتى طرقه الناس بسيرهم. «تاج العروس» (26/ 80). (3) «إلى» ليس في «ب». (4) «أو لم يروا». في «ح»: «وآية لهم». أدخل آيةً في آية. (5) «من». سقط من «ب».
(1/84)
لعُدَّ أخرقَ. وأمَّا إذا أُضيفت العين إلى اسم الجمع ظاهرًا أو مضمَرًا فالأحسن جمعُها مشاكلةً للفظ، كقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14] وقوله: {وَاَصْنَعِ اِلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37]. وهذا نظير المشاكلة في لفظ اليد المضافة إلى المفرد كقوله: {بِيَدِهِ اِلْمُلْكُ} [الملك: 1] و {بِيَدِكَ اَلْخَيْرُ} (1) [آل عمران: 26]. وإن أُضيفت (2) إلى ضميرِ جمعٍ جُمِعت كقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم ممَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس: 70]. وكذلك إضافة اليد والعين إلى اسم الجمع الظاهر، كقوله: {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي اِلنَّاسِ} [الروم: 40] وقوله: {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ اِلنَّاسِ} [الأنبياء: 61]. وقد نطق القرآنُ والسُّنَّة بذكر اليد مضافةً إليه سبحانه مفردةً ومثناة ومجموعة، وبلفظ العين مضافةً إليه مفردةً ومجموعة. ونطقت السُّنَّةُ بإضافتها إليه مثناةً، كما قال عطاء عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا قَامَ فِي الصَّلَاةِ قَامَ بَيْنَ عَيْنَيِ الرَّحْمَنِ، فَإِذَا الْتَفَتَ قَالَ لَهُ رَبُّهُ: إِلَى مَنْ تَلْتَفِتُ، إِلَى خَيْرٍ لَكَ مِنِّي» (3). _________ (1) «ب»: «بيده الخير». (2) «ب»: «فإن أضفت». (3) أخرجه ابن أبي الدنيا في «التهجد» (508) والمرزوي في «تعظيم قدر الصلاة» (128) والبزار في «المسند» (9332) والعقيلي في «الضعفاء» (1/ 234) من طريق إبراهيم بن يزيد الخوزي عن عطاء به. وقال الهيثمي في «المجمع» (2/ 80): «وفيه إبراهيم بن يزيد الخوزي، وهو ضعيف». وقال البزار: «هذا الحديث رواه طلحة بن عمرو عن عطاء عن أبي هريرة - رضي الله عنه - موقوفًا». قلنا: قد رواه عبد الرزاق في «المصنف» (3270) وابن أبي شيبة في «المصنف» (4572) والعقيلي في «الضعفاء» (1/ 235) من طريق ابن جريج عن عطاء عن أبي هريرة موقوفًا بنحوه، وقال العقيلي: «هذا أولى من حديث إبراهيم». وقد رُوِيَ في هذا المعنى عدة أحاديث، ينظر: «فتح الباري» لابن رجب (6/ 445 - 447).
(1/85)
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ» (1) صريحٌ في أنه ليس المراد إثبات عينٍ واحدةٍ ليس إلَّا، فإن ذلك عورٌ ظاهرٌ، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا. وهل يَفهم مِن قول الداعي: «اللهم احرُسْنا بعينِكَ التي لا تنامُ» أنها عينٌ واحدةٌ ـ ليس إلَّا ـ إلَّا (2) ذهنٌ أقلفُ وقلبٌ أغلف. قال خلف بن تميم (3): حدثنا عبد الجبار بن كثير، قال: «قيل لإبراهيم بن أدهم: هذا السبع! فنادى: يا قسورة، إن كنت أُمرتَ فينا بشيءٍ وإلَّا. يعني: فاذهب. فضرب بذَنَبه، وولَّى مُدبِرًا. فنظر إبراهيم إلى أصحابه وقال: قولوا: اللهم احرُسْنا بعينك التي لا تنام، واكْنُفْنا بكَنَفِك الذي لا يُرام، وارحمنا بقدرتك علينا، ولا (4) نَهلِكُ وأنت الرجاء» (5). قال عثمان الدارمي (6): الأعور ضد البصير بالعينينِ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدجَّال: «إنَّهُ أَعْوَرُ، وَإنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ» (7). _________ (1) أخرجه البخاري (7131) ومسلم (2933) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -. (2) «إلا» سقط من «ح». (3) «ح»: «بهم». وهوتحريف، وخلف بن تميم بن أبي عتاب التميمي الدارمي ترجمته في «تهذيب الكمال» (8/ 276). (4) «لا» ليس في «ب». (5) أخرجه ابن أبي الدنيا في «مجابو الدعوة» (101) واللالكائي في «كرامات الأولياء» (224) وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (8/ 4) والخطيب في «الزهد» (106) وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (6/ 319). (6) «النقض على المريسي» (1/ 305). (7) متفق عليه، وقد تقدم تخريجه.
(1/86)
وقد احتجَّ السلف على إثبات العينينِ له سبحانه بقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14]. وممَّن صرَّح بذلك إثباتًا واستدلالًا أبو الحسن الأشعري في كُتبه كلِّها، فقال في «المقالات» و «الموجز» و «الإبانة» وهذا لفظه فيها: «وجملة قولنا: أن نُقِر بالله وملائكته وكتبه ورُسله (1) ... ». إلى أن قال: «وأن الله مستوي على عرشه، كما قال: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4] وأن له وجهًا، كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو اُلْجَلَالِ وَاَلْإِكْرَامِ} [الرحمن: 25]، وأن له يدينِ، كما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 66]، وقال (2): {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 74]، وأن له عينين بلا كيفٍ، كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14]» (3). فهذا الأشعري والناس قبله وبعده [ق 10 أ] ومعه لم يفهموا من الأعين أعينًا كثيرةً على وجهٍ، ولم يفهموا من الأيدي أيديًا كثيرةً على شِقٍّ واحدٍ، حتى جاء هذا الجهمي فعضَهَ القرآن، وادَّعى أن هذا ظاهره، وإنما قصد هذا وأمثاله التشنيعَ على مَن بدَّعه وضلَّله من أهل السُّنَّة والحديث. وهذا شأن الجهمية في القديم والحديث، وهُم بهذا الصنيع على الله ورسوله وكتابه يشنِّعون {وَقُلِ اِعْمَلُوا فَسَيَرَى اَللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَاَلْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ اِلْغَيْبِ وَاَلشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 106]. فما ذنبُ أهل السُّنَّة والحديث إذا نطقوا بما نطقت به النصوص، وأمسكوا عمَّا أمسكتْ عنه، ووصفوا الله بما وصف به نفسَه ووصفه رسولُه، _________ (1) «ح»: «ورسوله». (2) «قال» ليس في «ح». (3) «الإبانة» (ص 21 - 21) بتصرف.
(1/87)
وردُّوا تأويل الجاهلين، وانتحال المبطلِين الذين عقدوا ألوية الفتنة، وأطلقوا أَعِنَّة المحنة، وقالوا على الله وفي الله بغير علمٍ؛ فردوا باطلهم وبيَّنوا زيفهم، وكشفوا إفكهم، ونافحوا عن الله ورسوله؛ فلم يقدروا على أخذ الثأر منهم إلَّا بأن سمَّوهم مشبِّهةً ممثِّلةً مجسِّمة حشويةً. ولو كان لهؤلاء عقولٌ لَعلموا أن التلقيب بهذه الألقاب ليس لهم، وإنما هو لمن جاء بهذه النصوص، وتكلَّم (1) بها، ودعا الأُمة إلى الإيمان بها ومعرفتها (2)، ونهاهم عن تحريفها وتبديلها. فدَعُوا التشنيع بما تعلمون ـ أنتم وكلُّ عاقلٍ منصفٍ ـ أنه كذبٌ ظاهرٌ، وإفكٌ مفترًى، لا يُعلَم به قائل يُناظر عن مقالته. فهل تدفعون عن أنفسكم التعطيلَ ونفْيَ حقائق صفات الكمال عن ربِّ العالمين، وأنها مجازٌ لا حقيقة لها، وأن ظاهرها كفرٌ وتشبيهٌ وإلحادٌ؟ فلو كان خصومكم كما زعمتم ـ وحاشاهم ـ مشبِّهةً ممثلةً مجسمةً لكانوا أقلَّ تنقصًا لربِّ العالمين وكتابِه وأسمائه وصفاته منكم بكثيرٍ كثيرٍ، لو كان قولهم يقتضي التنقصَ (3)، فكيف وهو لا يقتضيه! ولو صرَّحوا به فإنهم يقولون: نحن أثبتْنا لله غاية الكمال ونعوت الجلال، ووصفناه بكل صفة كمالٍ، فإن لزم من هذا تجسيمٌ أو تشبيهٌ (4) لم يكن هذا نقصًا ولا عيبًا ولا ذمًّا بوجهٍ من الوجوه، فإن لازم الحقِّ حقٌّ، وما لزم من إثبات كمال الربِّ ليس بنقصٍ. وأمَّا أنتم فنفيتم عنه صفات الكمال، ولا ريب أن لازم هذا النفي وصفه _________ (1) «ب»: «وتكلموا». (2) «ح»: «وبمعرفتها». (3) «ح»: «التنقيص». (4) «ب»: «تجسيمًا أو تشبيهًا».
(1/88)
بأضدادها من العيوب والنقائص. فما سوَّى اللهُ ولا رسوله ولا عقلاء عباده بين مَن نفى كمالَه المقدس حذَرًا من التجسيم، وبين مَن أثبت كمالَه الأعظم وصفاته العلى بلوازم ذلك كائنةً ما كانت. فلو فرضنا في الأُمة مَن يقول: له سمعٌ كسمع المخلوق وبصرٌ كبصره لكان أدنى إلى الحقِّ ممَّن يقول: لا سمعَ له ولا بصرَ. ولو فرضنا في الأُمة مَن يقول: إنه متحيِّزٌ على عرشه تحيط به الحدودُ والجهات، لَكان أقرب إلى الصواب مِن قول (1) مَن يقول: ليس فوق العرش إلهٌ يُعبَد، ولا ربٌّ يُصلى له (2) ويُسجَد، ولا تُرفَع إليه الأيدي، ولا ينزل مِن عنده شيءٌ ولا يَصعد إليه شيءٌ، ولا هو فوق خلقِه ولا مُحايِثهم ولا مُبايِنهم. ولو فرضنا في الأُمة مَن يقول: إنه يتكلم كما يتكلم الآدمي، وإن (3) كلامه بآلاتٍ وأدوات تُشبِه آلات الآدميين وأدواتهم، لَكان خيرًا ممَّن يقول: إنه ما تكلَّم ولا يتكلَّمُ، ولا قال ولا يقول، ولا يقوم به كلامٌ البتةَ. فإن هذا القائل يُشبِّهه بالأحجار والجمادات التي لا تَعقِل، وذلك المشبِّه وصفه بصفات الأحياء الناطقين. وكذلك لو فرضنا في الأُمة مَن يقول: له يدانِ كأيدينا، لَكان خيرًا ممَّن يقول: ليس له يدان. فإن هذا معطِّلٌ مكذِّبٌ لله رادٌّ على الله ورسوله، وذلك المشبِّه غالطٌ مخطئٌ في فَهْمه. فالمُشبِّه على زعمكم (4) الكاذبِ لم يُشبِّهْه _________ (1) «من قول» سقط من «ب». (2) «له» سقط من «ب». (3) بعد في «ح»: «كان». وهي زائدة. (4) «ح»: «زعمهم».
(1/89)
تنقيصًا له وجحدًا لكماله، بل ظنًّا أنَّ إثبات الكمال لا يمكن إلَّا بذلك، فقابلتموه بتعطيل كماله، وذلك غاية التنقُّص (1). العاشر: أنك أيها الجهمي في فَهْمك عن الله أن ظاهر كلامه إثباتُ أيدٍ متعددة على جنبٍ واحدٍ، وعيون متعددة في وجهٍ واحدٍ، قد ضاهيتَ النصارى الذين احتجوا على تثليثهم وإثباتِ آلهة متعدِّدة بظاهر قوله: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ وَنُمِيتُ} [ق: 43] وأمثاله، وفي هؤلاء أنزل الله تعالى: {فَأَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ اِبْتِغَاءَ اَلْفِتْنَةِ وَاَبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7]. وفي الصحيح عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَا عَائِشَةُ، إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللهُ، فَاحْذَرُوهُمْ» (2). وهذا الفهم الفاسد إنما أتى مِن قِبل عُجم القلوب والألسنِ، فَهُمُ الذين أفسدوا الدِّين وشوشوا على (3) الناس، وإلا فلغة العرب متنوعة في إفراد المضاف وتثنيته وجمعه بحسب أحوال المضاف إليه. فإن أضافوا الواحد المتصل إلى مفردٍ أفردوه، وإن أضافوه إلى اسم جمعٍ ظاهر أو مضمَر جمعوه، وإن أضافوه إلى اسم مثنى فالأفصح من لغتهم جمعُه لقوله تعالى: {فَقَد صَّغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] وإنما هما (4) قلبانِ لا غيرَ، وقوله: {وَاَلسَّارِقُ وَاَلسَّارِقَةُ فَاَقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 40]. وتقول العرب: اضربْ أعناقهما، واقطعْ ألسنتهما. وهذا أفصحُ استعمالهم. وتارةً يُفرِدون المضاف، _________ (1) «ب»: «النقص». (2) أخرجه البخاري (4547) ومسلم (2665). (3) «على» ليس في «ح». (4) «ح»: «وإنهما».
(1/90)
فيقولون: لسانهما وقلبهما وظهرهما. وتارةً يُثنُّونه، كقوله (1): ظَهْرَاهُما مِثْلُ ظُهُورِ التُّرْسَينْ والقرآن إنما نزل بلغة العرب، لا بلغة العجم [ق 10 ب] والطماطم (2) والأنباط الذين أفسدوا الدِّين، وتلاعبوا بالنصوص، وانتهكوا حرماتها، وجعلوها عرضةً لتأويل الجاهلين وانتحال المبطِلين. وإذا كان من لغتهم وضْعُ الجمع موضعَ التثنية لئلَّا يجمعوا في لفظٍ واحدٍ بين تثنيتينِ، ولا لبسَ هناك، فلَأنْ يُوضَع الجمع موضعَ التثنية فيما إذا كان المضاف إليه مجموعًا أولى بالجواز. يدل عليه أنك لا تكاد تجد في كلامهم: عَيْنَيْنا ويدينا ونحو ذلك. ولا يلتبس (3) على السامع قول المتكلم: نراك بأعيننا، ونأخذك بأيدينا ونحو ذلك. ولا يفهم منه بشرٌ على وجه الأرض عيونًا كثيرةً على وجهٍ واحدٍ، وأيديًا متعددة على بدنٍ واحدٍ، فهل قَدَرَ القرآنَ حقَّ قدْرِه مَن زعم أن هذا ظاهره؟! _________ (1) هو خطام المجاشعي، نسبه له سيبويه في «الكتاب» (2/ 48) وابن منظور في «لسان العرب» (2/ 89)، ونسبه سيبويه في «الكتاب» (3/ 622) لهميان بن قحافة، قال البغدادي في «خزانة الأدب» (7/ 548): «والصحيح أن هذين البيتين من رجز لخطام المجاشعي، وهو شاعر إسلامي، لا لهميان بن قحافة». وقد جمع فيه بين اللغتين تثنية المضاف إلى المثنى وجمعه، فإنه أتى بتثنية المضاف في «ظهراهما»، وبجمعه في «ظهور الترسين». (2) رجل طِمطم وطِمطمي ـ بكسرهما ـ وطُمطماني ـ بالضم ـ أي: في لسانه عجمة لا يُفصح. «تاج العروس» (33/ 26). (3) «ح»: «يلبس».
(1/91)
الوجه الحادي عشر: لفظ اليد جاء في القرآن (1) على ثلاثة أنواع: مفردًا ومثنًّى ومجموعًا. فالمفرد كقوله: {بِيَدِهِ اِلْمُلْكُ} [الملك: 1]، والمثنى كقوله: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 74]، والمجموع كقوله: {عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 70]. فحيث ذكر اليدَ مثناةً أضاف الفعل إلى نفسه بضمير الإفراد، وعدَّى الفعل (2) بالباء إليهما، فقال: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 74]. وحيث ذكرها مجموعة أضاف العمل إليها، ولم يُعدِّ الفعل بالباء، فهذه ثلاثة (3) فروق. فلا يحتمل {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 74] من المجاز ما يحتمله {عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 70]، فإن كل أحدٍ يفهم من قوله {عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 70] ما يفهمه من قوله: عَملْنا وخلَقْنا، كما يفهم ذلك من قوله: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (4) [الشورى: 28]. وأمَّا قوله: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 74] فلو كان المراد منه مجرد الفعل لم يكن لذِكر اليد بعد نسبةِ الفعل إلى الفاعل معنًى، فكيف وقد دخلت عليها الباءُ، فكيف إذا ثُنِّيت؟! وسِرُّ الفرق أن الفعل قد يُضاف إلى يد ذي اليد، والمراد الإضافة إليه كقوله: {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: 10]، {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 28]. وأمَّا إذا أُضيف إليه الفعل، ثم عُدِّي بالباء إلى يده مفردةً أو مثناةً، فهو ما باشرته يدُه. ولهذا قال عبد الله بن عمرو: «إن الله لم يخلق بيده إلَّا ثلاثًا: _________ (1) «ب»: « ... عشر أن القرآن جاء في اليد». (2) «الفعل» ليس في «ب». (3) في النسختين: «ثلاث». والمثبت من «م». (4) كُتبت الآية في النسختين في هذا الموضع والذي يليه بغير فاء.
(1/92)
خلقَ آدمَ بيده، وغرس جنة الفردوس بيده ... » (1)، وذكر الثالثة (2). فلو كانت اليد هي القدرةَ لم يكن لها اختصاصٌ بذلك، ولا كانت لآدم فضيلةٌ بذلك على شيءٍ ممَّا خُلق بالقدرة. وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَنَّ أَهْلَ الْمَوْقِفِ يَأْتُونَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُونَ: يَا آدَمُ، أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ» (3). فذكروا أربعة أشياء كلُّها خصائصُ. وكذلك قال آدم لموسى في محاجَّته له: «اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلَامِهِ، وَخَطَّ لَكَ الْأَلْوَاحَ بِيَدِهِ» (4). وفي لفظٍ آخر: «كَتَبَ لَكَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ» (5). وهو من أصحِّ الأحاديث. _________ (1) لم نَقِفْ عليه من قول ابن عمرو - رضي الله عنهما -، وسيأتي عن عبد الله بن الحارث مرفوعًا، وقد رُوي بنحوه موقوفًا على جماعة من الصحابة، منهم عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: «خلق اللهُ أربعةَ أشياء بيده: العرشَ وجنات عدن والقلم وآدم، وقال لسائر خلْقِه: كن فكان». رواه الدارمي في «النقض» (1/ 261) والطبري في «التفسير» (20/ 145) والحاكم في «المستدرك» (2/ 319) والآجُرِّي في «الشريعة» (756) وأبو الشيخ في «العظمة» (213) وابن بطة في «الإبانة» (317) وقال الحاكم: «حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه». وجوَّد إسناده الذهبي في «العلو» (185) وابن ناصر الدين في «جامع الآثار» (2/ 160). (2) «وذكر الثالثة» ليس في «ح». (3) أخرجه البخاري (7516) ومسلم (193) عن أنس - رضي الله عنه -. (4) أخرجه البخاري (6614) ومسلم (2652) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (5) أخرجه مسلم (2652).
(1/93)
وكذلك الحديث الآخر المشهور: «إِنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالُوا: يَا رَبِّ، خَلَقْتَ بَنِي آدَمَ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَنْكِحُونَ وَيَرْكَبُونَ، فَاجْعَلْ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةَ. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا أَجْعَلُ صَالِحَ ذُرِّيَّةِ مَنْ خَلَقْتُ بِيَدَيَّ، وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي، كَمَنْ قُلْتُ لَهُ كُنْ فَكَانَ» (1). وهذا التخصيص إنما فُهِم من قوله: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 74]، فلو كانت مثل قوله: {مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 70] لكان هو والأنعام في ذلك سواء. فلما فَهِم المسلمون أن قوله: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 74] يُوجِب (2) له تخصيصًا وتفضيلًا، بكونه مخلوقًا (3) باليدين، على من أُمر أن يسجد له، وفهم ذلك أهلُ الموقف حتى (4) جعلوه من خصائصه، _________ (1) أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (13/ 658) و «المعجم الأوسط» (6173) عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -. وقال الهيثمي في «المجمع» (265): «فيه إبراهيم بن عبد الله بن خالد المصيصي، وهو كذاب متروك، وفي سند «الأوسط» طلحة بن زيد، وهو كذاب أيضًا». ونقله الزيلعي في «تخريج الكشاف» (2/ 276) وفيه ابن عمر بدل «ابن عمرو». وأخرجه الدارمي في «النقض» (1/ 257) عن عبد الله بن عمرو بن العاص موقوفًا، وقال الذهبي في «العلو» (183): «إسناده صالح». وأخرجه الدارمي في «النقض» (1/ 256) وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1/ 48) عن ابن عمر مرفوعًا، وصحَّح الدارقطني في «العلل» (2843) وقفه. وفي الباب عن جماعة من الصحابة والتابعين مرفوعًا ومرسلًا، ينظر: «تخريج الكشاف» للزيلعي (2/ 276 - 278) و «الدر المنثور» للسيوطي (9/ 400 - 402). (2) «ب»: «موجبًا». وفي «ح»: «فوجب». والمثبت من «م». (3) «بكونه مخلوقا». سقط من «ب». (4) «ح»: «حين».
(1/94)
كانت التسوية (1) بينه وبين قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم ممَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس: 70] خطأً محضًا (2). وكذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «يَقْبِضُ اللَّهُ سَمَاوَاتِهِ بِيَدِهِ وَالْأَرْضَ بِالْيَدِ الْأُخْرَى» (3). وقوله: «يَمِينُ اللَّهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ الخَلْقَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ، وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْقِسْطُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ» (4). وقال تعالى: {وَقَالَتِ اِلْيَهُودُ يَدُ اُللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 66]. وفي الحديث الذي رواه مسلمٌ في «صحيحه» (5) في أعلى أهل الجنة منزلةً: «أُولَئِكَ الَّذِينَ غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدَيَّ وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا». وقال أنس بن مالكٍ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خَلَقَ اللَّهُ جَنَّةَ عَدْنٍ، وَغَرَسَ أَشْجَارَهَا بِيَدِهِ، فَقَالَ لَهَا: تَكَلَّمِي. فَقَالَتْ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» (6). _________ (1) «ب»: «كان تسوية». (2) في النسختين: «خطأ محض». والمثبت من «م». (3) أخرجه أبو داود (4732) بنحوه، وأصل الحديث في البخاري (4812) ومسلم (2787). (4) أخرجه البخاري (7419) ومسلم (993) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - بنحوه. (5) «صحيح مسلم» (189) عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -. (6) أخرجه ابن عدي في «الكامل» (6/ 329) وابن بطة في «الإبانة» (7/ 302) والحاكم في «المستدرك» (2/ 392) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (691) من طريق علي بن عاصم عن حميد به. وقال الحاكم: «حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه». فتعقبه الذهبي بقوله: «بل ضعيف». وقال الذهبي في «الميزان» (3/ 137): «وهذا باطل». ورواه الدارمي في «النقض» (1/ 264) والآجري في «الشريعة» (759) عن أنسٍ عن كعبِ الأحبار موقوفًا. ورواه الطبراني في «المعجم الكبير» (11/ 184، 12/ 147) و «المعجم الأوسط» (738، 5518) عن ابن عباس - رضي الله عنه - بنحوه. وجوَّد المنذري في «الترغيب» (3942) والهيثمي في «المجمع» (18636) أحد إسنادَي «الأوسط».
(1/95)
وقال عبد الله بن الحارث: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ بِيَدِهِ: خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ، وَكَتَبَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ، وَغَرَسَ الْفِرْدَوْسَ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَعِزَّتِي لَا يَسْكُنُهَا مُدْمِنُ خَمْرٍ وَلَا دَيُّوثٌ» (1). وفي «الصحيح» (2) عنه - صلى الله عليه وسلم -: «تَكُونُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً يَتَكَفَّؤُهَا الْجَبَّارُ بِيَدِهِ، كَمَا يَتَكَفَّأُ أَحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ فِي السَّفَرِ نُزُلًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ». وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في استفتاح الصلاة: «لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ» (3). وفي «الصحيح» (4) أيضًا عنه - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ _________ (1) أخرجه ابن أبي الدنيا في «صفة الجنة» (39) والخرائطي في «مساوئ الأخلاق» (431) وأبو الشيخ في «العظمة» (1017) والدارقطني في «الصفات» (28) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (692) وقال: هذا مرسل. وقال ابن القيم في «حادي الأرواح» (1/ 215) المحفوظ أنه موقوف. (2) البخاري (6520) ومسلم (2792) عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. (3) أخرجه مسلم (771) عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. (4) صحيح مسلم (2759) عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -.
(1/96)
النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ (1) بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا». وقال عبد الله بن مسعود: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الْأَيْدِي ثَلَاثَةٌ: فَيَدُ اللَّهِ الْعُلْيَا، وَيَدُ الْمُعْطِي الَّتِي تَلِيهَا، وَيَدُ السَّائِلِ السُّفْلَى» (2). وفي «الصحيح» (3) عنه - صلى الله عليه وسلم -: «الْمُقْسِطُونَ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَنَابِرَ [ق 11 أ] مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ ـ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ ـ الَّذِيْنَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ (4) وَمَا وَلُوا». _________ (1) «يبسط يده» ليس في «ب». وفي «ح»: «يبسط يداه». والمثبت من «م». وكذا هو في «صحيح مسلم». (2) أخرجه الإمام أحمد في «مسنده» (4349) وابن خزيمة في «صحيحه» (2435) والحاكم في «المستدرك» (1/ 408) والبيهقي في «السنن الكبرى» (4/ 198). وقال البيهقي: «رواه إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود مرفوعًا وموقوفًا». ورواه الطيالسي في «مسنده» (310) من طريق شعبة عن إبراهيم الهجري به موقوفًا، وقال: غير شعبة يرفعه. وأخرجه الإمام أحمد في «مسنده» (16134، 17505) وأبو داود في «السنن» (1649) وابن خزيمة في «صحيحه» (2440) وابن حبان في «صحيحه» (3362) والحاكم في «المستدرك» (1/ 408) والبيهقي في «السنن الكبرى» (4/ 198) عن أبي الأحوص عن أبيه مالك بن نضلة - رضي الله عنه -، وقال الحاكم: «حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه». وقال ابن حجر في «الإصابة» (9/ 489): «وسنده صحيح». (3) أخرجه مسلم (1827) عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -. (4) «ب»: «وأهاليهم».
(1/97)
وفي «المسند» وغيره (1) من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَنَفَخَ فِيهِ (2) الرُّوحَ عَطَسَ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. فَحَمِدَ اللَّهَ بِإِذْنِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ: يَرْحَمُكَ رَبُّكَ يَا آدَمُ. وَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ إِلَى أُولَئِكَ الْمَلَائِكَةِ ـ إِلَى مَلَأٍ مِنْهُمْ جُلُوسٍ ـ فَقُلِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. فَذَهَبَ فَقَالُوا: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى رَبِّهِ، فَقَالَ: هَذِهِ تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ بَنِيكَ بَيْنَهُمْ. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى ـ وَيَدَاهُ مَقْبُوضَتَانِ ـ: اخْتَرْ أَيَّهُمَا شِئْتَ. فَقَالَ: اخْتَرْتُ يَمِينَ رَبِّي، وَكِلْتَا يَدَيْ رَبِّي يَمِينٌ مُبَارَكَةٌ. ثُمَّ بَسَطَهَا فَإِذَا فِيهَا آدَمُ وَذُرِّيَّتُهُ ... » وذكر الحديث. وقال عمر بن الخطاب: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ. ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذَرِّيَّةً، فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ» (3). _________ (1) أخرجه الترمذي (3368) والنسائي في «السنن الكبرى» (9975) وابن خزيمة في «التوحيد» (89) وابن حبان (6167) والحاكم في «المستدرك» (1/ 64، 4/ 263) وقال الترمذي: حديث حسن غريب. وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وأعلَّه النسائي، وصحَّح وقْفه على عبد الله بن سلام - رضي الله عنه -. (2) بعده في «ح»: «من». (3) أخرجه مالك في «الموطأ» (2/ 898) وأحمد (318) وأبو داود (318) والترمذي (3075) وابن حبان (6166) والحاكم (1/ 27) عن مسلم بن يسار عن عمر - رضي الله عنه - به. وقال الترمذي: «حديث حسن». وقال الحاكم: «الحديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه». وقال ابن عبد البر في «التمهيد» (6/ 3 - 6): «هذا الحديث منقطع الإسناد؛ لأن مسلم بن يسار هذا لم يلقَ عمر بن الخطاب، وبينهما في هذا الحديث نعيم بن ربيعة، وهو أيضًا مع هذا الإسناد لا تقوم به حُجة، ومسلم بن يسار هذا مجهول، وقيل إنه مدني وليس بمسلم بن يسار البصري». وقال: «وجملة القول في هذا الحديث أنه حديث ليس إسناده بالقائم؛ لأن مسلم بن يسار ونعيم بن ربيعة جميعًا غير معروفين بحمل العلم، ولكن معنى هذا الحديث قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه كثيرة ثابتة يطول ذكرها، من حديث عمر بن الخطاب وغيره جماعة». وينظر: «الدر المنثور» للسيوطي (6/ 656 - 660).
(1/98)
وقال هشام بن حكيم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللَّهَ أَخَذَ ذُرِّيَّةَ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ أَفَاضَ بِهِمْ فِي كَفَّيْهِ، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَهَؤُلَاءِ لِلنَّارِ» (1). وقال عبد الله بن عمرو: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ نَفَضَهُ نَفْضَ الْمِزْوَدِ، فَخَرَجَ مِنْهُ مِثْلُ الذَّر، فَقَبَضَ قَبْضَتَيْنِ، فَقَالَ لِمَا فِي الْيَمِينِ: فِي الْجَنَّةِ. وَلِمَا فِي الْأُخْرَى: فِي النَّارِ» (2). وقال أبو موسى الأشعري عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ _________ (1) رواه ابن أبي عاصم في «السنة» (168) والفريابي في «القدر» (22) والطبراني في «مسند الشاميين» (1854، 1855) والآجري في «الشريعة» (330) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (712) من طريق راشد بن سعد عن عبد الرحمن بن قتادة، واختلف عليه، فقيل عن هشام بن حكيم وقيل عن أبيه عن هشام بن حكيم، وقيل عن أبيه وهشام، وقيل عن عبد الرحمن بن قتادة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأعله ابن عبد البر في «الاستيعاب» (2/ 851) وابن السكن ـ كما في «الإصابة» لابن حجر (6/ 554) ـ بالاضطراب، وقال البوصيري في «إتحاف الخيرة» (1/ 170): «هذا إسناد ضعيف غريب». (2) أخرجه ابن وهب في «القدر» (15) والطبري في «التفسير» (20/ 471) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (713).
(1/99)
قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ (1)، فَمِنْهُمُ الْأَحْمَرُ وَالْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ، وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالسَّهْلُ وَالْحَزْنُ، وَالطَّيِّبُ وَالْخَبِيثُ» (2). وقال سلمان الفارسي: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَمَّرَ طِينَةَ آدَمَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ـ أَوْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ـ ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ فِيهَا، فَخَرَجَ كُلُّ طَيِّبٍ بِيَمِينِهِ، وَخَرَجَ كُلُّ خَبِيثٍ بِيَدِهِ الْأُخْرَى، ثُمَّ خَلَطَ بَيْنَهُمَا» (3). وقال أبو هريرة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا تَصَدَّقَ أَحَدٌ بِصَدَقَةٍ مِنْ طَيِّبٍ ـ وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ ـ إِلَّا أَخَذَهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ. وَإِنْ كَانَتْ ثَمَرَةً فَتَرْبُو فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَلِ». متفقٌ على صحته (4). وقال أنس: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللَّهَ وَعَدَنِي أَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفٍ. فقال أبو بكر: زدنا يا رسول الله. قال: وَهَكَذَا، وجمَعَ يديه. قال: زدنا يا رسول الله. قال: وَهَكَذَا. قال: زدنا يا رسول الله. قال (5) عمرُ: _________ (1) قوله: «فجاء بنو آدم على قدر الأرض» ليس في «ب». (2) أخرجه أحمد (20170) وأبو داود (4693) والترمذي (2955) وابن خزيمة في «التوحيد» (101، 102) وابن حبان (6160) والحاكم (2/ 261). وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح». وقال الحاكم: «صحيح الإسناد، ولم يخرجاه». (3) أخرجه الدارمي في «النقض» (1/ 274) والفريابي في «القدر» (10 - 13) والآجري في «الشريعة» (431، 432) وأبو الشيخ في «العظمة» (1006) وابن بطة في «الإبانة» (1650) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (716 - 717) وقال البيهقي: «ورُوِيَ ذلك من وجه آخر ضعيف عن التيمي مرفوعًا، وليس بشيء». وصحح الموقوفَ الدارقطني في «العلل» (931). (4) أخرجه البخاري (1410) ومسلم (1014). (5) «ب»: «فقال».
(1/100)
حسبك. فقال أبو بكر: دعني يا عمر، وما عليك أن يُدخِلنا الله الجنةَ كلَّنا. قال (1) عمر: إن شاء اللهُ أدخل خلقَه الجنةَ بكفٍّ واحدةٍ. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: صَدَقَ عُمَرُ» (2). وقال نافع بن عمر: «سألتُ ابن أبي مليكة عن يد الله: أواحدة أم اثنتان؟ فقال: لا، بل اثنتان» (3). وقال ابن عباس: «ما السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهما في يد الله إلَّا كخردلةٍ في (4) يدِ أحدكم» (5). وقال ابن عمر (6) .................................................... _________ (1) «ب»: «فقال». (2) أخرجه أحمد (13032) والطبراني في «المعجم الأوسط» (3400) و «المعجم الصغير» (342) والضياء في «المختارة» (7/ 254). وقال ابن حجر في «الفتح» (11/ 411): «سنده جيد، لكن اختُلِف على قتادة في سنده اختلافًا كثيرًا». وقال الدارقطني في «العلل» (2642): «رواه معمر عن قتادة عن النضر بن أنس عن أنس، وخالفه أبو هلال الراسبي، فرواه عن قتادة عن أنس، وخالفهما هشام الدستوائي، فرواه عن قتادة عن أبي بكر بن أنس، عن أبي بكر بن عمير الأنصاري، عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والقول ما قال هشام؛ لأن أبا هلال ضعيف، ومعمر سيئ الحفظ لحديث قتادة والأعمش». وصحح ابن عبد البر في «الاستيعاب» (3/ 1218) إسناد الحديث من طريق هشام الدستوائي. (3) أخرجه الدارمي في «النقض» (1/ 286) وصححه الذهبي في «الأربعين في صفات رب العالمين» (79). (4) «ح»: «من». (5) أخرجه عبد الله بن أحمد في «السنة» (1090) وابن جرير في «التفسير» (20/ 246). (6) أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» (106) والفريابي في «القدر» (416) والآجري في «الشريعة» (339) وابن بطة في «الإبانة» (1365) عن ابن عمر مرفوعًا، وينظر «السلسلة الصحيحة» للألباني (3136).
(1/101)
وابن عباس (1): «أولُ شيءٍ خلقَه الله القلمُ، فأخذه بيمينه ـ وكلتا يديه يمين ـ فكتب (2) الدنيا وما فيها من عملٍ معمولٍ في برٍّ وبحرٍ ورطبٍ ويابسٍ، فأحصاه عنده». وقال ابن عباسٍ في قوله تعالى: {وَاَلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 64] «يقبض اللهُ عليها فما يُرى طرفاها في يده» (3). وقال ابن عمر: «رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائمًا على المنبر، فقال: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَمَعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي قَبْضَتِهِ، ثُمَّ قَالَ هَكَذَا ـ وَمَدَّ يَدَهُ وَبَسَطَهَا ـ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا اللَّهُ، أَنَا الرَّحْمَنُ ... » (4) وذكر الحديث. _________ (1) أخرجه البيهقي في «القدر» (242) من طريق جويبر، عن رجل، عن مجاهد، عن ابن عباس موقوفًا بنحوه. ورواه الدارمي في «الرد على الجهمية» (253) وعبد الله بن أحمد في «السنة» (854) وأبو يعلى في «المسند» (2329) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (803) مرفوعًا بنحوه دون ذكر اليد. (2) «ح»: «فكانت». (3) لم نقف عليه، وأقرب لفظ وقفنا عليه ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 368) قال: «روى أبو الشيخ وغيره عن ابن عباس قال: «ما السماوات السبع والأرضون السبع، وما فيهن وما بينهن، في يد الرحمن إلَّا كخردلةٍ في يد أحدكم»، وفي لفظ: «إنها لَتغيبُ في يده حتى لا يُرى طرفاها». اهـ، ولم أقف عليه مسندًا. (4) أخرجه النسائي في «السنن الكبرى» (7662) وابن حبان (7234) وأصله في البخاري (7412) ومسلم (2788).
(1/102)
وقال ابن وهب: عن أسامة، عن نافع، عن ابن عمر «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ على المنبر {وَاَلْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَاَلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 64] قال: مَطْوِيَّةٌ فِي كَفِّهِ يَرْمِي بِهَا كَمَا يَرْمِي الْغُلَامُ بِالْكُرَةِ» (1). وقال عُبيد الله بن مِقْسَم: «نظرتُ إلى عبد الله بن عمر كيف صنع حيث يحكي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يَأْخُذُ اللَّهُ سَمَاوَاتِهِ وَأَرَضِيهِ (2) بِيَدِهِ، فَيَقُولُ: أَنَا اللَّهُ. وَيَقْبِضُ أَصَابِعَهُ وَيَبْسُطُهَا وَيَقُولُ: أَنَا الرَّحْمَنُ (3) أَنَا الْمَلِكُ. حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ يَتَحَرَّكُ مِنْ أَسْفَلِ شَيْءٍ (4) مِنْهُ، حَتَّى إِنِّي أَقُولُ: أَسَاقِطٌ هُوَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -» (5)؟! وقال زيد بن أسلم: «لمَّا كتب اللهُ التوراةَ بيده قال: باسمِ الله، هذا كتابُ (6) الله بيده لعبده موسى، يسبِّحني ويقدِّسني، ولا يحلف باسمي آثِمًا؛ فإني لا أُزكِّي مَن حلفَ باسمي آثمًا» (7). _________ (1) أخرجه الطبري في «التفسير» (20/ 247) وابن منده في «الرد على الجهمية» (13) وله شواهد، ورُوِيَ بألفاظ يصدق بعضُها بعضًا، وينظر «مجموع الفتاوى» (6/ 561) و «فتح الباري» (13/ 396). (2) «ب»: «وأرضه». (3) بعده في «ح»: «أنا الرحمن». (4) «شيء» ليس في «ح». (5) أخرجه مسلم في «صحيحه» (2788). (6) بعده في «ح»: «من». وليس هذا اللفظ في «م» ولا في مصدري التخريج. (7) أخرجه عبد الله بن أحمد في «السنة» (576) والنجاد في «الرد على من يقول القرآن مخلوق» (101).
(1/103)
وإنما ذكرنا هذه النصوص التي هي غَيْضٌ من فيضٍ؛ ليعلم الواقفُ عليها أنها لا يفهم أحدٌ من عقلاء بني آدم منها شخصًا له شِقٌّ واحدٌ، وعليه أيدٍ كثيرة، وله ساقٌ واحدٌ، وله وجهٌ واحدٌ، وفيه عيونٌ كثيرةٌ. فهذه نصوص القرآن والسُّنَّة كما ترى، هل يفهم منها [عاقلٌ] (1) ما ذكره هذا الجهمي، أو أحدٌ ممَّن له أدنى فَهْم؟! ومَن هذا قدْرُ النصوص عنده فهو حقيقٌ بألَّا يقبل منها شيئًا، ولا ينال منها هدًى، ولا يظفر منها بعلمٍ. وهي في حقِّه كما قال الله تعالى: {وَنُنزِلُ مِنَ اَلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ اُلظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82]، وقوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَت سُّورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (125) وَأَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125 - 126] [ق 11 ب]، وقوله: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَاَلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهْوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 43]، وقوله: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا اَلْفَاسِقِين} (2) [البقرة: 25]. والله يعلم أن هذا من أعظم العضَهِ لها والتنقيص والطعن على مَن تكلَّم بها (3) وجاء بها (4). أو يقال له: هذا ظاهر كلامك وحقيقته. فانظر إلى أقبح التشبيه والتمثيل الذي ادَّعوا أنه ظاهر النصوص، وإلى _________ (1) ليس في النسختين، وزدته ليستقيم الكلام. (2) من قوله: «وهي في حقه». إلى هنا ليس في «ب». (3) «ب»: «والتنقص بها ولَمْزِ من تكلم بها». (4) «ح»: «وأجابها».
(1/104)
التعطيل الذي سطَوْا به عليها وسمَّوْه تأويلًا! فصحَّ أنهم جمعوا بين فَهْم التشبيه منها، واعتقاد التعطيل، ونسبة قائلها إلى قصد ما يضاد البيان والإرشاد، والله المستعان. * * * * *
(1/105)
الفصل التاسع (1) في الوظائف الواجبة على المتأوِّل التي (2) لا يُقبل منه تأويله إلَّا بها
لمَّا كان الأصل في الكلام هو الحقيقةَ والظاهرَ كان العدول به عن حقيقته وظاهره مُخرجًا له عن (3) الأصل، فاحتاج مُدَّعِي ذلك إلى دليلٍ يُسوِّغ له إخراجه عن أصله. فعليه أربعة أمورٍ لا يتم له دعواه إلَّا بها: الأمر الأول: بيان احتمال اللفظ للمعنى الذي تأوَّله في ذلك التركيب الذي وقع فيه، وإلَّا كان كاذبًا على اللغة مُنشِئًا وضعًا مِن عنده، فإن اللفظ قد لا يحتمل ذلك المعنى لغةً، وإن احتمله فقد لا يحتمله في ذلك التركيب الخاص. وكثيرٌ من المتأوِّلين لا يبالي إذا تهيأ له (4) حملُ اللفظ على ذلك المعنى بأي طريقٍ أمكنه أن يدَّعي حملَه عليه، إذ مقصودُه (5) دفع الصائل، فبأي طريقٍ اندفع عنه دفَعَه، والنصوص قد صالت على قواعده الباطلة، فبأي طريقٍ تهيأ له دَفْعُها دَفَعَها (6)، ليس مقصودُه أخْذَ الهدى والعلم والإرشاد منها، فإنه قد أصَّلَ أنها أدلةٌ لفظيةٌ لا يُستفاد منها يقينٌ (7) ولا علمٌ ولا معرفةٌ _________ (1) «ح»: «الثامن». (2) «ح»: «الذي». (3) «ب»: «من». (4) «له» ليس في «ح». (5) «ح»: «مقصود». (6) «دفعها» ليس في «ح». (7) «يقين». سقط من «ح».
(1/106)
بالحق، وإنما المُعوَّل على آراء الرجال وما تقتضيه عقولها. وأنت إذا تأملتَ تأويلاتهم رأيت كثيرًا منها لا يحتمله اللفظ في اللغة التي وقع بها التخاطبُ، وإن احتمله لم يحتمله في ذلك التركيب الذي تأوَّلَه. وليس لأحدٍ أن يحمل كلامَ الله ورسوله على كل ما ساغ في اللغة أو الاصطلاح لبعض الشُّعراء أو الخُطباء أو الكُتَّاب أو العامة، إلَّا إذا كان ذلك غيرَ مخالفٍ لِمَا عُلِمَ من وصف الربِّ تعالى وشأنه، وما تضافرت به صفاتُه لنفسه وصفات رسوله له، وكانت إرادةُ ذلك (1) المعنى بذلك اللفظ ممَّا يجوز ويصلح نسبتها إلى الله ورسوله، لا سيما والمتأوِّل يخبر (2) عن مراد الله ورسوله، فإن تأويل كلام (3) المتكلم بما يوافق ظاهرَه أو يخالفه (4) إنما هو بيان لمراده. فإذا عُلم أن المتكلم لم يُرِدْ هذا (5) المعنى، وأنه يمتنع أن يريده، وأن في صفات كماله ونُعوت جلاله ما يمنع من إرادته، وأنه يستحيل عليه من وجوهٍ كثيرةٍ أن يريده = استحال الحُكمُ عليه بإرادته. فهذا أصلٌ عظيمٌ يجب معرفته، ومَن (6) أحاط به معرفةً تبيَّنَ له أن كثيرًا ممَّا (7) _________ (1) من قوله: «ذلك غير مخالف» إلى هنا سقط من «ح». (2) «ب»: «مخبر». (3) بعده في «ح» لفظ الجلالة. (4) من هنا وقع في «ب» سقطٌ كبير حتى أثناء الفصل الحادي عشر، وسنُنبِّه على انتهائه في محله بإذن الله تعالى. (5) «ح»: «لهذا». والمثبت من «م». (6) «ح»: «وممن». والمثبت من «م». (7) «ح»: «ما». والمثبت من «م».
(1/107)
يدَّعِيه المحرِّفون من التأويلات ممَّا يُعلَم قطعًا أن المتكلم لا يصلح أن يريده بذلك الكلام، وإن كان ذلك ممَّا يُسوِّغ لبعض الشعراء وكُتَّاب الإنشاء واللغة من القاصدين التعمية لغرض من الأغراض. فلا بد أن يكون المعنى الذي تأوله المتأوِّل ممَّا (1) يسوغ استعمال اللفظ فيه في تلك اللغة التي وقع بها التخاطب، وأن يكون ذلك المعنى ممَّا يجوز نسبتُه إلى الله، وألَّا يعود على شيءٍ من صفات كماله بالإبطال والتعطيل، وأن يكون معه قرائنُ تحتفُّ به، تُبَيِّن (2) أنه مرادٌ باللفظ، وإلَّا كانت دعوى إرادته كذبًا على المتكلم. ونحن نذكر لذلك أمثلة (3): المثال الأول: تأويل قوله تعالى: {خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اَسْتَوَى عَلَى اَلْعَرْشِ} [الأعراف: 53] بأنه أقبل على خَلْقه، فهذا إنشاء منهم لوضع لفظ «استوى» على: أقبل على خَلْقِه. وهذا لم يقله أحدٌ من أهل اللغة، فإنهم ذكروا معانيَ «استوى»، ولم يذكر أحدٌ منهم أصلًا في معانيه الإقبال على الخلق. فهذه كتب اللغة طَبَقُ الأرضِ (4) هل تجدون أحدًا منهم يحكي ذلك عن (5) اللغة؟ وأيضًا فإنَّ استواء الشيء والاستواء إليه وعليه يستلزم وجودَه، ووجودَ ما نسبتَ إليه الاستواء بـ «إلى» أو بـ «على»، فلا يقال: استوى إلى أمرٍ معدومٍ، ولا استوى عليه. فهذا التأويل إنشاءٌ _________ (1) «ح»: «ما». والمثبت من «م». (2) «ح»: «بين». والمثبت من «م». (3) لم يذكر هنا غير مثال واحد فقط. (4) يعني: كثرتها وانتشارها. (5) «ح»: «على». والمثبت من «م».
(1/108)
محضٌ لا إخبارٌ صادقٌ عن استعمال أهل اللغة. وكذلك تأويلهم الاستواءَ بالاستيلاء؛ فإن هذا لا تعرفه العرب من لغاتها، ولم يقله أحدٌ من أئمة اللغة. وقد صرَّح أئمةُ اللغة كابن الأعرابي وغيره بأنه لا يُعرَف في اللغة. ولو احتمل ذلك لم يحتمله هذا التركيب؛ فإن استيلاءه سبحانه وغلبته للعرش لم يتأخر عن خلق السماوات والأرض، والعرشُ مخلوقٌ قبل خلْقِها بأكثرَ من خمسين ألف سنةٍ، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق فيما صحَّ عنه (1). وبطلان هذا التأويل من أربعين وجهًا، سنذكرها في موضعها في هذا الكتاب (2) إن شاء الله. والمقصود ذِكر الوظائف التي على المتأوِّل، فعليه أن يُبيِّنَ احتمال اللفظ للمعنى الذي ذَكَره أولًا. ويُبيِّن تعيين ذلك المعنى ثانيًا؛ فإنه إذا أُخرج عن حقيقته قد يكون له معانٍ، فتعيين ذلك المعنى يحتاج إلى دليل. الثالث: إقامة الدليل الصارِف للفظ عن حقيقته وظاهره [ق 12 أ]، فإن دليل المُدَّعِي للحقيقة والظاهر قائمٌ، فلا يجوز العدول عنه إلَّا بدليلٍ صارفٍ يكون أقوى منه. الرابع: الجواب عن المعارض، فإن مُدَّعي الحقيقة قد أقام الدليل العقلي والسمعي على إرادة الحقيقة: _________ (1) رواه مسلم، وتقدم تخريجه (ص 34). (2) للأسف هو في الجزء المفقود من الكتاب، ينظر «مختصر الصواعق» للموصلي (3/ 888 - 945).
(1/109)
أمَّا السمعي فلا يمكنك المكابرة أنه معه. وأمَّا العقلي فمن وجهين: عام وخاص. فالعام: الدليل الدال على كمال عِلم المتكلم وكمال بيانه وكمال نُصحه. والدليل العقلي على ذلك أقوى من الشُّبَه الخيالية التي يستدل بها النفاةُ بكثيرٍ. فإن جاز مخالفة هذا الدليل القاطع فمخالفةُ تلك الشُّبَه الخيالية أولى بالجواز. وإن لم تَجُزْ مخالفةُ تلك الشُّبَه فامتناع مخالفة الدليل القاطع أولى. وأمَّا الخاص فإنَّ كل صفةٍ وصف الله بها نفسَه ووصفه بها رسولُه فهي صفة كمال قطعًا؛ فلا يجوز تعطيل صفات كماله وتأويلها بما يُبطِل حقائقها. فالدليل العقلي الذي دلَّ على ثبوت الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر دلَّ نظيرُه على ثبوت الحكمة والرحمة والرضى والغضب والفرح والضحك. والذي دلَّ على أنه فاعِلٌ بمشيئته واختياره دلَّ على قيام أفعاله به، وذلك عين الكمال المقدس. وكلُّ صفة دلَّ عليها القرآن والسُّنَّة فهي صفة كمالٍ، والعقل جازمٌ بإثبات صفات الكمال للربِّ سبحانه، ويمتنع أن يصف نفسه أو يصفه رسولُه بصفةٍ توهم نقصًا. وهذا الدليل أيضًا أقوى من كل شبهةٍ للنفاة. يوضحه أنَّ أدلةَ مُبايَنةِ الربِّ لخَلْقِه وعلوِّه على جميع مخلوقاته أدلةٌ عقلية (1) فطرية تُوجِب العلم الضروري بمدلولها. وأمَّا السمعية فتقارب ألف دليلٍ، فعلى المتأوِّل أن يُجيب عن ذلك كله، وهيهات له بجوابٍ صحيحٍ عن بعض ذلك! فنحن نطالبه بجوابٍ صحيحٍ عن دليلٍ واحدٍ، وهو أنَّ الرَّبَّ تعالى إمَّا أن يكون له وجودٌ خارجي عن _________ (1) من قوله «الرب» إلى هنا سقط من «ح»، وأثبته من «م».
(1/110)
الذهن ثابت في الأعيان أو لا، فإن لم يكن له وجودٌ خارجي كان خيالًا قائمًا بالذهن لا حقيقةَ له. وهذا حقيقة قول المُعطِّلة وإن تستَّروا بزخرفٍ من القول. وإن كان وجوده خارج الذهن فهو مُبايِن له، إذ هو منفصل عنه، إذ لو كان قائمًا به لَكان عَرَضًا من أعراضه، وحينئذٍ فإما أن يكون هو هذا العالَمَ أو غيره، فإن كان هذا العالَم فهو تصريح بقول أصحاب وحدة الوجود، وأنه ليس لهذا العالَمِ ربٌّ مُبايِنٌ له منفصلٌ عنه. وهذا أَكفرُ أقوال أهل الأرض. وإن كان غيره فإمَّا أن يكون قائمًا بنفسه أو قائمًا بالعالَم، فإن كان قائمًا بالعالَم فهو جزءٌ من أجزائه، أو صفة من صفاته، وليس هذا بقيُّوم السماوات والأرض. وإن كان قائمًا بنفسه ـ وقد عُلم أن العالَم قائم بنفسه ـ فذاتان قائمتان بأنفسهما ليست إحداهما داخلةً في الأخرى، ولا خارجةً عنها، ولا متصلةً بها، ولا منفصلةً عنها، ولا مُحايِثة ولا مُبايِنة، ولا فوقها ولا تحتها، ولا خلفها ولا أمامها، ولا عن يمينها ولا عن شمالها = كلامٌ له خبءٌ لا يخفى على عاقلٍ منصفٍ، البديهة (1) الضرورية حاكمة بامتناع هذا واستحالة تصوُّره، فضلًا عن التصديق به. قالوا: فنحن نطالبكم بجوابٍ صحيحٍ عن هذا الدليل الواحد من جملة ألف دليل، ونعلم قبل المطالبة أنه لو اجتمع كلُّ جهميٍّ على وجه الأرض لَما أجابوا عنه بغير المكابرة والتشنيع على أهل الإثبات بالتجسيم والسبِّ (2)، وهذه وظيفة كل مبطِل قامت عليه حُجةُ الله. فدعوا (3) الشناعة _________ (1) في «م»: «والبديهة». (2) «ح»: «والتفسير والسبب». والمثبت من «م». (3) «ح»: «قد عوام». ولعل المثبت هو الصواب.
(1/111)
بالفِرْية والكذب والاختلاق (1)، هل يمكنكم الخروج من دائرة المعطِّلين الذين قالوا: لو كان للعالَم صانعٌ قائمٌ (2) بنفسه لَكان إمَّا داخلًا فيه أو خارجًا عنه، وإمَّا متصلًا أو منفصلًا عنه، وإمَّا مُحايِثًا له أو مُبايِنًا له، وإمَّا فوقه أو تحته، أو عن يمينه أو عن شماله، أو خلفه أو أمامه، فحيث لم يَثبُت له شيءٌ من ذلك استحالَ أن يكون مُغايِرًا للعالَم قائمًا بنفسه. قالوا: وهذه العقول والفِطَر حاضرة، إذا عُرِض عليها ذلك وجدتَه من باب الجمع بين النقيضين. فدعونا من إخراج نصوص الوحي عن (3) حقائقها، ودعوى أنها مجازات لا حقائقَ لها، لا تفيد يقينًا، ولا يُستفاد منها علمٌ بما يجب لله ويمتنع عليه البتةَ؛ إذ هي أدلة لفظية، وظواهر غير مفيدة لليقين (4)، وأجيبوا (5) هؤلاء المعطِّلة وأولئك المجسِّمة بزعمكم، وإلَّا فَلْيستحْيِ مِن مراجمة (6) الناس بالأحجار مَن سقفُ بيتِه من الزُّجاج. * * * * * _________ (1) «ح»: «والاختلاف». (2) «ح»: «صانعًا قائمًا». (3) «ح»: «من». (4) «ح»: «للتعيين». والمثبت هو الصواب، وقد مر على الصواب مرارًا. (5) «ح»: «أحيسوا». والمثبت هو الصواب. (6) «ح»: «مزاحمة» بالزاي والحاء، وهو تصحيف ما أثبت.
(1/112)
الفصل العاشر (1) في أن التأويل شرٌّ من التعطيل
فإنه (2) يتضمن التشبيه والتعطيل والتلاعب بالنصوص وإساءة الظن بها فإن المُعطِّل والمؤوِّل قد اشتركا في نفي حقائق الأسماء والصِّفات، وامتاز المُؤوِّل بتلاعبه بالنصوص وانتهاكه لحُرمتها وإساءة الظن بها، ونسبة قائلها إلى التكلم بما ظاهرُه الضلال والإضلال، فجمعوا بين أربعة محاذير: اعتقادهم أن (3) ظاهر كلام الله ورسوله المُحال الباطل، ففهموا التشبيه أولًا. ثم انتقلوا عنه إلى المحذور الثاني: وهو التعطيل، فعطلوا حقائقها بناءً منهم على ذلك الفهم الذي يليق بهم، ولا يليق بالرَّبِّ جل جلاله. المحذور الثالث: نسبة المتكلِّم، الكاملِ العلمِ، الكاملِ البيانِ، التامِّ النصحِ إلى ضد البيان والهدى والإرشاد [ق 12 ب]. وإن المتحيِّرين (4) المتهوِّكين أجادوا العبارة في هذا الباب، وعبَّرُوا بعبارةٍ لا تُوهِم من الباطل ما أوهمتْه عبارة المتكلم بتلك النصوص، ولا ريب عند كل عاقلٍ أن ذلك يتضمن أنهم كانوا أعلمَ منه أو أفصحَ أو أنصحَ للناس. _________ (1) «ح»: «التاسع». والمثبت من الفهرس المتقدم في مقدمة الكتاب. (2) «فإنه» ليس في «ح»، ومثبت من «م». (3) «ح»: «إلى». والمثبت من «م». (4) «ح»: «المبحرين». والمثبت من «م».
(1/113)
المحذور الرابع: تلاعُبهم بالنصوص وانتهاك حرماتها، فلو رأيتَها (1) وهم يلوكونها بأفواههم، وقد حلَّت بها المَثُلاتُ، وتلاعَبَ بها أمواج (2) التأويلات، وتقاذفت (3) بها رياحُ الآراء، واحتوشتها رماحُ الأهواء، ونادى عليها أهل التأويل في سُوق مَن يزيد، فبذَلَ كل واحدٍ في ثمنها من التأويلات ما يريد. فلو شاهدتَها بينهم وقد تخطَّفها أيدي الاحتمالات، ثم قُيِّدَت بعدما كانت مطلَقةً بأنواع الإشكالات، وعُزِلَت عن سلطنة اليقين، وجُعِلَت تحت حُكم تأويل الجاهلين! هذا وطالما نُصِبَت لها حبائلُ الإلحاد (4)، وبقيت عرضةً للمطاعن (5) والإفساد، وقعدَ النُّفاةُ على صراطها المستقيم بالدفع في صدورها والأعجاز، وقالوا: لا طريق لك علينا، وإن كان لا بد فعلى سبيل المجاز! فنحن أهل المعقولات وأصحاب البراهين، وأنت أدلة لفظية وظواهر سمعية لا تفيد العلم ولا اليقين. فسندُك (6) آحادٌ وهو عرضة للطعن في الناقلين، وإن صحَّ وتواتَرَ ففَهْم (7) مراد المتكلم منه موقوفٌ على انتفاء عشرة أشياء (8)، _________ (1) «ح»: «رأينا». والمثبت من «م». (2) «ح»: «الأمواج». والمثبت من «م». (3) «ح»: «وتعاد فيه». (4) «ح»: «الاتحاد». ولعل المثبت هو الصواب. (5) «ح»: «وعرضة ولمطاعن». (6) «ح»: «فستذكر». والمثبت من «م». (7) «ح»: «فهم». والمثبت من «م». (8) «أشياء» سقط من «ح». وأثبته من «م». وسيأتي بيان المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ لهذه الأمور العشرة مفصَّلةً وردها بأحسن بيان.
(1/114)
لا سبيل إلى العلم بانتفائها عند الناظرين والباحثين. فلا إله إلَّا الله والله أكبر، كم هدمت بهذه المعاول من معاقل الإيمان، وثلمت بها حصونُ حقائق السُّنَّة والقرآن! وكم أطلقت في نصوص الوحي من لسان كل جاهلٍ أخرق ومنافقٍ أرعن، وطرَّقت لأعداء الدين الطريق، وفتحت الباب لكل (1) مبتدعٍ وزنديقٍ! ومَن نظَرَ في التأويلات المخالِفة لحقائق النصوص رأى من ذلك ما يُضحِك عجبًا، ويُبكِي حزنًا، ويثير حَمِيةً للنصوص وغضبًا، قد أعاد عَذْبَ النصوص مِلْحًا أُجاجًا، وخرجت الناسُ من الهدى والعلم أفواجًا، فتحيَّزت كل طائفة إلى طاغوتها، وتصادمت تصادُمَ النصارى في شأن ناسوتها ولاهوتها. ثم تمالَأَ الكل على غزو جند الرحمن، ومعاداة حزب السُّنَّة والقرآن، فتداعَوْا إلى حربهم تداعِيَ الأَكَلة إلى قصعتها، وقالوا: نحن وإن كنا مختلفين (2) فإنا على محاربة هذا الجند متفقون، فمِيلُوا بنا عليهم ميلةً واحدة، حتى تعود دعوتهم باطلة وكلمتهم خامدة. وغرَّ المخدوعين كثرتُهم التي ما زادتهم عند الله ورسوله وحزبه إلَّا قلةً، وقواعدهم التي ما زادتهم إلَّا ضلالًا وبُعدًا عن الملة. وظنوا أنهم بجموعهم المعلولة يملؤون قلوب أهل السُّنَّة إرهابًا منهم وتعظيمًا، {وَلَمَّا رَأَى اَلْمُؤْمِنُونَ اَلْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اَللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اَللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22]. وأنت إذا تأملتَ تأويلات القرامطة والملاحدة والفلاسفة والرافضة _________ (1) «ح»: «فكل». والمثبت هو الصواب. (2) «ح»: «محلقين». والمثبت هو الصواب.
(1/115)
والقدرية والجهمية، ومَن سلك سبيل هؤلاء من المقلِّدين لهم في الحُكم والدليل، ترى الإخبار بمضمونها عن الله ورسوله لا يقصر عن الإخبار عنه بالأحاديث الموضوعة المصنوعة، التي هي ممَّا عملته أيدي الوضَّاعين، وصاغته ألْسِنة الكذابين. فهؤلاء اختلقوا عليه ألفاظًا وضعوها، وهؤلاء اختلقوا في كلامه معانيَ ابتدعوها. فيا محنة الكتاب والسُّنَّة بين الفريقين! ويا نازلة نزلت بالإسلام من الطائفتين؟ فهما عَدوانِ للإسلام كائدانِ، وعن الصراط المستقيم ناكبان، وعن قصد السبيل جائران. فلو رأيتَ ما يصرف إليه المحرِّفون أحسن الكلام وأبينه وأفصحه وأحقه بكل هدًى وبيانٍ وعلم من المعاني الباطلة والتأويلات الفاسدة، لَكدتَ تقضي من ذلك عجبًا، وتتخذ في بطن الأرض سَرَبًا! فتارةً تعجب، وتارةً تغضب، وتارةً تبكي، وتارةً تضحك، وتارة تتوجع لِمَا نزل بالإسلام، وحلَّ بساحة الوحي ممَّن هم أضل مِن الأنعام. فكشفُ عورات هؤلاء وبيانُ فضائحهم وفساد قواعدهم من أفضل الجهاد في سبيل الله. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لحسان بن ثابت: «إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ مَعَكَ مَا دُمْتَ تُنَافِحُ عَنْ رَسُولِهِ» (1). وقال: «اهْجُهُمْ ـ أَوْ هَاجِهِمْ ـ وَجِبْرِيلُ مَعَكَ» (2). وقال: «اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ القُدُسِ مَا دَامَ يُنَافِحُ عَنْ رَسُولِكَ» (3). _________ (1) أخرجه مسلم (2490) عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -. (2) أخرجه البخاري (3213) ومسلم (2486) عن البراء بن عازب - رضي الله عنه -. (3) أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (4/ 37) عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -، وأصل الحديث رواه البخاري (453) ومسلم (2485) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
(1/116)
وقال عن هجائه لهم: «والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ فِيهِمْ مِنَ النَّبْلِ» (1). وكيف لا يكون بيانُ ذلك من الجهاد في سبيل الله، وأكثرُ هذه التأويلات المخالِفة للسلف الصالح ـ من الصحابة والتابعين وأهل الحديث قاطبةً وأئمة الإسلام الذين لهم في الأمة لسان صدق ـ يتضمن مِن عبثِ المتكلم بالنصوص وسوء الظن بها (2) من جنس ما تضمنه طعنُ الذين يلمزون الرسول ودينه وأهلِ النفاق والإلحاد؛ لِمَا فيه من دعوى أن ظاهر كلامه إفكٌ ومحال، وكفرٌ وضلال، وتشبيهٌ وتمثيل أو تخييل. ثم صرفها إلى معانٍ يُعلَم أن إرادتها بتلك الألفاظ من نوع [ق 13 أ] الأحاجي والألغاز، لا يصدر ممَّن قصده نصحٌ وبيان. فالمدافعةُ عن كلام الله ورسوله والذبُّ عنه من أفضل الأعمال وأحبِّها إلى الله وأنفعها للعبد. ومَن رزقه الله بصيرةً نافذةً عَلِمَ سخافةَ عقول هؤلاء المحرِّفين، وأنهم من أهل الضلال المبين، وأنهم إخوان الذين ذمَّهم اللهُ بأنهم يحرِّفون الكلم عن مواضعه، الذين لا يفقهون ولا يتدبرون القول، وشبَّههم بالحُمُر المستنفِرة (3) _________ (1) أخرجه النسائي (2893) وابن خزيمة (2680) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك لعبد الله بن رواحة، وأصل الحديث رواه مسلم (2490) عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -، أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «اهجُوا قريشًا، فإنه أشدُّ عليها مِن رَشْقٍ بالنَّبْلِ». فأرسل إلى ابن رواحة فقال: «اهجُهُمْ». فهجاهم، فلم يَرْضَ، فأرسل إلى كعب بن مالك، ثم أرسل إلى حسان بن ثابت ... الحديث. (2) «ح»: «به». والمثبت هو الصواب. (3) يعني: قوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ اِلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 49 - 51].
(1/117)
تارةً، وبالحمار الذي يحمل أسفارًا (1). ومَنْ قَبِلَ التأويلاتِ المُفتراة على الله ورسوله، التي (2) هي تحريفٌ لكلام الله ورسوله عن مواضعه، فهو من جنس الذين قَبِلوا قرآن مسيلِمة المختلَق المفترَى، وقد زعم أنه شريكٌ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. رئيسًا (3) وكبيرًا مطاعًا يجعله شريكًا له في التصديق والطاعة والقبول إن لم يقدِّمه عليه، لا سيما الغالية من الجهمية والباطنية والرافضة والاتحادية، فإن عندهم من كلام ساداتهم وكبرائهم ما يضاهون به كلامَ الله ورسوله. وكثيرًا ما يقدِّمونه عليه عِلمًا وعملًا، ويَدَّعون فيه من التحقيق والتدقيق والعلم والعرفان ما لا يثبتون مثلَه للسُنَّة والقرآن. ومَن تلبَّس منهم بالإسلام يقول: كلامنا يُوصِل إلى الله، والقرآن وكلام الرسول يوصل إلى الجنة. وكلامنا للخواص، والقرآن للعوام. وكثيرٌ منهم يقول: كلامنا برهانٌ، وطريق القرآن خطابة. ومنهم من يقول: القرآن والسُّنَّة طريق السلامة، وكلامنا طريق العلم والتحقيق. وكثيرٌ منهم يقول: لم يكن الصحابة مَعنيِّين بهذا الشأن، بل كانوا قومًا أُمِّيين، فتحوا البلاد وأقاموا الدِّين بالسيف، وسلَّموا إلينا النصوص نتصرف _________ (1) يعني: قوله تعالى: {مَثَلُ اُلَّذِينَ حُمِّلُوا اَلتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ اِلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5]. (2) «ح»: «الذي». وهو خطأ واضح. (3) سقط قبله شيء من «ح»، نحو: «وكذا كل مَنِ اتخذ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -».
(1/118)
فيها ونستنبط منها، فلهم علينا مَزيَّةُ الجهاد والزهد والورَع، ولنا عليهم (1) مزيةُ العلم بالحقائق والتأويل. وإن لم يعلموا هذا من قلوبهم ـ والله يشهد به عليهم ويعلمه كامنًا في صدورهم ـ يبدو على فَلتاتِ لسانِ مَن لم يصرِّح به منهم. ومِن محققي هؤلاء مَن يدعي أن الرُّسل يستفيدون العلمَ بالله من طريقهم، ويتلقَّوْنه من مِشْكَاتهم، ولكن يخاطبون الناس على قدر عقولهم، فلم يصرحوا لهم بالحق ولم ينصحوا لهم به. وكلٌّ من هؤلاء قد نصب دون الله ورسوله طاغوتًا يُعوِّل عليه، ويدعو عند التحاكُم إليه. فكلامه عنده محكمٌ لا يسوغ تأويله ولا يخالَفُ ظاهره، وكلام الله ورسوله إذا لم يوافقه فهو مجملٌ متشابهٌ يجب تأويله أو يسوغ. فضابط التأويل عندهم ما خالف تلك الطواغيت. ومَن تدبَّر هذا الموضع انتفع به غاية النفع، وتخلَّص به مِن أشراك الضلال. فإن الذين يقرُّون برسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيهم نوع إيمانٍ به، منهم مَن يجعل له شريكًا في الطاعة، كما كان المنافقون يطيعون عبد الله بن أُبَيٍّ رأس المنافقين وكبيرهم (2)، وكان كثيرٌ ممَّن في قلبه نوع مرضٍ ـ وإن لم يكن منافقًا خالصًا ـ يطيعه في كثير من الأمور ويَقبَل منه، كما قال تعالى: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47] والمعنى على أصحِّ القولين: وفيكم مستجيبون لهم قابلون منهم (3). كما قال الله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} [المائدة: 43] أي: _________ (1) «ح»: «لهم». (2) «ح»: «وكيدهم». (3) وهو قول قتادة وابن إسحاق، رواه عنهما الطبري في «تفسيره» (11/ 486) والثعلبي في «الكشف والبيان» (13/ 397). والقول الآخر هو قول مجاهد وابن زيد، رواه عنهما الطبري في «تفسيره» (11/ 486) والثعلبي في «الكشف والبيان» (13/ 396).
(1/119)
قابلون له. ومَن حملَ (1) الآية على العيون والجواسيس فقوله ضعيفٌ لوجوهٍ كثيرةٍ، ليس هذا موضعها. وكما كان أصحاب مسيلِمة يقولون: إنه شريكه في الطاعة، وإنه يُقبَل منه كما يُقبَل من النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكان عبد الله بن أُبَيٍّ يقدم سياسته ورأيه على ما جاء به أحيانًا، ويغضب إذا لم يسمع منه، ويغضب له قومه. وكذلك رئيس الخوارج السَّجَّاد العَبَّاد الذي بين عينيه أثر السجود، قدَّم عقله وزايَدَ على ما جاء به في قسمة المال، وزعم أنه لم يعدل فيها (2). وكذلك غُلاة الرافضة قدَّموا عقولهم وآراءهم على ما جاء به، وزعموا أنه لم يعدل حيث أمَرَ أبا بكر أن يصلي بالناس (3) وابنُ عمِّه حاضر، ولم يعدل حيث أثنى على أبي بكر وعمر وعظَّمهما، فأوجبَ (4) أن الأمة بعده وَلَّوهما دون ابن عمِّه. وكذلك الجهمية، قدَّموا عقولهم وآراءهم على ما جاء به، وزعموا أنه لم يعدل في العبارة، حيث عدل عن العبارة التي عبَّرُوا هم بها عن الله سبحانه، وعبَّر بما أوقع الأمةَ في اعتقاد التشبيه والتجسيم، وحمَّلَهم كلفةَ التأويل وجشَّمهم مشقتَه، وأوقع الخلافَ بين الأُمة بتلك العبارات التي عباراتهم _________ (1) «ح»: «حلى». ولعل المثبت هو الصواب. (2) أخرجه البخاري (3150) ومسلم (1062) عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. (3) أخرجه البخاري (664) ومسلم (418) عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -. (4) «ح»: «أوجب».
(1/120)
بزعمهم أعظمُ تنزيهًا لله وأقل إيهامًا للمحال منها. فهؤلاء وأمثالهم هم السَّلف لكل خلفٍ يدَّعِي أن لغير الله ورسوله معه حُكمًا في مضمون الرسالة، إمَّا في العلميات وإمَّا في العمليات، وإمَّا في الإرادات والأحوال، وإمَّا في السياسات وأحكام الأموال. فيُطاع هذا الغير كما يُطاع الرسول، بل الله يعلم أن كثيرًا منهم أو أكثرَهم قد قدَّموا طاعته على طاعة الرسول. فكل هؤلاء فيهم شبهٌ من أتباع مُسيلِمة وابن أُبَيٍّ وذي الخُويصِرة، فلكل خلفٍ سلفٌ، ولكل تابعٍ متبوعٌ، ولكل مرؤوسٍ رئيسٌ، فمَن قرنَ بالرسالة رئاسةً مطاعةً أو سياسةً حاكمةً، بحيث يجعل طاعتها كطاعة الرسالة، ففيهم شبهٌ من أتباع عبد الله بن أُبَي، ومَنِ اعترض على الكتاب والسُّنَّة بنوع تأويلٍ من قياسٍ أو ذَوقٍ أو عقلٍ أو حالٍ ففيه شبهٌ من الخوارج أتباع ذي الخويصِرة، ومَن نصبَ طاغوتًا دون الله ورسوله [ق 13 ب] يدعو ويحاكِم إليه ففيه شبهٌ من أتباع مسيلِمة. وقد يكون في هؤلاء مَن هو شرٌّ من أولئك، كما كان فيهم من هو خيرٌ منهم أو مثلهم. وهؤلاء كلُّهم قد أعقبهم هذا الصنيعُ نفاقًا في قلوبهم إلى يوم يلقَوْن ربهم، وإنما تبيَّنُ لهم حقيقته إذا بُليت السرائر ومُدَّت الضمائر، وبُعثِرَ ما في القبور، وحُصِّل ما في الصدور، ولا يستقر للعبد قدمٌ في الإسلام حتى يعقد قلبه وسرَّه على أن الدِّين كله لله، [وأن الهدى هدى الله، وأن الحق دائرٌ مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وجودًا وعَدَمًا، وأنه لا مطاع] (1) سواه، ولا متبوع غيره، وأن كلام غيره يُعرَض على كلامه، فإن وافقه قَبِلْناه، لا لأنه قاله، بل لأنه أخبر به عن الله ورسوله؛ وإن خالَفَه ردَدْناه واطَّرَحْناه. ولا يُعرَض كلامه ـ _________ (1) سقط من «ح»، وأثبته من «م».
(1/121)
صلوات الله وسلامه عليه ـ على آراء القيَّاسين، ولا عقول الفلاسفة والمتكلمين، ولا على سياسة الولاة الحاكمين والسلاطين، ولا أذواق المتزهِّدين والمتعبِّدين؛ بل تُعرَض هذه كلها على ما جاء به عَرْضَ الدراهم المجهولِ حاملُها على أخبرِ الناقدين، فما حَكمَ بصحته منها فهو المقبول، وما حَكمَ بردِّه فهو المردود، والله الموفِّق للصواب. * * * * *
(1/122)
الفصل الحادي عشر (1) في أن قصْدَ المتكلم من المخاطب حملَ كلامه على خلاف ظاهره وحقيقته ينافي قصدَ البيان والإرشاد والهدى، وأن القصدين يتنافيان (2)، وأنَّ تركَه بدون ذلك الخطاب خيرٌ له وأقرب إلى الهدى لمَّا كان المقصود بالخطاب دلالة السَّامع وإفهامه مرادَ المتكلم بكلامه، وتبيينه له ما في نفسه من المعاني ودلالته عليها بأقرب الطرق، كان ذلك موقوفًا (3) على أمرين: بيان المتكلم، وتمكُّن السامع من الفهم.
فإن لم يحصل البيانُ من المتكلم، أو حصل ولم يتمكن السامع من الفهم، لم يحصل مراد المتكلم. فإذا بيَّنَ المتكلم مرادَه بالألفاظ الدالة على مراده، ولم يعلم السامع معانيَ تلك الألفاظ، لم يحصل له البيان. فلا بد مِن تمكُّن السامع من الفهم، وحصول الإفهام من المتكلم. فحينئذٍ لو أراد اللهُ ورسوله من كلامه خلافَ حقيقته وظاهره الذي يفهمه المخاطب لَكان قد كلَّفه أن يفهم مراده بما لا يدل عليه، بل بما يدل على نقيض مراده، وأراد منه فَهْمَ النفي بما يدل على غاية الإثبات، وفَهْمَ الشيء بما يدل على ضدِّه، وأراد منه أن يفهم أنه ليس فوق العرش إلهٌ يُعبَد، ولا إله يُصَلَّى له (4) ويُسجَد، وأنه لا داخلَ العالَم ولا خارجَه ولا فوقه _________ (1) في «ح»: «العاشر». والمثبت من الفهرس المتقدم في مقدمة الكتاب. (2) «ح»: «ينافيان». والمثبت من «م». (3) «ح»: «مرفوعًا». والمثبت من «م». (4) «ح»: «إليه».
(1/123)
ولا تحته ولا خلفه ولا أمامه، بقوله: {قُلْ هُوَ اَللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 9]. وأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - إفهامَ أُمته هذا المعنى بقوله: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بن مَتَّى» (1). وأراد إفهامَ كَوْنه خَلَقَ آدم بقدرته ومشيئته بقوله: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 74]. وأراد إفهام تخريب السماوات والأرض وإعادتها إلى العدم بقوله: «يَقْبِضُ اللَّهُ سَمَاوَاتِهِ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، وَالْأَرْضَ بِالْيَدِ الْأُخْرَى، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ» (2). وأراد إفهام معنى: مَنْ ربُّك؟ ومَنْ تعبد؟ بقوله: «أَيْنَ اللهُ؟» (3) وأشار بإصبعه إلى السماء مستشهِدًا بربه (4)، وليس هناك ربٌّ ولا إلهٌ، وإنما أراد إفهام السامعين أن الله قد سمع قولَه وقولهم، فأراد بالإشارة بإصبعه بيان كَوْنه قد سمع قولهم. _________ (1) أخرج البخاري (3215) ومسلم (2376) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: «لا يَنبغِي لِعبدٍ أن يقولَ: أنا خيرٌ مِن يُونُسَ بن مَتَّى». ولم نقف عليه باللفظ الذي ذكره المصنِّف - رحمه الله - إلَّا في «الشفاء» للقاضي عياض (1/ 265) دون سند، وتبعه غير واحد، وقال السيوطي في «مناهل الصفا» (ص 75): «لم أقف عليه بهذا اللفظ». وقال السخاوي في «الأجوبة المرضية» (2/ 429) نحوه. (2) تقدم تخريجه. (3) أخرجه مسلم (537) عن معاوية بن الحكم السلمي - رضي الله عنه -. (4) أخرجه مسلم (1218) عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - في حديث حجة الوداع الطويل.
(1/124)
وأمثال ذلك من التأويلات الباطلة: كقول بعضهم في معنى قوله: «عامَلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أهلَ خيبرَ على شَطرِ ما يخرج منها مِن ثمرٍ وزرعٍ» (1): إن معناه ضرَبَ عليهم الجزيةَ. وهذا كذبٌ على اللفظ، وكذبٌ على الرسول؛ فإنه ليس ذلك معنى اللفظ، وأهلُ خيبر لم يضرب عليهم الجزيةَ؛ لأنه صالَحَهم وفتحَها قبل نزول فرْضِ الجزية. وكتأويل بعضهم قولَه - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ» (2) أن المراد به الْتِقامُ الثدي من غير ارتضاع اللبن ودخوله إلى جوفه. إلى أضعافِ أضعافِ ذلك من التأويلات الباطلة التي يعلم السامعُ قطعًا أنها لم تُرَد بالخطاب بقصد المتكلم لها بتلك الألفاظ الدالة على نقيضها من كل وجهٍ لا يجامع (3) قصدَ البيان والدلالة (4). قال شيخ الإسلام (5): «إن كان الحقُّ فيما يقوله هؤلاء النُّفاة الذين لا يُوجد ما يقولونه في الكتاب والسُّنَّة، وكلام القرون الثلاثة المعظَّمة على سائر القرون، ولا في كلام أحدٍ من أئمة الإسلام المقتدَى بهم؛ بل ما في الكتاب والسُّنَّة وكلام السلف والأئمة يوجد دالًّا (6) على خلاف الحق عندهم، إمَّا نصًّا وإمَّا ظاهرًا، بل دالًّا عندهم على الكفر والضلال = لَزِمَ من _________ (1) أخرجه البخاري (2328) ومسلم (1551) عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -. (2) أخرجه مسلم (1450) عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -. (3) كذا في «ح»، والسياق غير بينٍ، فلعله قد سقط شيء. (4) «ح»: «والدالة». (5) لم أقف على هذا الكلام الرائع لشيخ الإسلام في كتبه التي تحت يدي. (6) «ح»: «وإلا».
(1/125)
ذلك لوازمُ باطلة: منها: أن يكون الله سبحانه قد أنزل في كتابه وسُنة نبيه من هذه الألفاظ ما يُضِلُّهم ظاهرُه ويُوقِعهم في التشبيه والتمثيل. ومنها: أن يكون قد ترك (1) بيانَ الحق والصواب لهم، ولم يفصح به، بل رمزَ إليه رمزًا وألغزه إلغازًا، لا يُفهم منه ذلك إلَّا بعد الجهد الجَهِيد. ومنها: أن يكون قد كلَّف عبادَه ألَّا يفهموا من تلك الألفاظ حقائقها وظواهرها، وكلَّفهم أن يفهموا منها ما لا تدل عليه، ولم يجعل معها قرينة تُفهِم ذلك. ومنها: أن يكون دائمًا متكلمًا في هذا الباب بما ظاهره خلاف الحق بأنواع متنوعة من الخطاب، تارةً بأنه استوى على عرشه، وتارةً بأنه فوق عباده، وتارةً بأنه العلِيُّ الأعلى، وتارةً بأن الملائكة تعرُجُ إليه، وتارةً بأن الأعمال الصالحة تُرفع إليه، وتارةً بأن الملائكة في نزولها من العلو إلى أسفلَ تنزل مِن عنده، وتارةً بأنه رفيع الدرجات، وتارةً بأنه في السماء، وتارةً بأنه الظاهر الذي ليس فوقه شيءٌ، وتارةً بأنه فوق [ق 14 أ] سماواته على عرشه، وتارةً بأن الكتاب نزل من عنده، وتارةً بأنه ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، وتارةً بأنه يُرى بالأبصار عيانًا يراه المؤمنون فوق رؤوسهم، إلى غير ذلك مِن تنوُّع الدلالات على ذلك، ولا يتكلم فيه بكلمةٍ واحدةٍ تُوافق ما يقوله النفاة، ولا يقول في مقامٍ واحدٍ قطُّ ما هو الصوابُ فيه لا نصًّا ولا ظاهرًا، ولا يُبَيِّنه (2). _________ (1) «ح»: «نزل». والمثبت من «م». (2) «ح»: «يبينوه». والمثبت من «م».
(1/126)
ومنها: أن يكون أفضلُ الأُمة وخير القرون قد أمسكوا مِن أولهم إلى آخرهم عن قول الحق في هذا النبأ (1) العظيم الذي هو من أهم أصول الإيمان، وذلك إمَّا جهلٌ ينافي العلمَ، وإمَّا كتمانٌ ينافي البيانَ، ولقد أساء الظن بخيار الأُمة مَن نسبَهم إلى ذلك. ومعلوم أنه إذا ازدوج التكلمُ بالباطل والسكوت عن بيان الحق تولَّدَ مِن بينهما جهل الحق وإضلال الخلق. ولهذا لمَّا اعتقد النفاة التعطيل صاروا يأتون من العبارات بما يدل على التعطيل والنفي نصًّا وظاهرًا، ولا يتكلمون بما يدل على حقيقة الإثبات لا نصًّا ولا ظاهرًا، وإذا وردَ عليهم من النصوص ما هو صريحٌ أو ظاهر في الإثبات حرَّفوه أنواعَ التحريفات، وطلبوا له مُستكرَه التأويلات. ومنها: أنهم التزموا لذلك تجهيلَ السَّلف، وأنهم كانوا أُمِّيين مُقبِلين على الزهد والعبادة والورع والتسبيح وقيام الليل، ولم تكن الحقائق من شأنهم. ومنها: أنَّ ترْكَ الناس من إنزال هذه النصوص كان أنفعَ لهم وأقربَ إلى الصواب، فإنهم ما استفادوا بنزولها غير التعرُّض للضلال، ولم يستفيدوا منها يقينًا ولا علمًا بما يجب لله ويمتنع عليه، إذ ذاك إنما يُستفاد من عقول الرجال وآرائها. فإن قيل: استفدنا منها الثوابَ على تلاوتها وانعقادَ الصلاة بها. قيل: هذا تابعٌ للمقصود بها بالقصد الأول، وهو الهدى والإرشاد والدلالة على إثبات حقائقها ومعانيها والإيمان بها؛ فإن القرآن لم ينزل _________ (1) «ح»: «الثنا». والمثبت من «م».
(1/127)
لمجرد التلاوة وانعقاد الصلاة عليه، بل أُنزل ليُتدبَّر ويُعقَل، ويُهتدى (1) به علمًا وعملًا، ويُبصِّر من العمى، ويُرشِد من الغي، ويُعلِّم من الجهل، ويَشفِي من العِيِّ (2)، ويهدي إلى صراط مستقيم. وهذا القصدُ ينافي قصدَ تحريفه وتأويله بالتأويلات الباطلة المستكرَهة، التي هي مِن جنس الألغاز والأحاجي، فلا يجتمع قصدُ الهدى والبيان وقصدُ ما يضاده أبدًا، وبالله التوفيق» (3). وممَّا (4) يُبَيِّنُ ذلك أنَّ الله تعالى وصف كتابَه بأوضح البيان وأحسن التفسير، فقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، وقال: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ اُلَّذِي اِخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64]. فأين بيانُ المختلَف فيه والهدى والرحمة في ألفاظٍ ظاهرها باطلٌ، والمراد منها يُطلب بأنواع التأويلات المستنكَرة المستكرَهة لها، التي (5) لا تُفهَم منها بل (6) يُفهَم منها ضدُّها. وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ اَلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]؟ فأين بيَّن (7) الرسولُ ما يقوله النُّفاة والمتأوِّلون؟ _________ (1) «ح»: «يهدى». والمثبت من «م». (2) «ح»: «الغي». والمثبت من «م». (3) آخر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية فيما يبدو. (4) «ح»: «وما». والمثبت من «م». (5) «ح»: «الذي». والمثبت من «م». (6) «تفهم منها بل» سقط من «ح». وأثبته من «م». (7) «ح»: «يبين». والمثبت من «م».
(1/128)
وقد قال تعالى: {وَاَللَّهُ يَقُولُ اُلْحَقَّ وَهْوَ يَهْدِي اِلسَّبِيلَ} [الأحزاب: 4]، فأخبر أنه يقول الحقَّ ويهدي السبيل بقوله، وعند النُّفاة إنما (1) حصلت الهداية بأبكار أفكارهم، ونتائج آرائهم وعقولهم. وقال تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 185]، وقال: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اَللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية: 5]. وعند النُّفاة المُخرِجين لنصوص الوحي عن إفادة اليقين إنَّما حصل (2) الإيمانُ بالحديث الذي أسَّسه الفلاسفة والجهمية والمعتزلة ونحوهم، فبه آمنوا وبه اهتدوا، وبه عرفوا الحقَّ من الباطل، وبه صحَّت عقولهم ومعارفهم. وقال تعالى (3): {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اِللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 81]. وأنت لا تجد الاختلاف في شيءٍ أكثرَ منه في آراء المتأولين وسوانح أفكارهم وزبالة أذهانهم (4)، التي يُسمونها قواطع عقلية وبراهين يقينية، وهي عند (5) التحقيق خيالاتٌ وهمية وقوادحُ فكرية، نبذوا بها القرآن والسُّنَّة وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، واتبعوا ما {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ اَلْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (113) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ اُلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا _________ (1) «ح»: «إذا». والمثبت من «م». (2) بعده في «ح»: «له». وليست في «م». (3) عند قوله تعالى {وَلَوْ} انتهى السقط الطويل الواقع في «ب»، الذي بدأ في أثناء الفصل التاسع. (4) «ح»: «رذالة أوهامهم». (5) «ب»: «عين».
(1/129)
مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ ( 114) أَفَغَيْرَ اَللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهْوَ اَلَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ اُلْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَاَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اُلْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنزَلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُمْتَرِينَ (115) وَتَمَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهْوَ اَلسَّمِيعُ اُلْعَلِيمُ (116) وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي اِلْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اِللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا اَلظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ( 117) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهْوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [الأنعام: 113 - 118]. * * * * *
(1/130)
الفصل الثاني (1) عشر في بيان أنه مع كمال عِلم المتكلم وفصاحته وبيانه ونصحه يمتنع عليه أن يريد بكلامه خلافَ ظاهره وحقيقته وعدمُ البيان في أهم الأمور وما تشتد الحاجة إلى بيانه
نكتفي من هذا الفصل بذِكْر مناظرةٍ جرَتْ بين جهميٍّ معطِّلٍ وسُنِّيٍّ مُثبِتٍ، حدثني بمضمونها شيخُنا عبد الله بن تيمية - رحمه الله -، أنه جمعَه وبعضَ الجهمية مجلسٌ (2)، فقال الشيخ: قد تطابقت نصوص الكتاب والسُّنَّة والآثار على إثبات الصِّفات [ق 14 ب] لله، وتنوعت دلالتها عليها أنواعًا تُوجِب العلم الضروري بثبوتها، وإرادة المتكلم اعتقادَ ما دلَّت عليه. والقرآن مملوءٌ مِن ذِكر الصِّفات، والسُّنَّة ناطقةٌ بمثل (3) ما نطق به القرآن، مقرِّرةٌ له مصدِّقةٌ له، مشتمِلة على زيادة في الإثبات. فتارةً بذكر الاسم المشتمِل على الصِّفة، كالسميع البصير العليم القدير العزيز الحكيم، وتارةً بذكر المصدر، وهو الوصف الذي اشتُقَّت منه تلك الصفة، كقوله: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 165]، وقوله: {إِنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلرَّزَّاقُ ذُو اُلْقُوَّةِ اِلْمَتِينُ} [الذاريات: 58]، وقوله: {إِنِّيَ اَصْطَفَيْتُكَ عَلَى اَلنَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144]، وقوله: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 81]. وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ _________ (1) «ح»: «الحادي». (2) في النسختين: «مجلسًا». وكذا في «م». (3) «ح»: «على».
(1/131)
سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» (1). وقوله في دعاء الاستخارة: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ» (2). وقوله: «أَسْأَلُكَ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ» (3). وقول عائشة: «الحمد لله الذي (4) وَسِعَ سمعُه الأصواتَ» (5). ونحوه. وتارةً يذكر (6) حُكم تلك الصفة، كقوله: {قَد سَّمِعَ اَللَّهُ} [المجادلة: 1] و {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 45]، وقوله: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ اَلْقَادِرُونَ} [المرسلات: 23]، وقوله: {عَلِمَ اَللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة: 186] ونظائر ذلك. ويُصرِّح في الفوقية بلفظها الخاص، وبلفظ العلوِّ والاستواء، وأنه في _________ (1) أخرجه مسلم (179) عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -. (2) أخرجه البخاري (6382) عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -. (3) أخرجه الإمام أحمد (18615) والنسائي (1305) وابن حبان (1971) والحاكم (1/ 524) عن عمار بن ياسر - رضي الله عنهما -، وقال الحاكم: «حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه». (4) «الذي» ليس في «ب». (5) علقه البخاري في «صحيحه» (9/ 117) ووصله الإمام أحمد (24832) والنسائي (3460) وابن ماجه (188) وصححه ابن حجر في «تغليق التعليق» (5/ 339). (6) «يذكر» سقط من «ح».
(1/132)
السماء، وأنه ذو المعارج، وأنه رفيع الدرجات، وأنه تعرُجُ إليه الملائكةُ وتنزل مِن عنده، وأنه ينزل إلى سماء الدنيا، وأن المؤمنين يرونه بأبصارهم عيانًا مِن فوقهم، إلى أضعاف أضعاف (1) ذلك، ممَّا لو جُمعت النصوصُ والآثار فيه لم تنقص عن نصوص الأحكام وآثارها. ومن أَبْيَنِ المحال وأوضح الضلال حملُ ذلك كله على خلاف حقيقته وظاهره، ودعوى المجاز فيه والاستعارة، وأن الحق في أقوال النُّفاة المعطِّلين، وأن تأويلاتهم هي المرادة من هذه النصوص؛ إذ يلزم من (2) ذلك أحدُ محاذيرَ ثلاثةٍ، لا بد منها أو من بعضها، وهي: القدحُ في علم المتكلم بها، أو في بيانه، أو في نُصحه. وتقرير ذلك أنه يقال: إمَّا أن يكون المتكلم بهذه النصوص عالمًا أن الحق في تأويلات النُّفاة المعطِّلين أو لا يعلم ذلك. فإن لم يعلم ذلك ـ والحقُّ فيها (3) ـ كان ذلك قدحًا (4) في علمه. وإن كان عالمًا أن الحق فيها فلا يخلو؛ إمَّا أن يكون قادرًا على التعبير بعباراتهم ـ التي هي تنزيهٌ لله بزعمهم عن التشبيه والتمثيل والتجسيم، وأنه لا يعرف اللهَ مَن لم ينزِّهه بها ـ أو (5) لا يكون قادرًا على تلك العبارات. فإن لم يكن قادرًا على التعبير بذلك لزم القدحُ في فصاحته، وكان ورثةُ الصابئة وأفراخ الفلاسفة وأوقاح المعتزلة _________ (1) «أضعاف» ليس في «ب». (2) «من» سقط من النسختين، وأثبته من «م». (3) «ب»: «فيهما». (4) في «ح»: «قد جاء». (5) «ح»: «إذ».
(1/133)
والجهمية وتلامذة الملاحدة أفصحَ منه وأحسنَ بيانًا وتعبيرًا عن الحق. وهذا ممَّا يعلم بطلانَه بالضرورة أولياؤه وأعداؤه، موافقوه ومخالفوه، فإن مخالفيه لم يشكُّوا في أنه أفصح الخلق وأقدرهم على حُسن التعبير بما يُطابق المعنى ويُخلِّصه من اللبس والإشكال. وإن كان قادرًا على ذلك، ولم يتكلم به، وتكلم دائمًا بخلافه وما يناقضه، كان ذلك قدحًا في نُصحه. وقد وصف الله رسله بكمال النُّصح والبيان، فقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 5]، وأخبر عن رسله بأنهم أنصحُ الناس لأُممهم. فمع النُّصح والبيان والمعرفة التامة كيف يكون مذهب النُّفاة المعطِّلة أصحاب التحريف هو الصوابَ، وقولُ أهل الإثبات أتباع القرآن والسُّنَّة باطلًا؟! هذا مضمون المناظرة. فقال له الجهمي: انزل بنا إلى الوطاءة (1). قلت له: ما أراد بذلك؟ قال: أراد أنك خاطبتني مِن فوقُ، وتجوَّهْتَ (2) عليَّ بجاهٍ لا يمكنني مقاومته، فانزل بنا إلى مباحث الفضلاء وقواعد النُّظار، أو نحو هذا من الكلام. فليتدبر الناصحُ لنفسه ـ الموقِن بأن الله (3) لا بد سائله عمَّا أجاب به _________ (1) لعله من الوطأة التي هي موضع القدم، أراد: لا تتعاظمْ عليَّ وانزِلْ إليَّ. ينظر «تاج العروس» (1/ 494 - 495). (2) أراد: تعاظمت. ينظر «تاج العروس» (36/ 371). (3) «ح»: «بالله».
(1/134)
رسوله ـ هذا المقامَ، ولْيتحيَّز بعدُ إلى (1) أين شاء، فلم يكن الله ليجمعَ بين النُّفاة المعطلين المحرِّفين وبين أنصاره وأنصار رسوله وكتابه (2) إلَّا جمعَ امتحانٍ وابتلاء، كما جمع بين الرُّسل وأعدائهم في هذه الدار. قلت: وقريبٌ من هذه المناظرة ما جرى لي مع بعض علماء أهل الكتاب (3)، فإنه جمعَني وإياه مجلسُ خلوةٍ، أفضى بنا (4) الكلام إلى أن جرى ذِكر مسبَّة النصارى لربِّ العالمين مسبةً ما سبَّه إيَّاها أحدٌ من البشر، فقلت له: وأنتم بإنكاركم نبوةَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - قد سببتم الربَّ تعالى أعظمَ مسبةً. قال: وكيف ذلك؟ قلت: لأنكم تزعمون أن محمدًا مَلِكٌ ظالمٌ، ليس برسولٍ صادقٍ، وأنه خرج يستعرض الناس بسيفه، فيستبيح أموالهم ونساءهم وذراريَّهم، ولا يقتصر على ذلك حتى يَكذِبَ على الله ويقولَ: الله أمرني بهذا وأباحه لي. ولم يأمره اللهُ ولا أباح له ذلك. ويقولَ: أُوحِيَ إليَّ. ولم يُوحَ إليه شيءٌ. وينسخَ شرائعَ الأنبياء مِن عنده، ويُبطِلَ منها ما يشاء، ويُبقِيَ منها ما يشاء، ويَنسُبَ ذلك كله إلى الله، ويقتلَ أولياءه وأتباعَ رُسله، ويسترقَّ نساءهم وذُرياتهم. فإمَّا أن يكون الله سبحانه رائيًا لذلك كله عالمًا به مطلعًا عليه أو لا. فإن قلتم: إن ذلك بغير علمه واطلاعه [ق 15 أ] نسبتموه إلى الجهل _________ (1) «ح»: «أجدال». (2) «ح»: «وكأنه». (3) ذكر المصنف - رحمه الله - هذه المناظرة أيضًا في «التبيان في أيمان القرآن» (ص 270 - 274) وفي «هداية الحيارى» (ص 384 - 385) وبيَّن أنه كانت مع أكبر علماء اليهود. (4) «ب»، «ح»: «بيننا». والمثبت من «م».
(1/135)
والغباوة، وذلك من أقبح السبِّ. وإن كان عالمًا به رائيًا له مشاهدًا لما يفعله فإمَّا أن يَقدِر على الأخذ على يديه ومنعه من ذلك أو لا. فإن قلتم: إنه غير قادرٍ على منعه والأخذ على يده (1) نسبتموه إلى العجز والضعف. وإن قلتم: بل هو قادر على منعه ولم يفعل نسبتموه إلى السفه والظلم والجور. هذا، وهو مِن حين ظهرَ إلى أن توفاه ربُّه يُجيب دعواتِه ويقضي حاجاتِه، ولا يسأله حاجةً إلَّا قضاها له، ولا يدعوه بدعوةٍ إلَّا أجابها له، ولا يقوم له عدوٌّ إلَّا ظفر به، ولا تقوم له رايةٌ إلَّا نصرها، ولا لواء إلَّا رفعه، ولا مَن يُناوِئه ويعاديه إلَّا بتره ووضعَه. فكان أمرُه مِن حين ظهر إلى أن تُوفي يزداد على الأيام والليالي ظهورًا وعلوًّا ورفعةً، وأمرُ مخالفيه لا يزداد إلَّا سُفولًا واضمحلالًا. ومحبتُه في قلوب الخلق تزيد على ممر الأوقات، وربه تعالى يؤيده بأنواع التأييد، ويرفع ذِكره غايةَ الرفع. هذا، وهو عندكم من أعظم أعدائه وأشدهم ضررًا على الناس، فأيُّ (2) قدحٍ في ربِّ العالمين، وأيُّ مسبةٍ له، وأيُّ طعنٍ فيه أعظمُ من ذلك! فأخذ الكلام منه مأخذًا ظهرَ عليه، وقال: حاشَ لله أن نقول فيه هذه المقالة، بل هو نبيٌّ صادقٌ، كلُّ مَنِ اتبعه فهو سعيدٌ، وكلُّ منصِفٍ منَّا يُقرُّ بذلك، ويقول: أتباعه سُعداء في الدارين. _________ (1) «والأخذ على يده». في «ح»: «ولم يفعل». (2) «ح»: «وأي».
(1/136)
قلت له: فما يمنعك من الظفر بهذه السعادة (1)؟ فقال: وأتباع كل نبيٍّ من الأنبياء كذلك، فأتباع موسى أيضًا سُعداء. قلت له: فإذا أقررتَ أنه نبيٌّ صادقٌ فقد (2) كفَّرَ مَن لم يتبعه، واستباح دمه وماله، وحكمَ له بالنار. فإنْ صدَّقتَه في هذا وجب عليك اتباعُه، وإن كذبتَه فيه لم يكن نبيًّا، فكيف يكون أتباعُه سعداءَ؟! فلم يُحِرْ جوابًا (3)، وقال: حدِّثْنا (4) في غير هذا. فانظر هذه الموازنة والمشابهة بين ما لزم الجهمية النُّفاة من القدح والطعن في المتكلم بنصوص الصِّفات، وما لزم منكري نبوةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - من الطعن والقدح في الربِّ تعالى. وإذا ضممتَ هذا إلى ما يلزمهم من الطعن في كلامه ولمزه (5) واشتماله على ما ظاهرُه كفرٌ وضلالٌ وباطلٌ ومحالٌ علمتَ حقيقةَ الحال، وتبيَّن لك الهدى من الضلال، والله المستعان. * * * * * _________ (1) «السعادة» ليس في «ب». (2) «ب»: «فهو». (3) أي: لم يرجع ولم يرد. «النهاية في غريب الحديث والأثر» (1/ 458). (4) «ب»: «خُذ بنا». (5) «ح»: «أمره».
(1/137)
الفصل الثالث (1) عشر في بيان أن تيسير القرآن للذكر يُنافي حملَه على التأويل المخالف لحقيقته وظاهره
أنزل الله سبحانه الكتاب شفاءً لما في الصدور وهدًى ورحمة للمؤمنين، ولذلك (2) كانت معانيه أشرف المعاني، وألفاظه أفصح الألفاظ وأَبْينها وأعظمها مطابَقةً لمعانيها المرادة منها، كما وصف سبحانه به كتابه في قوله: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33] فالحق هو المعنى والمدلول الذي تضمنه الكتاب، والتفسير الأحسن هو الألفاظ الدالة على ذلك الحق فهي تفسيره وبيانه. والتفسير أصله من (3) الظهور والبيان، ويلاقيه (4) في الاشتقاق الأكبر الإسفارُ، ومنه أسفر الفجرُ: إذا أضاء ووضحَ، ومنه السفر لبروز المسافر من البيوت وظهوره، ومنه السِّفْر (5) الذي يتضمن إظهار ما فيه من العلم وبيانه. فلا بد من (6) أن يكون التفسير مطابقًا للمفسَّر مفهمًا له، وكلما كان فهم المعنى منه أوضحَ وأبينَ كان التفسير أكملَ وأحسن (7). ولهذا لا تجد كلامًا _________ (1) «ح»: «الثاني». (2) «ب»: «فلذلك». (3) «ح»: «في». (4) «ح»: «وباقيه». وفي «ب»: «تلاقيه». والمثبت من «م». (5) «السفر» ليس في «ح». (6) «من» ليس في «ح». (7) «ب»: «أحسن وأكمل».
(1/138)
أحسن تفسيرًا ولا أتمَّ بيانًا من كلام الله سبحانه، ولهذا سمَّاه سبحانه بيانًا، وأخبر أنه يسَّره للذِّكر. وتيسيرُه للذكر يتضمن أنواعًا من التيسير: أحدها (1): تيسير ألفاظه للحفظ. الثاني: تيسير معانيه للفهم. الثالث: تيسير أوامره ونواهيه للامتثال (2). ومعلوم أنه لو كان بألفاظٍ لا يفهمها المخاطب لم يكن مُيسَّرًا له، بل كان مُعسَّرًا عليه. فهكذا إذا أُريدَ مِن المخاطب أن يفهم من ألفاظه ما لا يدل عليه من المعاني، أو يدل على خلافه، فهذا من أشد التعسير (3)، وهو منافٍ للتيسير؛ فإنه لا شيءَ أعسرُ على الأمة من أن يُراد منهم أن يفهموا كَوْنه سبحانه لا داخل العالَم ولا خارجه ولا متصلًا به ولا منفصلًا عنه ولا مُبايِنًا له ولا مُحايِثًا، ولا يُرى بالأبصار عيانًا، ولا له وجه ولا يد، من قوله: {قُلْ هُوَ اَللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ومن قول رسوله: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بن مَتَّى» (4)، ومن قوله: {اِلَّذِينَ يَحْمِلُونَ اَلْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} [غافر: 6]، وأن يجهدوا أنفسهم ويكابدوا أعظم المشقة في تطلُّب (5) أنواع الاستعارات، وضروب المجازات، ووحشيِّ اللغات؛ _________ (1) «ح»: «إحداها». (2) «ح»: «للأمثال». (3) «ح»: «التفسير». وهو تحريف. (4) تقدم تخريجه (ص 124). (5) «ح»: «طلب».
(1/139)
ليحملوا عليه آيات الصِّفات وأخبارها، فيصرفوا قلوبهم وأفهامهم عمَّا تدل عليه، ويفهموا منها ما لا تدل عليه، بل تدل على خلافه. ويقول: اعلموا يا عبادي أني أردتُ منكم أن تعلموا أني لست فوق العالَم ولا تحته، ولا فوق عرشي، ولا ترفع الأيدي إليَّ، ولا يعرُجُ إليَّ شيءٌ، ولا ينزل من عندي شيءٌ من قولي: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4]، ومن قولي: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]، ومن قولي: {تَعْرُجُ اُلْمَلَائِكَةُ وَاَلرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]، ومن قولي: {بَل رَّفَعَهُ اُللَّهُ إِلَيْهِ} (1) [النساء: 157]، ومن قولي: {رَفِيعُ اُلدَّرَجَاتِ ذُو اُلْعَرْشِ} [غافر: 14] ومن قولي: {وَهْوَ اَلْعَلِيُّ اُلْعَظِيمُ} [البقرة: 253]، ومن قولي: {سَبِّحِ اِسْمَ رَبِّكَ اَلْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، ومن قولي: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (21) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 21 - 22]، ومن قولي: {* آامِنتُم مَّن فِي اِلسَّمَاءِ اَن يَخْسِفَ بِكُمُ اُلْأَرْضَ} [الملك: 17]، ومن قولي: {تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41]، ومن قولي: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ اُلْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102]. وأن تفهموا أنه ليس لي يدانِ من قولي: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 74]، ومن قولي: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 66]، ولا عين من قولي: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِيَ} [طه: 39]. فإنكم إذا فهمتم من هذه [ق 15 ب] الألفاظ حقائقَها وظواهرها فهمتم خلاف مرادي منها، بل مرادي منكم أن تفهموا منها ما يدل على خلاف حقائقها وظواهرها. فأي تيسيرٍ يكون هناك! وأي تعقيدٍ وتعسيرٍ لم يحصل بذلك! ومعلوم أن خطاب الرجل بما لا يفهمه إلَّا بترجمة أيسرُ عليه من خطابه بما كُلِّف أن _________ (1) «ومن قوله {بَل رَّفَعَهُ اُللَّهُ إِلَيْهِ}» ليس في «ب».
(1/140)
يفهم منه خلاف موضوعه (1) وحقيقته بكثيرٍ. فتيسيرُ (2) القرآن منافٍ لطريقة النُّفاة المحرِّفين أعظمَ منافاةً. ولهذا لمَّا عسر عليهم أن يفهموا منه النفي، وعزَّ (3) عليهم ذلك، عوَّلوا فيه على الشُّبَه الخيالية (4) التي سمَّوْها قواطع عقلية وقواعد يقينية (5). وإذا تأملها مَن نوَّر اللهُ قلبَه، وكحَّل عينَ بصيرته بمِرْوَد الإيمان، رآها «لحم جملٍ غثٍّ على رأس جبلٍ وعرٍ، لا سهل فيُرتقى، ولا سمين فيُنتقَل» (6)، وهي من جنس خيالات الممرورين (7) وأصحاب الهوس، وقد سودوا بها القلوب والأوراق. فطريقتهم ضدُّ طريقة القرآن من كل وجهٍ، إذ طريقة القرآن حقٌّ بأحسن تفسيرٍ وأبينِ عبارةٍ، وطريقتهم معانٍ باطلة بأعقدِ عبارةٍ وأطولها وأبعدها من الفهم. فيجهد الرجل الظمآن (8) نفسَه وراءهم حتى تنفد قُواه، فإذا هو قد اطلع على سرابٍ بِقِيعَةٍ: {يَحْسِبُهُ اُلظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اَللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاَللَّهُ سَرِيعُ اُلْحِسَابِ ( 38) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ _________ (1) «ح»: «موضعه». (2) «ح»: «تفسير». (3) «ح»: «وعسر». (4) «ح»: «الخالية». وهو تحريف. (5) «ح»: «وقواطع تفنيد». وهو تحريف. (6) مقتبس من حديث أم زرع الذي رواه البخاري (5189) ومسلم (2448) عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -. (7) أي: المجانين، قال الثعالبي في «فقه اللغة وسر العربية» (ص 108): «إذا كان الرجل يعتريه أدنى جنون وأهونه فهو موسوس، فإذا زاد ما به قيل: به رئي من الجن. فإذا زاد على ذلك فهو ممرور». (8) «ب»: «المضمار».
(1/141)
لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اِللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} [النور: 38 - 39]. والله يعلم أنَّا لم نَقُلْ ذلك تقليدًا لغيرنا (1)، بل إخبارًا عمَّا شاهدناه ورأيناه. وإذا أحببتَ أن تعلم ذلك حقيقةً فتأمَّل عامة مطالبهم وأدلتهم عليها، كيف تجدها مطالب ـ بعد التعب الشديد والجهد الجَهِيد ـ لا يحصل منها على مطلبٍ صحيحٍ، فإنهم بعد الكدِّ والجهد لم يثبتوا للعالَم ربًّا مباينًا عنه منفصلًا منه، بل بعد الجهد الشديد في إثبات موجودٍ لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصلًا به ولا منفصلًا عنه، هم شاكُّون في وجوده: هل هو نفس ماهيته أو زائد عليها؟ فمِن ذاهبٍ إلى أنه زائدٌ، ومن ذاهبٍ إلى أنه ليس بزائدٍ، ومن متوقفٍ في وجوده شاكٍّ فيه، هل هو نفس ماهيته أو زائد عليها؟ ثم هم شاكُّون في أن صفاته هل (2) هي وجودية أو عدمية، أو لا وجودية ولا عدمية؟ وهل هي زائدة على الموصوف أو ليست زائدة؟ فكيف تثبت له على وجهٍ لا يُوجِب تكثُّرًا في الذات ولا مغايرة بينها، فبعضهم يجعلها أمورًا عدمية، وبعضهم أحوالًا نسبية (3)، وبعضهم يتوقف فيها. ومنهم مَن يجعل علمه نفس ذاته، فيجعل ذاته علمًا، ومنهم مَن يجعل علمه نفس معلومه، ومنهم من يجعل علمه واحدًا لا يتعدد (4) ولا ينقسم، فيجعل علمه بوجود _________ (1) «ب»: «كغيرنا». (2) «هل» ليس في «ب». (3) «ح»: «سنية». (4) «ح»: «يتعدى».
(1/142)
الشيء هو عين (1) علمه بعدمه، وعلمه بكونه يُطاع هو نفس علمه بكونه يُعصَى. هذا إذا أثبتَ علمه بالمُعيَّنات والجزئيات، ومَن لم يُثبِته منهم قال لا يعلم من الموجودات المعينة (2) شيئًا البتة. وكذلك اضطربوا في كلامه: فمنهم مَن لم يُثبِت له كلامًا البتةَ، فلا قال عنده ولا يقول، ولا أمَرَ ولا نهى، ولا كلَّم ولا تكلَّم. ومَن يقرب منهم إلى الإسلام قال: كل ذلك مخلوق خلقه في الهواء أو في اللوح المحفوظ. ومنهم من قال: كلامه معنًى واحد، فالمعنى (3) ليس له بعضٌ ولا كل، وليس بحروفٍ ولا أصواتٍ. وذلك المعنى الواحد الذي لا ينقسم هو معاني كُتُبِه كلها، فالقرآن هو نفس التوراة، وهما نفس الإنجيل والزبور، اختلفت أسماؤها باختلاف التعبير عن ذلك المعنى الواحد. ثم ذلك المعنى ليس من جنس العلوم (4) ولا الإرادات، بل (5) حقيقته مغايرة لحقيقتها (6). ثم ذلك المعنى المشار إليه يجوز تعلُّق الحواس الخمس به؛ فيُسمَع ويُرى ويُلمَس ويُشم ويُذاق. وكذلك سائر الأعراض يجوز تعلق الإدراكات كلها بها، فيجوز أن تُشم الأصوات وتُرى وتُذاق وتُلمس، ويجوز أن تُسمع الروائح _________ (1) «عين» ليس في «ح». (2) «بالمعينات والجزئيات ومن لم يثبته منهم قال لا يعلم من الموجودات المعينة». في «ح»: «بالمغيبات». (3) «ب»: «واحدا بالعين». (4) «ح»: «المعلوم». (5) بعده في «ح»: «هي». وهو لفظ زائد. (6) «ح»: «لحقيقتهما».
(1/143)
وترى (1) وتُلمس. قالوا: وهذا حكم (2) سائر الصِّفات. فجعلوا الإرادة واحدةً بالعين (3)، وإرادة إيجاد الشيء هي عين إرادة إعدامه، وإرادة تحريكه هي عين إرادة تسكينه، وإرادة إبقائه (4) هي عين إرادة إفنائه (5)، وإنما المختلف تعلقاتها فقط، وكذلك قالوا في القدرة. وأمَّا إذا حفروا (6) على مطلب الجوهر الفرد ومطلب العرض هل يبقى زمانين أم لا؟ ومطلب الأجسام هل هي متماثِلة أو متبايِنة؟ ومطلب الأحوال هل هي ثابتة أم لا؟ وهل هي وجودية أو عدمية أو لا ذا ولا ذا؟ ومطلب الزمان والمكان ما حقيقتهما؟ وهل هما وجوديان أو عدميان؟ ومطلب [ق 16 أ] الكسب هل له حقيقة أم لا؟ وما حقيقته؟ ومطلب الفعل هل هو قائم بالفاعل أم لا؟ فإن قام به فهل هو مقارِنٌ له أم لا؟ فإن تأخَّرَ عنه فما الموجب (7) لتأخُّره؟ وإنْ قارنه فهل (8) كان قديمًا بقِدَمه؟ وإن لم (9) يقم به فكيف يكون فاعلًا بلا (10) فعلٍ يقوم به؟ كما لا يكون سميعًا بصيرًا مريدًا _________ (1) «وترى» ليس في «ح». (2) «ب»: «وهكذا هم في». (3) «ح»: «بالمعنى». (4) «ح»: «إنعامه». وهو تحريف. (5) «ح»: «إثباته». وهو تحريف. (6) «ح»: «حضروا». (7) «ب»: «فالموجب». (8) «فهل» ليس في «ب». (9) «لم» سقط من «ب». (10) «ح»: «بل».
(1/144)
قادرًا بلا سمعٍ ولا بصرٍ ولا إرادةٍ تقوم به. إلى عامة (1) مطالبهم التي إذا انتهى حفرهم (2) وصَلُوا إلى ما يحيله (3) العقل والسمع، فترى أحدهم يبني، حتى إذا ظن أنه قد ارتفع بناؤه جاء الآخر بمَعاوِلَ من التشبيه (4) والتشكيك، فهَدَم عليه جميعَ ما بناه، وبنى مكانه بناءً آخر، حتى إذا ظن أن بناءه قد كمل عاد الباني الأول بنظير تلك المعاول فهدم بناءه، فلا يزالون كذلك، كما قال شاعرهم (5): وَنَظِيرِي فِي الْعِلْمِ مِثْلِيَ أَعْمَى ... فَتَرَانَا فِي حِنْدِسٍ نَتَصَادَمْ فهذه القواعد الفاسدة هي التي حملتهم على تلك التأويلات الباطلة؛ لأنهم رأوها لا تلائم نصوص الوحي، بل بينها وبينها الحربُ العَوانُ، فأجهدوا أنفسهم وكدُّوا خواطرهم في الصُّلح، وزعموا أن ذلك إحسان وتوفيق! وكأن الله سبحانه أنزل هذه الآياتِ في شأنهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى اَلطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ اُلشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اَللَّهُ وَإِلَى اَلرَّسُولِ رَأَيْتَ اَلْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا (60) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ _________ (1) «ب»: «غاية». (2) «ح»: «جمعهم هم». (3) «ب»: «تخيله». (4) «ح»: «الشبه». (5) البيت لأبي العلاء المعري في «ديوان اللزوميات» (2/ 336) وروايته: وبصير الأقوام مثلي أعمى ... فهلموا في حندس نتصادم
(1/145)
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (61) أُوْلَئِكَ اَلَّذِينَ يَعْلَمُ اُللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء: 59 - 62]. * * * * *
(1/146)
الفصل الرابع (1) عشر في أن التأويل يعود على المقصود من (2) وضع اللغات بالإبطال
لمَّا جعل الله سبحانه نوع الإنسان يحتاج بعضُه إلى بعضٍ، فلا يمكن الإنسانَ (3) أن يعيش وحده، بل لا بد له من مشاركٍ ومعاوِنٍ من بني جنسه، كما قيل: الإنسان مدني بالطبع، وكان لا يعرف كل منهم ما يريد صاحبُه من الأفعال والتُّروك إلَّا بعلامة تدل على ذلك، وتلك العلامة إمَّا تحريك جسمٍ من الأجسام المنفصلة عنه، أو تحريك بعض أعضائه، فيجعل لكل معنًى حركة خاصة، ومعلوم أن في الأول من العُسر والمشقة وعدم الإحاطة بالتعريف ما يمنع وضعه، فكان تحريك الأعضاء أسهل وأدلَّ وأعمَّ، وكانت حركة الأعضاء نوعين، نوعٌ للبصر ونوعٌ للأذن، والذي للأذن أعم، والإنسان إليه أحوج. وكان أولى هذه الأعضاء بأن يجعل حركاتها (4) دالةً مُعَرِّفةً هو اللسان (5)؛ لأن حركته أخف وأسهل، وتنوُّعها أعظم وأكثر من تنوع حركة غيره، وترجمته عمَّا (6) في القلب أظهرُ من ترجمة غيره، ويتمكن المعرِّف بحركاته (7) من حركات مفردة ومؤلفة، يحصل بها من الفرق والتمييز ما _________ (1) «ح»: «الثالث». (2) «ح»: «في». (3) «الإنسان» ليس في «ب». (4) «ح»: «حركته». (5) «ح»: «وهو الإنسان». وهو تحريف. (6) «ح»: «كما». وهو تحريف. (7) «ح»: «وتمكن المعروف لحركاته». وهو تحريف.
(1/147)
لا يحصل بغيره (1) = كان (2) أقربُ الطرق إلى هذا المقصد (3) هو الكلامَ الذي جعله الله سبحانه في اللسان، وجعله دليلًا على ما في الجَنان، وجعل ذلك من دلائل ربوبيته ووحدانيته وكمال علمه وحكمته. قال الله (4) تعالى: {اِلرَّحْمَنُ عَلَّمَ اَلْقُرْآنَ (1) خَلَقَ اَلْإِنسَانَ عَلَّمَهُ اُلْبَيَان} [الرحمن: 1 - 2] وقال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ اُلنَّجْدَيْنِ} [البلد: 8 - 10]. وقال الشاعر (5): إِنَّ الْبَيَانَ مِنَ الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا ... جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيلَا هكذا قال الشاعر هذا البيت، وهكذا هو (6) في «ديوانه»، قال أبو البيان (7): أنا رأيته في «ديوانه» (8) كذلك، فحرَّفه عليه بعض النُّفاة وقالوا: _________ (1) «ح»: «لغيره». (2) جواب «لما» الواردة في أول الفصل. (3) «ح»: «القصد». (4) «ب»: «فقال». (5) نُسب هذا البيت إلى الأخطل، نسبه إليه ابن عصفور في «شرح الجمل» (ص 85) وابن هشام في «شرح الشذور» (ص 35). والبيت ليس في «ديوان الأخطل»، إنما ألحقه محقق «الديوان» مما نسب إليه (ص 508). (6) «هو» ليس في «ح». (7) هو الشيخ نبأ بن محمد بن محفوظ الشافعي (ت 551 هـ) شيخ الطريقة البيانية، ترجمته في «معجم الأدباء» لياقوت (6/ 2742) و «سير أعلام النبلاء» للذهبي (20/ 326). (8) كان أبو البيان ينشد هذا البيت لابن صمصام الرقاش بلفظ: إِنَّ الْكَلَامَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا ... جُعِلَ اللِّسَانُ لِمَا يَقُولُ رَسُولَا في تسعة أبيات، وينكر نسبته إلى الأخطل أصلًا، ويقول: «من زعم أن هذا الشعر للأخطل التغلبي فقد أخطأ». نقله عنه اليونيني في «ذيل مرآة الزمان» (3/ 189). وقال ابن قدامة في «البرهان» (ص 152): «سمعت شيخنا أبا محمد بن الخشاب - رحمه الله -، وكان إمام عصره في العربية ـ يقول: قد فتشت دواوين الأخطل العتيقة فلم أجد هذا البيت فيها».
(1/148)
إِنَّ الْكَلَامَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا ... جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْكَلَامِ دَلِيلَا والمقصود أن العبد لا يعلم ما في ضمير (1) صاحبه إلَّا بالألفاظ الدالة على ذلك، فإذا حمل السامعُ كلامَ المتكلم على خلاف ما وُضع له وخلاف ما يُفهم منه عند التخاطب (2) عاد على مقصود اللغات بالإبطال، ولم يحصل مقصود المتكلم، ولا مصلحة (3) المخاطَب، وكان ذلك أقبحَ من تعطيل (4) اللسان عن كلامه، فإن غاية ذلك أن تفوت مصلحة البيان، وإذا حُمل على ضد مقصوده فوَّتَ مصلحة البيان، وأوقع في ضد المقصود. ولهذا قال بعض العقلاء: اللسان الكذوب شرٌّ من اللسان (5) الأخرس، لأن اللسان (6) الأخرس قد تعطلت منفعته، ولم يحدث منه فسادٌ، ولسان الكذوب قد تعطلت منفعته، وزاد بمفسدة الكذب. فالمتكلم بما ظاهره وحقيقته ووضعُه _________ (1) «ح»: «ضميره». (2) «ح»: «المخاطب». (3) «ح»: «مصالحة». (4) «ح»: «تعليل». (5) «ب»: «لسان». (6) «ب»: «لسان».
(1/149)
باطلٌ وضلالٌ ـ وهو يريد به أن يفهم منه خلاف وضعه وحقيقته ـ أضرُّ على المخاطَب، ولسان الأخرس أقل مفسدةً منه. فترك وضع اللغات أنفعُ للناس (1) من تعريضها للتأويل المخالف لمفهومها وحقائقها. وهكذا كل عضوٍ خُلق لمنفعة إذا لم يحصل منه إلَّا ضد تلك المنفعة كان عدمه خيرًا من وجوده. يوضح (2) ذلك أن المتكلم بكلامٍ ـ له حقيقةٌ وظاهرٌ [ق 16 ب] لا يُفهم منه غيره ـ مريدٌ بكلامه حقيقته وما يدل عليه ويُفهم (3) منه. فإذا ادَّعى أني أردتُ بكلامي خلاف ظاهره وما يُفهم منه كان كاذبًا؛ إمَّا في دعوى إرادة ذلك، أو في دعوى إرادة (4) البيان والإفهام؛ فحملُ كلامه على التأويل الباطل تكذيبٌ له في أحد الأمرين ولا بد. ولهذا كان التأويل الباطل فتحًا لباب الزندقة والإلحاد، وتطريقًا لأعداء الدِّين على نقضه، وبيانه بذكر (5): * * * * * _________ (1) «ح»: «للإنسان». (2) «ح»: «أوضح». (3) «ح»: «ما يفهم». (4) «ح»: «إرادته». (5) في النسختين: «يذكر».
(1/150)
الفصل الخامس (1) عشر في جنايات التأويل على أديان الرُّسل
وأن خراب العالم وفساد الدنيا والدِّين بسبب فتح باب التأويل إذا تأمل المتأمِّل فساد العالَم، وما وقع فيه من التفرق (2) والاختلاف، وما دُفِع إليه أهل الإسلام، وجده ناشئًا من جهة التأويلات المختلفة المستعملة في آيات القرآن وأخبار الرسول صلوات الله وسلامه عليه، التي تعلق بها المختلفون على اختلاف أصنافهم في أصول الدِّين وفروعه، فإنها أوجبت ما أوجبت من التباين والتحارب، وتفرُّق الكلمة، وتشتُّت (3) الأهواء، وتصدُّع الشمل، وانقطاع الحبْل، وفساد ذات البَيْن، حتى صار يُكفِّر ويلعن بعضُهم بعضًا، وترى طوائف منهم تسفِكُ دماء الآخرين، وتستحلُّ منهم في (4) أنفسهم وحُرمهم وأموالهم ما هو أعظم ممَّا يرصدهم به أهل دار الحرب من المنابِذين لهم. فالآفات التي جَنَتْها وتجنيها (5) كل وقتٍ أصحابُها على الملة والأُمة من التأويلات الفاسدة أكثرُ من أن تُحصَى أو يبلغها وصفُ واصفٍ، أو يحيط بها ذِكْر ذاكرٍ، ولكنها في جملة القول أصل كل فسادٍ وفتنةٍ، وأساس كل _________ (1) «ح»: «الرابع». (2) «ح»: «التفريق». (3) «ح»: «وتشتيت». (4) «في» ليس في «ب». (5) «ب»: «ويجنيها».
(1/151)
ضلالٍ وبدعةٍ، والمولِّدة لكل اختلافٍ وفُرقةٍ، والناتِجة أسبابَ كلِّ تباينٍ وعداوةٍ وبغضة. ومن عظيم آفاتها ومصيبة الأُمة بها أن الأهواء المضِلة والآراء المهلِكة التي تتولد مِن قِبَلها لا تزال تنمو وتتزايد على ممرِّ الأيام وتعاقُب الأزمنة. وليست الحال في الضلالات التي حدثت مِن قبل أصول الأديان الفاسدة كذلك؛ فإن فساد تلك معلومٌ عند الأُمة، وأصحابها لا يطمعون في إدخالها في دين الإسلام، فلا يطمع أهل الملة اليهودية ولا النصرانية ولا المجوسية ولا الثانوية ونحوهم أن يُدخِلوا أصول مللهم (1) في الإسلام، ولا يدعوا مسلمًا إليه، ولا يدخلوه إليهم من بابه أبدًا، بخلاف فرقة التأويل، فإنهم يدعون المسلم من باب القرآن والسُّنَّة وتعظيمهما، وأن لنصوصهما تأويلًا لا يُوجد إلَّا عند خواص أهل العلم والتحقيق، وأن العامة في عمًى عنه؛ فضرر هذه الفرقة على الإسلام وأهله أعظم من ضرر أعدائه المنابذين له. ومثلهم ومثل أولئك كمثل قومٍ في حصنٍ حاربهم عدوٌّ لهم فلم يطمعوا (2) في فتح حصنهم والدخول عليهم، فعمَدَ جماعةٌ من أهل الحصن ففتحوه له، وسلَّطُوه على الدخول إليه، فكان مُصاب أهل الحصن مِن قِبَلهم. وبالجملة، فالأهواء المتولِّدة من قبل التأويلات الباطلة فغير محصورة ولا متناهية، بل هي متزايدة نامية بحسب سوانح المتأولين وخواطرهم، وما تُخرِجهم إليه ظنونهم وأوهامهم. ولذلك لا يزال المستقصي عند نفسه في البحث عن المقالات وتتبُّعِها يهجم على أقوال من مذاهب أهل التأويل لم _________ (1) «ح»: «ملتهم». (2) «ح»: «يطيعوا».
(1/152)
تكن تخطر له على بالٍ، ولا تدور له في خيال، ويرى أمواجًا من زَبَد الصدور تتلاطم، ليس لها ضابط إلَّا سوانحُ وخواطر وهوسٌ تقذف به النفوس التي لم يؤيِّدها الله بروح الحق، ولا (1) أشرقت عليها شمسُ الهداية، ولا باشرت حقيقةَ الإيمان، فخواطرُها وهوسُها لا غايةَ له يقف عندها. فإن أردت الإشراف على ذلك فتأمَّلْ كُتب المقالات والآراء والدِّيانات، تجدْ كل ما يخطر ببالك قد ذهب إليه ذاهبون، وصار إليه صائرون، ووراء ذلك ما لم يخطر لك على بالٍ. وكلُّ هذه الفرق تتأول نصوص الوحي على قولها، وتحمله على تأويلها؛ ومع ذلك فتجد أُولِي العقول الضعيفة إلى الاستجابة لهم مسارِعين، وفي القبول منهم راغبين. فهم مبادرون إلى أخْذِ ما يوردونه عليهم، وقبولهم إيَّاه عنهم، وعلى الدعوة إليه هم أشد حرصًا منهم على الدعوة إلى الحق الذي جاءت به الرُّسل. ولم يُوجد الأمر في قبول دعوة الرسل كذلك، بل قد عُلم ما لَقِيَ المرسلون في الدعوة إلى الله من الجَهْد والمشقة والمكابدة، ولقُوا أشد العناء والمكروه، وقاسوا أبلغ الأذى، حتى استجاب لهم مَنِ استجاب إلى الحق الذي هو مُوجِب الفِطَر، وشقيق الأرواح، وحياة القلوب، وقرة العيون، ونجاة النفوس، حتى إذا أطْلَعَ شيطان التأويل رأسَه، وأبدى لهم عن ناجذيه، ورفع لهم عَلَمًا [ق 17 أ] من التأويل، طاروا إليه زَرَافاتٍ ووُحدانًا. فهم إخوان السِّفِلة الطَّغَام، أشباه الأنعام، بل أضل من الأنعام، طَبْلٌ يجمعهم، وعصًا تفرِّقُهم! فانظر ما لَقِيَه نوح وإبراهيم وصالح وهود وشعيب وموسى وعيسى ومحمد ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ في _________ (1) «لا» ليس في «ح».
(1/153)
الدعوة إلى الله، من الرد عليهم، والتكذيب لهم، وقصدهم بأنواع الأذى، حتى ظهرت دعوةُ مَن ظهرت دعوته منهم، وأقاموا دين الله. وانظر سرعة المستجيبين لدعاة الرافضة والقرامطة الباطنية والجهمية والمعتزلة، وإكرامهم لدُعاتهم، وبذل أموالهم، وطاعتهم لهم (1) من غير برهانٍ أتوهم به، أو آية أروهم إيَّاها، غير أنهم دَعَوهم إلى تأويلٍ تستغربه النفوس وتستطرفه (2) العقول، وأوهموهم أنه من وظيفة الخاصة الذين ارتفعوا به عن طبقة العامة، فالصائر إليه معدودٌ في الخواص، مفارقٌ للعوام. فلم تر شيئًا من المذاهب الباطلة والآراء الفاسدة المستخرجة بالتأويل قُوبِلَ الداعي إليه الآتي به أولًا بالتكذيب له والرد عليه، بل ترى المخدوعين المغرورين يُجفِلون إليه إجفالًا، ويأتون إليه أرسالًا، تؤزُّهم إليه شياطينهم ونفوسهم (3) أزًّا، وتزعجهم إليه إزعاجًا، فيدخلون فيه أفواجًا، يتهافتون فيه تهافُتَ الفراش في النار، ويَثُوبون إليه مثابة الطير إلى الأوكار. ثم من عظيم آفاته سهولةُ الأمر على المتأوِّلين في نقل المدعوين عن مذاهبهم وقبيح اعتقادهم إليه، ونَسْخِ الهدى من صدورهم، فإنهم ربما اختاروا للدعوة إليه رجلًا مشهورًا بالديانة والصيانة، معروفًا بالأمانة، حسنَ الأخلاق، جميلَ الهيئة، فصيحَ اللسان، صبورًا على التقشف والتزهد، مرتاضًا لمخاطبة الناس على اختلاف طبقاتهم. ويتهيأ لهم مع ذلك مِن عيب أهل الحق، والطعن عليهم، والإزراء بهم، ما يظفر به المفتِّش عن العيوب. _________ (1) «لهم» ليس في «ب». (2) «ب»: «وتستظرفه». (3) «ح»: «وتغويهم إليه».
(1/154)
فيقولون للمغرور المخدوع: وازِنْ بين هؤلاء وهؤلاء، وحكِّمْ عقلك، وانظرْ إلى نتيجة الحق والباطل. فيتهيأ لهم بهذا الخداع ما لا يتهيأ بالجيوش، وما لا يطمع في الوصول إليه بدون تلك (1) الجهة. ثم من أعظم جنايات التأويل على الدِّين وأهله وأبلغها نكايةً فيه أن المتأول يجد بابًا مفتوحًا لما يقصده من تشتيت كلمة أهل الدِّين وتبديد نظامهم، وسبيلًا سهلة إلى ذلك. فإنه يحتجر (2) من المسلمين بإقراره معهم بأصل التنزيل، ويدخل نفسه في زُمرة أهل التأويل، ثم بعد ذلك يقول ما شاء ويدعي ما أحب. ولا يُقدَر (3) على منعه من ذلك لادعائه أن أصل التنزيل مشتركٌ بينك وبينه، وأن عامة الطوائف المُقِرَّة به (4) قد تأولت كل طائفةٍ لنفسها تأويلًا ذهبت (5) إليه، فهو يُبدِي نظيرَ تأويلاتهم ويقول: ليس لك أن تبدي في التأويل مذهبًا إلَّا ومثله سائغ لي، فما الذي أباحه لك وحظَرَه عليَّ، وأنا وأنت قد أقررنا بأصل التنزيل، واتفقنا على تسويغ (6) التأويل؟ فلِمَ كان تأويلك مع مخالفته لظاهر التنزيل سائغًا، وتأويلي أنا مُحرَّمًا؟ فتعلُّقه بهذا أبلغُ مكيدةٍ يستعملها، وأنكى سلاحٍ يحارب به. فهذه الآفات وأضعافها إنما لقيها أهل الأديان من المتأولين (7)، فالتأويل هو الذي فرَّق اليهود إحدى _________ (1) من قوله: «بهذا الخداع» إلى هنا سقط من «ح». (2) «ب»: «يحتجز». (3) كذا ضبط في «ب» وقد يكون تصحيف: «ولا تقدر» لقوله فيما بعد: «بينك وبينه». (4) «ح»: «المعروفة»، تحريف. (5) «ح»: «وادعت». ولعل صوابه «ودَعَتْ». (6) «ح»: «تنويع». (7) «ح»: «التأويل وإلا».
(1/155)
وسبعين فرقةً، والنصارى ثنتين (1) وسبعين فرقة (2)، وهذه الأُمة ثلاثًا وسبعين فرقة (3). فأمَّا اليهود فإنهم بسبب التأويلات التي استخرجوها بآرائهم مِن كُتبهم صاروا فرقًا مختلفة، بعد اتفاقهم على أصل الدِّين والإيمان بما في التوراة والزبور وكُتب أنبيائهم التي يدرسونها ويؤمنون بها. وبسبب التأويلات الباطلة مُسِخُوا قردةً وخنازير، وجرى عليهم من الفتن والمحن ما قصَّه الله. وبالتأويل الباطل عبدوا العجلَ حتى آلَ أمرُهم إلى ما آلَ. وبالتأويل الباطل فارقوا حُكمَ التوراة، واستحلوا المحارم، وارتكبوا المآثِمَ. فهُمْ (4) أئمة التأويل والتحريف والتبديل، والناسُ لهم فيه تبعٌ، فلا تبلغ فرقة مبلغَهم فيه (5). وبالتأويل استحلوا محارمَ الله بأدنى (6) الحِيَلِ. وبالتأويل قتلوا الأنبياء، فإنهم قتلوهم وهم مصدِّقون بالتوراة وبموسى. وبالتأويل والتحريف حلَّتْ بهم المَثُلات، وتتابعت عليهم العقوبات، وقُطِعُوا في الأرض أُممًا، وضُربت عليهم الذلةُ والمسكنة وباؤوا بغضبٍ من الله. وبالتأويل دفعوا نبوة عيسى ومحمدٍ ـ صلوات الله وسلامه عليهما ـ وقد _________ (1) «ح»: «اثنين». (2) «فرقة» ليس في «ب». (3) «فرقة» ليس في «ب». (4) «ح»: «وهم». (5) من قوله «والناس» إلى هنا سقط من «ح». (6) «ح»: «بأقل».
(1/156)
استُهِلَّت (1) التوراة وكُتبُ الأنبياء بالبشارة بهما وظهورهما، ولا سيما البشارات بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فإنها متظاهرة في كُتبهم بصفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومَخرجه ومَبعثه ودعوته وكتابه وصفة أُمته وسيرتهم وأحوالهم، بحيث كان علماؤهم لمَّا رأَوْه وشاهدوه عرفوه معرفتهم أنبياءهم (2). ومع هذا فجحدوا أمْرَه - صلى الله عليه وسلم - [ق 17 ب]، ودفعوه على قومه (3) وظهوره بالتأويلات التي استخرجوها من تلك الألفاظ التي تضمنتها (4) البشاراتُ، حتى التبس الأمرُ بذلك على أتباعهم ومَن لا يعلم الكتاب إلَّا أمانيَّ، وخُيِّل إليهم بتلك التأويلات ـ التي هي من جنس تأويلات الجهمية والرافضة والقرامطة ـ أنه ليس هو، فسطَوْا على تلك البشارات بكتمان ما وجدوا السبيل إلى كتمانه، وما غُلبوا عن كتمانه حرَّفوا لفظه عمَّا هو عليه، وما عجزوا عن تحريف لفظِه حرَّفوا معناه بالتأويل. ووَرِثَهم أشباهُهم من المنتسبين إلى الملة في (5) هذه الأمور الثلاثة، وكان عُصبة الوارثين لهم في ذلك ثلاثَ طوائفَ: الرافضة والجهمية والقرامطة؛ فإنهم اعتمدوا في النصوص المخالِفة لضلالهم هذه الأمور الثلاثة، والله سبحانه ذمَّهم على التحريف والكتمان. والتحريف نوعان: تحريف اللفظ، وهو تبديله. وتحريف المعنى، وهو صرف اللفظ عنه إلى _________ (1) «ب»: «اشتملت». (2) «ح»: «إياهم». والمثبت من «ب». وله وجه، والأوجه أن تكون: «أبناءهم»، كما في قوله تعالى: {اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اُلْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 145]. (3) «قومه» كذا في النسختين، ولعله تحريف. (4) «ح»: «تضمنها». (5) «ب»: «و».
(1/157)
غيره مع بقاء صورة اللفظ. وأمَّا فسادُ دين النصارى من جهة التأويل، فأولُ ذلك ما عَرَض في التوحيد الذي هو عمود الدِّين، فإن سلف المُثلِّثة قالوا في الربوبية بالتثليث وحديث الأقانيم والأب والابن وروح القدس، ثم اختلف مَن بعدَهم في تأويل كلامهم اختلافًا تباينوا (1) به غايةَ التبايُن، وإنما عرض لهم هذا الاختلافُ من جهة التأويلات الباطلة. وكانت حالهم فيما جنَتْ عليهم التأويلات الباطلة أفسدَ حالًا من اليهود، فإنهم لم يصِلُوا بتأويلهم إلى ما وصل إليه عُبَّاد الصليب من نسبة الربِّ تعالى إلى ما لا يليق به، ثم دفعوا بالتأويل إلى إبطال شرائع التوراة، فأبطلوا الختان، واستحلوا السبت، واستباحوا الخنزير، وعطلوا الغُسْل من الجنابة. وكان الذي فتح عليهم أبواب هذه التأويلات بُولِس، فاستخف جماعةً من ضعفاء العقول، فقَبِلُوا منه تلك التأويلات، ثم أورثت (2) الخلاف بينهم حتى آل أمرهم إلى ما آلَ إليه مِنِ انسلاخهم عن شريعة المسيح في التوحيد والعمليات. ثم تأولت اليعقوبية ـ أتباع يعقوب البراذعي ـ تأويلًا، فتأولت النسطورية ـ أتباع نسطورس (3). ..................................... _________ (1) «ح»: «باينوا». (2) «ح»: «أورث». وله وجه بعود الضمير إلى بولس. (3) «ب»: «نسطور بن». وفي «ح»: «نسطورين». ولعل المثبت هو الصواب؛ فنسطورس بَطْرق القسطنطينية، هو رأس الطائفة النسطورية، ويقال له: نسطوريوس ونسطور، كان قبل الإسلام، ذكره ابن الأثير في «الكامل في التاريخ» (1/ 301) وقال: «ومن العجائب أن الشهرستاني ـ مصنِّف كتاب «نهاية الإقدام» في الأصول، ومصنِّف كتاب «الملل والنحل» في ذكر المذاهب والآراء القديمة والجديدة ـ ذكر فيه أن نسطور كان أيام المأمون، وهذا تفرد به، ولا أعلم له في ذلك موافِقًا». قلتُ: وتابَعَ الشهرستاني غيرُ واحد من المتأخرين.
(1/158)
غيره (1)، فتأولت المَلِكية ـ وهم الذين على دين المَلِك ـ غيره، فاضمحل الدِّين، وخرجوا منه خروج الشعرة من العجين. فلو تأملتَ تأويلاتهم لَرأيتَها واللهِ من جنس تأويلات الجهمية والرافضة والمعتزلة، ورأيتَ الجميع من مِشكاةٍ واحدةٍ، ولولا خوفُ التطويل لَذكرنا لك (2) تلك التأويلات، ليُعلَم أنها وتأويلات المحرِّفين من هذه الأُمة رَضِيعَا لِبَانٍ ثَدْيَ أُمٍّ تَقَاسَمَا ... بأَسْحَمَ دَاجٍ عَوْضُ لا نَتَفَرَّقُ (3) ولو رأيتَ تأويلاتِهم لنصوص التوراة في الأخبار والأمر والنهي لَقلتَ: إن أهل التأويل الباطل من هذه الأمة إنما تلَقَّوْا تأويلاتهم عنهم، وعجبتَ مِن تشابُهِ قلوبهم، ووقوع الحافر على الحافر، والخاطر على الخاطر. «ولم يزل أمرُ بني إسرائيل مستقيمًا حتى فشا فيهم المولَّدُون أبناءُ سبايا الأُمم (4)، فاشتقوا لهم الرأيَ، وسَلَّطُوا التأويلَ على نصوص التوراة، فضَلُّوا وأَضَلُّوا» (5). _________ (1) «ب»: «عبرة». (2) «لك» ليس في «ح». (3) البيت للأعشى في «ديوانه» (ص 225). والرواية: «رضيعي لبان»، وقد تصرف فيها المصنِّف لتناسب السياق، كما فعل في «مسألة السماع» (ص 177، 241). وفي «البدائع» (ص 455) و «الداء والدواء» (ص 224): «رضيعي» على الأصل، وسيأتي البيت مرةً أخرى في كتابنا هذا، قوله «رضيعي لبان» يريد أنهما أخوان، و «بأسحم داج» يعني: الليل، أي: تحالفا بالليل. وقيل غير ذلك. (4) «الأمم» ليس في «ح». (5) قد رُوِيَ نحو هذا اللفظ مرفوعًا، أخرجه ابن ماجه (56) والبزار (6/ 402) والطبراني في «الكبير» (13/ 642) عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -، وضعفه البوصيري في «مصباح الزجاجة» (21) وابن حجر في «إتحاف المهرة» (9/ 588) وقد رُوي عن جماعة من الصحابة والتابعين مرفوعًا وموقوفًا. ينظر: «ذم الكلام» للهروي (1/ 72 - 75) و «بيان الوهم والإيهام» لابن القطان (2/ 347 - 348) و «معرفة السنن والآثار» للبيهقي (1/ 187).
(1/159)
وهؤلاء النصارى لم يزل أمرُهم بعد المسيح على منهاج الاستقامة حتى ظهر فيهم المتأوِّلون، فأخذت (1) عُرى دينهم تنتقض. والمتأوِّلون يجتمعون مَجمعًا بعد مجمعٍ، وفي كل مجمعٍ يخرج لهم تأويلات تُناقض الدِّين الصحيح، فيلعنهم (2) أصحابُ المجمع الآخر، ولا يوافقونهم عليها، حتى جمَعَهم الملكُ قُسْطَنطِين من أقطار الأرض، فبلغوا ثلاثمائة وثمانية عشر بَتْركًا (3) وأُسْقُفًّا (4)، فتأولوا (5) لهم هذه الأمانة التي بأيديهم اليوم، وأبطلوا من دين المسيح ما شاؤوا، وزادوا فيه ونقصوا، ووضعوا من الشرائع ما شاؤوا، وكلُّ ذلك بالتأويل، وقد ذكروا الظواهر التي تأولوها. وبالتأويل جعلوا الله ثالث ثلاثة، وجعلوا المسيح ابنه، وجعلوه هو الله، فقالوا: هذا وهذا وهذا (6). تعالى اللهُ عن قولهم. وبالتأويل تركوا الختان، _________ (1) «ح»: «فأخذوا». (2) «ح»: «فتلقنهم». وفي «ب»: «فتلقيهم». والمثبت أقرب إلى المعنى الصحيح والرسم. (3) البترك ويقال البطرك: مقدَّم النصارى. «لسان العرب» (10/ 401). ويظهر من كلام المصنِّف في «مفتاح دار السعادة» (3/ 1237) أنه فوق المطران وتحت الأسقف. (4) الأسقف: رئيس النصارى في الدِّين، أعجمي تكلمت به العرب. «لسان العرب» (9/ 156). (5) «ح»: «فتلوا». (6) «وهذا» ليس في «ح».
(1/160)
وأباحوا الخنزير، وهم (1) يعلمون أن المسيح اختتن وحرَّمَ الخنزير. وبالتأويل نقلوا الصوم من مَحِلِّه إلى الفصل الربيعي، وزادوه حتى صار خمسين يومًا. وبالتأويل عبدوا الصليب والصور. وبالتأويل فارقوا حُكم التوراة والإنجيل. فصل ومن أعظم آفات التأويل وجناياته أنه إذا سُلِّط على أصول الإيمان والإسلام اجتثَّها وقلَعَها، فإن أصول الإيمان خمس (2)، وهي: الإيمان بالله وملائكتِه وكُتبه ورسله واليوم الآخر، وأصول الإسلام خمسة، وهي: كلمة الشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت؛ فعمد _________ (1) «وهم» ليس في «ح». (2) المشهور أن أصول الإيمان ستة، وهي الواردة في جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - لجبريل عليه السلام لما سأله عن الإيمان، فقال: «أن تؤمن بالله، وملائكتِه، وكُتبِه، ورسلِه، واليومِ الآخِرِ، وتؤمنَ بالقدَرِ خيرِه وشرِّه». رواه مسلم (8) عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. ولا شك أن الأصول الخمسة تتضمن الإيمان بالقدَرِ كذلك، وقد بيَّن الإمام ابن القيم مأخذَه ودليله؛ فقال في «مفتاح دار السعادة» (1/ 442): «أصول الإيمان الخمسة: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر. فإن مَن لم يؤمن بهذه الخمسة لم يدخل في باب الإيمان، ولا يستحق اسم المؤمن؛ قال الله تعالى: {وَلَكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَاَلْيَوْمِ اِلْآخِرِ وَاَلْمَلَائِكَةِ وَاَلْكِتَابِ وَاَلنَّبِيِّينَ} [البقرة: 176]، وقال: {وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاَلْيَوْمِ اِلْآخِرِ فَقَد ضَّلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 135]. ولمَّا سأل جبريل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. قال: صدقت». قلت: وهذا اللفظ رواه محمد بن نصر المروزي في كتاب «السنة» (365) عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
(1/161)
أرباب التأويل إلى أصول الإيمان والإسلام فهدموها بالتأويل. وذلك أن مَعقِد هذه الأصول العشرة تصديق الرسول فيما أخبَرَ وطاعته فيما أمَرَ. فعمدوا إلى أجَلِّ الأخبار، وهو ما أخبر به عن الله من أسمائه وصفاته ونعوت كماله، فأخرجوه عن [ق 18 أ] حقيقته وما وُضع له. وهذا القسم من الأخبار أشرف أنواع الخبر، والإيمانُ به أصل الإيمان بما عدَاه، واشتمالُ القرآن بل والكتب الإلهية عليه أكثر من اشتمالها على ما عداه، وتنوعُ الدلالة بها على ثبوت مَخبَره أعظم من تنوعها في غيره؛ وذلك لشرف متعلقه وعظمته وشدة الحاجة إلى معرفته، وكانت (1) الطرق إلى تحصيل معرفته أكثر وأسهل وأبينَ من غيره. وهذا من كمال حكمة الربِّ تبارك وتعالى وتمام نعمته وإحسانه، أنه كلما كانت حاجة العباد إلى الشيء أقوى وأتمَّ كان بذلُه لهم أكثر، وطرقُ وصولهم إليه أكثر وأسهل. وهذا في الخَلْق والأمر، فإن حاجتهم لمَّا كانت إلى الهواء أكثر من الماء والقوت كان موجودًا معهم في كل مكانٍ وزمانٍ، وهو أكثر من غيره. وكذلك لمَّا كانت حاجتهم بعده إلى الماء شديدة ـ إذ هو مادة أقواتهم ولباسهم وفواكههم وشرابهم ـ كان مبذولًا لهم أكثر من غيره. وكذلك حاجتهم إلى القوت لمَّا كانت أشد من حاجتهم إلى الإيواء (2) كان وجود القوت أكثر، وهكذا الأمر في مراتب الحاجات. ومعلوم أن حاجتهم إلى معرفة ربهم وفاطرهم ومعبودهم جل جلاله فوق مراتب هذه الحاجات كلها؛ فإنهم لا سعادة لهم ولا فلاح ولا صلاح _________ (1) «ح»: «وكا». (2) «ح»: «الإبراء». وفي «ب»: «الإبزار». ولعل المثبت من المطبوع هو الصواب.
(1/162)
ولا نعيم إلَّا بأن يعرفوه ويعبدوه (1)، ويكون هو وحدَه غاية مطلوبهم، ونهاية مرادهم؛ وذِكرُه والتقرب (2) إليه قرةُ عيونهم وحياة قلوبهم. فمتى فَقَدُوا ذلك كانوا أسوأ حالًا من الأنعام بكثيرٍ، وكانت الأنعام أطيب عيشًا منهم في العاجل، وأسلم عاقبة في الآجل. وإذا عُلم أن ضرورة العبد إلى معرفة ربِّه ومحبته وعبادته والتقرب إليه فوق كل ضرورة، كانت الطُّرقُ المُعرِّفةُ لهم ذلك أيسرَ طرق العلم على الإطلاق وأسهلها وأهداها وأقربها، وبيانُ الربِّ تعالى لها فوق كل بيان. فإذا سُلِّط التأويل على النصوص المشتملة عليها فتسليطه (3) على النصوص التي ذُكِرَت فيها الملائكة أقربُ بكثيرٍ. يُوضحه أن الربَّ تعالى لم يذكر للعباد من صفات ملائكته وشأنهم وأفعالهم وأسمائهم عُشر مِعْشار ما ذَكَر لهم من نعوت جلاله وصفات كماله وأسمائه وأفعاله. فإذا كانت هذه قابلة للتأويل فالآيات التي ذُكِرَت فيها الملائكة أَوْلى بقبوله (4). ولذلك تأولها (5) الملاحدةُ، كما تأولوا نصوص المعاد واليوم الآخر، وأبدَوْا له تأويلات ليست بدون تأويلات الجهمية لنصوص الصِّفات. وأوَّلت هذه الطائفةُ عامة نصوص الأخبار الماضية والآتية، وقالوا للمتأولين من الجهمية: بيننا وبينكم حاكمُ العقل، فإن القرآن بل الكتب المنزلة مملوءة بذكر _________ (1) «ح»: «ويعتقدوه». (2) «ح»: «والقرب». (3) «ح»: «فتسلطه». (4) «ب»: «بقوله». (5) «ب»: «تأولتها».
(1/163)
الفوقية وعلو الله تعالى على عرشه، وأنه تكلَّم (1) ويتكلم، وأنه موصوف بالصفات، وأن له أفعالًا تقوم به (2) هو بها فاعلٌ، وأنه يُرى بالأبصار، إلى غير ذلك من نصوص الصِّفات، التي إذا قِيسَ إليها نصوص حَشْرِ هذه الأجساد وخراب هذا العالم وإعدامه وإنشاء عالَم آخر، وُجدت نصوصُ الصِّفات أضعافَ أضعافها، فهذه الآيات والأخبار الدالة على علو الربِّ تعالى على خلقه وفوقيته واستوائه على عرشه قد قيل إنها تُقارِبُ الألفَ، وقد أجمعت عليها الرسلُ من أولهم إلى آخرهم. فما الذي سوَّغَ لكم تأويلها، وحرَّمَ علينا تأويل (3) نصوص حشْرِ الأجساد وخراب العالَم؟ فإن قلتم: الرُّسل أجمعوا على المجيء به، فلا يمكن تأويله. قيل: وقد أجمعوا على أن الله فوق عرشه، وأنه متكلمٌ مُكلَّمٌ، فاعلٌ حقيقةً، موصوف بالصفات، فإنْ مُنِعَ إجماعهم هناك من التأويل وَجَبَ أن يمنع هاهنا. فإن قلتم: العقل أوجبَ تأويلَ نصوص الصِّفات، ولم يوجب (4) تأويل نصوص المعاد. قلنا: هاتوا أدلة العقول التي تأولتم بها الصِّفات، ونحضر نحن أدلة العقول التي تأولنا بها المعاد وحشْرَ الأجساد، ونوازن بينها ليتبَّينَ أيها (5) أقوى. _________ (1) «ح»: «يكلم». (2) «ب»: «يقوم». (3) «تأويل» سقط من «ح». (4) «ح»: «يجب». (5) «ح»: «لتبيين أنها».
(1/164)
فإن قلتم: إنكار المعاد تكذيبٌ لِمَا عُلم من دِين الرسل بالضرورة. قلنا: وإنكار صفات الربِّ وأنه متكلم آمرٌ ناهٍ (1) فوق سماواته، وأن الأمر ينزل مِن عنده ويصعد إليه تكذيبٌ لما عُلم أنهم جاؤوا به ضرورةً. فإن قلتم: تأويلنا للنصوص التي جاؤوا بها لا يستلزم تكذيبهم وردَّ أخبارهم. قلنا: فمن أين صار تأويلنا للنصوص التي جاؤوا بها في المعاد (2) يستلزم تكذيبهم وردَّ أخبارهم دون تأويلكم إلَّا لمجرد (3) التحكم والتشهِّي. [ق 18 ب] فصاحت القرامطة والملاحدة والباطنية وقالت: ما الذي سوَّغَ لكم تأويل الأخبار، وحرَّم علينا تأويلَ الأمر والنهي والتحريم والإيجاب، وموردُ الجميع من مِشكاةٍ واحدةٍ، فنحن سلكنا في تأويل الشرائع العملية نظير ما سلكتم في تأويل النصوص الخبرية؟ قالوا: وأين تقع نصوص الأمر والنهي من (4) نصوص الخبر؟ قالوا: وكثيرٌ (5) منكم قد فتحوا لنا باب التأويل في الأمر، فأوَّلُوا أوامر ونواهي كثيرة صريحة الدلالة أو ظاهرة الدلالة في معناها بما يُخرجها عن حقائقها وظواهرها. فهَلُمَّ (6) نضعها في كفةٍ، ونضع تأويلاتنا في كفةٍ، ونوازن _________ (1) «ناه» سقط من «ح». (2) «ب»: «العناد». (3) «إلا لمجرد» في «ب»: «بمجرد». (4) «ب»: «و». (5) «وكثير» ليس في «ب». (6) «ح»: «فلهم».
(1/165)
بينهما (1)! ونحن لا ننكر أنَّا أكثر تأويلًا منهم وأوسعُ، لكنَّا وجدنا بابًا مفتوحًا فدخلناه، وطريقًا مسلوكًا فسلكناه، فإن كان التأويل حقًّا فنحن أسعد الناس به، وإن كان باطلًا فنحن وأنتم مشتركون فيه، ومستقلٌّ ومستكثِرٌ! فهذا من شؤم جناية التأويل على أصول الإيمان والإسلام. وقد قيل: إنَّ طردَ إبليس ولعنه إنما كان بسبب التأويل، فإنه عارَضَ النص بالقياس وقدَّمه عليه، وتأول لنفسه أن هذا القياس العقلي مقدَّمٌ على نصِّ (2) الأمر بالسجود، فإنه (3) قال: {أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ} [الأعراف: 11]. وهذا دليلٌ قد حُذفت إحدى مقدمتَيْهِ، وهي أن الفاضل لا يخضع للمفضول، وطوى ذِكر هذه المقدمة كأنها مقرَّرة لكونها معلومة (4)، وقرَّر المقدمة الأولى بقوله {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف: 11] فكان نتيجة المقدمتين امتناعه من السجود. وظن أن هذه الشبهة العقلية تنفعه في تأويله، فجرى عليه ما جرى، وصار إمامًا لكلِّ مَن عارض نصوص الوحي بتأويله الباطل إلى يوم القيامة. ولا إله إلَّا الله، كم لهذا الإمام اللعين من أتباعٍ من العالمين! وأنت إذا تأملتَ عامة شُبَه المتأولين ـ التي تأولوا لأجلها النصوص وعطلوها ـ رأيتها من جنس شبهته. والقائل: «إذا تعارض العقل والنقل قدَّمنا _________ (1) «ب»: «بينها». (2) «ح»: «نصوص». (3) «ح»: «لأنه». (4) هكذا في «ب» وفي «ح»: «المقدمة منها صورة لكونها معلومة» وفي «م»: «المقدمة كأنها صورة معلومة» والظاهر أن «صورة» تحريف «مقررة».
(1/166)
العقل» من هاهنا اشتق هذه القاعدة، وجعلها أصلًا لردِّ نصوص الوحي التي يزعم أن العقل يخالفها، كما زعم إمامه أن دليل العقل يخالف نصَّ الأمر بالسجود حين (1) قدَّمه عليه. وعرضت لعدوِّ الله هذه الشبهة من ناحية كِبْره الذي منعه من الانقياد المحض لنص الوحي، وهكذا تجد (2) كل مُجادِلٍ في نصوص الوحي بالباطل إنما يحمله على ذلك كِبرٌ في صدره ما هو ببالغه. قال الله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اِللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاَسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اُلْبَصِيرُ} [غافر: 56]. وكذلك خروج آدم من الجنة إنما كان بسبب التأويل، وإلَّا فهو - صلى الله عليه وسلم - لم يقصد بالأكل معصيةَ الربِّ، والتجرؤَ على مخالفة نهيه، وأن يكون ظالمًا مستحِقًّا للشقاء بخروجه من الجنة. هذا لم يقصده أبو البشر قطعًا. ثم اختلف الناس في وجه تأويله، فقالت طائفة: تأول بحمله النهيَ المطلق على الشجرة المعينة، وغرَّه عدوُّ الله بأن جنس تلك الشجرة هي شجرة الخُلْد، وأطمعه (3) في أنه إنْ أكل منها لم يخرج من الجنة. وفي هذا الذي قالوه نظرٌ ظاهرٌ؛ فإن الله سبحانه أخبر أن إبليس قال له: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ اِلشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ اَلْخَالِدِينَ} [الأعراف: 19]، فذكَرَ لهما عدو الله الشجرة التي نُهِيَا عنها، إمَّا بعينها أو بجنسها، وصرَّح لهما بأنها هي المنهي عنها، ولو كان عند آدم أن _________ (1) «ح»: «حتى». (2) «ح»: «نجد». (3) «ح»: «وأطعمه». وكذا كانت في «ب»، ثم كتب الناسخ على الحاشية: «طمعه» وعليه: «ن».
(1/167)
المنهي عنه تلك الشجرة المعينة دون سائر النوع لم يكن عاصيًا بأكله من غيرها، ولا أخرجه الله من الجنة ونزع عنه لباسه. وقالت فرقة أخرى: تأول آدم أن النهي نهي تنزيهٍ لا نهي تحريمٍ، فأقدم على الأكل لذلك. وهذا باطلٌ قطعًا من وجوهٍ كثيرةٍ، يكفي منها قوله تعالى: {فَتَكُونَا مِنَ اَلظَّالِمِينَ} [البقرة: 34]. وأيضًا فحيث نهى الله عن فعل الشيء بقربانه لم يكن إلَّا للتحريم، كقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 220] {وَلَا تَقْرَبُوا اُلزِّنَى} [الإسراء: 32] {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ اَلْيَتِيمِ} [الأنعام: 153]. وأيضًا لو كان للتنزيه لَمَا أخرجه الله من الجنة وأخبر أنه عصى ربَّه. وقالت طائفة: بل كان تأويله أن النهي إنما كان عن قُربانهما وأكلهما معًا، لا عن أكل كلٍّ منهما على انفراده؛ لأن قوله: {وَلَا تَقْرَبَا} [البقرة: 34] نهيٌ لهما على الجمع، ولا يلزم من حصول النهي حالَ الاجتماع حصوله حال الانفراد. وهذا التأويل ذكره ابن الخطيب في «تفسيره» (1)، وهو كما ترى في البطلان والفساد. ونحن نقطع أن هذا التأويل لم يخطر بقلب آدم وحواء البتةَ، وهما كانا أعلمَ بالله من ذلك، وأصحَّ أفهامًا! أفترى فَهِمَ أحدٌ عن الله من قوله: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ اَلْيَتِيمِ} [الأنعام: 153] {وَلَا تَقْرَبُوا اُلزِّنَى} [الإسراء: 32] ونظائره: أي إنما نهيتكم عن اجتماعكم [ق 19 أ] على ذلك، دون انفراد _________ (1) «مفاتيح الغيب» (3/ 462).
(1/168)
كل واحدٍ منكم به (1)؟! فيا للعجب من أوراق وقلوب تُسَوَّد على هذه الهذيانات، وتجد لها حاملًا وقابلًا يستحسنها ويُصغِي بقلبه وسمعِه إليها! والصواب في ذلك أن يقال: إن آدم صلوات الله وسلامه عليه لما قاسَمَه عدو الله أنه ناصحٌ، وأخرج الكلام على أنواع متعددة من التأكيد: أحدها: القَسَم. الثاني: الإتيان بالجملة اسميةً لا فعلية. الثالث: تصديرها بأداة التأكيد. الرابع: الإتيان بلام التأكيد في الخبر. الخامس: الإتيان به اسمَ فاعلٍ لا فعلًا دالًّا على الحدث. السادس: تقديم المعمول على العامل فيه (2). ولم يكن آدم يظن أن أحدًا يُقسِم بالله كاذبًا يمينَ غَموسٍ يتجرأ فيها على الله هذه الجرأة، فغرَّه عدو الله بهذا التأكيد والمبالغة، فظن آدم صِدقَه، وأنه إنْ أكل منها لم يخرج من الجنة، ورأى أن الأكل ـ وإن كان فيه مفسدة ـ فمصلحة الخلود أرجحُ، ولعله يتأتى له استدراك مفسدة النهي في أثناء ذلك، إمَّا باعتذارٍ، وإمَّا بتوبةٍ، وإمَّا بغير ذلك. كما تجد هذا التأويل قائمًا في نفس كل مَن يؤمن بالله واليوم الآخر إيمانًا لا شك فيه؛ إذا أقدم على المعصية؛ فوازِنْ بين هذا التأويل وبين تأويلات المحرِّفين يظَهْر لك الصوابُ من الخطأ. والله الموفِّق للصواب. _________ (1) «به» ليس في «ب». (2) «فيه» ليس في «ب».
(1/169)
فصل ومن جنايات التأويل ما وقع في الإسلام من الحوادث بعد موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإلى يومنا هذا، بل في حياته ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فإن خالد بن الوليد قتل بني جَذِيمة بالتأويل، ولهذا تبرَّأَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مِن صُنعه، وقال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ» (1). ومنعَ الزكاةَ مَن منعها من العرب ـ بعد موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ بالتأويل، وقالوا: إنما قال الله لرسوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوَاتِكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} [التوبة: 104]، وهذا لا يكون لغيره. فجرى بسبب هذا التأويل الباطل على الإسلام وأهلِه ما جرى. ثم جرت الفتنةُ التي جرَّتْ قَتْلَ عثمان بالتأويل، ولم يزل التأويلُ يأخذ مأخذَه حتى قُتل به عثمانُ، فأَخذَ في الزيادة والتولد حتى قُتِل به بين عليٍّ ومعاوية بصفين سبعين (2) ألفًا أو أكثر من المسلمين، وقُتِلَ أهلُ الحرَّة (3) بالتأويل، وقُتل نوبةَ الجمل بالتأويل مَن قُتل، ثم كان قُتِل ابن الزبير ونُصِبَ _________ (1) أخرجه البخاري (4339) عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -. (2) كذا في النسختين! (3) لما استباح جيش يزيد بن معاوية المدينة النبوية، «فإن أهل المدينة النبوية نقضوا بيعته وأخرجوا نوابه وأهله فبعث إليهم جيشًا؛ وأمره إذا لم يطيعوه بعد ثلاث أن يدخلها بالسيف ويبيحها ثلاثًا، فصار عسكره في المدينة النبوية ثلاثًا يقتلون وينهبون ويفتضون الفروج المحرمة». قاله شيخ الإسلام «مجموع الفتاوى» (3/ 412). وأخبار هذه المصيبة مبسوطة في كتب التاريخ في أحداث سنة ثلاث وستين من الهجرة.
(1/170)
المنجنيقُ على البيت بالتأويل، ثم كانت فتنة ابن الأشعث وقُتِل مَن قُتِل من المسلمين (1) بدَيْرِ الجماجم (2) بالتأويل، ثم كانت فتنة الخوارج ـ ما لقي المسلمون من حروبهم وأذاهم ـ بالتأويل (3)، ثم خروج أبي مسلم (4) وقتْله بني أُمية وتلك الحروب العظام بالتأويل، ثم خروج العلويين وقتْلهم وحبْسهم ونفْيهم بالتأويل، إلى أضعاف أضعاف ما ذكرنا من حوادث الإسلام التي جرها التأويل. وما ضُرب مالكٌ بالسياط وطِيفَ به إلَّا بالتأويل، ولا ضُرب الإمام أحمد بالسياط وطُلب قتله إلَّا بالتأويل، ولا قُتل أحمد بن نصر الخزاعي (5) إلَّا بالتأويل، ولا جرى على نُعيم بن حمادٍ الخُزاعي ما جرى (6) وتوجَّعَ أهلُ _________ (1) «من المسلمين» ليس في «ب». (2) كانت سنةَ اثنتين أو ثلاث وثمانين بين جيشين عظيمين، جيش بقيادة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث الكندي، وجيش بقيادة الحجاج بن يوسف الثقفي. وينظر «تاريخ الطبري» (6/ 346) و «الكامل» لابن الأثير (3/ 494). (3) من قوله: «ثم كانت فتنة الخوارج» إلى هنا ليس في «ب». (4) أبو مسلم الخراساني صاحب الدعوة، وهازم جيوش الدولة الأموية، والقائم بإنشاء الدولة العباسية. ترجمته في «سير أعلام النبلاء» (6/ 48 - 73). (5) قال الذهبي في «العبر» (1/ 408): «قتله الواثق بيده لامتناعه من القول بخلق القرآن، ولكونه أغلظ للواثق في الخطاب وقال له: يا صبي. وكان رأسًا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فقام معه خلقٌ من المطوعة واستفحل أمرهم؛ فخافته الدولة من فتق يتم بذلك». (6) قال الذهبي في «العبر» (1/ 405): «امتُحِن بخلق القرآن فلم يُجِب؛ فحُبس وقُيِّد، ومات في الحبس رحمه الله تعالى».
(1/171)
الإسلام لمُصابه إلَّا بالتأويل، ولا جرى على محمد بن إسماعيل البخاري ما جرى ونُفِيَ وأُخرِجَ من بلده إلَّا بالتأويل، ولا قُتل مَن قُتل مِن خلفاء الإسلام ومُلوكه إلَّا بالتأويل، ولا جرى على شيخ الإسلام عبد الله أبي (1) إسماعيل الأنصاري ما جرى، وطُلب قَتْلُه بضعةً وعشرين مرةً إلَّا بالتأويل، ولا جرى على أئمة السُّنَّة والحديث ما جرى حين (2) حُبِسُوا وشُردوا وأُخرجوا من ديارهم إلَّا بالتأويل، ولا جرى على شيخ الإسلام ابن تيمية ما جرى من خُصومه بالسَّجْن (3)، وطلب قتله أكثر من عشرين مرة إلَّا بالتأويل. فقاتل الله التأويل الباطل (4) وأهلَه، وأخذ حقَّ دِينه وكتابه ورسوله وأنصاره منهم، فماذا هدموا من معاقل الإسلام، وهدُّوا من أركانه، وقلعوا من قواعده! ولقد تركوه أرقَّ من الثوب الخَلَق البالي، الذي تطاولت عليه السنون وتوالت عليه الأهوية والرياح. ولو بسطنا هذا الفصل وحده وما جناه التأويل على الأديان والشرائع وخراب العالم لَقام منه عدةُ أسفار، وإنما نبَّهنا تنبيهًا يعلم به العاقلُ ما وراءه. وبالله التوفيق. * * * * * _________ (1) في النسختين: «بن». وهوتصحيف، وشيخ الإسلام أبو إسماعيل عبد الله بن محمد بن علي الأنصاري الهروي ترجمته في «سير أعلام النبلاء» (18/ 503). (2) «ح»: «حتى». (3) «ح»: «بالسحر الباطلة». (4) «الباطل» ليس في «ح».
(1/172)
الفصل السادس (1) عشر في بيان ما يقبل التأويلَ من الكلام وما لا يقبله
لمَّا (2) كان وضعُ الكلام للدلالة على مراد المتكلم، وكان مراده لا يُعلَم إلَّا بكلامه، انقسم كلامه ثلاثة أقسام: أحدها: ما هو نصٌّ في مراده لا يحتمل غيره. الثاني: ما هو ظاهرٌ في مراده، وإن احتمل أن يريد غيره. الثالث: ما ليس بنصٍّ ولا ظاهرٍ في المراد، بل هو مجمل يحتاج إلى البيان. فالأول يستحيل دخول التأويل فيه، وتحميلُه التأويلَ كذبٌ ظاهرٌ على المتكلم. وهذا شأن عامة نصوص القرآن الصريحة في معناها كنصوص آيات الصِّفات والتوحيد، وأن الله سبحانه [ق 19 ب] مُكلَّمٌ متكلمٌ آمرٌ ناهٍ قائلٌ مخبرٌ مُوصِي حاكمٌ واعدٌ مُوعِدٌ مُنبِئٌ هادٍ داعٍ إلى دار السلام (3)، فوق عباده. عليٌّ (4) على كل شيءٍ، مستوٍ على عرشه، ينزل الأمرُ من عنده ويَعرُجُ إليه، وأنه فعالٌ حقيقةً، وأنه كلَّ يوم في شأنٍ، فعَّال لما يريد، وأنه ليس للخلق مِن دونه وليٌّ ولا شفيعٌ ولا ظهيرٌ، وأنه المنفرد بالربوبية والإلهية والتدبير والقيومية، وأنه يعلم السر وأخفى، وما تسقط من ورقة إلَّا يعلمها، وأنه _________ (1) «ح»: «الخامس». (2) «ب»: «ولما». (3) «ب»: «الإسلام». والمصنف - رحمه الله - يشير إلى قوله تعالى: {وَاَللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ اِلسَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [يونس: 25]. (4) «علي» ليس في «ح».
(1/173)
يسمع الكلام الخفي كما يسمع الجهر، ويرى ما في السماوات والأرض، ولا يخفى عليه منها ذرةٌ واحدةٌ، وأنه على كل شيءٍ قديرٌ، فلا يخرج مقدورٌ واحد عن (1) قدرته البتةَ، كما لا يخرج عن علمه ولا (2) تكوينه، وأن له ملائكة مدبِّرات بأمره للعالَم، تصعد وتنزل وتتحرك وتنتقل من مكانٍ إلى مكانٍ، وأنه يذهب بالدنيا ويُخرِّب هذا العالَم، ويأتي بالآخرة ويبعث مَن في القبور، جلَّ جلاله. إلى أمثال ذلك من النصوص التي هي في الدلالة على مرادها كدلالة لفظ العشرة والثلاثة على مدلوله، وكدلالة لفظ الشمس والقمر والليل والنهار والبَرِّ والبحر والخيل والبِغال والإبل والبقر والغنم (3) والذَّكَر والأنثى على مدلولها، لا فرقَ بين ذلك البتةَ. ولهذا لما سلَّطت الجهميةُ التأويلَ على نصوص الصِّفات سلَّطت الباطنيةُ التأويلَ على هذه الأمور، وجعلوها أمثالًا مضروبةً أُريدَ بها خلاف حقائقها وظواهرها، وجعلوا القرآن والشرع كله مؤولًا (4)، ولهم في التأويل كتبٌ مستقلةٌ نظير كتب الجهمية في تأويل آيات الصِّفات وأحاديثها. فهذا القسم إن سُلِّط التأويلُ عليه عاد الشرع كله متأوَّلًا؛ لأنه أظهر أقسام القرآن ثبوتًا وأكثرها ورودًا، ودلالةُ القرآن عليه متنوِّعةٌ غايةَ التنوع؛ فقَبولُ ما سواه للتأويل أقربُ من قبوله بكثيرٍ. _________ (1) «ح»: «من». (2) «لا» ليس في «ب». (3) «والغنم» ليس في «ب». (4) «كله مؤولًا» في «ح»: «أمثالًا كله».
(1/174)
فصل القسم الثاني: ما هو ظاهر في مراد المتكلم ولكنه يقبل التأويل. فهذا يُنظَر في وروده، فإن اطَّرد استعمالُه على وجهٍ واحدٍ استحال تأويله بما يخالف ظاهرَه؛ لأن التأويل إنما يكون لموضع (1) جاء نادرًا خارجًا عن نظائره منفردًا عنها، فيُؤوَّل حتى (2) يُرَدَّ إلى نظائره. وتأويل هذا غير ممتنعٍ؛ لأنه إذا عُرف من عادة المتكلم باطراد كلامه في توارُد (3) استعماله معنًى أَلِفَه ـ أي المخاطب (4) ـ فإذا جاء موضع يخالفه ردَّه السامع بما عَهِد من عُرف المخاطب إلى عادته المطردة. هذا هو المعقول في الأذهان والفِطر، وعند كافة (5) العقلاء. وقد صرَّح أئمةُ العربية بأن الشيء إنما يجوز حذفه إذا كان الموضع الذي ادُّعي فيه حذفه قد استُعمِل فيه ثبوته أكثر مِن حذفه، فلا بد أن يكون موضع ادعاء الحذف عندهم صالحًا للثبوت، ويكون الثبوت مع ذلك أكثرَ من الحذف (6)، حتى (7) إذا جاء ذلك محذوفًا في موضع عُلِمَ بكثرة ذِكره في نظائره أنه قد أُزيلَ من هذا الموضع فحُمِلَ عليه. فهذا شأن مَن يقصد البيان _________ (1) «ب»: «لوضع». (2) في النسختين: «حين». والمثبت من «م». (3) «ب»: «موارد». (4) «ب»: «المخاطبون». (5) «ح»: «الكافة». (6) من قوله: «عندهم صالحا» إلى هنا ليس في «ح». (7) «حتى» ليس في «ب».
(1/175)
والدلالة، وأما من يقصد التلبيس والتعمية فله شأنٌ آخر. والقصد أن الظاهر في معناه إذا اطَّرد استعماله في موارده (1) اطرادًا مستويًا امتنع تأويله، وإن جاز تأويلُ ظاهرِ ما لم يطَّرِد في موارد استعماله. ومثال ذلك اطِّراد قوله: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4]، {ثُمَّ اَسْتَوَى عَلَى اَلْعَرْشِ} [الأعراف: 53] في جميع موارده من أولها إلى آخرها على هذا اللفظ، فتأويله بـ «استولى» باطلٌ. وإنما كان يصح أنْ لو كان أكثَرُ مجيئه بلفظ «استولى»، ثم يخرج موضع عن نظائره، ويرد بلفظ «استوى»، فهذا كان يصح تأويله بـ «استولى». فتفطَّنْ لهذا (2) الموضع، واجعلْه قاعدةً فيما يمتنع (3) تأويلُه من كلام المتكلم، وما يجوز تأويله. ونظير هذا اطراد النصوص بالنظر إلى الله هكذا: «تَرَوْنَ رَبَّكُمْ» (4)، «تَنْظُرُونَ إِلَى رَبِّكُمْ» (5)، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22]. ولم يَجِئْ في موضعٍ واحدٍ: «ترون ثواب ربكم»، فيُحمَلَ عليه ما خرج عن نظائره. ونظير ذلك اطِّراد قوله: {وَنَادَيْنَاهُ} [مريم: 51]، {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} (6) [القصص: 62]، {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا} [الأعراف: 21]، {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ اِلطُّورِ إِذْ _________ (1) «ب»: «مراده». (2) «ب»: «بهذا». (3) «ح»: «تمنع». (4) أخرجه البخاري (554) ومسلم (633) عن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه -. (5) أخرجه النسائي في «السنن الكبرى» (11640) والطبراني في «المعجم الكبير» (2/ 296، 310) وهو أحد ألفاظ الحديث السابق. (6) {وَيَوْمَ} ليس في «ب».
(1/176)
نَادَيْنَا} [القصص: 46]، و {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ اِلْمُقَدَّسِ} (1) [النازعات: 16] ونظائرها، ولم يجئ في موضعٍ واحدٍ: «أمرْنا مَن يناديه» ولا «ناداه مَلَكُنا»، فتأويله بذلك عينُ المُحالِ والباطل. ونظير ذلك اطِّراد قوله: «يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ ... » (2) في نحو ثلاثين حديثًا كلها مصرِّحةٌ بإضافة النزول إلى الربِّ، ولم يجئ موضعٌ واحدٌ بقوله: «ينزل مَلَكُ ربنا»، حتى يُحمَلَ ما خرج عن نظائره عليه. وإذا تأملتَ نصوص الصِّفات التي لا تسمح الجهمية بأن يُسمُّوها نصوصًا، فإذا احترموها قالوا: ظواهر سمعية، وقد عارضها القواطع العقلية = وجدتَها كلها من هذا الباب. وممَّا يُقضى منه العجبُ أن كلام شيوخهم ومصنِّفيهم عندهم نصٌّ في مراده لا يحتمل التأويل، وكلام الموافقين (3) عندهم نصٌّ لا يجوز تأويله، حتى إذا جاؤوا إلى كلام الله ورسوله وقَفُوه على التأويل ووقفوا التأويل عليه، فقُلْ (4) ما شئتَ وحرِّف ما شئت. أفترى بيانَ هؤلاء لمرادهم أتمَّ من بيان الله ورسوله، أم كانوا مستولين على بيان الحقائق التي [ق 20 أ] سكت اللهُ ورسوله عن بيانها؟! بل (5) أولئك هم الجاهلون المتهوِّكون (6). _________ (1) {بِالْوَادِ اِلْمُقَدَّسِ} ليس في «ح». (2) أخرجه البخاري (1145) ومسلم (758) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (3) «ب»: «الواقفين». (4) «ب»: «قل». (5) «بل» ليس في «ح». (6) «ح»: «المهتوكون». وقد تقدم (ص 10) بيان معناه.
(1/177)
فصل القسم الثالث: الخطاب المُجمَل الذي أُحيل بيانه على خطابٍ آخر. فهذا أيضًا لا يجوز تأويله إلَّا بالخطاب الذي بيَّنه (1)، وقد يكون بيانه معه، وقد يكون منفصلًا عنه. والمقصود أن الكلام الذي هو عرضة التأويل أن يكون له عدة معانٍ، وليس معه ما يبيِّن مراد المتكلم، فهذا للتأويل فيه مجالٌ واسعٌ، وليس في كلام الله ورسوله من هذا النوع شيءٌ من الجُمَل المركبة، وإنْ وقَعَ في الحروف المفتتَح بها (2) السورُ. بل إذا تأمل مَن بصَّره اللهُ طريقةَ القرآن والسُّنَّة وجدها متضمِّنة لرفع ما يُوهِمه الكلام من خلاف ظاهره، وهذا موضع لطيف جدًّا في فهم القرآن نشير إلى بعضه: فمن ذلك قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اَللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 163]. رفَعَ سبحانه توهُّم المجاز في تكليمه (3) لكليمه بالمصدر المؤكِّد الذي لا يشكُّ عربي القلب واللسان أن المراد به إثبات تلك الحقيقة، كما تقول العرب: مات موتًا، ونزل نزولًا. ونظيره التأكيد بالنفس والعين وكل وأجمع، والتأكيد بقوله «حقًّا» ونظائره. ومن ذلك قوله تعالى: {قَد سَّمِعَ اَللَّهُ قَوْلَ اَلَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اَللَّهِ وَاَللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اَللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1] _________ (1) «ب»: «يبينه». (2) «بها» ليس في «ح». (3) «ح»: «تكلمه».
(1/178)
فلا يشك صحيح الفهم البتةَ في هذا الخطاب أنه نصٌّ صريحٌ لا يحتمل التأويل بوجهٍ في إثبات صفة السمع للرب تعالى حقيقة، وأنه بنفسه سَمِعَ. ومن ذلك قوله: {وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا اُلصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ اُلْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف: 41]. فرَفَعَ توهُّمَ السامع أن المكلَّف به عَمِلَ جميع الصالحات المقدورة والمعجوز عنها، كما يجوِّزه أصحاب تكليف ما لا يُطاق= رَفَعَ هذا التوهم بجملة اعتُرض (1) بها بين المبتدأ وخبره تزيلُ (2) الإشكال. ونظيره قوله تعالى: {وَأَوْفُوا اُلْكَيْلَ وَاَلْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الأنعام: 153]. ومن ذلك قوله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اِللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ اِلْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 83]. فلمَّا أمَرَه بالقتال أخبره أنه لا يُكلَّف بغيره، بل إنما كُلِّف نفسه، ثم أتبع ذلك بقوله: {وَحَرِّضِ اِلْمُؤْمِنِينَ} لئلَّا يتوهم سامعٌ أنه وإن لم يُكلَّف بهم فإنه يهملهم ويتركهم. ومن ذلك قوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ اُمْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 19]. فتأمل كم في هذا الكلام مِن رفعِ إيهامٍ وإزالة ما عسى أن يعرض للمخاطب من لبسٍ: فمنها: قوله: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِم بِإِيمَانٍ}، لئلا يُتوهَّم أن الإتباع في نسب أو تربية أو حرية أو رِقٍّ أوغير ذلك. _________ (1) «ب»: «اعتراض». (2) في النسختين: «يزيل». والمثبت من «م».
(1/179)
ومنها: قوله: {وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} لرفع الوهم لمتوهمٍ أنه يحط الآباء إلى درجة الأبناء ليحصل الإلحاق والتبعية، فأزال هذا الوهم بقوله: {وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم} (1) أي: ما نقصنا الآباءَ بهذا الإتباع شيئًا مِن عملهم، بل رفعنا الذرية إليهم قرةً لعيونهم، وإن لم يكن لهم أعمالٌ يستحقون بها تلك الدرجة. ومنها: قوله: {كُلُّ اُمْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}، فلا يتوهم متوهم أن هذا الإتباع حاصلٌ في أهل الجنة وأهل النار، بل (2) هو للمؤمنين دون الكفار، فإن الله سبحانه لا يعذِّب أحدًا إلَّا بكسبه، وقد يُثِيبه من غير كسبٍ منه. ومنها: قوله تعالى: {يَانِسَاءَ اَلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ اَلنِّسَا إِنِ اِتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ اَلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} [الأحزاب: 32]. فلمَّا أمرهن بالتقوى التي من شأنها التواضع ولِينُ الكلام نهاهن (3) عن الخضوع بالقول؛ لئلَّا يطمع فيهن ذو المرض، ثم أمرهن بعد ذلك بالقول المعروف رفعًا لتوهُّمِ الإذن في الكلام المنكر لمَّا نُهِينَ عن الخضوع بالقول. ومن ذلك قوله: {وَكُلُوا وَاَشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اُلْخَيْطُ اُلْأَبْيَضُ مِنَ اَلْخَيْطِ اِلْأَسْوَدِ مِنَ اَلْفَجْرِ} [البقرة: 186]، فرفعَ توهُّمَ فَهْم الخيطينِ من الخيوط بقوله: {مِنَ اَلْفَجْرِ} (4). _________ (1) {مِّنْ عَمَلِهِم} ليس في «ب». (2) «النار بل» في «ح»: «التأويل». (3) «ح»: «نهى». (4) أخرج البخاري (1917) ومسلم (1091) عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: «أُنزلت {وَكُلُوا وَاَشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اُلْخَيْطُ اُلْأَبْيَضُ مِنَ اَلْخَيْطِ اِلْأَسْوَدِ} ولم ينزل {مِنَ اَلْفَجْرِ}. فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رِجْله الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولم يزل يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعد {مِنَ اَلْفَجْرِ} فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار».
(1/180)
ومن ذلك قوله تعالى: {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 28]، فأثبت لهم مشيئةً، فلعل (1) متوهِّمًا يتوهَّم استقلاله (2) بها، وأنه إن شاء أتى بها (3) وإن شاء لم يأتِ بها (4)، فأزال سبحانه ذلك بقوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اَللَّهُ} [التكوير: 29]. ثم لعل متوهمًا يتوهم أنه يشاء (5) الشيء بلا حكمةٍ ولا علمٍ بمواقع مشيئته وحيث تصلح، فأزال ذلك بقوله: {إِنَّ اَللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان:30] (6). ونظير ذلك قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ (7) (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اَللَّهُ هُوَ أَهْلُ اُلتَّقْوى وَأَهْلُ اُلْمَغْفِرَةِ} [المدثر: 54 - 56]. ومن ذلك قوله تعالى: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي اِلتَّوْراةِ وَاَلْإِنجِيلِ وَاَلْقُرْآنِ} [التوبة: 112]، فلعل (8) متوهمًا يتوهم أن الله سبحانه يجوز عليه تركُ الوفاء بما _________ (1) «ح»: «فعل». (2) «ح»: «استقلالا». (3) «ح»: «به». (4) «بها» ليس في «ح». (5) «ب»: «شاء». (6) يُلاحظ أن الكلام انتقل من الكلام على آيات من سورة التكوير، إلى الكلام على آية من سورة الإنسان، فربما يكون في النسختين سقط. (7) من «قوله تعالى» إلى هنا ليس في «ح». (8) «ح»: «فعل».
(1/181)
وعد به، فأزال ذلك بقوله: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اَللَّهِ} [التوبة: 112]. ومن ذلك قوله تعالى: {* هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ اُلْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 159]، فلمَّا ذَكَر إتيانه سبحانه ربما توهَّمَ متوهمٌ أن المراد إتيان بعض آياته أزال هذا الوهمَ ورفع الإشكالَ بقوله: {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} فصار الكلام مع هذا التقسيم والتنويع نصًّا صريحًا في معناه لا يحتمل غيره. وإذا تأملتَ أحاديث الصِّفات رأيت هذا لائحًا [ق 20 ب] على صفحاتها، باديًا على ألفاظها، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا كَمَا تُرَى الشَّمْسُ فِي (1) الظَّهِيرَةِ صَحْوًا لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ، وَكَمَا يُرَى الْقَمَرُ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ» (2). وقوله: «مَا مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ (3) لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ، وَلَا حَاجِبٌ يَحْجُبُهُ» (4). فلمَّا كان تكليم (5) الملوك قد يقع بواسطة الترجمان ومن وراء الحجاب أزال هذا الوهم من الأفهام. وكذلك الحديث الآخر (6): «أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - قَرَأَ {وَكَانَ اَللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} _________ (1) «في» ليس في «ب». (2) متفق عليه، وقد تقدم تخريجه (ص 32). (3) «ربه» ليس في «ب». (4) رواه البخاري، وقد تقدم تخريجه (ص 38). (5) «ح»: «تكلم». (6) أخرجه أبو داود (4728) وابن خزيمة في «التوحيد» (46، 47، 49، 50) وابن حبان (265) والحاكم في «المستدرك» (1/ 24) واللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (688) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، وقال الحاكم: «حديث صحيح ولم يخرجاه». وقال اللالكائي: «وهو إسناد صحيح على شرط مسلم يلزمه إخراجه». ونقل القاضي أبو يعلى في «إبطال التأويلات» (318) عن أبي محمد الخلال قوله: «هذا حديث إسناده شرط مسلم يلزمه إخراجه في «الصحيح»، وهو حديث ليس فيه علة». وقال ابن حجر في «فتح الباري» (13/ 373): «أخرجه أبو داود بسند قوي على شرط مسلم».
(1/182)
ووَضَعَ إِبْهَامَيْهِ عَلَى أُذُنِهِ وعَيْنَيْهِ (1)» رفعًا لتوهم متوهمٍ أن المراد بالسمع والبصر غير الصفتين المعلومتين. وأمثال هذا كثيرٌ في القرآن والسُّنَّة، كما في الحديث الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَقْبِضُ اللَّهُ سَمَاوَاتِهِ بِيَدِهِ وَالْأَرْضَ بِاليَدِ الْأُخْرَى. ثم جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقْبِضُ يدَه ويَبسُطُها» (2) تحقيقًا لإثبات اليد وإثبات صفة القبض. ومن هذا إشارتُه بإصبعه إلى السماء حين استشهد ربَّه تبارك وتعالى على الصحابة أنه قد بَلَّغَهم (3) تحقيقًا لإثبات صفة (4) العلوِّ، وأن الربَّ الذي استشهده فوق العالم مستوٍ على عرشه. فهذه أمثلة يسيرة ذكرناها، يعرف الفَهِمُ المنصفُ القاصد للهدى والنجاة منها ما يقبل التأويل وما لا يقبله، ولا عِبرةَ بغيره. والله المستعان. * * * * * _________ (1) «ب»: «ووضع إبهاميه على أذنيه». وفي «م»: «ووضع إبهاميه على أذنه وعينه». والذي في «سنن أبي داود» وغيره من مصادر التخريج: «يضع إبهامه على أذنه، والتي تليها على عينه». (2) تقدم تخريجه. (3) أخرجه مسلم (1218) عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -. (4) «ب»: «صفات».
(1/183)
الفصل السابع (1) عشر في أن التأويل يُفسِد العلوم كلها إنْ سُلِّط (2) عليها ويرفع الثقة بالكلام ولا يمكن أُمةً من الأمم أن تعيش عليه
معلومٌ أن العلوم إنما قصد بها مصنِّفوها بيانَها وإيضاحها للمتعلمين، وتفهيمهم إياها بأقربِ ما يَقْدِرون عليه من الطرق. فإن سُلِّط التأويل على ألفاظهم، وحملها على غير ظواهرها (3)، لم يُنتفَع بها وفسدت، وعاد ذلك على موضوعها ومقصودها بالإبطال. فإذا حُمل كلام الأطباء على غير عُرفهم المعروف من خطابهم، وتأوَّلَ المخاطَبُ كلامَهم على غير ظاهره، لم يصل إلى فهم مرادهم البتةَ، بل أفسد عليهم عِلمهم وصناعتهم. وهكذا أصحاب علم الحساب والنحو وجميع أرباب العلوم إذا سُلِّط التأويل على كلامهم لم يُوصِل إلى شيءٍ من تلك العلوم، مع أنه يجوز عليهم الخطأ والتناقض والتلبيس في بعض المواضع والتعمية، ومع قصورهم في البيان وجودة التعبير، ومع نقصان إدراكهم للحقائق وعلومهم ومعارفهم. فكيف يُسلَّط التأويلُ على كلام مَن لا يجوز عليه الخطأ والغلط والتناقض وضد البيان والإرشاد؟! هذا مع كمال علمه، وكمال قدرته على _________ (1) «ح»: «السادس». (2) «ح»: «يسلط». (3) «ب»: «ظاهرها».
(1/184)
أعلى أنواع البيان، وكمال نُصحِه وهُداه وإحسانه، وقصده الإفهامَ والبيانَ لا التعميةَ والإلغاز. ولهذا لما سلَّط المحرِّفون التأويلات الباطلة على نصوص الشرع فسد الدِّينُ فسادًا، لولا أن الله سبحانه تكفَّل بحفظه، وأقام له حرسًا وَكَلَهم بحمايته (1) من تأويل الجاهلين وانتحال المبطِلين (2)، لجرى عليه ما جرى على الأديان السالفة. ولكن الله برحمته وعنايته بهذه الأُمة يبعث لها عند دروس السُّنَّة وظهور البدعة مَن يُجدِّد لها دينها، ولا يزال يغرس في دِينه غرسًا يستعملهم فيه علمًا وعملًا. وكما أن التأويل إن سُلِّط على علوم الخلائق أفسدها، فكذلك إذا استعمل في مخاطباتهم أفسدَ الإفهام والفهم، ولم يمكن لأُمة أن تعيش عليه أبدًا؛ فإنه ضد البيان الذي علَّمه اللهُ الإنسانَ لقيام مصالحه في مَعاشه ومَعاده. وقد تقدَّم تقرير ذلك بما فيه كفاية (3)، وبالله التوفيق. * * * * * _________ (1): «به وحمايته». (2) «من تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين» ليس في «ب». (3) في الفصل الرابع عشر.
(1/185)
فصل (1) في بيان أنه إنْ سُلِّط على آيات التوحيد القولي العلمي وأخباره لزم تسليطُه على آيات التوحيد العملي وأخباره وفسد التوحيد معرفةً وقصدًا هذا فصلٌ عظيم النفع جليل القدر، إنما ينتفع به مَن عرف نوعَيِ التوحيد: القولي العلمي الخبري، والتوحيد القصدي الإرادي العملي، كما دلَّ على الأول سورة: {قُلْ هُوَ اَللَّهُ أَحَدٌ}، وعلى الثاني سورة: {قُلْ يَاأَيُّهَا اَلْكَافِرُونَ}. وكذلك دلَّ على الأول قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا} الآية [البقرة: 135]، وعلى الثاني قوله تعالى: {* قُلْ يَاأَهْلَ اَلْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ... } الآية [آل عمران: 63]. ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بهاتين السورتين في سُنة الفجر (2)، وسُنة المغرب (3)، ويقرأ بهما (4) في ركعتَيِ الطواف (5). ويقرأ بالآيتين في سُنة الفجر (6) لتضمُّنهما التوحيدَ _________ (1) «ح»: «الفصل السابع عشر». «ب»: «الفصل الثامن عشر». والصواب أن هذا الفصل تابع للفصل السابق، فلم يُعد فصلًا منفصلًا في الفهرس الوارد في مقدمة الكتاب، وسيأتي الفصل الثامن عشر في النسختين موافقًا للفهرس المتقدم. (2) أخرجه مسلم (726) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (3) أخرجه الترمذي (431) وابن ماجه (1166) عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، وقال الترمذي: حديث غريب. وفي الباب عن علي وابن عمر - رضي الله عنهم -، ينظر: «نتائج الأفكار» لابن حجر (1/ 489 - 492). (4) «ب»: «ويقرأهما». (5) أخرجه مسلم (1218) عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -. (6) أخرجه مسلم (727) عن ابن عباس - رضي الله عنهما -.
(1/186)
العلمي والعملي. والتوحيدُ العلمي أساسُه إثبات صفات الكمال للربِّ تعالى ومباينته لخَلْقه، وتنزيهه عن العيوب والنقائص والتمثيل. والتوحيدُ العملي أساسُه تجريد القصد بالحب والخوف والرجاء والتوكل والإنابة والاستعانة والاستغاثة والعبودية بالقلب واللسان والجوارح لله وحده لا شريك له (1). فمدار ما بعث الله به رسله وأنزل به كُتبه على هذين التوحيدين، وأقرب الخلق إلى الله أقومُهم بهما علمًا وعملًا. ولهذا كانت الرُّسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ [ق 21 أ] أقربَ الخلق إلى الله، وأقربُهم إليه وسيلةً أولو العزم، وأقربُهم الخليلانِ، وخاتَمُهم سيِّد ولد آدم وأكرمُهم على الله بكمال توحيده وعبوديته لله. فهذان الأصلان هما قُطب رحى القرآن، وعليهما مداره، وبيانهما من أهم الأمور. والله سبحانه بيَّنَهما غايةَ البيان بالطرق الفطرية والعقلية والنظرية والأمثال المضروبة، ونوَّع سبحانه الطرق في إثباتهما أكمل التنويع، بحيث صارت معرفة القلوب الصحيحة والفِطَر السليمة لهما بمنزلة رؤية الأعين المبصرة التي لا آفة بها (2) للشمس والقمر والنجوم والأرض والسماء، فذاك للبصيرة بمنزلة هذا (3) للبصر. فإنْ سُلِّط التأويل على التوحيد الخبري العلمي كان تسليطه على التوحيد العملي القصدي أسهلَ، وانمحت رسوم التوحيد، وقامت معالم التعطيل والشرك. ولهذا كان الشرك والتعطيل متلازمينِ، لا ينفك أحدهما _________ (1) «لا شريك له» ليس في «ب». (2) «ح»: «لها». (3) «ح»: «هذه».
(1/187)
عن صاحبه. وإمام المعطِّلين المشركين فرعون، فهو إمام كل معطِّلٍ ومشركٍ إلى يوم القيامة، كما أن إمام الموحدين إبراهيم ومحمد ـ صلوات الله وسلامه عليهما ـ إلى يوم القيامة. قال الله تعالى لإمام المعطِّلين وأتباعه: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئمَّةً يَدْعُونَ إِلَى اَلنّارِ} [القصص: 41]، وقال لإمام الحنفاء {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 123] وقال لأتباعه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]. فلا (1) يأتي المعطِّل للتوحيد الخبري بتأويلٍ إلَّا أمكن المشرك المعطِّل للتوحيد العملي أن يأتي بتأويلٍ من جنسه، وقد اعترف بذلك حُذَّاق الفلاسفة وفضلاؤهم، فقال أبو الوليد ابن رشد في كتاب «الكشف عن مناهج الأدلة» (2): «القول في الجهة: وأمَّا هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة يُثبِتونها لله سبحانه حتى نفتها المعتزلةُ، ثم تَبِعهم على نفيها متأخرو الأشعرية كأبي المعالي ومَنِ اقتدى بقوله. وظواهر الشرع كلها تقتضي إثبات (3) الجهة، مثل قوله: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4]، ومثل قوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ اُلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضَ} [البقرة: 253]، ومثل قوله: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 16]، ومثل قوله: {يُدَبِّرُ اُلْأَمْرَ مِنَ اَلسَّمَا إِلَى اَلْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ ممَّا تَعُدُّونَ} [السجدة: 4]، ومثل قوله تعالى: {تَعْرُجُ اُلْمَلَائِكَةُ وَاَلرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]، ومثل قوله: {* آامِنتُم _________ (1) «ح»: «ولا». (2) «مناهج الأدلة» (ص 176 - 182). (3) «ح»: «إثباتها».
(1/188)
مَّن فِي اِلسَّمَاءِ اَن يَخْسِفَ بِكُمُ اُلْأَرْضَ} [الملك: 17]، إلى غير ذلك من الآيات التي إنْ سُلِّط التأويل عليها عاد الشرعُ كله مؤولًا (1). وإن قيل فيها: إنها من المتشابهات عاد الشرع كله متشابهًا؛ لأن الشرائع كلها مبنيةٌ على أن الله في السماء، وأن (2) منه تنزل الملائكةُ بالوحي إلى النبيين، وأن مِن السماء نزلت الكتبُ، وإليها كان الإسراء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - حتى قُرِّب من سدرة المنتهى. وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء، كما اتفقت (3) جميع الشرائع على ذلك. والشبهة التي قادت نُفاةَ الجهة إلى نفيها هي أنهم اعتقدوا أن إثباتَ الجهة يوجب إثباتَ المكان، وإثباتَ المكان يوجب إثباتَ الجسمية. ونحن نقول: إن إثبات هذا كله غير لازمٍ؛ فإن الجهة غير المكان، وذلك أن الجهة هي إمَّا سُطوح الجسم نفسه المحيطة به وهي ستة. وبهذا تقول: إن للحيوان فوق وأسفل ويمينًا وشمالًا وأمامَ وخلفَ. وإمَّا سُطوح جسمٍ آخر يحيط بالجسم ذي الجهات الست، فأمَّا الجهات التي هي سطوح الجسم نفسه فليست بمكان للجسم نفسه أصلًا، وأمَّا سطوح الأجسام المحيطة به (4) فهي له مكان، مثل سطوح الهواء المحيط بالإنسان، وسطوح الفلك المحيط بسطوح الهواء هي أيضًا مكان (5) للهواء، وهكذا الأفلاك بعضها _________ (1) «ح»: «متأولا». (2) «أن» ليس في «ح». (3) «ح»: «ارتفعت». وهو تحريف ظاهر. (4) «به» ليس في «ح». (5) «ح»: «فكان».
(1/189)
محيطةٌ ببعض ومكان له. وأمَّا سطح الفلك الخارج (1) فقد تبرهن (2) أنه ليس خارجه جسمٌ؛ لأنه لو كان ذلك (3) كذلك لوجب أن يكون خارجَ ذلك الجسم جسمٌ آخر، ويمر (4) الأمر إلى غير نهاية. فإذًا سطحُ آخر أجسام العالم ليس مكانًا أصلًا؛ إذ ليس يمكن أن يوجد فيه جسمٌ؛ لأن كل ما هو مكان يمكن أن يوجد فيه جسمٌ. فإذًا إنْ قام البرهانُ على وجود موجود في هذه الجهة فواجبٌ أن يكون غير جسمٍ، فالذي يمتنع (5) وجوده هناك هو عكس ما ظنه القوم وهو موجود هو جسم، لا موجود ليس بجسم. وليس لهم أن يقولوا: إن خارج العالم خلاء. وذلك أن الخلاء قد تبيَّن في العلوم النظرية امتناعُه؛ لأن ما يدل عليه اسم الخلاء ليس هو شيئًا أكثرَ من أبعادٍ ليس فيها جسمٌ، أعني: طُولًا وعرضًا وعمقًا؛ لأنه إنْ رُفِعت الأبعادُ (6) عنه عاد عَدَمًا، وإن أُنزِلَ الخلاء موجودًا لزم أن يكون أعراضٌ موجودة في غير جسمٍ؛ وذلك أن الأبعاد هي أعراض من باب الكمية ولا بد. ولكنه قيل في الآراء السالفة القديمة والشرائع الغابرة: إن ذلك الموضع هو مسكن الرُّوحانيين، يريدون الله والملائكة، وذلك أن ذلك الموضع ليس هو بمكان (7) ولا يحويه زمانٌ. وكذلك إن كان كل ما يحويه الزمان والمكان _________ (1) «مناهج الأدلة»: «الخارجي». (2) «ح»: «برهن». (3) «ذلك» ليس في «ح». (4) «ح»: «وممر». (5) «ح»: «والذي يمنع». (6) «ب»: «الأبصار». (7) «ب»: «مكان».
(1/190)
فاسدًا فقد يلزم أن يكون ما هنالك غيرَ فاسدٍ ولا كائنٍ [ق 21 ب]. وقد تبيَّن هذا المعنى ممَّا (1) أقوله، وذلك أنه لمَّا (2) لم يكن ها هنا شيءٌ، إلَّا هذا الموجود المحسوس أو العدم (3)، وكان من المعروف بنفسه (4) أن الموجود إنما يُنسَب إلى الوجود، أعني أنه (5) يقال إنه موجودٌ ـ أي: في الوجود ـ إذ لا يمكن أن يقال إنه موجودٌ في العدم. فإن كان ها هنا موجودًا هو أشرفُ الموجودات فواجبٌ أن يُنسَب من الموجود المحسوس إلى الجزء (6) الأشرف وهي السماوات. ولشرفِ هذا الجزء (7) قال تعالى: {لَخَلْقُ اُلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ اِلنَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [غافر: 57]، وهذا كله يظهر على التمام للعلماء الراسخين في العلم. فقد ظهر لك من هذا أن (8) إثبات الجهة واجبٌ بالشرع والعقل، وأنه الذي جاء به الشرع وانبنى عليه، وأن إبطال هذه القاعدة إبطالٌ للشرائع (9)، وأن وجه العُسر في تفهيم (10) هذا المعنى مع نفي الجسمية (11) هو أنه ليس _________ (1) «ح»: «ما». (2) «لما» ليس في «ح». (3) «ح»: «المعدوم». (4) بعده في «ح»: «به». (5) «ح»: «أن». (6) «ح»: «الحيز». (7) «ح»: «التحيز». (8) «أن» ليس في «ح». (9) «ح»: «الشرائع». (10) «ح»: «العرفي يفهم». (11) «ح»: «الجهمية».
(1/191)
في الشاهد مثالٌ له، فهو بعينه السبب في أنه لم يصرِّح الشرع بنفي الجسم عن (1) الخالق سبحانه؛ لأن الجمهور إنما يقع لهم (2) التصديقُ بحكم الغائب متى كان ذلك معلومَ الوجود في الشاهد، مثل العلم بالصانع، فإنه لما كان في الشاهد شرطًا في وجوده كان شرطًا في وجود الصانع الغائب. وأمَّا متى كان الحكم الذي في الغائب غير معلوم الوجود في الشاهد عند الأكثر، ولا يعلمه إلَّا العلماء (3) الراسخون، فإن الشرع يَزجُر عن طلب معرفته إن لم يكن بالجمهور حاجة إلى معرفته، مثل العلم بالنفس، أو يضرب له مثالًا من الشاهد إن كان بالجمهور حاجة إلى معرفته في سعادتهم (4). والشبهة الواقعة في نفي الجهة ـ عند الذين نفَوْها ـ ليس يتفطن الجمهور إليها، لا سيما إذا لم يصرِّح لهم بأنه (5) ليس بجسمٍ، فيجب أن يمتثل في هذا كله فِعل الشرع، وأن لا يتأول ما لم يُصرِّح الشرع (6) بتأويله. والناس في هذه الأشياء في الشرع على ثلاث مراتب: صِنفٌ لا يشعرون بالشكوك العارضة (7) في هذا المعنى، وخاصة متى _________ (1) «ح»: «على». (2) «ب»: «على». (3) «العلماء» ليس في «ب». (4) من قوله: «إن كان بالجمهور» إلى هنا ليس في «ب». وفي «ح» تحرف لفظ «سعادتهم» إلى «معادتهم». وصوبته من «م» و «مناهج الأدلة» لابن رشد. (5) من قوله: «ليس يتفطن» إلى هنا ليس في «ب». (6) من قوله: «وأن لا يتأول» إلى هنا ليس في «ب». (7) «ح»: «للمعارضة».
(1/192)
تُركت هذه الأشياء على ظاهرها في الشرع، وهؤلاء هم الأكثر، وهم الجمهور. وصِنفٌ عرفوا حقيقة هذه الأشياء، وهم العلماء الراسخون في العلم، وهؤلاء هم الأقل من الناس. وصِنفٌ عرضت لهم في هذه الأشياء شكوكٌ ولم يقدروا على حلها، وهؤلاء هم فوق العامة ودون العلماء، وهذا الصِّنف هم الذين يُوجد في حقهم التشابهُ في الشرع، وهم الذين ذمَّهم الله. وأمَّا عند العلماء والجمهور فليس في الشرع تشابهٌ، فعلى هذا المعنى ينبغي أن يُفهم التشابه. ومثال ما عرض لهذا الصِّنف مع الشرع مثالُ ما يعرض في خبز البُرِّ مثلًا ـ الذي هو الغذاء النافع لأكثر الأبدان ـ أن يكون لأقل الأبدان ضارًّا، وهو نافعٌ للأكثر، وكذلك التعليم الشرعي هو نافع للأكثر، وربما ضرَّ الأقل، ولهذا (1) الإشارة بقوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا اَلْفَاسِقِينَ} [البقرة: 25] لكن هذا إنما يعرض في آيات الكتاب العزيز في (2) الأقل منها والأقل من الناس، وأكثرُ ذلك هي الآيات التي تتضمَّن الإعلام عن أشياء في الغائب ليس لها مثال في الشاهد، فيُعبَّر (3) عنها بالشاهد الذي هو أقرب الموجودات (4) إليها، وأكثرها شبهًا (5) بها، فيعرض لبعض الناس أن يأخذ _________ (1) في النسختين: «وبهذا». وفي «م»: «وإلى هذا». والمثبت من «مناهج الأدلة». (2) «في» ليس في «ب». (3) «ح»: «فيصير». (4) «ب»: «الوجودات». (5) «ح»: «تشبيهًا».
(1/193)
الممثَّل به هو المثال نفسه (1)، فيلزمه الحيرة والشك، وهو الذي يُسمَّى متشابهاً في الشرع. وهذا ليس يعرض للعلماء ولا للجمهور، وهم صِنفَا الناس في الحقيقة؛ لأن هؤلاء هم الأصِحَّاء، والغذاء الملائم إنما يُوافق أبدان الأصحاء (2). وأمَّا أولئك فمرضى، والمرضى هم الأقل، ولذلك قال الله تعالى: {فَأَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران: 7]، وهؤلاء أهل الجدل (3) والكلام. وأشدُّ ما عرض على الشريعة من هذا الصنف أنهم تأولوا كثيرًا ممَّا ظنوه ليس على ظاهره، وقالوا: إن هذا التأويل هو المقصود به، وإنما أتى اللهُ به في صورة المتشابه ابتلاءً لعباده واختبارًا لهم. ونعوذ بالله من هذا الظن بالله، بل نقول: إن كتاب الله العزيز إنما جاء معجِزًا من جهة الوضوح والبيان. فإذًا ما أبعدَ مِن مقصد الشرع مَن قال فيما ليس بمتشابه إنه متشابه. ثم أوَّلَ ذلك المتشابِهَ بزعمه، وقال لجميع (4) الناس: إن فرضكم هو اعتقاد هذا التأويل، مثل ما قالوه في آيات الاستواء على العرش، وغير ذلك ممَّا قالوا إن ظاهره متشابِهٌ. وبالجملة فأكثرُ التأويلات التي زعم القائلون بها أنها المقصود من الشرع إذا تُؤمِّلَت وُجدتْ ليس يقوم عليها برهانٌ، ولا تفعل فِعل الظاهر في قبول الجمهور لها وعملهم (5) عنها. فإن المقصود الأول بالعلم في حق _________ (1) «ب»: «يقيسه». (2) «والغذاء الملائم إنما يوافق أبدان الأصحاء». في «ح»: «عن». (3) «الجدل» ليس في «ح». (4) «ح»: «فجميع». (5) «ب»: «وعلمهم».
(1/194)
الجمهور إنما هو العمل، فما كان أنفعَ في العمل فهو أجدرُ. وأما المقصود بالعلم في حق العلماء فهو الأمران جميعًا، أعني العلم والعمل. ومثال مَن أوَّلَ شيئًا من الشرع، وزعم أن ما أوَّلَه هو الذي قصده الشرع، وصرح بذلك التأويل للجمهور: مثال مَن أتى إلى دواءٍ قد ركَّبه طبيبٌ ماهرٌ ليحفظ صحةَ جميع الناس أو الأكثر، فجاء رجلٌ فلم يلائمه ذلك [ق 22 أ] الدواء المركَّب الأعظم لرداءة مزاجٍ كان به ليس يعرض إلَّا للأقل من الناس، فزعَمَ أن بعض الأدوية الذي (1) صرَّح باسمه الطبيبُ الأول في ذلك الدواء العام المنفعة المركَّب لم يُرِدْ به ذلك الدواءَ التي جرت العادة في اللسان أن يدل بذلك الاسم عليه، وإنما أراد به دواءً آخَرَ ممَّا يمكن أن يدل عليه بذلك باستعارة بعيدة، فأزال ذلك الدواء الأول من ذلك المركب الأعظم، وجعلَ فيه بدلَه الدواء الذي ظن أنه الذي قصده الطبيبُ، وقال للناس: هذا هو الذي قصده الطبيبُ الأول. فاستعمل الناسُ ذلك الدواء المركَّب على الوجه الذي تأوَّله عليه ذلك المتأوِّل (2)، ففسدت به أمزجةُ كثيرٍ من الناس. فجاء آخرون فشعروا بفساد أمزجة الناس عن ذلك الدواء المركَّب، فراموا إصلاحه بأن أبدلوا بعض أدويته بدواءٍ آخرَ غير الدواء الأول، فعرض من ذلك للناس نوعٌ من المرض غير النوع (3) الأول. فجاء ثالثٌ فتأوَّل في أدوية ذلك المركَّب غيرالتأويل الأول والثاني، فعرض من ذلك للناس (4) نوعٌ ثالثٌ من المرض _________ (1) «ب»: «التي». (2) في النسختين: «المثال». والمثبت من «م» و «مناهج الأدلة». (3) «النوع ليس في «ح». (4) «للناس» ليس في «ب».
(1/195)
غير النوعين المتقدمين. فجاء متأوِّلٌ رابع فتأول دواءً آخر غير الأدوية المتقدمة. فعرض منه للناس نوعٌ رابعٌ من المرض (1) غير الأمراض المتقدمة، فلمَّا طال الزمان بهذا الدواء المركَّب الأعظم، وسلط الناس التأويل على أدويته وغيَّروها وبدَّلوها، عرض منه للناس أمراضٌ شتى، حتى فسدت المنفعة المقصودة بذلك الدواء المركَّب في حق أكثر الناس. وهذه هي حال هذه الفِرَق الحادثة في الشريعة. مع الشريعة، وذلك أن كل (2) فرقةٍ منهم تأوَّلت في الشريعة تأويلًا غير التأويل الذي تأوَّلته الفرقةُ الأخرى، وزعمت أنه الذي قصده صاحب الشرع، حتى تمزَّقَ الشرعُ كلَّ مُمزَّقٍ، وبَعُدَ جدًّا عن موضوعه الأول. ولمَّا علم (3) صاحب الشرع - صلى الله عليه وسلم - أن مثل هذا يعرض، ولا بد، في شريعته، قال: «سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً» (4). يعني بالواحدة: التي سلكت ظاهرَ الشرع _________ (1) «ح»: «الأمراض». (2) «كل» سقط من «ح». (3) «ح»: «علمه». (4) أخرجه الإمام أحمد (17211) وأبو داود (4597) والحاكم في «المستدرك» (1/ 128) عن معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما -. وقال الحاكم: «هذه أسانيد تقام بها الحُجة في تصحيح هذا الحديث». وقال ابن كثير في «البداية والنهاية» (19/ 38): «تفرد به أبو داود، وإسناده حسن». وأخرجه أحمد (12815) وابن ماجه (3993) والضياء في «المختارة» (7/ 89) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، وقال البوصيري في «مصباح الزجاجة» (1412): «إسناد صحيح رجاله ثقات». قلنا: وفي الباب عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم -، ينظر: «تخريج أحاديث الكشاف» للزيلعي (1/ 447 - 451) و «الأجوبة المرضية» للسخاوي (147). وقال شيخ الإسلام في «مجموع الفتاوى» (3/ 345): «الحديث صحيح مشهور في السنن والمساند».
(1/196)
ولم تؤوِّله. وأنت إذا تأملتَ ما (1) عرض في هذه الشريعة في هذا الوقت من الفساد العارض (2) فيها من قِبَل التأويل (3) تبيَّنتَ أن هذا المثال صحيح، وأولُ مَن غيَّر هذا الدواء الأعظم هم الخوارجُ، ثم المعتزلة بعدهم، ثم الأشعرية، ثم الصوفية، ثم جاء أبو حامد فَطَمَّ الوادي على القَرِيِّ (4)». وذكر كلامًا بعد ذلك يتعلق (5) بكُتب أبي حامد (6) ليس لنا غرضٌ في حكايته. * * * * * _________ (1) «ب»: «في». (2) «ح»: «المعارض». (3) «التأويل» ليس في «ح». (4) يقال: «جرى الوادي فطمَّ على القَرِيِّ». أي: جرى سيل الوادي فطمَّ أي: دفن، يقال: طمَّ السيلُ الركيةَ. أي: دفنها، والقريِّ: مجرى الماء في الروضة، والجمع أقرية وقريان، و «على» من صلة المعنى: أي أتى على القري، يعني: أهلكه بأن دفنه، يُضرب عند تجاوز الشر حده». قاله الميداني في «مجمع الأمثال» (1/ 159). (5) «ح»: «متعلق». (6) «أبي حامد» ليس في «ح».
(1/197)
الفصل الثامن عشر في انقسام الناس في نصوص الوحي إلى أصحاب تأويلٍ وأصحاب تخييلٍ وأصحاب تجهيلٍ وأصحاب تمثيلٍ (1) وأصحاب سواء السبيل
هذه خمسة أصناف انقسم الناس إليها في هذا الباب بحسب اعتقادهم ما أُريدَ بالنصوص: الصنف الأول: أصحاب التأويل، وهم أشد الأصناف (2) اضطرابًا، إذ لم يثبت لهم قدمٌ في الفرق بين ما يُتأول وما لا يُتأول، ولا ضابط مطَّرِد منعكس يجب مراعاته ويمنع مخالفته؛ بخلاف سائر الفرق، فإنهم جَرَوْا على ضابطٍ واحدٍ، وإن كان فيهم من هو أشد خطأً من أصحاب التأويل كما سنذكره. الصنف الثاني: أصحاب التخييل، وهم الذين اعتقدوا أن الرُّسل لم تُفصِحْ للخلق بالحقائق؛ إذ ليس في قُواهم إدراكها، وإنما خَيَّلَت (3) لهم، وأبرزت المعقولَ في صورة المحسوس. قالوا: ولو دعتِ الرُّسلُ أُمَمَهم إلى الإقرار بربٍّ لا داخلَ العالم ولا خارجَه ولا مُحايِثًا له ولا مُبايِنًا له (4)، ولا متصلًا به ولا منفصلًا عنه، ولا فوقه ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن يساره. لنفرت عقولُهم من ذلك، ولم تصدِّق بإمكان وجود هذا الموجود فضلًا عن وجوب وجوده. وكذلك لو أخبروهم بحقيقة كلامه، وأنه فيضٌ _________ (1) قدَّم في «ب» قوله «وأصحاب تمثيل» على قوله «وأصحاب تجهيل». (2) «ح»: «الناس». (3) «ح»: «حلت». (4) «ح»: «به».
(1/198)
فاضَ من (1) المبدأ الأول على العقل الفعَّال، ثم فاضَ من ذلك العقل على النفس الناطقة الزكية المستعدة؛ لم يفهموا ذلك. ولو أخبروهم عن المعاد الرُّوحاني بما هو عليه لم يفهموه، فقرَّبوا لهم الحقائقَ المعقولة في إبرازها في الصور المحسوسة، وضربوا لهم الأمثال بقيام الأجساد من القبور في يوم العرض والنشور، ومصيرها إلى جنةٍ فيها أكلٌ وشربٌ ولحمٌ وخمرٌ وجوارٍ حِسانٌ، أو نارٍ فيها أنواع العذاب، تفهيمًا للذة الرُّوحانية بهذه الصورة، والألم الرُّوحاني بهذه الصورة (2). وهكذا فعلوا في وجود الربِّ وصفاته وأفعاله، ضربوا لهم الأمثال بموجودٍ (3) عظيمٍ جدًّا أكبر من كل موجودٍ، وله سريرٌ عظيمٌ وهو مستوٍ فوق سريره، يسمع ويبصر ويتكلم، ويأمر وينهى، ويرضى ويغضب، ويأتي ويجيء وينزل، وله يدانِ ووجهٌ، ويفعل بمشيئته وإرادته، وإذا تكلم العبادُ سمع (4) كلامَهم، وإذا تحركوا رأى حركاتِهم، وإذا هجسَ في قلب أحدٍ منهم هاجسٌ عَلِمَه، وأنه ينزل كل ليلة إليهم (5) إلى سمائهم هذه فيقول: «مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، وَمَنْ (6) يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ» (7). إلى غير ذلك ممَّا نطقت به الكتبُ الإلهية. _________ (1) «من» ليس في النسختين، وأثبته من «م». (2) «والألم الروحاني بهذه الصورة» ليس في «ب». (3) «ح»: «بوجود». (4) «ب»: «يسمع». (5) «ح»: «لهم». (6) «ب»: «من». (7) أخرجه البخاري (1145) ومسلم (758) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
(1/199)
قالوا: ولا يحلُّ لأحدٍ أن يتأول ذلك على خلاف ظاهره للجمهور؛ لأنه يُفسِد ما وُضِعت له [ق 22 ب] الشرائع والكتب الإلهية. وأمَّا الخاصة فهم يعلمون أن هذه أمثالٌ مضروبةٌ لأمور عقلية تَعجِزُ عن إدراكها عقولُ الجمهور، فتأويلها جناية على الشريعة والحكمة، وإقرارها (1) إقرارٌ للشريعة والحكمة. قالوا: وعقول الجمهور بالنسبة إلى هذه الحقائق (2) أضعفُ من عقول الصبيان بالنسبة إلى ما يدركه عقلاءُ الرجال وأهل الحِكمة منهم. والحكيم إذا أراد أن يخوِّف الصغير أو يبسط أملَه خوَّفه ورجَّاه بما يناسب فَهمَه وطبعَه. وحقيقة الأمر عند هذه الطائفة: أن الذي أخبرت به الرُّسلُ عن الله وصفاته وأفعاله وعن اليوم الآخر لا حقيقةَ له تُطابِق ما أخبروا به، ولكنه أمثالٌ وتخييلٌ وتفهيمٌ بضرب الأمثال. وقد ساعدهم أربابُ التأويل على هذا المقصد في باب معرفة الله وأسمائه وصفاته، وصرَّحوا في ذلك بمعنى (3) ما صرَّح به هؤلاء في باب المَعاد وحشْر الأجساد، بل نقلوا كلماتهم بعينها إلى نصوص الاستواء والفَوْقية ونصوص الصِّفات الخبرية. لكن هؤلاء أوجبوا أو سوَّغوا تأويلها بما يُخرِجها عن حقائقها وظواهرها، وظنوا أن الرُّسل قصدت ذلك من المخاطَبين تعريضًا لهم إلى الثواب الجزيل ببذل الجهد (4) في تأويلها واستخراج معانٍ تليق بها وحملها عليها؛ وأولئك حرَّموا التأويل، _________ (1) «ح»: «والإقرار». (2) من قوله: «إقرار للشريعة» إلى هنا ليس في «ح». (3) «ح»: «معنى». (4) «ح»: «تبدل الجهة».
(1/200)
ورأوه عائدًا على ما قصدته الأنبياءُ بالإبطال. والطائفتان متفقتان على انتفاء حقائقها المفهومة منها في نفس الأمر. والصنف الثالث: أصحاب التجهيل، الذين قالوا: نصوص الصِّفات ألفاظٌ لا يُعقَل معانيها، ولا يُدرى ما أراد اللهُ ورسوله منها، ولكن نقرؤُها (1) ألفاظًا لا معانِيَ لها، ونعلم أن لها تأويلًا لا يعلمه إلَّا الله، وهي عندنا بمنزلة: {كهيعص} [مريم: 1] و {حم عسق} [الشورى: 1] و {المص} [الأعراف: 1]. فلو ورد علينا منها ما ورد لم نعتقد فيه تمثيلًا ولا تشبيهًا، ولم نعرف معناه، ونُنكِر على مَن تأوَّله، ونَكِل علمه إلى الله. وظن هؤلاء أن هذه طريقةُ السلف، وأنهم لم يكونوا يعرفون حقائق الأسماء والصفات، ولا يفهمون معنى قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 74] وقوله: {وَاَلْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ} [الزمر: 64]، وقوله: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4]، وأمثال ذلك من نصوص الصفات. وبنَوْا هذا المذهب على أصلين: أحدهما: أن هذه النصوص من المتشابِه. والثاني: أن للمتشابه تأويلًا لا يعلمه إلَّا الله. فنتج مِن هذين الأصلين استجهالُ السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وسائر الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأنهم كانوا يقرؤون: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4] و {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 66]، _________ (1) «ح»: «يقروها».
(1/201)
ويَرْوُون (1): «يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا» (2)، ولا يعرفون معنى ذلك ولا ما أُريدَ به؛ ولازمُ قولهم أن الرسول كان يتكلم بذلك ولا يعلم معناه، ثم تناقضوا أقبحَ تناقُضٍ، فقالوا: تُجرَى على ظواهرها، وتأويلُها بما (3) يخالف الظواهر باطلٌ، ومع ذلك فلها تأويلٌ لا يعلمه إلَّا الله. فكيف يُثبِتون (4) لها تأويلًا، ويقولون: تجرى على ظواهرها، ويقولون (5): الظاهر منها غير (6) مرادٍ، والربُّ منفرد بعلم تأويلها. وهل في التناقض أقبحُ من هذا؟! وهؤلاء غلطوا (7) في المتشابه، وفي جعل هذه النصوص من المتشابه، وفي كَوْن المتشابه لا يعلم معناه إلَّا الله، فأخطؤوا في المقدِّمات الثلاث. واضطرهم إلى هذا التخلصُ من تأويلات المبطِلين وتحريفات المعطِّلين، وسدُّوا على نفوسهم الباب، وقالوا: لا نرضى بالخطأ، ولا وصولَ لنا إلى الصواب. فهؤلاء تركوا التدبُّر المأمور به والتذكر والعقل لمعاني النصوص، الذي هو أساس الإيمان وعمود اليقين، وأعرضوا عنه بقلوبهم، وتعبَّدوا بالألفاظ المجردة التي أُنزلت في ذلك، وظنوا أنها أُنزلت للتلاوة والتعبُّد بها دون تعقُّل _________ (1) «ح»: «ويرون». (2) متفق عليه، وقد تقدم تخريجه. (3) «ح»: «مما». (4) «ح»: «ينسبون». (5) «ح»: «ظواهر أو يقولون». (6) «غير» ليس في «ح». (7) في النسختين: «عطلوا». والمثبت من «م».
(1/202)
معانيها وتدبُّرها والتفكر فيها. فأولئك جعلوها عُرضة للتأويل والتحريف، كما جعلها أصحاب التخييل أمثالًا لا حقيقة لها. وقابلهم الصنف الرابع، وهم أصحاب التشبيه والتمثيل، ففهموا منها مثل (1) ما للمخلوقين، وظنوا أنْ لا حقيقةَ لها سوى ذلك، وقالوا: مُحال أن يخاطبنا اللهُ سبحانه بما لا نعقله، ثم يقول: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 72] {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 217] {لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 28]، ونظائر ذلك. وهؤلاء هم المشبِّهة (2). فهذه الفِرَق لا تزال تُبدِّع بعضُهم بعضًا وتضلِّله وتجهِّله، وقد تصادمت كما ترى، فَهُمْ كزُمرة من العميان تلاقوا فتصادموا، كما قال أعمى البصر والبصيرة (3) منهم (4): وَنَظِيرِي فِي الْعِلْمِ مِثْلِيَ أَعْمَى ... فَتَرَانَا فِي حِنْدِسٍ نَتَصَادَمْ وهدى الله أصحابَ سواء السبيل للطريقة المُثلى، فلم يتلوثوا بشيءٍ من أوضار (5) هذه الفرق وأدناسها (6)، وأثبتوا لله حقائق الأسماء والصفات، ونفَوْا عنها مماثلة المخلوقات، فكان (7) مذهبهم [ق 23 أ] مذهبًا بين مذهبين _________ (1) «مثل» ليس في «ح». (2) «ح»: «المثبتة». (3) «ح»: «البصيرة والبصر». (4) يعني: أبا العلاء المعري، وقد تقدم البيت (ص 145). (5) «ح»: «أوصاف». (6) «ح»: «أديانها». (7) «ح»: «وكان».
(1/203)
وهُدًى بين ضلالتين، خرج من بين مذاهب المعطِّلين والمخيِّلين والمجهِّلين والمشبِّهين، كما خرج اللبن من بين فرثٍ ودمٍ لبنًا خالصًا (1) سائغًا للشاربين. وقالوا: نَصِفُ اللهَ بما وصف به نفسَه وبما وصفه به رسولُه، من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومن غير تشبيهٍ ولا تمثيلٍ، بل طريقتنا إثباتُ حقائق الأسماء والصفات، ونفْيُ مشابهة المخلوقات، فلا نعطِّل ولا نؤوِّل ولا نمثِّل ولا نجهِّل، ولا نقول: ليس لله يدانِ ولا وجهٌ ولا سمعٌ ولا بصر ولا حياة ولا قدرة ولا استواءٌ على عرشه. ولا نقول: له يدانِ كأيدي المخلوقين (2)، ووجه كوجوههم، وسمعٌ وبصر وحياة وقدرة واستواء كأسماعهم وأبصارهم وقدرتهم واستوائهم. بل نقول: له ذاتٌ حقيقةً ليست كالذوات، وله صفاتٌ حقيقةً لا مجازًا ليست كصفات المخلوقين. وكذلك قولنا في وجهه تبارك وتعالى ويديه وسمعِه وبصرِه وكلامه واستوائه، ولا يمنعنا ذلك أن نفهم المراد من تلك الصِّفات وحقائقها، كما لم يمنع ذلك مَن أثبت لله شيئًا من صفات الكمال مِن فَهْمِ معنى الصفة وحقيقتها (3)، فإن مَن أثبتَ له سبحانه السمع والبصر أثبتهما حقيقةً وفَهِمَ معناهما، فهكذا سائر صفاته المقدسة (4) يجب أن تجري هذا المجرى، وإن كان لا سبيلَ لنا (5) إلى _________ (1) «خالصًا» ليس في «ح». (2) «ح»: «المخلوق». (3) «ح»: «وتحقيقها». (4) «ح»: «المتقدمة». (5) «ح»: «له».
(1/204)
معرفة كُنْهها وكيفيتها؛ فإن الله سبحانه لم يكلِّف عباده بذلك، ولا أراده منهم، ولم يجعل لهم إليه سبيلًا. بل كثيرٌ من مخلوقاته أو أكثرها لم يجعل لهم سبيلًا إلى معرفة كنهه وكيفيته، وهذه أرواحهم ـ التي هي أدنى إليهم من كل دانٍ (1) ـ قد حجَبَ عنهم معرفة كنهها وكيفيتها، و [ما] (2) جعَلَ لهم السبيل إلى معرفتها والتمييز (3) بينها وبين أرواح البهائم. وقد أخبرنا سبحانه عن تفاصيل يوم القيامة وما في الجنة والنار، فقامت حقائقُ ذلك في قلوب أهل الإيمان، وشاهدته عقولُهم، ولم يعرفوا كيفيته وكُنْهه. فلا يشك المسلمون أن في الجنة أنهارًا من خمرٍ، وأنهارًا من عسلٍ، وأنهارًا من لبنٍ، ولكن لا يعرفون كُنْهَ ذلك ومادته وكيفيته؛ إذ كانوا لا يعرفون في الدنيا الخمر إلَّا ما اعتُصِرَ من الأعناب، والعسل إلَّا ما قذفت به النحلُ في بيوتها، واللبن إلَّا ما خرج من الضروع، والحرير إلَّا ما خرج من فم دود القزِّ، وقد فهموا معانيَ ذلك في الجنة من غير أن يكون مماثِلًا لما في الدنيا، كما قال ابن عباسٍ: «ليس في الدنيا ممَّا في الآخرةِ إلَّا الأسماءُ» (4). ولم يمنعهم عدم النظير في الدُّنيا مِن فَهْمِ ما أُخبروا به من ذلك، فهكذا _________ (1) «ح»: «ذات». (2) سقط من النسختين، وأثبته ليستقيم السياق. (3) «ب»: «وبالتمييز». (4) أخرجه هناد في «الزهد» (3) والطبري في «تفسيره» (1/ 416) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 66) وأبو نعيم في «صفة الجنة» (124) والبيهقي في «البعث والنشور» (1/ 210) والضياء في «الأحاديث المختارة» (10/ 16) ولفظه «الجنة» بدل «الآخرة». وجوَّد المنذري في «الترغيب والترهيب» (4/ 316) إسناده، وصححه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (2188).
(1/205)
الأسماء والصفات لم يمنعهم انتفاء نظيرها في الدنيا ومثالها مِن فَهْم حقائقها ومعانيها، بل قام بقلوبهم معرفة حقائقها وانتفاء التمثيل والتشبيه عنها. وهذا هو المثل الأعلى الذي أثبته سبحانه لنفسه في ثلاثة مواضع من القرآن: أحدها: قوله: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ اُلسَّوْءِ وَلِلَّهِ اِلْمَثَلُ اُلْأَعْلَى وَهْوَ اَلْعَزِيزُ اُلْحَكِيمُ} [النحل: 60]. الثاني: قوله: {وَهْوَ اَلَّذِي يَبْدَأُ اُلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهْوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ اُلْمَثَلُ اُلْأَعْلَى فِي اِلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ وَهْوَ اَلْعَزِيزُ اُلْحَكِيمُ} [الروم: 26]. الثالث: قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهْوَ اَلسَّمِيعُ اُلْبَصِيرُ} [الشورى: 9]. فنفى سبحانه المماثلةَ عن هذا المثل الأعلى، وهو ما في قلوب أهل سماواته وأرضه من معرفته والإقرار بربوبيته وأسمائه وصفاته وذاته. فهذا المثل الأعلى هو الذي آمَنَ (1) به المؤمنون، وأَنِسَ به العارفون، وقامت شواهدُه في قلوبهم بالتعريفات الفطرية المكملة بالكتب الإلهية، المقبولة بالبراهين العقلية، فاتفق على الشهادة بثبوته العقلُ والسمعُ والفطرة. فإذا قال المثبت: يا الله، قام بقلبه ربًّا قيُّومًا قائمًا (2) بنفسه، مستويًا على عرشه، مُكلَّمًا مُتكلِّمًا سامعًا رائيًا (3) قديرًا مريدًا فعَّالًا لما يشاء، يسمع دعاء الداعين، ويقضي حوائجَ السائلين، ويُفرِّج عن (4) المكروبين، تُرضيه الطاعات، _________ (1) «ب»: «أنس». (2) «قائما» ليس في «ح». (3) «رائيا» ليس في «ح». (4) «ب»: «عند». وهو تحريف.
(1/206)
وتُغضبه المعاصي، تَعرُجُ الملائكةُ بالأمر إليه، وتنزل بالأمر من عنده. وإذا شئتَ زيادةَ تعريفٍ بهذا المثل الأعلى فقدِّر (1) قُوى جميع المخلوقات اجتمعت لواحدٍ منهم، ثم كان جميعهم على قوة ذلك الواحد، فإذا نسبتَ قوته إلى قوة الربِّ تبارك وتعالى لم تجد لها نسبة وإيَّاها البتةَ، كما لا تجد نسبة بين قوة البعوضة وقوة الأسد. فإذا قدرتَ علوم الخلائق اجتمعت لرجلٍ واحدٍ، ثم قدرتَ جميعهم بهذه المثابة كانت علومهم بالنسبة إلى عِلمه تعالى كنقرة عصفورٍ من بحرٍ. وإذا قدرتَ حِكمة جميع المخلوقين على هذا التقدير لم يكن لها نسبة إلى حِكمته. وكذلك إذا قدَّرتَ كل جمالٍ في الوجود اجتمع لشخصٍ [ق 23 ب] واحدٍ، ثم كان الخَلْق كلهم بذلك الجمال كان نسبته إلى جمال الربِّ تعالى وجلاله دون نسبة السِّراج الضعيف إلى (2) جرم الشمس. وقد نبَّهنا الله سبحانه على هذا المعنى بقوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي اِلْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَاَلْبَحْرَ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اُللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان: 26]. فقدِّرِ البحر المحيط بالعالَم مِدادًا ووراءه سبعة أبحر تحيط به كلها مِدادٌ تُكتب (3) به كلماتُ الله، نفدت البحارُ، وفنيت الأقلامُ ـ التي لو قدرت جميع أشجار الأرض من حين خُلِقت إلى آخِر الدنيا ـ ولم تنفد كلمات الله. وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ فِي الْكُرْسِيِّ كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ _________ (1) «ح»: «فعد». (2) «ح»: «في». (3) «ح»: «يكتب».
(1/207)
بِأَرْضٍ فَلَاةٍ، وَالْكُرْسِيَّ فِي (1) الْعَرْشِ كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ فِي أَرْضٍ (2) فَلَاةٍ، وَالْعَرْشُ لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَهُوَ سُبْحَانُهُ فَوْقَ عَرْشِهِ يَرَى مَا عِبَادُهُ عَلَيْهِ» (3). فهذا هو الذي قام بقلوب المؤمنين المصدِّقين العارفين به سبحانه من المثل الأعلى، فعرفوه به، وعبدوه به، وسألوه به (4) فأحبوه وخافوه ورجَوْه، وتوكلوا عليه، وأنابوا إليه، واطمأنوا بذِكره، وأَنِسُوا بحبه بواسطة هذا التعريف. فلم يصعب عليهم بعد ذلك فَهمُ (5) استوائه على عرشه، وسائرِ ما وصف به نفسَه من صفات كماله (6)؛ إذ قد أحاط علمهم بأنه لا نظيرَ لذلك ولا مثلَ له، ولم يخطر بقلوبهم مماثلتُه لشيءٍ من المخلوقات. وقد أعلمهم سبحانه على لسان رسوله «أَنَّهُ يَقْبِضُ سَمَاوَاتِهِ بِيَدِهِ _________ (1) «ب»: «و». (2) «ب»: «بأرض». (3) أخرجه محمد بن عثمان بن أبي شيبة في «العرش» (58) والطبري في «التفسير» (4/ 539) وابن حبان (361) وأبو الشيخ في «العظمة» (206) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (861، 862) عن أبي ذر - رضي الله عنه - دون قوله: «والعرش لا يَقدر قَدْره إلا الله ... » الحديث، وقال الذهبي في «العلو» (307): «الخبر منكر». وقال ابن حجر في «الفتح» (13/ 411): «وله شاهد عن مجاهد أخرجه سعيد بن منصور في «التفسير» بسند صحيح». وقد روي معناه موقوفًا من عدة طرق، ينظر: «الدر المنثور» للسيوطي (3/ 193، 7/ 617). (4) «به» ليس في «ح». (5) «فهم» ليس في «ح». (6) «ب»: «جماله».
(1/208)
وَالْأَرْضَ بِالْيَدِ الْأُخْرَى، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ» (1). «وَأَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ فِي كَفِّهِ تَعَالَى كَخَرْدَلَةٍ فِي كَفِّ أَحَدِكُمْ (2)» (3). «وَأَنَّهُ يَضَعُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْجِبَالَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ» (4). فأيُّ أيدٍ للخلق وأي إصبع تُشبه (5) هذه اليدَ وهذه الإصبعَ حتى يكون إثباتها تشبيهًا وتمثيلًا. فقاتَلَ اللهُ أصحابَ التحريف والتأويل، وأصحابَ التخييل، وأصحاب التجهيل (6)، وأصحاب التشبيه والتمثيل. ماذا حُرِمُوه من الحقائق الإيمانية والمعارف الإلهية، وماذا تعوضوا به من زُبالة الأذهان ونُخالة الأفكار! فما أشبَهَهم بمن كان غذاؤهم المَنَّ والسَّلْوى بلا تعبٍ ولا كُلْفةٍ، فآثَروا عليه الفُومَ (7) والعدس والبصل، وقد جرت عادةُ الله سبحانه أن يُذِلَّ مَن آثَرَ الأدنى على الأعلى، ويجعله عبرةً للعقلاء. فأوَّلُ هذا الصنف إبليسُ ترَكَ السجود لآدم كِبرًا؛ فابتلاه الله بالقيادة _________ (1) تقدم تخريجه. (2) «ب»: «أحدنا». (3) لم نقف عليه مرفوعًا، وهو أثر مشهور موقوف على ابن عباس - رضي الله عنه -، وقد تقدم تخريجه. (4) أخرجه البخاري (7414) ومسلم (2786) عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. (5) «ب»: «يشبه». (6) «وأصحاب التجهيل» ليس في «ح». (7) «ح»: «الثوم». والفوم: الثُّوم، وفي قراءة عبد الله: «وثُومِها». ويقال: هو الحِنْطة. «الصحاح» (5/ 2004).
(1/209)
لفُسَّاق ذريته. وعُبَّادُ الأصنام لم يُقروا بنبيٍّ من البشر، ورَضُوا بآلهةٍ (1) من الحجر. والجهميةُ نزَّهوا الله عن عرشه لئلَّا يحويه مكانٌ، ثم جعلوه في الآبار والأنجاس وفي كل مكانٍ. وهكذا طوائف الباطل لم يَرضَوْا بنصوص الوحي، فابتُلوا بزُبالة أذهان المتحيرين وورثة الصابئين وأفراخ الفلاسفة الملحدين، و {مَن يَهْدِ اِللَّهُ فَهْوَ اَلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا} [الكهف: 17]. * * * * * _________ (1) «ح»: «بإله».
(1/210)
الفصل التاسع عشر في الأسباب التي تسهل على النفوس الجاهلة قبول التأويل مع مخالفته للبيان (1) الذي علَّمه الله الإنسان وفَطَره على قبوله
التأويل يجري مَجرى مخالفة (2) الطبيعة الإنسانية والفطرة التي فَطَر عليها العبد، فإنه ردُّ الفهم من جريانه مع الأمر المعتاد المألوف إلى الأمر الذي لم يُعهَد ولم يُؤلف. وما كان هذا سبيلَه فإن الطباع السليمة لا تتقاضاه بل تنفر منه وتأباه، فلذلك وضع له أربابُه أصولًا ومهَّدوا له أسبابًا تدعو إلى قبوله، وهي أنواع (3): السبب الأول: أن يأتي به صاحبه مموَّهًا مُزخرَف الألفاظ مُلفَّق المعاني، مكسوًّا حُلَّةَ الفصاحة والعبارة الرشيقة، فتسرع العقولُ الضعيفة إلى قبوله واستحسانه، وتبادر إلى اعتقاده وتقليده. ويكون حاله في ذلك حال من يعرض سلعةً مموَّهةً مغشوشةً على من لا بصيرةَ له بباطنها وحقيقتها، فيُحسِّنها في عينه، ويُحبِّبها إلى نفسه. وهذا الذي يعتمده (4) كلُّ مَن أراد ترويج باطلٍ؛ فإنه لا يتم له ذلك إلَّا بتمويهه وزخرفته وإلقائه إلى جاهلٍ بحقيقته. قال الله (5) تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ اَلْإِنسِ وَاَلْجِنِّ _________ (1) «للبيان» ليس في «ح». (2) «ب»: «مخالفته». (3) «أنواع» ليس في «ح». (4) «ح»: «يعتمد». (5) لفظ الجلالة ليس في «ب».
(1/211)
يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ اَلْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 113]، فذكر سبحانه أنهم يستعينون على مخالفة أمر الأنبياء بما يُزخرفه بعضُهم لبعضٍ من القول، فيغترُّ به الأَغْمارُ (1) وضعفاء العقول، فذكر السببَ الفاعل والقابل. ثم ذكر سبحانه انفعال هذه النفوس الجاهلة عنه بصَغْوِها وميلها إليه (2) ورضاها به؛ لِمَا كُسِيَ من الزُّخرف الذي يغرُّ السامعَ. فلمَّا أصغت إليه ورَضِيَتْه اقترفت ما تدعو إليه من الباطل قولًا وعملًا. فتأمَّلْ هذه الآيات وما تحتها من هذا المعنى العظيم القدْر الذي فيه بيان أصول الباطل، والتنبيه [ق 24 أ] على مواقع الحذر منها وعدم الاغترار بها. وإذا تأملتَ مقالات أهل الباطل رأيتَهم قد كسَوْها من العبارات المُستحسنة، وتخيروا لها من الألفاظ الرائقة ما يُسرِع إلى قَبوله كل مَن ليس له بصيرةٌ نافذةٌ، وأكثر الخلق كذلك، حتى إن (3) الفُجَّار (4) ليُسمُّون أعظم أنواع الفجور بأسماء لا ينبو عنها السمع، ويميل إليها الطبع، فيُسمُّون أم الخبائث: أم الأفراح، ويُسمون اللقمة الملعونة (5): لُقيمة الذِّكر والفكر التي تُثير (6) العزم الساكن إلى أشرف الأماكن، ويُسمُّون مجالس الفجور _________ (1) الأغمار: جمع غُمْر بالضم، وهو الجاهل الغِرُّ الذي لم يجرب الأمور. «النهاية في غريب الحديث والأثر» (3/ 385). (2) «إليه» ليس في «ب». (3) «ح»: «جيران». (4) «الفجار» ليس في «ح». (5) «ح»: «الكفرية». وهذه اللقمة الملعونة هي الحشيشة، كما في «مجموع الفتاوى» (34/ 210). (6) «ح»: «الذي يثير».
(1/212)
والفسوق: مجالس الطيبة. حتى إن بعضهم لمَّا عُذل عن شيءٍ من ذلك قال لعاذله: «ترك المعاصي والتخوف منها إساءةُ ظنٍّ برحمة الله، وجُرأة على سعة عفوه ومغفرته». فانظر ماذا تفعل هذه الكلمة في قلبٍ ممتلئٍ بالشهوات ضعيف العلم والبصيرة. فصل السبب الثاني: أن يخرج المعنى الذي يريد إبطاله بالتأويل في صورةٍ مستهجَنةٍ، تنفر عنها القلوب، وتنبو عنها الأسماع، فيتخير له من الألفاظ أكرهَها وأبعدها وصولًا إلى القلوب، وأشدَّها نفرةً عنها، فيتوهم السامع أن معناها هو الذي دلت عليه تلك الألفاظ. فيُسمِّي التديُّن: ثَقَالةً، وعدمَ الانبساط إلى السفهاء والفساق والبطالين: سُوءَ خُلق، والأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر والغضب لله والحمية لدينه: فتنةً وشرًّا وفضولًا. وكذلك (1) أهل البدع والضلال من جميع الطوائف تُعظِّم ما يُنفِّرون به عن الحق ويدعون به إلى الباطل، فيُسمُّون إثبات صفات الكمال لله: تجسيمًا وتشبيهًا وتمثيلًا، ويُسمون إثبات الوجه واليدين له: تركيبًا، ويسمون إثبات استوائه على عرشه وعلوِّه على خَلْقه فوق سماواته: تحيُّزًا وتجسيمًا، ويسمون العرش: حيزًا وجِهةً، ويُسمُّون الصِّفات: أعْراضًا، والأفعال: حوادثَ، والوجه واليدين: أبعاضًا، والحِكَم والغايات التي يفعل لأجلها: أغراضًا. فلمَّا وضعوا لهذه المعاني الصحيحة الثابتة تلك الألفاظ المستنكَرة الشنيعة تمَّ لهم مِن نفيها وتعطيلها ما أرادوه، فقالوا للأغمار والأغفال: _________ (1) «ح»: «فكذلك».
(1/213)
اعلموا أن ربكم منزَّهٌ عن الأعراض والأغراض والأبعاض والجهات والتركيب والتجسيم والتشبيه. فلم يشكَّ أحدٌ ـ لله في قلبه وقارٌ وعظمةٌ ـ في تنزيه الربِّ تعالى عن ذلك. وقد اصطلحوا على تسمية سَمْعه وبصره وعِلمه وقدرته وإرادته وحياته: أعراضًا، وعلى تسمية وجهه الكريم ويديه المبسوطتين: أبعاضًا، وعلى تسمية استوائه على عرشه وعلوه على خَلقه وأنه فوق عباده: تحيزًا، وعلى تسمية نزوله إلى سماء الدنيا وتكلُّمه بقدرته ومشيئتِه إذا شاءَ وغضبِه بعد رضاه ورضاه بعد غضبه: حوادث، وعلى تسمية الغاية التي يفعل ويتكلَّم لأجلها: غرضًا. واستقر ذلك في قلوب المتلقِّين (1) عنهم، فلمَّا صرحوا لهم بنفي ذلك بقي السامع متحيرًا أعظمَ حيرةٍ بين نفي هذه الحقائق ـ التي أثبتها الله لنفسه وأثبتها له جميع رسله وسلف الأمة بعدهم ـ وبين إثباتها، وقد قام معه شاهد نفيها بما تلقاه عنهم. فمن الناس مَن فرَّ إلى التخييل، ومنهم من فرَّ إلى التعطيل، ومنهم من فرَّ إلى التجهيل، ومنهم من فرَّ إلى التمثيل. ومنهم مَن فرَّ إلى الله ورسوله، وكشَفَ زيف هذه الألفاظ وبيَّنَ زخرفها وزَغَلها (2)، وأنها ألفاظٌ مُموَّهةٌ بمنزلة طعام طيب الرائحة في إناء حسن اللون والشكل، ولكن الطعام مسمومٌ، فقالوا ما قاله إمامُ السُّنَّة باتفاق أهل السُّنَّة أحمد بن حنبل (3): _________ (1) «ح»: «المبلغين». (2) الزَّغَل محركة: الغش. «تاج العروس» (14/ 308). (3) في رواية ابن عمه حنبل ابن إسحاق عنه، كما نقل القاضي أبو يعلى في «إبطال التأويلات» (6).
(1/214)
«لا نُزيل (1) عن الله صفةً من صفاته لأجل شناعة المشنِّعين». ولمَّا أراد المتأولون المعطِّلون تمام هذا الغرض اخترعوا لأهل السُّنَّة الألقاب القبيحة، فسموهم: حَشْوية، ونوابت، ونواصب، ومُجبِرة، ومجسِّمة، ومشبِّهة، ونحو ذلك (2). فتولَّد (3) مِن بين (4) تسميتهم لصفات الربِّ تعالى وأفعاله ووجهه ويديه وحكمته بتلك الأسماء، وتلقيب من أثبتها له بهذه الألقاب: لعنةُ أهل الإثبات والسُّنَّة وتبديعهم وتضليلهم وتكفيرهم وعقوبتهم، ولَقُوا منهم ما لقي الأنبياء وأتباعهم من أعدائهم. وهذا الأمر لا يزال في الأرض إلى أن يرثها الله ومَن عليها. فصل السبب الثالث: أن يعزو المتأوِّل تأويله وبدعته إلى جليل القدْر نبيه الذِّكر من العقلاء، أو مِن آل البيت النَّبويِّ، أو مَن حلَّ (5) له في الأُمة ثناءٌ جميلٌ ولسان صدقٍ؛ ليُحليه بذلك في قلوب الأغمار والجُهَّال. فإنه من شأن الناس تعظيم كلام مَن يَعظُم قدْرُه في نفوسهم، وأن يتلقوه بالقبول والميل إليه، وكلما كان ذلك القائل أعظمَ في نفوسهم كان قبولهم لكلامه أتمَّ، حتى _________ (1) «ح»: «يزال». (2) أفرد المصنِّف في «النونية» (2/ 573 - 581، 610 - 611) فصلين في الرد على من سمَّى أهل السنة بهذه الأسماء القبيحة وبيَّن أنهم أحق بها. (3) «ح»: «فيتولد». (4) «بين» ليس في «ح». (5) «م»: «حصل».
(1/215)
إنهم لَيقدمونه على كلام الله ورسوله، ويقولون: هو أعلم بالله ورسوله منَّا. [ق 24 ب] وبهذه الطريق توصَّل الرافضة والباطنية والإسماعيلية والنُّصَيْرية (1) إلى تنفيق باطلهم وتأويلاتهم، حتى أضافوها إلى أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ لمَّا علموا أن المسلمين متفقون على محبتهم وتعظيمهم وموالاتهم وإجلالهم ـ فانتموا إليهم (2) وأظهروا من محبتهم وموالاتهم، واللَّهَج بذِكرهم وذِكر مناقبهم، ما خيَّل إلى السامع أنهم أولياؤهم وأَوْلى الناس بهم، ثم (3) نفَّقوا باطلهم وإفكَهم بنسبته إليهم. فلا إله إلَّا الله، كم مِن زندقةٍ وإلحادٍ وبدعةٍ وضلالةٍ قد نَفَقَت في الوجود بنسبتها إليهم، وهم بَرَاء منها براءة الأنبياء من التجهم والتعطيل، وبراءةَ المسيح من عبادة الصليب والتثليث، وبراءةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من البدع والضلالات. وإذا تأملتَ هذا السبب رأيتَه هو الغالبَ على أكثر النفوس، وليس معهم سوى إحسان الظن بالقائل، بلا برهانٍ من الله، ولا حُجةٍ قادتهم (4) إلى ذلك. وهذا ميراث بالتعصيب من الذين عارضوا دِين الرُّسل بما كان عليه الآباء _________ (1) «ب»: «البصرية». وهو تصحيف، والنُّصيرية: بضم النون وفتح الصاد المهملة وسكون الياء المنقوطة باثنتين بعدها راء مهملة، طائفة من غلاة الشيعة، كانوا يزعمون أن علي بن أبي طالب هو الله، وهؤلاء شر الشيعة. «الأنساب» للسمعاني (13/ 121). (2) «ح»: «لهم». (3) «ثم» ليس في «ح». (4) «ح»: «قادهم».
(1/216)
والأسلاف، فإنهم لحُسن ظنهم بهم وتعظيمهم لهم آثروا ما (1) كانوا عليه على ما جاءتهم به الرُّسل، وكانوا أعظمَ في صدورهم من أن يخالفوهم ويشهدوا عليهم بالكفر والضلال، وأنهم كانوا على الباطل. وهذا شأن كل مقلِّدٍ لمن يعظِّمه فيما خالف فيه الحقَّ إلى يوم القيامة. فصل السبب الرابع: أن يكون ذلك (2) التأويل قد قَبِله ورضيه مُبرِّزٌ في صناعةٍ من الصناعات أو علمٍ من العلوم الدقيقة أو الجليلة، فيعلو له بما برز به ذِكرٌ في الناس، ويشتهر له به صيتٌ. فإذا سمع الغُمْرُ الجاهلُ بقبوله لذلك التأويل وتلك البدعة واختياره له أحسنَ الظنَّ به وارتضاه مذهبًا لنفسه، ورضي مَن قَبِله إمامًا له، وقال: إنه لم يكن ليختار ـ مع جودة قريحته وذكائه وصحة ذهنه ومهارته بصناعته وتبريزه فيها على بني جنسه ـ إلَّا الأصوب والأفضل من الاعتقادات، والأرشد والأمثل من التأويلات، وأين يقع اختياري مِن اختياره (3)، فرضيت لنفسي ما رَضِيَه لنفسه، فإن عقله وذهنه وقريحته إنما تدله (4) على الصواب، كما دلته على ما خَفِيَ عن غيره من صناعته وعلمه. وهذه الآفة قد هلك (5) بها أُممٌ لا يحصيهم إلَّا الله، رأوا الفلاسفة قد برَّزوا في العلوم الرياضية والطبية، واستنبطوا بعقولهم وجودة قرائحهم _________ (1) «ح»: «بما». (2) «ذلك» ليس في «ب». (3) «من اختياره» ليس في «ب». (4) «ب»: «يدل». (5) «ح»: «تملك». وهو تحريف.
(1/217)
وصحة أفكارهم ما عجز أكثر الناس عن تعلمه، فضلًا عن استنباطه، فقالوا: للعلوم الإلهية والمعارف الرَّبانية أسوة بذلك، فحالُهم فيها مع الناس كحالهم في هذه العلوم سواء. فلا إله إلَّا الله، كم أهلكت هذه البليَّة من أُمةٍ، وكم خرَّبت من دارٍ، وكم أزالت من نعمةٍ، وجلبت من نقمةٍ، وجرَّأت كثيرًا من النفوس على تكذيب الرُّسل واستجهالهم! وما عرف أصحابُ هذه الشُّبهة أن الله سبحانه قد يعطي أجهلَ الناس به وبأسمائه وصفاته وشرعه من الحِذْق في العلوم الرياضية والصنايع العجيبة ما يعجِزُ عنه عقول أعلم الناس ومعارفهم، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِدُنْيَاكُمْ» (1). وصدَقَ صلوات الله وسلامه عليه؛ فإن (2) العلوم الرياضية والهندسية وعلم الأرتماطيقي والموسيقى والجغرافيا وإيرن (3) ـ وهو علم جر (4) الأثقال ووزن المياه وحفر الأنهار وعمارة الحصون ـ وعلم الفلاحة، وعلم الحُمَّيات وأجناسها ومعرفة الأبوال وألوانها وصفائها وكَدَرِها وما يدل عليه، وعلم الشِّعر وبُحوره وعِلله وزِحافه، وعلم الفنيطة (5)، ونحو ذلك من العلوم، هم أعلم بها، وأحذق فيها. وأمَّا العلم بالله وملائكته وكُتبه ورسله واليوم الآخر وتفاصيل ذلك فإلى _________ (1) أخرجه مسلم (2363) عن أم المؤمنين عائشة وأنس بن مالك - رضي الله عنهما -. (2) «ب»: «وإن». (3) كذا في «ب». وفي «ح»: «وأيون». ولم أتبين المراد منها. (4) «جر» ليس في «ح». (5) كذا في «ب». ورسمها في «ح»: «العسطة». ولم أتبين المراد منها.
(1/218)
الرُّسل، قال الله (1) تعالى: {وَعْدَ اَللَّهِ لَا يُخْلِفُ اُللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (5) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ اَلْحَيَاةِ اِلدُّنْيا وَهُمْ عَنِ اِلْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 5 - 6]. قال بعض السلف: «يبلغ مِن علم أحدهم بالدنيا أنه ينقر الدرهم بظُفُره فيعلم وزنَه، ولا علم له بشيءٍ من دينه» (2). وقال تعالى في علوم هؤلاء واغترارهم (3) بها: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسْلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ اَلْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} [غافر: 82]. وقد فاوَتَ الله سبحانه بين عباده فيما تناله عقولهم وأذهانهم أعظمَ تفاوُت، والعقل يُعطي صاحبه فائدته في النوع الذي يلزمه به ويشغله به ويَقصُره عليه ما لا يعطيه في غيره، وإن كان غيره أسهلَ منه بكثيرٍ، كما يعطيه هِمَّته وقريحته في الصناعة التي هو معنيٌّ بها ومقصور العناية عليها ما لا يعطيه في صناعةٍ غيرها. وكثيرًا ما تجد الرجل قد برَّز في اللطيف من أبواب العلم والنظر، وتخلَّف في (4) الجليل منهما، وأصاب الأغمض الأدق منها، وأخطأ الأجل الأوضح. هذا أمرٌ واقع تحت العيان، فكيف [ق 25 أ] وعلوم الأنبياء ومعارفهم من وراء طَوْر العقل. والعقلُ وإن لم يستقلَّ بإدراكها فإنه لا يحيلها، بل إذا وردت عليه أقرَّ (5) بصحتها، وبادَرَ إلى قبولها، وأذعنَ _________ (1) لفظ الجلالة ليس في «ب». (2) أخرجه المحاسبي في «ماهية العقل» (ص 214) وأبو حاتم في «الزهد» (66) عن الحسن البصري - رحمه الله - بمعناه، وعزاه السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 484) إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه. (3) «ح»: «واعتراهم». (4) «ح»: «عن». (5) «أقر» ليس في «ح».
(1/219)
بالانقياد إليها، وعلم أن نسبة العلوم التي نالها الناس بأفكارهم إليها (1) دون نسبة علوم الصبيان ومعارفهم إلى علوم هؤلاء بما لا يُدرك. فصل السبب الخامس: الإغراب على النفوس بما لم تكن عارفةً به من المعاني الغريبة (2) التي إذا ظفر الذِّهن بإدراكها نالَه لذةٌ من جنس لذة الظفَر بالصيد الوحشي الذي لم يكن يطمع فيه. وهذا شأن النفوس، فإنها مُوكَلة بكل غريبٍ تستحسنه وتُؤثِره وتنافس فيه، حتى إذا كثر ورخص وناله المثري (3) والمقلُّ زهدت فيه وأعرضت عنه (4)، مع كونه أنفعَ لها وخيرًا لها، ولكن لرخصه وكثرة الشركاء فيه تَزْهد (5) فيه وتطلب ما تتميز به عن غيرها للَّذة التفرد والاختصاص. ثم اختاروا لتلك المعاني الغريبة ألفاظًا أغرب منها وألقَوْها في مسامع الناس، وقالوا: إن المعارف العقلية والعلوم اليقينية تحتها؛ فتحركت النفوس لطلب فَهْم تلك الألفاظ الغريبة وإدراك تلك المعاني. واتفقَ أن صادفت قلوبًا خالية من حقائق الإيمان وما بعث اللهُ به رسولَه، فتمكَّنت منها، فعزَّ على أطباء الأديان استنقاذها منها وقد تحكمت فيها، كما قيل (6): _________ (1) «وعلم أن نسبة العلوم التي نالها الناس بأفكارهم إليها». سقط من «ب». (2) من قوله: «الإغراب». إلى هنا ليس في «ح». (3) المثري: كثير المال. (4) «وأعرضت عنه» ليس في «ح». (5) «ح»: «يزهد». (6) البيت من قصيدة لظافر الحداد في «ديوانه» (ص 127)، ورواية «الديوان»: تاللهِ ما علقتْ محاسنُكَ امرءًا ... إلَّا وَعَزَّ على الورى استنقاذُهُ وأنشده له ياقوت الحموي في «معجم الأدباء» (4/ 1464) وغيره، وأنشده المصنف في «إغاثة اللهفان» (2/ 879): تاللهِ ما أسرتْ لواحظُك امرءًا ... إلَّا وَعَزَّ على الورى استنقاذُهُ
(1/220)
تَاللهِ مَا أَسَرَ الْهَوَى مِنْ وَامِقٍ (1) ... إِلَّا وَعَزَّ عَلَى الْوَرَى اسْتِنْقَاذُهُ وبمكان (2) الاستغراب وقبول النفس لكل غريبٍ لهَجَ الناسُ بالأخبار الغريبة وعجائب المخلوقات والألغاز والأحاجي والصور الغريبة (3)، وإن كانت المألوفةُ أعجبَ منها وأحسن وأتمَّ خِلقةً. فصل السبب السادس: تقديم مقدمات قبل التأويل تكون (4) كالأطناب والأوتاد لفسطاطه: فمنها: ذمُّ أصحاب الظواهر وعيبهم والإزراء بهم، وأنهم قومٌ جُهالٌ لا عقول (5) لهم، وإنما هم أصحاب ظواهر سمعية، وينقلون من مثالبهم وبَلَهِهم ما بعضه صدقٌ (6) وأكثره كذبٌ، كما يُحكى أن بعضهم سُئل عن قوله: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4] هل هو حقيقة أو مجاز؟ قال: _________ (1) «ب»: «واثق». والوامق: المحب. «الصحاح» (4/ 1568). (2) «ب»: «ولما كان». (3) «والصور الغريبة» ليس في «ح». (4) «ب»: «يكون». (5) «ب»: «معقول». (6) «صدق». سقط من «ح».
(1/221)
لا حقيقة ولا مجاز. فقال له: جزاك الله عن ظاهريتك خيرًا. وأمثال هذا. ويحكون عنهم إنكار أدلة العقول (1)، والبحث والنظر وجدال أهل الباطل، والنفوس طالبة للنظر والبحث والتعقل. ومنها: قولهم: إن الخطاب بالمجاز والاستعارة أعذبُ وأوفق وألطف. وقد قال بعض أئمة النحاة (2): أكثر اللغة مجاز. فإذا كان أكثر اللغة (3) مجازًا سهل على النفوس أنواع التأويلات، فقُلْ ما شئتَ، وأوِّلْ ما شئتَ وانزِلْ عن الحقيقة، ولا يضرك أي مجازٍ ركبتَه. ومنها: قولهم: إن أدلة القرآن والسُّنَّة أدلةٌ لفظيةٌ، وهي لا تفيد علمًا ولا يقينًا، والعلم إنما يستفاد من أدلة المعقول (4) وقواعد المنطق. ومنها: قولهم: إذا تعارَضَ العقلُ والنقل قدِّم العقل على النقل. فهذه المقدمات ونحوها هي أساس التأويل، فإذا انضمت هذه الأسباب بعضها إلى بعضٍ وتقارَنَت (5)، فيا محنة القرآن والسُّنَّة، وقد (6) سلكا في قلوبٍ قد تمكنت منها هذه الأسباب، فهنالك التأويل والتحريف والتبديل والإضمار والإجمال. _________ (1) «ب»: «المعقول». (2) بيَّنه المصنف بقوله: «وقد صرح ابن جني أن أكثر اللغة مجاز» كما في «مختصر الصواعق» (2/ 771). وكلام ابن جني في «الخصائص» (2/ 447). (3) «مجاز فإذا كان أكثر اللغة». سقط من «ح». (4) «ح»: «العقول». (5) «ح»: «تقاربت». (6) «قد» ليس في «ح».
(1/222)
الفصل العشرون في بيان أن أهل التأويل لا يمكنهم إقامة الدليل السمعي على مبطل أبدًا
هذا من أعظم آفات التأويل وجنايته على الإسلام، أنه يُبطِل حُجج الله على المبطِلين على ألسنة المتأوِّلين، وإلَّا فلا تبطل حُجج الله (1) وبيِّناته أبدًا. من المعلوم أن كل مبطلٍ أنكر على خصمه شيئًا من الباطل قد شاركه في بعضه أو في نظيره، فإنه لا يتمكن مِن دحْضِ حُجته وكسرِ باطله؛ لأن خصمه تسلَّط (2) عليه بمثل ما تسلط (3) هو به عليه. وهذا شأن أهل الأهواء مع بعضهم بعضًا (4)، ولهذا كان غايةَ ما يأتون به إبداءُ تناقض بعضهم بعضًا، وكسرُ أقوال بعضهم ببعضٍ. وفي هذا منفعةٌ جليلةٌ لطالب الحقِّ؛ فإنه يكتفي بإبطال كل فرقةٍ لقول الفرقة الأخرى. فيقول: إذا احتج المتأوِّل بحُجةٍ سمعيةٍ على مبطلٍ أمكن خصمَه أن يقول له: أنا أتأوَّل هذه الحُجة كما تأوَّلتَ أنت كَيْتَ وكيت. مثاله: أن يحتجَّ مَن يتأول الصِّفات الخبرية وآيات الفوقية والعلو على مَن ينكر ثبوت صفة السمع والبصر والعلم بالآيات والأحاديث الدالة على ثبوتها، فيقول له خصمُه: هذه عندي مؤوَّلة، كما أوَّلتَ أنت نصوص الاستواء _________ (1) من قوله: «على المبطلين». إلى هنا سقط من «ح». (2) «ح»: «يسلط». (3) «ح»: «سلط». (4) كذا، وهو أسلوب عامي، والعربية: «بعضهم مع بعضٍ». وسيأتي نظيره (ص 234).
(1/223)
والفوقية والوجه واليدين والنزول والضحك والفرح والغضب والرضا ونحوها، فما الذي جعلك أولى بالصواب في تأويلك منِّي. فلا يذكر سببًا (1) حمَلَه (2) على التأويل إلَّا أتاه خَصمه بسببٍ مِن جنسه أو أقوى منه أو دونه يحمله على التأويل. وإذا استدل المتأوِّل على مُنكري المَعاد وحشر الأجساد بنصوص الوحي أبدَوْا لها تأويلات تخالف ظاهرها وحقائقها، وقالوا لمن استدل بها عليهم: تأويلنا لهذه الظواهر كتأويلك لنصوص الصِّفات، ولا سيما أنها أكثر (3) وأصرح؛ فإذا تطرَّق التأويل إليها فهو إلى [ق 25 ب] ما دونها أقرب تطرقًا. وإذا استدل على الرافضة بالنصوص الدالة على فضل الشيخين وسائر الصحابة تأولوها بما هو مِن جِنس تأويل الجهمي لآيات الصِّفات، وقد تكون تأويلاتهم في كثيرٍ من المواضع أقوى من تأويلات الجهمي (4) كما تكون مثلها ودونها. وإذا احتجَّ الجهمي على الخارجي بالنصوص الدالة على إيمان مرتكب الكبائر، وأنه لا يَكفُر ولا يَخلُد في النار، واحتج بها على الوعيدية القائلين بنفوذ الوعيد والتخليد، قالوا: هذه متأوَّلةٌ، وتأويله أقرب من تأويل نصوص الصفات. وإذا احتجَّ على المرجئة بالنصوص الدالة على أن الإيمان قولٌ وعملٌ ونيةٌ، يزيد وينقص. قالوا: هذه النصوص قابلة للتأويل، كما قبلته نصوص _________ (1) «ح»: «شيئًا». (2) «حمله» ليس في «ح». (3) «ح»: «أكبر». (4) من قوله: «لآيات الصِّفات» إلى هنا سقط من «ح».
(1/224)
الاستواء والفوقية والصفات الخبرية، فنعمل فيها ما عملتم أنتم في تلك النصوص، والقواعد التي حملتكم على تأويلها، عندنا قواعد حملتنا على تأويل هذه الظواهر. وإذا احتج أهل الجبر على أهل القدر بالنصوص الدالة على أن أعمال (1) العباد مخلوقةٌ لله، واقعةٌ بقدرته ومشيئته، تأولوها بنظير ما تأول به خصومهم النصوص الدالة على أنها أفعال للعباد حقيقة، وأنها واقعة بقدرتهم ومشيئتهم، وكذلك خصومهم معهم بهذه المثابة. وإذا احتجَّ مَن أثبت الرؤية في الآخرة من أهل التأويل على من نفاها قال له: أنا (2) أتأول هذه الظواهر بما تأوَّلتَ به أنت آيات الصِّفات الخبرية وأحاديثها. وإذا احتجَّ مَن أثبت العلم بجميع المعلومات جزئياتها وكلياتها لله من أهل التأويلات (3) بالنصوص الدالة على ذلك، قال له المنكر: ليست هذه النصوص بأكثرَ من نصوص الفوقية والعلو واستواء الربِّ على عرشه ونزول الأمر من عنده وعروج الملائكة إليه، فإذا كانت تلك مؤولة عندك ـ على كثرتها وتضافرها ـ فهذه أولى بقبول التأويل. فقد بان أنه لا (4) يمكن أهل التأويل أن يُقِيموا على مبطلٍ حُجةً من _________ (1) «أعمال» سقط من «ح». (2) «أنا» ليس في «ح». (3) «ب»: «التأويل». (4) «لا» سقط من «ب».
(1/225)
كتابٍ ولا سُنةٍ، فحينئذٍ فيترك (1) الاستدلال بالكتاب والسُّنَّة على كل مبطِلٍ، ولم يبقَ إلَّا تصادم الآراء ونتائج الأفكار، لا سيما وقد أعطى الجهمي من نفسه أن أكثر اللغة مجازٌ، وأن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين، وأن العقل إذا (2) عارَضَ السمعَ وجب تقديم العقل والإعراض عن السمع وإهداره. ثم إما أن يشتغل بتأويله وهي طريقة الخلف العالمين، أو يفوضه ولا يحتج به، وهي طريقة السلف السالمين، فكيف يقوم بعد هذا حُجةٌ من كتابٍ أو سُنةٍ على مبطلٍ من العالمين. ولهذا كان فتْحُ باب التأويل على النصوص يتضمن عيبها والطعن فيها وعزْلها عن سلطانها، وولاية الآراء الباطلة والشُّبَه الفاسدة. بل نقول: إنه لا يمكن أرباب التأويل أن يُقِيموا على مبطلٍ حجةً عقليةً أبدًا، وهذا أعجب من الأول. وبيانه: أن الحُجج السمعية مطابقة للمعقول، والسمع الصحيح لا ينفك عن العقل الصريح، بل هما أخوانِ نصيران، وصل الله بينهما، وقرن أحدَهما بصاحبه؛ فقال تعالى (3): {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اِللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} [الأحقاف: 25]، فذكر ما ينال به العلوم وهي السمع والبصر والفؤاد الذي هو محل العقل. _________ (1) «ب»: «فترك». (2) «ب»: «إذ». (3) من قوله: «فيه وجعلنا لهم سمعا» إلى قوله: «ما ذكرنا من تصرف». في الصفحة بعد التالية سقط من «ح».
(1/226)
وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ اِلسَّعِيرِ} [الملك: 11] فأخبروا أنهم خرجوا عن موجب السمع والعقل. وقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَأيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [يونس: 67] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَأيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4]، وقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 25] فدعاهم إلى استماعه بأسماعهم وتدبُّرِه بعقولهم. ومثله قوله: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا اُلْقَوْلَ} [المؤمنون: 69]. وقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى اَلسَّمْعَ وَهْوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]. فجمع سبحانه بين السمع والعقل، وأقام بهما حُجته على عباده، فلا ينفك أحدهما عن صاحبه أصلًا، فالكتاب المنزل والعقل المدرِك حُجة الله على خَلْقه. وكتابه هو الحجة العظمى، فهو الذي عرفنا ما لم يكن لعقولنا سبيلٌ إلى استقلالها بإدراكه أبدًا، فليس لأحدٍ عنه مذهبٌ، ولا إلى غيره مفزعٌ في مجهولٍ يعلمه، ومشكلٍ يستبينه، وملتبسٍ يوضحه. فمن ذهب عنه فإليه يرجع، ومَن دفع حكمه فبه يُحاجُّ خصيمه، إذ كان بالحقيقة هو المرشد إلى الطرق العقلية والمعارف اليقينية التي بالعباد إليها أعظم حاجة. فمَن ردَّ من مدَّعِي البحث والنظر حكومته ودفع قضيته فقد كابَرَ وعاند، ولم يكن لأحدٍ سبيل إلى إفهامه ولا محاجته ولا تقرير الصواب عنده. وليس لأحدٍ أن يقول إني غير راضٍ بحكمه بل بحكم العقل، فإنه متى ردَّ حُكمه فقد ردَّ حكم العقل الصريح، وعانَدَ الكتاب والعقل. والذين زعموا من قاصري العقل والسمع أن العقل يجب تقديمه على السمع عند تعارضهما؛ إنما أُتوا مِن جهلهم بحكم العقل ومقتضى السمع، فظنوا ما ليس بمعقولٍ معقولًا، وهو في الحقيقة شبهات توهَّم أنه عقلٌ
(1/227)
صريحٌ، وليست كذلك؛ أو مِن جهلهم بالسمع، إمَّا نسبتهم إلى الرسول ما لم يقله أو نسبتهم إليه ما لم (1) يرده بقوله، وإمَّا لعدم تفريقهم بين ما لا يُدرك بالعقول وبين ما لا يُدرك استحالته بالعقول. فهذه أربعة أمور أوجبت لهم ظنَّ التعارض بين السمع والعقل: أحدها: كون القضية ليست من قضايا العقول. الثاني: كون ذلك السمع ليس من السمع الصحيح المقبول. الثالث: عدم فَهم مراد المتكلم به. الرابع: عدم التمييز بين ما يحيله (2) العقل وما لا يدركه. والله سبحانه حاجَّ عباده على أَلسُن رسله وأنبيائه فيما أراد تقريرهم به وإلزامهم إيَّاه بأقربِ الطرق إلى العقل، وأسهلِها تناولًا، وأقلها تكلفًا، وأعظمها غَناءً ونفعًا، وأجلِّها ثمرةً وفائدةً. فحُجَجه سبحانه العقلية التي بيَّنها في كتابه جمعت بين كونها عقليةً سمعيةً ظاهرةً واضحةً، قليلةَ المقدمات، سهلة الفهم، قريبة التناول، قاطعة الشكوك والشُّبه، مُلزِمة للمعاند والجاحد. ولهذا كانت المعارف التي استنبطت منها في القلوب أرسخ، ولعموم الخلق أنفع. وإذا تتبَّع المتتبِّع ما في كتاب الله ممَّا حاجَّ به عباده في إقامة التوحيد وإثبات الصِّفات وإثبات الرسالة والنبوة، وإثبات المعاد وحشر الأجساد، وطرق إثبات علمه بكل خفيٍّ وظاهرٍ، وعموم قدرته ومشيئته، وتفرده بالملك والتدبير، وأنه لا يستحق العبادة سواه = وجد الأمر في ذلك على ما _________ (1) «يقله أو نسبتهم إليه ما لم» سقط من «ب». وأثبته من «م». (2) «ب»: «تخيله». والمثبت هو الصواب.
(1/228)
ذكرناه مِن تصرُّف (1) المخاطبة منه سبحانه في ذلك على أجلِّ وجوه الحِجَاج، وأسبقها إلى القلوب، وأعظمها ملاءمةً للعقول، وأبعدها من الشكوك والشُّبه، في أوجز لفظٍ وأبينِه، وأعذبه وأحسنه، وأرشقِه (2) وأدله على المراد. وذلك مثل قوله تعالى فيما حاجَّ به عباده من إقامة التوحيد وبطلان الشرك، وقطع أسبابه، وحسم مواده كلها: {قُلُ اُدْعُوا اُلَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اِللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي اِلسَّمَاوَاتِ وَلَا فِي اِلْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنفَعُ اُلشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أُذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا اُلْحَقَّ وَهْوَ اَلْعَلِيُّ اُلْكَبِيرُ} [سبأ: 22 - 23]. فتأمل كيف أخذتْ هذه الآية على المشركين مَجامع (3) الطُّرق التي دخلوا منها إلى الشرك، وسدتها عليهم أحكم سدٍّ وأبلغه! فإن العابد إنما يتعلق بالمعبود لما يرجو مِن نفعه، وإلَّا فلو لم يرجُ منه منفعةً لم يتعلق قلبه به (4)، وحينئذٍ فلا بد أن يكون المعبود مالكًا للأسباب التي ينفع بها عابده أو شريكًا لمالكها، أو ظهيرًا ووزيرًا ومعاونًا (5) له، أو وجيهًا ذا حُرمةٍ وقدرٍ يشفع عنده. فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة من كل وجهٍ وبطلت انتفت أسباب الشرك وانقطعت موادُّه. _________ (1) هنا انتهى السقط من «ح». (2) «ح»: «وأرسنه». (3) «ب»: «بمجامع». (4) «به» ليس في «ح». (5) «ح»: «أو وزيرا أو معاونا».
(1/229)
فنفى سبحانه عن آلهتهم أن تملك مثقالَ ذرةٍ في السماوات والأرض. فقد يقول المشرك: هي شريكةٌ لمالك (1) الحق، فنفى شركتها له. فيقول المشرك: قد تكون ظهيرًا ووزيرًا ومعاونين (2)، فقال: {وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ} فلم يبق إلَّا الشفاعة، فنفاها عن آلهتهم، وأخبر أنه لا يشفع عنده أحدٌ إلَّا بإذنه فهو الذي يأذن للشافع. فإن (3) لم يأذن له لم يتقدم بالشفاعة بين يديه، كما يكون في حق (4) المخلوقين، فإن المشفوع عنده يحتاج إلى الشافع ومعاونته له، فيقبل شفاعته، وإن لم يأذن له فيها. وأمَّا مَن كلُّ ما سواه فقيرٌ إليه بذاته، وهو الغني بذاته عن كل ما سواه، فكيف يشفع عنده [ق 26 أ] أحدٌ بدون إذنه. وكذلك قوله سبحانه مقرِّرًا لبرهان التوحيد أحسن تقرير وأوجزه وأبلغه: {قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا تَقُولُونَ إِذًا لَّاَبْتَغَوْا إِلَى ذِي اِلْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء: 42]. فإن الآلهة التي كانوا يثبتونها معه سبحانه كانوا يعترفون بأنها عبيده ومماليكه ومحتاجةٌ إليه، فلو كانوا آلهةً كما يقولون لعبدوه وتقربوا إليه وحده دون غيره، فكيف يعبدونهم من دونه. وقد أفصحَ سبحانه بهذا بعينه في قوله: {أُوْلَئِكَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمِ اِلْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57] أي: هؤلاء الذين يعبدونهم مِن دوني هم عبيدي ـ كما أنتم عبيدي ـ يرجون _________ (1) «ب»: «المالك». (2) كذا في النسختين، والذي في «م»: «ومعاونًا». (3) «ح»: «وإن». (4) «ح»: «بأحق».
(1/230)
رحمتي، ويخافون عذابي، كما ترجون أنتم رحمتي، وتخافون عذابي، فلماذا تعبدونهم من دوني؟ وقال تعالى: {مَا اَتَّخَذَ اَللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اَللَّهِ عمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 92]. فتأمَّلْ هذا البرهان الباهر بهذا اللفظ الوجيز البيِّن (1)، فإن الإله الحق لا بد أن يكون خالقًا فاعلًا، يُوصِل إلى عابده النفعَ، ويدفع عنه الضرَّ، فلو كان معه سبحانه إلهٌ لكان له خلقٌ وفعلٌ، وحينئذٍ فلا يرضى بشركة الإله الآخر (2) معه، بل إنْ قَدَر على قهره وتفرُّده بالإلهية دونه فعَلَ (3)، وإن لم يقدر على ذلك انفرد بخَلْقه وذهب به، كما ينفرد ملوك الدنيا عن بعضهم بعضًا بممالكهم (4)؛ إذا لم يقدر المنفرد على قهر الآخر والعلو عليه، فلا بد من أحد أمورٍ ثلاثة: إمَّا أن يذهب كل إلهٍ بخَلْقه وسلطانه. وإمَّا أن يعلو بعضهم على بعضٍ. وإمَّا أن يكون كلهم تحت (5) قهر إلهٍ واحدٍ وملكٍ واحدٍ، يتصرف فيهم ولا يتصرفون فيه، ويمتنع مِن حُكمهم عليه (6)، ولا يمتنعون مِن حُكمه _________ (1) «البين» ليس في «ح». (2) «ح»: «الآمر». (3) «ح»: «فعلي». (4) «ح»: «بمماليكهم». (5) «تحت» ليس في «ح». (6) «عليه» ليس في «ح».
(1/231)
عليهم، فيكون وحده هو الإله الحق، وهم العبيد المربوبون المقهورون. وانتظامُ أمر العالم العلوي والسفلي، وارتباطُ بعضه ببعضٍ، وجريانُه على نظامٍ محكمٍ لا يختلف ولا يفسد = من أدلِّ دليلٍ على أن مدبره واحدٌ لا إله غيره، كما دلَّ (1) دليل التمانع على أن خالقه واحدٌ لا ربَّ له غيره، فذاك تمانع في الفعل والإيجاد، وهذا تمانع في الغاية والإلهية، فكما يستحيل أن يكون للعالم ربَّانِ (2) خالقينِ متكافئينِ (3)، يستحيل أن يكون له إلهان معبودان. ومن ذلك قوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اُللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ اَلَّذِينَ مِن دُونِهِ} [لقمان: 10]. فلله ما أحلى هذا اللفظَ وأوجزَه وأدلَّه على بطلان الشرك، فإنهم إن زعموا أن آلهتهم خَلقت شيئًا مع الله طُولبوا بأن يُروه إيَّاه، وإن اعترفوا بأنها أعجز وأضعف وأقل من ذلك كانت إلاهيَّتها باطلًا ومحالًا. ومن ذلك قوله تعالى: {قُلْ أَرَءَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اِللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ اَلْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي اِلسَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف: 3]، فطالبهم بالدليل العقلي والسمعي. وقال تعالى: {قُلْ مَن رَّبُّ اُلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ قُلِ اِللَّهُ قُلْ أَفَاَتَّخَذتُّم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي اِلْأَعْمَى وَاَلْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي اِلظُّلُمَاتُ وَاَلنُّورُ (17) أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ اَلْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اِللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهْوَ اَلْوَاحِدُ اُلْقَهَّارُ} [الرعد: 17 - 18]. فاحتجَّ على _________ (1) «ب»: «يدل». (2) «ح»: «ربين». (3) كذا في النسخ.
(1/232)
تفرده بالإلهية بتفرده بالخلق، وعلى بطلان إلاهية ما سواه بعجزهم عن الخَلْق، وعلى أنه واحدٌ بأنه قهار، والقهر التام يستلزم الوحدة، فإن الشركة تنافي تمام القهر. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا اَلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاَسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اِللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اِجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ اُلذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ اَلطَّالِبُ وَاَلْمَطْلُوبُ (71 ) مَا قَدَرُوا اُللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اَللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 71 - 72]. فتأمَّلْ هذا المثل ـ الذي أمر الناس كلهم باستماعه، فمن لم يستمعه (1) فقد عصى أمره ـ كيف تضمن إبطال الشرك وأسبابه بأصحِّ برهانٍ في أوجز عبارةٍ وأحسنها وأحلاها، وأَسْجَلَ (2) على جميع آلهة المشركين أنهم لو اجتمعوا كلهم في صعيدٍ واحدٍ، وساعد بعضهم بعضًا وعاونه بأبلغ المعاونة، لَعجزوا عن خَلْق ذبابٍ واحدٍ. ثم بيَّن (3) ضعفهم وعجزهم عنِ استنقاذ ما يسلبهم الذباب إيَّاه حين يسقط عليهم. فأي شيءٍ (4) أضعف من هذا الإله المطلوب، ومِن عابدِه الطالبِ نفعَه وخيرَه (5)! فهل قدَّر القويَّ العزيزَ حقَّ قدره من أشرك معه آلهةً هذا شأنها! فأقام سبحانه حُجة التوحيد، وبيَّن إفك أهل الشرك والإلحاد بأعذب ألفاظ وأحسنها، لم يستكرهها غموضٌ، ولم يُشِنْها تطويلٌ، ولم يعبها _________ (1) «ح»: «يسمعه». (2) أسجلَ لهم الأمرَ: أطلقه لهم. «تاج العروس» (14/ 334). (3) «ح»: «تبين». (4) «ح»: «إله من». (5) «ح»: «وحده».
(1/233)
تقصيرٌ (1)، ولم يُزْرِ (2) بها زيادةٌ ولا نقصٌ، بل بلغت في الحسن والفصاحة والبيان والإيجاز ما لا يتوهم متوهمٌ ولا يظن ظانٌّ أن يكون أبلغَ في معناها منها. وتحتها من المعنى الجليل القدر العظيم الشرف البالغ في النفع ما هو أجلُّ من الألفاظ. ومن ذلك احتجاجه سبحانه على نبوة رسوله، وصحة [ق 26 ب] ما جاء به من الكتاب، وأنه من عنده وكلامه الذي تكلَّم (3) به، وأنه ليس من صنعة البشر ولا من كلامهم = بقوله: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَاَدْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اِللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 22]. فأمر مَن ارتاب في هذا القرآن الذي نزَّله على (4) عبده وأنه كلامه أن يأتي بسورةٍ واحدةٍ مثله، وهذا يتناول أقصر سورة من سوره. ثم فسحَ له إن عجزَ عن ذلك أن يستعين بمن أمكنه الاستعانةُ (5) به من المخلوقين، وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ اَفْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَاَدْعُوا مَنِ اِسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اِللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 38]، وقال: {أَمْ يَقُولُونَ اَفْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَاَدْعُوا مَنِ اِسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اِللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [هود: 13]، وقال: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ (31 ) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور: 31 - 32]. _________ (1) «ح»: «تعقيد». (2) «ح»: «تزر». (3) «ح»: «يتكلم». (4) «على» سقط من «ح». (5) «ح»: «لاستعماله».
(1/234)
ثم أَسجَلَ سبحانه عليهم إسجالًا عامًّا في كل (1) زمانٍ ومكانٍ بعجزهم عن ذلك، ولو تظاهر عليه الثقلان، فقال: {قُل لَّئِنِ اِجْتَمَعَتِ اِلْإِنسُ وَاَلْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا اَلْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]. فانظر أي موقعٍ يقع من الأسماع والقلوب هذا الحِجَاج القاطع الجليل الواضح، الذي لا يجد طالبُ الحقِّ ومُؤثِره ومريده (2) عنه مَحيدًا، ولا فوقه مزيدًا، ولا وراءه غاية، ولا أظهر منه آية، ولا أصحَّ منه (3) برهانًا، ولا أبلغ منه بيانًا. وقال في إثبات نبوة رسوله باعتبار التأمل لأحواله وتأمُّل دعوته وما جاء به: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا اُلْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ اُلْأَوَّلِينَ ( 69 ) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (70) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [المؤمنون: 69 - 71]. فدعاهم سبحانه إلى تدبر القول وتأمُّل حال القائل، فإن كون القول (4) كذبًا وزورًا يُعلم من نفس القول تارةً، وتناقُضه واضطرابه، وظهور شواهد الكذب عليه، فالكذب بادٍ على صفحاته، وبادٍ (5) على ظاهره وباطنه. ويُعرف من حال القائل تارةً؛ فإن المعروف بالكذب والفجور والمكر والخداع لا تكون أقواله إلَّا مناسبة لأفعاله، ولا يتأتى منه من القول والفعل ما يتأتى من البارِّ الصادق، المبرَّأ من _________ (1) «كل» سقط من «ح». (2) «ب»: «ويريده وليس». (3) «منه» ليس في «ح». (4) بعده في «ح»: «للشيء». (5) «ح»: «مباد». ومن قوله «وظهور شواهد» إلى هنا سقط من «ب».
(1/235)
كل فاحشةٍ وغدرٍ وكذبٍ وفجورٍ، بل قلب (1) هذا وقصده وقوله وعمله يشبه بعضه بعضًا، وقلب ذلك وقوله وعمله وقصده يشبه (2) بعضُه بعضًا. فدعاهم سبحانه إلى تدبُّر القول، وتأمُّل سيرة القائل وأحواله، وحينئذٍ يتبين لهم حقيقة الأمر، وأن ما جاء به في (3) أعلى مراتب الصدق. وقال تعالى: {قُل لَّوْ شَاءَ اَللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْراكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثتُّ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [يونس: 16]. فتأمَّلْ هاتين الحُجتين القاطعتين تحت هذا اللفظ الوجيز: إحداهما: أن هذا من الله لا مِن قِبَلي، ولا هو مقدور لي، ولا من جنس مقدور البشر، وأن الله سبحانه وتعالى لو شاء لأمسك عنه قلبي ولساني وأسماعكم وأفهامكم، فلم أتمكن من تلاوته عليكم، ولم تتمكنوا من درايته وفَهْمه. الحُجة الثانية: أني قد لبثتُ فيكم عُمُري إلى حين أتيتكم به، وأنتم تشاهدوني وتعرفون حالي، وتصحبوني (4) حضرًا وسفرًا، وتعرفون دقيق أمري وجليله، وتتحققون سيرتي، هل كانت سيرة مَن هو مِن أكذب الخلق وأفجرهم وأظلمهم؟ فإنه لا أكذبَ ولا أظلم ولا أقبح سيرةً ممَّن جاهَرَ ربَّه وخالقه بالكذب والفِرية عليه، وطلب إفساد العالم، وظلم النفوس، والبغي في الأرض بغير الحق. هذا وأنتم تعلمون أني لم أكن أقرأ كتابًا ولا أخطُّه _________ (1) «ح»: «قلت». (2) «ح»: «نسبة». (3) «ح»: «من». (4) قوله: «تشاهدوني»، «وتصحبوني» كذا في النسختين بحذف نون الرفع.
(1/236)
بيميني، ولا صاحبت من أتعلم منه، بل صحبتكم أنتم في أسفاركم لمن تتعلمون منه وتسألونه عن أخبار الأمم والملوك وغيرها ما (1) لم أشارككم فيه بوجهٍ، ثم جئتكم بهذا النبأ العظيم الذي فيه علمُ الأولين والآخرين وعلمُ ما كان وما (2) سيكون على التفصيل. فأي برهانٍ أوضح من هذا، وأي عبارةٍ أفصح (3) وأوجز من هذه العبارة المتضمنة له؟ وقال تعالى: {* قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46]. ولمَّا كان للإنسان (4) ـ الذي يطلب معرفة الحق والصواب ـ حالتان (5): إحداهما (6): أن يكون ناظرًا مع نفسه. والثانية: أن يكون مناظرًا لغيره (7). أمَرَهم بخَصلةٍ واحدةٍ، وهي أن يقوموا لله اثنين اثنين، فيتناظران ويتساءلان بينهما، وواحدًا واحدًا، يقوم كل واحدٍ مع نفسه، فيتفكر في أمر هذا الداعي وما يدعو إليه، ويستدعي أدلةَ الصدق والكذب، ويعرض ما جاء _________ (1) «ح»: «مما». (2) «ما» ليس في «ح». (3) «ح»: «أنصح». (4) «ح»: «الإنسان». (5) النسختين: «حالتين». والمثبت من «م»: «حالتان». وهو الصواب. (6) «ح»: «أحدهما». (7) «ح»: «لمعرفة».
(1/237)
به عليها ليتبين (1) له حقيقة الحال، فهذا هو الحِجاج الجليل والإنصاف البيِّن والنصح التام. وقال سبحانه في تثبيت أمر البعث [ق 27 أ]: {* وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِ اِلْعِظَامَ وَهْيَ رَمِيمٌ (77) قُلْ يُحْيِيهَا اَلَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهْوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 77 - 78] إلى آخر السورة. فلو رام أعلم البشر وأفصحهم وأقدرهم على البيان أن يأتي بأحسن من هذه الحُجة أو بمثلها، في ألفاظ تشابه (2) هذه الألفاظ في الإيجاز والاختصار ووضوح الدلالة وصحة البرهان، لَألفى نفسه ظاهر العجز منقطعَ الطمع مستحكم اليأس (3) من ذلك. فإنه سبحانه افتتح هذه الحُجة بسؤال أورده الملحد اقتضى جوابًا، فكان في قوله سبحانه: {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} ما وفَّى بالجواب، وأقام الحُجة، وأزال الشُّبهة، لولا ما أراد سبحانه من تأكيد (4) حُجته وزيادة تقريرها، وذلك أنه سبحانه أخبر أن هذا الملحد السائل عن هذه المسألة لو لم ينسَ خَلْق نفسه وبدْء كونه (5) وذِكْر خَلْقه لكانت فكرته فيه كافية في جوابه، مُسكِتة له عن هذا السؤال. ثم أوضح سبحانه ما تضمنه قوله: {وَنَسِيَ خَلْقَهُ}، وصرَّح به جوابًا له عن مسألته، فقال: {قُلْ يُحْيِيهَا اَلَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 78]. فاحتج بالإبداء على الإعادة، وبالنشأة الأولى على النشأة الأخرى، إذ كل عاقلٍ يعلم _________ (1) «ح»: «لتبين». (2) «ح»: «مشابه». (3) في النسختين: «يستحكم الناس». والمثبت هو الصواب إن شاء الله. (4) «ح»: «تأكيده». (5) «ح»: «وتذاكر به».
(1/238)
علمًا ضروريًّا أن مَن قدر على هذه قدر على هذه، وأنه (1) لو كان عاجزًا عن الثانية لكان عن الأولى أعجز وأعجز. ولما كان الخَلْق يستلزم قدرة الخالق على مخلوقه وعلمه بتفاصيل خلقه أتبع ذلك بقوله: {وَهْوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 78]، فهو عليم بالخلق الأول وتفاصيله وجزئياته ومواده وصورته وعلله الأربع، وكذلك هو عليم بالخلق الثاني وتفاصيله ومواده وكيفية إنشائه. فإذا كان تامَّ العلم كاملَ القدرة، فكيف (2) يتعذر عليه أن يُحْيي العظام وهي رميمٌ. ثم أكَّد الأمر بحُجةٍ قاهرةٍ وبرهانٍ ظاهرٍ يتضمن جوابًا عن سؤال ملحدٍ آخر يقول: العظام إذا صارت رميمًا عادت طبيعتها باردةً يابسة، والحياة لا بد أن تكون مادتها وحاملها طبيعةً حارة رطبة لتقبل صورة الحياة. فتولَّى سبحانه جواب هذا السؤال (3) بما يدل على أمر البعث؛ ففيه الدليل والجواب معًا، فقال: {اِلَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ اَلشَّجَرِ اِلْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ} [يس: 79]، فأخبر سبحانه بإخراج هذا العنصر الذي هو في غاية الحرارة واليبوسة من الشجر الأخضر الممتلئ بالرطوبة والبرودة. فالذي يخرج الشيء من ضدِّه، وتنقاد (4) له مواد المخلوقات وعناصرها، ولا تستعصي (5) عليه، هو الذي يفعل ما أنكره الملحد ودفعه مِن إحياء _________ (1) «وأنه» سقط من «ح». (2) «ح»: «كيف». (3) من قوله: «رطبة لتقبل» إلى هنا سقط من «ح». (4) «ح»: «ينقاد». (5) «ح»: «يستعصي».
(1/239)
العظام وهي رميم. ثم (1) أكَّد هذا بأخذ الدلالة من الشيء الأجلِّ (2) الأعظم على الأيسر الأصغر، وأن كل عاقلٍ يعلم أن مَن قدَرَ على العظيم الجليل فهو على ما دونه بكثيرٍ أقدرُ وأقدر (3)، فمن قدر على حمل قنطار فهو على حمل أوقية أشد اقتدارًا، فقال: {أَوَلَيْسَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم} [يس: 80]. فأخبر سبحانه أن الذي أبدع السماواتِ والأرضَ (4) على جلالتهما، وعِظَم شأنهما، وكبر أجسامهما وسعتهما، وعجيب خلقتهما = أقدرُ على أن يحيي عظامًا قد صارت رميمًا، فيردها إلى حالتها الأولى، كما قال في موضع آخر: {لَخَلْقُ اُلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ اِلنَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [غافر: 57]، وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اَللَّهَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ اَلْمَوْتَى} (5) [الأحقاف: 32]. ثم أكَّد (6) سبحانه ذلك وبيَّنه ببيانٍ آخر يتضمَّن مع إقامة الحُجة دفْعَ شبهةِ كل ملحدٍ وجاحدٍ، وهو أنه ليس في فعله بمنزلة غيره الذي يفعل بالآلات والكُلْفة والتعب والمشقة، ولا يمكنه الاستقلال بالفعل، بل لا بد معه من آلةٍ _________ (1) «ثم» ليس في «ح». (2) «ح»: «الأصلي». (3) «وأقدر» ليس في «ح». (4) من قوله: {بِقَادِرٍ عَلَى} إلى هنا سقط من «ح». (5) النسختين: «أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يحيي الموتى». وقد أدخل آيتين بعضهما في بعض. (6) «ح»: «أخذ».
(1/240)
ومشاركٍ ومعينٍ، بل (1) يكفي في خَلْقه لما يريد أن يخلقه ويكونه نفسُ إرادته، وقوله للمكوَّن: كن، فإذا هو كائنٌ كما شاءه وأراده. فأخبر عن نفاذ مشيئته وإرادته، وسرعة تكوينه وانقياد المكوَّن له، وعدم استعصائه عليه. ثم ختم هذه الحُجة بإخباره أن ملكوت كل شيءٍ بيده، فيتصرف فيه بفعله، وهو (2) قوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 82]. فتبارك الذي تكلَّم (3) بهذا الكلام الذي جمع في نفسه بوَجَازته وبيانه وفصاحته وصحة برهانه كل ما تلزم الحاجة إليه من تقرير الدليل وجواب الشبهة، ودحْض حُجة الملحد، وإسكات المعاند، بألفاظٍ لا أعذب منها عند السمع، ولا أحلى منها (4) ومن (5) معانيها للقلب، ولا أنفع من ثمرتها للعبد. ومن هذا قوله سبحانه: {وَقَالُوا أَاذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَانَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا ممَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ اِلَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثتُّمْ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 49 - 52]. فتأمَّلْ ما أُجيبوا به عن كل سؤال سؤال (6) على التفصيل، فإنهم قالوا _________ (1) «ب»: «ما». (2) «ح»: «و». (3) «ح»: «يعلم». (4) «ب»: «أعلى من». (5) «ح»: «من». (6) «سؤال» ليس في «ح».
(1/241)
أولًا: {أَاذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَانَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا}، فقيل لهم في جواب هذا السؤال: إن كنتم تزعمون أنه لا خالقَ لكم ولا ربَّ فهلا كنتم خَلْقًا لا يفنيه الموت كالحجارة والحديد، أو (1) ما هو أكبر في صدوركم من ذلك. فإن قلتم: لنا ربٌّ خالقٌ خلقنا على هذه الصفة، وأنشأنا هذه النشأة التي لا تقبل البقاء، ولم يجعلنا حجارة [ق 27 ب] ولا حديدًا = فقد قامت عليكم الحُجة بإقراركم، فما الذي يحول بين خالقكم ومُنشِئكم وبين إعادتكم خلقًا جديدًا. وللحُجة تقرير آخر وهو: أنكم لو كنتم من حجارةٍ أو حديدٍ أو خلقٍ أكبر منهما لكان قادرًا على أن يُفنِيكم، ويُحِيل ذواتكم وينقلها من حالٍ إلى حالٍ. ومَن قَدَر على التصرف في هذه الأجسام مع شدتها وصلابتها بالإفناء والإحالة ونقْلِها من حالٍ إلى حالٍ، فما يُعجِزه عن التصرف فيما هو دونها بإفنائه وإحالته ونقله من حالٍ إلى حالٍ؟ فأخبر سبحانه أنهم يسألون سؤالًا آخر بقولهم: من يعيدنا إذا استحالت أجسامنا وفَنِيَت؟ فأجابهم بقوله: {قُلِ اِلَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء: 51]. وهذا الجواب نظير جواب قول السائل: {مَن يُحْيِ اِلْعِظَامَ وَهْيَ رَمِيمٌ} [يس: 77]. فلمَّا أخذتهم الحُجة، ولزمهم حُكمُها، ولم يجدوا عنها معدلًا = انتقلوا إلى سؤالٍ آخر يتعللون به كما يتعلل المقطوع بالحِجاج بمثل ذلك، وهو قولهم: {مَتَى هُوَ}.فأجيبوا بقوله: {عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثتُّمْ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 51 - 52]. _________ (1) «ح»: «و».
(1/242)
ومن هذا قوله سبحانه: {أَيَحْسِبُ اُلْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى (35) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ تُمْنَى (36) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى (37) فَجَعَلَ مِنْهُ اُلزَّوْجَيْنِ اِلذَّكَرَ وَاَلْأُنثى (38) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ اَلْمَوْتى} [القيامة: 35 - 39]. فاحتج سبحانه على أنه لا يترك الإنسانَ مهملًا معطلًا عن الأمر والنهي والثواب والعقاب، وأن حِكمته وقدرته تأبى ذلك. فإن مَن نقَلَه من نطفة منيٍّ إلى العَلَقة، ثم إلى المُضْغة، ثم خَلَقه وشقَّ سمعَه وبصرَه، وركَّب فيه الحواسَّ والقُوى والعظام والمنافع، والأعصاب والرباطات التي هي أَسْرُه (1)، وأتقن خلقَه وأحكمه غاية الإحكام، وأخرجه على هذا الشكل والصورة التي هي أتمُّ الصور وأحسن الأشكال، كيف يَعجِز عن إعادته وإنشائه مرةً ثانيةً؟! أم كيف تقتضي حكمته وعنايته به أن يتركه سُدًى؟! فلا يليق ذلك بحكمته، ولا تعجز عنه قدرته. فانظر إلى هذا الحِجاج العجيب بالقول الوجيز الذي لا يكون أوجزُ منه، والبيان الجليل الذي لا يُتوهم أوضح منه، ومأخذه القريب (2) الذي لا تقع الظنون على أقرب منه. وكذلك ما احتجَّ به سبحانه على النصارى مُبطِلًا لدعوى إلهية المسيح كقوله: {لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاَتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 17]، فأخبر أن هذا الذي أضافه مَن نسَبَ الولدَ إلى الله من مشركي العرب والنصارى غير سائغٍ في العقول إذا تأمله المتأمل. ولو أراد الله أن يفعل هذا _________ (1) الأَسْر الشد بالإسار، والعصب كالإسار، وقد أَسَرْتُه أسرًا وإسارًا، والأسر في كلام العرب: شدة الخلق. «تاج العروس» (10/ 48). (2) «ح»: «أقرب».
(1/243)
لكان يصطفي لنفسه، ويجعل هذا الولد المتخذ من الجوهر الأعلى السماوي الموصوف بالخلوص والنقاء من عوارض البشر، المجبول على الثبات والبقاء، لا من جوهر هذا العالَم الفاني الداثر (1) الكثير الأوساخ والأدناس والأقذار. ولمَّا كان هذا الحِجاج كما ترى في هذه القوة والجلالة أتبعه بقول: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى اَلْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18]. ونظير هذا قوله: {لَّوْ أَرَادَ اَللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا لَّاَصْطَفَى ممَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الزمر: 5] وقال سبحانه: {مَّا اَلْمَسِيحُ اُبْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ اِلرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ اِلطَّعَامَ اَنظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ اُلْأيَاتِ ثُمَّ اَنظُرْ أَنّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة: 77] وقد تضمنت هذه الحُجة دليلين يبطلان إلهيَّة المسيح وأمه: أحدهما: حاجتهما إلى الطعام والشراب، وضعف بِنْيتهما عن القيام بنفسهما، بل هي محتاجة فيما يُقِيمها إلى الغذاء والشراب، والمحتاج إلى غيره لا يكون إلهًا؛ إذ من لوازم الإله أن يكون غنيًّا. الثاني: أن الذي يأكل الطعام يكون منه ما يكون من الإنسان من الفضلات القذرة التي يستحي الإنسان من نفسه وغيره حال انفصالها عنه، بل يستحي من التصريح بذكرها. ولهذا ـ والله أعلم ـ كنَّى سبحانه عنها بلازمها من أكل الطعام الذي ينتقل الذهن منه إلى ما يلزمه من هذه الفضلة، _________ (1) في النسختين: «الدائر». ولعل الصواب ما أثبته. والداثر: الدارس، يقال: دثَرَ الرسمُ وتداثر واندثر: قَدُمَ ودرَسَ وعفا. «تاج العروس» (11/ 270 - 271).
(1/244)
فكيف يليق بالربِّ سبحانه أن يتخذ صاحبة وولدًا من هذا الجنس؟! ولو كان يليق به ذلك أو يمكن لكان الأَوْلى به أن يكون من جنسٍ لا يأكل ولا يشرب، ولا يكون منه الفضلات المستقذَرة التي يُستحى منها ويُرغب عن ذكرها. فانظر ما تضمنه هذا الكلام الوجيز البليغ المشتمل على هذا المعنى العظيم الجليل الذي لا يجد سامعه مَغْمزًا له، ولا مَطْعنًا فيه، ولا تشكيكًا ولا سؤالًا يُورِده عليه، بل يأخذ بقلبه وسمعه. ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهْوَ كَظِيمٌ 16 أَوَمَن يَنشَؤُا فِي اِلْحِلْيَةِ وَهْوَ فِي اِلْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 16 - 17]. احتجَّ سبحانه على هؤلاء الذين جعلوا له البنات بأن أحدهم لا يرضى بالبنات، وإذا بُشِّر بالأنثى حصل له من الحزن والكآبة ما ظهر منه السوادُ على وجهه، فإذا كان أحدكم لا يرضى بالإناث بناتًا (1)؛ فكيف تجعلونها لي؟! كما قال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} [النحل: 62]. ثم ذكر سبحانه ضَعْف هذا الجنس الذي جعلوه له، وأنه أنقصُ الجنسين، ولهذا يحتاج في كماله إلى الحلية [ق 28 أ] وأضعفهما بيانًا، فقال تعالى: {أَوَمَن يَنشَؤُا فِي اِلْحِلْيَةِ وَهْوَ فِي اِلْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 17]، فأشار بنشأتهن في الحلية إلى أنهن (2) ناقصات، فيحتجن إلى حلية يَكمُلن بها، وأنهن عَيِيَّات فلا يُبِنَّ عن حُجتهن وقت الخصومة. _________ (1) كذا منصوبًا بالفتحة، قال السيوطي في «همع الهوامع» (1/ 67): «ما جُمع بألف وتاء فينصب بالكسرة، وأجاز الكوفية الفتح». (2) في النسختين: «أنها». والمثبت من «م».
(1/245)
مع أن في قوله: {أَوَمَن يَنشَؤُا فِي اِلْحِلْيَةِ} تعريضًا بما وُضِعَت له الحليةُ من التزين (1) لمن يستفرشهن ويطؤهن، وتعريضًا بأنهن لا ينشأن في الحرب والطِّعَان والشجاعة، فذكر الحلية التي هي علامة الضعف والعجز والوهَن. ومن هذا ما حكاه سبحانه في (2) محاجَّة إبراهيم قومه بقوله: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اِللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (81 ) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزِلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ اُلْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (82 ) اَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اُلْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 81 - 83]. فهذا الكلام لم يخرج في ظاهره مخرجَ كلام البشر الذي يتكلَّفه أهل النظر والجدال والمقايسة والمعارضة، بل خرج في صورة كلامٍ خبريٍّ يشتمل (3) على مبادئ الحِجاج ومقاطعه (4)، مشيرًا إلى مقدمات الدليل ونتائجه (5) بأوضح عبارةٍ وأفصحها وأقربها تناولًا. والغرض منه أن إبراهيم قال لقومه متعجبًا ممَّا دعوه إليه من الشرك: أتحاجُّوني في الله، وتطمعون أن تستنزلوني عن توحيده بعد أن هداني، وتأكدت بصيرتي، واستحكمت معرفتي بتوحيده بالهداية التي رَزَقَنيها، وقد _________ (1) «التزين». في «ح»، «م»: «القرين». وفي «ب»: «الزين». ولعل المثبت هو الصواب. (2) «ب»: «من». (3) «ب»: «مشتمل». (4) «ومقاطعه» ليس في «ح». (5) «ب»: «وتناسخه».
(1/246)
علمتم أن من كانت هذه حاله في اعتقاده أمرًا من الأمور عن بصيرةٍ لا يعارضه فيها ريبٌ ولا يتخالجه فيها شكٌّ؛ فلا سبيل إلى استنزاله عنها (1). وأيضًا فإن المُحاجَّة والمجادلة بعد وضوح الشيء وظهوره نوعٌ من العبث، بمنزلة المُحاجة (2) في طلوع الشمس وقد رآها مَن تحاجُّونه بعينه، فكيف يؤثر حجاجكم له أنها لم (3) تطلع بعد؟! ثم قال: ولا أخاف ما أشركتم إلَّا أن يشاء ربي شيئًا. فكأنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ يذكر أنهم خوَّفوه آلهتهم أن يناله منها معرَّةٌ، كما قاله قوم هود له: {إِن نَّقُولُ إِلَّا اَعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود: 54] فقال إبراهيم: إن أصابني مكروهٌ، فليس ذلك من قبل هذه الأصنام التي عبدتموها من دون الله، وهي أقلُّ من ذلك، فإنها ليست ممَّا يُرجى ويُخاف، بل يكون ذلك الذي أصابني من قبل الحي الفعَّال الذي يفعل ما يشاء، الذي بيده الضر والنفع، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. ثم ذكر سَعة علمه سبحانه في هذا المقام منبهًا على موقع احترازٍ لطيفٍ، وهو أن لله سبحانه علمًا فيَّ وفيكم وفي هذه الآلهة لا يصل إليه علمي. فإذا شاء أمرًا من الأمور فهو أعلم بما يشاء (4)، فإنه وسع كل شيءٍ علمًا، فإن أراد أن يصيبني بمكروهٍ لا علم لي من أي جهةٍ أتاني؛ فعلمه محيطٌ بما لم أعلمه. وهذا غاية التفويض والتبرِّي من الحول والقوة وأسباب النجاة، وأنها بيد الله لا بيدي. _________ (1) «ح»: «فيها». (2) «ح»: «الحاجة». (3) «لم» سقط من «ح». (4) «ب»: «يشاؤه».
(1/247)
وهكذا قال شعيب لقومه: {قَدِ اِفْتَرَيْنَا عَلَى اَللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اَللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلَّا أَن يَشَاءَ اَللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اَللَّهِ تَوَكَّلْنَا} [الأعراف: 88]، فردَّت الرُّسل العلم بما يفعله الله إليه، وأنه إذا شاء شيئًا فهو أعلم بما يشاؤه، ولا علم لنا بامتناعه وعدم كونه. ثم رجع الخليل إليهم مُقرِّرًا للحُجة فقال: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزِلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ اُلْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 82]. يقول لقومه: كيف يسوغ في عقلٍ أو عند ذي لبٍّ أن أخاف ما جعلتموه لله شريكًا في الإلهية، وهي ليست بموضع نفعٍ ولا ضرٍّ، وأنتم لا تخافون أنكم أشركتم بالله في إلهيته أشياء لم ينزل بها حُجة عليكم، ولا شرعها لكم. فالذي أشرك بخالقه وفاطره وبارئه ـ الذي يُقرُّ بأنه خالق السماوات والأرض، وربُّ كل شيءٍ ومليكه، ومالك الضر والنفع= آلهةً لا تخلق شيئًا وهي مخلوقةٌ، ولا تملك لأنفسها ولا لعابديها ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا؛ وجعلها ندًّا له (1)، ومثلًا في الإلهية تُعبَد ويُسجَد لها ويُخضَع لها ويُتقرَّب إليها= أحقُّ بالخوف ممَّن لم يجعل مع الله إلهًا آخر، بل وحَّده وأفرَده بالإلهية والربوبية والعظمة والسلطان والحب والخوف والرجاء. فأي الفريقين أحقُّ بالأمن إن كنتم تعلمون؟! فحكَمَ الله سبحانه بينهما بأحسن حكمٍ خضعت له القلوب، وأقرت به _________ (1) «له» ليس في «ب».
(1/248)
الفِطَر، وانقادت له العقول؛ فقال: {اَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اُلْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 83]. فتأمل هذا الكلام وعجيبَ موقعه في قطع الخصوم، وإحاطته بكل ما وجب في العقل أن يردَّ به ما دعوه إليه وأرادوا حمْله عليه، وأخذه بمجامع الحُجة التي لم تُبقِ لطاعنٍ مطعنًا ولا سؤالًا. ولمَّا كانت بهذه المثابة أشاد (1) سبحانه بذكرها، وعظَّمها بالإشارة إليها، وأضافها إلى نفسه تعظيمًا لشأنها؛ فقال: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتِ مَن نَّشَاءُ} [الأنعام: 84] [ق 28 ب]، فعلم السامع بإضافته إيَّاها إلى نفسه أنه هو الذي فهَّمها خليلَه ولقَّاه (2) إيَّاها، وعنه سبحانه أخذها الخليل. وكفى بحُجةٍ يكون الله عز وجل ملقِّيها (3) لخليله وحبيبه أن تكون قاطعةً لمواد العِناد، قامعةً لأهل الشرك والإلحاد. وشبيهٌ (4) بهذا الاحتجاج القصة الثانية (5) لإبراهيم في محاجة المشرك الذي أخبر الله سبحانه عمَّا جرى بينه وبينه في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اُللَّهُ اُلْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ اَلَّذِي يُحْيِ وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِ وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اَللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ اَلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ اَلْمَغْرِبِ فَبُهِتَ اَلَّذِي كَفَرَ وَاَللَّهُ لَا يَهْدِي اِلْقَوْمَ اَلظَّالِمِينَ} [البقرة: 257]، فإن _________ (1) في النسختين: «أشار». وهو تصحيف ما أثبت. (2) «ح»: «ولقاها». (3) «ب»: «ملقنها». (4) «وشبيه» سقط من «ح». (5) «ح»: «الثابتة».
(1/249)
مَن تأمَّلَ موقع الحِجاج وقطع المجادِل فيما تضمنته هذه الآية وقَفَ على أعظم برهانٍ بأوجز عبارةٍ. فإن إبراهيم لمَّا أجاب المُحاجَّ له في الله بأنه الذي يحيي ويُميت أخَذَ عدوُّ الله في (1) معارضته بضربٍ من المغالطة، وهو أنه يقتل مَن يريد ويستبقي مَن يريد، فقد أحيا هذا وأمات هذا. فألزمه إبراهيم على طرد هذه المعارضة أن يتصرف في حركة الشمس من غير الجهة التي يأتي الله بها منها، إذا كان (2) بزعمه قد ساوى (3) الله في الإحياء والإماتة، فإن كان صادقًا فليتصرف في الشمس تصرفًا تصحُّ به دعواه. وليس هذا انتقالًا من حُجة إلى حُجة أوضح منها ـ كما زعم بعض النُّظار ـ وإنما هو إلزام للمدَّعي بطرد حُجته إن كانت صحيحةً. ومن ذلك احتجاجه سبحانه على إثبات علمه بالجزئيات كلها بأحسن دليلٍ وأوضحه وأصحه، حيث يقول: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اِجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ اِلصُّدُورِ} [الملك: 14]، ثم قرَّر علمَه بذلك بقوله: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهْوَ اَللَّطِيفُ اُلْخَبِيرُ} [الملك: 15]. وهذا من أبلغ التقرير، فإن الخالق لا بد أن يعلم مخلوقه، والصانع يعلم مصنوعه، وإذا كنتم مقرِّين بأنه خالقكم وخالق صدوركم (4) وما تضمنته، فكيف يخفى عليه وهي خَلْقُه؟! وهذا التقرير ممَّا يصعب على القدرية فهمُه، فإنه لم يخلق عندهم ما في الصدور، فلم يكن في الآية على أصولهم دليلٌ على علمه بها، ولهذا طرد غلاة القوم _________ (1) «في» سقط من النسختين، وأثبته من «م». (2) «إذا كان» سقط من «ح». (3) «ح»: «تساوى». (4) «ح»: «صوركم».
(1/250)
ذلك ونفوا علمه؛ فأكفرهم السلف قاطبةً. وهذا التقرير من الآية صحيحٌ على التقديرين، أعني: تقدير أن تكون «مَن» في محل رفع على الفاعلية، وفي محل نصب على المفعولية، فعلى التقدير الأول: ألا يعلم الخالق الذي شأنه الخلق. وعلى التقدير الثاني (1): ألا يعلم الربُّ مخلوقَه ومصنوعه (2). ثم ختم الحُجة باسمَيْنِ مقتضيين لثبوتها، وهما: {اَللَّطِيفُ}: الذي لَطُفَ صُنْعُه وحكمته ودقَّ حتى عجزت عنه الأفهام. و {اُلْخَبِيرُ} الذي انتهى علمه إلى الإحاطة ببواطن الأشياء وخفاياها، كما أحاط بظواهرها. فكيف يخفى على اللطيف الخبير ما تحويه الضمائر وتخفيه الصدور؟! ومن هذا احتجاجه سبحانه على المشركين بالدليل المقسم الحاصر (3) الذي لا يجد سامعه إلى ردِّه ولا معارضته سبيلًا، حيث يقول تبارك وتعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ اُلْخَالِقُونَ (33 ) أَمْ خَلَقُوا اُلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ} [الطور: 33 - 34]. فتأمل هذا الترديد والحصر المتضمن لإقامة الحُجة بأقرب طريقٍ وأفصح عبارةٍ. يقول تعالى: هؤلاء مخلوقون بعد أن لم يكونوا، فهل خُلقوا من غير خالقٍ خلقهم، فهذا من المحال الممتنع عند كل _________ (1) من قوله: «ألا يعلم الخالق» إلى هنا سقط من «ح». (2) ذكَرَ القولين الواحديُّ في «التفسير البسيط» (22/ 51 - 52) والبغوي في «معالم التنزيل» (8/ 178). (3) «ح»: «الخاص».
(1/251)
مَن له فهمٌ وعقلٌ أن يكون مصنوعٌ من غير صانعٍ، ومخلوقٌ من غير خالقٍ. ولو مرَّ رجلٌ بأرضٍ قفرٍ لا بناءَ فيها، ثم مرَّ بها فرأى فيها بنيانًا وقصورًا وعمارات مُحكَمة، لم يتخالجه شكٌّ ولا ريب أن صانعًا صنعها وبانيًا بناها. ثم قال: {أَمْ هُمُ اُلْخَالِقُونَ}، وهذا أيضًا من المستحيل أن يكون العبد موجِدًا خالقًا لنفسه، فإن من لا يقدر أن يزيد في حياته بعد وجوده وتعاطيه أسباب الحياة ساعةً واحدةً، ولا إصبعًا ولا ظفرًا ولا شعرة، كيف يكون خالقًا لنفسه في حال عدمه؟ وإذا بطل القسمان تعيَّن أن لهم خالقًا خلقهم، وفاطرًا فطرهم، فهو الإله الحق الذي يستحق عليهم العبادة والشكر، فكيف يشركون به إلهًا غيره، وهو وحده الخالق لهم؟ فإن قيل فما موقع قوله: {أَمْ خَلَقُوا اُلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضَ} [الطور: 34] من هذه الحجة؟ قيل: أحسن موقعٍ، فإنه بيَّن بالقسمين الأولين أن لهم خالقًا وفاطرًا وأنهم مخلوقون، وبيَّن بالقسم الثالث أنهم بعد أن وُجدوا وخُلقوا فهم عاجزون غير خالقين، وإنهم لم (1) يخلقوا نفوسهم ولم يخلقوا السماوات والأرض، وأن الواحد القهار الذي لا إله غيره ولا ربَّ سواه هو الذي خلقهم وخلق السماوات والأرض، فهو المتفرِّد بخلق المسكن والساكن، بخلق العالم العلوي والسفلي وما فيه. ومِن هذا ما حكاه الله سبحانه عن محاجة صاحب يس لقومه بقوله: {قَالَ _________ (1) «ح»: «فإنهم لا».
(1/252)
يَاقَوْمِ اِتَّبِعُوا اُلْمُرْسَلِينَ (19 ) اَتَّبِعُوا مَن لَّا يَسْئَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ} [يس: 19 - 20]. فنبَّه على موجِب الاتباع، وهو كون المتبوع رسولًا لمن لا ينبغي أن يُخالف ولا يُعصى، وأنه على هداية، ونبَّه على انتفاء (1) المانع، وهو عدم سؤال الأجر، فلا يريد منكم دنيًا [ق 29 أ] ولا رياسة، فموجِب الاتباع كونه مهتديًا، والمانع منه منتفٍ، وهو طلب العلو في الأرض والفساد وطلب الأجر. ثم (2) قال: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ اُلَّذِي فَطَرَنِي} [يس: 21] أخرج الحجة عليهم في معرض المخاطبة لنفسه تأليفًا لهم، ونبَّه على أن عبادة العبد لمن فطره أمرٌ واجبٌ في العقول، مستهجنٌ تركها، قبيحٌ الإخلال بها، فإن خلقه لعبده أصل إنعامه عليه، ونعمه كلها بعد (3) تابعةٌ لإيجاده وخلقه، وقد جبل الله العقول والفطر على شكر المنعم ومحبة المحسن ـ ولا يلتفت إلى ما يقوله نفاة التحسين والتقبيح في ذلك؛ فإنه من أفسد الأقوال وأبطلها في العقول والفطر والشرائع ـ ثم أقبل (4) عليهم مخوِّفًا لهم تخويف الناصح فقال: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 21] ثم أخبر عن الآلهة التي تُعبَد من دونه أنها باطلةٌ، وأن عبادتها باطلةٌ، فقال: {آاتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ (5) اِلرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَّا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ _________ (1) «ح»: «انتقال». (2) «ثم» ليس في «ح». (3) «بعد» ليس في «ح». (4) «ح»: «اجعل». (5) في «النسختين»: «يردني» بإثبات الياء، وهي قراءة، قال ابن الجزري في «النشر في القراءات العشر» (2/ 188 - 189): «وأما {إن يردن} فأثبت الياء فيها مفتوحة في الوصل أبو جعفر وأثبتها ساكنة في الوقف أبو جعفر أيضًا ... وتقدم مذهب يعقوب في الوقف عليها بالياء من باب الوقف، وحذفها الباقون في الحالين».
(1/253)
شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِ} [يس:22] فإن العابد يريد من معبوده أن ينفعه وقتَ حاجته إليه، وإنما إذا أرادنِيَ الرحمنُ الذي فطرني بضرٍّ لم يكن لهذه الآلهة من القدرة ما ينقذوني بها من ذلك الضرِّ، ولا من الجاه والمكانة عنده ما يشفع لي إليه، لأتخلص من ذلك الضرِّ؛ فبأي وجهٍ يستحق العبادة؟ {إِنِّيَ إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [يس: 23] إنْ عبدتُ من دون الله ما هذا شأنه. وهذا الذي ذكرناه من حِجاج القرآن يسيرٌ من كثيرٍ، وإنما نبَّهنا على ما لم نذكر منه. والمقصود أنه متضمِّنٌ للأدلة (1) العقلية والبراهين القطعية التي لا مطمعَ في التشكيك والأَسْوِلة عليها إلَّا لمعاندٍ مكابرٍ. والمتأول لا يمكنه أن يقيم على مبطلٍ حُجةً نقليةً ولا عقليةً. أمَّا النقل فلأنه عنده قابلُ التأويل وهو لا يُفيد اليقين، وأمَّا العقل فلأنه قد خرج عن صريحه وموجبه بالقواعد التي قادته إلى تأويل النصوص وإخراجها عن ظواهرها وحقائقها، فصارت تلك القواعد الباطلة حجابًا بينه وبين العقل والسمع، فإذا احتجَّ على خصمه بحُجةٍ عقليةٍ نازعه خصمه في مقدماتها بما سَلِمَ له من القواعد التي يخالفها، فإن المعقول الصريح هو ما دلت عليه النصوص، فإذا أبطله (2) بالتأويل لم يبقَ معه معقولٌ صحيحٌ يحتجُّ به على خَصْمه، كما لم يبقَ معه منقولٌ صريحٌ؛ فإنه قد عرض المنقول للتأويل، والمعقول الصريح خرج عنه بالذي ظن أنه معقول. _________ (1) «ح»: «يتضمن الأدلة». (2) «ح»: «بطل».
(1/254)
ومثال هذا أن العقل الصريح الذي لا يكذب ولا يغلط قد حكم حُكمًا لا يقبل الغلط، أن كل ذاتين قائمتين بأنفسهما؛ إمَّا أن يكون كل منهما مُبايِنة للأخرى أو مُحايِثة لها، وأنه يمتنع أن تكون هذه الذات قائمة (1) بنفسها وهذه قائمة بنفسها، وإحداهما ليست فوق الأخرى ولا تحتها، ولا عن يمينها ولا عن يسارها، ولا خلفها ولا أمامها، ولا متصلة بها (2) ولا منفصلة عنها، ولا مُجاوِرة لها ولا مُحايِثة، ولا داخلة فيها ولا خارجة عنها. فإذا خُولِفَ (3) مقتضى هذا المعقول الصريح ودُفِعَ موجبُه، فأي دليلٍ عقليٍّ احتجَّ به المخالفُ بعد هذا على مبطلٍ أمكنه دفعه بما دفع هو به حُكم هذا العقل؟! فإذا قال الجهمي: هذا من حُكم الوَهْم لا من حكم العقل، قال له خصمه فيما احتج به عليه من قضايا العقل: هذا أيضًا مِن حُكم الوهم. فإنك لو قلتَ (4): إن في النفس حاكمينِ: الوهم والعقل، فإذا ادعيتَ فيما تشهد به العقول والفِطَر أنه من حكم الوهم، كان ادعاء ذلك فيما هو دون هذه القضية بكثيرٍ أقرب وأقرب. وأمثلة ذلك لا يتسع لها هذا الموضع. وإذا تأمَّلتَ القواعد الحاملة لأرباب التأويل عليه وجدتَها مخالفةً لصريح العقل (5)، ومَن خالفَ صريحَ العقل لم تقم له حُجةٌ عقليةٌ ولا سمعيةٌ، وبالله التوفيق. * * * * * _________ (1) «ح»: «فإنه». (2) «بها» ليس في «ح». (3) «ب»: «خلف». (4) «ب»: «أعطيت». (5) «ح»: «تخالفه تصريح».
(1/255)
الفصل الحادي والعشرون في الأسباب الجالبة (1) للتأويل
وهي أربعة أسباب: اثنان من المتكلم، واثنان من السامع. فالسببان اللذان من المتكلم: إمَّا نقصان بيانه، وإمَّا سوء قَصْده. واللذان من السامع: إمَّا سوء فهمه، وإمَّا سوءُ قَصْده. فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة انتفى التأويل الباطل، وإذا وُجدت أو بعضها وقَعَ التأويل. فنقول وبالله التوفيق: لمَّا كان المقصودُ من التخاطب التقاءَ قصْدِ المتكلم وفَهْم المخاطب على محزٍّ (2) واحدٍ، كان أصحَّ الأفهام وأسعد الناس بالخطاب ما التقى فيه فهْمُ السامع ومرادُ المتكلم. وهذا هو حقيقة الفقه الذي أثنى اللهُ ورسوله به على أهله وذمَّ مَن فقَدَه، فقال تعالى: {وَلَكِنَّ اَلْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 7]، وقال: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ اِلْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 77]. وقال في الثناء على أهله: {قَدْ فَصَّلْنَا اَلْأيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 99]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» (3). وقال لزياد بن لبيد: «إِنْ كُنْتُ لَأعُدُّكَ مِنْ فُقَهَاءِ المَدِينَةِ» (4). _________ (1) «الجالبة» سقط من «ح». (2) المحز: موضع الحز، أي: القطع. «تاج العروس» (15/ 110). (3) أخرج البخاري (71) ومسلم (1037) عن معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما -. (4) أخرجه الترمذي في «الجامع» (2653) والحاكم في «المستدرك» (1/ 99) عن أبي الدرداء - رضي الله عنه -، وقال الترمذي: «حديث حسن غريب». وقال الحاكم: «هذا إسناد صحيح من حديث البصريين».
(1/256)
فالفقه فهمُ مقصود المتكلم من كلامه، وهذا أمرٌ (1) زائدٌ على مجرد الفهم. فإذا كان المتكلم قد وفَّى البيانَ حقَّه وقصَدَ إفهامَ المخاطَب وإيضاحَ المعنى له وإحضارَه في ذهنه [ق 29 ب]، فوافَقَ مِن المخاطب معرفةً بلغة المتكلم وعُرفه المطَّرِد في خطابه، وعَلِمَ مِن كمال نصحِه أنه لا يقصد بخطابه التعميةَ والإلغاز، لم يخفَ عليه معنى كلامه، ولم يقع في قلبه شكٌّ في معرفة مراده. وإن كان المتكلمُ قد قصَّر في بيانه، وخاطَبَ السامع بألفاظ مجمَلة تحتمل عدةَ معانٍ، ولم يبيِّن له ما أراده منها؛ فإن كان عاجزًا عن ذلك أُتي السامعُ مِن عجزِه لا مِن قصده، وإن كان قادرًا عليه ولم يفعله حيث ينبغي فِعله أُتي السامعُ مِن سُوء قصده. وقد يحسن ذلك من المتكلم إذا كان في التعمية على المخاطب مصلحةٌ راجحةٌ، فيتكلم بالمجمل لِيجعلَ (2) لنفسه سبيلًا إلى تفسيره بما يتخلص به، أو ليُوهِم السامع أنه أراد ما لا (3) يخاف إفهامَه إياه، أو لغير ذلك من الأسباب التي يحسن معها التعريضُ والكناية والخطاب بضدِّ البيان، وهذا من خاصة العقل. وقد قال تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ اِلنِّسَاءِ} [البقرة: 233]. وفي الحديث: «إِنَّ فِي المَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً عَنِ الكَذِبِ» (4). وقد عرَّضَ _________ (1) «ح»: «الأمر». (2) «ح»: «لتعجل». (3) «لا»: ليس في «ح». (4) أخرجه ابن الأعرابي في «المعجم» (993) وابن السني في «عمل اليوم والليلة» (327) وأبو الشيخ في «الأمثال» (230) والبيهقي في «السنن الكبرى» (10/ 199) عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - مرفوعًا. وأخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (857) والطبراني في «المعجم الكبير» (18/ 106) والبيهقي في «السنن الكبرى» (10/ 199) عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - موقوفًا، وقال البيهقي: «هذا هو الصحيح موقوف». وفي الباب عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - مرفوعًا وموقوفًا، يُنظر: «المقاصد الحسنة» للسخاوي (227).
(1/257)
إبراهيم الخليل للجبار بقوله عن امرأته: «هَذِهِ أُخْتِي» (1). وعرَّض النبي - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي سأله في طريقه ممَّن أنتم؟ فقال: «نَحْنُ مِنْ مَاءٍ» (2). وعرَّضَ الصدِّيق لمن جعل يسأله في طريق الهجرة: مَن هذا معك؟ فقال: «هادٍ يَهديني السبيلَ» (3). فهذه المواضع ونحوها يحسُن فيها تركُ (4) البيان، إمَّا بكنايةٍ عن المقصود، أو تعريضٍ عنه. والفرق بينهما (5) أنه في الكناية قاصدٌ لإفهام المخاطب مرادَه بلفظ أخفى لا يفهمه كلُّ أحدٍ، فيكني عن المعنى الذي _________ (1) أخرجه البخاري (3358) ومسلم (2371) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (2) أخرجه ابن إسحاق في «السيرة» ـ كما في «تهذيب السيرة» لابن هشام (1/ 616) ـ ومن طريقه ابن جرير في «تاريخه» (2/ 435 - 436) عن محمد بن يحيى بن حبان مرسلًا. (3) أخرجه البخاري (3911) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -. (4) «ترك» ليس في «ب». (5) يُنظر للزيادة في بيان الفرق بين الكناية والتعريض: «المثل السائر» لضياء الدين ابن الأثير (3/ 49 - 57) و «الجامع الكبير في صناعة المنظوم من الكلام والمنثور» له (ص 156 - 157).
(1/258)
يريده بلفظ أخفى من لفظه الصريح، كما كنَّى الله سبحانه عن الجماع بالدخول وبالمَسِّ واللمس والإفضاء، وكما يُكنى عن الفرج بالهَنِ، ونحو ذلك. وأمَّا التعريض فإيهام (1) السامع معنًى ومرادُه (2) خلافه، كالتعريض بالقذف مثلًا. فإذا قال: ما أنا بزانٍ أوهَمَ (3) السامع نفي الزِّنا عن نفسه، ومراده إثباته للسامع، قال الحماسي (4): لَكِنَّ قَوْمِي وَإِنْ كَانُوا ذَوِي عَدَدٍ ... لَيْسُوا مِنَ الشَّرِّ فِي شَيْءٍ وَإِنْ هَانَا كَأَنَّ رَبَّكَ لَمْ يَخْلُقْ لِخَشْيَتِهِ ... سِوَاهُمُ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ إِنْسَانَا فإنه أوهم السامع تنزيههم عن الشرور ووصفهم بخشية الله، ومرادُه وصفُهم بالعجز والجبن. ومثله قول الآخر (5): قُبَيِّلَةٌ لَا يَغْدِرُونَ بِذِمَّةٍ ... وَلَا يَظْلِمُونَ النَّاسَ حَبَّةَ خَرْدَلِ وَلَا يَرِدُونَ الْمَاءَ إِلَّا عَشِيَّةً ... إِذا صَدَرَ الْوُرَّادُ عَنْ كُلِّ مَنْهَل _________ (1) «ح»: «فإفهام». (2) «ح»: «ويراد». (3) «ح»: «أفهم». (4) البيتان لقُرَيط بن أُنَيف أحد بني العنبر، يُنظر «ديوان الحماسة» لأبي تمام (1/ 57 - 58). (5) البيتان للنجاشي الحارثي، ينظر «الوحشيات» لأبي تمام (ص 215 - 216)، و «جمهرة الأمثال» للعسكري (1/ 81).
(1/259)
فصل وأمَّا السببان اللذان من السامع، فأحدهما: سوءُ الفهم (1). فإن درجات الفهم متفاوتة في الناس أعظم تفاوتٍ، فإنَّ قُوى الأذهان كقوى الأبدان، والناس متفاوتون في هذا وهذا تفاوُتًا لا ينضبط. وقد سُئل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: هل خصَّكم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بشيءٍ دون الناس فقال: «لا، والذي فلَقَ الحبَّةَ وبرَأَ النسَمَةَ إلَّا (2) فَهْمًا يؤتيه اللهُ عبدًا في كتابِه، وما في هذه الصحيفةِ. وكان فيها العقل ـ أي: الدِّيَات ـ وفَكاكُ الأسيرِ» (3). وكان أبو بكر الصدِّيق أفهمَ الأُمة لكلام الله ورسوله. ولهذا لما أشكَل على عمر ـ مع قوة فَهْمه ـ قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرَامَ إِن شَاءَ اَللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27]، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للصحابة: «إِنَّكُمْ تَأْتُونَهُ وَتَتَطَوَّفُونَ بِهِ (4)»، فأورده عليه عامَ الحديبية، فقال له الصدِّيق: أقال لك إنك تأتيه العامَ؟ قال: لا، قال: فإنك آتِيهِ ومُطوِّفٌ (5) به. فأجابه بجواب النبي - صلى الله عليه وسلم - (6). _________ (1) لم يُفرِد المصنِّف - رحمه الله - الكلام على السبب الثاني، وهو سوء القصد، إنما أشار إليه إشارة. (2) «إلا» سقط من «ح». (3) أخرجه البخاري (3047) ومسلم (78). (4) «ح»: «وتطوفونه». (5) «ح»: «تأتيه وتطوف». (6) أخرجه البخاري في «الصحيح» (2731) عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم في حديث صلح الحديبية الطويل.
(1/260)
وأشكَل عليه قتال الصدِّيق لمانعي الزكاة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إَلَّا اللهُ. فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ». فقال: ألم يقل «إلَّا بِحَقِّهَا»؟ فإن (1) الزكاة من حقها (2). ولمَّا أخبرهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللهِ» بكى أبو بكر، وقال: «نَفْدِيك بآبائنا وأُمَّهاتنا» (3). فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو المخيَّرَ، وكان أبو بكر هو (4) أعلمَ الأُمة به. وكذلك فَهِم عمرُ بن الخطاب وعبد الله بن عباس من سورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اُللَّهِ وَاَلْفَتْحُ} أنها إعلامٌ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحضور أجله (5). وكذلك كان الصحابة أعلمَ الأُمة على الإطلاق، وبينهم وبين مَن بعدهم في العلم واليقين كما بينهم وبينهم في الفضل والدِّين. ولهذا كان ما فَهِمه الصحابةُ من القرآن أَوْلى أن يُصار إليه ممَّا فهمه مَن بعدهم. فانضاف حُسنُ قصدِهم إلى حُسن فَهْمهم، فلم يختلفوا في التأويل في باب معرفة الله وصفاته وأسمائه وأفعاله واليوم الآخر، ولا يُحفَظ عنهم في ذلك خلافٌ لا مشهورٌ ولا شاذٌّ. _________ (1) «ب»: «فإيتاء». (2) أخرجه الشافعي في «مسنده» (678، 679) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، وأصله في البخاري (1399) ومسلم (20). (3) أخرجه البخاري (3904) ومسلم (2382) عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. (4) «هو» ليس في «ب». (5) أخرجه البخاري (3627) عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -.
(1/261)
فلمَّا حدث بعد انقضاء عصرهم مَنْ ساء فهمُه وساء قصدُه (1) وقعوا في أنواع من (2) التأويل بحسب سوء الفهم وفساد القصد [ق 30 أ]. وقد يجتمعان وقد ينفردان، وإذا (3) اجتمعا تولَّد من بينهما جهلٌ بالحق ومعاداة لأهله واستحلال ما حرَّم الله منهم. وإذا تأملتَ أصول المذاهب الفاسدة رأيتَ أربابها قد اشتقوها من بين هذين الأصلينِ، وحملهم عليها منافسةٌ في (4) رياسةٍ أو مالٍ أو توصُّلٍ إلى عَرَض من أعراض (5) الدُّنيا، تخطبه الآمالُ، وتتبعه الهممُ، وتشرئبُّ إليه النفوسُ، فيتفق للعبد شبهةٌ وشهوةٌ، وهما أصل كل فسادٍ، ومنشأ كل تأويلٍ باطلٍ. وقد ذمَّ الله سبحانه مَن اتبع الظنّ وما تهوى الأنفس، فالظن: الشبهات وما تهوى الأنفس (6): الشهوات، وهما اللذان ذكرهما في سورة براءة في قوله تعالى: {كَاَلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاَسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاَسْتَمْتَعْتُم بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اَسْتَمْتَعَ اَلَّذِينَ مِن قَبْلِكُم بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَاَلَّذِي خَاضُوا} [التوبة: 69]. فذكر الاستمتاعَ بالخَلاقِ، وهو التمتع بالشهوات، وهو نصيبهم الذي _________ (1) وسوء القصد هو السبب الثاني الذي من السامع. (2) «من» ليس في «ب». (3) «ب»: «فإذا». (4) «في» ليس في «ح». (5) «ب»: «غرض من أغراض». (6) «فالظن الشبهات، وما تهوى الأنفس». سقط من «ح».
(1/262)
آثَروه في الدنيا على حظِّهم من الآخرة؛ والخوضَ الذي اتبعوا فيه الشُّبهاتِ. فاستمتعوا بالشهوات، وخاضوا بالشبهات، فنشأ عنهما التفرقُ المذموم الذي ذمَّ اللهُ أهله في كتابه، ونهى عبادَه المؤمنين عن التشبه بهم، فقال: {وَلَا تَكُونُوا كَاَلَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاَخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ اُلْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 105 - 106]. قال ابن عباس: «تبيضُّ وجوهُ أهل السُّنَّة والائتلاف، وتسودُّ وجوهُ أهل الفرقة والاختلاف» (1). وأخبر سبحانه أن الحامل لهم على التفرق بعد البيان إنما هو البغي، فقال تعالى: {* كَانَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اَللَّهُ اُلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ اُلْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ فِيمَا اَخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اَخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا اَلَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ اُلْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اَللَّهُ اُلَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اَخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ اَلْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاَللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [البقرة: 211]. فأخبر سبحانه أن الذين آمنوا هُدوا (2) لِمَا اختلف (3) فيه أهلُ التأويل الباطل الذي أوقعهم في الاختلاف والتفرق. وقال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ اُلْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ اَلَّذِينَ أُورِثُوا اُلْكِتَابَ _________ (1) أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (3950) والآجري في «الشريعة» (2074) واللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (74) والخطيب في «تاريخ بغداد» (8/ 375) وسندُه واهٍ جدًّا، يُنظر «تكميل النفع» للشيخ محمد عمرو عبد اللطيف (ص 55). (2) «ح»: «وهدوا». (3) «ح»: «اختلفوا».
(1/263)
مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} [الشورى: 12]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَاءِيلَ اَلْكِتَابَ وَاَلْحُكْمَ وَاَلنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ اَلطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى اَلْعَالَمِينَ (15 ) وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ اَلْأَمْرِ فَمَا اَخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ اُلْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الجاثية: 15 - 16]. فأخبر سبحانه أن المختلفين بالتأويل لم يختلفوا لخفاء العلم الذي جاءت به الرُّسل عليهم، وإنما اختلفوا بعد مجيء العلم. وهذا كثير في القرآن، كقوله: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَاءِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ اَلطَّيِّبَاتِ فَمَا اَخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ اُلْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس: 93]. وقال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اُلْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ اُلْبَيِّنَةُ (1)} [البينة: 4]. فهؤلاء المختلفون بالتأويل بعد مجيء الكتاب كلهم مذمومون، والحامل لهم على التفرق والاختلاف: البغي وسوء القصد. * * * * * _________ (1) «ب»: «البينات».
(1/264)
الفصل الثاني والعشرون في أنواع الاختلاف الناشئة عن التأويل
وانقسام الاختلاف إلى محمود ومذموم الاختلاف في كتاب الله نوعان (1): أحدهما: أن يكون المختلفون كلهم مذمومين. وهم الذين اختلفوا بالتأويل، وهم الذين نهانا اللهُ سبحانه عن التشبه بهم في قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [آل عمران: 105]، وهم الذين تسودُّ وجوهُهم يوم القيامة، وهم الذين قال الله تعالى فيهم: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة: 175]، فجعل المختلفين فيه كلهم في شقاقٍ بعيدٍ (2). وهذا النوع هو الذي وصف اللهُ أهله بالبغي، وهو الذي يُوجب الفرقةَ والاختلاف وفسادَ ذات البين، ويُوقع التحزب والتباين. والنوع الثاني: اختلاف ينقسم أهله إلى محمودٍ ومذمومٍ، فمن أصاب الحقَّ فهو محمودٌ، ومَن أخطأه مع اجتهاده في الوصول إليه فاسم الذمِّ موضوعٌ عنه، وهو محمودٌ في (3) اجتهاده معفوٌّ عن خطئه؛ وإن أخطأه مع تفريطه وعدوانه فهو مذمومٌ. _________ (1) ينظر «اقتضاء الصراط المستقيم» لشيخ الإسلام (1/ 130 - 148). (2) «فجعل المختلفين فيه كلهم في شقاق بعيد». سقط من «ح». (3) «ب»: «على».
(1/265)
ومن هذا النوع المنقسم قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اَللَّهُ مَا اَقْتَتَلَ اَلَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ اُلْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اِخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ} [البقرة: 251]. وقال تعالى: {وَمَا اَخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اَللَّهِ} [الشورى: 8]. والاختلاف المذموم كثيرًا ما يكون مع كل فِرقةٍ من أهله بعضُ الحقِّ، فلا يقرُّ له خَصمه به، بل يجحده إيَّاه بغيًا ومنافسةً، فيحمله ذلك على تسليط التأويل الباطل على النصوص التي مع خصمه. وهذا شأن جميع المختلفين، بخلاف أهل الحق؛ فإنهم يعلمون الحقَّ مِن كل [ق 30 ب] مَن جاء به، فيأخذون حقَّ جميع الطوائف، ويردون باطلهم، فهؤلاء الذين قال الله فيهم: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 211]. فأخبر سبحانه أنه هدى عباده لِمَا اختلف فيه المختلفون. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعائه: «اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيْكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيْهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِكَ؛ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» (1). فمَن هداه الله سبحانه إلى الأخذ بالحقِّ حيث كان ومع مَن كان، ولو كان مع مَن يُبْغِضُه ويُعاديه، وردِّ الباطل مع من كان ولو كان مع مَن يحبه ويُوالِيه؛ فهو ممَّن هُدي لما اختلف فيه من الحقِّ، فهذا أعلم الناس، _________ (1) أخرجه مسلم (770) عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -.
(1/266)
وأهداهم سبيلًا، وأقومهم قِيلًا. وأهلُ هذا المسلك إذا اختلفوا فاختلافهم اختلاف رحمةٍ وهدًى، يقرُّ بعضهم بعضًا عليه ويواليه ويناصره، وهو داخل في باب التعاون والتناصر الذي لا يستغني عنه الناس في أمور دينهم ودنياهم بالتناظر والتشاور، وإعمالهم الرأي، وإجالتهم الفِكرَ في الأسباب المُوصِلة إلى دَرَك الصواب، فيأتي كلٌّ منهم بما قَدَحَه زِنادُ فِكره، وأدركَه قوةُ بصيرته. فإذا قُوبل بين الآراء المختلفة والأقاويل المتباينة، وعُرضت على الحاكم الذي لا يجور، وهو كتاب الله وسُنة رسوله، وتجرَّد الناظر عن التعصب والحمية، واستفرغ وسعه، وقصد طاعة الله ورسوله، فقلَّ (1) أن يخفى عليه الصوابُ من تلك الأقوال، وما هو أقرب إليه، والخطأ وما هو أقرب إليه (2)؛ فإن الأقوال المختلفة لا تخرج عن الصواب (3) وما هو أقرب إليه، والخطأ (4) وما (5) هو أقرب إليه، ومراتب القرب والبعد متفاوتة. وهذا النوع من الاختلاف لا يُوجِب معاداةً ولا افتراقًا في الكلمة، ولا تبديدًا للشمل؛ فإن الصحابة - رضي الله عنهم - اختلفوا في مسائلَ كثيرةٍ من مسائل الفروع، كالجَدِّ مع الإخوة، وعِتق أُم الولد بموت سيدها، ووقوع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة، وفي الخليَّة والبريَّة والبتَّة، وفي بعض مسائل _________ (1) «ح»: «قول». (2) «والخطأ وما هو أقرب إليه». سقط من «ح». (3) «ب»: «صواب». (4) «ح»: «وخطأ». (5) «ح»: «ما».
(1/267)
الربا، وفي بعض نواقص الوضوء، ومُوجِبات الغسل، وبعض مسائل الفرائض وغيرها، فلم ينصبْ بعضُهم (1) لبعضٍ عداوةً، ولا قطع بينه وبينه عصمةً، بل كانوا كلٌّ منهم يجتهد في نصر قولِه بأقصى ما يقدر عليه، ثم يرجعون بعد المناظرة إلى الأُلفة والمحبة والمصافاة والموالاة، من غير أن يُضمِر بعضُهم لبعضٍ ضغنًا، ولا ينطوي له على مَعتبةٍ ولا ذمٍّ، بل يدلُّ المستفتيَ عليه مع مخالفته له (2)، ويشهد له بأنه خيرٌ منه وأعلم منه. فهذا الاختلاف أصحابُه بين الأجرين والأجر، وكلٌّ منهم مطيعٌ لله (3) بحسب نِيته واجتهاده وتحريه الحق. وهنا نوع آخر من الاختلاف ـ وهو وِفاقٌ في الحقيقة ـ وهو اختلاف في الاختيار والأَوْلى بعد (4) الاتفاق على جواز الجميع، كالاختلاف في أنواع الأذان والإقامة، وصفات التشهد والاستفتاح، وأنواع النُّسُك الذي يُحرِم به قاصدُ الحج والعمرة، وأنواع صلاة الخوف، والأفضل من القنوت أو تركه، ومن الجهر بالبسملة أو إخفائها، ونحو ذلك، فهذا وإن كان صورتُه صورةَ اختلاف فهو اتفاق في الحقيقة. _________ (1) «بعضهم» سقط من «ح». (2) «له» ليس في «ب». (3) «ح»: «يطيع ذلك». (4) هذا الحرف لم يظهر لي في «ح».
(1/268)
فصل ووقوع الاختلاف بين الناس أمرٌ ضروريٌّ لا بد منه (1)؛ لِتفاوُتِ إراداتهم وأفهامهم وقوى إدراكهم، ولكن المذموم بَغْيُ بعضهم على بعضٍ وعدوانه، وإلَّا فإذا كان الاختلافُ على وجهٍ لا يُؤدي إلى التباين والتحزب، وكلٌّ من المختلفين قصده طاعة الله ورسوله، لم يضر ذلك الاختلاف، فإنه أمرٌ لا بد منه في النشأة الإنسانية. ولكن إذا كان الأصل واحدًا والغاية المطلوبة واحدةً، والطريق المسلوكة واحدةً، لم يكد يقعُ اختلافٌ، وإن وقع كان اختلافًا لا يضر، كما تقدم من اختلاف الصحابة؛ فإن الأصلَ الذي بنوا عليه واحدٌ، وهو كتاب الله وسُنة رسوله، والقصدَ واحدٌ، وهو طاعة الله ورسوله، والطريقَ واحدٌ، وهو النظرُ في أدلة القرآن والسُّنَّة وتقديمها على كل قولٍ ورأيٍ وقياسٍ وذوقٍ وسياسةٍ. * * * * * _________ (1) «منه» ليس في «ح».
(1/269)
الفصل الثالث والعشرون في أسباب الخلاف الواقع بين الأئمة بعد اتفاقهم على أصلٍ واحدٍ وتحاكمهم إليه وهو كتاب الله وسُنَّة رسوله
ذكر الحميدي في هذا فصلًا من كلام أبي محمد بن حزم ـ وهو من أحسن كلامه ـ فرأينا سياقَه بلفظه، قال الحميدي (1): «قال لنا الحافظ أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد اليزيدي الفارسي في بيان أصل الاختلاف الشرعي وأسبابه: تَطَلَّعَتِ النفسُ بعد تيقُّنها أن الأصل المتفَق عليه (2) المرجوع إليه أصلٌ واحدٌ لا يَختلِف ـ وهو ما جاء عن صاحب الشرع؛ إمَّا في القرآن، وإمَّا من فِعْله أو قوله الذي لا ينطق عن الهوى فيه ـ لمَّا رأتْ (3) وشاهدتْ من اختلاف علماء الأُمة فيما سبيله [ق 31 أ] واحدٌ وأصله غير مختلف، فبحثتْ عن السبب الموجِب للاختلاف، ولِتَرْكِ مَن ترك كثيرًا ممَّا صحَّ من السُّنن، فوضح لها بعد التفتيش والبحث أن كل واحدٍ من العلماء بشرٌ ينسى كما ينسى البشر، وقد يحفظ الرجل الحديث ولا يحضره ذكره، فيُفتي بخلافه. وقد يَعرض هذا في آي القرآن، ألا ترى أن عمر - رضي الله عنه - أَمَرَ على المنبر ألَّا يُزاد مهور النساء على عَدَدٍ ذَكَرَه ميلًا إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يَزِدْ على ذلك العدد _________ (1) «الجمع بين الصحيحين» (4/ 323 - 328). وأصله في «الإحكام في أصول الأحكام» لابن حزم (2/ 124 - 130). (2) «عليه» سقط من «ح». (3) في النسختين: «رأيت». والمثبت من «الجمع بين الصحيحين».
(1/270)
في مهور نسائه، حتى ذكَّرته امرأةٌ من جانب المسجد بقول الله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنطَارًا} [النساء: 20] فترك قولَه، وقال: «كلُّ أحدٍ (1) أعلم منك حتى النساء» (2) ـ وفي رواية أخرى: «امرأةٌ أصابت، ورجلٌ أخطأ» (3) ـ علمًا منه - رضي الله عنه - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان لم يَزِدْ في مهور النساء على عددٍ ما؛ فإنه لم يمنع ممَّا (4) سواه، والآية أعمُّ. _________ (1) «ح»: «واحد». (2) أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (598) والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 233) من طريق مجالد عن الشعبي بنحوه، وقال البيهقي: هذا منقطع. ورواه أبو يعلى ـ كما في «مسند الفاروق» (809) و «المطالب العالية» (1566) ـ من طريق مجالد عن الشعبي عن مسروق، وجوَّد إسناده ابن كثير في «مسند الفاروق» والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 293). وقال الهيثمي في «المجمع» (7502): «رواه أبو يعلى في «الكبير» وفيه مجالد بن سعيد، وفيه ضعف، وقد وثق». وقد رُويت القصة عن عمر - رضي الله عنه - من وجوهٍ كثيرةٍ، ينظر: «تخريج الكشاف» للزيلعي (1/ 294 - 297) و «المقاصد الحسنة» للسخاوي (814) و «الدر المنثور» للسيوطي (4/ 293 - 294) .. وقد رُوي نهي عمر - رضي الله عنه - عن المغالاة في المهور دون مراجعة من أحد عن أبي العجفاء السلمي عنه، رواه أحمد (291) وأبو داود (2106) والترمذي (1114) وابن ماجه (1887) وابن حبان (4620) والحاكم (2/ 175). وقال الدارقطني في «العلل» (1/ 246): «ولا يصح هذا الحديث إلا عن أبي العجفاء». وينظر: «إرواء الغليل» (1927). (3) أخرجه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» (864) عن عبد الله بن مصعب عن عمر - رضي الله عنه -، قال الحافظ ابن كثير في «التفسير» (2/ 244) وفي «مسند الفاروق» (2/ 505): «فيها انقطاع». (4) «ح»: «ما».
(1/271)
وكذلك «أمر - رضي الله عنه - برَجْم امرأةٍ وَلَدَتْ لستة أشهُرٍ، فذكَّره (1) علي - رضي الله عنه - بقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 14] مع قوله تعالى: {وَاَلْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 231] فرجع عن الأمر برَجْمها» (2). وهمَّ أن يسطو (3) بعُيينة بن حصن (4) إذ جفا عليه حتى ذكَّره الحُرُّ بن قيس بقول الله عز وجل: {وَأَعْرِضْ عَنِ اِلْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، فأمسك عمر (5). وقال - رضي الله عنه - يوم مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «والله ما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يموت حتى يكون آخرنا. حتى قُرئ عليه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} [الزمر: 29] فرجع عن ذلك» (6)، وقد كان عَلِمَ الآية، ولكنه نَسِيَها؛ لعِظَم الخَطْب الوارد عليه. وقد يَذكُر العالم الآية والسُّنَّة ولكن يتأوَّل فيهما تأويلًا من خصوصٍ أو نسخٍ أو معنًى (7) ما، وإن كان كل ذلك يحتاج إلى دليل. _________ (1) «ح»: «فذكر». (2) أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (13444)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 727). (3) سطا به: وثب عليه وبطش به. «أساس البلاغة» (1/ 454). (4) «ح»: «محصن». «ب»: «حصين». والمثبت من «الجمع بين الصحيحين». وعيينة بن حصن الفزاري له صحبة، وكان من المؤلَّفة، ترجمته في «الإصابة» (7/ 598). (5) أخرجه البخاري (4642) عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنه -. (6) أخرجه البخاري (3667، 7219) عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -. (7) «ح»: «تعيين».
(1/272)
ولا شك أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا بالمدينة حوله صلوات الله وسلامه عليه مجتمعين، وكانوا ذوي معايش يطلبونها، وفي ضنكٍ من القوت، فمن محترفٍ في الأسواق، ومن قائمٍ على نَخْله، ويَحضُره (1) - صلى الله عليه وسلم - في كل وقتٍ منهم طائفةٌ إذا وجدوا أدنى فراغ ممَّا هم بسبيله. وقد نصَّ على ذلك أبو هريرة فقال: «إن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصَّفْق بالأسواق (2)، وإن إخواني من الأنصار كان يشغلهم القيام على نخلهم (3)، وكنت امرأً مسكينًا أَصحَبُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مِلْء بطني» (4). وقد قال عمر - رضي الله عنه -: «ألهاني الصفق بالأسواق» في حديث استئذان أبي موسى (5). وكان - صلى الله عليه وسلم - يُسأل عن المسألة ويحكم بالحكم، ويأمر بالشيء ويفعل الشيء، فيحفظه (6) من حضره، ويغيب عمَّن غاب عنه. فلمَّا مات صلوات الله وسلامه عليه ووليَ أبو بكر كان إذا جاءته القضية ليس عنده فيها نصٌّ سأل من بحضرته من الصحابة عنها، فإن وَجد عندهم (7) نصًّا رجع إليه، وإلَّا اجتهد في الحكم فيها. وكان اجتهاده واجتهاد _________ (1) «ح»: «وبحضرته». (2) الصفق بالأسواق: التصرف في التجارة. «مشارق الأنوار» (2/ 50). (3) «ح»: «عملهم». (4) أخرجه البخاري (118) ومسلم (2492). (5) أخرجه البخاري (2062) ومسلم (2153). (6) في النسختين: «فيحضره». والمثبت من «الجمع بين الصحيحين». (7) في النسختين: «عنهم». والمثبت من «الجمع بين الصحيحين».
(1/273)
غيره منهم - رضي الله عنهم - رجوعهم إلى نصٍّ عامٍّ، أو إلى أصل إباحة متقدِّمة، أو إلى نوعٍ من هذا يرجع إلى أصل. ولا يجوز أن يظن أحدٌ أن اجتهاد أحدٍ منهم هو أن يُشَرِّع شريعة باجتهادٍ ما، أو يَختَرِع حُكمًا لا أصل له، حاشاهم من ذلك. فلمَّا وليَ عمر - رضي الله عنه - فُتحت الأمصار، وتفرَّقت الصحابة في الأقطار، فكانت الحكومة تنزل بمكة أو بغيرها من البلاد، فإن كان عند الصحابة الحاضرين لها نصٌّ حُكِمَ به، وإلَّا اجتهدوا في ذلك، وقد يكون في تلك القضية نصٌّ موجودٌ عند صاحبٍ آخر في بلدٍ آخر. وقد حضر المدني ما لم يحضر المصري، وحضر المصري ما لم يحضر الشامي، وحضر الشامي ما لم يحضر البصري، والبصري ما لم يحضر الكوفي، والكوفي ما لم يحضر البصري، والمدني ما لم يحضر الكوفي والبصري، كل هذا موجودٌ في الآثار، وتقتضيه الحالة التي ذَكَرْنا من مَغِيب بعضهم عن مجلسه (1) في بعض الأوقات، وحضور غيره، ثم مغيب (2) الذي حضر وحضور الذي غاب، فيدري كل واحدٍ منهم ما حضره، ويفوته ما غاب عنه، هذا أمرٌ مُشاهَدٌ. وقد كان عِلْمُ التيمم عند عمار وغيره، وغاب عن عمر وابن مسعود حتى قالا: «لا يتيمم الجُنُب، ولو لم يجد الماء شهرين» (3). _________ (1) «ح»: «محله». (2) في النسختين: «يغيب». والمثبت من «الجمع بين الصحيحين». (3) أخرجه البخاري (347) ومسلم (368). وذِكْرُ الشهرين ورد في رواية أحمد (19395) وأبي داود (322) والنسائي (316) وابن حبان (1305).
(1/274)
وكان حكم المسح على الخفين عند علي (1) وحذيفة (2)، ولم تَعلَمْه عائشة (3) ولا عمر (4) ولا أبو هريرة (5)، على أنهم مدنيون. وكان توريث بنت الابن مع البنت عند ابن مسعود، وغاب ذلك عن أبي موسى (6). _________ (1) أخرجه مسلم (276) عن عائشة - رضي الله عنها - وفيه أنها أحالت مَنْ سألها عن المسح على الخف إلى علي - رضي الله عنه -. (2) أخرجه مسلم (273). (3) روى أبو عبيد في «الطهور» (394) وابن أبي شيبة في «المصنف» (1956، 1965) عن عائشة قالت: «لأن أحزهما بالسكاكين أحب إلي أن أمسح عليهما». وصححه الدارقطني في «العلل» (3582). وقال أبو عبيد: «على أن بعض أصحاب الحديث كان يتأوله في المسح على القدمين، ويُصدِّق ذلك حديثها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ويل للأعقاب من النار». فهل يكون هذا إلا على الأقدام، وهي كانت أعلم بمعنى حديثها». وقد تقدم أنها أحالت في المسح على الخفين على علي - رضي الله عنه -. وينظر: «السنن الكبرى للبيهقي» (1/ 272). (4) أخرجه البخاري (202). (5) روى ابن أبي شيبة في «المصنف» (1964) عن أبي رزين عنه - رضي الله عنه - قال: «ما أبالي على ظهر خُفِّي مسحت أو على ظهر حمار». وصححه مسلم في «التمييز» (ص 209) وروى عن أبي زرعة عنه معناه، وصحَّحه أيضًا. وقد روى ابن ماجه (555) وابن حبان (1334) عنه جوازَ المسح على الخفين مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال الإمام أحمد: «هذا حديث منكَر، وكلها باطلة، ولا يصح عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسح». «علل الدارقطني» (8/ 276) وكذا ضعفها البخاري ومسلم والدارقطني. ينظر: «التمييز» (ص 208 - 209) و «علل الترمذي» (61) و «علل الدارقطني» (1563). (6) أخرجه البخاري (6736).
(1/275)
وكان حكم الاستئذان عند أبي موسى وأبي سعيد الخدري وأُبي (1)، وغاب عن عمر (2). وكان حكم الإذن للحائض في أن تنفر قبل أن تطوف عند ابن عباس (3) وأم سليم (4)، ولم يعلمه ابن (5) عمر (6) وزيد بن ثابت (7). وكان حكم المتعة والحُمُر الأهلية عند عليٍّ (8) وغيره، ولم يعلمه (9) ابن عباس (10). وكان حكم الصَّرف (11) عند عمر (12) وأبي سعيد (13) وغيرهما، وغاب ذلك عن طلحة (14) وابن عباس وابن عمر (15). _________ (1) «وأبي» ليس في «ح». (2) متفق عليه، وقد تقدم تخريجه. (3) أخرجه البخاري (1760) ومسلم (1328). (4) أخرجه البخاري (1758). (5) «ابن» ليس في «ب». (6) أخرجه البخاري (1761) وفيه: «أنه بلغه بعدُ أنه رُخِّصَ لهن». (7) أخرجه مسلم (1328) وفيه: «أنه رجع بعدُ لقول ابن عباس - رضي الله عنهما -». (8) أخرجه البخاري (5115) ومسلم (1407). (9) «ح»: «يقله». (10) أخرجه البخاري (1761) ومسلم (1939). (11) الصرف: بيع الدراهم بالذهب أو عكسه. (12) أخرجه البخاري (2174) ومسلم (1586). (13) أخرجه مسلم (1594) وأصله في البخاري (2312). (14) كان طلحة - رضي الله عنه - هو صاحب القصة في حديث عمر - رضي الله عنه - المتقدم تخريجه. (15) وهو في حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، وقد تقدم تخريجه.
(1/276)
وكذلك حكم إجلاء أهل الذمة من بلاد العرب كان عند ابن عباس (1) وعمر (2)، فنسيه عمر سنين (3)، فتركهم، حتى ذُكِّر بذلك فذكره (4)؛ فأجلاهم (5). ومثل هذا كثيرٌ. فمضى الصحابة على هذا، ثم خَلَفَ [ق 31 ب] بعدهم التابعون الآخذون عنهم، وكل طبقةٍ من التابعين في البلاد التي ذكرنا فإنما تفقَّهوا بمن كان عندهم من الصحابة، وكانوا (6) لا يَتَعَدَّوْن فتاويهم، لا تقليدًا لهم؛ ولكن لأنهم أخذوا ورووا عنهم، إلَّا اليسير ممَّا بلغهم عن غير من كان في بلادهم من الصحابة - رضي الله عنهم -، كاتِّباع أهل المدينة في الأكثر فتاوى ابن عمر، واتباع أهل مكة في الأكثر فتاوى ابن عباس، واتباع أهل الكوفة في الأكثر (7) فتاوى ابن مسعود. ثم أتى من بعد التابعين فقهاءُ الأمصار كأبي حنيفة وسفيان وابن أبي ليلى بالكوفة، وابن جُريج بمكة، ومالك وابن المَاجِشُون بالمدينة، وعثمان _________ (1) أخرجه البخاري (3168) ومسلم (1637). (2) أخرجه مسلم (1767). (3) في النسختين: «سنتين». والمثبت من «الجمع بين الصحيحين». (4) «ح»: «فذكرهم». (5) أخرجه البخاري (2730) وفيه: «أظننت أني نسيت». (6) «ب»: «فكانوا». (7) من قوله «فتاوى ابن عباس» إلى هنا سقط من «ح».
(1/277)
البَتِّيِّ وسَوَّار (1) بالبصرة، والأوزاعي بالشام، والليث بمصر، فجَرَوْا على تلك الطريقة من أَخْذ كل واحدٍ منهم عن التابعين من أهل بلده وتابعيهم (2) عن الصحابة فيما كان عندهم، وفي اجتهادهم فيما ليس عندهم، وهو موجود عند غيرهم، ولا يُكلِّف الله نفسًا إلَّا وسعها. وكل من ذكرنا مأجورٌ على ما أصاب فيه أجرين، ومأجورٌ فيما خفي عنه ولم يبلغه أجرًا واحدًا، قال تعالى: {لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام: 20]. وقد يَبلُغ الرجلَ ممَّن ذكرنا نصَّان ظاهرهما التعارض، فيميل إلى أحدهما بضربٍ من الترجيحات، ويميل غيره إلى النصِّ الآخر ـ الذي تركه ـ بضربٍ آخر من الترجيحات، كما روى (3) عثمان بن عفان في الجمع بين الأختين: «أحلتهما آية، وحرمتهما آية» (4). وكما مال ابن عمر إلى تحريم نساء أهل الكتاب جملةً بقوله تعالى: {وَلَا تَنكِحُوا اُلْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 219] وقال: «لا أعلم شركًا أعظم من قول المرأة: إن عيسى ربها» (5). وغلَّبَ ذلك على الإباحة المنصوصة في الآية الأخرى. ومثل هذا كثير. _________ (1) هو سوار بن عبد الله بن قدامة بن عنزة التميمي العنبري أبو عبد الله البصري القاضي، توفي سنة ست وخمسين ومائة. ترجمته في «تهذيب التهذيب» (4/ 296). (2) في النسختين: «وتابعوهم». والمثبت من «الجمع بين الصحيحين». (3) «ب»: «روي عن». (4) أخرجه مالك في «الموطأ» (1520) والشافعي في «الأم» (5/ 3) وعبد الرزاق في «المصنف» (12732) وابن أبي شيبة في «المصنف» (16512) والدارقطني في «السنن» (3/ 281) وهو في الجمع بين الأختين في ملك اليمين. (5) أخرجه البخاري (5285).
(1/278)
فعلى هذه الوجوه تَرَكَ بعض العلماء ما تركوا (1) من الحديث ومن الآيات، وعلى هذه الوجوه خالفهم نظراؤهم، فأخذ هؤلاء ما ترك أولئك، وأخذ أولئك ما ترك هؤلاء، لا (2) قصدًا إلى خلاف النصوص، ولا تركًا لطاعتها؛ ولكن لأحد الأعذار التي ذَكَرْنا، إمَّا من نسيان، وإمَّا أنها لم تبلغهم، وإمَّا لتأويلٍ (3) ما، وإمَّا لأخذٍ (4) بخبرٍ ضعيفٍ لم يَعلَم الآخذُ به ضَعْفَ رواته، وعَلِمَه غيره، فأخذ بخبرٍ آخر أصحَّ منه، أو بظاهر آية. وقد يتنبَّه بعضهم في النصوص الواردة إلى معنًى ويَلُوح منه حُكْمٌ بدليل ما، ويغيب عن غيره. وقد كَثُرت الرِّحَل إلى الآفاق، وتداخل الناس، وانتدب أقوام لجَمْع حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وضمِّه وتقييده، ووصل من البلاد البعيدة إلى من لم يكن عنده، وقامت الحجة على من بلغه شيءٌ منه، وجُمعت الأحاديث المبيِّنة (5) لصحة أحد (6) التأويلات المتأوَّلة في الحديث، وعُرف الصحيح من السقيم، وزُيف (7) الاجتهاد المؤدِّي إلى خلاف كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإلى ترك عمله، وسقط العذر عمَّن خالف ما بلغه من السُّنن ببلوغها إليه وقيام الحجة بها _________ (1) «ما تركوا» ليس في «ح». (2) «لا» سقط من «ح». (3) «ح»: «التأويل». (4) «ح»: «الأخذ». (5) في النسختين: «المثبتة». والمثبت من «الجمع بين الصحيحين». (6) في النسختين: «أخذ». والمثبت من «الجمع بين الصحيحين». (7) «ب»: «وزاف». «ح»: «راق». وفي «الجمع بين الصحيحين»: «وزلف». والمثبت من «الإحكام».
(1/279)
عليه، ولم يبق إلَّا العناد والتقليد. وعلى هذه الطريقة كان الصحابة - رضي الله عنهم - وكثيرٌ من التابعين يرحلون في طلب الحديث الأيام الكثيرة طلبًا للسُّنن، والتزامًا لها. وقد رحل أبو أيوب من المدينة إلى مصر في حديثٍ واحدٍ إلى عقبة بن عامر (1)، ورحل علقمة والأسود إلى عائشة وابن (2) عمر (3)، ورحل علقمة إلى أبي الدرداء بالشام (4)، وكتب معاوية إلى المغيرة بن شعبة (5): اكتب إليَّ بما (6) سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (7). ومثل هذا كثير». انتهى كلامه. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (8): جماع الأعذار في ترك من ترك من الأئمة حديثًا ثلاثة أصناف: أحدها: عدم اعتقاده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله. الثاني: عدم اعتقاده أنه أراد تلك المسألة بذلك القول. الثالث: اعتقاده (9) أن ذلك الحكم منسوخ. _________ (1) أخرجه الإمام أحمد في «المسند» (17855) وعبد الرزاق في «المصنف» (18936) والحميدي في «المسند» (388). (2) «ابن» ليس في «ب». (3) لم نقف عليه. (4) أخرجه البخاري (3742) ومسلم (824). (5) «بن شعبة» ليس في «ح». (6) «ح»: «مما». (7) أخرجه البخاري (1477) ومسلم (593). (8) «رفع الملام عن الأئمة الأعلام» (ص 9) وما بعدها. (9) «ب»: «عدم اعتقاده».
(1/280)
وهذه الأصناف الثلاثة تتفرع إلى أسباب متعددة: السبب الأول: ألَّا يكون الحديث قد بلغه، ومن لم يبلغه الحديث لم يُكلَّف أن يكون عالمًا بموجَبه، فإذا لم يبلغه وقد قال في تلك النازلة بموجب ظاهر آية أو حديث آخر، أو بموجب قياس أو استصحاب، فقد يوافق الحديث المتروك تارةً، ويخالفه أخرى. وهذا السبب هو الغالب على أكثر ما يوجد من أقوال السلف مخالفًا لبعض الأحاديث، فإن الإحاطة بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم تكن لأحدٍ من الأئمة. واعتبر ذلك بالخلفاء الراشدين الذين (1) هم أعلم الأمة بأمور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسُننه وأحواله، خصوصًا (2) الصدِّيق الذي لم يكن يفارقه حَضَرًا ولا سفرًا (3)، وكان عنده غالب الأوقات حتى كان يَسمُر عنده بالليل، وكان - صلى الله عليه وسلم - كثيرًا ما يقول: «دَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَخَرَجْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَذَهَبْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ (4)» (5). ثم مع ذلك الاختصاص خفي عن أبي بكر ميراث الجدة، وكان عِلْمُه عند المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة (6) وعمران بن حصين (7)، وليس _________ (1) «الذين» ليس في «ح». (2) «ب»: «وخصوصا». (3) «ح»: «لا سفرًا ولا حضرًا». (4) «وعمر» سقط من «ب». (5) أخرجه البخاري (3685) ومسلم (2389) عن علي - رضي الله عنه -. (6) أخرجه أحمد (18465) وأبو داود (2894) والترمذي (2100، 2101) وابن ماجه (2724) وابن حبان (6031) والحاكم (4/ 376). وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح». (7) أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (31952) والدارمي في «السنن» (2980) والبيهقي في «السنن الكبرى» (6/ 226) عن عمران أنه كان يورث الجدة وابنها حي. وصححها البيهقي عنه.
(1/281)
هؤلاء الثلاثة مثل أبي بكر، ولا قريبًا منه في العلم. وخفي على عمر سُنة الاستئذان (1)، وتوريث المرأة من دِيَة زوجها، حتى أخبره الضحاك بن سفيان الكلابي ـ أميرٌ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بعض البوادي ـ «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَرَّث امرأة أشيم الضبابي [ق 32 أ] من دِيَة زوجها» (2). فترك رأيه لذلك، وقال: لو لم نسمع (3) هذا لقضينا بخلافه. وخفي عليه حكم المجوس حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» (4). _________ (1) متفق عليه، وقد تقدم تخريجه. (2) أخرجه أحمد (16158) وأبو داود (2927) والترمذي (1415، 2110) وابن ماجه (2642) والضياء في «المختارة» (8/ 85) عن سعيد بن المسيب عن عمر - رضي الله عنه -، وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح». وقال ابن عبد البر في «التمهيد» (12/ 116): «وهو صحيح عن سعيد بن المسيب، ورواية سعيد عن عمر تجري مجرى المتصل، وجائز الاحتجاج بها عندهم، وهذا الحديث عند جماعة أهل العلم صحيح معمول به، غير مختلف فيه». (3) «ح»: «أسمع». (4) أخرجه مالك في «الموطأ» (1/ 278) والشافعي في «المسند» (1773) وعبد الرزاق في «المصنف» (10025) وابن أبي شيبة في «المصنف» (10870) والبزار في «المسند» (3/ 264) عن جعفر بن محمد بن علي عن أبيه. وقال البزار: «والحديث مرسل، ولا نعلم أحدًا قال: عن جعفر عن أبيه عن جده إلا أبو علي الحنفي عن مالك». وقال ابن عبد البر في «التمهيد» (2/ 116): وهو مع هذا كله منقطع، ولكن معناه متصل من وجوه حسان». وينظر: «فتح الباري» لابن حجر (6/ 261). ومن شواهده ما رواه البخاري (3156) عن بجالة «أن عمر لم يكن أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عنده عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذها من مجوس هجر».
(1/282)
وخفي عليه أمر (1) الطاعون حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ، وَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ» (2). وتذاكر هو وابن عباس أمر الذي شكَّ في صلاته، فلم يكن قد بَلَغَتْه السُّنَّة في ذلك حتى حدَّثه عبد الرحمن بن عوف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يطرح الشكَّ، ويبني على ما استيقن (3). وكان مرةً في السفر فهاجت ريحٌ، فجعل يقول: من يحدثنا عن الريح؟ قال أبو هريرة: فبلغني ذلك وأنا في أُخريات الناس، فحثثت راحلتي حتى أدركته، فحدثته بما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - عند هبوب الريح (4). فهذه مواضع لم يكن يعلمها حتى بلَّغه إياها مَنْ عُمَر أعلمُ منه بكثيرٍ. _________ (1) من قوله: «المجوس حتى» إلى هنا سقط من «ح». (2) أخرجه البخاري (5729) ومسلم (2219) عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -. (3) أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (3476) وأحمد في «المسند» (1678) والدارقطني في «السنن» (2/ 213) والحديث دون القصة أخرجه البخاري (401) ومسلم (571) عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. (4) أخرجه أحمد في «المسند» (7846، 9537، 10999) وأبو يعلى في «المسند» (6142) والحاكم (4/ 285). والحديث عند أبي داود (5097) دون ذكر قصة عمر مع أبي هريرة.
(1/283)
ومواضع أُخر لم يَبلُغه ما فيها من السُّنَّة؛ فقضى (1) وأفتى بغيرها، كما قضى في دية الأصابع أنها مختلفة بحسب منافعها (2)، وقد كان عند أبي موسى (3) وابن عباس (4) ـ وهما دونه في العلم ـ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ». فبلغت هذه السُّنَّة معاويةَ في إمارته، فقضى بها، ولم يجد المسلمون بُدًّا من اتِّباع ذلك (5). وكان عمر ينهى المُحْرم عن التَّطيُّب قبل الإحرام وقبل الإفاضة إلى مكة بعد رمي الجمرة (6)، هو وابنه عبد الله (7) وغيرهما من أهل العلم، ولم _________ (1) «فقضى» ليس في «ح». (2) أخرجه الشافعي في «مسنده» (1661) وعبد الرزاق في «المصنف» (17698) وابن أبي شيبة في «المصنف» (27552) عن سعيد بن المسيب عن عمر - رضي الله عنه -. وحسنه ابن حجر في «موافقة الخبر الخبر» (1/ 451). (3) أخرجه أحمد في «المسند» (20077، 20084) وابن ماجه (2654) وأبو داود (4556) والنسائي (4844) وابن حبان (6013). (4) أخرجه البخاري (6895). (5) لم نقف على اختلاف معاوية وعمر - رضي الله عنهما - في الأصابع، والمشهور هو خلافهما في الأضراس، روى مالك في «الموطأ» (2/ 861) وعبد الرزاق في «المصنف» (17507) وابن أبي شيبة في «المصنف» (27532) عن ابن المسيب «أن عمر قضى في الأضراس ببعير بعير، ولما كان معاوية وسقطت أضراسه قضى فيه خمس فرائض». وقال الخطابي في «معالم السنن» (4/ 28): «واتفق عامة أهل العلم على ترك التفضيل، وأن في كل سن خمسة أبعرة، وفي كل إصبع عشرًا من الإبل». (6) أخرجه مالك في «الموطأ» (1/ 329) وابن أبي شيبة في «المصنف» (13674) عن أسلم مولى عمر عنه. ورواه الإمام أحمد في «المسند» (24516) عن سليمان بن يسار عنه. (7) أخرجه البخاري (270) ومسلم (1192).
(1/284)
يبلغهم حديثُ عائشة - رضي الله عنها -: «طَيَّبْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحُرْمه قبل أن يحرم، ولحِلِّه قبل أن يطوف بالبيت» (1). وكان أمر (2) لابس الخُفِّ أن يمسح عليه إلى أن يخلعه من غير توقيت (3)، واتَّبعه على ذلك طائفة من السَّلف، ولم يبلغهم أحاديث التوقيت التي صَحَّتْ عند مَنْ عُمَر أعلمُ منه. وكذلك عثمان لم يكن عنده علمٌ بأن المتوفى (4) عنها زوجها (5) تعتدُّ في منزل الموت حتى حدَّثته الفريعة بنت مالك ـ أخت أبي سعيد الخدريِّ ـ بقصتها لمَّا تُوفي زوجها، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: «امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ». فأخذ به عثمان، وترك فتواه (6). وأُهدي له مرَّةً صيدٌ ـ صِيدَ لأجله ـ وهو محرمٌ، فهَمَّ بأكله حتى أخبره علي - رضي الله عنه - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ردَّ لحمًا أُهدي له وهو محرمٌ (7). _________ (1) أخرجه البخاري (1754) ومسلم (1189). (2) «ح»: «يأمر». (3) أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (763) وأحمد (242). وينظر «الإمام» لابن دقيق العيد (2/ 172 - 196) و «نصب الراية» (1/ 177 - 180). (4) من قوله: «أعلم منه» إلى هنا سقط من «ح». (5) «زوجها» ليس في «ب». (6) أخرجه أحمد (27846) وأبو داود (2300) والترمذي (1204) والنسائي (3532) وابن حبان (4292) والحاكم (2/ 208) وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح». وصححه ابن القيم في «زاد المعاد» (5/ 604). (7) رواه أحمد (794) والبزار (914) وأبو يعلى (365) عن عبد الله بن الحارث بن نوفل. وقال الهيثمي في «المجمع» (3/ 229): «وفيه علي بن زيد، وفيه كلام كثير، وقد وثق». ورواه أبو داود (1849) والبيهقي في «السنن الكبرى» (5/ 194) عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث عن أبيه مختصرًا، وليس في إسنادهما علي بن زيد، وقد صحح إسناده الألباني في «صحيح أبي داود» (1621). وأثر علي هذا ليس فيه أن عليًا قد جوَّز لحم الصيد للمحرم إذا لم يصد لأجله، وقال البيهقي في «السنن الكبرى» (5/ 194): «وأما علي وابن عباس - رضي الله عنهما - فإنهما ذهبا إلى تحريم أكله على المحرم مطلقًا». وينظر: «معالم السنن» للخطابي (2/ 186) و «نصب الراية» للزيلعي (3/ 139).
(1/285)
وأفتى علي (1) وابن عباس (2) وغيرهما أن المتوفى عنها إذا كانت حاملًا تعتدُّ أقصى الأجلين، ولم يكن قد بلغتهم (3) سُنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سُبيعة الأسلمية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفتاها حين وضعت حملها بأنها قد حلَّت للأزواج (4). وأفتى هو (5) وزيد بن ثابت (6) وابن عمر وغيرهم بأن المفوِّضة إذا _________ (1) أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (1516) وابن أبي شيبة في المصنف (17385، 17386) والطبري في «التفسير» (23/ 56) والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 430). (2) أخرجه البخاري (4909) ومسلم (1485) عن سليمان بن يسار. (3) «ح»: «بلغهم». (4) أخرجه البخاري (3991) ومسلم (1484). (5) أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (922، 924) وابن أبي شيبة في «المصنف» (17404، 17406) والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 247) عن علي - رضي الله عنه -. (6) أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (925) وابن أبي شيبة في «المصنف» (17403) والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 246) عن زيد بن ثابت وابن عمر - رضي الله عنهما -.
(1/286)
مات عنها زوجها فلا مهر لها، ولم يكن بلغتهم سُنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بَرْوَعَ بنت واشق (1). وهذا بابٌ واسعٌ. وأمَّا المنقول فيه عمَّن بعد الصحابة والتابعين فأكثر من أن يُحصى. فإذا خفي على أَعْلَمِ الأُمَّة وأفقهها بعضُ السُّنَّة؛ فما الظنُّ بمَن بعدهم، فمن اعتقد أن كل حديثٍ صحيحٍ قد بلغ كلَّ فردٍ فردٍ من الأئمة أو إمامًا معيَّنًا فقد أخطأ خطأً فاحشًا. قال أبو عمر: «وليس أحدٌ بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلَّا وقد خفيت عليه بعض سُنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الصحابة فمَن بعدهم» (2). وصدق أبو عمر - رضي الله عنه -؛ فإن (3) مجموع سُنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أقواله وأفعاله وإقراره لا يُوجد عند رجلٍ واحدٍ أبدًا، ولو كان أَعلَمَ أهل الأرض. فإن قيل: فالسُّنَّة قد دُونت وجُمعت وضُبطت، وصار ما تفرَّق منها عند الفئة الكثيرة مجموعًا عند واحدٍ. قيل: هذه الدَّواوين المشهورة في السُّنن إنما جُمعت بعد انقراض عصر الأئمة المتبوعين، ومع هذا فلا يجوز أن يُدَّعى انحصار سُنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - _________ (1) أخرجه أحمد (4180، 4181) وأبو داود (2114) والترمذي (1145) والنسائي (3355) وابن ماجه (1891) وابن حبان (4098) والحاكم (2/ 180) عن معقل بن سنان - رضي الله عنه -، وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح». (2) لم نقف عليه بهذا اللفظ في كتب ابن عبد البر. (3) «ح»: «إن».
(1/287)
في دواوين معينة. ثم لو فُرض انحصار السُّنَّة في هذه الدَّواوين فليس كل ما فيها يعلمه العالم، ولا يكاد يحصل ذلك لأحدٍ أبدًا، بل قد يكون عند الرجل الدواوين الكثيرة وهو لا يحيط علمًا بما فيها. بل الذين كانوا قبل جمع هذه الدواوين كانوا أعلم بالسُّنَّة من المتأخرين بكثيرٍ؛ لأن كثيرًا ممَّا بلغهم وصحَّ عندهم قد لا يبلغنا إلَّا عن مجهولٍ، أو بإسنادٍ منقطعٍ، أو لا يبلغنا بالكلية، وكانت دواوينهم صدورهم التي تحوي أضعاف ما في الدواوين. فصل (1) السبب الثاني: أن يكون الحديث قد بلغه لكنه (2) لم يثبت عنده؛ إمَّا لأن محدِّثه أو من فوقه مجهول عنده، أو سيئ الحفظ، أو مُتَّهَمٌ، أو لم يبلغه مسندًا بل منقطعًا، أو لم يضبط له لفظ الحديث، ويكون ذلك الحديث بعينه قد رواه الثقات لغيره بإسنادٍ صحيحٍ متصلٍ بأن يعلم غيره عدالة ذلك المجهول، أو يرويه له ثقةٌ غيره، ويتصل له من غير تلك الجهة المنقطعة، ويضبطه له من لم يضبطه للآخر، أو يقع له من الشواهد والمتابعات ما لم يقع لغيره، فيكون الحديث حجةً على من بلغه من هذا الوجه، وليس بحجة (3) على من بلغه من الوجه الأول. ولهذا علَّق كثيرٌ من الأئمة القول بموجَب الحديث على صحته فيقول: قولي فيها [ق 32 ب] كَيْتَ وكيت، وقد روي فيها حديثٌ بخلافه، فإن صحَّ فهو قولي. وأمثلة هذا كثيرة جدًّا. _________ (1) «فصل» ليس في «ح». (2) «لكنه» ليس في «ح». (3) «ب»: «حجة».
(1/288)
فصل السبب الثالث: اعتقاد ضعف الحديث باجتهادٍ قد خالفه فيه غيره، فقد يعتقد أحد المجتهدين ضَعْفَ رجلٍ، ويعتقد الآخَرُ ثقتَه وقُوَّتَه، وقد يكون الصواب مع المضعِّف (1) لاطلاعه على سببٍ خَفِيَ على الموثِّق. وقد يكون الصواب (2) مع الآخر؛ لعلمه بأن ذلك السبب غير قادحٍ في روايته وعدالته؛ إمَّا لأن جنسه غير قادح، وإمَّا لأن له فيه عذرًا وتأويلًا يمنع الجرح. وقد لا يعتقد الذي بلغه الحديث أن راويه سمعه (3) من غيره لأسباب معروفة عنده خَفِيَت على غيره (4). وقد يكون للمحدِّث حالان: حال استقامة، وحال اضطراب، فلا (5) يدري الرجل أن حديثه المعيَّن حدَّث به في حال الاستقامة أو في حال الاضطراب، فيتوقف فيه؛ ويعلم غيره أنه حدَّث به في حال الاستقامة فيقبله. وقد يكون المحدِّث قد نسي الحديث الذي قد (6) حدَّث به فينكره، فيبلغ المجتهد إنكاره له، فلا يعمل به؛ ويرى غيره أن نسيانه له لا يقدح في صحة الحديث ووجوب العمل به. _________ (1) «ح»: «الضعف». تحريف، وفي «رفع الملام»: «من يعتقد ضعفه». (2) من قوله: «وقد يكون الصواب» إلى هنا سقط من «ب». (3) في النسختين: «معه». والمثبت هو الصواب؛ ففي «رفع الملام»: «سمع الحديث». (4) هذه العبارة غير بينة المعنى، والذي في «رفع الملام»: «ألَّا يعتقد أن المحدث سمع الحديث ممن حدث عنه، وغيره يعتقد أنه سمعه لأسباب تُوجِب ذلك معروفة». (5) «ح»: «ولا». (6) «قد» ليس في «ب».
(1/289)
وأيضًا فكثيرٌ من (1) الحجازيين لا يحتجُّ بحديث عراقيٍّ ولا شاميٍّ إن لم يكن له أصل بالحجاز، حتى قال بعض من يذهب هذا المذهب: «نزِّلوا أحاديث أهل العراق منزلة أحاديث أهل الكتاب، لا تصدقوهم، ولا تكذبوهم» (2). وقيل لبعض من كان يذهب إلى هذا المذهب: سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله حجة؟ قال: إن لم يكن له أصلٌ بالحجاز فلا (3). وكان الشافعي يرى هذا المذهب أولًا، ثم رجع عنه، وقال للإمام أحمد: «يا أبا عبد الله إذا صح الحديث فأَعْلِمْني حتى أذهب إليه، شاميًّا كان أو عراقيًّا» (4). ولم يقل: أو حجازيًّا؛ لأنه لم يكن يشك هو ولا غيره في أحاديث (5) أهل الحجاز. _________ (1) «من» سقط من «ح». (2) أخرجه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» (2165، 2166) عن الإمام مالك - رحمه الله -. وينظر «سير أعلام النبلاء» للذهبي (8/ 68) و «إكمال تهذيب الكمال» لمغلطاي (4/ 356). (3) عزا هذا الكلامَ للإمام الشافعي شيخُ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (4/ 449) والزركشي في «النكت على مقدمة ابن الصلاح» (1/ 152). وأخرج ابن أبي حاتم في «آداب الشافعي ومناقبه» (ص 153) عنه: «إذا جاوز الحديث الحرمين، فقد ضعف نخاعه». وينظر «تدريب الراوي» (1/ 89). (4) أخرجه ابن أبي حاتم في «آداب الشافعي ومناقبه» (ص 70) وأبو نعيم في «الحلية» (9/ 170). (5) «أحاديث» ليس في «ح».
(1/290)
وأكثر أهل العلم على خلاف هذا المذهب، وأن الحديث إذا صحَّ وجب العمل به من أي مِصْرٍ من الأمصار كان مَخرَجُه، وعلى هذا إجماع أهل الحديث قاطبة. فصل السبب الرابع: اشتراط بعضهم في خبر الواحد العدل شروطًا يخالفه فيها غيره، كاشتراط بعضهم أن يكون الراوي فقيهًا إذا خالف ما رواه القياس، واشتراط بعضهم انتشار الحديث وظهوره إذا كان ممَّا تعُمُّ به البلوى، واشتراط بعضهم ألَّا يكون الحديث قد تضمن زيادة على نصِّ القرآن؛ لئلَّا يلزم منه (1) نسخ القرآن به. وهذه مسائل معروفة. فصل السبب الخامس: أن ينسى الحديث أو الآية كما نسي عمر قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} [الزمر: 29]، ونسي قوله: {وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنطَارًا} [النساء: 20]، ونسي فتوى النبي - صلى الله عليه وسلم - له ولعمار بالتيمم للجنابة في السفر (2). وكذلك ما رُوي أن عليًّا ذَكَّرَ الزبيرَ يوم الجمل شيئًا عَهِدَه إليهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذَكَّرَه فانصرف عن القتال (3). _________ (1) «ح»: «فيه». (2) أخرجه البخاري (347) ومسلم (368). (3) روى عبد الرزاق في «المصنف» (20430) وابن أبي شيبة في «المصنف» (38982) والحاكم في «المستدرك» (3/ 366) «أن عليًّا ذكَّر الزبير بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - له: «لتقاتلنه وأنت ظالم له». وصححه الحاكم، وقال العقيلي في «الضعفاء الكبير» (3/ 548): «ولا يُروى هذا المتن من وجه يثبت».
(1/291)
قلت (1): فيكون الناسي معذورًا بفتواه بخلاف النص، فما عُذْر الذاكر للنص إذا قلَّد الناسي، وخالف الذاكرَ والذِّكْرَ؟! فصل السبب السادس: عدم معرفته بدلالة الحديث؛ إمَّا لكون لفظ الحديث غريبًا عنده، مثل لفظ: المزابنة (2)، والمحاقلة (3)، والمخابرة (4)، والملامسة (5)، والمنابذة (6)، ........................................... _________ (1) القائل هو الإمام ابن القيم، يعقب على قول شيخه ابن تيمية. (2) المزابنة: بيع الرُّطب في رؤس النخل بالتمر، وأصله من الزبن وهو الدفع، كأن كل واحد من المتبايعين يزبن صاحبه عن حقه بما يزداد منه. «النهاية في غريب الحديث» (2/ 294). (3) المحاقلة: قيل: هي اكتراء الأرض بالحنطة. وقيل: هي المزارعة على نصيب معلوم كالثلث والربع ونحوهما. وقيل: هي بيع الطعام في سنبله بالبر. وقيل: بيع الزرع قبل إدراكه. «النهاية في غريب الحديث» (1/ 416). (4) المخابرة: قيل: هي المزارعة على نصيب معين، كالثلث والربع وغيرهما. والخبرة: النصيب. وقيل: هي من الخبار: الأرض اللينة. وقيل: أصل المخابرة من خيبر، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرها في أيدي أهلها على النصف من محصولها، فقيل خابرهم: أي عاملهم في خيبر. «النهاية في غريب الحديث» (2/ 7). (5) الملامسة: أن يقول: إذا لمست ثوبي أو لمست ثوبك فقد وجب البيع. وقيل: هو أن يلمس المتاع من وراء ثوب ولا ينظر إليه ثم يوقع البيع عليه. «النهاية في غريب الحديث» (4/ 269 - 270). (6) المنابذة: أن يقول الرجل لصاحبه: انبذ إلي الثوب أو أنبذه إليك ليجب البيع. وقيل: هو أن يقول: إذا نبذت إليك الحصاة فقد وجب البيع، فيكون البيع معاطاة من غير عقد. «النهاية في غريب الحديث» (5/ 6).
(1/292)
والحَصاة (1)، والغَرَر (2)، ونحوها من الكلمات الغريبة التي يختلف العلماء في تأويلها. ومثل قوله: «لَا طَلَاقَ وَلَا عِتَاقَ فِي إِغْلَاقٍ» (3)، فإنهم فسَّروا الإغلاق بالإكراه. قلت: هذا تفسير كثير من الحجازيين، ومنهم من فسَّره بالغضب، وهو تفسير العراقيين، ونصَّ عليه أحمد (4) وأبو عبيد (5) وأبو داود (6). ومنهم من فسَّره بجمع الثلاث في كلمةٍ واحدةٍ، فإنه (7) مأخوذ من غلق _________ (1) بيع الحصاة: هو أن يقول البائع أو المشتري: إذا نبذت إليك الحصاة فقد وجب البيع. وقيل: هو أن يقول: بعتك من السلع ما تقع عليه حصاتك إذا رميت بها، أو بعتك من الأرض إلى حيث تنتهي حصاتك. «النهاية في غريب الحديث» (1/ 398). (2) الغرر: ما كان له ظاهرٌ يغر المشتري وباطن مجهول .. وقال الأزهري: بيع الغرر: ما كان على غير عهدة ولا ثقة، وتدخل فيه البيوع التي لا يحيط بكنهها المتبايعان، من كل مجهول. «النهاية في غريب الحديث» (3/ 355). (3) أخرجه أحمد (27002) وأبو داود (2193) وابن ماجه (2046) والحاكم (2/ 198) عن عائشة - رضي الله عنها -، وقال الحاكم: «حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه». وتعقبه الذهبي، وينظر «تنقيح التحقيق» (4/ 407) و «البدر المنير» (8/ 84) و «إرواء الغليل» (2047). (4) قال في «الفروع» (9/ 11): «قال في رواية حنبل: يريد الغضب». (5) نقله ابن بطال في «شرح البخاري» (7/ 411). (6) قال في «السنن» (2193): «الغلاق أظنه في الغضب». (7) «ب»: «كأنه».
(1/293)
الباب، أي: أُغلِق عليه باب الطلاق جملةً (1). وصحَّح بعضهم هذا التفسير، وجعله أولى التفاسير (2). وممَّن حكى الأقوالَ الثلاثة صاحبُ «مطالع الأنوار» (3)، وصاحبُ «مشارق الأنوار» (4). وهذا الباب يعرض منه اختلافٌ كثيرٌ، سببه أن يكون لذلك اللفظ في لغته وعُرْفه معنًى غير معناه في لغة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو أعم منه أو أخص. فتَفَطَّنْ لهذا الموضع فإنه مَنشأ لغلطٍ كثيرٍ على صاحب الشرع. والصواب في لفظ الإغلاق أنه الذي يُغلِق على صاحبه باب تصوُّره أو قصده، كالجنون والسُّكر والإكراه والغضب، كأنه لم (5) ينفتح قلبُه لقصده، ولا وَطَرَ له فيه (6). ومن هذا لفظ الخمر، فإنه في لغة الشارع اسم لكل مُسكِرٍ لا يختص بنوعٍ من أنواعه. وهذا المعنى مطابق (7) لاشتقاقه، فتخصيصه ببعض الأنواع المسكرة دون بعض اصطلاحٌ حادثٌ [ق 33 أ] حصل بحَمْل كلام الشارع _________ (1) حكاه أبو عبيد الهروي في «الغريبين» (4/ 1384) ولم يُسم قائله. (2) لم أقف على تسمية هذا المصحح. (3) ابن قرقول في «المطالع» (5/ 150). (4) القاضي عياض في «المشارق» (2/ 134). (5) «ح»: «ألم». (6) ينظر: «زاد المعاد» (5/ 215) و «أعلام الموقعين» (4/ 50) و «تهذيب السنن» (1/ 524). (7) «ح»: «يطابق».
(1/294)
عليه تخصيص لِمَا قَصَدَ الشارعُ تعميمَه. ولهذا لم يختلف المخاطَبون بالقرآن أولًا ـ وهم الصحابة ـ في تحريم ذلك كله (1). فصل ومن هذا الخلاف العارض من جهة كون اللفظ مشتركًا أو مجملًا أو مترددًا بين حمله على معناه عند الإطلاق ـ وهو المسمَّى بالحقيقة ـ أو على معناه عند التقييد ـ وهو المسمَّى بالمجاز ـ كاختلافهم في المراد من القُرْء هل هو الحيض أو الأطهار، ففَهِمَتْ طائفةٌ منه الحيضَ، وأخرى الطُّهْرَ (2). وكما فهمت طائفةٌ من الخيط الأبيض والأسود الخيطين المعروفين، وفَهِمَ غيرهم بياضَ النهار وسوادَ الليل (3). وكما فهمت طائفةٌ من قوله في التيمم: {فَاَمْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم _________ (1) «كله» ليس في «ب». (2) اختلف العلماء في الأقراء، فقال أهل الكوفة: هي الحيض. وهو قول عمر وعلي وابن مسعود وأبي موسى ومجاهد وقتادة والضحاك وعكرمة والسدي. وقال أهل الحجاز: هي الأطهار. وهو قول عائشة وابن عمر وزيد بن ثابت والزهري وأبان بن عثمان والشافعي. ينظر: «تفسير الطبري» (4/ 87 - 105) و «التفسير البسيط» للواحدي (4/ 209 - 216) و «تفسير القرطبي» (3/ 113 - 117). (3) أخرج البخاري (1917) ومسلم (1091) عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: «أُنزلت: {وَكُلُوا وَاَشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اُلْخَيْطُ اُلْأَبْيَضُ مِنَ اَلْخَيْطِ اِلْأَسْوَدِ} ولم ينزل: {مِنَ اَلْفَجْرِ}. فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولم يزل يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعد: {مِنَ اَلْفَجْرِ}، فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار».
(1/295)
مِّنْهُ} [المائدة: 7] المسحَ (1) إلى الآباط، ففعلوه، وفَهِمَ آخرون المسح إلى المرافق، ففعلوه (2). وأسعد الناس بفَهْمِ الآية مَن فَهِمَ منها المسحَ إلى الكوع (3). وهذا هو الذي فهمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الآية (4)، وهو نظير فهمه صلوات الله وسلامه عليه القطعَ من الكوع من آية السرقة (5). وكما فهمت طائفةٌ من قوله: {وَاَمْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} البعضَ مُقَدَّرًا أو غير مُقَدَّرٍ، وفَهِمَ آخرون مسحَ الجميع (6). وفهمُهم مؤيدٌ بفِعْل الرسول (7). وكما فهم بعضهم من قوله تعالى: {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ اِلسُّدُسُ} [النساء: 11] الثلاثة فصاعدًا؛ اعتمادًا على الحقيقة، وفهم الآخرون الاثنين فصاعدًا؛ اعتمادًا على فهم الجنس الزائد على الواحد (8). وهؤلاء أسعدُ _________ (1) «المسح» ليس في «ب». (2) ينظر: «تفسير الطبري» (7/ 83 - 91) و «تفسير القرطبي» (5/ 238 - 240). (3) من قوله: «المرافق ففعلوه» إلى هنا ليس في «ب». (4) كما في حديث عمار - رضي الله عنه -، أخرجه البخاري (338) ومسلم (368). (5) أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (8/ 270 - 271) عن جابر بن عبد الله وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عمر بن الخطاب وغيرهم - رضي الله عنهم -، وينظر «التلخيص الحبير» (5/ 2650 - 2651) و «موافقة الخُبر الخبر» (1/ 85 - 86). (6) ينظر: «تفسير الطبري» (8/ 185 - 188) و «التفسير البسيط» للواحدي (7/ 281) و «تفسير القرطبي» (6/ 87 - 88). (7) أخرج البخاري (185) ومسلم (235) عن عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري - رضي الله عنه - في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ثم مسح رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه». (8) ينظر: «تفسير الطبري» (6/ 464 - 468) و «التفسير البسيط» للواحدي (6/ 361 - 363) و «تفسير القرطبي» (5/ 72 - 73).
(1/296)
بفَهْمِ الآية. وكما فهم الصدِّيق ومَن معه من الكلالة ـ التي يرث (1) معها الإخوة والأخوات للأب ـ عدمَ الولد وإن سَفَلَ والأبِ وإن علا (2). وفهم آخرون منها عدمَ الأب دون مَن فوقه. والصدِّيق أسعدُ بفهم الآية، كما اتفق المسلمون على أن الكلالة في قوله: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ اِمْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا اَلسُّدُسُ} [النساء: 12] أنها عدم الولد وإن سَفَلَ، والأبِ وإن علا (3). وكما فَهِمَ مَن فهم من السلف والخلف من قوله تعالى: {اِلطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 227] أنه مرة بعد مرة، مثل قوله: {سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ} [التوبة: 102] وقوله: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6] وقوله في الحديث: «فلمَّا أقرَّ أربع مرات رَجَمَه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» (4). وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَئْذِنكُمُ اُلَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَاَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا اُلْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} [النور: 56]. وجميع ما ذُكر فيه تعدُّد المرة فهذا سبيله، فالثلاث المجموعة بكلمةٍ واحدةٍ مرة واحدة (5). وفهم آخرون منها _________ (1) «ب»: «ترث». (2) أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (19190، 19191) وابن أبي شيبة في «المصنف» (32255) وسعيد بن منصور في «التفسير» (591) والبيهقي في «السنن الكبرى» (6/ 368) من طريق الشعبي عن أبي بكر الصديق، والشعبي لم يسمع من أبي بكر. (3) بعده في «ح»: «وكما فهم الصديق». وينظر: «تفسير الطبري» (6/ 475 - 479) و «التفسير البسيط» للواحدي (6/ 367 - 371) و «تفسير القرطبي» (5/ 76 - 77). (4) أخرجه البخاري (6825) ومسلم (1691) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (5) ينظر: «زاد المعاد» للمصنف (5/ 323) و «إغاثة اللهفان» له (1/ 501).
(1/297)
الجمع والإفراد، ولا يخفى أي الفهمين أولى. وكما فَهِمَ من أباح نكاح التحليل ذلك من قوله: {حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 228] وفهم المُحرِّمون المُبطِلون له بطلانه من نفس الآية من عدة أوجه: منها: قوله: {حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} ونكاح التحليل (1) لا يدخل في النكاح المُطلَق، كما لم يدخل فيه نكاح الشغار والمتعة، ونكاح المعتدة، ونكاح المحرمة، فإن الذي أخرج هذه الأنواع من النكاح المُطلَق المأذون فيه هو الذي أخرج نكاح التحليل منه بنصوص أكثر وأصرح من تلك النصوص. ومنها: تسميته سبحانه لهذا الثاني زوجًا. وأحكام الزوج عرفًا وشرعًا منتفية عن المحلِّل، وانتفاء الأحكام مستلزم لانتفاء الاسم شرعًا وعرفًا، وكذلك هو، فإن أهل العُرْف لا يُسمُّونه زوجًا، والشارع إنما سمَّاه «تيسًا مستعارًا» (2). فلا يجوز تسميته زوجًا إلَّا على وجه التقييد، بأن يقال: زوج ملعون، أو زوج في نكاح تحليل، أو في نكاح باطل. _________ (1) «ب»: «المحلل». (2) أخرجه ابن ماجه (1936) والطبراني في «المعجم الكبير» (17/ 299) والدارقطني في «السنن» (3/ 251) والحاكم في «المستدرك» (2/ 198) عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه -. وحسَّن إسناده عبدُ الحق الإشبيلي في «الأحكام الوسطى» (3/ 156) وقد رد المصنف في «أعلام الموقعين» (4/ 417 - 419) على من ضعَّفه، وينظر: «بيان الوهم» لابن القطان (3/ 5040) و «نصب الراية» للزيلعي (3/ 239).
(1/298)
ومنها: أنه جعل الزوج الثاني وطلاقه بمنزلة الزوج الأول وطلاقه، فالمفهوم منها واحد (1). وغير ذلك من الوجوه التي أَفهَمَتْ منها الآية بطلانَ نكاح المحلِّل، وهي عشرة، قد ذكرناها في موضع آخر (2)، ولا ريب أن فَهْمَ هؤلاء أولى بالصواب. ومن هذا فَهْم بعضهم إباحة العِينَة من قوله تعالى: {إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةٌ حَاضِرَةٌ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} [البقرة: 281] وفَهِمَ آخرون منها تحريمها وبطلانها؛ فإن لفظ التجارة: البيع المقصود الذي يَقصِد به كلُّ واحدٍ من المتعاقدينِ الربحَ أو (3) الانتفاع، ولا يَعرِف أهل اللغة والعُرْفِ من لفظ التجارة إلَّا ذلك، ولا يَعُدُّ أحدٌ منهم قط الحيلة على الربا تجارةً، وإن كان المرابي يَعُدُّ ذلك تجارةً، كما (4) يَعُدُّ بيع الدرهم بالدرهمين، فالعِينَة لا تُعَدُّ تجارةً لغة ولا شرعًا ولا عُرْفًا (5). وكما فَهِمَ مَن فهم من قوله تعالى: {اَلزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور: 3] أنه العقد (6)، ..................................................... _________ (1) «واحد» سقط من «ح». (2) «ب»: «مواضع أخر». وينظر عن نكاح التحليل «زاد المعاد» للمصنف (5/ 154 - 157) و «إغاثة اللهفان» للمصنف (1/ 473 - 495). (3) «ح»: «و». (4) «ح»: «وكما». (5) توسع المصنِّف في الكلام على بيع العينة في: «تهذيب سنن أبي داود» (2/ 457 - 479) و «أعلام الموقعين» (4/ 53 - 62) و «إغاثة اللهفان» (1/ 602 - 604). (6) «ح»: «العقدة».
(1/299)
وفَهِمَ آخرون أنه نفس الوطء (1) وفَهْمُ الأوَّلين (2) أصوب لِخُلُوِّ الآية عن الفائدة إذا حُمل على الوطء (3). وكما فَهِمَ أهل الحجاز من قوله تعالى: {أَوْ يُنفَوْا مِنَ اَلْأَرْضِ} [المائدة: 35] طَرْدَه من الأرض (4) من موضعٍ إلى موضعٍ، وفَهِمَ أهل العراق منه الحبس (5). وبالجملة فهذا الفصل مُعتَرَك النزاع. فصل السبب السابع: أن يكون عارفًا بدلالة اللفظ وموضوعه ولكن لا يَتفطَّن لدخول هذا الفرد المعيَّن تحت اللفظ؛ [ق 33 ب] إمَّا لعدم إحاطته بحقيقة ذلك الفرد، وأنه مماثل لغيره من الأفراد الداخلة تحته، وإمَّا لعدم حضور ذلك الفرد بباله، وإمَّا لاعتقاده اختصاصَه بخصيصة تُخرِجه من اللفظ العام، وإمَّا لاعتقاده (6) العموم فيما ليس بعامٍّ، أو الإطلاق فيما هو مقيدٌ، فيَذهَل عن المقيِّد (7)، ............................................................. _________ (1) ينظر: «تفسير الطبري» (17/ 149 - 160) و «التفسير البسيط» للواحدي (16/ 101 - 117) و «تفسير القرطبي» (12/ 167 - 170). (2) «ح»: «الأولون». (3) وينظر: «إغاثة اللهفان» للمصنف (1/ 108 - 110). (4) «من الأرض» ليس في «ح». (5) ينظر: «تفسير الطبري» (8/ 372 - 390) و «التفسير البسيط» (7/ 357 - 359) و «تفسير القرطبي» (6/ 152 - 153). (6) من قوله «اختصاصه» إلى هنا سقط من «ح». (7) «ح»: «التقييد».
(1/300)
كما يَذهَل عن (1) المخصِّص. فصل السبب الثامن: اعتقاده أنْ لا دلالة في ذلك اللفظ على الحكم المتنازَع فيه، فها هنا أربعة أمور: أحدها: ألَّا يَعرِف مدلول اللفظ في عُرْف الشارع، فيحمله على خلاف مدلوله. الثاني: أن يكون له في عُرْف الشارع معنيان فيحمله على أحدهما، ويحمله غيره على المعنى الآخر. الثالث: أن يَفهم من العامِّ خاصًّا أو من الخاصِّ عامًّا، أو من المطلق مقيَّدًا، أو من المقيَّد مطلقًا. الرابع: أن ينفي دلالة اللفظ، وتارةً يكون مُصيبًا في نفي (2) الدلالة (3)، وتارةً يكون مخطئًا، فمَن نفى دلالة قوله: {وَكُلُوا وَاَشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اُلْخَيْطُ اُلْأَبْيَضُ} [البقرة: 186] على حلِّ (4) أكل ذي الناب والمِخْلَب أصاب. ومَن نفى دلالة قوله: {وَأَنكِحُوا اُلْأَيَامَى مِنكُمْ} [النور: 32] على جواز نكاح الزانية أصاب. _________ (1) «ح»: «في». (2) «ب»: «نفس». والمثبت هو الصواب. (3) «في نفي الدلالة» ليس في «ح». (4) «حل» ليس في «ح».
(1/301)
ومَن نفى دلالة قوله: {قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 146] على الإذن في أكل ما عدا المذكور في الآية أصاب (1). ومَن نفى دلالة العام على ما عدا مَحَلِّ التخصيص غَلِطَ. ومَن نفى دلالته على ما عدا مَحَلِّ (2) السبب غَلِطَ. ومَن نفى دلالة الأمر على الوجوب (3) والنهي على التحريم غَلِطَ. ومِن هذا ما يعرض من الاختلاف في الأفعال المنفية بعد وجود صورتها، كقوله: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» (4). و «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ» (5) ............................................... _________ (1) من قوله: «ومن نفى دلالة قوله: {قُل لَّا أَجِدُ} إلى هنا ليس في «ب». (2) «محل» ليس في «ح». (3) «على الوجوب» سقط من «ح». (4) أخرجه البخاري (756) ومسلم (394) عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -. (5) أخرجه أحمد (27814) وأبو داود (2454) والترمذي (730) والنسائي (2332) وابن ماجه (1700) وابن خزيمة (1933) عن أم المؤمنين حفصة - رضي الله عنها -، واختلف في رفعه ووقفه، فرجح وَقْفَه الإمام أحمد والبخاري وأبو حاتم الرازي والترمذي والنسائي والدارقطني، وصحح رَفْعَه الخطابي والبيهقي وابن حزم وابن تيمية. ينظر: «العلل الكبير» للترمذي (202) و «العلل» لابن أبي حاتم (654) و «العلل» للدارقطني (3939) و «معالم السنن» للخطابي (2/ 134) و «السنن الكبرى» للبيهقي (4/ 202) و «المحلى» (4/ 288) و «شرح العمدة» لابن تيمية (128 الصيام) و «تنقيح التحقيق» لابن عبد الهادي (3/ 177 - 183) و «البدر المنير» لابن الملقن (5/ 651 - 655).
(1/302)
«وَلَا صَلَاةَ لِفَذٍّ (1) خَلْفَ الصَّفِ» (2) ونحو ذلك. فطائفة (3) لم تفهم المراد منه، فجعلته مُجْمَلًا، يتوقف العمل به على البيان. وطائفةٌ فهمت منه نَفْيَ الكمال المستحبِّ، وهذا ضعيف جدًّا؛ فإن النفي المطلق بعيدٌ منه. وطائفةٌ فهمت نفي الإجزاء والصحة. وفَهْم هؤلاء أقرب إلى اللغة والعُرْف والشرع. وطائفةٌ فهمت (4) نفي المسمَّى الشرعي. وهؤلاء أَسْعَدُ الناس بفَهْم المراد. فصل هذا كله قبل الوصول إلى: السبب التاسع: وهو اعتقاده أن تلك الدلالة قد عارَضَها ما هو مساوٍ لها _________ (1) الفذ: الفرد. «الصحاح» (2/ 568). (2) أخرجه الإمام أحمد (1735) وابن ماجه (1003) وابن خزيمة (1569) وابن حبان (2202) عن علي بن شيبان - رضي الله عنه -، وحسَّنه الإمام أحمد والنووي، وقوَّاه جماعة، كابن عبد الهادي والذهبي، وفي الباب عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم -. وينظر: «جامع الترمذي» (230) و «خلاصة الأحكام» للنووي (2517) و «تنقيح التحقيق» لابن عبد الهادي (2/ 497) و «التنقيح» للذهبي (1/ 263). (3) «ح»: «وطائفة». (4) «ح»: «وفهمت طائفة».
(1/303)
فيجب التوقف، أو ما هو (1) أقوى منها فيجب تقديمه (2). وهذه المعارضة نوعان: معارضة في الدليل، ومعارضة في مقدمة من مقدماته. فالمعارضة في الدليل أن يعتقد أنه قد عارضه ما هو أرجح منه (3)، فيجب عليه العمل بالراجح، وقد يكون مصيبًا في ذلك، وقد (4) لا يكون مصيبًا. فالمصيب من اعتقد المعارضة بناسخٍ يصح فيه دلالته ومقاومته وتأخُّره (5)، فإن انتفى بعضها كان واهمًا في اعتقاد المعارضة وإبطال النصِّ بها. وأمَّا المعارضة في المقدمة فأن يقوم عنده (6) معارضٌ لجرِّ (7) الدليل، مثاله: أن يعتقد تحريم المَيْسِر بالنصِّ الدالِّ على تحريمه، ويدل عنده دليل على دخول الشِّطْرَنج فيه، ثم يقوم عنده دليلٌ معارِضٌ لهذا الدليل يدل على أن الشِّطْرَنج ليس من المَيْسِر. فهاهنا أربعة أمور: أحدها: ألَّا يعتقد دلالة اللفظ على المعنى. الثاني: أن يعتقد دلالته ولكن يقوم عنده معارِضٌ للدليل. الثالث: أن يقوم عنده معارِض لمقدمة من مقدماته. الرابع: أن يتعارض عنده الدلالتان. _________ (1) «هو» ليس في «ح». (2) «ب»: «تقويمها». «ح»: «تقديمها». والمثبت أصوب. (3) «منه» ليس في «ب». (4) «قد» سقط من «ح». (5) من قوله «فالمصيب من اعتقد» إلى هنا تكرر في «ح». (6) «ح»: «عنه». (7) «ح»: «كجر».
(1/304)
والتعارُض قد يقع في الدليلين، وقد يقع في الدلالتين (1). والفرق بينهما أن تَعارُض الدليلين يكون مع اعتقاد دلالة كل واحدٍ منهما على مطلوبه، وتَعارُض الدلالتين يقع في الدليل الواحد فيكون له وجهان، ثم قد يعتقد رجحان المعارض، فيصير إلى الراجح، وقد لا يتبين له الرجحان، فيتوقف. وقد يَترك الحديث لظنِّه انعقاد الإجماع على خلافه؛ إذ (2) لم يبلغه الخلاف، ويكون إنما معه عدم العلم بالمخالف، لا العلم بوجود (3) المخالف. وهذا العذر لم يكن أحدٌ من الأئمة والسلف يصير إليه، وإنما لَهِجَ به المتأخرون. وقد أنكره أشدَّ الإنكار الشافعي والإمام أحمد، وقال الشافعي: «ما لا يُعلم فيه خلاف لا يقال له إجماع» (4)، هذا لفظه (5). وأمَّا الإمام أحمد فقال: «مَن ادَّعى الإجماع فقد كَذَبَ، وما يدريه لعل الناس اختلفوا» (6). وقد كتبتُ نصوصه ونصوص الشافعي في غير هذا الموضع (7). ولا خلاف بين الأئمة أنه إذا صحَّ الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم (8) يكن _________ (1) «ح»: «الرابع أن يتعارض عنده الدليلين». (2) «ب»: «إذا». (3) «ح»: «فوجود». والعبارة مشكلة، تبدو لي مقلوبة، وصوابها فيما أظن: «ويكون ما معه عدم العلم بالمخالف لا العلم بعدم المخالف». (4) ينظر «الأم» (8/ 552، 9/ 30). (5) «هذا لفظه» ليس في «ب». (6) «مسائل عبد الله بن أحمد» (1587). (7) ينظر «أعلام الموقعين» (1/ 61 - 62). (8) «لم». سقط من «ح».
(1/305)
عدم العلم بالقائل به مسوِّغًا لمخالفته، فإنه دليل (1) مُوجِب للاتباع (2)، وعدم العلم بالمخالف لا يصلح أن يكون معارضًا، فلا (3) يجوز ترك الدليل له. وإذا تأمَّلْت هذا الموضع وجدت كثيرًا من أعيان العلماء قد صاروا إلى أقوال متمسَّكُهم فيها عدمُ العلم بالمخالف، مع قيام الأدلة الظاهرة على خلاف تلك الأقوال. وعُذْرُهم - رضي الله عنهم - أنهم لم يمكن أحدًا منهم أن يبتدئ قولًا لم يَعلم به قائلًا، مع علمه بأن الناس قد قالوا [ق 34 أ] خلافه، فيتركَّب من هذا العلم وعدم ذلك العلم الإمساك عن اتباع ذلك الدليل. وها هنا انقسم العلماء (4) ثلاثة أقسام: فقسمٌ أخذوا بما بلغهم من أقوال أهل العلم، وقالوا: لا يجوز لنا أن نخالفهم ونقول قولًا لم نُسبَق إليه. وهؤلاء معذورون قبل وصول الخلاف إليهم. فأمَّا مَن وصل إليه الخلاف وعَلِمَ بذلك القول قائلًا فما أدري ما عذره عند الله في مخالفته صريح الدليل (5)؟! وقسمٌ توقفوا وعلَّقوا القول، فقالوا: إن كان في المسألة إجماعٌ فهو أحق ما اتُّبِعَ، وإلا فالقول فيها كَيْتَ وكَيْتَ، وهو موجَب الدليل. ولو عَلِمَ هؤلاء قائلًا به لصرحوا بموافقته. فإذا عُلم به قائلٌ فالذي ينبغي ـ ولا يجوز غيره ـ أن يُضاف ذلك القول إليهم؛ لأنهم إنما تركوه لظنهم أنه لا قائل به، وأنه لو كان _________ (1) «دليل» ليس في «ح». (2) «ح»: «الاتباع». (3) «ح»: «ولا». (4) «العلماء» سقط من «ح». (5) «ب»: «مخالفة صريح الدليل منه».
(1/306)
به قائل لصاروا إليه. فإذا ظهر به قائل لم يَجُزْ أن يُضاف إليهم غيره إلَّا على الوجه المذكور، وهذه الطريقة أسلم. وقسمٌ ثالثٌ: اتبعوا موجَب الدليل، وصاروا إليه، ولم يُقدِّموا عليه قول مَن ليس قوله حجة، ثم انقسم هؤلاء قسمين: فطائفةٌ علمت أنه يستحيل أن تُجمِع الأُمة على خلاف هذا الدليل، وعلمت أنه لا بد أن يكون في الأُمة مَن قال بموجَبه (1)، وإن لم يبلغهم قوله، فما كل ما قاله كل واحدٍ من أهل العلم وصل إلى كل واحدٍ واحدٍ من المجتهدين، وهذا لا يدَّعيه عاقلٌ، ولا يُدَّعى في أحدٍ. وقد نصَّ الشافعي على مثل ذلك، فذكر البيهقي عنه في «المدخل» (2) أنه قال له بعض مَن ناظره: فهل تجد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُنة ثابتة متصلة خالفها الكل؟ قلت: لا (3)، لم أجدها قط كما وجدت المُرْسَل. وطائفةٌ قالت: يجوز ألَّا يتقدم به قائلٌ، ولكن لا يلزم انعقاد الإجماع على خلافه؛ إذ لعل تلك النازلة تكون قد نزلت فأفتى فيها بعض العلماء أو كثيرٌ منهم أو أكثرهم بذلك القول، ولم يُسْتَفْتَ فيها الباقون، ولم تبلغهم، فحُفِظَ فيها قول طائفة من أهل العلم، ولم يُحفَظ لغيرهم فيها قول، والذين حُفِظَ قولُهم فيها ليسوا كلَّ الأُمة، فيَحْرُم مخالفتهم. قالوا: فنحن (4) في مخالفتنا لمَن ليس قوله حجةً أعذرُ منكم في _________ (1) «بموجبه». سقط من «ح». (2) «المدخل إلى علم السنن» (1/ 400). (3) «لا» ليس في «ب». (4) «ح»: «نحن».
(1/307)
مخالفتكم لمَن قوله حجة. فإن كنتم معذورين في مخالفة الدليل لقول مَن بلغتكم أقوالهم ـ مع أنهم ليسوا كلَّ الأُمة ـ فنحن في مخالفتهم لقيام الدليل أعذر عند الله ورسوله منكم. وهذا كما تراه لا يمكن دَفْعُه إلَّا بمكابرة أو إجماعٍ متيقَّنٍ معلومٍ لا شك فيه، وبالله التوفيق. وممَّا يوضِّح هذا أن كل مَن ترك موجَب الدليل لِظَنِّ الإجماع فإنه قد تبيَّن لغيره أنه لا إجماع في تلك المسألة، والخلاف فيها قائمٌ، ونحن نَذكُرُ من ذلك طَرَفًا يسيرًا يَستدِلُّ به العالم على ما وراءه. فمن ذلك: قول مالك: «لا أعلم أحدًا أجاز شهادة العبد» (1). وصدق - رضي الله عنه -، فلم يَعلم أحدًا أجازها، وعَلِمَه غيره. فأجازها علي بن أبي طالب (2) وأنس بن مالك (3) وشريح القاضي (4)، حكاه الإمام أحمد وغيره، وروى أحمد (5) عن أنس قال: «لا أعلم أحدًا ردَّ شهادة العبد». _________ (1) لم نقف عليه عن الإمام مالك بهذا اللفظ، والذي في «المدونة» (4/ 541): «قال مالك: لا تجوز شهادة العبد في شيء من الأشياء». انتهى. وهو في «رفع الملام» (ص 32) غير معزوٍّ لمالك، وعزا شيخ الإسلام في «النبوات» (1/ 479) نحوه إلى الشافعي. (2) أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (20656). (3) علقه البخاري في «صحيحه» (3/ 173) ووصله ابن أبي شيبة في «المصنف» (20652). (4) أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (20653). (5) أخرجه الخلال من طريق المروذي عن أحمد كما في «النكت والفوائد السنية على مشكل المحرر» لابن مفلح (2/ 305).
(1/308)
وقال: «لا أعلم أحدًا أَوْجَبَ الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة (1)» (2). ووجوبها محفوظٌ عن أبي جعفر الباقر (3). وقال الشافعي: «أجمعوا على أن المعتَق بعضُه لا (4) يرث» (5). وقد صحَّ توريثه عن عليٍّ وابن مسعودٍ (6). وقال الشافعي (7) وقد قيل له: فهل من مرسلٍ ما قال به أحدٌ؟ قال: نعم، أخبرنا ابن عُيينة، عن محمد بن المنكدر أن رجلًا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، إن لي مالًا وعيالًا، وإن لأبي مالًا وعيالًا، يريد أن يأخذ مالي فيُطعِم عياله. فقال: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» (8). _________ (1) «في الصلاة» ليس في «ب». (2) لم نقف عليه، وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في «رفع الملام» (ص 32) دون تسمية قائله، وينظر «الأوسط» لابن المنذر (3/ 212 - 213). (3) عزاه له شيخ الإسلام ابن تيمية في «رفع الملام» (ص 32) وينظر «جلاء الأفهام» لابن القيم (ص 331). (4) «لا» سقط من «ب». (5) نقله ابن المنذر في «الإشراف» (8/ 110) عن الشافعي، ولم نجد في كتب الشافعية حكاية الإجماع على ذلك؛ بل ذكروا الخلاف، ينظر «الحاوي» للماوردي (8/ 83) و «الروضة» للنووي (6/ 30). وهذا القول في «رفع الملام» (ص 32) غير معزوٍّ لأحد. (6) ينظر «الإشراف على مذاهب العلماء» لابن المنذر (4/ 371 - 372). (7) «الرسالة» (ص 467). (8) أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 789) من طريق الشافعي وقال: «هذا منقطع، وقد روي موصولًا من أوجُه أُخر، ولا يثبت مثلها». وسيأتي الإشارة إلى من وصله قريبًا.
(1/309)
قال الشافعي (1): فقال محمد بن الحسن: أما نحن فلا نأخذ بهذا (2)، ولكن هل من أصحابك مَن يأخذ به؟ قلت: لا (3)؛ لأن من أخذ بهذا جعل للأب المُوسِر أن يأخذ من مال ابنه (4). قال: أَجَلْ، ما يقول بهذا أحدٌ، فلِمَ يخالفه الناس؟ قلت: لأنه لم يَثبُت؛ فإن (5) الله لمَّا فرض للأب ميراثه من ابنه فجعله كوارثِ غيرِه، وقد يكون أنقص حظًّا من كثيرٍ من (6) الورثة، دلَّ ذلك على أن (7) ابنه مالكٌ للمال دونه. وقد قال بهذا الحديث جماعةٌ من السلف (8)، منهم شيخ الشافعي سفيان بن عيينة (9)، وصاحبه الإمام أحمد وغيرهما (10)، ولم يَعلم به ....... _________ (1) «الرسالة» (ص 467). (2) «ح»: «بها». (3) «لا» سقط من «ح». (4) «ب»: «أبيه». وهو تصحيف. (5) «ح»: «وأن». (6) «من» سقط من «ح». (7) «أن» سقط من «ح». (8) قد أفرد الحافظ ابن عبد الهادي هذه المسألة في جزءٍ لطيفٍ، طُبع في مجموع باسم «رِيُّ الفسائل في مجموع الرسائل» (ص 283 - 298)، قال فيه (ص 287): «وقد قال به عائشة ومسروق وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والشعبي والحسن البصري وغيرهم من الأئمة - رضي الله عنهم -». ثم ذكر آثارهم في ذلك. (9) قال الحافظ ابن عبد الهادي في «مجموعه» المشار إليه سابقًا (ص 288 - 289): «وقال سفيان بن عيينة: ذكر الله بيوت سائر القرابات إلا الأولاد لم يذكرهم؛ لأنهم دخلوا في قوله: {بُيُوتِكُمْ} [النور: 59] فلما كان بيوت أولادهم كبيوتهم لم يَذكُر بيوت أولادهم». (10) ينظر «المغني» لابن قدامة (8/ 272 - 274) و «مجموع ابن عبد الهادي» (ص 285 - 286).
(1/310)
الشافعي قائلًا، واعتذر عن (1) مخالفته بأنه مُرسَلٌ لم يثبت، ولم يعتذر عن مخالفته بالإجماع، وقد صحَّ اتصاله (2). وقال الثوري فيما إذا طَلَّقَ المدخول بها ثم راجعها ثم طلقها قبل دخول ثانٍ (3) بعد الرجعة، فإن أكثر العلماء على أنها تستأنف العدة، قال سفيان: أجمع الفقهاء على هذا. _________ (1) «ح»: «وأعذر من». (2) أخرجه ابن ماجه (2291) والطبراني في «المعجم الصغير» (947) وفي «المعجم الأوسط» (6570، 6728) عن محمد بن المنكدر عن جابر - رضي الله عنه - موصولًا. وقد أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 789) من طريق الشافعي مرسلًا، ثم قال: «قد روي موصولا من أوجُه أُخَر، ولا يثبت مثلها». وصحح إسناده ابن القطان في «بيان الوهم» (5/ 103) وابن الملقن في «البدر المنير» (7/ 665) والبوصيري في «مصباح الزجاجة» (811) وقال المنذري في «مختصر السنن» (5/ 183): إسناده ثقات. ورجَّح إرساله أبو حاتم كما في «العلل» لابنه (1399) وقال الحافظ ابن عبد الهادي: «المشهور فيه الإرسال كما ذكره الشافعي». وأخرجه ابن حبان (410) عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -. قال ابن الملقن في «خلاصة الإبريز» (2/ 304): «وهو أصحُّ طُرُقِه الثمانية». وأخرجه أحمد (6902) وأبو داود (3530) وابن ماجه (2292) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - رضي الله عنه -. وفي الباب عن سمرة بن جندب وعمر بن الخطاب وابن عمر وابن مسعود - رضي الله عنهم -. ينظر: «تنقيح التحقيق» (4/ 230 - 231) و «نصب الراية» (3/ 337 - 339) و «البدر المنير» (7/ 665 - 671). (3) «ح»: «بها».
(1/311)
وسفيان من كبار (1) أئمة الإسلام، وقد حكى الإجماع على هذا. والنزاع في ذلك موجود قبله وبعده (2)، فإن مذهب عطاء أنها تبني على ما مضى، كما لو طَلَّقها قبل الرجعة، وهو أحد قولَي الشافعي، وأحد الروايتين عن أحمد. وحُكي عن مالك قولٌ ثالث: إنه إن قصد الإضرار بها بنت، وإلَّا استأنفت. وحُكي عن داود قولٌ رابع: إنه لا عِدَّة عليها بحال. جعلها مطلقة قبل الدخول، فلا عدة عليها بالطلاق الثاني، والأول انقطعت عدته [ق 34 ب] بالرجعة. والأكثرون يقولون: هي زوجةٌ مدخولٌ بها (3). ومن ذلك: أن الليث بن سعد حكى الإجماع على (4) أن المسافر لا يَقصُر الصلاة في أقل من يومين. هذا مع سَعة عِلْمه وفقهه وجلالة قدره، والنزاع في مسافة القصر عن الصحابة والتابعين أَشهَرُ من أن يُذكَر. ومن ذلك: ما ذكره مالك في «موطَّئه» (5) فقال: «فمن الحجة على من قال ذلك القول ـ أي إنه لا يقضى بشاهدٍ ويمينٍ؛ لأنه ليس في القرآن ـ فيقال: أرأيت لو أن واحدًا ادعى على رجلٍ مالًا أليس يُحلَّف المطلوب ما ذلك الحق عليه، وإن حلف بَطَلَ ذلك الحق عنه، وإن نَكَلَ عن اليمين (6) حُلِّف صاحب الحق إن حقه لَحَقٌّ، وثبت حقُّه على صاحبه». قال: «فهذا ممَّا _________ (1) «من كبار» «ح»: «كان من». (2) «وبعده» ليس في «ب». (3) ينظر: «الاستذكار» (18/ 105) و «المغني» (10/ 571). (4) «على» ليس في «ب». (5) «الموطأ» (2/ 724). (6) أي: امتنع عنه.
(1/312)
لا خلاف (1) فيه عند أحدٍ من الناس، ولا ببلدٍ من البلاد». والخلاف في القضاء بالنكول وَحْدَه دون اشتراط ردِّ اليمين أشهرُ من أن يُذكَر. وإبراهيم النخَعي لا يقول بالردِّ بحالٍ، ومذهب أبي حنيفة وأصحابه لا يرون لزوم تحليف المدَّعي بحالٍ، بل يَقضُون بالنكول. وأبو ثور ذكر في المسألة قولًا ثالثًا: أنه إذا امتنع أن يحلف وسأل حَبْسَ المَدِين حبسه له. وأحمد وإن كان يُحَلِّف المدَّعي في بعض الصور كالقَسامة والقضاء بشاهدٍ ويمينٍ، فإن المشهور عنه أنه يقضي بالنكول دون الردِّ. وفي مذهب أحمد قول آخر: أنه يقضي بالرد، وهو اختيار أبي الخطاب (2) وأبي محمد المقدسي في «العمدة» (3). وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى أنه من قضى بالنكول نُقِضَ (4) حكمه (5). ومع هذا فأبو عُبيد يحكي الإجماع على خلاف هذا، فإنه قال في كتاب «القضاء» لمَّا ذكر أحاديث القضاء: إن اليمين على المدعَى عليه. قال: وفي ذلك سُنة يُستدَلُّ عليها بالتأويل، وذلك أنه لما قضى أنه لا براءةَ للمطلوب _________ (1) «ب»: «اختلاف». وكذا في «الموطأ». (2) ينظر «الهداية» لأبي الخطاب الكَلْوَذاني (ص 582) و «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 285). (3) «العمدة» (ص 147). (4) من قوله: «بالرد وهو اختيار أبي الخطاب» إلى هنا سقط من «ح». (5) ينظر: «مختصر اختلاف العلماء» للجصاص (3/ 384) و «الحاوي» للماوردي (16/ 316) و «المحلى» (9/ 372 - 380) و «الاستذكار» (22/ 57) و «المغني» (14/ 233).
(1/313)
إلَّا باليمين إلى الطالب، كان فيه دليل على أن ترك أدائها إيجابٌ للدعوى (1) عليه، وتصديق لِمَا يُدَّعى. قال: وقد زعم بعض من يدَّعي النظر في الفقه أن إباء اليمين لا يُوجِب عليه حقًّا، ولكنه ـ زعم ـ يُحبَس حتى يُقِرَّ أو يَحلِف، وهذا خلاف التأويل والأخبار وإجماع العلماء. ومن ذلك: ما (2) قاله مالك في «موطَّئه» (3): «الأمر المجمع عليه عندنا والذي سَمِعتُ ممَّن أرضى به في القَسامة (4)، والذي اجتمعت عليه الأُمة في القديم والحديث، أن يبدأ بيمين المدَّعين في القسامة، وأن القسامة لا تجب إلَّا بأحد أمرين: إمَّا أن يقول المقتول: دمي عند فلان، أو يأتي وُلاة الدم بلَوْثٍ (5)، فهذا يوجب القسامة للمدَّعين للدم على مَنِ ادَّعوه عليه. قال مالك: ولا تجب القسامة إلَّا بأحد هذين الوجهين. قال مالك: وتلك السُّنَّة التي لا اختلاف فيها عندنا، والذي لم يَزَلْ عليه الناس أن المُبَدَّئين بالقسامة _________ (1) «ح»: «الدعوى». (2) «ما». سقط من «ب». (3) «الموطأ» (2/ 787). (4) القسامة: اليمين، كالقسم، وحقيقتها أن يقسم من أولياء الدم خمسون نفرًا على استحقاقهم دم صاحبهم، إذا وجدوه قتيلًا بين قومٍ ولم يعرف قاتله، فإن لم يكونوا خمسين أقسم الموجودون خمسين يمينًا، ولا يكون فيهم صبي ولا امرأة ولا مجنون ولا عبد، أو يقسم بها المتهمون على نفي القتل عنهم، فإن حلف المدعون استحقوا الدية، وإن حلف المتهمون لم تلزمهم الدية. «النهاية في غريب الحديث» (4/ 62). (5) اللوث: أن يشهد شاهدٌ واحدٌ على إقرار المقتول قبل أن يموت أن فلانًا قتلني، أو يشهد شاهدان على عداوة بينهما، أو تهديد منه له، أو نحو ذلك، وهو من التلوث: التلطخ. يقال: لاثه في التراب ولوثه. «النهاية في غريب الحديث» (4/ 275).
(1/314)
أهلُ الدم الذين (1) يَدَّعونه في العمد والخطأ». قال ابن عبد البر (2): «وقد أنكر العلماء على مالك قولَه: إن القسامة لا تجب إلَّا بقول المقتول: دمي عند فلان. أو يأتي بلَوْثٍ يَشهَدون به؛ لأن المقتول بخيبر لم يَدَّعِ على أحدٍ، ولا قال: دمي عند أحدٍ، ولا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنصار: تأتون بلَوْثٍ. قالوا: وقد جعل مالكٌ سُنَّةً ما ليس له مدخل في السُّنة». وكذلك أنكروا عليه أيضًا في هذا الباب قولَه: «الأمر المُجمَع عليه عندنا أن يبدأ المدَّعون بالأيمان في القسامة». قالوا: فكيف اجتمعت الأئمة في الفقه والحديث، وابن شهاب يروي عن سليمان بن يسار وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن رجلٍ من الأنصار «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بدأ اليهود في الأيمان»؟! قال: وهذا الحديث وإن لم يكن من روايته عن ابن شهاب، فمن روايته عن ابن شهاب عن سليمان بن يسار وعراك بن مالك أن عمر بن الخطاب قال للجهني الذي ادَّعى دية وَلِيِّه على رجلٍ من بني سعد بن ليث ـ وكان أجرى فرسه فوَطِئَ على إصبع الجهني فنُزِي (3) منها الدمُ فمات، فقال عمر للذي ادَّعى عليهم ـ: أتحلفون بالله خمسين يمينًا ما مات منها؟ فأَبَوْا وتَحرَّجوا، وقال للمدَّعين: احلفوا. فأَبَوْا، فقضى [بشَطْر الدية] (4) على السعديينَ (5). قالوا: فأيُّ _________ (1) في النسختين: «الذي». والمثبت من «الموطأ» و «الاستذكار». (2) «الاستذكار» (25/ 324 - 325). (3) أي: جرى ولم ينقطع. «النهاية في غريب الحديث» (5/ 43). (4) في النسختين: «بالدية». والمثبت من «الموطأ» وغيره. (5) أخرجه مالك في «الموطأ» (طبعة الأعظمي) (3150) وعنه الشافعي في «الأم» (8/ 648) وعبد الرزاق في «المصنف» (18297) وابن أبي شيبة في «المصنف» (28202) وقال الإمام مالك: «ليس العمل على هذا». قال ابن عبد البر: «لأن فيه تبدئة المدَّعى عليه بالدم بالأيمان، وذلك خلاف السُّنَّة التي رواها وذكرها في كتابه «الموطأ» في الحادثين من الأنصار المدَّعين على يهود خيبر قَتْلَ وليِّهم». انتهى. وقال ابن كثير في «مسند الفاروق» (2/ 449): «هذا إسناد صحيح، والأثر غريب جدًّا».
(1/315)
أُمةٍ اجتمعت (1) على هذا». ومن ذلك: قال الشافعي في «مختصر المُزَنيِّ» (2) في مسألة اليمين الغموس: «ودلَّ إجماعهم على أن مَن حَلَقَ في الإحرام عمدًا أو خطأً أو قَتَلَ صيدًا عمدًا أو خطأ في الكفارة سواءٌ، وعلى أن الحالف بالله وقاتِلَ المؤمنِ عمدًا أو خطأً في الكفارة سواءٌ (3)». فقد ذكر الإجماع على التسوية بين العامد والمخطئ في قَتْل الصيد وحَلْق الشعر، ومعلومٌ ثبوتُ النزاع في ذلك قديمًا وحديثًا. فمذهب جماعةٍ من السلف أن قاتل الصيد خطأً لا جزاء عليه، ويُروى ذلك عن ابن عباس وطاوس وسعيد بن جبير، ويُروى ذلك عن القاسم وسالم وعطاء ومجاهد، وهو قول ابن (4) المنذر وداود وأصحابه، وقول إسحاق في الشَّعر. وهو رواية عن أحمد في الصيد، وخرَّج أصحابُه في مذهبه في الحلق والتقليم قولًا مثله. وكذلك ذكره (5) ابن أبي هريرة (6) قولًا للشافعي في الصيد، وذكر أبو _________ (1) «ب»: «أجمعت». (2) «مختصر المزني» (ص 397). (3) من قوله: «وعلى أن الحالف» إلى هنا سقط من «ب». (4) «ابن» سقط من «ب». وقول ابن المنذر في كتابه «الإشراف» (3/ 229). (5) «ذكره» ليس في «ح». (6) «ب»: «هبيرة». وأبو علي بن أبي هريرة هو الإمام الجليل القاضي الحسن بن الحسين، ترجمته في «طبقات الشافعية الكبرى» للسبكي (3/ 256) وقال عنه: «أحد عظماء الأصحاب ورفعائهم، المشهور اسمه، الطائر في الآفاق ذكره».
(1/316)
إسحاق وغيره أن له قولًا مُخرَّجًا في الحلق والتقليم في الخطأ: أنه لا كفارةَ فيه كالطِّيب واللباس. فصار في المسألة ثلاثة أقوال: الكفارة فيهما (1)، وعدم الكفارة فيهما، والكفارة [ق 35 أ] في الصيد دون الحلق والتقليم (2). ومن ذلك: (3) ما حكاه ابن المنذر (4) قال: «أجمع كل مَن يُحفظ عنه من أهل العلم على أن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق ثلاثًا إن دخلتِ الدار. فطلَّقها (5) ثلاثًا ثم تزوجت بعد ما انقضت عدتها، ثم نكحها الحالف الأول، ثم دخلت الدار أنه لا يقع عليها الطلاق؛ لأن طلاق المِلْك قد (6) انقضى». والنزاع في هذه المسألة معروفٌ، فإن هذه المسألة لها صورتان: إحداهما: ألَّا توجد (7) الصفة، فإن الصفة تعود في المشهور في مذهب أحمد، حتى إن من أصحابه مَن يقول: بعود (8) الصفة هنا روايةً واحدةً. وهذا _________ (1) «فيهما» ليس في «ب». (2) ينظر: «الإشراف» لابن المنذر (3/ 229) و «الاستذكار» (13/ 382) و «مختصر اختلاف العلماء» (2/ 218) و «الحاوي» (4/ 282) و «المغني» لابن قدامة (5/ 391، 396). (3) تأخر هذا المثل برُمَّته في «ب» فجاء بعد المثل التالي. (4) «الأوسط» (9/ 287) و «الإشراف» (5/ 245). (5) «ح»: «وطلقها». (6) «قد» ليس في «ب». (7) «ح»: «يوجد». (8) «ح»: «تعود».
(1/317)
أحد أقوال الشافعي، بل هو الصحيح عند العراقيين من أصحابه، كما ذكره أبو إسحاق وغيره. وهو قولُ حماد بن أبي (1) سليمان وزُفَرَ، وكذلك ذكره الطحاوي (2) عن الأوزاعي وعثمان البَّتِّي وابن المَاجِشُون: إذا طلَّق ثم تزوج تعود اليمين. قال الطحاوي: ولم يذكروا بعد الثلاث. والقول الثاني: لا تعود الصفة بحال، وهو قول أبي ثور والمزني، وقد حكى ابن حامد روايةً فيمن قال لعبده: إن دخلتَ الدار فأنت حُرٌّ. ثم باعه قبل الدخول، ثم اشتراه، لم يُعتق عليه بحالٍ. فذكر عنه في العتق أن الصفة لا تعود، وفي الطلاق أولى، كما صرَّح أصحابه بمثل ذلك القول. الثالث (3): أنه إن أبانها بالثلاث لم ترجع الصفة، وبدونها ترجع. وهو مذهب أبي حنيفة وقول الشافعي (4). ومن ذلك: ما حكاه ابن المنذر (5) قال (6): «أجمع كل من يُحفظ عنه من أهل العلم على أن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق ثلاثًا (7) إن شئتِ. _________ (1) «أبي» ليس في «ب». وحماد بن أبي سليمان مسلم الكوفي فقيه العراق ترجمته في «سير أعلام النبلاء» (5/ 231). (2) في كتابه «اختلاف العلماء»، وعنه الرازي في «مختصر اختلاف العلماء» (2/ 445). (3) «الثالث» سقط من «ح». (4) ينظر: «التجريد» للقدوري (9/ 4801) و «الحاوي» للماوردي (10/ 20) و «المغني» لابن قدامة (10/ 320). (5) «الأوسط» (9/ 295) و «الإشراف» (5/ 248). (6) «قال» ليس في «ح». (7) «ثلاثًا» ليس في «ح».
(1/318)
فقالت: قد شئتُ إن شاء فلان. أنها قد رَدَّتِ الأمر، ولا يلزمه الطلاق إن شاء فلان. كذلك قال أحمد وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الشافعي (1)». ولأصحاب الشافعي في هذه المسألة وجهان، حكاهما الماوردي (2) وغيره. ومن ذلك: قال ابن المنذر (3): «أجمع كل مَن يُحفظ عنه من أهل العلم على أن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق ثلاثًا إلَّا اثنتين. أنها تُطَلَّق واحدةً، وإن قال: أنت طالق ثلاثًا إلَّا واحدة. أنها تُطَلَّق ثنتين، فإن قال: أنت طالق ثلاثًا إلَّا ثلاثًا. طُلِّقَت ثلاثًا، وممَّن حُفِظ هذا (4) عنه الثوري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي». والخلاف في المسألة مشهور؛ فمذهب أحمد المنصوص عنه: إذا قال: أنت طالق ثلاثًا إلَّا ثنتين. وقعتِ الثلاث؛ لأن استثناء الأكثر عنده باطل، وإذا قال: ثلاثًا إلَّا واحدة. صحَّ الاستثناء في المشهور من مذهبه. وقال أبو بكر عبد العزيز: لا يصح الاستثناء في الطلاق. وهو نظير أَشهَر الروايتين عن شريح فيما إذا قال: أنت طالق إن دخلتِ الدار. أنها تُطلَّق، ولا يتعلَّق بالشرط المؤخَّر. وهي رواية ثابتة (5) عن أحمد، وأكثر أجوبته كقول الجمهور (6). _________ (1) في «الأوسط» و «الإشراف»: «وأصحاب الرأي». (2) «الحاوي» للماوردي (10/ 145). (3) «الأوسط» (9/ 288) و «الإشراف» (5/ 243). (4) «هذا» ليس في «ح». (5) «ب»: «ثانية». (6) ينظر «المغني» (10/ 404 - 405).
(1/319)
ومن ذلك (1): أن ابن عبد البر نقل الإجماع على أن الاعتكاف يلزم بالشروع، فقال (2): «وقال مالك: يلزمه بالنية مع الدخول، وإن قَطَعَه لَزِمَه قضاؤه». قال ابن عبد البر (3): «لا يختلف في ذلك الفقهاء». ويلزمه القضاء عند جمهور (4) العلماء. والخلاف في ذلك أشهر شيءٍ، فمذهب الشافعي وأحمد في مشهور قوله: أنه لا يلزم. وقال الشافعي: كل عملٍ لك ألَّا تَدخُل فيه، فإذا دخلت فيه فليس عليك أن تقضي إلَّا الحج والعمرة (5). ومن ذلك: ما حكاه صالح بن أحمد عن أبيه أنه قال: لا اختلاف أنه لا يَرِثُ المسلمُ الكافرَ، ولا الكافرُ المسلمَ (6). والخلاف في ذلك مشهور عن الصحابة والتابعين. ومن ذلك: ما ذكره أبو عمر بن عبد البر (7) في «الاستذكار» (8) قال: «وأمَّا القراءة في الركوع والسجود فجميع العلماء على أن ذلك لا يجوز». وليس ذلك بإجماعٍ، فقد سُئل عطاء عن ذلك، فقال: رأيت عُبيد بن _________ (1) بعده في «ب»: «ما حكاه» وعليه حاشية: «أي: ابن حامد». (2) ينظر «الاستذكار» (10/ 305 - 306). (3) «الاستذكار» (10/ 306). (4) «ح»: «جميع». (5) ينظر «الأم» (3/ 260) و «المغني» (3/ 457). (6) «مسائل صالح بن أحمد بن حنبل» (1496). (7) «بن عبد البر» ليس في «ح». (8) «الاستذكار» (4/ 154).
(1/320)
عمير يقرأ وهو راكع (1). وحُكي عن سلمان (2) بن ربيعة: أنه كان يقرأ وهو ساجد (3). وقال مغيرة عن إبراهيم في الرجل يقرأ فيترك الآية فيَذْكُرها وهو راكع قال: يقرأها وهو راكع (4). وقال مغيرة: كانوا يقرءون في الركوع الآية والآيتين إذا بقي على الرَّجل من قراءته (5). ومن ذلك: ما حكاه إبراهيم بن مسلم الخُوارِزمي في كتاب «الطهور» (6) وقد ذكر من كان يتوضأ مِن مسِّ الذكر ثم قال: «وهذا منسوخٌ؛ لأن أهل العلم اجتمعوا على خلاف هذا». ومن ذلك: ما ذكره أبو عمر بن عبد البر فقال: «وأما الشهادة على رؤية الهلال فأجمع الفقهاء على أنه لا يُقبل في شهادة شوال في الفطر إلَّا شهادة رجلين عدلين» (7). والخلاف في ذلك مشهورٌ، وقد حكى ابن المنذر (8) عن أبي ثور _________ (1) أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (2841) وابن أبي شيبة في «المصنف» (8150). (2) «ح»: «سليمان». وهو سلمان بن ربيعة الباهلي، ترجمته في «تهذيب الكمال» (11/ 240 (. (3) قال ابن بطال في «شرح البخاري» (2/ 416): «روى أبو إسحاق عن عمرو بن ميمون قال: سمعت أخي سليمان بن ربيعة وهو ساجد وهو يقول: بسم الله الرحمن الرحيم. ما لو شاء رجل يذهب إلى أهله فيتوضأ ثم يجيء وهو ساجد لَفعل». (4) أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (8151). (5) نقله عنه ابن رجب في «فتح الباري» (7/ 189). (6) لم نقف على كتاب «الطهور» للخوارزمي. (7) «التمهيد» (14/ 354). (8) «الإشراف على مذاهب العلماء» لابن المنذر (3/ 113).
(1/321)
وطائفة من أهل الحديث القول بقبول الواحد في الصوم والفطر. ومن ذلك: ما قاله أبو ثور: لا يختلفون أن أقل الطُّهر خمسة عشر يومًا. والخلاف في ذلك مشهورٌ، وقد قال إسحاق: توقيت هؤلاء بخمسةَ عشرَ باطلٌ. وقال أحمد في إحدى (1) الروايتين عنه: أَقَلُّه ثلاثة عشر يومًا (2). ومن ذلك: ما حكاه غير واحدٍ من العلماء: أن الحالف بالطلاق والعتاق إذا حَنِثَ في يمينه أنه يُطلق عليه زوجته، ويُعتق عليه عبده أو جاريته. حكى ذلك بضعة عشر من أهل العلم [ق 35 ب]، وعذرهم أنهم قالوا بموجَب عِلْمِهم، وإلَّا فالخلاف في ذلك ثابت عن السلف والخلف من وجوهٍ: الوجه الأول: ما رواه الأنصاري: حدثنا أشعث (3)، ثنا بكر، عن أبي رافع «أن مولاته أرادت أن تُفرِّق بينه وبين امرأته، فقالت: هي يومًا يهودية ويومًا نصرانية، وكل مملوكٍ لها حرٌّ، وكل مالٍ لها في سبيل الله، وعليها المشي إلى بيت الله، إن لم تفرِّق (4) بينهما. فسألت عائشةَ وابن عمر وابن عباس وحفصة وأم سلمة، فكلهم قال لها: أتريدين أن تكوني مثل هاروت وماروت؟ وأمروها أن تُكفِّر يمينها، وتُخلِّي بينهما» (5). _________ (1) في النسختين: «أحد». (2) ينظر: «التمهيد» (16/ 73 - 74) و «المغني» (1/ 390). (3) في النسختين: «أشعب». وهو تصحيف، والتصويب من مصادر التخريج، وهو أشعث بن عبد الملك الحمراني البصري، ترجمته في «تهذيب الكمال» (3/ 277). (4) «ب»: «يفرق». (5) أخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (8914) والدارقطني في «السنن» (5/ 288 - 289) والبيهقي في «السنن الكبرى» (10/ 65) وابن حزم في «المحلى» (8/ 8) من طريق الأنصاري به. وصححه ابن القيم في «أعلام الموقعين» (3/ 518). وقد أخرج هذه القصة عبد الرزاق في «المصنف» (16000، 16013) والبخاري في «التاريخ الكبير» (5/ 281) والأثرم كما في «مجموع الفتاوى» (33/ 188).
(1/322)
وقال يحيى بن سعيد القطان: عن سليمان التيمي، حدثنا بكر بن عبد الله، عن أبي رافع فذكره عن زينب (1). ورواه الأوزاعي: حدثني جَسْر (2) بن الحسن، حدثني بكر بن عبد الله المزني، حدثني رفيع (3) فذكره، وذكر فيه العتق (4). فهذه ثلاث طرقٍ، فقد بَرِئَ سليمان التيمي من عُهدة التفرُّد بذِكْر العتق بمتابعة أشعث (5) وجَسر (6) بن الحسن له، حتى ولو تَفرَّد بها التيمي فهو _________ (1) «عن زينب» ليس في «ب». والأثر أخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (8913) والبيهقي في «السنن الكبرى» (10/ 66) والذهبي في «تذكرة الحفاظ» (3/ 1087). (2) في «ح»: «حسن». وهو تصحيف. وهو أبو عثمان جسر بن الحسن اليمامي ويقال: الكوفي ويقال: البصري، الجمهور على تضعيفه. ترجمته في «تهذيب الكمال» (4/ 556) و «ميزان الاعتدال» (1/ 398). (3) كذا وقع في هذه الرواية، وفي الروايتين السابقتين: «أبو رافع». وأبو رافع هو نفيع ـ بالنون ـ الصائغ المدني، نزيل البصرة، مولى ابنة عمر بن الخطاب، وقيل: مولى ليلى بنت العجماء. أدرك الجاهلية، ولم يَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم -. ترجمته في «تهذيب الكمال» (30/ 14). (4) أخرجه إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني في «المترجم» ـ كما في «العقود» لابن تيمية (ص 260) و «أعلام الموقعين» للمصنف (3/ 50) ـ وأبو العباس الأصم في «الثاني من حديثه» (18). (5) «ب»: «أشعب». وهو تصحيف تقدم التنبيه عليه. (6) «ح»: «وحسن». وهو تصحيف، تقدم التنبيه عليه أيضًا.
(1/323)
أَجَلُّ مِنْ أن يُرَدَّ ما تفرَّد به، وهو أَجَلُّ مِنَ الذين لم يذكروا الزيادة. فصحَّ ذِكْرُ العتق في هذا الأثر وزال الارتياب. فهؤلاء ستة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يُعلم لهم مخالفٌ أفتَوْا من قالت: كل مملوكٍ لها حرٌّ إن لم يفرق بين مملوكها وبين امرأته، أن تُكفِّر يمينها، وتُخلِّي بين الرجل وامرأته. وهُم ابن عباس في سَعة علمه، وابن عمر في شِدَّة وَرَعه وتحرِّيه، وأبو هريرة مع كثرة حِفْظه، وعائشة وحفصة وأم سلمة، وهؤلاء من أفقه نساء الصحابة، أو أَفْقَهُهن على الإطلاق. فإن كان التقليد (1) فمَن جعل هؤلاء بينه وبين الله أَعْذَرَ عند الله ممَّن جعل بينه وبينه مَن لا يدانيهم، وإن كان الدليل (2) والحجة فهاتوا دليلًا واحدًا لا مَطْعَنَ (3) فيه من كتاب الله أو سُنة رسوله أو قياسٍ يستوي فيه حكم الأصل والفرع على وقوع الطلاق المحلوف به. وأكثركم لم يعوِّل في ذلك إلَّا (4) على ما ظنه من الإجماع، وهو معذورٌ قبل الاطلاع على النزاع، فما عذره بعد الاطلاع على أن المسألة مسألة خلافٍ بين الأئمة إذا استحل عقوبة من يُفتي بها وجاهَرَ بالكذب والبَهت أنه خالفَ إجماع الأُمة، أَفَتَرى هؤلاء الذين هم من سادات الأُمة وعلمائها يُفتُون بالكفارة في العتق وبلزوم الطلاق، وهل يمكن بشرًا على وجه الأرض أن يُفرِّق بين قول الحالف: إن فعلتُ كذا فعبدي حرٌّ. وبين قوله: إن فعلتُ كذا وكذا (5) فامرأتي طالق. بفرقٍ _________ (1) «ب»: «للتقليد». (2) «ب»: «للدليل». (3) «ح»: «يطعن». (4) «إلا» سقط من «ح». (5) «وكذا» ليس في «ب».
(1/324)
تَلُوح منه رائحة الفقه. الوجه الثاني من الوجوه المبينة (1) أن المسألة مسألة نزاعٍ، لا مسألة إجماعٍ: ما رواه عبد الرزاق في «جامعه» (2): حدثنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه: «أنه كان لا يرى الحلف بالطلاق شيئًا. قلت: أكان يراه يمينًا؟ قال: لا أدري». الوجه الثالث: ما رواه سُنيد (3) بن داود في «تفسيره» (4) حدثنا عباد بن عباد المهلَّبي، عن عاصم الأحول، عن عكرمة في رجلٍ قال لغلامه: «إن لم أَجلِدْك مائة سوطٍ فامرأتي طالق. قال: لا يَجلِد غلامَه، ولا يُطلِّق امرأتَه، هذا من خُطوات الشيطان». الوجه الرابع: أن في الطلاق المعلَّق بالشرط قولين للعلماء: أحدهما: يقع عند وقوع شرطه. والثاني: لا يقع بحالٍ، ولا يتعلق الطلاق بالشرط، كما لا يتعلق النكاح به. وهذا اختيار أَجَلِّ أصحاب الشافعي الذي أخذ عنه وكان يلازمه: أبو عبد الرحمن (5)، ولا ينزل اختياره عن درجة من له وجهٌ من المتأخرين، بل _________ (1) «ح»: «المثبتة». (2) «المصنف» (11401) لكن شيخ عبد الرزاق فيه ابن جريج، لا معمر. (3) «ح»: «سيد». وهو تصحيف، وسنيد هو الحسين بن داود المصيصي أبو علي المحتسب، وسنيد لقب غلب عليه، ترجمته في «تهذيب الكمال» (12/ 161). (4) عزاه إليه المصنف في «إغاثة اللهفان» (2/ 791) ... وابن كثير في «تفسيره» (1/ 479). (5) سمَّاه المصنِّف في «أعلام الموقعين» (5/ 553) وزاد مقامه تعريفًا؛ فقال: «هذا اختيار أبي عبد الرحمن أحمد بن يحيى بن عبد العزيز الشافعي أحد أصحاب الشافعي الأجلة أو أجلهم، وكان الشافعي يُجِلُّه ويكرمه ويكنيه ويعظِّمه ... وذكره أبو إسحاق الشيرازي في «طبقات أصحاب الشافعي»، ومحل الرجل من العلم والتضلُّع منه لا يُدفَع، وهو في العلم بمنزلة أبي ثور وتلك الطبقة، وكان رفيق أبي ثور، وهو أجلُّ من جميع أصحاب الوجوه من المنتسبين إلى الشافعي، فإذا نزل بطبقته إلى طبقة أصحاب الوجوه كان قوله وجهًا، وهو أقل درجاته».
(1/325)
هو أجلُّ من أصحاب الوجوه. وهو مذهب داود بن علي الأصبهاني وابن حزم وأصحابهما. قال أبو محمد بن حزم (1): «واليمين بالطلاق لا يلزم، سواء برَّ أو حَنِثَ لا يقع به طلاق. ولا طلاق إلَّا كما أمره الله عز وجل، ولا يمين إلَّا كما أمر الله على لسان رسوله. والطلاق بالصفة عندنا (2) كما هو اليمين لا يجوز. وكل ذلك لا يلزم، ولا يكون طلاقًا إلَّا كما أمر الله عز وجل به وعلمه، وهو القصد إلى الطلاق، وأمَّا ما عدا ذلك فباطل. وممَّن قال بقولنا في أن اليمين بالطلاق ليس شيئًا، ولا يُقضى به على من حلف به: علي بن أبي طالب وشريح وطاوس، ولا يُعرف لعليٍّ مخالفٌ من الصحابة». الوجه الخامس: أن أبا الحسين القدوري ذكر في «شرحه» (3) أنه إذا قال: طلاقُكِ عليَّ واجبٌ أو لازمٌ أو فرضٌ أو ثابتٌ، أو إن فعلتِ كذا فطلاقُكِ عليَّ واجبٌ أو لازمٌ أو ثابتٌ (4)؛ ففعلتْ، قال: فعلى قول أبي حنيفة لا يقع _________ (1) «المحلى» (9/ 476 - 478). (2) «ح»: «عند». (3) «شرح مختصر الكرخي»، ولم يُطبع بعد، وله نسخ متفرقة في مكتبات العالم، ينظر «الفهرس الشامل للتراث العربي الإسلامي المخطوط الفقه وأصوله» (5/ 462 - 463). (4) «أو إن فعلت كذا فطلاقك علي واجب أو لازم أو ثابت» ليس في «ب».
(1/326)
الطلاق في الكل، وعند أبي يوسف إن نوى الطلاق يقع في الكل، وعن محمد يقع في قوله لازم، ولا يقع في قوله واجب. قال صاحب «الذخيرة» (1): وكان (2) الشيخ ظهير الدِّين (3) المرغيناني يُفتي بعدم (4) الوقوع في الكل (5). الوجه السادس (6): أن القَفَّال أفتى في قوله: الطلاق يلزمني؛ أنه لا يقع به الطلاق، نواه أو لم يَنوِه. قال (7) أبو القاسم عبد الرحمن بن يونس (8) في «شرح التنبيه» في قول المصنِّف: وإن قال: الطلاق والعتاق لازمٌ لي ونواه _________ (1) «ذخيرة الفتاوى» المشهورة بـ «الذخيرة البرهانية»، للإمام برهان الدِّين محمود بن أحمد بن عبد العزيز بن عمر بن مازه البخاري المتوفى سنة 616، اختصرها من كتابه «المحيط البرهاني». «كشف الظنون» (1/ 823). والنقل في «المحيط البرهاني» (3/ 209). (2) «ح»: «وكا». (3) «ب»: «ابن». والمرغيناني هو الإمام ظهير الدِّين أبو الحسن علي بن عبد العزيز المرغيناني المتوفى سنة ست وخمسمائة، ترجمته في «الجواهر المضية» (1/ 364). (4) «ح»: «بعد». (5) ينظر: «المبسوط» للسرخسي (9/ 34). (6) في النسختين: «الخامس». فتكرر فيهما الخامس مرتين، ومشيا على هذا الخطأ إلى آخر الأوجه الأحد عشر، وقد صوبناها، واكتفينا بالتنبيه عليها هنا. (7) «قال» تكرر في «ح». (8) لم أعرفه، ولمعرفة شروح «التنبيه» ينظر «كشف الظنون» (1/ 489 - 492) والمشهور من شراح «التنبيه» بابن يونس هو الإمام شرف الدِّين أبو الفضل أحمد بن موسى بن يونس الإربلي الشافعي، المتوفى سنة 622 هـ، قال الذهبي: «شرح كتاب «التنبيه» فأجاد». ترجمته في «تاريخ الإسلام» للذهبي (13/ 696) و «طبقات الشافعية الكبرى» للسبكي (8/ 36).
(1/327)
لزمه؛ لأنهما يقعان بالكناية مع النية، وهذا اللفظ محتمل (1) [ق 36 أ] فجُعِل كناية. وقال الروياني: الطلاق لازم لي صريح. وعدَّ ذلك في صرايح (2) الطلاق. ولعل وجهه غلبة (3) استعماله لإرادة الطلاق. وقال القَفَّال في «فتاويه»: ليس بصريحٍ ولا كنايةٍ حتى لا يقع به الطلاق، وإن نواه (4). الوجه السابع: أن أشهب بن عبد العزيز ـ وهو من أَجَلِّ أصحاب مالك ـ أفتى فيمن قال لامرأته: إن فعلتِ كذا وكذا فأنت طالق، ففَعَلَتْه تَقصِد وقوعَ الطلاق به، أنها لا تُطلَّق، مقابلةً لها بنقيض قَصْدِها (5)؛ كما لو قتل الوارث مَوْرُوثَه (6) أو المدبَّر سيِّدَه أو الموصى له الموصي (7) ونظائر ذلك ممَّا يُقابَل به الرجل بنقيض قَصْدِه. ذكر ذلك عنه ابن رشد في «مقدماته» (8) وهذا محض الفقه لو كان الحالف يقع به الطلاق (9). الوجه الثامن: أن أصحاب مالكٍ من أشد الناس في هذا الباب، فلا يَعذِرون الحالف بجهلٍ ولا نسيان، و (10) يُوقِعون الطلاق على من حلف _________ (1) «ح»: «يحتمل». (2) «ح»: «صراح». (3) في النسختين: «عليه». وهو تصحيف. (4) ينظر «كفاية النبيه» لابن الرفعة (14/ 431). (5) من قوله «ففعلته» إلى هنا تكرر في «ح». (6) أي: من يرثه. (7) «الموصي» سقط من «ح». (8) «المقدمات الممهدات» (1/ 576) ووصفه ابن رشد بقوله: «وهو شذوذ». (9) ينظر «مواهب الجليل» للحطاب (4/ 46). (10) «نسيان و». سقط من «ح».
(1/328)
على ما لا يعلم فبان كما حلف عليه، ومع هذا فقد حكوا (1) عدم الوقوع بالحلف بالطلاق عن علي بن أبي طالب وشريح وطاوس، ونحن نذكر ألفاظهم. قال أبو القاسم عبد العزيز بن إبراهيم بن أحمد بن بَزِيزَة في كتاب «مطامح الأفهام في شرح كتاب الأحكام»: «الباب الثالث في حكم اليمين بالطلاق: فقد (2) قدَّمْنا في كتاب الأيمان اختلافَ العلماء في اليمين بالطلاق والعتق والمشي وغير ذلك، هل يلزم أم لا؟ فقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وشريح وطاوس: لا يلزم من (3) ذلك شيءٌ، ولا يُقضى بالطلاق على مَن حلف به فحَنِثَ (4). ولا يُعرف لعليٍّ في ذلك مخالِفٌ من الصحابة». هذا لَفْظُه مع اعتقاده وقوعَ الطلاق على من حلف به فحَنِثَ (5)، ولم يطعن في هذا النقل، ولم يَعتَرِضْه باعتراضٍ. الوجه التاسع: أن فقهاء الإمامية مِن أوَّلهم إلى آخرهم يَنقُلون عن أهل البيت أنه لا يقع الطلاق المحلوف به، وهذا متواترٌ عندهم عن جعفر بن محمد وغيره من أهل البيت. وهَبْ أن مكابرًا كذَّبهم كلَّهم، وقال: قد تواطؤوا على الكذب عن أهل البيت. ففي القوم فقهاءُ وأصحاب علمٍ ونظرٍ في اجتهاد، وإن كانوا مخطئين مبتدعين في أمر الصحابة، فلا يُوجِب ذلك الحكمَ عليهم كلِّهم بالكذب _________ (1) «ح»: «حكموا». (2) «ب»: «قد». (3) «ب»: «عن». (4) قول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ومَن ذُكر معه هو في يمين الطلاق قبل الزواج. (5) من قوله: «ولا يعرف لعلي في ذلك» إلى هنا ليس في «ب».
(1/329)
والجهل. وقد روى أصحاب الصحيح عن جماعة من الشيعة، وحملوا حديثهم، واحتج به المسلمون، ولم يزل الفقهاء يَنقُلون خلافهم ويبحثون معهم. والقوم وإن أخطؤوا في بعض المواضع لم يلزم من ذلك أن يكون جميع ما قالوه خطأً حتى يُردَّ عليهم. هذا لو انفردوا بذلك عن الأُمة، فكيف وقد وافقوا في قولهم من قد حكينا قولهم وغيره ممَّن لم نقف على قوله! الوجه العاشر: أنه لم يَزَلْ أئمَّة الإسلام يُفتُون بما يظهر لهم من الدليل وإن لم يتقدمهم إليه أحدٌ. وإذا شئت أن تقف على ذلك فانظر إلى كثيرٍ من فتاوى الأئمة التي لا تُحفَظ عن أحدٍ من أهل العلم قبلهم. قال إسحاق بن منصور الكَوْسَجُ: سألت إسحاق عن مسألةٍ، فذكر قوله فيها، فقلت: إن أخاك أحمد بن حنبل أجاب فيها بمثل جوابك. فقال: ما ظننت أن أحدًا يوافقني عليها (1). وقال ابن المنذر (2) ـ وهو من أعلم الناس بالإجماع والاختلاف ـ: «لم _________ (1) نقله ابن حزم في «المحلى» (7/ 224) بنحو هذا اللفظ. والذي في «مسائل أحمد وإسحاق» للكوسج (5/ 2074 - 2075): «قلت لأبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل: العمرة واجبة؟ قال: هي واجبة. قلت: ويقضي منها المتعة؟ قال: نعم. قال إسحاق: كما قال، وأجاد، ظننت أنَّ أحدًا لا يتابعني عليه». وهذا اللفظ لا يصلح للاستدلال به هنا، لأن المصنِّف وضعه تحت عنوان: «أنه لم يَزَلْ أئمَّة الإسلام يُفتُون بما يظهر لهم من الدليل وإن لم يتقدمهم إليه أحدٌ». ولا ينطبق هذا على مسألة وجوب العمرة وأنه يقضي منها المتعة. (2) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وووجدت ابن المنذر يقول في كتاب «الإجماع» (ص 35): «أجمعوا أن الصلاة في مرابض الغنم جائزة. وانفرد الشافعي فقال: إذا كان سليمًا من أبوالها». بل وجدت ابن المنذر يقول في «الأوسط» (2/ 322): «وقال أبو ثور كقول الشافعي في الأبوال والأرواث أنها كلها نجسة رطبًا كان أو يابسًا. وقال الحسن: البول كله يُغسل. وكان يكره أبوال البهائم كلها، يقول: اغسل ما أصابك منها. وقال حماد في بول الشاة: اغسله». ووجدت الماوردي يقول في «الحاوي الكبير» (2/ 249): «مذهب الشافعي أن أبوال جميعها وأرواثها نجسة بكل حال، وبه قال من الصحابة ابن عمر، ومن التابعين الحسن، ومن الفقهاء أبو ثور».
(1/330)
يَسبِقِ الشافعيَّ إلى نجاسة الأبوال أحدٌ». يريد بول ما يُؤكل لحمُه. وقال شيخنا (1): «لم يَسبِق أحمدَ بن حنبل (2) إلى الحكم بإسلام أولاد أهل (3) الذمة الصغار بموت آبائهم أحدٌ (4). ولم يسبقه إلى إقعاد المرأة أوَّلَ ما ترى الدم يومًا وليلةً ثم تُصلِّي وهي ترى الدم أحدٌ (5). وأمَّا غيره فمَن له أدنى اطلاع على أقوال السلف والخلف لا يخفى عليه _________ (1) لم أقف عليه بهذا اللفظ، ووجدت ابن تيمية يقول في «درء تعارض العقل والنقل» (8/ 433 - 434): «فعن أحمد رواية أنه يحكم بإسلامه، لقوله: «فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه». فإذا مات أبواه بقى على الفطرة. والرواية الأخرى كقول الجمهور: إنه لا يحكم بإسلامه. وهذا القول هو الصواب، بل هو إجماع قديم من السلف والخلف، بل هو ثابت بالسُّنة التي لا ريب فيها». (2) «بن حنبل» ليس في «ح». (3) «أهل». سقط من «ح». (4) قال المصنِّف في «أحكام أهل الذمة» (2/ 896): «وهذا قولٌ في مذهب أحمد، اختاره بعض أصحابه، وهو معلوم الفساد». (5) قال المرداوي في «الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف» (1/ 360): «هذا المذهب بلا ريب، نصَّ عليه في رواية عبد الله وصالح والمروذي». ثم قال: «وجلوسها يومًا وليلةً قبل انقطاعه من مفردات المذهب». وينظر «شرح العمدة» لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 558 - 561).
(1/331)
ذلك، ولكثرته تركنا ذِكْرَه. الوجه الحادي عشر: أنَّا لو لم نعلم النزاع في هذه المسألة لم يكن لنا عِلْمٌ بالإجماع المعلوم الذي تكون مخالفته كفرًا أو فسقًا عليها بل ولا ظَنٌّ به، فإنا قد رأينا أكثر هؤلاء الذين يحكون الإجماع إنما يحكونه على حَسَب اطلاعهم، ومعناه عدم العلم بالمخالف، وقد رأيتَ مِن نَقْضِ إجماعاتهم التي حكوها ما هو قليلٌ من كثيرٍ. فغاية هذه الإجماعات أن تفيدنا عدم علم ناقلها بالخلاف، وهذا بمجرده لا يكون عذرًا للمجتهد في ترك موجَب الدليل، والله أعلم. فصل ومن ذلك: نقل من نقل الإجماع على أن المتكلم بالطلاق الثلاث في مرةٍ واحدةٍ يقع به الثلاث، وقال بموجَب عِلْمِه وما بلغه، وإلَّا فالخلاف في هذه المسألة ثابتٌ من وجوهٍ (1): الوجه الأول: أنه على عهد الصديق إنما كان يُفتى بأنها واحدة، كما روى مسلم في «صحيحه» (2) أن أبا الصهباء قال لعبد الله بن عباسٍ (3): ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدرًا من خلافة عمر مَن طَلَّقَ ثلاثًا جُعلت واحدة؟! قال: نعم ... » وذكر الحديث. ومَن تتبع ألفاظه _________ (1) في حاشية «ب» تعليق طويل لبيان هذه المسألة، يظهر أنه نقله عن شيخ الإسلام ابن تيمية بتصرُّف يسير، وهو في «جامع المسائل» (1/ 357). (2) «صحيح مسلم» (1472). (3) «ح»: «عامر».
(1/332)
وطُرُقه جزم ببطلان تلك التأويلات التي غايتها أن يَتطرَّق إلى بعض ألفاظه، وسياق طُرُقه (1) وألفاظه صريحٌ في المراد. فلو قال القائل: إن هذا مذهب أبي بكر الصديق وجميع الصحابة في عهده، أصاب وصدق، حاش مَن لم يُصَرِّح منهم بأنها ثلاثٌ [ق 37 ب] وهم جَمْعٌ من الصحابة صحَّ ذلك عنهم بلا ريب. فأقلُّ أحوال المسألة أن تكون مسألة نزاع بين الصحابة. الوجه الثاني: أنه صحَّ عن ابن عباس بإسنادٍ صحيحٍ أنه أفتى بأنها واحدة، ذكر ذلك أبو داود (2) وغيره. الوجه الثالث: أن هذا مذهب الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف، حكاه عنهما ابن وضاح (3) وابن مغيث في «وثائقه» (4) وغيرهما. الوجه الرابع: أنه إحدى الروايتين عن علي وابن مسعود وابن عباس (5) .. الوجه الخامس: أنه مذهب طاوس وخِلَاس بن عمرو ومحمد بن إسحاق وداود وجمهور أصحابه (6). الوجه السادس: أنه مذهب إسحاق بن راهويه في غير المدخول بها، _________ (1) من قوله: «جزم ببطلان» إلى هنا سقط من «ح». (2) «سنن أبي داود» (2197) وذكر أنه روي عن عكرمة. (3) ينظر «مجموع الفتاوى» (33/ 83). (4) «المقنع في علم الشروط» (ص 80). (5) ينظر «أحكام القرآن» للقرطبي (3/ 132). (6) ينظر «مجموع الفتاوى» (33/ 8).
(1/333)
صرَّح به في كتاب «اختلاف العلماء» له، وهو مذهب بعض فقهاء التابعين (1). الوجه السابع: أنه أحد القولين في مذهب مالك، حكاه التلمساني في «شرح التفريع». قال ابن الجلاب: ومَن طَلَّقَ امرأته ثلاثًا في كلمةٍ واحدةٍ (2) حَرُمَتْ عليه. قال الشارح: إذا كان ذلك في كلمات فلا خلاف في حُرمَتِها؛ لقوله تعالى: {اِلطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 227] إلى قوله: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 228] وإن كان في كلمة ففيه خلاف، هل يَرجِع إلى الواحدة؟ والمشهور من المذهب أنها ثلاث. ثم قال الشارح في موضع آخر في قوله: مَن طلَّق امرأته ثلاثًا في كلمة. قال: هذا تنبيه على الخلاف، وهو أن الثلاث في كلمة تَرجِع إلى الواحدة، وهو قول شاذٌّ في المذهب، ووجهه ما رُوي أن الثلاث على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت واحدة. الوجه الثامن: أنه أحد القولين في مذهب أبي حنيفة، اختاره محمد بن (3) مقاتل الرازي، حكاه عنه الطحاوي (4). _________ (1) السياق في «ح»: «وهو مذهب بعض فقهاء التابعين في غير المدخول بها صرح به في كتاب اختلاف العلماء». قلنا: قد رواه عبد الرزاق في «المصنف» (11080) عن طاوس وعطاء وأبي الشعثاء. (2) «واحدة» ليس في «ب». (3) «ب»: «و». ومحمد بن مقاتل الرازي من أصحاب محمد بن الحسن الشيباني، ترجمته في «تاريخ الإسلام» (5/ 1247) و «الجواهر المضية» (2/ 134). (4) لم أجده في كتب الطحاوي، وقال المصنف في «إغاثة اللهفان» (1/ 563): «حكاه عنه المازري في كتابه «المعلم بفوائد مسلم». والذي وقفت عليه في «المعلم» (2/ 191) قوله: «طلاق الثلاث في مرة واحدة واقع لازم عند كافة الفقهاء، وقد شذ الحجاج بن أرطاة وابن مقاتل فقالا: لا يقع». فلم يقيد ابن مقاتل، ووجدت في «المفهم» (4/ 237): «وهو مذهب مقاتل». فالله أعلم. وقال المصنِّف في «أعلام الموقعين» (3/ 479): «حكاه أبو بكر الرازي عن محمد بن مقاتل». ولم أجده فيما وقفت عليه من كتب أبي بكر الرازي حيث ذكر المسألة، وهي «أحكام القرآن» (2/ 83 - 89) و «مختصر اختلاف العلماء» (2/ 411) و «شرح مختصر الطحاوي» (5/ 33 - 46).
(1/334)
الوجه التاسع: أنه أحد القولين في مذهب أحمد، حكاه شيخنا واختاره وأفتى به (1)، وأقلُّ درجات اختياراته أن يكون وجهًا في المذهب. ومن الممتنع أن يكون اختيار ابن عقيل وأبي الخطاب (2) والشيخ أبي محمد (3) وجوهًا يُفتى بها، واختيارات شيخ الإسلام لا تصل إلى هذه المرتبة. فالذي يُجزَم به أن دخول الكفارة في الحلف بالطلاق وكون الثلاث في كلمةٍ واحدةٍ واحدة (4) أحد الوجهين في مذهب أحمد، وهو مخرَّج على أصوله أصحَّ تخريج. والغرض نقض قول مَن ادعى الإجماع في ذلك، ولتقرير هذه المسألة موضع آخر (5). _________ (1) هذه إحدى المسائل الكبار التي اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية وأكثر من التصنيف في نصرتها، حتى أصبح يُعرف بها، وله فيها أجوبة كثيرة، مختصرة ومطولة، وينظر المجلد الثالث والثلاثون من «مجموع الفتاوى»، وقد أُوذي بسببها وحُبس رحمه الله تعالى. (2) أبو الخطاب محفوظ بن أحمد بن الحسن الكَلْوَذاني أحد أعيان المذهب الحنبلي، توفي سنة عشر وخمسمائة. ترجمته في «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 270 - 290). (3) شيخ الإسلام موفق الدِّين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، صاحب «المغني» وغيره من الكتب السائرة، توفي سنة عشرين وستمائة. ترجمته في «ذيل طبقات الحنابلة» (3/ 281 - 298). (4) «واحدة» سقط من «ح». (5) ينظر: «زاد المعاد» (5/ 344 - 383) و «إغاثة اللهفان» (1/ 499 - 569) و «بدائع الفوائد» (3/ 31 - 38). ولقد نصر الإمام ابن القيم هذه المسألة وأُوذي بسببها كذلك. قال ابن كثير في «البداية والنهاية» (18/ 523): «وقد كان مُتصدِّيًا للإفتاء بمسألة الطَّلاق الَّتي اختارها الشَّيخ تقيُّ الدِّين ابن تيمية - رحمه الله - وجرت له بسببها فصولٌ يطول بَسطُها مع قاضي القضاة تقيِّ الدِّين السُّبكيِّ وغيره».
(1/335)
الوجه العاشر: أنه من المحال أن تُجمِع الأُمة على لزوم الثلاث وفيها حديثان صحيحان صريحان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا معارض لهما ولا ناسخ، وحديث آخر ظاهر في عدم الوقوع. الحديث الأول: حديث أبي الصهباء عن ابن عباسٍ، وقد رواه مسلم في «صحيحه» (1). الحديث (2) الثاني: قال الإمام أحمد في «مسنده» (3): حدثنا سعد بن إبراهيم حدثنا أبي حدثنا محمد بن إسحاق حدثني داود بن الحصين عن عكرمة ـ مولى ابن عباس ـ عن ابن عباس قال: «طَلَّقَ رُكانة بن عبد يزيد ـ أخو المطلب ـ امرأتَه ثلاثًا في مجلسٍ واحدٍ، فحزن عليها حزنًا شديدًا، فسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كَيْفَ طَلَّقَهَا؟ قال: طلقتُها ثلاثًا. قال: فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ؟ قال: نعم. قال: فَإِنَّمَا تِلْكَ وَاحِدَةٌ فَارْجِعْهَا إِنْ شِئْتَ. قال فرَجَعَها، قال: وكان _________ (1) «صحيح مسلم» (1472). (2) «الحديث» ليس في «ح». (3) «المسند» (2429). والحديث رواه أبو يعلى في «المسند» (2500) والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 339) والضياء في «المختارة» (11/ 362 - 363) ونقل ابن حجر في «الفتح» (9/ 362) تصحيحه عن أبي يعلى، وقد ضعفه البيهقي وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (2/ 640). وينظر «البدر المنير» لابن الملقن (8/ 102 - 107) و «إرواء الغليل» (7/ 144).
(1/336)
ابن عباس يرى أن الطلاق عند كل طُهْر». ورواه محمد بن عبد الواحد المقدسي في «مختارته» (1) التي هي أصح من صحيح الحاكم. فهذا من رواية عكرمة عن ابن عباس، والأول من رواية طاوس (2)، وكان طاوس (3) وعكرمة (4) يقولان: هي واحدة. قال إسماعيل بن إبراهيم: ثنا أيوب عن عكرمة: إذا قال أنتِ طالق ثلاثًا بفَمٍ واحدٍ فهي واحدة (5). قال أبو داود (6): وروى حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس: إذا قال أنتِ طالق ثلاثًا بفَمٍ واحد فهي واحدة. فهؤلاء رواة الحديث عن ابن عباس قد أفتَوْا به، ومنهم محمد بن إسحاق كان يفتي بأن مَن قال: أنتِ طالق ثلاثًا، فهي واحدة، وكان يقول: «مَن جَهِلَ السُّنَّة يُرَدُّ (7) إليها» (8). _________ (1) «الأحاديث المختارة» (11/ 363). (2) يعني حديث أبي الصهباء عن ابن عباس المتقدِّم، وهو في «صحيح مسلم» (1472) فإنه من رواية طاوس عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. (3) أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (11080) وابن أبي شيبة في «المصنف» (18179). (4) أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (11081). (5) «سنن أبي داود» (11081). (6) «السنن» (2/ 260). (7) «ح»: «فيرد». (8) حكى قولَ ابن إسحاق الإمامُ أحمد عنه كما في «أعلام الموقعين» (3/ 478).
(1/337)
وهذا عين (1) الفقه؛ فإن العامِّيَّ الجاهل إذا جَهِلَ سُنة الطلاق وطلق رُدَّ طلاقُه إلى السُّنَّة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «كُلُّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» (2). وأمَّا الحديث الظاهر في عدم لزوم الثلاث فهو حديث محمود (3) بن لَبيد قال: «أُخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا، فقام (4) غضبانَ، ثم قال: أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللهِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟! حتى قام رجل فقال: يا رسول الله، ألا أَقتُلُه». رواه النسائي (5). ولم يُقل إنه أجازه عليه، بل الظاهر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي يَقرُبُ من القطع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يُجِيزُ حكمًا تلاعَبَ مُوقِعه بكتاب الله، بل هو أشدُّ ردًّا له وإبطالًا، والله المستعان. _________ (1) «ح»: «غير». وهو تحريف. (2) أخرجه البخاري (2697) ومسلم (1718) عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -، وهذا لفظ مسلم. (3) «ب»: «محمد». والمثبت هو الصواب، ومحمود بن لبيد الأنصاري - رضي الله عنه - صحابي صغير، ترجمته في «الإصابة» (10/ 67 - 68). (4) «فقام» سقط من «ح». (5) «المجتبى» (3401) وفي «السنن الكبرى» (5564) من طريق ابن وهب، قال: أخبرني مخرمة، عن أبيه قال: سمعت محمود بن لبيد به. وأعله النسائي في «الكبرى» فقال: «لا أعلم أحدًا روى هذا الحديث غير مخرمة». وقال ابن كثير في «التفسير» (1/ 621): «فيه انقطاع». وقال ابن حجر في «فتح الباري» (9/ 362): «رجاله ثقات؛ لكن محمود بن لبيد وُلِدَ في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يَثبُت له منه سماعٌ». وقال: «رواية مخرمة عن أبيه عن مسلم في عدة أحاديث، وقد قيل إنه لم يسمع من أبيه». وقد صحَّحه المصنف في «زاد المعاد» (5/ 220) وأجاب عمَّا أُعِلَّ به.
(1/338)
فصل ومن ذلك: حكاية مَن حكى الإجماع على وقوع الطلاق في الحيض بحَسَب ما بلغه، والمسألة مسألة نزاع، لا مسألة إجماع، فصحَّ عن ابن عمر أنه قال في الرجل يُطلِّق امرأته [ق 37 أ] وهي حائض: لا يُعتَدُّ (1) بذلك. وصحَّ (2) عن طاوس «أنه كان لا يرى طلاقًا ما خالف وجه الطلاق ووجه العدَّة، وكان يقول: وجه الطلاق أن يُطلِّقها طاهرًا من غير جماع، أو إذا استبان حَملُها». وصحَّ عن خِلَاس بن عمرو أنه قال في الرجل يُطلِّق امرأته وهي حائض قال: «لا يُعتَدُّ بها» (3). قال أبو محمد بن حزم (4): «ويكفي من هذا كلِّه المسندُ البيِّن الثابت الذي خرَّجه أبو داود السِّجستاني (5) قال: حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، أنه سمع عبد الرحمن بن _________ (1) «ح»: «تعتد». (2) من هنا بدأ سقط طويل في «ح» وكتب بالحاشية: «هكذا وجدنا في الأصل». (3) أخرجه ابن حزم في «المحلى» (10/ 163). (4) «المحلى» (10/ 165 - 166). (5) «سنن أبي داود» (2185). والحديث أخرجه مسلم (1471/ 14) دون قوله: «ولم يرها شيئًا». وقال ابن عبد البر في «التمهيد» (15/ 65 - 66): «قوله في هذا الحديث «ولم يرها شيئًا» منكَرٌ عن ابن عمر؛ لِمَا ذكرنا عنه أنه اعتدَّ بها، ولم يقله أحدٌ عنه غير أبي الزبير، وقد رواه عنه جماعة جلة، فلم يقل ذلك واحد منهم، وأبو الزبير ليس بحجة فيما خالفه فيه مثله، فكيف بخلاف من هو أثبت منه».
(1/339)
أيمن مولى عزة يسأل ابن عمر ـ قال أبو الزبير: وأنا أسمع ـ كيف ترى في رجل طَلَّق امرأته حائضًا؟ فقال ابن عمر: طَلَّقَ ابن عمر امرأته وهي حائض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسأل عمر عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إن عبد الله بن عمر طلَّق امرأته وهي حائض. قال عبد الله: فردَّها عليَّ ولم يَرَها شيئًا، وقال: إِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْ أَوْ لِيُمْسِكْ. وقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ فِي قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ» (1). قال: وهذا إسنادٌ في غاية الصحة، لا يحتمل التوجيهات. والكلام على هذا الحديث وعلى الحديث الآخر: «أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ» (2) وبيان عدم التعارض بينهما له موضعٌ آخَرُ (3). والمقصِد أن المسألة من مسائل النزاع، لا من مسائل الإجماع، فأحد الوجهين في مذهب الإمام أحمد أنه لا يقع الطلاق في زمن الحيض، اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية (4)، وبالله التوفيق. _________ (1) قال أبو العباس القرطبي في «المفهم» (4/ 233): «وقوله: «وقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - «فطلقوهن في قبل عدتهن» هذا تصريح برفع هذه القراءة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، غير أنها شاذة عن المصحف، ومنقولة آحادًا، فلا تكون قرآنًا، لكنها خبر مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - صحيح ... ، وهي قراءة ابن عمر وابن عباس، وفي قراءة ابن مسعود: «لقبل طهرهن». قال جماعة من العلماء: وهي محمولة على التفسير، لا التلاوة». (2) أخرجه البخاري (5258) ومسلم (1471). (3) تكلم الإمام ابن القيم - رحمه الله - على هذه المسألة بتوسُّع في «تهذيب السنن» (2/ 483 - 516) وختمها بقوله: «وقد أفردت لهذه المسألة مصنفًا مستقلًّا، ذَكَرتُ فيه مذاهب الناس ومآخذهم، وترجيح القول الراجح، والجواب عمَّا احتجَّ به أصحاب القول الآخر». (4) «مجموع الفتاوى» (33/ 75 - 101).
(1/340)
فلنرجع إلى ما كنا فيه وهو المقصود بذِكْر هذا الفصل، وهو الوهم الواقع بظنِّ الإجماع فيما فيه النزاع حتى يُقَدَّمَ على مقتضى الحديث أو مقتضى الدليل، ثم يَسلُكُ من ظَنَّ الإجماع في تلك الأدلة مَسلَكَ التأويل، فيكون الحامل له على التأويل ما ظَنَّه من الإجماع، فإذا تبيَّن الخلاف الثابت في المسألة لم يَبْقَ للتأويل بما يخالف الظاهر مساغٌ، وبالله التوفيق. * * * * *
(1/341)
الفصل الرَّابع والعشرون في ذكر الطَّواغيت الأربع التي هدم بها أصحابُ التأويل الباطل معاقلَ الدِّين
وانتهكوا بها حُرمة القرآن ومحَوْا بها رسومَ الإيمان وهي: قولهم: إنَّ كلام الله وكلام رسوله أدلةٌ لفظيةٌ لا تُفيد عِلْمًا، ولا يَحصُل منها يقينٌ. وقولهم: إنَّ آيات الصِّفات وأحاديث الصِّفات مجازاتٌ لا حقيقة لها. وقولهم: إنَّ أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصَّحيحة التي رواها العُدول وتلقَّتْها الأُمة بالقَبول لا تُفيد العلم، وغايتها أن تُفيد الظنَّ. وقولهم: إذا تعارَضَ العقل ونصوص الوحي أخَذْنا بالعقل، ولم نلتفت إلى الوحي. فهذه الطَّواغيت الأربع هي التي فعلتْ بالإسلام ما فعلتْ، وهي التي مَحَتْ رُسُومَه، وأزالتْ مَعالِمَه، وهدمتْ قواعِدَه، وأسقطتْ حُرمةَ النُّصوص من القلوب، ونهجتْ طريق الطَّعن فيها لكل زنديقٍ ومُلحِدٍ، فلا يحتجُّ عليه المحتجُّ بحجَّة من كتاب الله أو سُنَّة رسوله إلَّا لجأ إلى طاغوتٍ من هذه الطَّواغيت واعتصم به، واتخذه جُنَّةً يصدُّ به عن سبيل الله. والله تعالى بحوله وقُوَّته ومنِّه وفضله قد كسر هذه [ب 77 أ] الطَّواغيت طاغوتًا طاغوتًا على أَلسنة خُلفاء رُسُله وورثة أنبيائه، فلم يَزَلْ أنصار الله ورسوله يَصيحون بأهلها من أقطار الأرض، ويرجمونهم بشُهُب الوحي،
(1/342)
وأدلة المعقول، ونحن نُفرِد الكلام عليها طاغوتًا طاغوتًا: الطَّاغوت الأول: قولهم: نصوص الوحي أدلةٌ لفظيةٌ، وهي لا تُفيد اليقين. قال متكلِّمهم (1): «مسألة: الدليل [اللفظي] (2) لا يُفيد اليقينَ إلَّا عند [تيقُّن] (3) أمور عشرة: عِصمة رواة مفردات تلك الألفاظ، وإعرابها، وتصريفها، وعدم الاشتراك والمجاز [والنَّقل] (4) والتَّخصيص بالأشخاص والأزمنة، وعدم الإضمار والتَّقديم والتَّأخير [والنَّسخ] (5)، وعدم المُعارِض العقلي الذي لو كان لرَجَحَ (6)؛ إذ ترجيح النَّقل على العقل يقتضي القدح في العقل المستلزم للقدح في النَّقل لافتقاره إليه، فإذا كان المنتج ظنيًّا فما ظنُّك بالنتيجة». قال شيخ الإسلام (7): والجواب عن هذا من وجوهٍ: أحدها: أنَّا لا نُسلِّم أنه موقوفٌ على هذه المقدمات العشرة، بل نقول ليس موقوفًا [إلَّا] (8) على ما به يُعرف مراد المتكلِّم، فإن مراد القائل بقوله: _________ (1) قاله الرازي في «محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين» (ص 51). (2) ليس في «ب». والمثبت من «المحصل». (3) ليس في «ب». والمثبت من «المحصل». (4) ليس في «ب». والمثبت من «المحصل». (5) ليس في «ب». والمثبت من «المحصل». (6) بعده في «المحصل»: «عليه». (7) لم أقف عليه فيما تحت يدي من كتب شيخ الإسلام - رحمه الله -، والظاهر أنه من «شرح أول المحصل» له، ولم يُوجد بعد. (8) ليس في «ب». وأثبته لاستقامة النص.
(1/343)
«الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين» أنه لا يُعلم بها مراد المتكلم. فأمَّا كون مراده مطابقًا للحق فذاك مبنيٌّ على ثبوت صِدْقه وعِلْمه، وليس مرادهم هذا، وإن أرادوا ذلك دون الأول فهو موقوفٌ على ثبوت عصمة المتكلم، ومعرفة صِدْقه فقط، فمَن عَرَف أن الرَّسول أراد هذا المعنى وعرف أنه صادق؛ حصل له العلم اليقيني، والمقدمة الثَّانية إيمانية؛ فإن كل من شَهِدَ أن محمدًا رسول الله عَلِمَ أنه خبرٌ طابقَ لمُخبره، فلا يجوز عليه الإخبار بما لا يُطابق مخبره، وأمَّا المقدمة الأولى فتعرفها علماء أُمته وورثتُه وخلفاؤه. قلت: هاهنا أمران: أحدهما: اليقين بمراد المتكلم. والثَّاني: اليقين بأن ما أراده هو الحق. فقول القائل: «كلام الله ورسوله لا يفيد اليقين» يحتمل أن يريد به مجموع الأمرين، أي: لا يفيد علمًا بمراده، ولو أفاد علمًا بالمراد لم يُفِد علمًا بكون ذلك المراد مطابقًا للحقِّ في نفس الأمر. ويحتمل أن يريد به المعنى الأول فقط، وأنه لو حصل لنا اليقين بمراده لحصل لنا اليقين بكونه حقًّا في نفس الأمر. ويحتمل أن يريد به المعنى الثَّاني فقط، وهو أنه لو حصل اليقين بمراده لم يحصل اليقين بكونه مطابقًا للحقِّ، فإن ذلك لا يعلم إلَّا بأدلة المعقول، لا يُعلم بمجرَّد الخبر. فهذه ثلاثة احتمالات. فإن أراد المعنى الأوَّل أو الثَّالث كان ذلك قدحًا في الإيمان به، وتجويز [ب 77 ب] الكذب عليه، وأمثال ذلك منافٍ للجزم
(1/344)
بتصديقه. وإن أراد المعنى الثَّاني وَحْدَه وهو أنها لا يحصل منها اليقين بمراده، ولو حصل ذلك منها لحصل اليقين بكونه حقًّا؛ فهذا وإن لم يقدح في تصديقه فهو قادحٌ في تحكيمه، والتحاكُم إليه، والاهتداء بكلامه، موجبٌ لعَزْله عن ذلك والإعراض عنه؛ فإن التحاكم إلى من لا يُفيدُك كلامُه عِلْمًا ولا يقينًا لا يحصل به المقصود. فإذا انضم إلى هذه المقدِّمة أن النَّقل إذا عارَضَ العقل وجب تقديم العقل كمل عزلُ الوحي، واستحكم الإعراض عنه في باب معرفة الله عز وجل وأسمائه وصفاته وأفعاله. فنقول: معرفة مراد المتكلم تحصل بالنقل المتواتر، كما حصل العلم بأنه قال ذلك اللفظَ بالنقل المتواتر، فإنَّا نعلم أن قوله: {وَلِلَّهِ عَلَى اَلنَّاسِ حَجُّ اُلْبَيْتِ} [آل عمران: 97] متواترٌ نَقْلُ لفظِه ونَقْلُ معناه عن الرسول، ونعلم أن المراد بالله ربُّ العالمين، وبالنَّاس بنو آدم، وبالبيت الكعبة التي يحُجُّها النَّاس بمكة، كما علمنا بالتواتر أن الرَّسول بلَّغ هذا الكلام عن الله. وكذلك نعلم بالتواتر أن قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ اَلَّذِي أُنزِلَ فِيهِ اِلْقُرْآنُ} [البقرة: 184] المراد به هذا الشَّهر الذي بين شعبان وشوال، وأن القرآن هذا الكتاب الذي بين دَفَّتَيِ المصحف. وكذلك عامَّة ألفاظ القرآن، نعلم قطعًا مرادَ الله ورسوله منها، كما نعلم قطعًا أن الرَّسول بلَّغها عن الله. فغالب معاني القرآن معلومٌ أنها مراد الله؛ خبرًا كانت أو طلبًا، بل العلم بمراد الله من كلامه أَوضَحُ وأَظهَرُ من العلم بمراد كل متكلمٍ من كلامه؛ لكمال علم المتكلم، وكمال بيانه، وكمال هُداه وإرشاده، وكمال تيسيره للقرآن حفظًا وفهمًا، وعملًا وتلاوةً. فكما بلَّغ الرَّسولُ ألفاظَ القرآن للأُمة بلَّغهم معانيَه، بل كانت عنايته بتبليغ معانيه أعظمَ
(1/345)
من مجرَّد تبليغ ألفاظه؛ ولهذا وصل العلم بمعانيه إلى مَن لم يَصِلْ إليه حِفْظ ألفاظه. والنقل لتلك المعاني أشدُّ تواترًا وأقوى اضطرارًا، فإن حِفْظَ المعنى أيسرُ من حفظ اللفظ، وكثيرٌ من النَّاس يعرف صورة المعنى ويحفظها، ولا يحفظ اللفظ، والذين نقلوا الدِّين عنه علموا مراده قطعًا لمَّا تلا عليهم تلك الألفاظ. ومعلومٌ أن المقتضى التَّام لفهم الكلام الذي بلَّغهم إيَّاه قائمٌ، وهم قادرون على فَهْمِه، وهو قادر على إفهامهم، وإذا حصل المقتضى التَّامُّ لَزِمَ وجود مقتضاه. وبالجملة فالأدلة السَّمعية اللفظية قد تكون مبنيَّة على مقدِّمتين يقينيتين: إحداهما: أن النَّاقلين إلينا فَهِمُوا مراد المتكلم. والثَّانية: أنهم نقلوا إلينا ذلك المراد، كما نقلوا اللفظ الدَّالَّ عليه. وكلا المقدِّمتين معلومةٌ بالاضطرار، [ب 78 أ] فإن الذين خاطبهم النَّبي - صلى الله عليه وسلم - باسم الصَّلاة والزَّكاة والصَّوم والحجِّ والوضوء والغسل وغيرها من ألفاظ القرآن في سائر الأنواع من الأعمال والأعيان والأزمنة والأمكنة وغيرها، يُعلم بالاضطرار أنهم فَهِمُوا مراده من تلك الألفاظ التي خاطبهم بها أعظمَ من حفظهم لها. وهذا ممَّا جرت به العادة في كلِّ مَن خاطب قومًا بخطبةٍ، أو دارسهم علمًا، أو بلَّغهم رسالةً: أن حِرْصَه وحرصهم على معرفة مراده أعظمُ من حرصهم على مجرد حِفْظ ألفاظه. ولهذا يضبط النَّاس من معاني المتكلِّم أكثرَ ممَّا يضبطونه من لفظه، فإن المقتضي لضبط المعنى أقوى من المقتضي لحفظ اللفظ؛ لأنه هو المقصود، واللفظ وسيلة إليه، وإن
(1/346)
كانا (1) مقصودين فالمعنى أعظم المقصودين، والقدرة عليه أقوى، فاجتمع عليه قوة الدَّاعي وقوة القدرة وشدة الحاجة. فإذا كانوا قد نقلوا الألفاظ التي قالها الرسول مبلِّغًا لها عن الله، وألفاظه التي تكلَّم بها يقينًا؛ فكذلك نقلهم لمعانيها، فهم سمعوها يقينًا، وفهموها يقينًا، ووصل إلينا لفظها يقينًا، ومعانيها يقينًا. وهذه الطَّريقة إذا تدبَّرها العاقل علم أنها قاطعةٌ، وأن الطَّاعن في حصول العلم بمعاني القرآن شرٌّ من الطَّاعن في حصول العلم بألفاظه. ولهذا كان الطَّعن في نقل بعض ألفاظه من فعل الرافضة، وأمَّا الطَّعن في حصول العلم بمعانيه فإنه من فِعْل الباطنية الملاحدة، فإنهم سلَّموا أن الصَّحابة نقلوا الألفاظ التي قالها الرَّسول، وأن القرآن منقولٌ عنه، لكن ادَّعَوْا أنَّ لها معانيَ تخالف المعاني التي يعلمها المسلمون، وتلك هي باطن القرآن وتأويله. وقول القائل: «الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين» دِهليز (2) إلى مذهب هؤلاء، ومرقاة إليه، لكن الفرق بينهما أنه يقول: لا أعلم مراد المتكلم بها، وهم يقولون: مراده هذه التأويلات الباطنة. وما جاء به الرَّسول نوعان: طلبٌ وخبرٌ، فالطلب يقولون: المراد به تحصيل الأخلاق التي تستعدُّ بها النَّفس لنَيْل العلوم العقلية، فإذا حصلت لها تلك المعارف لم يكن لاشتغالها بتلك الأسباب التي أُمِرَت بها فائدةٌ، فسقط عنها ما يجب على غيرها من النُّفوس الجاهلة، ويُباح لها ما يَحرُم على _________ (1) «ب»: «كان». (2) الدِّهليز: المدخل إلى الدار، فارسي معرَّب، والجمع الدهاليز. «المصباح المنير» (1/ 201).
(1/347)
غيرها. وعند هؤلاء مقصود الشَّرائع تعديل النفوس بالأخلاق التي [ب 78 ب] تُعِدُّها لإدراك العلوم. وأمَّا الأخبار فعقلاؤهم ورؤوسهم يعلمون قطعًا أن الرُّسل إنَّما أرادت إفهام الخَلْق ظواهرها وما دلَّت عليه، لكن لا حقيقة لها في نفس الأمر، والرسل كانت تعلم ذلك، لكن خيَّلوا إلى النَّاس ما ينتفعون به، ويكونون به أدعى إلى الانقياد، ولم يكن ذلك إلَّا بإظهار ما لا حقيقة له. وذلك سائغٌ للمصلحة، إذ كان فهمُ الجمهور عندهم للحقائق في نفس الأمر يُوجِب انحلالهم وانهماكهم في الشَّهوات. وطائفة منهم تزعم أن الرُّسل إنَّما قصدت إفهام تلك التأويلات، لكن أهل الظَّاهر غَلُظَ حجابهم، وكَثُفَت أفهامُهم عن إدراكها، فوقعوا بسبب قصور أفهامهم في العناء والمشقَّة وتَحمُّل أعباء التَّكاليف. وهؤلاء وضعوا لهم قانونًا في تأويل الأمر والنَّهي والخبر، كما وضعت الجهميَّة والقَدَرية لهم قانونًا في تأويل آيات الصِّفات وأخبارها، [واتفقت] (1) الطَّائفتان على تقديم ما ظنُّوه من العقليات على نصوص الوحي، وأنها لا يُستفاد منها علمٌ أصلًا. ولا يُعرف أحدٌ من فرق الإسلام قبل ابن الخطيب وَضَعَ هذا الطَّاغوت وقرَّره وشيَّد بُنيانَه وأَحكَمَه مثله، بل المعتزلة والأشعرية والشِّيعة والخوارج وغيرهم يقولون بفساد هذا القانون، وإن اليقين يُستفاد من كلام الله ورسوله، وإن كان بعض هذه الطَّوائف يوافقون صاحب هذا القانون في بعض المواضع، فلم يقل أحدٌ منهم قطُّ إنه لا يحصل اليقين من كلام الله ورسوله البتَّةَ. _________ (1) «ب»: «وانقطعت». والمثبت هو الصواب.
(1/348)
فصل الطريق الثَّاني في إبطال هذا الأصل أن يُقال: من المعلوم أن دلالة الأدلة اللفظية لا تختصُّ بالقرآن والسُّنَّة؛ بل جميع بني آدم يَدُلُّ بعضُهم بعضًا بالأدلة اللفظية. والإنسان حيوانٌ ناطقٌ، فالنطق ذاتيٌّ له، وهو مدنيٌّ بالطبع، لا يُمكن أن يعيش وَحْدَه كما يعيش الوحش، بل لا يمكنه أن يعيش إلَّا مع بني جِنْسه؛ فلا بد أن يَعرِف بعضُهم مراد بعضٍ ليحصل التَّعاون. فعلَّمهم الحكيم العليم تعريف بعضهم بعضًا مراده بالألفاظ، كما قال تعالى: {اِلرَّحْمَنُ عَلَّمَ اَلْقُرْآنَ (1) خَلَقَ اَلْإِنسَانَ عَلَّمَهُ اُلْبَيَانَ} [الرحمن: 1 - 2] وقال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 30] وقال: {عَلَّمَ اَلْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5]. فكانت حكمة ذلك التَّعليم تعريف مراد المتكلِّم، فلو لم يحصل له المعرفة كان في ذلك إبطالٌ لحكمة الله، وإفسادٌ لمصالح بني آدم، وسَلْبُ الإنسان خاصيَّتَه التي ميَّزه بها على سائر الحيوان. وهذه [ب 79 أ] الطريق يُستدلُّ بها من وجوهٍ: أحدها: أن هذا المقصود ضروريٌّ في حياة بني آدم، فلا بد من وجوده، فلو لم تُفِدِ الأدلة اللفظية العلمَ بمراد المتكلِّم لم يعش بنو آدم، واللازم مُنتَفٍ، فالملزوم مثله. الثَّاني: أنَّا نعلم قطعًا أن جميع الأمم يَعرِف بعضهم مراد بعضٍ بلفظه، ويقطع به، ويتيقَّنه. فقول القائل: «الأدلة اللفظية لا تُفيد اليقين» قدحٌ في العلوم الضَّرورية التي اشترك النَّاس في العلم بها. الثَّالث: أن معرفة النَّاس مراد المتكلِّم منهم بكلامه أعظمُ من معرفتهم
(1/349)
عامَّة العلوم العقلية، فمعرفتهم مراد المتكلم لهم بكلامه أتمُّ وأقوى من معرفتهم بتلك القوانين التي وضعها أربابها للقدح في إفادة الخطاب لليقين. الرَّابع: أنَّ الطِّفل أولَ ما يميِّز يَعرِف مراد مَن يُرَبِّيه بلفظه قبل أن يُعرِّفه شيئًا من العلوم الضرورية، فلا أقدمَ عنده ولا أسبقَ من تيقُّنه لمراد مَن يخاطبه بلفظه، فالعلم بذلك مقدَّمٌ على سائر العلوم الضَّرورية. فمَن جعل العقليات تُفيد اليقين، والسَّمعيات لا تُفيد معرفة مراد المتكلِّم؛ فقد قَلَبَ الحقائق، وناقَضَ الفطرة، وعَكَسَ الواقع. الخامس: أن كلَّ إنسانٍ يَدُلُّ غيره بالأدلة اللفظية على ما يعرفه، ويعرف مراد غيره بالأدلة اللفظية، وأمَّا الاستدلال بالعقليات الكُليَّة فلا يعرفه إلَّا بعضُ النَّاس، وما يعرفه كلُّ أحدٍ ويتيقَّنه فهو أظهر ممَّا لا يعرفه إلَّا بعض النَّاس. السَّادس: أن التَّعريف بالأدلة اللفظية أصل للتَّعريف بالأدلة العقلية، فمَن لم يكن له سبيلٌ إلى العلم بمدلول هذه لم يكن له سبيلٌ إلى العلم بمدلول تلك. بل العلم بمدلول الأدلة اللفظية أسبقُ، فإنه يُوجد في أول تمييز الإنسان. وحينئذٍ فالقدح في حصول العلم بمدلول الأدلة اللفظية قدحٌ في حصول العلم بمدلول العقلية، بل هي أصل العلم بها، فإذا بَطَلَ الأصل بطل فرعه، يوضِّحه: الوجه السَّابع: وهو أن الإنسان في فهمه وإفهامه للدليل العقلي محتاجٌ إلى معرفة مراد المخبِر به الذَّاكر (1) له لِمَن يخاطبه، فإذا لم يحصل له علمٌ _________ (1) «ب»: «الذكر».
(1/350)
بمراده من الدَّليل فكيف يحصل له علم بالمدلول؟! الوجه الثَّامن: أن تعليم الأدلة اللفظية يُحسنه كلُّ أحدٍ، فما من أحدٍ إلَّا ويمكنه أن يُعرِّف غيرَه لغتَه، ويُعرِّفَه ما يَعرِفُه بالأدلة اللفظية. وأمَّا تعليم الدَّلالة العقلية فلا يُحسنه كلُّ أحدٍ. الوجه التَّاسع: أن الله سبحانه هدى البهائم والطَّير أن يُعرِّف بعضها بعضًا مرادها بأصواتها، كما يُشاهد [ب 79 ب] في أجناس الحيوان والطيور، فالديك يُصوِّت فيَعرِف الدجاجُ مراده، والفرس يَصهَل فيَعرِف الخيلُ مراده، والكلب يَنبَح فتعرف الكلاب مراده، والهرُّ تَمُوءُ (1) فتَعرِف أولادها مرادها، والدجاجة تُعرِّف أفراخها مرادها بصوتها. وهذا من تمام عناية الخالق سبحانه بخَلْقه وهدايته العامة؛ كما قال موسى: {رَبُّنَا اَلَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى} [طه: 49]، وقال تعالى: {سَبِّحِ اِسْمَ رَبِّكَ اَلْأَعْلَى (1) اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوّى (2) وَاَلَّذِي قَدَّرَ فَهَدى} [الأعلى: 1 - 3]، فكيف لا يعلم الآدميون مراد بعضهم من بعضٍ بألفاظهم وخطابهم ولا يَجزِمون به؟! الوجه العاشر: أن أبلد النَّاس وأبعدَهم فهمًا يَعلَم مراد أكثر مَن يخاطبه بالكلام الرَّكيك العادِم للبلاغة والفصاحة، فكيف لا يعلم أذكى النَّاس وأصحُّهم أذهانًا وأفهامًا مرادَ المتكلِّم بأفصح الكلام وأَبيَنِه وأَدَلِّه على المراد، ويحصل لهم اليقين بالعلم بمراده، وهل ذلك إلَّا من أَمحَلِ المُحال؟! الوجه الحادي عشر: أن هذا يستلزم الطَّعنَ والقدح في بيان المتكلِّم _________ (1) «ب»: «تنور»، ولعل المثبت هو الصواب.
(1/351)
وفصاحته، أو في فهم السَّامع وذهنه، أو فيهما معًا؛ فإن عَدَمَ العلم بمراده إن كان لتقصيرٍ في بيانه كان ذلك قدحًا فيه، وإن كان لقصور فَهْم السَّامع كان كذلك. فإذا كان المتكلم تامَّ البيان والمخاطب تامَّ الفهم فكيف يَتخلَّف العلم عنه بمراده! الوجه الثَّاني عشر: أنه إذا كان التفاهُم والعلم بمراد الحيوان من غيره حاصلًا للحيوانات، فما الظنُّ بأشرف أنواعها وهو الإنسان، فما الظنُّ بأشرف هذا النَّوع، وهم العقلاء المعتنون بالبيان والإيضاح، فما الظنُّ بالأنبياء المخصوصين من العلم والبيان والإفهام بما ليس مثله لسواهم، فما الظنُّ بأفضل الأنبياء وأعلمهم وأكملهم بيانًا، وأتمِّهم فصاحةً، وأَقدَرِهم على التعبير عن المعنى باللفظ الذي لا يَزيد عليه ولا يَنقص عنه ولا يُوهِم غيرَه، وأَحرَصِهم على تعليم الأُمة وتفهيمهم؟! وأصحابه أَكمَل الأُمم عقلًا وفهمًا وفصاحةً وحرصًا على فَهْم مراده، فكيف لا يكونون قد تيقَّنوا مراده بألفاظه، وكيف لا يكون التَّابعون لهم بإحسانٍ قد تيقَّنوا مرادهم ممَّا بلَّغوهم إيَّاه عن نبيهم، ونقلوه إليهم؟! الوجه الثَّالث عشر: أنَّا نعلم بالضَّرورة أن شيوخنا الذين كانوا يخاطبوننا كانوا يُعرِّفونا مرادهم بألفاظهم، وقد عَرَفنا مرادهم يقينًا، وهكذا نحن فيمن نعلمه ونخاطبه، وهم كانوا أفضل منَّا وأكمل علمًا وتعليمًا، ومَن قبلَهم كانوا أفضل منهم وأكمل علمًا [ب 80 أ] وتعليمًا، ومَن قبلَهم كذلك، وهلم جرًّا إلى أوائل هذه الأُمة؛ فكيف يكون هؤلاء كلُّهم لم يعلموا مراد الله ورسوله من كلامه، ولا حصل لهم يقينٌ بمعرفة مراده من ألفاظه؟! ومَن تدبَّر هذا أو تَصوَّره تبيَّن له أن قول القائل: «الأدلة اللفظية التي جاء
(1/352)
بها الرَّسول لا تفيدنا علمًا ولا يقينًا» من أعظم أنواع السَّفسطة، وأكثر أسباب الزَّندقة، وأنَّ هؤلاء شرٌّ من اللاأدرية (1)، وشرٌّ من الباطنية. الوجه الرَّابع عشر: أن دلالة الأدلة اللفظية على مراد المتكلِّم أقوى من دلالة الأدلة العقلية على الحقائق الثَّابتة ـ كما تقدَّم تقريره (2) ـ فكيف بدلالة المقدِّمات المشتبهة التي غايتها أن يكون فيها حقٌّ وباطلٌ، وليس مع أصحابها إلَّا إحسان الظنِّ بمَن قالها، فإذا طُولِبوا بالبرهان على صحَّتها قالوا: هكذا قال العقلاء، وهذا أَمْرٌ قد صَقَلَتْه أذهانهم، وقَبِلَته عقولهم. فبين دلالة الأدلة اللفظية على مراد المتكلم ودلالة هذه المقدِّمات على الحقائق تفاوتٌ عظيمٌ، فكيف تفيد هذه اليقين دون تلك، وهل هذا إلَّا قَلْبٌ للفِطَر وتعكيسٌ للأذهان؟! الوجه الخامس عشر: أن دلالة قول الرَّسول على مراده أكمل من دلالة شبهات هؤلاء العقلية على معارضته بما لا نسبة بينهما، فكيف تكون شبهاتهم تُفيد اليقين، وكلام الله ورسوله لا يُفيد اليقين؟! الوجه السَّادس عشر: أنك إذا تأمَّلْت العقليات التي زعموا أنها تُفيد اليقين وقدَّموها على كلام الله ورسوله وجدتها مخالفةً لصريح المعقول، وقد اعترفوا أنها مخالفةٌ لظاهر المنقول، وهذا لا يُعرف إلَّا بالامتحان. كحُكْم عقولهم بأن العَرَض لا يبقى زمانينِ، وأن الأجسام كلَّها متماثلة، _________ (1) «ب»: «البلادرية». والمثبت هو الصواب، وسيأتي (ص 567) قول المصنف عن خلفهم: «اللاأدرية الذين يقولون: لا ندري معاني هذه الألفاظ، ولا ما أريد منها، ولا ما دلت عليه». (2) تقدم (ص 350).
(1/353)
فجِسْم النَّار مساوٍ لجسم الماء (1) في الحقيقة، وإنما اختلفا بالأعراض، وجسم البول مساوٍ لجسم المِسْك بالحقيقة، وإنما اختلفا في أعراضهما. وحُكْم عقولهم بأن الواحد لا يصدر عنه إلَّا واحد، وأن ذلك المصدر لا يُسمَّى باسمٍ، ولا يوصف بصفةٍ، ولا له ماهية غير الوجود المطلق؛ ثم الذي صدر عنه إن وجب أن يكون كذلك كان مصدره أيضًا كذلك، ولم يكن بالعالم تكثُّر (2)، وإن كان فيه نوع تكثُّر فقد صدر عنه أكثر من واحدٍ. ومثل حُكمِهم بأن العاقل والمعقول والعقل شيءٌ واحدٌ، فالمبدأ الأول عاقل ومعقول وعَقْل. ومثل حُكمِهم بأن في الخارج كلياتٍ لا تتقيَّد بقيدٍ، ولا تَتشخَّص بتشخيصٍ، ولا تتعيَّن بتعيينٍ، [ب 80 ب] وليست داخلةَ العالم ولا خارجَه، وأنها جزءٌ من هذه المعينات. ومثل حُكمِهم بأن ذات الرَّبِّ تعالى مع كونها خارجة الذِّهن فليست خارجة العالم ولا داخلة فيه، ولا متصلة به، ولا منفصلة عنه، ولا حالَّة فيه، ولا مُباينة له. ومثل حُكمِهم بأن الرَّبَّ تعالى لم يزل قادرًا على الفعل في الأزل، وحصول المقدور فيه محالٌ، ثم انتقل الفعل من الإحالة الذَّاتية إلى الإمكان الذَّاتي، فلا يُحدَّد (3) بسببٍ أصلًا، وحَدَثَ من غير تجدُّد أمرٍ يقتضي حدوثه، _________ (1) «ب»: «الماثل». والمثبت هو الصواب، فستأتي العبارة في كلام المصنف (ص 796) مرة أخرى على الصواب. (2) «ب»: «به العالم يكثر». والمثبت هو الصواب الذي دل عليه السياق. (3) كذا في «ب»، ولعلها: «يحدث».
(1/354)
بل حال الفاعل قبله ومعه وبعده واحدة. ومثل حُكمِهم بأن كلامه معنًى واحدٌ، لا ينقسم ولا يتجزَّأ، ولا له بعض ولا كلٌّ، وأن الأمر هو عين النَّهي، وهما عين الخبر والاستخبار، فالكل حقيقةٌ واحدةٌ. وأن الحواسَّ والإدراكات يصحُّ تعلُّقها بكل موجودٍ، فتُؤكل الأصوات وتُشمُّ وتُذاقُ، وتُسمَع الرَّوائح والطُّعوم. إلى أضعاف أضعاف ذلك من خواصِّ علومهم التي جعلوها قواطعَ عقلية تُفيد اليقين، وكلام الله ورسوله أدلة لفظية لا تُفيد اليقين. فقد تبيَّن أنَّ ما نفى عنه هؤلاء اليقين من أعظم ما يُفيد اليقين، وما أثبتوا له اليقين أبعدُ شيءٍ عن اليقين. الوجه السَّابع عشر: أن هذا من أنواع السَّفسطة، بل هو شر أنواعها، فإن أنواعها ثلاثة: أحدها: التجاهل، وهو لا أدري، وأصحابه يُسمَّوْن اللاأدرية. الثَّاني: النَّفي والجحود. الثَّالث: قلب الحقائق، وهو جعل الموجود معدومًا، والمعدوم موجودًا؛ إمَّا في نفس الأمر، وإمَّا بحسب الاعتقاد. والذي يدَّعي قلب الحقائق في نفس الأمر أشد سفسطةً ممَّن يدَّعي أنها تَبَعٌ لاعتقاد الإنسان فيها، فإذا جُعلت الأدلة العقلية ـ التي هي من جنس ما تقدَّمَ وغيره ـ تُفيد اليقين بمدلولاتها الخارجية، والأدلة اللفظية التي أعلاها كلام الله ورسوله لا تُفيد اليقين، كان ذلك من أعظم أنواع السفسطة، وأكثر
(1/355)
أسباب الزَّندقة. فإن قلت: فهُم لم يجعلوا كل دليلٍ عقليٍّ يفيد اليقين، بل ما كانت مقدماته يقينية وتأليفه صحيحًا، يوضحه: الوجه الثَّامن عشر: أن قول القائل: الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين؛ إمَّا أن يُريد به نَفْيَ العموم، أو عمومَ النَّفي، فإن أراد نَفْيَ العموم لم يُفِدْه شيئًا، فإنَّ عاقلًا لا يدَّعي أن كلَّ دليلٍ لفظيٍّ يفيد اليقين حتى يَنصِبَ معه الخلاف ويحتجَّ عليه. وإن أراد به عموم النَّفي كان هذا مكابرةً للعيان، وبَهْتًا ومجاهرةً بالكذب [ب 81 أ] والباطل. الوجه التَّاسع عشر: أنَّا نعلم بالاضطرار أن مصنِّفي العلوم على اختلاف أنواعها عَلِم النَّاس مرادهم من ألفاظهم علمًا يقينًا، وإنما يقع الشك في قليلٍ من كلامهم، ويَقِلُّ ذلك ويَكثُرُ بحسَب القابل، وقوة إدراكه، وجودة تصوُّره، وإِلْفه لكلامهم وغرائبه منه؛ ومعلوم قطعًا أنَّ عِلْمَ الرَّسول بما يقوله وحرصَه على إفهامه وتعليمه وشدَّة بيانه له، وحرصَ أُمَّته على فهمه= أعظمُ من حرص هؤلاء المصنِّفين ومَن يتعلم منهم، فإذا حصل لأولئك اليقين بمعرفة مراد أرباب التَّصانيف، فحصولُ اليقين لأهل العلم بكتاب الله وسُنَّة رسوله أولى وأحرى. وليس الكلام في هذا المقام في تثبيت نبوته؛ بل الكلام مع مَن يُقرُّ بنبوته ويشك في معرفة مراده بألفاظه، فيقال: لا ريبَ عند كل مؤمنٍ بالله ورسوله أنه كان أعلم الخلق بما يُخبر به وما يأمر به، فهو أعلم الخلق بما أخبر به عن الله واليوم الآخر، وأعلمهم بدينه وشرعه الذي شرعه لعباده، وأنه كان أفصح
(1/356)
الأُمَّة، وأقدرهم على البيان وكشف المعاني؛ فإنه عربيٌّ والعربُ أفصح الأُمم، وقرشيٌّ وقريشٌ أفصح العرب، وهو في نفسه كان أفصحَ قريش على الإطلاق، وقد أَقَرَّ له أعداؤه بذلك، ولهذا قال: «أَنَا أَفْصَحُ العَرَبِ بَيْدَ أَنِّي مِنْ قُرَيْشٍ، وَاسْتُرْضِعْتُ فِي بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ» (1). وقد تكلَّم النَّاس في فصاحة الحاضرة والبادية، وفي شعر الحاضرة والبادية، ورُجِّحَ هؤلاء من وجهٍ، وهؤلاء من وجهٍ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع الله له كمال فصاحة البادية والحاضرة، ومَن تدبَّر كلامه الذي تكلَّم به، والقرآن الذي بلَّغه عن الله وأخبر أن الله تكلَّم به؛ وَجَدَ التفاضُل بين كلامه هو عليه السلام وكلام غيره من البشر؛ ثُمَّ من المعلوم بالاضطرار مِن حاله أنه كان أحرص النَّاس على هُدى أُمته وتعليمهم والبيان لهم، فاجتمع في حقِّه كمالُ القدرة، وكمال الدَّاعي، وكمال العلم. فهو أعلم النَّاس بما يدعو إليه، وأقدرهم على أسباب الدعوة، وأعظمهم رغبةً، وأتمُّهم نصيحةً. فإذا كان مَن هو دونه بمراتب لا تُحصى في كل صفةٍ من هذه الصِّفات قد بيَّن مراده بلفظه؛ كان هو ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أحقَّ وأولى من كل وجهٍ أن يكون قد استولى على الأمد الأقصى من البيان. فمَن قال: إن اليقين لا يحصل بألفاظه ولا يُستفاد العلم من كلماته؛ كان _________ (1) أورده القاضي عياض في «الشفا»، وقال السيوطي في «مناهل الصفا في تخريج أحاديث الشفا» (ص 52): «أورده أصحاب الغريب، ولا يُعرف له إسناد». وأقرب لفظ وجدناه له ما أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (6/ 35) وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (3180) عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - مرفوعًا: «أنا أعرب العرب، ولدتني قريش، ونشأت في بني سعد بن بكر، فأنَّى يأتيني اللحن». وفي إسناده مبشر بن عبيد، وهو متروك، كما قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (8/ 218) وابن حجر في «التلخيص الحبير» (5/ 2570).
(1/357)
قَدحُه في بيانه أعظمَ مِن قدحه في مراد سائر العلماء المصنِّفين، ومِن قدحٍ في [ب 80 ب] حصول العلم واليقين بمرادها، وإلَّا كان قدحه في مراد عامة الآدميين أقربَ، وقَدحُه في معرفته مراد البهائم بلغاتها أقربَ، ومَن كان قوله مستلزمًا لهذه اللوازم كان قوله من أفسد أقوال بني آدم، وكان قوله قدحًا في العقليات والشرعيات والضَّروريات. الوجه العشرون: أنه من المعلوم أن الصَّحابة سمعوا القرآن والسُّنَّة من النبي - صلى الله عليه وسلم - وقرؤوه، وأقرؤوه مَن بعدهم، وتكلَّم العلماء في معانيه وتفسيره، ومعاني الحديث وتفسيره، وما يتعلَّق بالأحكام وما لا يتعلَّق بها، وهم مُجمِعون على غالب معاني القرآن والحديث، ولم يتنازعوا إلَّا في قليلٍ من كثيرٍ، لا سيما القرون (1) الأُوَل، فإن النِّزاع بينهم كان قليلًا جدًّا بالنسبة إلى ما اتفقوا عليه، وكان النِّزاع (2) في التَّابعين أكثر. وكلما تأخَّر الزَّمان كثُر النِّزاع، وحدث من الاختلاف بين المتأخرين ما لم يكن في الذين قبلهم. فإن القرآن تضمَّن الأمر بأوامرَ ظاهرةٍ وباطنةٍ، والنَّهيَ عن مناهٍ ظاهرةٍ وباطنةٍ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيَّن مقادير الصَّلوات ومواقيتها وصفاتها، والزَّكوات ونُصبها ومقاديرها، وكذلك سائر العبادات، وعامَّةُ هذه الأمور نقلتها الأُمَّة نقلًا عامًّا متواترًا خَلَفًا عن سَلَفٍ، وحصل العلم الضَّروري للخلق (3) بذلك، كما حصل لهم العلم الضروري بأنه بلَّغهم ألفاظها، وأنه قاتل المشركين وأهل الكتاب، وأنه بُعِثَ بمكة، وهاجَرَ إلى المدينة، وأنه دعا الأُمَّة إلى أن _________ (1) «ب»: «القران». والمثبت هو الصواب. (2) «ب»: «الناس». (3) «ب»: «للخلف».
(1/358)
شهدوا أن لا إله إلَّا الله، وأن محمدًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخبرهم أنَّ هذا القرآن كلام الله الذي تكلَّم به، لا كلامه، ولا كلام مخلوقٍ، وأنه ليس قول البشر، وأنه أَعلَمَهم أن ربَّه فوق سماواته على عرشه، وأن الملَك نزل من عنده إليه، ثم يَعرُج إلى ربِّه، وأن ربَّه يسمع ويرى، ويتكلَّم ويُنادي، ويُحِبُّ ويُبغِض، ويرضى ويَغضَب، وأن له يدَيْن ووجهًا، وأنه يعلم السِّرَّ وأخفى، فلا يخفى عليه خافيةٌ في السَّماء ولا في الأرض، وأنه يُقيمهم من قبورهم أحياءً بعدما مزَّقهم البِلَى إلى دار النَّعيم أو إلى الجحيم، فالعلم الضَّروري بأنه جاء بذلك وأراده كالعلم الضَّروري بوجوده ومبعثه ومخرجه وقتاله لمَن خالفه، فالقَدْح فيما أَخبر به من ذلك وأنه لا يُفيد اليقين كالقدح في مُخْبَر الأخبار المتواترة وأنه لا يُفيد اليقين. الوجه الحادي والعشرون: أن كل صِنْفٍ من أصناف العلماء تكفَّلوا بعلمٍ من العلوم المنقولة عن الرَّسول، متَّفقون على أكثر علمهم مسائله ودلائله. فالفقهاء [ب 82 أ] متَّفقون على غالب الشَّريعة عامِّها وخاصِّها، وهم متفقون على أكثر خاصِّها الذي لا يَعرِفه العامَّة، وإذا كانوا قد عرفوا مراده بهذا فكيف لا يعرفون مراده بالذي هو أظهر وأشهر وأكثر نصوصًا وأعظم بيانًا؟! والمفسِّرون فسَّروا القرآن، واتفقوا على المراد منه في غالب القرآن، ونزاعهم في القليل من ذلك، وأكثره عند التحقيق ليس نزاعًا في نفس الأمر؛ بل هو اختلاف في التَّعبير، واختلاف تمثيلٍ وتنويعٍ، لا اختلافُ تناقضٍ ولا تضادٍّ.
(1/359)
وأهل الحديث متَّفقون على أحاديث الصَّحيحين، وإن تنازعوا في أحاديث يسيرة منها جدًّا، وهم متَّفقون على لفظها ومعناها، كما اتفق المسلمون على لفظ القرآن ومعناه، وهذا ممَّا ينفرد به (1) بعلمه الخاصة، وهم القليل من النَّاس، وهم مع ذلك يعلمون بالاضطرار بطلانَ تأويل القرآن والحديث بما يتأوَّله به الفلاسفة والقرامطة والجهمية، ويعلمون أنه خلاف مراد الرَّسول بالضَّرورة، فكيف ما اشتركت الأُمَّة عامَّتُها وخاصَّتُها في نقله قرنًا بعد قرنٍ، فكيف لا يعرفون مراد الرَّسول منه يقينًا؟! فإن الأُمَّة كلها تَنقُل عمَّن قبلها، ومَن قبلها عمَّن قبلها، حتى ينتهي الأمر إلى الرَّسول: أن الله يرى ويسمع، ويتكلَّم ويعلم، وأنه فوق السَّماوات السَّبع على العرش، وأنه يُرى يوم القيامة جهرةً؛ وعِلْمُ الأُمة بمراد الرَّسول من ذلك فوق عِلْمِهم بمراده من أحاديث الشُّفعة والرِّبا والحيض والفرائض ونحوها، فكيف يُقال: حصل لهم اليقين بمراده من ذلك دون هذا، وهل هذا إلَّا من أقبح المكابرة؟! الوجه الثَّاني والعشرون: أن يُقال: من المعلوم بالضَّرورة أن المخاطبِين أوَّلًا بالقرآن والسُّنَّة لم يتوقف حصول اليقين لهم بمراده على تلك المقدِّمات العشرة التي ذكروها، ولا على شيءٍ منها. أمَّا عصمة رواة اللغة فإنهم خُوطبوا شِفاهًا، فلم يحتاجوا إلى واسطةٍ في نقل الكلام، فضلًا عن واسطة في نقل اللغة، ولا إلى قاعدةٍ يَنفُون بها نفيَ احتمالِ اللفظ لغير المعنى الذي قصده المتكلِّم، فإنهم عَلِموا مراده بالضَّرورة، وإذا كانوا عالِمين بمراده _________ (1) كذا، ولعلها زائدة.
(1/360)
بالضَّرورة مع علمهم بصدقه امتنع عندهم أن يكون في نفس الأمر معارِضٌ يُنافي مراده. وقد قال أبو عبد الرحمن السُّلَميُّ من كبار التَّابعين: «حدَّثنا الذين كانوا يُقرئوننا القرآن ـ عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهم ـ أنهم كانوا إذا تعلَّموا من النَّبي - صلى الله عليه وسلم - عشر آيات لم [ب 82 ب] يتجاوزوها حتى يتعلَّموا ما فيها من العلم، قالوا: فتعلَّمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا» (1). وكان يَمكُث أحدُهم في السُّورة مدَّةً حتى يَتعلَّمها، وقد أقام ابن عمر على تعلُّم سورة البقرة ثمانيَ سنين (2)، وقال أنس: «كان الرَّجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جلَّ في أعيُننا» (3). ولم يتوقف معرفة مراد الله ورسوله من كلامه عندهم على شيءٍ من تلك الأمور العشرة، ولا تابعي التَّابعين، ولا أئمة الفقه المتبوعين، ولا أئمة الحديث، ولا أئمة التفسير، حتى نبغت قُلْف الأذهان (4) عُجْم القلوب فزعموا أنهم لا يحصل اليقين بمراده إلَّا بعد هذه الأمور، ثم قالوا: ولا سبيل _________ (1) أخرجه الإمام أحمد في «المسند» (23965) وابن أبي شيبة في «المصنف» (30549) والطبري في «تفسيره» (1/ 74). (2) ذكره مالك في «الموطأ» (238) بلاغًا، ووصله ابن سعد في «الطبقات» (4/ 153) بلفظ: «في أربع سنين». (3) أخرجه أبو داود الطيالسي في «المسند» (2132) وأحمد في «المسند» (12215، 12216) وابن حبان (744) وأصله في البخاري (3617) ومسلم (2781). (4) يقال: هو أقلف القلب: لا يعي خيرًا، وقلوب غُلْف: قُلْف. «أساس البلاغة» (2/ 98) و «لسان العرب» (9/ 291).
(1/361)
إلى العلم بانتفائه؛ إذ غاية ما يقدر بعد البحث والطلب التَّام عدم العلم بها، ولا يلزم من عدم العلم عدم المعلوم، فلا سبيل لنا إلى العلم بمراد الرَّسول البتَّةَ، وطلبت نفوسهم ما يحصل له به العلم، فعادوا إلى العقول، فوجدوها قد تصادمت فيما تقضي به من جائزٍ على الله وواجبٍ ومستحيلٍ أعظمَ تصادُم، فخرجوا عن السَّمع الصَّحيح، ولم يظفروا بدلالة العقل الصريح، ففاتهم العقل والسَّمع جميعًا. الوجه الثَّالث والعشرون: أن جميع ما ذكروه من الوجوه العشرة يرجع إلى حرفٍ واحدٍ، وهو احتمال اللفظ لمعنًى آخر غير ما يظهر من الكلام، فإنه لا يُنازِع عاقلٌ أن غالب ألفاظ النُّصوص لها ظواهر هي موضوعةٌ لها ومفهومةٌ عند الإطلاق منها، لكن النِّزاع أن اعتقاد ذلك المعنى يقينيٌّ، لا يُحتمل غيرُه، أو ظنِّيٌّ يُحتمل غيرُه؛ فالمدار كلُّه على احتمال إرادته - صلى الله عليه وسلم - معنًى آخر غير الظَّاهر، وعدم ذلك الاحتمال. ومعلوم أن الطُّرق التي يُعلم بها انتفاء إرادته معنى يناقض ذلك المعنى طُرقٌ كثيرةٌ لا يَحتاج شيءٌ منها إلى ما ذكروه، بل قد يعلم السَّامع انتفاءَ معنًى يُناقض المعنى الذي ذَكَره المتكلِّم ضرورةً، وتارةً يغلب على ظنِّه غلبةً قريبةً (1) من الضَّرورة، وتارةً يحصل له ذلك ظنًّا، وتارةً لا يفهم مراده، وتارةً يشتبه عليه المراد بغيره. وهذا القطع والظنُّ والشكُّ له أسبابٌ غير الأمور التي ذكروها، فقد يكون سبب الاحتمال كون السَّامع لم يألف ذلك اللفظ في لغة قومه، أو أن له _________ (1) «ب»: «عليه قرينة». وهو تصحيف، والمثبت هو الصواب، فالمصنف يتكلم عن مراتب العلم: اليقين، فغلبة الظن، فالظن.
(1/362)
في لغتهم معنًى غير معناه في لغة المتكلِّم، أو أن اللفظ قد اقترنت به قرينةٌ يقطع السَّامع معها بالمراد فخَفِيَت عليه أو ذَهَلَ عنها، ولو نُبِّه عليها لتنبَّه، كما اقترن بلفظ المفاداة في آية الخُلْع تَقَدُّمُ طلقتين وتأخُّر طلقة ثالثة، ووقع بين الطلقتين [ب 83 أ] والطلقة الثَّالثة (1)، ففَهِمَ جمهور الصَّحابة منه أنه غير محسوبٍ من الثلاث، واحتج بذلك ابن عباسٍ (2) وغيره (3). وقد تكون القرينة منفصلة في كلامٍ آخر، بحيث يجزم السَّامع بالمراد من مجموع الكلام، فيخفى أحدهما على السَّامع، أو لا يَتفطَّن له فلا يعرف المراد، فهذا قد يقع لأعلم النَّاس بخطابه - صلى الله عليه وسلم -، وهو من لوازم الطبيعة الإنسانية، ولكنه قليلٌ جدًّا، بالإضافة إلى ما تيقَّنوه من مراده، لا نسبةَ له إليه، فلا يجوز أن يُدَّعى لأجله أن كلام الله ورسوله لا يُفيد اليقين بمرادٍ، _________ (1) يعني: في قوله تعالى: {اِلطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اَللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اَللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا اَفْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اُللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اَللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ اُلظَّالِمُونَ (227) فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 227 - 228]. (2) أخرج عبد الرزاق في «المصنف» (11765، 11767، 11771) وسعيد بن منصور في «السنن» (1455) والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 316) عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: «ذكر الله عز وجل الطلاق في أول الآية وآخرها والخلع بين ذلك؛ فليس الخلع بطلاق». وقال ابن المنذر في «الأوسط» (9/ 324): «وليس في الباب حديث أصح من حديث ابن عباس، كان أحمد يقول: جيد الإسناد». (3) ينظر: «مصنف عبد الرزاق» (6/ 485 - 487) و «الأوسط» لابن المنذر (9/ 321 - 324).
(1/363)
ولا سبيل لنا إلى اقتباس العلم واليقين منه. الوجه الرَّابع والعشرون: أن قول القائل: «الدليل اللفظي لا يفيد اليقين إلَّا عند [تيقُّن] (1) أمورٍ عشرة» نفيٌ عامٌّ، وقضيةٌ سالبةٌ كليةٌ، فإنْ أراد قائلها أن أحدًا من النَّاس لا يعلم مراد متكلِّمٍ ما يقينًا إلَّا عند هذه الأمور العشرة؛ فكَذِبٌ ظاهرٌ. وإن أراد به أنه لا يعلم أحدٌ المراد بألفاظ القرآن والسُّنَّة إلَّا عند هذه الأمور ففِرْيةٌ ظاهرةٌ أيضًا؛ فإن الصَّحابة كلهم من أوَّلهم إلى آخرهم، والتَّابعون (2) كلهم، وأئمة الفقه كلهم، وأئمة التَّفسير كلهم، لم يتوقَّفْ عِلمُهم بمراد الرَّسول على هذه الأمور؛ بل لم تخطر ببالهم، ولم يذكرها أحدٌ منهم في كلامه. وإن أراد أن مَن بعد الصَّحابة لا يَعرِف مراد الرَّسول إلَّا بهذه الأمور العشرة فكَذِبٌ أيضًا، فإن التَّابعين ومَن بعدهم جازمون متيقِّنون لمراده أعظم يقينٍ، بل نحن ـ ونسبتنا إليهم أقلُّ نسبةٍ ـ متيقِّنون لمراد الله ورسوله (3) من كلامه يقينًا لا ريبَ فيه، وجازمون به جزمًا لا شكَّ فيه، ومَن قبلَنا كان أعلمَ منَّا وأعظمَ جزمًا، ومَن قبلَهم كان كذلك، فكيف يستحلُّ الرَّجُل أن يحكم حُكمًا عامًّا كليًّا أن أحدًا لم يحصل له اليقين من كلام الله ورسوله؟! وإن أراد به أنها لا تُفيد اليقين في شيءٍ وتفيده في شيءٍ آخر؛ قيل له: هذا لا يُفيدك شيئًا حتى تُبيِّن أن محلَّ النِّزاع بينك وبين أهل السُّنَّة وأنصار الله ورسوله من النَّوع الذي لا يُفيد اليقين، فهم يزعمون أن استفادتهم اليقينَ منه _________ (1) ليس في «ب». ومثبت من «المحصل» للرازي (ص 51). (2) كذا، والجادة «التابعين» معطوفة على منصوب. (3) بعده في «ب»: «أكثر». وأراها زائدة.
(1/364)
أعظمُ من استفادتهم اليقين من كلام كل متكلِّمٍ، وليس لك أن تحكم عليهم بأنهم لم يستفيدوا منه اليقين، فإن غاية ما عندك أنك أنت فاقد اليقين، لم تظفر ببرده، ولم تَفُز به، فكيف ساغ لك أن تحكم على غيرك بهذا؟! فإن أردت بذلك أنِّي أنا لا أستفيد اليقين من هذه الأدلة إلَّا بعد هذه الأمور العشرة فعَلِمت أن غيري كذلك؛ قيل له: هذا من أبطل الباطل عند كل عاقلٍ؛ [ب 83 ب] فإنه من المعلوم بالضَّرورة أن الشَّيء الواحد يكون مجهولًا عند رجلٍ أو طائفةٍ، ومعلومًا عند آخر، وضروريًّا عند شخصٍ ونظريًّا عند آخر، فالاشتراك في المعلومات والضَّروريات غير واجبٍ ولا واقعٍ، والواقع خلافه، فالصَّحابة كانوا يعلمون من أحوال النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بالاضطرار ما لم يعلمه غيرهم، وكان أبو بكر يعلم من حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكلامه يقينًا ما لا يعلمه غيره، ولا يفهمه، كما قال أبو سعيدٍ الخدريُّ: «وكان أبو بكر أَعلَمَنا به» (1). وكان التَّابعون يعلمون من أحوال الصَّحابة بالاضطرار ما لا يعلمه غيرهم. والفقهاء وأهل الحديث يعلمون بالاضطرار أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - سجد سجدتي السَّهو في الصَّلاة، وقضى بالشُّفعة، وجعل الدِّية على العاقلة، وأخبر أن الله يَنزل إلى سماء الدنيا كلَّ ليلةٍ، وأنه يُرى بالأبصار جَهْرةً يوم القيامة، وأنه يُدخِل النَّار قومًا من أهل التَّوحيد، ثم يُخرِجهم بالشَّفاعة، وأنه أخبر بخروج الدَّجَّال، ونزول المسيح من السَّماء، وطلوع الشَّمس من مغربها، وغير ذلك ممَّا يَجهله كثيرٌ من النَّاس، ومَن أقرَّ به فهو عنده ظنِّيٌّ، وأهل الحديث جازمون به، متيقِّنون _________ (1) أخرجه البخاري (3904) ومسلم (2382).
(1/365)
له كتيقُّنِهم أنه بُعث من مكة، وهاجَرَ إلى المدينة، ومات بها. وأهل المغازي والسِّيَر والحديث يعلمون بالاضطرار أن غزوة بدر كانت قبل أُحُدٍ، وأن أُحُدًا قبل الخندق، والخندق قبل الحديبية، والحديبية قبل خيبر، وخيبر قبل فتح مكة، وفتح مكة قبل حُنين، وحُنين قبل الطَّائف، والطَّائف قبل تبوك، وتبوك آخر الغزوات، ولم يكن فيها قتالٌ؛ وكان الغزو فيها للنصارى أهل الكتاب، وفي خيبر لليهود، وفي بدرٍ وأُحدٍ للمشركين؛ وأنه أَوقَعَ باليهود أربع مرَّات: ببني قينُقاع وكانت بعد بدرٍ، وبالنَّضير، وكانت بعد أُحدٍ، وبقُريظة وكانت بعد الخندق، وبأهل خيبر وكانت بعد الحديبية. وأكثر النَّاس ـ بل كثيرٌ من العلماء والفقهاء ـ لا يعلمون هذا التَّفصيل. وكذلك العلماء بالتَّفسير والحديث يعلمون بالاضطرار أن سورة البقرة وآل عمران والنِّساء والمائدة والأنفال وبراءة مدنياتٌ نَزَلْنَ بعد الهجرة، وسورة الأنعام والأعراف ويونس وهود ويوسف والكهف والنَّحل مكياتٌ نَزَلْنَ قبل الهجرة، وأكثر النَّاس لا يعلمون ذلك ضرورةً ولا نظرًا. فليس المعلوم من أقوال الرَّسول وسيرته ومراده بكلامه أمرًا مشتركًا بين جميع النَّاس ولا بين المسلمين [ب 84 أ] ولا بين العلماء، وإذا لم يكن هذا أمرًا مضبوطًا لا من العالم ولا في العلوم أمكن في كثيرٍ من مراد الرَّسول بالاضطرار [أن تكون نظريةً عند قومٍ] (1)، ضروريةً عند آخرين، وغير معلومةٍ البتَّةَ عند آخرين. وإن قال: أردت أن الأدلة اللفظية لا تُفيد اليقين عند من لا يعرف _________ (1) ما بين المعقوفين ليس في «ب» والزيادة من مفهوم السياق.
(1/366)
مدلولها إلَّا بهذه المقدِّمات. قيل له: فهذا لا فائدة فيه، فكأنك قلت: من لم يعرف مراد المتكلِّم إلَّا بمقدِّمةٍ ظنيةٍ كان استدلاله بكلامه ظنيًّا، وذلك من باب تحصيل الحاصل. وكذلك من لم يعرف الدَّليل العقلي إلَّا بمقدِّمةٍ ظنيةٍ كان استدلاله به ظنِّيًّا. وأيضًا فإنه إذا كان هذا مرادك فكيف تحكم حكمًا عامًّا كُليًّا أن الأدلة اللفظية لا تُفيد اليقين. فبَطَلَ حُكم هذه القضية الكاذبة: أن الأدلة اللفظية لا تُفيد اليقين على كل تقديرٍ، ولله الحمد. يوضِّحه: الوجه الخامس والعشرون: أن الذين لم يحصل لهم اليقين بالأدلة العقلية أضعاف أضعاف الذين حصل لهم اليقين بالأدلة السَّمعية، والشُّكوك القادحة في العقليات أقوى وأكثر بكثيرٍ من الشُّكوك القادحة في السَّمعيات. فأهل العلم والكتاب والسُّنَّة متيقِّنون لمراد الله ورسوله، جازمون به، معتقدون لموجبه اعتقادًا لا يتطرَّق إليه شكٌّ ولا شبهةٌ. وأمَّا المتكلمون الذين عَدَلوا عن الاستدلال بالأدلة السَّمعية إلى الأدلة العقلية في المسائل الكبار كمسألة حدوث العالم، ومسألة ما هي الحوادث، ومسألة تماثل الأجسام، وبقاء الأعراض، ومسألة وجود الشيء هل هو زائد على ماهيته أو هو نفس ماهيته، ومسألة المعدوم هل هو شيءٌ أم لا، ومسألة المصحِّح للتأثير هل هو الحدوث أو الإمكان، وهل يمكن أن يكون الممكن قديمًا أم لا، ومسألة الجوهر الفرد، وهل الأجسام مركبة منه أم لا، ومسألة الكلام وحقيقته، وأضعاف ذلك من المسائل التي عوَّلوا فيها على مجرَّد عقلٍ= أفضلُهم أشدُّهم حَيْرةً وتناقضًا واضطرابًا فيها، لا يَثبُت له فيها قولٌ،
(1/367)
بل تارةً يقول بالقول ويجزم به، وتارةً يقول بضِدِّه ويجزم به، وتارةً يَحار ويقف ويتعارض عنده الأدلة العقلية! وأهل الكلام والفلسفة أشدُّ اختلافًا وتنازُعًا بينهم فيها من جميع أرباب العلوم على الإطلاق. ولهذا كلما كان الرجل منهم أفضل كان إقراره بالجهل والحَيْرة على نفسه أعظم، كما قال بعض العارفين (1): أكثر النَّاس شكًّا عند الموت أهل الكلام. وقال أفضل المتأخرين (2) [ب 84 ب] من هؤلاء لتلاميذه عند الموت: «أشهدكم أني أموت وما عَرَفت مسألةً واحدةً إلَّا مسألة افتقار الممكن إلى واجب «. ثم قال: «والافتقار أمرٌ عدميٌّ فها أنا ذا أموت وما عَرَفت شيئًا». وقال ابن الجويني (3) عند موته: «لقد خُضت البحر الخضمَّ، وخَلَّيْت أهل الإسلام وعلومهم، وما أدري على ماذا أموت، أُشهدكم أني أموت على عقيدة أُمي». وقال آخر في خطبة كتابه في الكلام (4): لَعَمْرِي لَقَدْ طُفْتُ المَعَاهِدَ كُلَّهَا ... وَسَيَّرْتُ طَرْفِي بَيْنَ تِلْكَ الْمَعَالِمِ فَلَمْ أَرَ إِلَّا وَاضِعًا كَفَّ حَائِرٍ ... عَلَى ذَقَنٍ أَوْ قَارِعًا سِنَّ نَادِم _________ (1) هو أبو حامد الغزالي، وتقدم (ص 17). (2) هو الخونجي، وتقدم (ص 17). (3) تقدم (ص 17). (4) هو الشهرستاني في «نهاية الإقدام» (ص 3) وتقدم (ص 16).
(1/368)
وقال الرَّازي في كتابه «أقسام اللذات» (1) وقد ذكر أنواعها، وأن أشرفها لذة العلم والمعرفة، وأشرفَ العلم: العلم الإلهي لشرف معلومه وشدة الحاجة إليه، وأنه على ثلاثة أقسام: «العلم بالذَّات وعليه عُقدة، وهي أن الوجود هل هو الماهية أو زائد عليها؟ والعلم بالصفات، وعليه عقدة، وهي أن الصِّفات هل هي أمور وجودية زائدة على ذات الموصوف أم ليست بزائدة على الذَّات؟ والعلم بالأفعال وعليه عقدة، وهي هل الفعل مقارنٌ للفاعل أو متراخٍ عنه؟ ثم قال: ومَن الذي وصل إلى هذا الباب أو ذاق من هذا الشراب؟». ثم أنشد (2): نِهَايَةُ إِقْدَامِ العُقُولِ عِقَالُ ... وَأَكْثَرُ سَعْيِ الْعَالَمِينَ ضَلَالُ وَأَرْوَاحُنَا فِي وَحْشَةٍ مِنْ جُسُومِنَا ... وَحَاصِلُ دُنْيَانَا أَذًى وَوَبَالُ وَلَمْ نَسْتَفِدْ مِنْ بَحْثِنَا طُولَ عُمْرِنَا ... سِوَى أَنْ جَمَعْنَا فِيهِ قِيلَ وَقَالُوا وَكَمْ مِنْ جِبَالٍ قَدْ عَلَتْ شُرُفَاتِهَا ... رِجَالٌ فَمَاتُوا وَالْجِبَالُ جِبَالُ لقد تأمَّلْت الطُّرُق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تَشفي عليلًا، ولا تُروي غليلًا، ورأيت أقرب الطُّرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4] {إِلَيْهِ يَصْعَدُ اُلْكَلِمُ اُلطَّيِّبُ} [فاطر: 10]، وأقرأ في النَّفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 9] {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 107]. ومن جرَّب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي». _________ (1) «رسالة ذم لذات الدنيا» (ص 252 - 263) والنقل باختصار كبير، وبعضه بالمعنى، وبعضه ليس موجودًا في المطبوع. (2) «رسالة ذم لذات الدنيا» (ص 262).
(1/369)
فليتأمَّل اللبيب ما في كلام هذا الفاضل من العِبَر، فإنه لم يأتِ في المتأخِّرين مَن حصَّل من العلوم العقلية ما حصَّله، ووقف على نهايات أقدام العُقلاء، وغايات مباحث الفُضلاء، وضرب بعضَها ببعضٍ ومَخَضها أشدَّ المخض، فما رآها تَشفي علَّةَ داء الجهالة، ولا تُروي غُلَّةَ ظمأ الشَّوق والطلب، وأنها لم تَحُلَّ عنه عُقدةً واحدةً من هذه العُقَد الثَّلاث التي عَقَدها أرباب المعقولات على قافية القلب، فلم يستيقظ لمعرفة [ب 85 أ] ذات الله ولا صفاته ولا أفعاله. وصَدَقَ والله، فإنه شاكٌّ في ذات ربِّ العالمين: هل له ماهية غير الوجود المطلق يختص بها، أم ماهيَّته نفس وجوده الواجب؟ ومات ولم تَنحَلَّ له عُقدتها. وشاكٌّ في صفاته: هل هي أمور وجودية، أم نِسَبٌ إضافية عدمية؟ ومات ولم تَنحَلَّ له عُقدتها. وشاكٌّ في أفعاله: هل هي مقارنة له أزلًا وأبدًا لم تَزَلْ معه، أم الفعل متأخر عنه تأخُّرًا لا نهاية لأمده، فصار فاعلًا بعد أن لم يكن فاعلًا؟ ومات ولم تَنحَلَّ له عقدتها. فتنظر في كتبه الكلامية قول المتكلمين، وفي كتبه الفلسفية قول الفلاسفة، وفي كتبه التي خلط فيها بين الطريقتين يضرب أقوال هؤلاء بهؤلاء، وهؤلاء بهؤلاء، ويجلس بينهما حائرًا، لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء. وكذلك أفضل أهل زمانه ابن أبي الحديد؛ فإنه مع بَحْثِه ونظره وتصدِّيه للرد على الرَّازي حتى يقول في قصيدةٍ له (1): _________ (1) الأبيات باختلاف يسير نسبها إليه الصفدي في «الوافي بالوفيات» (18/ 46)، وابن شاكر في «فوات الوفيات» (2/ 260).
(1/370)
وَحَقِّكَ لَوْ أَدْخَلْتَنِي النَّارَ قُلْتُ لِلْـ ... لَذِينَ بِهَا قَدْ كُنْتُ مِمَّنْ يُحِبُّهُ وَأَفْنَيْتُ عُمْرِي فِي فُنُونٍ دَقِيقَةٍ ... وَمَا بُغْيَتِي إِلَّا رِضَاهُ وَقُرْبُهُ أَمَا قُلْتُمُ مَنْ كَانَ فِينَا مُجَاهِدًا ... سَيُكْرَمُ مَثْوَاهُ وَيَعْذُبُ شِرْبُهُ أَمَا رَدَّ شَكَّ ابْنِ الْخَطِيبِ وَزَيْفَهُ ... وَتَمْوِيهَهُ في الدِّينِ إِذْ جَلَّ خَطْبُهُ يعترف بأن المعقولات لم تُعطِه إلَّا حَيْرةً، وأنه لم يَصِل منها إلى يقينٍ ولا عِلْمٍ، حيث يقول (1): فِيكَ يَا أُغْلُوطَةَ الْفِكَرِ ... ضَاعَ دَهْرِي (2) وَانْقَضَى عُمُرِي سَافَرَتْ فِيكَ الْعُقُولُ فَمَا ... رَبِحَتْ إلَّا أَذَى السَّفَرِ (3) قَاتَلَ اللهُ الْأُلَى زَعَمُوا ... أَنَّكَ الْمَعْرُوفُ بِالنَّظَرِ (4) كَذَبُوا إِنَّ الَّذِي ذَكَرُوا ... خَارِجٌ عَنْ قُوَّةِ الْبَشَر وقال بعض الطَّالبين من المتأخرين، وقد سافر في طلب ربِّه على هذه الطَّريق فلم يزدد إلَّا حَيْرةً وبُعدًا من مطلبه، حتى قيَّض الله له مَن أخذ بيده، وسلك به على الطَّريق الَّتي سَلَكَ عليها الرُّسُل وأتباعُهم، فجعل يهتف _________ (1) الأبيات أنشدها ابن أبي الحديد لنفسه في «شرح نهج البلاغة» (13/ 51). ونسب ياقوت في «معجم الأدباء» (3/ 1163) بعضها للحسين بن هداب النوري. (2) في «شرح نهج البلاغة»: «تاه عقلي». (3) زاد بعده في «شرح نهج البلاغة»: رَجَعَتْ حَسْرَى وَمَا وَقَفَتْ ... لَا عَلَى عَيْنٍ وَلَا أَثَر (4) جاء هذا البيت في «شرح نهج البلاغة» هكذا: فَلَحَى اللهُ الْأُلَى زَعَمُوا ... أنَّكَ المعلومُ بالنَّظر
(1/371)
بصوته لأصحابه: هَلُمُّوا، فهذه والله الطريق، وهذه أعلام مكة والمدينة، وهذه آثار القوم لم تنسخها الرياحُ، ولم تُزِلْها الأهوية. ثم قال (1): وَكُنْتُ وَصَحْبِي فِي ظَلَامٍ مِنَ الدُّجَى ... نَسِيرُ عَلى غَيْرِ الطَّرِيقِ وَلَا نَدْرِي /وَكُنَّا حَيَارَى فِي الْقِفَارِ وَلَمْ يَكُنْ ... دَلِيلٌ لَنَا نَرْجُو الْخَلَاصَ مِنَ الْقَفْرِ ظِمَاءً إِلَى وِرْدٍ يَبُلُّ غَلِيلَنَا ... وَقَدْ قَطَعَ الْأَعْنَاقَ مِنَّا لَظَى الْحَرِّ فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ تَبَدَّى لِنَاظِرِي ... سَنَا بَارِقٍ يَبْدُو كَخَيْطٍ مِنَ الْفَجْرِ فَقُلْتُ لِصَحْبِي هَلْ تَرَوْنَ الَّذِي أَرَى ... فَقَالُوا اتَّئِدْ ذَاكَ السَّرَابُ الَّذِي يَجْرِي فَخَلَّفْتُهُمْ خَلْفِي وَأَقْبَلْتُ نَحْوَهُ ... فَأَوْرَدَنِي عَيْنَ الْحَيَاةِ لَدَى الْبَحْرِ فَنَادَيْتُ أَصْحَابِي فَمَا سَمِعُوا النِّدَا ... وَلَوْ سَمِعُوهُ مَا اسْتَجَابُوا إِلَى الْحَشْر فهذا اعتراف هؤلاء الفضلاء في آخر سَيْرِهم بما أفادتهم الأدلة العقلية من ضد اليقين، ومن الحَيْرة والشكِّ؛ فمَن الذي شكا من القرآن والسُّنَّة والأدلة اللفظية هذه الشكاية، ومَن الذي ذَكَرَ أنها حيَّرَتْه ولم تَهْدِه؟ أوَلَيس بها هدى الله أنبياءه ورُسلَه وخيرَ خَلْقه؟ قال تعالى لأكمل خَلْقه وأوفرهم عقلًا: {قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اِهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّيَ} [سبأ: 50]. فهذا أكمل الخَلْق عقلًا ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ يُخبِر أن اهتداءه بالأدلة اللفظية التي أوحاها الله إليه، وهؤلاء المتهوِّكون المتحيِّرون يقولون: إنها لا تُفيد يقينًا ولا عِلْمًا ولا هُدًى. وهذا موضع المَثَل المشهور: «رمتني بدائها وانسلَّتْ» (2). _________ (1) الأبيات لم نقف على قائلها، ولعلها للإمام ابن القيم نفسه، وينظر «النونية» له (2/ 570 - 572). (2) يُضرب لمن يُعَيِّر صاحبه بعيبٍ هو فيه. ينظر: «الأمثال» لأبي عبيد (ص 73 - 74) و «مجمع الأمثال» للميداني (1/ 102، 286).
(1/372)
الوجه السَّادس والعشرون: أن ألفاظ القرآن والسُّنَّة ثلاثة أقسام: نصوص لا تحتمل إلَّا معنًى واحدًا، وظواهرُ تحتمل غير معناها احتمالًا بعيدًا مرجوحًا، وألفاظ تحتاج إلى بيانٍ، فهي بدون البيان عُرضة الاحتمال. فأمَّا القسم الأول: فهو يُفيد اليقين بمدلوله قطعًا، كقوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 13]. فلَفْظ الأَلْف لا يَحتمل غير مسمَّاه، وكذلك لفظ الخمسين، وكذلك لفظ نوحٍ، ولفظ قومه، وكقوله: {وَوَعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142]. وقوله: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة: 4] وقوله: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي اِلْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 195] وقوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 232] وعامَّة ألفاظ القرآن من هذا الضَّرْب. هذا شأن مفرداته، وأمَّا تركيبه [ب 86 أ] فجاء على أصحِّ وجوه التَّركيب، وأبعدِها من اللبس، وأشدِّها مطابقةً للمعنى. فمفرداته نصوصٌ أو كالنُّصوص في مسمَّاها، وتراكيبه صريحة في المعنى الذي قُصِدَ بها، والمخاطبون به تلك اللغة سجيَّتهم وطبيعتهم غير متكلَّفةٍ لهم، فهم يعلمون بالاضطرار مراده منها. والقسم الثَّاني: ظواهر قد تحتمل غير معانيها الظَّاهرة منها، ولكن قد اطَّرَدَتْ في موارد استعمالها على معنًى واحدٍ، فجرت مَجرى النُّصوص التي لا تحتمل غير مسمَّاها.
(1/373)
والقسمان يُفيدان اليقين والقطع بمراد المتكلِّم. وأمَّا القسم الثَّالث: إذا أُحْسِنَ ردُّه إلى القسمين قبله عُرف مراد المتكلِّم منه. فالأول يُفيد اليقين بنفسه، والثَّاني يُفيده باطِّراده في موارد استعماله، والثَّالث يفيده إحسان ردِّه إلى القسمين قبله. وهذا ظاهر جدًّا لمن له عنايةٌ بالقرآن وألفاظه ومعانيه، واقتباس المعارف واليقين منه. فاستفادته اليقين من أدلته أعظم من استفادة كل طالب علمٍ اليقينَ من موادِّ عِلْمِه وبراهينه. الوجه السَّابع والعشرون: أن الذي حال بين هؤلاء وبين استفادتهم (1) اليقينَ من كلام الله ورسوله أن كثيرًا من ألفاظ القرآن والسُّنَّة قد صار لها معانٍ، اصطلح عليها النُّظار والمتكلِّمون وغيرهم، وأُلِفَ ذلك الاصطلاح، وجرى عليه النَّشءُ، وصار هو المقصودَ بالتَّخاطب، وإليه التَّحاكم، فصار كثيرٌ من النَّاس لا يعرف سواه. فلمَّا أرادوا أن يُطابقوا بين معاني ألفاظ القرآن وبين تلك المعاني التي اصطلحوا عليها أَعجَزَهم ذلك، فمرةً قالوا: ألفاظ القرآن مجازٌ، ومرةً طلبوا لها وجوهَ التأويل، ومرةً قالوا: لا تُفيد اليقين، ومرةً جعلوها وقفًا تُتلى في الصَّلاة، ويُتبرَّك بقراءتها، ولا يُتحاكم إليها. مثال ذلك: لفظ الجسم في القرآن هو البدن، كما قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون: 4]. وهم اصطلحوا على تسمية كل قائمٍ بنفسه جسمًا، مرئيًّا كان أو غير مرئيٍّ، وسَمَّوا الموصوف بالصِّفات جسمًا، وسَمَّوْا مَن له وجهٌ ويدانِ جسمًا، ثم نَفَوا الجسم عن (2) الصَّانع، _________ (1) «ب»: «استفادته» مفردًا، والسياق يقتضي الجمع. (2) «ب»: «على». والمثبت هو الصواب.
(1/374)
وأوهموا أنهم ينفون معناه لغةً، وقَصْدُهم نَفْيُ معناه اصطلاحًا، فسَمَّوْه بخلاف اسمه في اللغة، ونَفَوْا به ما أثبته الرَّبُّ لنفسه من صفات الكمال. وكذلك سَمَّوْا صفاته [ب 86 ب] أعراضًا، ثم نَفَوْا عنه الأعراض بالمعنى الذي اصطلحوا عليه، لا بالمعنى الذي وُضِعَتْ له ألفاظ الأعراض في اللغة. وكذلك سَمَّوْا أفعاله حوادثَ، ثم نَفَوْها عنه بالمعنى الذي اصطلحوا عليه لا بمعناه في اللغة، فإن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَعَنَ اللهُ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا» (1). وقال: «إِيَّاكُمْ وَالْحَدَثَ فِي الْإِسْلَامِ» (2). وقال: «لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ» (3). فإذا قالوا: لا تَحِلُّه الحوادث. أوهموا النَّاس هذه الحوادث، ومرادهم أنه لا يتكلَّم ولا يُكلِّم، ولا يرى ولا يَسمع، ولا استوى على عرشه بعد أن لم يكن مستويًا، ولا ينزل كل ليلةٍ إلى سماء الدُّنيا، ولا يُنادِي عبادَه يوم القيامة، ولا يشاء مشيئةً، إلى أمثال ذلك. وكذلك لفظ الاستواء حقيقةٌ في العلوِّ، ثم حَدَثَ له معنى الاستيلاء في قول الشَّاعر إن كان قاله (4): _________ (1) أخرجه البخاري (7306) ومسلم (1366). (2) لم نقف عليه مرفوعًا بهذا اللفظ، وإنما وقفنا عليه من كلام عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه -، أخرجه الإمام أحمد (20559) والترمذي (244) وابن ماجه (815) وقال الترمذي: «حديث حسن». (3) أخرجه البخاري (6954) ومسلم (225). (4) صدر بيت، وعجزه: مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ أَوْ دَمٍ مُهْرَاقِ يُنسب للأخطل النصراني، وليس في «ديوانه»، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (5/ 146): «ولم يثبت نقلٌ صحيحٌ أنه شعرٌ عربيٌّ، وكان غير واحدٍ من أئمة اللغة أنكروه، وقالوا: إنه بيتٌ مصنوعٌ، لا يُعرف في اللغة، وقد عُلم أنه لو احتج بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لاحتاج إلى صحته، فكيف ببيت من الشعر لا يُعرف إسنادُه، وقد طَعن فيه أئمة اللغة».
(1/375)
قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاق فهذا شِعرٌ مُوَلَّدٌ حَدَثَ بعد كتاب الله، ولم يكن معروفًا قبل نزول القرآن، ولا في عصر من أُنزِل عليه القرآن، فحملوا لفظ القرآن على الشِّعر المولَّد الحادث بعد نزوله، ولم يكن من لغة مَن نزل القرآن عليه. وكذلك لفظ المحلِّل والمحلَّل له، فإنه في لغة مَن تكلَّم به ولغة أصحابه هو محلِّل النِّكاح، الذي يُريد أن يتزوج المرأة ليُحلَّها لِمُطَلِّقها. وفي اصطلاح بعض الفقهاء هو الذي يُحَلِّل مُوَلِّيَتَه لغيره بلا مهرٍ، أو الذي يَشترط التَّحليل لفظًا في صُلب العقد. وكذلك لفظ الخمر في لغة مَن تكلَّم به وصرَّح بتحريمه: كلُّ مُسكرٍ. فاصطلح بعض الفقهاء على تخصيص بعض أنواع الأشربة المسكرة باسم الخمر، ثم حملوا النُّصوص على تلك المعاني التي اصطلحوا عليها. وكذلك لفظ الجار في لغته - صلى الله عليه وسلم - هو الجار المعروف، فإذا اصْطُلح على تسمية الشَّريك جارًا قياسًا على تسمية الزوجة جارًا في قول الشَّاعر (1): _________ (1) صدر بيت، وعجزه: كَذَاكِ أُمُورُ النَّاسِ غَادٍ وَطَارِقَهْ وهو للأعشى في «ديوانه» (ص 263).
(1/376)
أَجَارَتَنَا بِينِي فَإِنَّكِ طَالِقَهْ ثم حُمل لفظ الشَّارع على المعنى الاصطلاحي لم يَجُزْ ذلك. ومِن هذا لفظ التركيب، فإنه في لغة القرآن تركيب الشَّيء في غيره، كقوله: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 8]، ثم اصطلح عليه بعض النَّاس، وجعل كل ما تميَّز منه شيءٌ عن شيءٍ مركبًا، وإن كان حقيقته واحدة. فالعرب إنما تُطلِق لفظ التركيب والمركَّب في نحو تركيب الدَّواء، وتركيب الخشبة على الجدار، وتركيب المادة في صورة من الصُّوَر، ولا يُسمَّى الهواء مركبًا ولا النَّار ولا الماء ولا التراب، وإنما المركَّب عندهم ما رُكِّب فيه شيءٌ على شيءٍ. خالف المتأخرون [ب 87 أ] الاصطلاح الحادث، ثم نَفَوْا مُسمَّاه الاصطلاحيَّ عن الرَّبِّ سبحانه، ورأوُا الأدلة اللفظية من القرآن والسُّنَّة لا تساعدهم على ذلك فقالوا: لا تفيد اليقين. الوجه الثَّامن والعشرون: أن هؤلاء القائلين: «إن كلام الله ورسوله لا يُستفاد منه علمٌ ولا يقينٌ» إمَّا أن يريدوا (1) به نفي اليقين في باب الأسماء والصِّفات فقط دون باب المعاد والأمر والنَّهي، أو في باب الصِّفات وباب المعاد فقط دون الأمر، أو في الجميع. فإن أراد الأول ـ وهو مُراد الجهمية ـ قيل له: فما جوابك للفلاسفة المنكرين لمعاد الأبدان؟ حيث احتجَجْت عليهم بأنَّا نعلم بالضَّرورة أن الرُّسل جاؤوا به، فردُّه عليهم تكذيبٌ لهم. فقالوا: الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين. _________ (1) «ب»: «يريد»، والمثبت أنسب للسياق.
(1/377)
فإن قلت: الفرق بيننا وبينهم أن آيات الصِّفات وأخبارها قد عارضتها قواطع عقلية تنفيها، بخلاف نصوص المعاد. قيل: أمَّا أهل القرآن والسُّنَّة فيجيبونك بأن تلك المعارضات هذيانات لا حقيقة لها، وشبهات خيالية: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسِبُهُ اُلظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اَللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاَللَّهُ سَرِيعُ اُلْحِسَابِ} [النور: 38]. وأمَّا أشباهك من الفلاسفة فيقولون: ونصوص المعاد قد عارضها قواطعُ عقلية بنفيها. فإن قلت: بل هذه شبهاتٌ باطلةٌ ومقدِّماتٌ كاذبةٌ. قيل: صدقت، والشُّبهات التي تُعارِض نصوص الصِّفات أَبطَلُ، والمقدمات التي تخالفها أَكذَبُ بكثيرٍ، فإنَّ الشُّبهات العقلية المعارضة لنصوص الأنبياء ليس لها حدٌّ تقف عليه؛ بل قد عارض أرباب المعقول الفاسد جميع ما جاؤوا به من أوَّله إلى آخره بعقولهم، ومعارضة المشركين لما دعت إليه الرسل من التوحيد بشُبُهاتهم من جنس معارضة الدهرية لما أخبروا به من المعاد بشبهاتهم، فهَلُمُّوا نَضَعِ الشبهات جميعها في الميزان، ونحُكَّها على المحكِّ يتبين أنها زَغَلٌ وزَيْفٌ كلُّها. وإن زعمت أنها لا تفيد اليقين لا في باب الخبر عن الله وصفاته، ولا في باب المعاد واليوم الآخر، ولا في باب الأمر والنهي، فقد انسلختَ من العقل والإيمان انسلاخَ الحيَّة من قشرها، وجاهرتَ بالقدح في النبوات والشرائع. وكنت في العقل الصحيح أشدَّ قدحًا، فإنه ليس في [ب 87 ب] المعقول شيءٌ
(1/378)
أصحَّ ممَّا جاءت به الرسل عن الله. وقد تقدَّم تقرير هذا، والمؤمنون يعرفونه جملةً، والرَّاسخون في العلم يعرفونه تفصيلًا. الوجه التَّاسع والعشرون: أن دعوى المدَّعي أن كلام الله ورسوله لا يُستفاد منه يقينٌ ولا علمٌ، إمَّا أن يدعيه حيث لا يعارض العقلُ السمعَ بل يوافقه، أو حيث يعارضه في زعمه، أو حيث لا يعارضه ولا يوافقه؛ فإن ما جاء به الشرع عند هؤلاء ثلاثة أقسام: أحدها: ما يخالف ظاهرُه صريحَ العقل. والثَّاني: ما يوافق العقل. والثَّالث: ما لا يُحِيلُه العقل ولا يقتضيه. فقول القائل: إن كلام الله ورسوله لا يفيد اليقين؛ يُقال له: لا يفيد في شيءٍ من هذه الأقسام الثلاثة عندك، أو في الأول منها خاصةً، أو فيه وفي الثَّالث. فإن كان مراده النفي في جميع الأقسام كان ذلك عنادًا ظاهرًا وإلحادًا في كلام الله ورسوله. وإن كان مراده أنه لا يفيده فيما يخالف صريح العقل ـ وهو الذي يريده هؤلاء ـ قيل له: هذا الفرض وإن اعتقدته واقعًا فهو محالٌ، فلا يعارض السمع الصحيح الصريح إلَّا معقولٌ فاسدٌ، تنتهي مقدماته إلى المكابرة أو التقليد أو التلبيس والإجمال. وقد تدبَّر أنصار الله ورسوله وسُنته هذا فما وجدوا ـ بحمد الله ـ العقلَ الصريح يفارق النقل الصحيح أصلًا، بل هو خادمه وصاحبه والشَّاهد له، وما وجدوا العقل المعارض له إلَّا من أفسد العقول وأسخفها وأشدها منافاةً لصريح العقل وصحيحه.
(1/379)
ولولا الإطالة لذكرنا ذلك على التفصيل، وقد تقدَّمَت الإشارة إلى اليسير منه (1). ويجب على المسلم الذي لله ولكتابه وقارٌ وعظمةٌ في قلبه أن يعتقد هذا، وإن لم يظهر له تفصيله، فإذا ظهر له تفصيله كان نورًا على نور؛ فإن الله سبحانه أقام الحجَّة على الخَلْق بكتابه ورسوله، فلا يمكن أن يكون فيهما ما يَظهر منه خلاف الحق، ولا ما يُخالف العقل، ولا يمكن أن يُحيل الرَّسول النَّاس في الهدى والعلم وصفاته وأفعاله على ما يناقض كلامه من عقلياتهم. وهذا واضح ولله الحمد. الوجه الثلاثون: أن قول القائل: «الأدلة اللفظية موقوفةٌ على هذه المقدمات»؛ أتريدُ به أن كلَّ دليلٍ منها يقف على مجموع [ب 88 أ] الأمور العشرة، أم تريد به أن جنسها يقف على جنس هذه العشرة؟! فإن أردت الأول فهو مكابرةٌ ظاهرةٌ يَرُدُّها الواقع، فإن جمهور النَّاس يعلم مدلول الكلام من غير أن تخطر هذه العشرة أو شيءٌ منها بباله. وإن أردت الثَّاني فالأدلة العقلية تتوقَّف على ما به مقدمة أو أكثر بهذا الاعتبار، فإنه [ما] (2) من مسألةٍ عقليةٍ إلَّا وهي متوقفة على مقدِّمات غير المقدِّمات التي يتوقَّف عليها مسألةٌ أخرى؛ فما يتوقف عليه دلالة الدليل لا ضابِطَ له، وإنما هو أمرٌ نسبيٌّ إضافيٌّ. الوجه الحادي والثلاثون: أن حكمك بتوقف دلالة الدليل على معرفة الإعراب والتصريف خطأٌ ظاهرٌ، فإن مَن عَرَف أن لله الأسماء الحسنى _________ (1) تقدم (ص 255). (2) سقط من «ب».
(1/380)
كالرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن، وأن الاسم يَدُلُّ على المسمَّى في لغة العرب؛ لم يتوقف في العلم بدلالة هذه الأسماء على الربِّ سبحانه على معرفته بأن الاسم مشتقٌّ من السمو أو من السِّمة، والاختلاف بين البصريين والكوفيين في ذلك، ومعرفة أرجح القولَيْنِ؛ فإن جماهير أهل الأرض يعرفون أن الله اسم لذات الخالق فاطر السماوات والأرض، ولا يعرفون تصريف الاسم واشتقاقَه. وأمَّا الإعراب فهؤلاء العامة يجزمون ويتيقَّنون مراد مُكلِّمهم بكلامه، ولا يتوقف ذلك على معرفتهم بوجوه الإعراب. فإن قلت: إنما كلامنا في كلام العرب الفُصحاء الذين يتوقَّف فَهْمُ معاني كلامهم على الإعراب. قيل: ما يتوقف عليه فَهْمُ كلامهم من الإعراب سجيَّة وطبيعة لهم، وأمَّا مَن بعدهم فقد نُقِلَ إلينا ذلك نقلًا متواترًا عنهم، كما نُقِلَ إلينا معاني مفردات ألفاظهم. الوجه الثَّاني والثلاثون: قولك: «إن ذلك يتوقف على نفي التخصيص والإضمار»؛ فهذا لا يُحتاج إليه في فَهْم معاني الألفاظ المفردة، فإنها تدلُّ على مُسمَّاها دلالةَ سائر الألفاظ على معانيها، كدلالة الأعلام ولفظ العدد وأسماء الأزمنة والأمكنة والأجناس على موضوعاتها. واحتمال كون اللفظ العامِّ خاصًّا كاحتمال كون اللفظ الذي له حقيقة مستعملًا في غير حقيقته، وهذا منفيٌّ بالأصل، ولا يُحتاج في فَهْمِ ما هو جارٍ على أصله إلى أن يُعلم انتفاء الدليل الذي يُخرجه عن أصله، وإلَّا لم يفهم مدلول لفظ أبدًا لجواز أن يكون خرج عن أصل موضوعه بنَقْلٍ أو مجازٍ أو
(1/381)
غير ذلك. ولو ساغ ذلك لم يكن [ب 88 ب] أحدٌ يحتجُّ بدليلٍ شرعيٍّ لجواز أن يكون منسوخًا وهو لا يعلم ناسخه، ولم يشهد أحدٌ لأحدٍ بمِلْك لجواز أن يكون خرج عن مِلْكه ببيعٍ أو تبرُّعٍ، ولم يشهد أحدٌ لأحد بزوجيةِ امرأةٍ ولا رِقِّ عبدٍ لجواز أن يكون طلَّق وأعتق. وفتح باب التجويزات لا آخِرَ له، ولا ثقةَ معه البتَّةَ. وهذا الباب قد دخل منه على الإسلام دَخَلٌ (1) عظيمٌ وخَطْبٌ جسيمٌ، وأهل الباطل على اختلاف أصنافهم لا يزالون يتعلَّقون (2) به، ولا تزال تَعمِد كلُّ طائفةٍ منهم إلى آيةٍ من كتاب الله فيقودها (3) إلى مذهبه الذي يدعو إليه، ويدَّعي أن لها دلالةً خاصةً عليه، وكذلك يفعل في كثيرٍ من الأخبار التي يَجُرُّها إلى معتقده. وليست المحنة التي عرضت في هذا الباب مقصورة على أهل الإسلام فقط، بل هي مشترِكة بين جميع أهل الأديان والمِلَل. ومَن أعطى التَّأمُّل حقَّه وجد أكثر ما ادَّعاه أهل التأويلات المستشنعة وأهل الباطل من جهة إخراج الألفاظ عن حقائقها، وفتح أبواب الاحتمالات والتجويزات عليها، وتغليب الخصوص على العموم، وادِّعائهم أن الأغلب في ألفاظ العموم إنما هو الخصوص دون العموم ذَهابًا منهم في ذلك إلى أن البيان الشَّافي إنما هو في المعنى الخاص دون العام، وأنه المتيقَّن من اللفظ، فإن ظَفَرَ به وإلَّا قال: _________ (1) «ب»: «مدخل». ولعل المثبت هو الصواب، والدخل: الفساد. «الصحاح» (4/ 1697). (2) «ب»: «يتقلقون». ولعل المثبت هو الصواب. (3) كذا في «ب» بتذكير الفعل وما بعده في العبارة.
(1/382)
المراد خاصٌّ محتملٌ (1)، فتُعطَّل دلالة اللفظ العام الكلي بهذه الطريق، كما تُعطَّل دلالة اللفظ على حقيقته باحتمال إرادة المجاز والاستعارة، ودلالة أوامر الله ورسوله على وجوب الامتثال باحتمال إرادة الاستحباب ومطلق الرجحان، ودلالة نواهيه على التحريم باحتمال دلالتها على مجرَّد الكراهة وترك الأَوْلى، ودلالة النصِّ الصريح الذي لا يحتمل غير معناه باحتمال كونه منسوخًا. فقد أَعَدَّ لكل دليلٍ قانونًا يدفع به دلالته، فإن كان خبر واحدٍ قال: يحتمل أن يكون راويه كَذَبَ أو أَخطَأَ. فإن أعجزه القدح في راويه لشُهرَته بالصدق والعدالة قال: لعله رواه بالمعنى الذي فَهِمَه وهو غير فقيه، فإذا عارضه القياس كان المصير إليه أَوْلى، كما قال هؤلاء: إذا عارض النص العقل كان المصير إليه أولى. فإن غُلب وأمكنه ادِّعاء انعقاد الإجماع على خلافه عارضه بالإجماع، فإن غُلب عن ذلك عارضه باحتمال النَّسْخ، فإن غُلب عارض [ب 89 أ] دلالته بالاحتمالات وأنواع التأويلات. فلله ما لَقِيَتِ النصوص من هذه الفِرَق وأرباب التأويلات والمتعصبين لمذاهبهم! وإلى مُنْزلها الشِّكاية، وبه المستعان، وعليه التُّكْلان. الوجه الثَّالث والثلاثون: أن القدح في دلالة العام باحتمال الخصوص وفي الحقيقة باحتمال المجاز والنقل والاشتراك وسائر ما ذُكر؛ يُبطِل حُجَجَ الله على خَلْقه بآياته، ويُبطِل أوامره ونواهيَه، وفائدة أخباره. ونحن نبيِّن ذلك بحمد الله بيانًا شافيًا، ونقدِّم قبل بيانه مقدمة بين يديه، وهي ذِكْر الوجوه التي تنقسم إليها معاني ألفاظ القرآن، وهي عشرة أقسام: _________ (1) «ب»: «مجمل». ولعل المثبت هو الصواب.
(1/383)
القسم الأول: تعريفه سبحانه نفسه لعباده بأسمائه وصفات كماله ونعوت جلاله وأفعاله، وأنه واحدٌ لا شريك له، وما يتبع ذلك. القسم الثَّاني: ما استَشهد به على ذلك من آيات قدرته وآثار حكمته فيما خَلَقَ وذَرَأ في العالم الأعلى والأسفل من أنواع بريَّته وأصناف خليقته، محتجًّا به على من أَلحَدَ في أسمائه وتوحيده وعَطَّلَه عن صفات كماله وعن أفعاله، وكذلك البراهين العقلية التي أقامها على ذلك والأمثال المضروبة والأقيسة العقلية التي تقدمت الإشارة إلى الشيء اليسير منها (1). القسم الثَّالث: ما اشتمل عليه بَدْء الخلق وإنشاؤه ومادَّته، وابتداعه له وسَبْق بعضه على بعضٍ، وعدد أيام التخليق، وخَلْق آدم، وإسجاد الملائكة، وشأن إبليس وتمرُّده وعصيانه، وما يتبع ذلك. القسم الرَّابع: ذِكْر المعاد والنشأة الأخرى، وكيفيته، وصورته، وإحالة الخَلْق فيه من حالٍ إلى حالٍ، وإعادتهم خَلْقًا جديدًا. القسم الخامس: ذِكْر أحوالهم في معادهم، وانقسامهم إلى شقيٍّ وسعيدٍ، ومسرورٍ بمَنقَلَبه ومثبورٍ (2) به، وما يتبع ذلك. القسم السَّادس: ذِكْر القرون الماضية والأُمم الخالية وما جرى عليهم، وذِكْر أحوالهم مع أنبيائهم، وما نزل بأهل العناد والتكذيب منهم من المَثُلات، وما حلَّ بهم من العقوبات؛ ليكون ما جرت عليه أحوال الماضين _________ (1) تقدم (ص 229 - 254). (2) مثبور: قال الفراء: أي مغلوب ممنوع من الخير. وقال ابن الأعرابي: المثبور الملعون المطرود المعذب. «لسان العرب» (4/ 99).
(1/384)
عبرةً للمعاندين فيحذروا سلوك سبيلهم في التكذيب والعصيان. القسم السَّابع: الأمثال التي ضربها لهم، والمواعظ التي وعظهم بها، يُنبِّههم بها على قَدْر الدنيا وقِصَر مُدَّتها وآفاتها؛ ليزهدوا فيها ويتركوا الإخلاد إليها، ويَرغَبوا فيما أَعَدَّ لهم في الآخرة من نعيمها المقيم وخيرها الدَّائم. القسم الثَّامن: ما تضمنه من الأمر والنهي والتحليل والتحريم، [ب 89 ب] وبيان ما فيه طاعته ومعصيته، وما يُحِبُّه من الأعمال والأقوال والأخلاق، وما يكرهه ويُبغِضه منها، وما يُقرِّب إليه ويُدني من ثوابه، وما يُبعِد منه ويُدني من عقابه. وقَسَّمَ هذا القسم إلى فروض فرضها، وحدود حَدَّها، وزواجر زَجَرَ عنها، وأخلاق وشِيَم رغَّب فيها. القسم التَّاسع: ما عرَّفهم إياه من شأن عدوهم ومداخله عليهم ومكايده لهم وما يريده بهم، وعرَّفهم إيَّاه من طريق التحصُّن منه والاحتراز من بلوغ كيده منهم، وما يتداركون به ما أُصيبوا به في معركة الحرب بينهم وبينه، وما يتبع ذلك. القسم العاشر: ما يختص بالسفير بينه وبين عباده من أوامره ونواهيه، وما اختصه به من الإباحة والتحريم، وذِكْر حقوقه على أُمته، وما يتعلق بذلك. فهذه عشرة أقسام عليها مدار القرآن. وإذا تأمَّلْت الألفاظ المتضمِّنة لها وجدتَها ثلاثة أنواع: أحدها: ألفاظٌ في غاية العموم، فدعوى التخصيص فيها يُبطِل مقصودَها وفائدة الخطاب بها.
(1/385)
الثَّاني: ألفاظ في غاية الخصوص، فدعوى العموم فيها لا سبيل إليه. الثَّالث: ألفاظ متوسِّطة بين العموم والخصوص. فالنوع الأول كقوله: {وَاَللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 281] و {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 108] و {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102]، وقوله: {* يَاأَيُّهَا اَلنَّاسُ أَنتُمُ اُلْفُقَرَاءُ إِلَى اَللَّهِ} [فاطر: 15] و {يَاأَيُّهَا اَلنَّاسُ اُعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 20] و {يَاأَيُّهَا اَلنَّاسُ اُتَّقُوا رَبَّكُمُ اُلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء: 1] وأمثال ذلك. والنوع الثَّاني كقوله: {* يَاأَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} [المائدة: 69] وقوله: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] وقوله: {وَاَمْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ اَلنَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ اِلْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]. والنوع الثَّالث كقوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 37] وقوله: {يَاأَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 103] و {يَاأَهْلَ اَلْكِتَابِ} [آل عمران: 64] و {يَاعِبَادِي اِلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ} [الزمر: 50] ونحو ذلك ممَّا يَخُصُّ طائفة من النَّاس دون طائفة. وهذا النوع وإن كان متوسِّطًا بين الأول والثَّاني فهو عامٌّ فيما قصد به ودلَّ عليه. وغالب هذا النوع أو جميعُه قد عُلِّقت الأحكام فيه بالصفات المقتضية لتلك الأحكام، فصار عمومه لِمَا تحته من جهتين: من جهة اللفظ والمعنى. فتخصيصُه ببعض نوعه إبطالٌ لما قُصِدَ به، وإبطال دلالته؛ إذ الوقف فيها لاحتمال إرادة الخصوص به أشد إبطالًا وعودًا على مقصود المتكلم به
(1/386)
بالإبطال. فادَّعى قومٌ من أهل التأويل [ب 90 أ] في كثيرٍ من عمومات هذا النوع التخصيص، وذلك في باب الوعد والوعيد وفي باب القضاء والقدر. أمَّا باب الوعيد فإنه لمَّا احتَجَّ عليهم الوعيدية بقوله: {* وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 92] وبقوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اَلْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10] وأمثال ذلك لجؤوا إلى دعوى الخصوص، وقالوا: هذا في طائفةٍ معيَّنةٍ. ولجؤوا إلى هذا القانون وقالوا: الدليل اللفظي العامُّ مبنيٌّ على مقدِّمات، منها عدم التخصيص، وانتفاؤه غير معلومٍ. وأمَّا باب القدر فإن أهل الإثبات لمَّا احتجوا على القدرية بقوله: {اِللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 18] وقوله: {وَهْوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 122] ونحوه ادَّعَوْا تخصيصه. وأكثر طوائف أهل الباطل ادِّعاءً لتخصيص العمومات هم الرَّافضة، فقلَّ أن تَجِدَ في القرآن والسُّنَّة لفظًا عامًّا في الثناء على الصَّحابة إلَّا قالوا: هذا في عليٍّ وأهل البيت. وهكذا تجد كل أصحاب مذهبٍ من المذاهب إذا ورد عليهم عامٌّ يخالف مذهبهم ادَّعَوْا تخصيصه، وقالوا: أكثر عمومات القرآن مخصوصة. وليس ذلك بصحيحٍ، بل أكثرها محفوظةٌ باقيةٌ على عمومها. فعليك بحِفْظ العموم، فإنه يُخلِّصك من أقوالٍ كثيرةٍ باطلةٍ قد وقع فيها مُدَّعُو الخصوص بغير برهانٍ من الله، وأخطؤوا من جهة اللفظ والمعنى. أمَّا من جهة اللفظ فلأنك تجد النصوص التي اشتملت على وعيد أهل الكبائر مثلًا في جيمع آيات القرآن خارجة بألفاظها مَخرَج العموم المؤكد
(1/387)
المقصود عمومه، كقوله: {وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} [الفرقان: 19] {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ} [الأنفال: 16] وقوله: {* وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 92] و {مَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8]، وقد سمَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية جامعةً فاذَّةً (1). أي: عامة فذَّة في بابها (2). وقوله: {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى (73) وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ اَلصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ اُلدَّرَجَاتُ اُلْعُلى} [طه: 73 - 74] وقوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اَلْيَتَامَى} [النساء: 10] وقوله: {وَاَلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اَللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: 68]. وأضعاف أضعاف ذلك من عمومات القرآن المقصودُ عمومها، التي إذا أُبطِل عمومها بَطَلَ مقصود عامَّة القرآن. ولهذا قال شمس الأئمة السرخسيُّ (3): «إنكار العموم بدعة حدثت في الإسلام بعد القرون الثلاثة» (4). [ب 90 ب] وأمَّا خطؤهم من جهة المعنى، فلأن الله سبحانه إنما علَّق الثواب والعقاب على الأفعال المقتضية له اقتضاءَ السبب لمسببه، وجعلها _________ (1) أخرجه البخاري (4963) ومسلم (987) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (2) معنى جامعة: أي عامة لجميع أفعال الخير، ومعنى فاذة: منفردة قليلة المِثْل في بابها. «مشارق الأنوار» (2/ 150) و «مطالع الأنوار» (5/ 207). (3) الإمام شمس الأئمة أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي الحنفي صاحب «المبسوط» توفي في حدود سنة خمسمائة. ترجمته في «الجواهر المضية» للقرشي (2/ 28 - 29) و «تاج التراجم» لابن قطلوبغا (ص 234 - 325). (4) لم نقف عليه.
(1/388)
عللًا لأحكامها، والاشتراكُ في الموجب يقتضي الاشتراك في موجِبه، والعلةُ إذا تَخلَّف عنها معلولها من غير انتفاء شرطٍ أو وجود مانعٍ فسدت، بل يستحيل تخلُّف المعلول عن علَّته التَّامة، وإلَّا لم تكن تامَّة، ولكن غَلِطَ هاهنا طائفتانِ من أهل التأويل: الوعيدية حيث حجَرَت على الربِّ تعالى بعقولها الفاسدة أن يترك حقَّه ويعفوَ عمَّن يشاء من أهل التوحيد، وأوجبوا عليه أن يُعذِّب العُصاة ولا بدَّ، وقالوا: إن العفو عنهم وتَرْكَ تعذيبهم إخلالٌ بحكمته وطعنٌ في خبره. وقابلتهم الطَّائفة الأخرى فقالوا: لا نجزم بثبوت الوعيد لأحدٍ، فيجوز أن يعذب الله الجميع، وأن يعفو عن الجميع، وأن يُنفِّذَ الوعيد في شخصٍ واحدٍ يكون هو المراد من ذلك اللفظ، ولا نعلم هل هذه الألفاظ للعموم أو للخصوص. وهذا غلوٌّ في التعطيل، والأول غلوٌّ في التقييد. والصواب غير المذهبين، وأن هذه الأفعال سببٌ لما عُلِّق عليها من الوعيد، والسبب قد يتخلَّف عنه مسببه لفوات شرطٍ أو وجود مانعٍ، والموانع متعددة، منها ما هو متفَق عليه بين الأُمة كالتوبة النصوح، ومنها الحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، وما يلحق العبد بعد موته من ثوابٍ تسبَّب إلى تحصيله، أو دعاءٍ، أو استغفارٍ له، أو صدقةٍ عنه. ومنها شفاعة يأذن الله فيها لمن أراد أن يشفع فيه. ومنها رحمة تُدرِكه من أرحم الرَّاحمين، يترك بها حقَّه قِبَله ويعفو عنه. وهذا لا يُخْرِج العموم عن مقتضاه وعمومه، ولا يُحجَر على الربِّ تعالى حجرَ الوعيدية والقدرية. وللرد على الطَّائفتين موضع غير هذا (1). _________ (1) قد بسط المصنِّف الرد على الطائفتين في كتابه «شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل».
(1/389)
والمقصود أن الأقسام الثلاثة التي تضمنها القرآن وهي: الأعمُّ والعامُّ والأخصُّ، كل منها يُفِيدُ العلم بمدلوله، ولا يتوقَّف فَهْم المراد منه على العلم بانتفاء المخصص والإضمار والحذف والمجاز؛ فإن ذلك يُبطِل أحكام تلك الأقسام العشرة التي اشتمل عليها القرآن، وتَحُولُ بين الإنسان وبين فائدتها، مع كونها أهمَّ الأمور، والعنايةُ الإلهية بها أشدُّ، وبيانُها واقعٌ موقع الضرورة. فلو صحَّ قول القائل: إن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين، لم يحصل لنا [ب 91 أ] اليقين من القرآن في شيءٍ من تلك الأقسام العشرة البتَّةَ، وهذا مِن أَبْطَلِ الباطل وأَبْيَنِ الكذب. الوجه الرَّابع والثلاثون: أنك تجد عند كثيرٍ من المعروفين بالتفسير مِن ردِّ كثيرٍ من ألفاظ القرآن عن العموم إلى الخصوص نظيرَ ما تجده من ذلك عند أرباب التأويلات المستنكرة. ومتى تأمَّلْت الحال فيما سوَّغوه من ذلك وجدتها عائدة من الضرر على الدِّين بأعظم ممَّا عاد من ضرر كثيرٍ من التأويلات. وذلك لأنهم بالقصد إلى ذلك فتحوا لأرباب التأويلات الباطلة السبيل إلى التهافُت فيها، فعَظُمَتْ بذلك الجناية من هؤلاء وهؤلاء على الدِّين وأهله. وتجد الأسباب الدَّاعية للطائفتين قصدَ الإغراب على النَّاس في وجوه التفسير والتأويل، وادعاءَهم أن عندهم منها نوادر لا توجد عند عامة النَّاس؛ لعِلْمِهم أن الأمر الظَّاهر المعلوم يشترك النَّاس في معرفته فلا مزيَّةَ فيه، والشيءُ النَّادرُ المستظرَف يَحُلُّ مَحَلَّ الإعجاب، وتتحرَّك الهِمَم لسماعه واستفادته؛ لِمَا جُبل النَّاس عليه من إيثار المستظرَفات والغرائب. وهذا من أكثر أسباب الأكاذيب في المنقولات، والتحريف لمعانيها، ونِحْلَتها معانيَ
(1/390)
غريبة غير مألوفة، وإلَّا فلو اقتصروا على ما يُعرف من الآثار وعلى ما يفهمه العامة من معانيها لَسَلِمَ عِلْم القرآن والسُّنَّة من التأويلات الباطلة والتحريفات. وهذا أمرٌ موجودٌ في غيرهم، كما تجد المتعنِّتين بوجوه القرآن يأتون من القراءات البديعة المستشنَعة في ألفاظها ومعانيها الخارجة عن قراءة العامة وما أَلِفُوه ما يُغرِبون به على العامَّة، وأنهم قد أُوتوا مِن عِلْم القرآن ما لم يُؤتَه سواهم. وكذلك أصحاب الإعراب يذكرون من الوجوه المستكرَهة البعيدة المتعقِّدة ما يُغرِبون به على النَّاس. وكذلك كثيرٌ من المفسرين يأتون بالعجائب التي تَنفِر عنها النفوس ويأباها القرآن أشدَّ الإباء. كقول بعضهم: {طه} [طه: 1] لفظة نَبَطِيَّة، معناها: يا رجل ويا إنسان (1). وقال بعضهم: هي من أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - مع يس. وعَدُّوا في أسمائه طه ويس (2). _________ (1) قال الواحدي في «التفسير البسيط» (14/ 347): «{طه} قال ابن عباس في رواية عطاء: يا رجل. يريد محمدًا - صلى الله عليه وسلم -. وهو قول الحسن وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وابن أبي نجيح عن مجاهد والكلبي». وينظر «تفسير الطبري» (16/ 5 - 7). (2) قال القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» (11/ 166): «وقيل: هو اسم للنبي - صلى الله عليه وسلم - سمَّاه الله تعالى به كما سمَّاه محمدًا. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لي عند ربي عشرة أسماء ... » فذكر أن فيها طه ويس». قلت: هذا الحديث وهَّاه الذهبي في «تاريخ الإسلام» (1/ 488) وقال ابن ناصر الدين في «جامع الآثار» (3/ 129): «قلت: ولم تجئ في حديث صحيح ولا أثر عن الصحابة تسميته - صلى الله عليه وسلم - بـ «طه» و «يس» والله أعلم، وإنما مجراها في القرآن كـ: {الم} و {الر} و {حم} ونحوها».
(1/391)
وقال بعضهم في {ن وَاَلْقَلَمِ} [القلم: 1] إنها الدواة (1). كأنه لمَّا رأى هذا الحرف قد اقترن بالقلم جعله الدواة. وقال بعضهم في {ص} [ص: 1] إنها فِعْل أَمْر (2) مثل رامِ وقاضِ. وكما قال بعضهم في قوله: {إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا} [الفرقان: 8]: [ب 91 ب] وهو الذي له سَحْر (3) أي: رئة (4). أَفَتَرَى أراد _________ (1) قال الواحدي في «التفسير البسيط» (22/ 70): «وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: {ن} الدواة. ونحو هذا روى الضحاك، وهو قول الحسن وقتادة». (2) قال الطبري في «جامع البيان» (20/ 5): «قال بعضهم: هو من المصاداة، من صاديت فلانًا، وهو أمرٌ من ذلك، كأن معناه عندهم: صاد بعملك القرآن: أي عارِضْه به، ومن قال هذا تأويله، فإنه يقرؤه بكسر الدال، لأنه أمرٌ، وكذلك روي عن الحسن». وقال القرطبي في «الجامع» (15/ 142): «وقرأ أُبي بن كعب والحسن وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم «صادِ» بكسر الدال بغير تنوين، ولقراءته مذهبان: أحدهما أنه من صادى يصادي إذا عارَضَ، ومنه {فَأَنتَ لَهُ تَصَدّى} [عبس: 6] أي: تَعَرَّضُ، والمصاداة المعارضة، ومنه الصدى، وهو ما يُعارِض الصوت في الأماكن الخالية. فالمعنى صادِ القرآن بعملك، أي: عارِضْه بعملك وقابِلْه به، فاعْمَل بأوامره، وانْتَهِ عن نواهيه». (3) السحر: الرئة. وفيه ثلاث لغات: وزان فَلْس وسَبَب وقُفْل. «المصباح المنير» (1/ 267). (4) قال الواحدي في «التفسير البسيط» (13/ 353): «وقال أبو عبيدة: يريد بشرًا ذا رئةٍ. قال ابن قتيبة: ولست أدري ما الذي اضطره إلى هذا التفسير المستكرَه، وقد سبق التفسير من السلف بما لا استكراه فيه. قال مجاهد في قوله: {رَجُلًا مَّسْحُورًا}: أي مخدوعًا؛ لأن السحر حيلة وخديعة. وروى عطاء عن ابن عباس في قوله: {مَّسْحُورًا} قال: يريد مخلوقًا. وهذا يؤكد قول أبي عبيدة: ذو سحر».
(1/392)
فرعونُ بقوله لموسى: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا} [الإسراء: 101] هذا المعنى؟! وأراد الكفار بقولهم: {إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} [الحجر: 15] هذا المعنى (1)؟! وكما قال آخرون في قوله: {مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اُللَّهُ فِي اِلدُّنْيا وَاَلْآخِرَةِ} [الحج: 15] أن المعنى يرزقه (2)، واستشهدوا بقولهم: أرض منصورة أي: ممطورة. ولو تأمَّلَ هذا القائلُ سياقَ [الآية] (3) وآخرها لَعَلِمَ أن تفسير النصر بالرزق يُزيل معنى الآية عن وَجْهِه الذي قُصِدَ به (4). وقال آخرون في قوله: {فَاَلْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} [يونس: 92] أي: بدِرْعِك، و {نُنَجِّيكَ} نُلقِيك على نَجوةٍ من الأرض (5). وقال آخرون في قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَاَنْحَرْ} [الكوثر: 2]: إن المراد به ضَعْ يَدَكَ على نَحْرك. وتكايَسَ غيره (6) وقال: المعنى استقبلِ القبلة بنحرك (7). _________ (1) قال الواحدي في «التفسير البسيط» (13/ 355): «والاختيار هو القول الأول؛ لقوله تعالى إخبارًا عن فرعون: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا} [الإسراء: 101] لا يجوز أن يكون أراد مخلوقًا، وذا سحرٍ، وإنما أراد: مخدوعًا، والمشركون كانوا يذهبون إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يُعلم ما يأتي به ويُخدع بذلك، يدل على هذا قوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103]. فلذلك قالوا له: {مَسْحُورًا}». (2) رواه الطبري في «جامع البيان» (16/ 480) عن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - من طرق. (3) «ب»: «الآخرة». (4) وجَّهه الطبريُّ في «جامع البيان» (16/ 483 - 484) توجيهًا حسنًا. (5) ينظر: «النكت والعيون» للماوردي (2/ 449) و «معالم التنزيل» للبغوي (4/ 149) و «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي (8/ 379 - 381). (6) كذا في «ب»، وظاهر السياق أن تكون: «غيرهم». (7) قال القرطبي في «الجامع» (20/ 219): «وقال علي - رضي الله عنه - ومحمد بن كعب: المعنى ضع اليمنى على اليسرى حِذاءَ النحر في الصلاة. ورُوي عن ابن عباس أيضًا. ورُوي عن علي أيضًا: أن يرفع يدَيْه في التكبير إلى نحره. وكذا قال جعفر بن علي {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَاَنْحَرْ} قال: يرفع يديه أوَّل ما يكبِّر للإحرام إلى النحر ... وعن أبي صالح عن ابن عباس قال: استقبل القبلة بنحرك. وقاله الفراء والكلبي وأبو الأحوص».
(1/393)
فهضموا معنى هذه الآية التي جمعت بين العبادتين العظيمتين الصلاةِ والنُّسُكِ. وقال آخرون في قوله: {أَعْجَبَ اَلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد: 20]: إنهم الزُّرَّاع (1). وهل أطلق الله سبحانه الكفار في موضعٍ واحدٍ على غير الكافرين به؟! وكما قيل في قوله: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور: 35]: إن المشكاة هذا الموضع الذي يشكو المتعبِّدُ فيه إلى الله (2). وأضعافُ أضعافِ ذلك من التفاسير المستنكَرة المستكرَهة التي قُصِدَ بها الإغراب والإتيان بخلاف ما يتعارفه النَّاس، كـ «حقائق السُّلَمي» (3) _________ (1) قال الواحدي في «التفسير البسيط» (21/ 301): «قوله تعالى: {أَعْجَبَ اَلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} يعني: الزُّرَّاع، عن عبد الله ومجاهد. قال الأزهري: والعرب تقول: للزارع كافرًا؛ لأنه يَكفُر البَذْرَ الذي يَبذُره بتراب الأرض، ومنه قوله: {أَعْجَبَ اَلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} أي: الزُّرَّاع، وإذا أعجب الزُّراعَ نباتُه مع عِلْمهم به فهو غاية ما يُستحسَن. قال: وقيل: الكفار في هذه الآية الكفار بالله، وهم أشدُّ إعجابًا بزينة الدنيا وحَرْثها من المؤمنين». (2) لم أقف على هذا التفسير. (3) «حقائق التفسير» لأبي عبد الرحمن السُّلَمي قال عنه الذهبي في «تاريخ الإسلام» (9/ 211): «ليته لم يصنفه، فإنه تحريف وقَرمَطَة، فدُونَك الكتاب فسترى العجب». وقال في «تذكرة الحفاظ» (3/ 1046): «أتى فيه بمصائب وتأويلات الباطنية، نسأل الله العافية». وينظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذا التفسير في «مجموع الفتاوى» (6/ 376، 11/ 581، 13/ 242 - 243).
(1/394)
وغيره ممَّا لو تُتبِّع وبُيِّن بطلانه لجاء عدة أسفارٍ كبارٍ، ولولا قَصْدُ الإغراب والإتيان بما لم يَسبق إليه غيرُه لما أَقدَمَ على ذلك، كما قال بعض الرَّافضة في قوله: {مَرَجَ اَلْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} [الرحمن: 17]: هما علي وفاطمة {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ} [الرحمن: 18] هو النبي - صلى الله عليه وسلم - {يُخْرَجُ مِنْهُمَا اَللُّؤْلُؤُ وَاَلْمَرْجَانُ} [الرحمن: 20] هما الحسن والحسين (1). وجناية هؤلاء على القرآن جناية عظيمة، وبسبب ما اعتمدوه قال القائل: كلام الله لا يُستفاد منه يقينٌ؛ لاحتمال اللفظة منه عدَّة وجوهٍ، وقد فُسِّرت بذلك كله. ولو شُرح كتابٌ من كتب العلوم هذا الشرح لأفسده الشَّارح على صاحبه، ومسخ مقاصده، وأزالها عن مواضعها. والمقصود أن حَمْل عمومات القرآن على الخصوص تعطيلٌ لدلالتها، _________ (1) أخرجه الثعلبي في «الكشف والبيان» (25/ 316 - 317) عن سفيان الثوري. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في «منهاج السنة النبوية» (7/ 246): «ذكره بإسناد رواته مجهولون لا يُعرفون عن سفيان الثوري، وهو كذبٌ على سفيان». ثم ساقه وعقَّب قائلًا: «وهذا الإسناد ظلمات بعضها فوق بعض، لا يثبت بمثله شيء». ثم بيَّن كذب هذا التفسير من وجوه. وقال شيخ الإسلام في «منهاج السنة النبوية» (7/ 245) أيضًا: «هذا وأمثاله إنما يقوله من لا يعقل ما يقول، وهذا بالهذيان أشبه منه بتفسير القرآن، وهو من جنس تفسير الملاحدة والقرامطة الباطنية للقرآن، بل هو شر من كثير منه، والتفسير بمثل هذا طريق للملاحدة على القرآن والطعن فيه، بل تفسير القرآن بمثل هذا من أعظم القدح فيه والطعن فيه».
(1/395)
وإخراجٌ لها عمَّا قُصِدَ بها، وهَضْمٌ لمعناها، وإزالةٌ لفائدتها، كقول بعضهم في قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اُللَّهُ وَرَسُولُهُ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا اُلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ اَلزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: 57] [ب 92 أ]: إن المراد به عليُّ بن أبي طالب (1). وهذا كَذِبٌ قطعًا على الله أنه أراد عليًّا وَحْدَه بهذا اللفظ العامِّ الشَّامل لكل من اتَّصف بهذه الصفة. وقولِ هذا القائل أو غيره في قوله تعالى: {وَاَلَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ اُلْمُتَّقُونَ (32 ) لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ اُلْمُحْسِنِينَ} [الزمر: 32 - 33] إنه علي بن أبي طالب (2). وفي قوله: {فَاَلَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاَتَّبَعُوا اُلنُّورَ اَلَّذِي أُنزِلَ _________ (1) قال شيخ الإسلام في «منهاج السنة» (2/ 30): «وقد وضع بعض الكذابين حديثًا مفترًى أن هذه الآية نزلت في عليٍّ لمَّا تصدَّق بخاتمه في الصلاة، وهذا كَذِبٌ بإجماع أهل العلم بالنقل، وكَذِبُه بيِّنٌ من وجوه كثيرة» ثم ذكرها مفصَّلة. وينظر «منهاج السنة» (7/ 5 - 31) فقد أبطل هذا التفسير بما لا مزيد عليه. (2) أخرجه العقيلي في «الضعفاء الكبير» (6/ 191) وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (42/ 359 - 360) من طريق نصر بن مزاحم، عن عمرو بن سعيد، عن ليث، عن مجاهد. وقال العقيلي: نصر بن مزاحم المنقري كان يذهب إلى التشيع، وفي حديثه اضطرابٌ وخطأٌ كثيرٌ. وذكر أنه لا يُتابع على هذا الأثر. وقال شيخ الإسلام في «منهاج السنة» (7/ 188): «هذا ليس منقولًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقول مجاهد وحده ليس بحجة يجب اتباعها على كل مسلم، لو كان هذا النقل صحيحًا عنه، فكيف إذا لم يكن ثابتًا عنه؟! فإنه قد عُرف كثرة الكذب. والثابت عن مجاهد خلاف هذا، وهو أن الصدق هو القرآن، والذي صَدَّقَ به هو المؤمن الذي عَمِلَ به. فجعلها عامَّة، رواه الطبري وغيره عن مجاهد قال: هم أهل القرآن يجيئون به يوم القيامة، فيقولون: هذا الذي أعطيتمونا قد اتَّبَعْنا ما فيه». ثم أفاض في بيان خطأ هذا التفسير.
(1/396)
مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ اُلْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157] إنه علي بن أبي طالب (1). وقول ِالآخر في قوله: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اُللَّهِ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى اَلْكُفّارِ} عمر بن الخطاب {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} أبو بكر {تَراهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} عثمان {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اَللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح: 29] علي (2). وقولِ الآخر في قوله: {اُلْحَمْدُ لِلَّهِ اِلَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا اَلْحَزَنَ} [فاطر: 34] هَمَّ الخبز (3). _________ (1) لم أقف على هذا التفسير. (2) قال شيخ الإسلام في «منهاج السنة» (7/ 229): «لكن هذه التفاسير الباطلة يقول مثلها كثيرٌ من الجُهَّال، كما يقولون: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اُللَّهِ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ} أبو بكر {أَشِدَّاءُ عَلَى اَلْكُفّارِ} عمر {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} عثمان {تَراهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} علي. يجعلون هذه الصفات لموصوفات متعدِّدة، ويعينون في هؤلاء الأربعة، والآية صريحة في إبطال هذا وهذا، فإنها صريحة في أن هذه الصفات كلها لقوم يتصفون بها كلها، وإنهم كثيرون ليسوا واحدًا. ولا ريب أن الأربعة أفضل هؤلاء، وكل من الأربعة موصوف بهذا كله، وإن كان بعض الصفات في بعض أقوى منها في آخر». وهذا التفسير عزاه السيوطي في «الدر المنثور» (13/ 524) لابن مردويه، والقاضي أحمد بن محمد الزهري في «فضائل الخلفاء الأربعة» والشيرازي في «الألقاب» عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. وأخرجه الثعلبي في «الكشف والبيان» (24/ 322 - 323) عن الحسن البصري. (3) أخرجه الطبري في «جامع البيان» (19/ 378) والثعلبي في «الكشف والبيان» (22/ 208 - 209) عن شمر بن عطية. وأخرجه سعيد بن منصور في «التفسير» (1785) وغيره عن شمر بلفظ «حزن الطعام». وقال الطبري في «جامع البيان» (19/ 379): «وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذِكْره أخبر عن هؤلاء القوم الذين أكرمهم بما أكرمهم به أنهم قالوا حين دخلوا الجنة: {اُلْحَمْدُ لِلَّهِ اِلَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا اَلْحَزَنَ}. وخوف دخول النار من الحُزْن، والجزع من الموت من الحزن، والجزع من الحاجة إلى المطعم من الحزن، ولم يخصِّص الله ـ إذ أخبر عنهم أنهم حمدوه على إذهابه الحُزْن عنهم ـ نوعًا دون نوع، بل أخبر عنهم أنهم عَمُّوا جميع أنوع الحزن بقولهم ذلك، وكذلك ذلك؛ لأن من دخل الجنة فلا حُزْن عليه بعد ذلك، فحمدهم على إذهابه عنهم جميع معاني الحزن».
(1/397)
وفي قوله: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي اِلزَّبُورِ مِن بَعْدِ اِلذِّكْرِ أَنَّ اَلْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ اَلصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105] إنها أرض فلسطين والأردن (1). وفي قوله: {وَآتَيْنَاهُ اُلْحِكْمَةَ وَفَصْلَ اَلْخِطَابِ} [ص: 19] هو أمَّا بعدُ (2). فهَضَمُوا هذا المعنى العظيم المتضمِّن لإعطائه الحق في أتمِّ بيان. _________ (1) قال القرطبي في «الجامع» (11/ 349): «أحسن ما قيل فيه أنه يراد بها أرض الجنة كما قال سعيد بن جبير؛ لأن الأرض في الدنيا قد وَرِثها الصالحون وغيرهم. وهو قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وقال مجاهد وأبو العالية: ودليل هذا التأويل قوله تعالى: {وَقَالُوا اُلْحَمْدُ لِلَّهِ اِلَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا اَلْأَرْضَ} [الزمر: 71]. وعن ابن عباس: أنها الأرض المقدسة. وعنه أيضًا: أنها أرض الأُمَم الكافرة تَرِثُها أُمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بالفتوح». وينظر «الروح» للمصنف (ص 324 - 325). (2) أخرجه ابن أبي حاتم في «التفسير» (10/ 3237) وابن أبي عاصم في «الأوائل» (191) والطبراني في «الأوائل» (40) عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -. وأخرجه سعيد بن منصور في «التفسير» (1835) وابن أبي شيبة في «المصنف» (23422، 26369) وابن سعد في «الطبقات الكبير» (9/ 99) عن زياد بن أبي سفيان - رضي الله عنهما -. وأخرجه الطبري في «التفسير» (20/ 51) عن الشعبي. واختار الطبري في «التفسير» (20/ 52) عموم الآية، وقال: «فالصواب أن يعم الخبر كما عمَّه الله، فيقال: أُوتي داود فَصْلَ الخطاب في القضاء والمحاورة والخطب».
(1/398)
وفي قوله: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 29]: المراد به المُشْط (1). ومن هذا يضع الرَّافضة المشطَ بين أيديهم في الصلاة. فصل وقد يقع في كلام السلف تفسير اللفظ العامِّ بصورةٍ خاصةٍ على وجه التمثيل، لا على تفسير معنى اللفظة في اللغة بذلك، فيغيِّر به المعنى، فيجعله معنى اللفظة في اللغة، كما قال بعضهم في قوله: {ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ اِلنَّعِيمِ} [التكاثر: 8]: إنه الماء البارد في الصيف (2). فلم يُرد به أن النعيم المسؤول عنه هو هذا وحدَه. وكما قيل في قوله: {وَيَمْنَعُونَ اَلْمَاعُونَ} [الماعون: 7]: إنه القِدْر والفأس والقَصْعة (3). فالماعون اسمٌ جامعٌ لجميع ما يُنتفَع به، فذكر بعض السلف هذا للسائل تمثيلًا وتنبيهًا بالأدنى على الأعلى، فإذا كان الويل لمن منع هذا، _________ (1) نسبه الثعلبي في «الكشف والبيان» (12/ 327) لعطية وأبي روق. ونسبه ابن الجوزي في «زاد المسير» (3/ 187) لأبي رزين. وعدَّه ابن قتيبة في «غريب القرآن» (ص 5) من منكَر التأويل ومنحول التفسير، وقال السمعاني في «تفسيره» (2/ 177): «وفي شواذ التفاسير: أنه المشط، ولُبْس النعل». (2) نسبه الثعلبي في «الكشف والبيان» (30/ 212) لعبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -. (3) أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» (2/ 399) وسعيد بن منصور في «التفسير» (2528 - 2530) والطبري في «التفسير» (24/ 668 - 674) وغيرهم عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. وأخرجه الطبري في «التفسير» (24/ 674 - 675) عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -. وأخرجه الطبري في «التفسير» (24/ 677) عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. وينظر «الدر المنثور» (15/ 690 - 691).
(1/399)
فكيف بمن منع ما الحاجة إليه أعظم؟! وإذا كان العبد يُسأل عن شُكر الماء البارد، فكيف بما هو أعظم نعيمًا منه؟! وفي قوله: {اُلْحَمْدُ لِلَّهِ اِلَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا اَلْحَزَنَ} [فاطر: 34] هَمَّ الغداء والعشاء (1). وفي قوله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي اِلدُّنْيا حَسَنَةً} [البقرة: 199] إنها المرأة الموافقة (2). فهذا كله من التمثيل للمعنى العام ببعض [ب 92 ب] أنواعه. فإن أراد القائل «إن الأدلة اللفظية موقوفةٌ على عدم التخصيص» أنها موقوفةٌ على عدم قصرها على هذا وأشباهه، فنَعَمْ هي غير مقصورةٍ عليه، ولا مختصةٍ به، ولا يُقال لفهم هذه الأنواع منها تخصيصًا. ونظير هذا ما يذكره كثيرٌ من المفسرين في آياتٍ عامَّةٍ أنها في قومٍ مخصوصين من المؤمنين والكفار والمنافقين، وهذا تقصيرٌ ظاهرٌ منهم، وهَضْم لتلك العمومات المقصود عمومها. وكأن الغلط في ذلك إنما عرض من جهة أن أقوامًا في عصر الرَّسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ قالوا أقوالًا وفعلوا أفعالًا في الخير والشر، فنزلت بسبب الفريقين آياتٌ، حَمِدَ الله فيها المحسنين، وأثنى عليهم، ووعدهم جزيل ثوابه، وذمَّ المسيئين، ووعدهم _________ (1) وهو قول الشعبي، ينسبه السيوطي في «الدر المنثور» (12/ 297) لابن أبي حاتم. (2) أخرج ابن أبي حاتم في «التفسير» (2/ 358، 5/ 1577) عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: «المرأة الصالحة من الحسنات». ونسبه أبو المظفر السمعاني في «التفسير» (1/ 204) والبغوي في «التفسير» (1/ 232) لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.
(1/400)
وَبِيلَ عقابه، فعَمَدَ كثيرٌ من المفسرين إلى تلك العمومات فنسبوها إلى أولئك الأشخاص، وقالوا: إنهم المعنيون بها. وكذلك الحال في أحكام وقعت في القرآن كان بُدُوَّ افتراضها أفعالٌ ظهرت من أقوامٍ، فأنزل الله بسببها أحكامًا، صارت شرائعَ عامة إلى يوم القيامة، فلم يكن من الصواب إضافتها إليهم وأنهم هم المرادون بها، إلَّا على وجهِ ذِكْرِ سبب النزول فقط، وأن تناولها لهم ولغيرهم تناولٌ واحدٌ. فمن التقصير القبيح أن يُقال في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا اَلنَّاسُ اُعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 20]: إن المراد بالنَّاس أهل مكة. فيأتي إلى لفظٍ من أشمل ألفاظ العموم أُريد به النَّاس كلهم عربهم وعجمهم قرنًا بعد قرن إلى أن يطوي الله الدنيا، فيقول: المراد به أهل مكة. نعم هم أَسْبَق وأَوَّل من أُريد به؛ إذ كانوا هم المواجهين بالخطاب أوَّلًا. وهذا كثيرٌ في كلامهم، كقولهم: المراد بقوله كذا وكذا أبو جهل، أو أُبيُّ بن خلف، أو الوليد بن المغيرة، أو عبد الله بن أُبي، أو عبد الله بن سلَام من سادة المؤمنين، كما يقولون في كل موضعٍ ذُكر فيه: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ اُلْكِتَابِ} [الرعد: 44]: إنه عبد الله بن سلَام (1). وهذا باطلٌ قطعًا؛ فإن هذا مذكورٌ في سُوَرٍ مكيةٍ، كسُّورة الرعد؛ حيث لم يكن عبد الله بن سلَام قد _________ (1) أخرجه الطبري في «التفسير» (13/ 583) عن عبد الله بن سلَام نفسه. وأخرجه سفيان الثوري في «التفسير» (460) والطبري في «التفسير» (13/ 582) عن مجاهد. وهو في «تفسير مجاهد» (ص 409). وأخرجه عبد الرزاق في «التفسير» (1/ 339) والطبري في «التفسير» (13/ 583) عن قتادة.
(1/401)
أَسلَمَ، ولا كان هناك (1). وكذلك يقولون في قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشْبٌ مُّسَنَّدَةٌ} [المنافقون: 4]: إن المراد به عبد الله بن أُبيٍّ، وكان من أحسن [ب 93 أ] النَّاس جسمًا (2). والصواب أن اللفظ عامٌّ فيمن اتصف بهذه الصِّفات، وهي صحة الجسم وتمامه، وحُسْن الكلام وخُلُوُّه من روح الإيمان ومحبَّة الهدى وإيثاره، كخلوِّ الخُشُب المقطوعة التي قد تساند بعضها إلى بعضٍ من روح الحياة التي يعطيها النموَّ أو الزيادة والثمرة، واتصافُهم بالجُبْن والخَوَر الذي يَحسِب صاحبُه أن كل صيحةٍ عليه، فمن التقصير الزَّائد أن يُقال: إن المراد بهذا اللفظ هو عبد الله بن أُبيٍّ. ومن هذا قولهم في قوله تعالى: {إِنَّ شَجَرَتَ اَلزَّقُّومِ (43) طَعَامُ اُلْأَثِيمِ} [الدخان: 43 - 44]: إنه أبو جهل بن هشام (3). وكذلك في قوله: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلّى ( 31 ) وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلّى} [القيامة: 31، 32]: إنه أبو جهل (4). _________ (1) أخرج الطبري في «التفسير» (13/ 586) وغيره عن أبي بشر قال: قلت لسعيد بن جبير: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ اُلْكِتَابِ} أهو عبد الله بن سلام؟ قال: هذه السورة مكية، فكيف يكون عبد الله بن سلام؟! (2) أخرجه البخاري (4903) عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه -. (3) أخرجه الطبري في «التفسير» (21/ 54) عن ابن زيد. (4) قاله مقاتل بن سليمان في «تفسيره» (4/ 513). ونسبه الواحدي في «التفسير البسيط» (22/ 523) لابن عباس والكلبي وغيرهما.
(1/402)
وكذلك في قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين: 29] إلى آخرها (1). وكذلك قوله: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم: 10 - 11] إلى آخرها: إنه الوليد بن المغيرة (2). وكذلك قوله: {وَمِنَ اَلنَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ اَلْحَدِيثِ} [لقمان: 5]: إنه النضر بن الحارث (3). وفي قوله: {وَمِنَ اَلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ اِلْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 7]: إنها في أناسٍ معيَّنين (4). وأضعاف ذلك ممَّا إذا طرق سمع كثيرٍ من النَّاس ظنَّ أن هذا شيءٌ أُريد به هؤلاء، ومضى حكمه، وبَقِيَ لفظُه وتلاوته، حتى قال بعض مَن قدَّم العقل على النقل وقد احتُجَّ عليه بشيءٍ من القرآن: دعني من كلام قيل في أُناسٍ _________ (1) قال القرطبي في «الجامع» (19/ 267): «{إِنَّ اَلَّذِينَ أَجْرَمُوا} وصف أرواح الكفار في الدنيا مع المؤمنين باستهزائهم بهم، والمراد رؤساء قريش من أهل الشرك. روى ناس عن ابن عباس قال: هو الوليد بن المغيرة، وعقبة بن أبي معيط، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد يغوث، والعاص بن هشام، وأبو جهل، والنضر بن الحارث». (2) قاله مقاتل بن سليمان في «تفسيره» (4/ 404). (3) قاله مقاتل بن سليمان في «تفسيره» (3/ 432). ونسبه الواحدي في «التفسير البسيط» (18/ 92) وغيره للكلبي أيضًا. (4) أخرجه الطبري في «التفسير» (1/ 275) وابن أبي حاتم في «التفسير» (1/ 42) عن ابن عباس قال: «يعني المنافقين من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم». وقال الطبري: وقد سُمي في حديث ابن عباس هذا أسماؤهم عن أُبي بن كعب، غير أني تركت تسميتهم كراهةَ إطالة الكتاب بذكرهم».
(1/403)
مضوا وانقرضوا. ومَن تأمَّل خطاب القرآن وألفاظه وجلالة المتكلِّم به وعظمة ملكه وما أراد به من الهداية العامة لجميع الأُمم قرنًا بعد قرنٍ إلى آخر الدهر، وأنه جعله إنذارًا لكل من بلغه من المكلفين، لم يَخْفَ عليه أن خطابه العامَّ إنما جُعل بإزاء أفعال حسنة محمودة، وأخرى قبيحة مذمومة، وأنه ليس منها فعل إلَّا والشركة فيه موجودة أو ممكنة، وإذا كانت الأفعال مشتركة كان الوعد والوعيد المعلَّق بها مشتركًا. ألا ترى أن الأفعال التي حُكيت عن أبي جهل بن هشام والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأضرابهم، وعن عبد الله بن أُبيٍّ وأضرابه كان لهم فيها شركاءُ كثيرون حكمهم فيها حكمهم؟! ولهذا عدل الله سبحانه عن ذِكْرهم بأسمائهم وأعيانهم إلى ذِكْر أوصافهم وأفعالهم وأقوالهم؛ لئلا يَتوهَّم متوهِّم اختصاص الوعيد بهم، وقَصْره عليهم، وأنه لا يجاوزهم، [ب 93 ب]. فعلَّق سبحانه الوعيد على الموصوفين بتلك الصِّفات دون أسماء من قامت به إرادةً لتعميم الحكم وتناوله لهم ولأمثالهم ممَّن هو على مثل حالهم. وهكذا الحكم فيمن أثنى عليه ومدحه بما صدر منه من قولٍ أو فعلٍ، عدل سبحانه عن ذِكْره باسمه وعينه إلى ذِكْره بوصفه وفعله؛ ليتناول المدح لمن شَرَكه في ذلك من سائر النَّاس. فإذا حمل السَّامع قوله: {وَاَلَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ اُلْمُتَّقُونَ} [الزمر: 32] وقوله: {وَاَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ اُلصِّدِّيقُونَ} [الحديد: 18] ونظائرهما على أبي بكر الصدِّيق أو علي بن أبي طالب، فقد ظلم اللفظ والمعنى، وقصَّر به غاية
(1/404)
التقصير، وإن كان الصدِّيق أوَّل وأَوْلى من دخل في هذا اللفظ العامِّ وأُريد به. ونظير ذلك ما ذكره بعضهم في قوله: {إِنَّ اَلْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} إلى قوله: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ اَلطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 5 - 8]: إن المراد بذلك علي بن أبي طالب (1). فجمع إلى حمل هذا اللفظ العام المجاهرة بالكذب والبَهت في دعواه نُزُولَها في عليٍّ، فإن السورة مكية، وعليٌّ كان بمكة فقيرًا، قد ربَّاه النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجره، فإن أبا طالب لمَّا مات اقتسم بنو عبد المطلب أولاده؛ لأنه لم يكن له مالٌ، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليًّا وربَّاه عنده، وضمَّه إلى عياله فكان فيهم (2). ومَن تأمَّل هذه السورة عَلِمَ يقينًا أنه لا يجوز أن يكون المراد بألفاظها العامة إنسانًا واحدًا، فإنها سورةٌ عجيبةُ التبيان، افتُتحت بذِكْر خَلْق الإنسان، ومبدئه، وجميع أحواله من بدايته إلى نهايته، وذِكْرِ أقسام الخَلْق في أعمالهم واعتقاداتهم ومنازلهم من السعادة والشقاوة؛ فتخصيصُ العامِّ فيها بشخصٍ واحدٍ ظُلْمٌ وهَضْمٌ ظاهرٌ للفظها ومعناها. وشبيهٌ بهذا ما ذكره بعضهم في قوله تعالى: {* وَوَصَّيْنَا اَلْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كَرْهًا وَوَضَعَتْهُ كَرْهًا} [الأحقاف: 14]: إنها نزلت في أبي بكر _________ (1) قال مقاتل بن سليمان في «تفسيره» (4/ 524): «يعني: علي بن أبي طالب وأصحابه الأبرار الشاكرين لله». (2) أخرجه ابن إسحاق في «السيرة» ـ كما في «تهذيب السيرة» لابن هشام» (1/ 246) ـ والطبري في «التاريخ» (2/ 313) والحاكم في «المستدرك» (3/ 576) والبيهقي في «دلائل النبوة» (2/ 162) عن مجاهد بن جبر مرسلًا.
(1/405)
الصدِّيق وابنه عبد الرحمن. ونظيره ما تقدَّم من تفسير قوله: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اُللَّهِ} [الفتح: 29] إلى آخر الآية، وقِسْمة جُمَلِها بين العشرة من الصَّحابة (1). ومَن تأمَّل ذلك عَلِمَ أن هذا تفسير مختلٌّ، مُخِلٌّ بمقصود [ب 94 أ] الآية، معدولٌ به عن سَنن الصواب. وهذا باب يطول تتبُّعه جدًّا. ولو أن الذين ارتكبوا ما ذكرنا من التفاسير المستكرَهة المستغرَبة، وحملوا العموم على الخصوص، وأزالوا لفظ الآية عن موضوعه؛ علموا ما في ذلك من تصغير شأن القرآن، وهضم معانيه من النفوس، وتعريضه لجهل كثيرٍ من النَّاس بما عظَّم الله قَدْرَه وأعلى خطره؛ لَأقلُّوا ممَّا استكثروا منه، ولَزَهِدُوا فيما أظهروا الرغبة فيه، وكان ذلك من فعلهم أحسن وأجمل، وأولى بأن يُوَفَّى معه القرآنُ بعضَ حقِّه من الإجلال والتعظيم والتفخيم. ولو لم يكن في حمل تفسير القرآن على الخصوص دون العموم إلَّا ما يتصوره التَّالي له في نفسه من أن تلك الآيات إنما قُصد بها أقوامٌ من الماضين دون الغابرين فيكون نفعه وعائدته على البعض دون البعض؛ لكان في ذلك ما يُوجب النُّفرة عن ذلك والرغبة عنه. وبحكمة بالغة عدل الربُّ تعالى عن تسمية مَنْ ذَكَر هؤلاء أنه مراد باللفظ، إلى ذِكْر الأوصاف والأفعال التي يأخذ كل أحدٍ منها حظَّه، ولو سمَّى سبحانه أصحابها بأسمائهم لقال القائل: لستُ منهم، يوضح ذلك: _________ (1) تقدم (ص 397).
(1/406)
الوجه الخامس والثلاثون: أن ألفاظ القرآن التي وقعت في باب الحمد والذمِّ وقعت بما فيها من الفخامة والجلالة عامة، وكان عمومها من تفخيمها، وجلالة قدرها، وعِظَمة شأنها. وذلك أن مِن شأن مَن يَقصِد تفخيم كلامه من عظماء النَّاس أن يستعمل فيه أمرين: أحدهما: العدول بكلامه عن الخصوص إلى العموم، إلَّا (1) حيث تدعو الحاجة إلى ذكر الخصوص لأمرٍ لا بدَّ منه؛ ليكون خطابه كليًّا شاملًا يدخل تحته الخَلْق الكثير. وكلما كان الدَّاخلون تحت خطابه أعمَّ وأكثر كان ذلك أفخم لكلامه وأعظم لشأنه. فأين العظمة والجلالة في قوله: {يَاأَيُّهَا اَلنَّاسُ اُعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 20] إلى العظمة في قوله: يا أهل مكة اعبدوا ربكم؟! فمن فخامة الكلام وجلالة المتكلم به أن يدخل في اللفظة الواحدة جميع ما يصلح له، فيدلُّ باللفظ القصير على المعاني الكثيرة العظيمة (2)، فتجمع العموم والإيجاز والاختصار والبيان وحُسن الدلالة، فتأتي بالمعنى طبق اللفظ لا يقصر عنه ولا يوهم غيره. ومَن علم هذا وتدبَّر القرآن وصرف إليه فِكْره؛ علم أنه لم يقرع الأسماع قطُّ كلامٌ أوجزُ ولا أفصحُ ولا أشدُّ مطابقة بين معانيه [ب 94 ب] وألفاظه منه. وليس يوجد في الكتب المنزَّلة من عند الله كتابٌ جمعتْ ألفاظُه من الإيجاز والاختصار والإحاطة بالمعاني الجليلة والجزالة والعذوبة وحُسن الموقع من الأسماع والقلوب ما تضمَّنَتْه ألفاظُ القرآن. وقد شَهِدَ له بذلك أعداؤه. وسمع بعض الأعراب قارئًا يقرأ: {فَاَصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] فسجد، _________ (1) ب: «إلى». والمثبت هو الصواب. (2) هذا الأمر الثاني لتفخيم الكلام، وهو الإيجاز.
(1/407)
فقيل له: ليست بآيةَ سجود. فقال: سجدتُ لفصاحة هذا الكلام (1). فإذا تأمَّلْت طريقته وجَدْتَها طريقةَ مخاطبة مَلِك النَّاس كلِّهم لعبيده ومماليكه، وهذا أحد الدلائل الدَّالة على أنه كلامه الذي تكلَّم به حقيقة، لا كلامُ غيره من المخلوقين. وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أُوتي جوامع الكلام (2)، وبين كلامه وكلام الله ما لا يحصره نسبة، فكيف يجوز في الأوهام والعقول أن تُحمَل جوامع كلمات الربِّ تعالى على ما يناقض عمومها ويحطُّها من مرتبة عظمة العموم ومحاسنه وجلالة شأنه إلى حضيض الخصوص؟! بل الواجب أن يُقال: إن خطاب الله عز وجل في كل ما أَمَرَ به ونهى عنه وحَمِدَ أو ذمَّ عليه ووعد عليه بثوابه وعقابه خرج في ذلك كله مخرجًا عامًّا كليًّا بحسَب ما تقتضيه جلالة الربوبية ومرتبة الملك والسلطان العام لجميع الخلق. ولو ترك المتأوِّلون ألفاظه تجري على دلائلها الكلية وأحكامها العامة وظواهرها المفهومة منها وحقائقها الموضوعة لها؛ لأفادتهم اليقين، وجزموا بمراد المتكلم بها، ولانحسمت بذلك موادُّ أكثر التأويلات الباطلة والتحريفات التي تأباها العقول السليمة، ولما تهيَّأ لكل مبطلٍ أن يَعمِد إلى آيات من القرآن فيُنزِلها على مذهبه الباطل ويتأوَّلها عليه ويجعلها شاهدةً له وهي في التحقيق شاهدة عليه، ولَسَلِمَ القرآن والحديث من الآفات التي جناها عليهما المتأوِّلون وألصقها بهما المحرِّفون، والله المستعان. فهذا ما يتعلق بقوله: إن الأدلة النقلية موقوفة على العلم بعدم التخصيص بالأزمنة والأمكنة والأشخاص. _________ (1) ذكره الماوردي في «النكت والعيون» (1/ 30) عن أبي عبيد. (2) أخرجه البخاري (2977) ومسلم (523) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
(1/408)
الوجه السَّادس والثلاثون: قوله: «وعدم الإضمار». يُقال: الإضمار على ثلاثة أنواع: نوعٌ يُعلم انتفاؤه قطعًا، وأن إرادته باطلةٌ، وهو الحال. وهو حال أكثر الكلام، فإنه لو سُلِّط عليه الإضمار فسد التخاطب، وبَطَلَتِ العقود والأقارير والطلاق والعتاق والوصايا والوقوف والشهادات، ولم يَفهَم أحدٌ مرادَ أحدٍ إذ يمكنه أن يُضمر كلمةً تُغيِّر [ب 95 أ] المعنى، ولا يدل المخاطب عليها. وباب الإضمار لا ضابطَ له، فكل مَن أراد إبطال كلامِ متكلمٍ ادَّعى فيه إضمارًا يُخرجه عن ظاهره. فيدَّعي ملحدٌ الإضمار في قوله: {وَكَلَّمَ اَللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 163]: أي وكلَّم مَلَك الله موسى. ويدَّعي في قوله: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4] إضمار مَلَك الرحمن، كما ادَّعى بعضهم الإضمار في قوله «يَنْزِلُ رَبُّنَا» (1):أي مَلَك ربِّنا. وفي قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:24]: أي مَلَك ربِّك. ولو علم هذا القائل أنه قد نَهَجَ الطريق وفتح الباب لكل ملحدٍ على وجه الأرض وزنديق وصاحب بدعةٍ يدَّعي فيما يحتجُّ به لمذهبه عليه إضمار كلمة أو كلمتين نظير ما ادَّعاه غيره، لاختار أن يَخْرَس لسانُه، ولا يفتح هذا الباب على نصوص الوحي؛ فإنه مدخلٌ لكل ملحدٍ ومبتدعٍ ومبطلٍ لحُجَج الله من كتابه. _________ (1) تقدم تخريجه.
(1/409)
ومَن رأى ما أضمره المتأوِّلون من الرَّافضة والجهمية والقدرية والمعتزلة ممَّا حرَّفوا به الكَلِمَ عن مواضعه وأزالوه به عمَّا قُصد له من البيان والدلالة (1) [ب 96 أ] علم أن لهم أوفر نصيب من مشابهة أهل الكتاب الذين ذمَّهم الله بالتحريف واللَّيِّ والكتمان. أَفَتَرى يَعجِز الجهميُّ عن الإضمار في قوله: «إِنَّكُمْ تَرَونَ رَبَّكُمْ عِيَانًا» (2). فيُضمِر مَلَك ربِّكم ونعيمه وثوابه، ونحو ذلك؟! ويَعجِز الملحد عن الإضمار في قوله: {وَأَنَّ اَللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي اِلْقُبُورِ} [الحج: 7] أي: أرواح مَن في القبور؟! وإذا انفتح سدُّ يأجوج ومأجوج أقبلوا من كل حَدَبٍ يَنسِلون! النوع الثَّاني: ما يشهد السياق والكلام به، فكأنه مذكور في اللفظ، وإن حُذف اختصارًا، كقوله تعالى: {أَنِ اِضْرِب بِّعَصَاكَ اَلْبَحْرَ فَاَنفَلَقَ} [الشعراء: 63] فكل أحدٍ يعلم أن المعنى فضربه فانفلق، فذِكْرُه نوعٌ من بيان الواضحات؛ فكان حَذفُه أحسنَ، فإن الوهم لا يَذهَب إلى خلافه. وكذلك قوله تعالى: {وَقَالَ لِفِتْيَتِهِ اِجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا اَنقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ} [يوسف: 62 - 63] فكلُّ أحدٍ يَفهَم من هذا السياق أنهم جعلوها في رحالهم، وأنهم وَصَلُوا بها إلى أبيهم. _________ (1) بعده بياض نحو صفحة ونصف، وكتب الناسخ: «أظنه بياض صحيح». والسياق متصل كما ترى. (2) تقدم تخريجه.
(1/410)
ومثل هذا في القرآن كثيرٌ جدًّا، وفَهْم الكلام لا يتوقَّف على أن يُضمَر فيه ذلك، مع أنه مراد ولا بدَّ، فكيف يتوقَّف فَهْمُ الكلام الذي لا دليل فيه على الإضمار بوجهٍ ـ وهو كلامٌ مفيدٌ قائمٌ بنفسه مُعْطٍ لمعناه ـ على دليلٍ منفصلٍ يدل على أن المتكلم لم يُضمِر فيه خلافَ ما أظهره، وهل يتوقف أحدٌ من العقلاء في فَهْم خطاب غيره له على هذا الدليل أو يخطر بباله؟! والنوع الثَّالث: كلامٌ يحتمل الإضمار ويحتمل عدمه، فهذا إذا قام الدليل على أن المتكلم به عالمٌ ناصحٌ مرشدٌ، قصدُه البيان والهُدى والدلالة والإيضاح بكل طريق، وحسمُ مواد اللبس ومواقع الخطأ، وأن هذا هو المعروف المألوف من خطابه، وأنه اللائق بحكمته= لم يشكَّ السَّامع في أن مراده ما دلَّ عليه ظاهر كلامه دون ما يحتمله باطنه من إضمارِ ما لم يجعل للسامع عليه دليلًا، ولا له إلى معرفته سبيلًا، إلَّا أن يجوِّز عليه أنه أراد منه ذلك، وكلَّفه ما لا يطيقه، وعرَّضه للعناء والمشقة، وألغزَ له، ولم يَقصِد البيان. ولا نكير على مَن ظنَّ ذلك في المتكلم أن يظن بكلامه ما هو مناسب لظنه به. يوضحه: الوجه السَّابع والثلاثون: أن الإضمار هو الإخفاء، وهو أن يخفي المتكلِّم في نفسه معنًى ويريد من المخاطَب أن يَفهَمه، فهذا إمَّا أن يجعل له عليه دليلًا [ب 96 ب] من الخطاب أو لا. فإن جعل له عليه دليلًا من السياق لم يكن ذلك إضمارًا محضًا، بل يكون قد أظهره له بما دلَّه عليه من السياق، ودلالة اللفظ قد تحصل من صريحه تارةً، ومن سياقه ومن قرائنه المتصلة به= فهذا لا محذور فيه إذا كان المخاطِب قد دلَّ السَّامع على مقصوده ومراده. وإن لم يجعل له عليه دليلًا فإنه لم يَقصِد بيانه له، بل عدل عن بيانه
(1/411)
إلى بيان المذكور، فلا يُقال: إن كلامه دلَّ عليه بالإضمار؛ فإن هذا كَذِبٌ صريحٌ عليه. فتأمَّلْه فإنه واضحٌ. الوجه الثَّامن والثلاثون: قوله: «وعدم التقديم والتَّأخير». فهذا أيضًا من نمط ما قبله، فإنَّ نَظْمَ الكلام الطبيعي المعتاد ـ الذي علَّمه الله للإنسان نعمة منه عليه ـ أن يكون جاريًا على المألوف المعتاد منه، فالمقدَّم مقدمٌ، والمؤخَّر مؤخرٌ، فلا يَفهَم أحدٌ قطُّ من المضاف والمضاف إليه في لغة العرب إلَّا تقديم هذا وتأخير هذا، وحيث قدَّموا المؤخَّر، من المفعول ونحوه، وأخَّروا المقدَّم من الفاعل ونحوه، فلا بدَّ أن يجعلوا في الكلام دليلاً على ذلك؛ لئلا يَلتَبِس الخطاب. فإذا قالوا: ضَرَبَ زيدًا عمرٌو لم يكن في هذا التقديم والتَّأخير إلباسٌ، فإذا قالوا: ضَرَبَ موسى عيسى لم يكن عندهم المقدَّمُ إلَّا الفاعلَ، فإذا أرادوا بيان أنه المفعول أتَوْا بما يدلُّ السَّامع على ذلك من تابعٍ منصوبٍ يدلُّ على أنه مفعولٌ. فلا يأتون بالتقديم والتَّأخير إلَّا حيث لا يلتبس على السَّامع، ولا يقدح في بيان مراد المتكلم، كقوله تعالى: {* وَإِذِ اِبْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [البقرة: 123] وقوله: {لَن يَنَالَ اَللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا} [الحج: 35] وقوله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ اُلْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 46] وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَأيَةً} [الشعراء: 7] وقوله: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا} [الأعراف: 81] ونحوه، فهذا من التقديم الذي لا يَقدَح في المعنى ولا في الفَهْم، وله أسباب تُحسِّنه وتقتضيه، مذكورةٌ في عِلْم المعاني والبيان. وأمَّا ما يُدَّعى من التقديم والتَّأخير في غير ذلك كما يُدَّعى من التقديم في قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّءا بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24] وأن هذا
(1/412)
قد تقدم فيه جواب «لولا» عليها، فهذا أوَّلًا لا يُجِيزه النحاةُ (1)، ولا دليل على دعواه، ولا يَقدَح في العلم بالمراد. وكذلك ما يَدَّعون من التقديم والتَّأخير في قوله: {اَذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَاَنظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل: 28] [ب 97 أ] قالوا: تقديره فألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون ثم تَوَلَّ عنهم (2). فكأنهم لمَّا فهموا من قوله: {تَوَلَّ عَنْهُمْ} مجيئه إليه ذاهبًا عنهم، احتاجوا إلى أن يتكلَّفوا ذلك، وهذا لا حاجة إليه، وإنما أَمَرَه بما جَرَتْ به عادةُ المرسِل كتابَه إلى غيره، لِيَعْلَمَ ما يَصنَع به، أن يُعطِيَه الكتاب ثم يَنعَزِلَ عنه حتى ينظر ماذا يقابله به، وليس مراده بقوله: {تَوَلَّ عَنْهُمْ} أي أَقبِلْ إليَّ، ولو أراد ذلك لقال: فأَلْقِه إليهم وأَقبِلْ. وقد عُلم من كونه رسولًا له أنه لا بدَّ أن يرجع إليه، فليس في ذلك كبيرُ فائدة، بخلاف أَمْرِه بتأمُّلِه أحوالَ القوم عند قراءة كتابه وقد انعزل عنهم ناحيةً. والتقديم والتَّأخير نوعان: نوع يُخِلُّ تقديم المؤخَّر وتأخير المقدَّم فيه بفَهْم أصل المعنى، فهذا لا يقع في كلامِ مَن يقصد البيان والتفهيم، وإنما يقع في الألغاز والأحاجي وما يقصد المتكلم تعميةَ المعنى فيه. وقد يقع بسبب شدة الاختصار وضيق _________ (1) مِمَّن صرَّح بعدم جواز هذا التقديم والتأخير: الزجاج في «معاني القرآن» (3/ 101) والطبري في «التفسير» (13/ 86) والنحاس في «إعراب القرآن» (2/ 323) وغيرهم. (2) أخرجه الطبري في «التفسير» (18/ 45) عن ابن زيد. وذهب إلى وقوع التقديم والتأخير في الآية: الأخفش في «معاني القرآن» (1/ 328) والزجاج في «معاني القرآن» (4/ 117) وأبو علي الفارسي في «الحجة للقراء السبعة» (2/ 140).
(1/413)
القافية عن الترتيب المفهِم،، كقول الفرزدق (1): وَمَا مِثْلُهُ فِي النَّاسِ إِلَّا مُمَلَّكًا ... أَبُو أُمِّهِ حَيٌّ أَبُوهُ يُقَارِبُهْ فهذا شبيه باللغز، ومعناه: وما مثله في النَّاس حي يقاربه إلَّا مُمَلَّك أبو أُمِّه أبوه. وهذا النوع لا يقع في كلام الله ولا رسوله. النوع الثَّاني: التقديم والتَّأخير الذي لا يُخِلُّ بأصل المعنى وإن أَخَلَّ بالغرض المقصود، فيكون مراعاته من باب إخراج الكلام على مقتضى الحال. وهذا هو الذي يتكلم عليه علماء المعاني والبيان، قال سيبويه (2) وهو يذكر الفاعل والمفعول: «كأنهم يُقدِّمون الذي بيانه أهمُّ لهم، وهم بشأنه أَعْنَى، وإن كانا جميعًا يُهمَّانهم ويعنيانهم». انتهى كلامه. _________ (1) «شرح ديوان الفرزدق» (ص 108)، وقال المبرد في «الكامل» (1/ 41 - 42): «ومن أقبح الضرورة، وأهجن الألفاظ، وأبعد المعاني قوله: وما مثله في النَّاس إلَّا مملكًا ... أبو أمه حي أبوه يقاربه مدح بهذا الشعر إبراهيم بن هشام بن اسماعيل بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهو خال هشام بن عبد الملك، فقال: وما مثله في الناس إلَّا مملكاً يعني بالمملك هشاماً، أبو أم ذلك المملك أبو هذا الممدوح، ولو كان هذا الكلام على وجهه لكان قبيحاً، وكان يكون إذا وضع الكلام في موضعه أن يقول: وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملك أبو أم هذا المملك أبو هذا الممدوح، فدل على أنه خاله بهذا اللفظ البعيد، وهجنه بما أوقع فيه من التقديم والتأخير، حتى كأن هذا الشعر لم يجتمع في صدر رجل واحد». (2) «الكتاب» (1/ 34).
(1/414)
وهذا يقع في باب الاستفهام والنفي والمبتدأ والخبر والفاعل والمفعول. فمن ذلك أنك إذا قلت: أفعلت كذا؟ وبدأت بالفعل كان الشك في الفعل نفسه، وكان الغرض بالاستفهام علمك بوجوده. وإذا قلت: أنت فعلت كذا؟ فبدأت بالاسم كان الشك في الفاعل مَن هو؟ وكان التردُّد فيه، ففَرْق بين قولك: أكتبت الكتاب؟ وبين قولك: أأنت كتبته؟ وهذا كما أنه قائم في الاستفهام فكذلك هو في التقرير، فإذا قلت: أنت فعلت هذا؟ كان المقصود تقريره [ب 97 ب] بأنه هو الفاعل، كما قال قوم إبراهيم له: {آانتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 62] فلم يكن مرادهم السؤال عن الفعل، هل وُجد أم لا، ولو أرادوا ذلك لقالوا: أكسرت أصنامنا؟ وإنما مرادهم السؤال عن الفاعل، ولهذا كان الجواب قوله: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]. فالقائل: أفعلت؟ سائلٌ عن الفعل مِن غير تردُّد بين الفاعل وغيره، وإذا قال: أأنت فعلت؟ كان قد ردد الفعل بينه وبين غيره، ولم يكن منه تردُّد في نفس الفعل. ومن هذا استفهام الإنكار، كقوله تعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ} [الإسراء: 40] وقوله: {أَصْطَفَى اَلْبَنَاتِ عَلَى اَلْبَنِينَ} [الصَّافات: 153] وقوله: {أَجَعَلْنَا مِن دُونِ اِلرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 44]. فهذا إذا قُدِّم الاسم فيه استحال الكلام من إنكار الفعل إلى الإنكار في الفاعل، مثل قوله: {آانتَ قُلْتَ لِلنّاسِ} [المائدة: 118] {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} [يونس: 59] وقول أهل النَّار: {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ اِلْهُدَى} [سبأ: 32] فهذا سؤال عن فعلٍ وقع، فتوجَّه الإنكار إلى نسبته إلى الفاعل الذي نُسب إليه. وهذا كما إذا بلغك قول عمَّن لم تكن تظنُّه به قلت: أفلانٌ قال ذلك؟!
(1/415)
وأمَّا قوله تعالى: {ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ اِلْأُنثَيَيْنِ أَمَّا اَشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ اُلْأُنثَيَيْنِ} [الأنعام: 144] فإن الإنكار وإن تَوَجَّه إلى نفس التحريم والمراد إنكاره من أصله؛ فإنه خطاب لمن قد أَثبَتَ تحريمًا في أشياء وحِلًّا في نظائرها، فسُئل عن عين المحرَّم أهو هذا، فيشمل التحريم نظيره ممَّا حلَّله أو الآخر فيشمل نظيره أيضًا. فكأنهم قيل لهم: أخبرونا عن هذا التحريم الذي زعمتم فيمَ هو؟ أفي هذا أم في ذاك أم في الثَّالث؟ ليتبيَّن بطلان قولهم، وتظهر فِريَتُهم على الله. وهذا كما تقول لمن يدعي أمرًا وأنت تُنكِره: متى كان هذا، أفي ليلٍ أم نهار؟! وكذلك تقول: مَن أمرك بهذا؟! أو: مَن أَذِنَ لك فيه؟! وأنت لا تريد أن آمرًا أَمَرَه به وأَذِنَ له فيه، ولكن أخرجتَ الكلام مُخرَج من كأنه قد تنزَّل (1) مع مخاطَبه إلى أن ذلك قد كان، ثم طالَبَه ببيان عينه ووقته ومكانه والآمر به؛ لكي يُضَيِّق عليه الجواب، ويُظهِرَ كَذِبَه، حيث لا يمكنه أن يُحِيل على شيءٍ ممَّا سُئل عنه فيفتضح. وكذلك إذا قلت: أتفعل كذا؟ كنت مستفهمًا له عن نفس الفعل، وإذا قلت: أأنت تفعل كذا؟ كنت مستفهمًا له عن كونه هو الفاعل. فقوله تعالى: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ اُلنَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99] مخرجه غير مخرج قوله: {اَتَقُولُونَ عَلَى اَللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:27] [ب 98 أ] وقوله: {أَيَحْسِبُ اُلْإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ} [القيامة: 3] وقوله: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود: 28]. فأنت تجد تحت قولك: أأنت الذي تقهرني؟ أن القاهر لي غيرك لا أنت. وكذلك قوله: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ اُلنَّاسَ} [يونس: 99] {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ اُلصُّمَّ أَوْ تَهْدِي اِلْعُمْيَ} [الزخرف: 39]. _________ (1) «ب»: «يترك». والمثبت هو الصواب.
(1/416)
وكذلك الشأن في تقديم المفعول وتأخيره، كقوله تعالى: {* قُلْ أَغَيْرَ اَللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} [الأنعام: 15] {أَفَغَيْرَ اَللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} [الأنعام: 115] وقوله: {قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ (1) إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اُللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ اُلسَّاعَةُ أَغَيْرَ اَللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (41 ) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} [الأنعام: 41 - 42]. فلو أُخِّر لكان الاستفهام عن مجرد الفعل، فلمَّا قُدِّم كان الاستفهام عن الفعل وكون المفعول المقدَّم مختصًّا به. وكذلك قولهم: {أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ} [القمر: 24] لمَّا كان الإنكار متوجِّهًا إلى كون المتبوع بشرًا، وأنه منهم، وأنه واحد قدَّموه (2)، ولم يقع إنكارهم على مجرد الاتباع، في قوة (3) كلامهم أنه لو كان مَلَكًا أو من غيرنا لا تَلحَقُنا غضاضةٌ برئاسته علينا أو عصبةً كثيرةً لا يُمْتَنع من متابعتهم لاتبعناهم. وكذلك التقديم بدل التَّأخير في النفي. فإذا قلت: ما فعلتُ، كنتَ قد نفيت عنك الفعل، ولم تتعرَّض لكونه فُعل أو لم يُفْعَل. وإذا قلت: ما أنا فعلت، كنتَ قد نفيتَه عن نفسك مُدَّعيًا بأن غيرك فعله. ومن هاهنا كان ذلك تعريضًا بالقذف يُوجب الحدَّ في أصحِّ القولين. وبه عمل الصَّحابة في قول القائل: ما (4) أنا زنيت. كما رُفع إلى عمر بن الخطاب _________ (1) «ب»: «أرأيتم». (2) «ب»: «ورموه». والمثبت هو الصواب. (3) كذا في «ب»، ولعل الصواب «فمفهوم»، أو يكون في الكلام سقطٌ. (4) «ما» سقطت من «ب». ولا بد منها، والأثر التالي يبين ذلك.
(1/417)
رجل لاحى (1) آخر، فقال: ما أنا بزانٍ، ولا أُمِّي بزانيةٍ. فضربه الحدَّ (2). وهذا مذهب مالك (3) وأحمد في إحدى الروايتين عنه (4). وكذلك إذا قلت: ما ضربت زيدًا، كنتَ قد نفيت الضرب لزيدٍ عنك، ولم تتعرَّض لضَرْبٍ وقع منك على غيره نفيًا وإثباتًا. وإذا قلت: ما زيدًا ضربتُ، كنتَ مفهمًا أن الضرب قد وقع منك على إنسانٍ غير زيدٍ. وكذلك الأمر في المبتدأ والخبر. فهذا التقديم والتَّأخير يرجع إلى إيراد الكلام على مقتضى الحال التي يقصدها المتكلم، ومَن عرف أسلوب كلام العرب وطريقتهم في كلامهم فَهِمَ أحكام التقديم والتَّأخير. وهذا غير مُخرجٍ لاستفادة السَّامع اليقينَ من كلام المتكلم، ولا يوقف لفَهْمه على دليل يدل على أنه أراد تأخير ما قدَّمه وتقديم ما أخَّره ليفهم خلاف المعنى الظَّاهر من كلامه. الوجه التاسع (5) والثلاثون: قوله: وموقوف على نفي المعارض العقلي؛ لئلا يفضي إلى القدح في العقل الذي يفتقر إليه النقل. جوابه: [ب 98 ب] أنَّا لا نُسلِّم أن القدح فيما عارَضَ النقل من المعقول قَدْح فيما يحتاج إليه النقل، فإن صحة النقل لا (6) شيء عنده بإثبات موجود لا داخل العالم _________ (1) لاحاه ملاحاةً ولحاءً: نازعه. وتلاحوا: تنازعوا. «الصحاح» (6/ 2481). (2) أخرجه مالك في «الموطأ» (2/ 829) وعبد الرزاق في «المصنف» (13725) وابن أبي شيبة في «المصنف» (28965). (3) ينظر: «المدونة» (4/ 494) و «النوادر والزيادات» لابن أبي زيد (1/ 329) و «الذخيرة» للقرافي (12/ 94). (4) ينظر: «الفروع» لابن مفلح (10/ 82) و «الإنصاف» للمرداوي (10/ 215). (5) «ب»: «الثامن». والمثبت هو الصواب، فقد تقدم الوجه الثامن. (6) كتب بحاشية «ب»: «سقط من هاهنا شيء». ومقتضى السياق أن يكون الكلام على نفي توقُّف صحة النقل على العقل.
(1/418)
ولا خارجه، ولا متصل به ولا منفصل عنه، ولا فوقه ولا تحته. وتأمَّلْ دلائلهم على ذلك يتبيَّنْ أن العقل الصريح مع رُسُل الله، كما معهم الوحي الصحيح. وتأمَّلْ أقوالهم على تناقضها واختلافها في كلامه كيف تجدها مخالفة لصريح العقل مخالفةً بيِّنة، ودلائلهم على تلك الأقوال المختلفة أبطل منها. وكيف تجد (1) العقل الصريح يشهد (2) بما جاءت به الرُّسل أن الله سبحانه تكلم بكلامٍ سمعه منه جبريل وبلَّغه إلى من أُمر بتبليغه، وكلَّم نبيَّه موسى وكلَّم ملائكته بكلامٍ حقيقيٍّ سمعوه منه، وأنه يتكلم بمشيئته وإرادته، وكل قول خالف هذا فهو خلاف العقل الصريح، وإن زُخرفت له الألفاظ، ونُسجت له الشُّبه. وتأمَّلْ ما جاءت به النصوص أن كلماته لا نهاية لها. وهل يقتضي العقل الصريح غير ذلك؟! وتأمَّلْ ما جاءت به النصوص من شمول قدرته ومشيئته لجميع الكائنات أعيانها وصفاتها وأفعالها. وما خالف ذلك فهو مخالفٌ لصريح العقل. كما أن النصوص جاءت بأن أفعال العباد أعمال لهم، واقعة باختيارهم وإرادتهم، ليست أفعالًا لله، وإن كانت مفعولة له. تجدُ ما خالف ذلك مخالفًا لصريح العقل. _________ (1) «ب»: «يجد». ولعل المثبت هو الصواب. (2) «ب»: «أنا نشهد». ولعل المثبت هو الصواب.
(1/419)
وتأمَّلْ ما جاءت به النصوص أنه سبحانه لم يَزَلْ مَلِكًا ربًّا غفورًا رحيمًا محسنًا قادرًا لا يُعجِزه الفعل، ولا يمتنع عليه. وكيف لا تجد ما خالف ذلك مخالفًا لصريح العقل، كقول الفلاسفة: إنه لا يفعل باختياره ومشيئته؛ وقول المتكلمين: إنه كان من الأزل إلى حيث خلق هذا العالم معطلًا عن الفعل غير متمكِّن منه والفعل مستحيل، ثم انقلب من الإحالة الذَّاتية إلى الإمكان الذَّاتي بلا تجدُّد سبب اقتضى ذلك. فانظر أي هذه المذاهب مخالفٌ لصريح العقل كما هو مخالف لصحيح النقل! وتأمَّلْ قولهم في الإرادة والقدرة والعلم، كيف أثبتوا إرادةً لا تَفعَل، وقدرة لا تَفعَل، وعلمًا لا يعقل، فقابلهم طائفة من الفلاسفة (1) كيحيى بن عدي النصراني (2) قولها في الكلمة: إنها الله (3). لقول المتكلمين في السمع والبصر والعلم والقدرة والحياة: إنها نفس الذَّات. فانظر مخالفة هذه الطوائف لصريح العقل! وتأمَّلْ قولهم: إنَّ السمع هو عين [ب 99 أ] البصر، والبصر هو عين العلم، والكل صفةٌ واحدةٌ. فهل في مخالفة العقل الصريح أشد من ذلك؟! وتأمَّلْ قولهم: إن الربَّ تعالى علَّةٌ ثابتة في الأزل لجميع المعلولات (4)، _________ (1) كتب بالحاشية: «سقط من هاهنا شيء». وقد انقطع سياق الكلام كما ترى. (2) يحيى بن عدي بن حميد نزيل بغداد، انتهت إليه رئاسة أهل المنطق في زمانه، قرأ على أبي نصر الفارابي وغيره، وتوفي سنة أربع وستين وثلاثمائة. ترجمته في: «أخبار العلماء بأخيار الحكماء» (ص 270 - 372) و «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» (ص 317 - 318). (3) كذا في «ب»، ولأن السياق قد انقطع فلم نَدْرِ معناه. (4) «ب»: «المعلومات». والمثبت هو الصحيح.
(1/420)
ووجودها في آنٍ واحدٍ مستحيل، فجعلوه علة ثابتة لما هو ممتنع الوجود في غير وقته، وهذا قول الفلاسفة. فقابلهم المتكلمون في ذلك، ولم يجعلوا الفعل ممكنًا له في الأزل بحالٍ، ولم يُفرِّقوا بين نوع الفعل وعينه. وخالف الفريقان صريح العقل. فتأمَّلْ قول الفريقين في الموجِب بالذَّات والفاعل بالاختيار، كيف تجدهم قد خرجوا فيه عن صريح العقل، وقالوا ما يشهد العقل ببطلانه. وتأمَّلْ قولهم في أن الواحد لا يصدر عنه إلَّا واحد، كيف خرجوا عن صريح العقل في المصدر والصَّادر عنه. وتأمَّلْ قولهم في إنكار قيام الأفعال الاختيارية به سبحانه التي ترجموها بمسألة حلول الحوادث، كيف خرجوا فيها عن المعقول الصريح، وكابروه أَبيَنَ مكابرة، والتزموا لأجله تعطيل الحيِّ الفعَّال عن كل فعلٍ، والتزموا لأجله حصول مفعول بلا فعل، ومخلوق بلا خلق، فإن الفعل عندهم عين المفعول، والخلق نفس المخلوق. وهذا مكابرة لصريح العقل. وتأمَّلْ خروجهم عن العقل الصريح في إنكار الحِكَم والغايات التي يفعل الربُّ تعالى لأجلها ما يفعل. وتأمَّلْ خروجهم عن صريح العقل بتجويزهم رؤية الشيء في غير جهة من الرَّائي (1) يرى عيانًا لا فوق الذَّاتي ولا تحته، ولا خلفه ولا أمامه، ولا عن _________ (1) من قوله: «وتأمل خروجهم عن صريح العقل» إلى هنا بياض في «ب»، وكتب الناسخ في خلاله: «سقط من هاهنا شيء». ثم جاءت هذه العبارة بعد قوله: «والتعلق أمر عدمي» في الفقرة التالية، وتحرف فيها «الرائي» إلى «الذاتي» ووضعها هنا أليق وأنسب، والله أعلم.
(1/421)
يمينه ولا عن يساره، ثم زادوا جواز تعلُّق الرؤية بكل موجودٍ من الأصوات والروائح والمعاني، وتعلُّق الإدراكات الخمس بذلك، فجوَّزوا سماع الرَّائحة، وشمَّ الأصوات، وسماع الطعوم، فخرجوا عن صريح المعقول، كما خرجوا عن صحيح المنقول: أن المسلمين يرون ربهم من فوق. وتأمَّلْ خروجهم عن صريح العقل في مسألة الطفرة والأحوال والكسب ومسألة النبوات، وأن النبوة لا ترجع إلى صفةٍ وجوديةٍ، وإنما هي تعلُّق الخطاب القديم بالنبي (1)، والتعلق أَمْرٌ عدميٌّ، وقولهم بأن المتولدات لا فاعلَ لها، وقولهم بأن الله مريد بإرادة يَخلُقها لا في محلٍّ. فخالفوا صريح العقل من وجهين: من إثبات كونه مريدًا من غير قيام صفة الإرادة به، ومن جعلهم صفة الإرادة قائمة [ب 99 ب] بغير محلٍّ. ومن ذلك خروجهم عن صريح العقل في قولهم: إن الربَّ تعالى عالمٌ بلا عِلْمٍ، سميعٌ بلا سَمْعٍ، بصيرٌ بلا بصرٍ، قادرٌ بلا قدرةٍ، حيٌّ بلا حياةٍ. فأنكر ذلك عليهم طوائفُ العقلاء، ففرَّ بعضهم إلى أن قال: عِلْمُه وسمعه وبصره وقدرته وحياته هي ذاته. وقال أعقلهم عند نفسه وعند أتباعه: إنه سبحانه عِلْمٌ كله، وقدرةٌ كله، وحياةٌ كله، وسَمْعٌ كله، وبصرٌ كله. إلى أضعاف أضعاف ما ذَكَرْنا من أقوالهم التي خرجوا فيها عن صريح العقل. فهل تجد في نصوص الوحي التي عارضوا فيها بين العقل والنقل مثل ذلك أو قريبًا منه؟! فتأمَّلْها وتأمَّلْ أقوالهم تعلمْ أيَّ النوعين معه العقل، ومن الذي خرج عن صريحه! وبالله التوفيق (2). _________ (1) «ب»: «بالشيء». والمثبت هو الصواب. (2) آخر الموجود من النسخة «ب» وكتب الناسخ: «تم، بلغ بحمد الله مقابلة حسب الطاقة». ومن فضل الله أنه هنا انتهى السقط الواقع في «ح». فاتصل الكلام بحمد الله تعالى.
(1/422)
الوجه الأربعون: أن الأدلة القاطعة قد قامت على صِدْق الرَّسول صلوات الله وسلامه عليه في كل ما يُخبر به، ودلالتُها على صدقه أبين وأظهر من دلالة تلك الشُّبه العقلية على نقيض ما أخبر به عند كافة العقلاء، ولا يستريب في ذلك إلَّا مَؤُوف (1) في عقله، مصاب في قلبه وفِطْرته. فأين الشُّبه النَّافية لعلوِّ الله على خلقه وتكلُّمه بمشيئته وتكليمه لخلقه (2)، ولصفات كماله ولرؤيته بالأبصار في الدَّار الآخرة، ولقيام أفعاله به إلى براهين نبوَّته وصدقه التي زادت على الألف، وتنوَّعت كل تنوُّعٍ. فكيف يقدح في البراهين العقلية الضرورية بالشُّبه الخيالية المتناقضة إلَّا مَن هو مِن أفسد النَّاس عقلًا ونظرًا، وهل ذلك إلَّا مِن جِنْس الشُّبه التي أوردوها في التشكيك في الحسيات والبديهيات، فإنها وإن عجز كثيرٌ من النَّاس عن حلِّها فهم يعلمون أنها قدحٌ فيما (3) علموه بالحس والاضطرار، فمَن قدر على حلِّها وإلَّا لم يتوقَّف جزمه بما علمه بحسِّه (4) واضطراره على حلِّها، وكذلك الحال في الشُّبه التي عارضت ما أخبر به الرَّسول سواء، فإن المُصَدِّق به وبما جاء به يعلم أنها لا تقدح في صِدْقه ولا في الإيمان به، وإن _________ (1) أي: مصاب، يقال: إِيفَ الزرعُ ـ كقيل ـ أي: أصابته آفةٌ، فهو مَؤُوفٌ، مثال مَعُوفٍ. «الصحاح» (4/ 1333) و «تاج العروس» (12/ 97). (2) «ح»: «بخلقه». والمثبت من «م». (3) «ح»: «في». والمثبت من «م». (4) «ح»: «عمله بحسنة». والمثبت من «م».
(1/423)
عجز عن حلِّها، فإن تصديقَه بما جاء به الرَّسول ضروري، وهذه الشُّبه عنده لا تُزِيل ما عَلِمَه بالضرورة؛ فكيف إذا تبيَّن بطلانها على التفصيل؟! يوضحه: الوجه الحادي والأربعون: وهو أن الرَّسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بيَّن مراده، وقد تبيَّن لنا أكثر ممَّا تبيَّن لنا كثيرٌ من دقائق المعقولات الصحيحة، فمعرفتنا بمراد الرَّسول من كلامه فوق معرفتنا بتلك الدقائق إذا كانت صحيحةَ المقدِّمات في نفسها، صادقةَ (1) النتيجة غيرَ كاذبة، فكيف إذا كان الأمر فيها بخلاف ذلك، فتلك التي تُسمَّى معقولات قد تكون خطأ، ولكن لم يُتفطَّن لخطئها. وأمَّا كلام المعصوم فقد قام البرهان القاطع على صدقه، وأنه حقٌّ، ولكن قد يحصل الغلط في فهمه، فيُفهم منه ما يخالف صريح العقل، فيقع التعارض بين ما فُهم من النقل وبين ما اقتضاه صريح العقل، فهذا لا يُدفع، ولكن إذا تأمَّلَه مَن وهبه الله حُسن القصد وصحَّة التصوُّر تبيَّن له أن المعارضة واقعة بين ما فهمه النُّفاة من النصوص وبين العقل الصريح، وأنها غير واقعةٍ بين ما دلَّ عليه النقل وبين العقل. ومَن أراد معرفة هذا فليوازِنْ بين مدلول النصوص وبين العقل الصريح ليبين له مطابقة أحدهما للآخر، ثم يوازن بين أقوال النُّفاة وبين العقل الصريح؛ فإنه يعلم حينئذٍ أن النُّفاة أخطؤوا خطأينِ: خطأ على السمع، فإنهم (2) فهموا منه خلاف مراد المتكلِّم. وخطأ على العقل بخروجهم عن حُكْمِه. فخرجوا عن العقل والسمع جميعًا. _________ (1) «ح»: «صادقًا». والمثبت من «م». (2) «ح»: «فإن». والمثبت من «م».
(1/424)
الوجه الثَّاني والأربعون: أن المعارضين بين العقل والنقل وبين ما أخبر به الرَّسول قد اعترفوا بأن العلم بانتفاء المعارض مطلقًا لا سبيل إليه؛ إذ (1) ما من معارضٍ بنفسه إلَّا ويحتمل أن يكون له معارضٌ آخر، وهذا ممَّا اعتمد عليه صاحب «نهاية العقول» (2) وجعل السمعيات لا يُحتجُّ بها على العلم بحال. وحاصل هذا أنا لا نعلم ثبوت ما أخبر به الرَّسول حتى نعلم انتفاء ما يعارضه، ولا سبيل إلى العلم بانتفاء المعارض مطلقًا لِمَا تقدَّم، وأيضًا فلا يلزم من انتفاء العلم بالمعارض العلمُ (3) بانتفاء المعارض. ولا ريب أن هذا القول من أفسد أقوال العالم، وهو من أعظم أصول أهل الإلحاد والزندقة، وليس في عزل الوحي عن مرتبته أبلغ من هذا. الوجه الثَّالث والأربعون: أن الله سبحانه قد أخبر في كتابه أن ما على (4) الرَّسول: البلاغ المبين، فقال تعالى: {وَمَا عَلَى اَلرَّسُولِ إِلَّا اَلْبَلَاغُ اُلْمُبِينُ} [النور: 52] وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} [المائدة: 69] وقال: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ اَلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]. وقد شهد الله له ـ وكفى به شهيدًا ـ بالبلاغ الذي أُمر به، فقال: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ} [الذَّاريات: 54]. وشهد له أَعقَلُ الخلق وأفضلهم وأعلمهم بأنه قد بَلَّغَ، فأشهد اللهَ عليهم بذلك في أعظم _________ (1) «ح»: «إذا». والمثبت من «م». (2) أي: الفخر الرازي. (3) «ح»: «بالعلم». والمثبت من «م». (4) «ح»: «على أن». والمثبت من «م».
(1/425)
مجمعٍ وأفضله؛ فقال في خطبته بعرفات في حجة الوداع: «أَنْتُمْ مَسْؤُولُونَ عَنِّي فَمَاذَا (1) أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟» قالوا: نشهد أنك بلَّغت وأدَّيت ونصحت. فرفع إصبعه إلى السماء مستشهدًا بربه الذي فوق سماواته وقال: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ» (2). فلو لم يكن قد عرف المسلمون وتيقَّنوا ما أُرسِل به، [ق 37 ب] وحصل لهم منه العلم اليقين لم يكن قد حصل منه البلاغ المبين، ولَمَا رفع الله عنه اللوم، ولَمَا شهد له أعقل الأُمة بأنه قد بلَّغ وبيَّن. وغاية ما عند النُّفاة أنه بلَّغهم ألفاظًا لا تفيدهم علمًا ولا يقينًا، وأَحالَهم في طلب العلم واليقين على عقولهم ونظرهم وأبحاثهم، لا على ما أُوحي إليه، وهذا معلوم البطلان بالضرورة. الوجه الرَّابع والأربعون: أن عقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكمل عقول أهل الأرض على الإطلاق، فلو وُزن عقله بعقولهم لَرَجَحَ بها كلِّها. وقد أخبر سبحانه أنه قبل الوحي لم يكن يدري الإيمان، كما لم يكن يدري الكتاب؛ فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا اَلْكِتَابُ وَلَا اَلْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 49] وقال تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوى (5 ) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى} [الضحى: 5 - 6] وتفسير هذه الآية بالآية التي في آخر الشورى. فإذا كان أعقلُ خَلْق الله على الإطلاق إنما حصل له الهدى بالوحي، كما قال تعالى: {قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اِهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّيَ} [سبأ: 50]. فكيف يحصل _________ (1) «ح»: «فإذا». والمثبت من «م». (2) أخرجه مسلم (1218) عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -.
(1/426)
لسُفهاء العقول وأَخِفَّاء الأحلام وفَرَاش (1) الألباب الاهتداءُ إلى حقائق الإيمان بمجرد عقولهم دون نصوص الأنبياء! {لَّقَد جِّئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ اُلسَّمَاوَاتُ يَنفَطِرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ اُلْأَرْضُ وَتَخِرُّ اُلْجِبَالُ هَدًّا} [مريم: 89 - 90]. الوجه الخامس والأربعون: أن الله سبحانه إنما (2) أقام الحُجَّة على خلقه بكتابه ورسله؛ فقال: {تَبَارَكَ اَلَّذِي نَزَّلَ اَلْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]، وقال: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا اَلْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام: 20]. فكل مَن بَلَغَه هذا القرآن فقد أُنذر به، وقامت عليه حُجَّة الله به. وقال تعالى: {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اَللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ اَلرُّسُلِ} [النساء: 164]. وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]. وقال تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَد جَّاءَنَا نَذِيرٌ (9) فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اَللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (10) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ اِلسَّعِيرِ (11) فَاَعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ اِلسَّعِيرِ} [الملك: 8 - 12]. وقال تعالى: {وَسِيقَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِّحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ اُلْعَذَابِ عَلَى اَلْكَافِرِينَ} [الزمر: 68]. وقال: {يَامَعْشَرَ اَلْجِنِّ وَاَلْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا} [الأنعام: 130]. _________ (1) يقال: رأيته فَرَاشةً، وما هو إلا فراشة: للخفيف الرأس، وهو مثل في الخفَّة والحقارة. «أساس البلاغة» (2/ 17). (2) «ح»: «إذا». والمثبت من «م».
(1/427)
فلو كان كلام الله ورسوله لا يُفيد اليقين والعلم، والعقلُ معارضٌ للنقل، فأيُّ حجةٍ تكون قد قامت على المكلفين بالكتاب والرَّسول؟ وهل هذا القول إلَّا مناقضٌ لإقامة حجة الله على خلقه بكتابه من كل وجهٍ؟ وهذا ظاهرٌ لكل مَن فَهِمَه، ولله الحمد. الوجه السَّادس والأربعون: أن الله سبحانه وصف نفسه بأنه بيَّن لعباده غاية البيان، وأمر رسوله بالبيان، وأخبر أنه أنزل عليه كتابه ليُبيِّن للناس. ولهذا قال الزُّهري: «مِن الله البيان، وعلى رسوله البلاغ، وعلينا التسليم» (1). فهذا البيان الذي تكفَّل به سبحانه وأَمَرَ به رسوله إمَّا أن يكون المراد به بيان اللفظ وحده، أو المعنى وحده، أو اللفظ والمعنى جميعًا. ولا يجوز أن يكون المراد به بيان اللفظ دون المعنى، فإن هذا لا فائدة فيه، ولا يحصل به مقصود الرسالة. وبيان المعنى وحده بدون دليله ـ وهو اللفظ الدَّالُّ عليه ـ ممتنعٌ. فعُلم قطعًا أن المراد بيان اللفظ والمعنى. والله تعالى أنزل كتابه: ألفاظَه ومعانيَه، وأرسل رسوله ليبيِّن اللفظ والمعنى، فكما أنَّا نقطع ونتيقَّن أنه بيَّن اللفظ، فكذلك نقطع ونتيقَّن أنه بيَّن المعنى، بل كانت عنايته ببيان (2) المعنى أشدَّ من عنايته ببيان اللفظ. وهذا هو الذي ينبغي، فإن المعنى هو المقصود، وأمَّا اللفظ (3) فوسيلةٌ إليه ودليلٌ عليه، فكيف تكون عنايته بالوسيلة أهم من عنايته بالمقصود؟! وكيف نتيقَّن _________ (1) علَّقه البخاري في «صحيحه» (9/ 154) ووصله المروزي في «تعظيم قدر الصلاة» (520) والخلال في «السنة» (1001) وابن حبان في «صحيحه» (186). (2) «ح»: «غايته بيان». والمثبت من «م». (3) «ح»: «اللفظة». والمثبت من «م».
(1/428)
بيانه للوسيلة ولا نتيقَّن بيانه للمقصود، وهل هذا إلَّا من أَبيَنِ المحال؟! فإن جاز عليه ألَّا يُبِين المراد من ألفاظ القرآن، جاز عليه ألَّا يُبِين بعض ألفاظه، فلو كان المراد منها خلاف حقائقها وظواهرها ومدلولاتها، وقد كتمه عن الأُمة ولم يبيِّنه لها، كان ذلك قدحًا في رسالته وعصمته، وفتحًا للزنادقة والملاحدة من الرَّافضة وإخوانهم باب كتمان بعض ما أُنزل عليه، وهذا منافٍ للإيمان به وبرسالته. يوضِّحُه: الوجه السَّابع والأربعون: أن القائل بأن الدلالة اللفظية لا تفيد اليقين، إمَّا أن يقول (1): إنها تفيد ظنًّا، أو لا تفيد علمًا ولا ظنًّا. فإن قال: لا تفيد علمًا ولا ظنًّا، فهو مع مكابرته للعقل والسمع والفطرة الإنسانية من أعظم [ق 38 أ] النَّاس كفرًا وإلحادًا. وإن قال: بل تفيد ظنًّا غالبًا، وإن لم تُفِدْ يقينًا. قيل له: فالله سبحانه قد ذمَّ الظنَّ المجرد وأهلَه، فقال تعالى: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا اَلظَّنَّ وَإِنَّ اَلظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ اَلْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28] فأخبر أن الظنَّ لا يُوافق الحق ولا يُطابقه. وقال تعالى: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا اَلظَّنَّ وَمَا تَهْوَى اَلْأَنفُسُ وَلَقَد جَّاءَهُم مِّن رَّبِّهِمِ اِلْهُدى} [النجم: 23]. وقال أهل النَّار: {إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 31]. فلو كان ما أخبر اللَّه به عن أسمائه وصفاته واليوم الآخر وأحوال الأمم وعقوباتهم لا تفيد إلَّا ظنًّا، لكان المؤمنون إن يظنُّون إلَّا ظنًّا وما هم بمستيقنين (2)، ولكان قوله تعالى عنهم: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 3] _________ (1) «ح»: «قبول». والمثبت من «م». (2) من قوله: «فلو كان ما أخبر» إلى هنا سقط من «ح». وأثبتُّه من «م».
(1/429)
خبرًا غير مطابقٍ، فإن عِلْمَهم بالآخرة إنما استفادوه من الأدلة اللفظية، لا سيما وجمهور المتكلمين يُصرِّحون بأن المعاد إنما عُلم بالنقل. فإذا كان النقل لا يفيد يقينًا، لم يكن في الأُمة من يُوقن بالآخرة؛ إذ الأدلة العقلية لا مدخل لها فيها، وكفى بهذا بطلانًا وفسادًا؛ فإنه سبحانه لم يَكتَفِ من عباده بالظنِّ، بل أمرهم بالعلم، كقوله: {فَاَعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ} [محمد: 20] وقوله: {اِعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ شَدِيدُ اُلْعِقَابِ وَأَنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 100] وقوله: {وَاَتَّقُوا اُللَّهَ وَاَعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ} [البقرة: 221] ونظائر ذلك. وإنما يجوز اتباع الظنِّ في بعض المواضع للحاجة، كحادثة يخفى على المجتهد حُكْمُها، أو في الأمور الجزئية كتقويم السِّلَع ونحوه. وأمَّا ما بيَّنه الله في كتابه وعلى لسان رسوله فمَن لم يتيقَّنْه بل ظنَّه ظنًّا فهو من أهل الوعيد، ليس من أهل الإيمان. فلو كانت الأدلة اللفظية لا تُفيد اليقين لكان ما بيَّنه الله ورسوله بالكتاب والسُّنَّة لم يتيقنه أحدٌ من الأُمة. الوجه الثَّامن والأربعون: أن الله سبحانه أخبر أن قلوب المؤمنين مطمئنَّة بذِكْره، وهو كتابه الذي هدى به عباده؛ فقال تعالى: {وَيَقُولُ اُلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اَللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (28 ) اَلَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اِللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اِللَّهِ تَطْمَئِنُّ اُلْقُلُوبُ} [الرعد: 28 - 29]. أجابهم سبحانه عن سؤالهم تركَ إنزال آيات الاقتراح بجوابين: أحدهما: أنها لا تُوجب إيمانًا، بل الله هو الذي يهدي من يشاء ويُضِلُّ مَن يشاء، لا الآيات التي اقترحتموها.
(1/430)
الثَّاني: أنه نبَّههم على أعظم الآيات وأشدها اقتضاءً للإيمان (1)، وأنها في اقتضائها للإيمان أبلغ من الآيات التي تقترحونها، وهي كتابه الذي هو ذِكْره وما تضمَّنه من الحقِّ الذي تطمئنُّ إليه القلوب وتَسكُن إليه النفوس. ولو كان باطلًا لم يزد القلوب إلَّا شكًّا وريبًا، فإن الكذب ريبةٌ، والصدق طُمأنينةٌ. فلو كانت كلماته وألفاظه لا تُفيد اليقين بمدلولها لم تطمئنَّ به القلوب، فإن الطمأنينة هي سكون القلب إلى الشيء ووثوقه به، وهذا لا يكون إلَّا مع اليقين، بل هو اليقين بعينه. ولهذا تجد قلوب أصحاب الأدلة السمعية مطمئنة بالإيمان بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله وملائكته واليوم الآخر، لا يضطربون في ذلك، ولا يتنازعون فيه، ولا يَعرِض لهم الشك عند الموت، ولا يشهدون على أنفسهم ويشهدون على غيرهم بالحَيْرة والوقوف والشك. فيكفي في صحة مدلول (2) الأدلة اللفظية وبطلان (3) مدلول الشُّبه العقلية التي تخالفها هذا القدرُ وحده، فمتى رأيت أصحاب الأدلة السمعية يقول أحدهم عند الموت (4): نِهَايَةُ إِقْدَامِ العُقُولِ عِقَالُ أو يقول (5): لَعَمْرِي لَقَدْ طُفْتُ المَعَاهِدَ كُلَّهَا _________ (1) «ح»: «الإيمان». والمثبت هو الصواب، كما هو في العبارة التالية. (2) «ح»: «مدلولها». والصواب ما أثبته. (3) «ح»: «بطلانها». والصواب ما أثبته. (4) صدر بيت أنشده الفخر الرازي في أبيات، وتقدَّم تخريجها (ص 17). (5) صدر بيت أنشده الشهرستاني هو وبيت آخر، وتقدم تخريجهما (ص 16).
(1/431)
أو يقول (1): فِيكَ يَا أُغْلُوطَةَ الْفِكَر أو يقول: «والله ما أدري على أي عقيدةٍ أموت» (2). إلى أضعاف أضعاف ذلك من أحوال أصحاب الشُّبه العقلية. وبالله التوفيق. الوجه التَّاسع والأربعون: قوله: «إن العلم بمدلول الأدلة اللفظية موقوفٌ على نقل اللغة» كلام ظاهرُ البطلان، فإن دلالة القرآن والسُّنَّة على معانيهما (3) من جنس دلالة لغة كل قومٍ على ما يعرفونه ويعتادونه من تلك اللغة. وهذا لا يختصُّ العرب، بل هو أمر ضروري لجميع بني آدم، يتوقَّف العلم بمدلول ألفاظهم على كونهم من أهل تلك اللغة التي وقع بينهم بها التخاطُب، ولهذا لم يُرسل الله رسولًا إلَّا بلسان قومه ليبيِّن لهم، فتقوم عليهم الحجة بما فَهِمُوه من خطابه لهم. فدلالة اللفظ هي: العلم بقصد المتكلِّم به. ويراد بالدلالة أمران: نقلُ الدَّالِّ، وكونُ اللفظ بحيث يُفهِم معنًى. ولهذا يُقال: دلَّه بكلامه دلالةً، ودلَّ الكلامُ على هذا دلالةً. فالمتكلم دالٌّ بكلامه، وكلامه دالٌّ بنظامه. وذلك يُعرف من عادة المتكلم في ألفاظه، فإذا كانت عادته أنه يعني (4) بهذا اللفظ هذا المعنى، عَلِمْنا متى خاطَبَنا به أنه أراده من وجهين: _________ (1) صدر بيت أنشده ابن أبي الحديد في أبيات، وتقدم تخريجها (ص 371). (2) لم أقف على قائله. (3) «ح»: «معانيها». والمثبت من «م». (4) «ح»: «قضى». والمثبت من «م».
(1/432)
أحدهما: أن دلالة اللفظ مبناها على عادة المتكلم التي يقصدها بألفاظه، ولهذا استدلَّ على مراده بلُغته التي عادته أن يتكلَّم بها. فإذا عَرَف السَّامع ذلك المعنى، وعرف أن عادة المتكلم إذا تكلَّم بذلك اللفظ أن يقصده؛ علم أنه مراده قطعًا، وإلَّا لم يعلم مراد المتكلم أبدًا، وهو محالٌ. الثَّاني: أن المتكلم إذا كان قصده إفهام المخاطبين كلامَه، وعلِمَ السَّامعُ من طريقته وصفته أن ذلك قصده، لا أن قصده التلبيس والإلغاز [ق 38 ب] أفاده مجموعُ العلمين اليقين بمراده، ولم يشكَّ فيه. ولو تخلَّف عنه العلم لكان ذلك قادحًا في أحد العلمين: إمَّا قادحًا في علمه بموضوع ذلك اللفظ، وإمَّا في علمه بعبارة المتكلم به وصفاته وقصده؛ فمتى عرف موضوعه وعرف عادة المتكلم أفاده ذلك القطع. يُوضِّحُه: الوجه الخمسون: أن السَّامع متى سمع المتكلم يقول: لَبِستُ ثوبًا، ورَكِبتُ فرسًا، وأكلت لحمًا؛ وهو عالمٌ بمدلول هذه الألفاظ من عُرف المتكلم، وعالمٌ أن المتكلم لا يقصد بقوله: «لبست ثوبًا» معنى ذبحت شاةً، ولا من قوله: «ركبت فرسًا» معنى لبست ثوبًا= عَلِمَ مراده قطعًا. فإن من قصد خلاف ذلك عُدَّ مُلبِّسًا مُدلِّسًا، لا مُبيِّنًا مُفهمًا. وهذا مستحيل على الله ورسوله أعظمَ استحالة، وإن جاز على أهل التخاطُب فيما بينهم. فإذن إفادة كلام الله ورسوله لليقين فوق استفادة ذلك من كلام كل متكلمٍ، وهو أدلُّ على [مراد] (1) الله ورسوله من دلالة كلام غيره على مراده. وكلما كان السَّامع أعرف بالمتكلم وصفاته وقَصْده وبيانه وعادته كان _________ (1) «ح»، «م»: «كلام». والمثبت هو الصواب.
(1/433)
استفادته للعلم بمراده أكمل وأتمَّ. الوجه الحادي والخمسون: أن معرفة مراد المتكلم تعرف باطِّراد استعماله ذلك اللفظ في ذلك المعنى في مجاري كلامه ومخاطباته. فإذا أُلِفَ منه إطلاق ذلك اللفظ أو اطِّراده في استعماله في معنًى أُلِفَ منه أنه متى أَطلَقه أراد ذلك المعنى، وأُلِفَ منه تجريده في موارد استعماله من اقتران ما يدل على خلاف موضوعه؛ أفاد ذلك علمًا يقينًا لا ريبَ فيه بمراده. الوجه الثَّاني والخمسون: أن من تأمّلَ عامة ألفاظ القرآن وجدها نصوصًا صريحةً دالةً على معناها دلالة لا تحتمل غيرها بوجهٍ من الوجوه. وهذا كأسماء الأنبياء وأسماء الأجناس وكأسماء الأعلام، وكأسمائه سبحانه التي أطلقها على نفسه، فإنها لا تصلح أن يكون المراد بها غيره البتَّةَ، ظاهرةً كانت أم مضمرة، وكأسماء يوم القيامة والجنة والنَّار وأسماء الأعداد، وذكر الثقلين وخطابهم وعامة ألفاظ القرآن. فهل يَفهَم أحدٌ قطُّ من قوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ اِلنَّاسِ (1) مَلِكِ اِلنَّاسِ (2) إِلَهِ اِلنَّاسِ} [النَّاس: 1 - 3] غير الله سبحانه، ومن: {اِلْوَسْوَاسِ اِلْخَنَّاسِ} [النَّاس: 4] غير الشيطان، ومن: {صُدُورِ اِلنَّاسِ} [الناس: 5] غير بني آدم؟ وهل يفهم من قوله: {قُلْ هُوَ اَللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] غير ذات ربِّ العالمين، وأنه واحدٌ لا شريكَ له، وأنه لم يُولد (1) من غيره، ولم يلد منه غيره، وليس له من يماثله ويكافئه؟ وهل يفهم من: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] إلى آخرها غير ما دلَّتْ عليه؟ _________ (1) «ح»: «يلد». والمثبت هو الصواب.
(1/434)
وهكذا جميع سُوَر القرآن وآياته مفيدة (1) لليقين بالمراد منها، وإن أَشكل على كثير من النَّاس كثيرٌ من ألفاظه؛ فإن هذا لا يُخرِجه عن إفادته اليقين، ولا يسلب الأدلة اللفظية عن إفادتها اليقين. بل كل علمٍ من علوم بني آدم اليقينية القطعية تشتمل على مسائل (2) يتيقَّنها أصحاب ذلك العلم، وهي مسلَّمة عندهم، ومجهولة عند كثيرٍ منهم، ولا يخرج ذلك العلم عن كونه يقينيًا قطعيًّا، فعَزْلُ الأدلة اللفظية جملة عن اليقين لألفاظٍ يسيرةٍ مشتبهةٍ على بعض النَّاس كعزل العلوم اليقينية القطعية عن موضوعها لمسائل يسيرةٍ فيها غير يقينية ولا قطعية. الوجه الثَّالث والخمسون: أن قوله: «إن فَهْم الأدلة اللفظية موقوفٌ على نقل النَّحو والتَّصريف». جوابه: أن القرآن نُقِلَ إعرابه كما نُقِلَت ألفاظه ومعانيه، لا فرق في ذلك كله، فألفاظه متواترة، وإعرابه متواتر، ونَقْل معانيه أَظهَرُ من نَقْل ألفاظه وإعرابه كما تقدَّم بيانه (3)؛ فإن القرآن لغته ونحوه وتصريفه ومعانيه كلها منقولة بالتواتر، لا يحتاج في ذلك إلى نَقْل غيره؛ بل نَقْل ذلك كله بالتواتر أصحُّ من نقل كل لغةٍ نقلها ناقلٌ على وجه الأرض. وقواعد الإعراب والتصريف الصحيحة مستفادةٌ منه، مأخوذةٌ من إعرابه وتصريفه، وهو الشَّاهد على صحة غيرها ممَّا يحتجُّ له بها، فهو الحجة لها والشَّاهد، وشواهد الإعراب والمعاني منه أقوى وأصح من الشواهد من غيره، حتى إن _________ (1) «ح»: «مشيدة». (2) بعده في «ح»: «بل». وهي زائدة. (3) تقدم (ص 345).
(1/435)
فيه من قواعد الإعراب وقواعد علم المعاني والبيان ما لم تشتمل عليه ضوابط النحاة وأهل علم المعاني إلى (1) الآن. كما أن فيه من قواعد البراهين العقلية والأدلة القطعية ووجوهها ما لم تشتمل عليه قواعد الأصوليين والجدليين إلى الآن. وفيه من علم الأحكام وفقه القلوب وأعمال الجوارح وطُرُق الحكم بين العباد ما لم تتضمنه قواعد الفقهاء إلى الآن. وهذا أمر يتسارع الجُهَّال والمقلِّدون إلى إنكاره، والذين أُوتوا العلم يعرفونه حقًّا. فبَطَل قول هؤلاء: «إن الأدلة اللفظية تتوقف دلالتها على عصمة رواة [ق 39 أ] مفردات تلك الألفاظ ورواة إعرابها وتصريفها»، وظهر تدليسهم وتلبيسهم في هذا القول، وبالله التوفيق. يُوضِّحُه: الوجه الرَّابع والخمسون: أن يُقال: هَبْ أنه يُحتاج إلى نقل ذلك، لكن عامة ألفاظ القرآن منقولٌ معناها وإعرابها بالتواتر، لا يحتاج الناس فيه إلى النقل عن عدول أهل العربية، كالخليل وسيبويه والأصمعي وأبي عبيدة والكسائي والفراء، حتى الألفاظ الغريبة في القرآن مثل: {أُبْسِلُوا} [الأنعام: 70] و {قِسْمَةٌ ضِيزى} [النجم: 22] و {عَسْعَسَ} [التكوير: 17] ونحوها معانيها منقولة في اللغة بالتواتر، لا يختص بنقلها الواحد والاثنان، فلم تتوقَّف دلالتها على عصمة رواة معانيها، فكيف في الألفاظ الشهيرة كالشمس والقمر والليل والنهار والبر والبحر والجبال والشجر والدواب. فهذه الدعوى باطلة في الألفاظ الغريبة والألفاظ الشهيرة. الوجه الخامس والخمسون: أن أصحاب هذا القانون الذي عزلوا به _________ (1) «ح»: «وإلى». وكذا في الموضعين التاليين، والصوب حذف الواو.
(1/436)
نصوص الوحي عن إفادتها للعلم واليقين قالوا: إن أظهر الألفاظ لفظ الله، وقد اختلف النَّاس فيه أعظم اختلاف، هل هو مشتقٌّ أم لا؟ وهل هو مشتقٌّ من التَّألُّه (1) أو من الوَله، أو من لَاهَ إذا احتجب (2)؟ وكذلك اسم الصلاة، وفيه من الاختلاف ما فيه، وهل هو مشتقٌّ من الدعاء، أو من الاتِّباع، أو من تحريك الصَّلَويْنِ؟ فإذا كان هذا في أظهر الأسماء فما الظنُّ بغيره؟! فتأمَّلْ هذا الوهم والإيهام واللبس والتلبيس، فإن جميع أهل الأرض علمائهم وجُهَّالهم ومَن يعرف الاشتقاق ومَن لا يعرفه وعَرَبهم وعَجَمهم يعلمون أن الله اسم لربِّ العالمين، خالق السماوات والأرض، الذي يحيي ويميت، وهو ربُّ كل شيءٍ ومليكه، فهم لا يختلفون في أن هذا الاسم يُراد به هذا المسمَّى، وهو أظهر عندهم وأعرف وأشهر من كل اسمٍ وُضع لكل مسمًّى، وإن كان الناس متنازعين في اشتقاقه، فليس ذلك بنزاعٍ منهم في معناه. وكذلك الصلاة لم يتنازعوا في معناها الذي أراده الله ورسوله، وإن اختلفوا في اشتقاقها. وكذلك قوله: {يَاأَيُّهَا اَلنَّبِيُّ} [الأنفال: 65] لم يتنازعوا في المراد به، وأنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وإن اختلفوا في اشتقاقه هل هو من النبأ، أو من النبوة، فليس ذلك نزاعًا منهم في مسمَّاه. وكذلك مواضع كثيرة تتنازع _________ (1) «ح»: «بالتأله». والمثبت من «م». (2) ينظر: «تفسير الطبري» (1/ 122 - 123) و «التفسير البسيط» للواحدي (1/ 444 - 455) و «لسان العرب» (13/ 467 - 470) و «تاج العروس» (36/ 320 - 322).
(1/437)
النحاة في وجه دلالتها مع اتفاقهم على المعنى: كقوله: {وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ اَلْغَافِلِينَ} [يوسف: 3] فالبصريون يجعلونها مخفَّفة من الثقيلة، واللام فارقة بين المخففة والنَّافية، والكوفيون يجعلونها نافية، واللام بمعنى إلَّا، وليس هذا نزاعًا في المعنى، وإن كان نزاعًا في وجه الدلالة عليه. وكذلك قوله: {يُبَيِّنُ اُللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا} [النساء: 175] يُقدِّره البصريون: كراهة أن تَضِلُّوا، والكوفيون: لئلَّا تَضِلُّوا. وكذلك اختلافهم في التنازع (1) وأمثال ذلك إنما هو نزاع في وجه دلالة اللفظ على ذلك المعنى، مع اتفاقهم على أن المعنى واحد، وهذا القَدْر لا يُخرِج اللفظ عن إفادته للسامع اليقين بمسمَّاه. الوجه السَّادس والخمسون: أن يُقال: هذه الوجوه العشرة مدارها على حرفٍ واحدٍ، وهو أن الدليل اللفظي يحتمل أزيد من معنًى واحدٍ، فلا نقطع بإرادة المعنى الواحد. فهذه الوجوه العشرة مضمونها كلها احتمال اللفظ لمعنيينِ فصاعدًا حتى لا يُعرف عين مراد المتكلم. فنقول: من المعلوم أن أهل اللغة لم يُسوِّغوا للمتكلم أن يتكلَّم بما يريد به خلاف ظاهره إلَّا مع قرينة تُبيِّن المراد، والمجاز إنما يدل مع القرينة، بخلاف الحقيقة فإنها تدلُّ على التجرُّد. وكذلك الحذف والإضمار لا يجوز _________ (1) التنازع: عبارة عن توجُّه عاملين إلى معمولٍ واحدٍ، نحو: ضربت وأكرمت زيدًا. فكل واحد من ضربت وأكرمت يطلب زيدًا بالمفعولية. «شرح ابن عقيل على الألفية» (2/ 157).
(1/438)
إلَّا إذا كان في الكلام ما يدل عليه. وكذلك التخصيص ليس لأحدٍ أن يدَّعيَه إلَّا مع قرينة تدل عليه، فلا يسوِّغ العقلاء لأحدٍ أن يقول: جاءني زيدٌ. وهو يريد ابنَ زيدٍ إلَّا مع قرينة، كما في قوله: {وَسْئَلِ اِلْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] «واسألِ العِير» عند من يقول إنه من هذا الباب (1)، فإنه يقول: القرية والعِير لا يُسألون، فعُلم أنه أراد أهلها. ومن جعل القرية اسمًا للسكان والمسكن، والعِيرَ اسمًا للركبان والمركوب، لم يحتجْ إلى هذا التقدير. وإذا كانت هذه الأنواع لا تجوز مع تجرُّد الكلام عن القرائن المبينة للمراد، فحيث [ق 39 ب] تجرَّدَت عَلِمْنا قطعًا أنه لم يُرد بها ذلك. وليس لقائل أن يقول: قد تكون القرائن موجودة ولا نعلم بها؛ لأن من القرائن ما يجب أن يكون لفظيًّا كمخصصات الأعداد وغيرها، ومنها ما يكون معنويًّا كالقرائن الحالية والعقلية، والنوعان لا بدَّ أن يكونا ظاهريْنِ للمخاطب ليفهم من تلك القرائن مراد المتكلم. فإذا تجرَّد الكلام عن القرائن (2) فُهِمَ معناه المراد عند التجرُّد، وإذا اقترن بتلك القرائن فُهِمَ معناه المراد عند الاقتران، فلم يقع لبسٌ في الكلام المجرَّد، ولا في الكلام (3) المقيَّد؛ إذ كل من النوعينِ مفهمٌ لمعناه المختصِّ به. وقد اتفقت اللغة والشرع على أن اللفظ المجرد إنما يُراد به ما ظهر منه، وأن ما يُقدَّر من احتمال مجازٍ أو اشتراكٍ أو حذفٍ أو إضمارٍ ونحوه إنما يقع _________ (1) منهم: الأخفش في «معاني القرآن» (1/ 342) والزجاج في «معاني القرآن» (1/ 213، 247، 493) والواحدي في «التفسير البسيط» (12/ 208). (2) بعده في «ح»: «فإن». وهي زائدة. (3) «ح»: «الكلام في». والمثبت من «م».
(1/439)
مع القرينة، أمَّا مع عدمها فلا، والمراد معلوم على التقديرين. يُوضِّحه: الوجه السَّابع والخمسون: أن غاية ما يُقال: إن في القرآن ألفاظًا استُعملت في معانٍ لم تكن تعرفها العرب، وهي الأسماء الشرعية: كالصلاة والزكاة والصيام والاعتكاف ونحوها، والأسماء الدينية كالإسلام والإيمان والكفر والنفاق ونحوها، وأسماء مُجْمَلة لم يُرَدْ ظاهرها كالسَّارق والسَّارقة والزَّاني والزَّانية ونحوه، وأسماء مشتركة كالقُرء وعسعس ونحوهما، فهذه الأسماء لا تفيد اليقين بالمراد منها. فيقال هذه الأسماء جارية في القرآن ثلاثة أنواع: نوع بيانه معه: فهو مع بيانه (1) يُفيد اليقين بالمراد منه. ونوع بيانه في آية أخرى: فيُستفاد اليقين بالمراد من مجموع الآيتين (2). ونوع بيانه موكول (3) إلى الرَّسول - صلى الله عليه وسلم -: فيُستفاد اليقين من المراد منه ببيان الرَّسول. ولم نَقُلْ نحن ولا أحدٌ من العقلاء إن كل لفظٍ فهو مفيدٌ لليقين بالمراد منه بمجرده من غير احتياج إلى لفظٍ آخَرَ متصل به أو منفصلٍ عنه؛ بل نقول: إن مراد المتكلم يُعلم من لفظه المجرَّد تارةً، والمقرون تارةً، ومنه ومن لفظ آخر يفيدان اليقين بمراده تارةً، ومنه ومن بيانٍ آخر بالفعل أو القول يُحيل المتكلم عليه تارةً. وليس في القرآن خطابٌ أُريد منه العلم بمدلوله إلَّا وهو _________ (1) «ح»: «بيان». والمثبت من «م». (2) «ح»: «الاثنين». والمثبت من «م». (3) «ح»: «موكولا». والمثبت من «م».
(1/440)
داخل في هذه الأقسام. فالبيان المقترن كقوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اُلْخَيْطُ اُلْأَبْيَضُ مِنَ اَلْخَيْطِ اِلْأَسْوَدِ مِنَ اَلْفَجْرِ} [البقرة: 186] وكقوله: {لَّا يَسْتَوِي اِلْقَاعِدُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي اِلضَّرَرِ وَاَلْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اِللَّهِ} [النساء: 94] وقوله: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 13] ونظائر ذلك. والبيان المنفصل كقوله: {* وَاَلْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 231] وقوله: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 13] مع قوله: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 14]، فأفاد مجموع اللفظينِ البيان بأن مدة الحمل ستة أشهر. وكذلك قوله: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ اِمْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا اَلسُّدُسُ} [النساء: 12] مع قوله: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اِللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي اِلْكَلَالَةِ} الآية [النساء: 175] أفاد مجموع النصَّيْن العلم بالمراد من الكلالة، وأنه مَن لا ولد له وإن سَفَلَ ولا والد له وإن عَلَا. وكذلك قوله: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 5] مع قوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] أفاد مجموع الخطابين [أنه] (1) في الرجعيات دون البوائن. ومنه قوله: {وَاَلَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَاَلصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير: 17 - 18] مع قوله: {كَلَّا وَاَلْقَمَرِ (32) وَاَلَّيْلِ إِذَا دَبَرَ (33) وَاَلصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} [المدثر: 32 - 34] فإن مجموع الخطابين يفيدان العلم بأن الربَّ سبحانه أقسم بإدبار هذا وإقبال _________ (1) زيادة يقتضيها السياق.
(1/441)
هذا، أو بإقبال كلٍّ منهما على مَن فسر (1) {دَبَرَ} بأنه دَبَرُ النهار، أي: جاء في دبره، و {عَسْعَسَ} بأقبل. فعلى هذا القول يكون الإقسام بإقبال الليل وإقبال النهار. وعلى القول الأول يكون قد وقع الإقسام بإدبار الليل وإقبال النهار، وقد يُقال: وقع الإقسام في الاثنين بالنوعين (2). وأمَّا البيان الذي يُحيل المتكلم عليه، فكما أحال الله سبحانه وتعالى على رسوله في بيان ما أمر به عباده من الصلاة والزكاة والحج وفرائض الإسلام التي إنما عُلم مقاديرها وصفاتها وهيئاتها من بيان الرَّسول - صلى الله عليه وسلم -. فلا يخرج خطاب القرآن عن هذه الوجوه. ولم يخاطب الله عباده بلفظٍ إلَّا وقد بيَّن لهم مراده به بأحد هذه الوجوه الأربعة، فصار الخطاب مع بيانه مفيدًا لليقين بالمراد منه، وإن لم يكن بيانه متصلًا به، وذلك لا يَعزِل كلام الله ورسوله عن إفادته العلم واليقين. الوجه الثَّامن والخمسون: أن حصول اليقين بمدلول الأدلة السمعية والعلم بمراد المتكلم بها أيسر وأظهر من حصوله بمدلول الأدلة العقلية، فإن الأدلة السمعية تدل بقصد الدَّال وإرادته، وعِلْمُ المخاطب بذلك أَيسَرُ عليه من علمه باقتضاء الدليل [ق 40 أ] العقلي بمدلوله. ولهذا كان أوَّل ما يفعله الطفل معرفة مراد أبوَيْه بخطابهما له قبل عِلْمِه بالأدلة العقلية. وأيضًا فمَن قَصَدَ تعليم غيره مقتضى الدليل العقلي لم (3) يُمكِنْه ذلك _________ (1) «ح»: «فسره». والمثبت من «م». (2) ينظر «التبيان في أيمان القرآن» للمصنف (ص 86 - 87، 190 - 191). (3) «ح»: «كمن». والمثبت هو الصواب.
(1/442)
حتى يُعرِّفه مدلول الألفاظ التي صاغ بها الدليل العقلي، فعلمه بمدلول الدليل السمعي الدَّال على مقتضى الدليل العقلي أسبق إليه وأيسر عليه. وهذا هو الترتيب الطبيعي الموجود في النَّاس، كما يُخاطِب المُعلِّم المتعلِّم (1) بالألفاظ الدَّالة على الدليل العقلي، فلا بدَّ أن يَعرِف مدلول تلك الألفاظ أولًا، ثم يُرتِّب مدلولها في ذهنه ترتيبًا (2) ينتج له العلم بالنتيجة. وليس أحدٌ من البشر يستغني عن التعلم السمعي، كيف وآدم أبوهم أول مَن علَّمه الله أصول الأدلة السمعية، وهي الأسماء كلها، وكلَّمه قَبِيلًا (3)، ونبَّأه وعلَّمه بخطاب الوحي ما لم يَعلَمه بمجرد العقل (4). وهكذا جميع الأنبياء من ذريته علَّمهم بالأدلة السمعية ـ وهي الوحي ـ ما لم يعلموه بمجرد عقولهم، وحصل لهم من اليقين والعلم بالأدلة السمعية ـ التي هي خطاب الله لهم ـ ما لم يحصل لهم بمجرد العقل، وأحيلوا هم وأُممهم على الأدلة (5) السمعية، ولم يُحالوا على العقل، وهداهم الله بالأدلة السمعية لا بمجرد العقل، وأقام حجَّته على أُممهم بالأدلة السمعية لا بالعقل. يُوضِّحه: الوجه التَّاسع والخمسون: وهو ما اتفق (6) عليه أهل المِلَل أن النُّبوَّة _________ (1) «ح»: «العلم للمتعلم». ولعل المثبت هو الصواب. (2) «ح»: «تركيبًا». (3) أي: عيانًا ومقابلةً، لا من وراء حجاب، ومن غير أن يُولي كلامه أحدًا من ملائكته. «النهاية في غريب الحديث» (4/ 8) و «لسان العرب» (11/ 538). (4) «ح»: «العقلي». ولعل المثبت هو الصواب. (5) «ح»: «أدلة». (6) «ح»: «اتفقت».
(1/443)
خطابٌ سمعيٌّ بوحيٍ يُوحيه المَلَك إلى النَّبيِّ عن الربِّ تعالى، ليست مجرد معرفة الحقائق بقوةٍ قدسيةٍ في البشر تميَّز بها عن غيره، وقوة تخيلٍ وتخييلٍ يتمكَّن بها من (1) التصوُّر وحُسن البصيرة، وقوة تأثيرٍ يتمكن بها من التصرف في عناصر العالم، كما يقول المتفلسفة، ويقولون: إن ما يحصل للنبي من المعارف إنما هو بواسطة القياس العقلي كغيره من البشر، لكن هو أسرع وأكمل إدراكًا للحد الأوسط من غيره، ويزعمون أن علم الربِّ كذلك. والقائلون بأن اليقين والعلم إنما يحصل من الأدلة العقلية لا من الأدلة السمعية هم هؤلاء، وعنهم تُلقِّي هذا الأصل، ومنهم أُخذ، فهو أحد أصول الفلسفة والإلحاد والزندقة الذي يتضمَّن عزل النبوَّات وما جاءت به الرسل عن الله من الأدلة السمعية، وتولية القواعد المنطقية والآراء الفلسفية، فأخذه منهم متأخِّرو الجهمية، فصالوا به على أهل الكتاب والسُّنَّة، ولقد كان قدماؤهم لا يُصرِّحون بذلك، ولا يتجاسرون عليه، فكشف المتأخرون القناع وألقوا جلباب الدِّين، وصرَّحوا بعزل الوحي عن درجته (2). والمسلمون (3) ـ بل وأهل المِلَل قاطبةً ـ يعلمون بالضرورة أن (4) أكمل التعليم تعليم الله لصَفِيِّه آدم الأسماء كلَّها، وأكمل التكليم تكليمه سبحانه _________ (1) «ح»: «آخر». ولعل المثبت هو الصواب. وينظر قول الفلاسفة في النبوة ورد شيخ الإسلام عليهم في «الصفدية» (1/ 5 - 6) و «الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان» (ص 204) و «النبوات» (1/ 505) و «منهاج السنة» (8/ 23 - 24). (2) «ح»: «درجة». ولعل المثبت هو الصواب، والمراد بدرجته: مكانته. (3) «ح»: «والمسلمين». والمثبت هو الصواب. (4) «ح»: «وأن». والمثبت هو الصواب.
(1/444)
لكليمه موسى، وأعلى أنواع العلوم وأعظمها إفادة لليقين العلوم التي ألقاها الله سبحانه إلى أنبيائه بواسطة السمع، وأن نسبة العلوم العقلية المشتركة بين النَّاس إليها أقل وأصغر من نسبة علوم العجائز والأطفال إلى تلك العلوم، فبين العلوم الحاصلة من الأدلة السمعية للرسل وأتباعهم وبين العلوم الصحيحة الحاصلة بأفكار العقلاء من التفاوت أضعافُ ما بين الخردلة إلى الجبل العظيم. فكيف النسبة بين العلوم السمعية اليقينية للرسل وأتباعهم وبين الشُّبه الخيالية التي هي من جنس شُبه السوفسطائية (1) في التحقيق. فدعوى هؤلاء المخدوعين المخادعين أن ما جاءت به الأنبياء لا يُفيد اليقين، وأن تلك الهذيانات التي بنَوْا عليها واستدلُّوا بها هي المفيدة لليقين من جنس دعوى فرعون وقوله: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ اَلرَّشَادِ} [غافر: 29] وقال عن موسى و [ما] (2) جاء به: {إِنِّيَ أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ وَأَن يُظْهِرَ فِي اِلْأَرْضِ اِلْفَسَادَ} [غافر: 26] فدعوى هؤلاء من جنس دعواه سواء، وبالله التوفيق. الوجه الستون: أن دلالة الأدلة السمعية على مدلولها من جنس دلالة الآيات المعينة على مدلولها، وهذان النوعان هما أكمل الأدلة، وهما المستلزمان للعلم بالربِّ تعالى وأسمائه وصفاته والمعاد وإثبات صِدْق _________ (1) السفسطائية: فرقة تنكر الحسيات والبديهيات وغيرها، وتعنى بالجدل والتلاعب بالألفاظ بقصد الإقناع، وهي فرقة يونانية قديمة، عارَضَها سقراط، وكشف عن مغالطتها. «معجم اللغة العربية المعاصرة» (2/ 1073) و «المعجم الفلسفي» (1/ 658 - 660). (2) سقط من «ح».
(1/445)
الرسل؛ بخلاف الأدلة العقلية الكلية التي طريقها صناعة المنطق، فإنها إذا صحَّتْ مقدِّماتها وكانت يقينية وكانت منتجة فإنما تنتج مطلوبًا كليًّا لا يحصل به إثبات ربٍّ معينٍ، ولا رسولٍ معينٍ، ولا إثبات شيءٍ من أصول الإيمان التي لا سعادة للعبد بدونها. فإن غاية ما عند هؤلاء أن الممكن يفتقر إلى واجبٍ، فبعد تقرير إمكان العالم والتخلص من الشُّبه الواردة على الإمكان إنما استفادوا إثبات وجود واجبٍ، ومعلوم أن فرعون وهامان ونمرود بن كنعان والمجوس والصَّابئة لا يشكُّون في إثبات وجود واجبٍ، [ق 40 ب] بل عُبَّاد الأصنام أهدى من هؤلاء، حيث اعترفوا بربٍّ قيومٍ خالقٍ قادرٍ يفعل بمشيئته وقدرته. وأصحاب هذه الأدلة العقلية التي تفيد اليقين لم يصلوا فيما استفادوه بها إلى هذا ولا قريب منه، بل أثبتوا وجودًا واجبًا، وهل هو هذا الفَلَك أو فلك وراءه، أو (1) وجود مطلق، أو علة أولى، أو الوجود الكلي العام السَّاري في الموجودات، كما قال بكل من ذلك طائفة. وأمَّا كونه الله الذي لا إله إلَّا هو الحي القيوم، القاهر فوق عباده، الذي استوى على عرشه، يعلم ما تُخفِيه الضمائر، ويرى ويسمع ويتكلَّم ويُكلِّم ويرضى ويغضب ويخلق ما يشاء= فهذا لا تدلُّ عليه مقدِّماتهم المنطقية وأدلَّتهم الكلية، فلا تفيد شيئًا من مطالب الإيمان المشتركة بين أهل المِلَل البتَّةَ. وأمَّا أدلة الربِّ سبحانه بآياته السمعية والخلقية فهي التي دلَّتْ عباده على توحيده، وصفات كماله، ونعوت جلاله، وصِدْق رُسُله، وصحَّة معاد الأبدان، وقيام النَّاس من قبورهم إلى دار شقاوة وسعادة؛ فلولا هذه الآيات _________ (1) «ح»: «و». ولعل المثبت هو الصواب.
(1/446)
السمعية لم يعرفوا شيئًا من ذلك. وقد أخبر سبحانه عن هذه الآيات السمعية والخلقية بقوله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي اِلْأفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ اُلْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 52]. فبيَّن سبحانه أنه يُري عباده من الآيات المشهودة العيانية في الآفاق وفي أنفسهم ما يُبيِّن لهم به أن آياته السمعية القرآنية حقٌّ وصِدْقٌ. فآيات الربِّ تعالى العيانية الآفاقية والنفسية مستلزمة لإثبات الأدلة السمعية، ثم دلالة آياته السمعية ـ التي لا تُفيد اليقين عند هؤلاء ـ أكمل دلالة على المطالب الإيمانية من الأدلة الكلية المؤلَّفة من القياسات المنطقية. بل دلالتها على تلك المطالب كدلالة الشمس على النهار، ودلالة ضوء الصُّبح على الصَّباح، ودلالة الدخان على النَّار، والمصنوع على الصَّانع، ودلالة النجوم على الطُّرق، ونحو ذلك. وهذا يبيِّن أن أضعف أنواع الأدلة هي الأدلة القياسية العقلية، التي هي عند كثيرٍ من الفلاسفة والمتكلمين أكمل الأدلة. ثم الدليل القياسي التمثيلي أقوى وأظهر دلالة من الدليل القياسي الشمولي، خلاف ما يدعيه المنطقيون ومن اتبعهم. فأدلة هؤلاء هي آخر المراتب وأضعفها، وأدلة القرآن في أعلى مراتب الأدلة وأشدها ارتباطًا بمدلولها واستلزامًا له، خلافًا لمن عكس ذلك، كابن سينا وابن الخطيب والآمدي وأشباههم. فدلالة المقال أكمل من دلالة الحال، ودلالة الحال المعينة أكمل من الدلالة الكلية المنطقية، ودلالة كلام الله أكمل من دلالة كل كلامٍ، وإفادته اليقين فوق إفادة كل دليلٍ اليقين بمدلوله، ودلالة آياته (1) العيانية على _________ (1) «ح»: «آيات». والمثبت هو الصواب.
(1/447)
مدلولها فوق إفادة كل دليلٍ عقليٍّ لمدلوله. فقول من قال: إنها لا تفيد اليقين بمدلولها لأنها أدلة لفظية (1)، والأدلة الخلقية (2) لا تفيد لكونها أمثالًا جزئية لا أقيسة كلية. فيُسمُّون آياته السمعية أدلة لفظية، وآياته العيانية تمثيلات جزئية، ويقولون: هذا تمثيلٌ لا دليلٌ. وفي الأول: هذا دليلٌ لفظيٌّ لا عقليٌّ= فقولُ هؤلاء قلبٌ للحقائق، وعكسٌ لما فَطَرَ الله عليه عباده، وقدحٌ في المعلوم قطعًا ويقينًا بالشُّبه الخيالية والأقيسة المنطقية. وقد أفسدوا من الفِطَر وغيَّروها عمَّا فُطرت عليه خلائق لا يُحصيهم إلَّا الله. وهؤلاء للملل بمنزلة السُّوس في الخشب والثياب وغيرهما، ولهذا سمَّاهم أنصارُ الله ورسوله «سوسَ الملل» (3). وإذا شئت أن تعرف حقيقة الأمر فانظر إلى أهل الأدلة السمعية، وأهل الأدلة المنطقية العقلية، ووازِنْ بين معارف هؤلاء وعلومهم وإيمانهم وهدايتهم ونفع الخلق بهم وسيرتهم، وبين علوم أولئك ومعارفهم وسيرتهم وضرر الخلق بهم وإخراجهم لمن أنشبوا مخالبهم فيه من العقل والدِّين خروج الشَّعرة من العجين. الوجه الحادي والستون: أنه من أعظم المُحال أن يكون المصنِّفون في جميع العلوم قد بيَّنوا مرادهم، وعَلِمَ النَّاس مرادهم منها يقينًا ـ سواء كان ذلك المعلوم مطابقًا للحق أو غير مطابقٍ له ـ ويكون الله ورسوله لم يُبيِّن _________ (1) «ح»: «القطعية». والمثبت هو الصواب. (2) «ح»: «العقلية». والمثبت هو الصواب. (3) وقد سماهم سوس الملل: شيخُ الإسلام ابن تيمية في مواضع، منها: «بيان الدليل على بطلان التحليل» (2/ 158) و «بيان تلبيس الجهمية» (2/ 67، 481) و «مجموع الفتاوى» (35/ 190).
(1/448)
مراده بكلامه، ولا تيقَّنت الأُمة إلى الآن ما أراد بكلامه، فهذا لا يقوله إلَّا مَن هو مِن أجهل النَّاس بالله ورسوله وكلامه. ونحن لا نُنكر أن في أرباب المعقولات مَن هو في غاية البعد عن معرفة الله ورسوله وما جاء به، وأنه لم يحصل له اليقين من كلام الله ورسوله؛ وذلك لبُعْده منه، وعدم أنسه (1) به، [ق 41 أ] وسوء ظنِّه به، واعتقاده أن كلامه خَطابة لا برهان، وأنه تخييل خيَّل به إلى النفوس، وشبَّه لها الأمور العقلية وأخرجها في الصور المحسوسة، وأن القرآن إنما هو خطاب للعرب الجُهَّال الذين هم من أجهل الأمم بالعلوم والحقائق، وأنهم لم تُمكَّن دعوتهم إلَّا بالطريق الخطابية التخييلية، لا بالطريق البرهانية العقلية الحكمية، وأن طريق الحكمة والبرهان هي طرق الفلاسفة والمنطقيين والصَّابئة وأتباعهم. فلا ريبَ أن القرآن في حقِّ مثل هذا لا يُفيده اليقين، بل هو عمًى عليه وضلالٌ في حقِّه، كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَاَلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهْوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 43]. قال مجاهد: «بعيدٌ من قلوبهم فَهْم ما يُتلى عليهم» (2). وقال الفراء (3): «تقول للرجل الذي لا يفهم كلامك: أنت تُنادَى من مكانٍ بعيدٍ». وقال صاحب «النظم» (4): «أي إنهم لا يسمعون ولا يفهمون، كما أن من _________ (1) «ح»: «الفسه». ولعل المثبت هو الصواب. (2) أخرجه الطبري في «التفسير» (20/ 451). (3) «معاني القرآن» (3/ 20). (4) لم أعرف من هو، وقد نقله عنه الواحدي في «التفسير البسيط» (19/ 472) ولم يسمه. ويبدو أن المصنف نقل عن الواحدي تفسير هذه الآية.
(1/449)
دُعي من مكانٍ بعيدٍ لم يَسمَع ولم يَفهَم». وهذا حال هؤلاء الذين لا يستفيدون من كلام الله ورسوله يقينًا ولا علمًا، وهذه أيضًا حال الجُهَّال ومَن نَشَأَ بالبوادي ومَن لا فَهْم له من أهل البَلَه والبلادة وأمثال هؤلاء، فإن هؤلاء لا يستفيدون من كلام الله ورسوله علمًا ولا يقينًا. فقول القائل: «الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين» لم يذكر المفعول، بل حذفه. فإن إراد (1) أنها لا تُفيد اليقين لهاتين الطَّائفتين فصَدَقَ، وإن أراد أنها لا تفيده للراسخين في العلم وأهل الذكاء ـ الذين هم أحسن النَّاس قصودًا وأصحهم أذهانًا ـ فقد كَذَبَ عليهم وبَهَتَهم، فإنهم قد استفادوا منها من اليقين ما لم يستفِدْه أهل منطق اليونان وأتباع الفلاسفة وأفراخ الصَّابئة وورثة الملاحدة وأوقاح الجهمية من قواعدهم الباطلة. فدعواهم أنهم (2) لم يستفيدوا منها يقينًا مكابرةٌ لهم في الأمور الوجدانية الحاصلة لهم. وإن قالوا: نحن لم نستفد منها يقينًا. قيل لهم: لا يلزم من ذلك ألَّا تُفيد اليقين لأهل العلم والإيمان، وقد قال مَن لم يستفد العلم واليقين من القرآن للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما حكاه الله عنهم بقوله: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 4]. ولم يمنع هذا ارتفاعَ هذه الموانع واستفادة الهدى واليقين في حقِّ المؤمنين المصدِّقين، بل كان في حقهم هدًى وشفاء. _________ (1) «ح»: «إفادتها». ولعل المثبت هو الصواب. (2) «ح»: «أنكم».
(1/450)
وإن قال: هي لا تفيد اليقين في نفسها، وليست موضعًا لذلك. فهذا غاية البهت والإلحاد، يُوضِّحه: الوجه الثَّاني والستون: أن يُقال لهم: ما تريدون بهذا النفي؟ أتريدون بالأدلة اللفظية جنس كلام بني آدم الدَّال على مرادهم في الخطاب والتصنيف وغيره أو كلام الله ورسوله؟ وهل مرادكم بهذا السلب أن شيئًا منها لا يُفيد اليقين، أو أن مجموعها لا يفيده، وإن أفاده بعضها؟ وهل المراد أنه لا يستفيد أحدٌ منها اليقين البتَّةَ، أو أن النَّاس كلَّهم لا يستفيدون منها اليقين بل يستفيده بعضهم دون البعض؟ وهل المراد أنها (1) لا تفيد اليقين بمراد المتكلِّم بها، أو لا تفيد اليقين بثبوت ما أخبر بثبوته ونفي ما أخبر بنفيه، وإن تيقنَّا مراده، فهما مقامان والفرق بينهما معلوم. فهذه ثمانية تقادير، فبيِّنوا مرادَكم منها، فإن أحدًا من العقلاء لا يمكنه أن ينفي حصول اليقين منها على هذه التقادير كلها. وإذا كان المراد نفي اليقين على بعض التقادير المذكورة فبيِّنوه بالدعوى؛ ليتوارد النفي والإثبات على محلٍّ واحدٍ. والظَّاهر ـ والله أعلم ـ أنكم تريدون أن كلام الله ورسوله لا يُستفاد منه علمٌ ولا يقين في باب معرفة الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وإثبات ملائكته _________ (1) «ح»: «بها».
(1/451)
وصفاتهم وأنواعهم، وإذا لم يُفِدِ اليقين في ذلك ـ وهو أعظم أقسام القرآن وأظهرها وأكثرها ورودًا فيه ـ فكيف يُفيد في باب المعاد والأحكام، كما تقدَّم تقريره (1)؟! الوجه الثَّالث والستون: أنَّ هذا القانون مضمونه جَحْد الرسالة في الحقيقة ـ وإن أقرَّ بها صاحبه بلسانه. بل مضمونه أنَّ تَرْك النَّاس بلا رسولٍ يُرسَل إليهم خيرٌ من أن يُرسَل إليهم رسولٌ، وأنَّ الرُّسل لم يَهتَدِ بهم أحدٌ في أصول الدِّين، بل ضلَّ بهم النَّاس. وذلك أن القرآن ـ على ما اعتقده أرباب هذا القانون ـ لا يُستفاد منه علمٌ ولا حجةٌ، بل إذا علمنا بعقولنا سببًا اعتقدناه ثم نظرنا في القرآن، فإن كان موافقًا لذلك أقررناه على ظاهره لكونه معلومًا بذلك الدليل العقلي الذي استفدناه به، لا بكون الرَّسول أخبر به. وإن كان ظاهره [ق 41 ب] مخالفًا لما عرفنا واستنبطناه بعقولنا اتَّبَعْنا العقل، وسلكنا في السمع طريقة التأويل أو الإعراض والتفويض؛ فأيُّ فائدةٍ حصلت إذن بإخبار الرَّسول؟ بل مضمون ذلك أنَّا حصلنا على العناء الطويل باستخراج وجوه التأويلات المستلزمة، أو التعرض (2) لاعتقاد الباطل والضلال بحمل الكلام على ظاهره. فكانت الأدلة اللفظية مقتضية لضلال هؤلاء، ولعناء (3) أولئك، فأين الهدى والشفاء الذي حصل بها لهؤلاء وهؤلاء؟! _________ (1) تقدم (ص 377 - 379). (2) «ح»: «التعريض». (3) «ح»: «والعناء».
(1/452)
ومن العجب اعتراف أرباب هذا القانون بهذا، وجوابهم عنه بجواب أهل الإلحاد، وهو أن المخاطبين لم يكونوا يفهمون الحقائق، فضُربت لهم الأمثال من غير أن يكون المخبَر ثابتًا في نفس الأمر، فراجِعْ كُتُبَ القوم تجِدْ ذلك فيها. الوجه الرَّابع والستون: أن أصحاب هذا القانون في قولٍ مختلفٍ، يُؤفك عنه من أُفك! فتارةً يقولون: نحن نعلم انتفاء الظَّاهر قطعًا، وأنه غير المراد، وإن كُنَّا لا نعلم عين المراد. وتارةً يقولون: بل الرَّسول خاطَبَ الخلق خطابًا جمهوريًّا يوافق ما عندهم وما أَلِفُوه، ولو خاطبهم بإثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه، ولا يتكلم ولا يُكلِّم، ولا يُرى عيانًا، ولا يُشار إليه= لقالوا هذه صفات معدومٍ لا موجود، فوقعوا في التعطيل، فكان الأصلح أن يأتي بألفاظ دالة على ما يناسب ما نحلوه وأَلِفُوه، فيخلصهم من التعطيل. فكيف يُجمَع هذا القولُ وقولهم: إن الظَّاهر غير مراد؟ فإن كان قد أراد منهم الظَّاهر بطل قولهم: إن الظَّاهر غير مراد. وإن أراد منهم التأويل يبطل قولهم (1): إنه قَصَدَ خِطابَهم بما يُخيل إليهم ويتمكنون معه من إثبات الصَّانع، ويتخلصون به من التعطيل. فأيُّ تناقضٍ أشدُّ من هذا؟! فإن أراد الظَّاهر فقد أراد عندكم إفهام الباطل الذي دلَّ عليه لفظه، وإن لم يُرد الظَّاهر بل أراد منهم التأويل لم يحصل الغرض الذي ذكرتموه ولم يَخلُصوا (2) من التعطيل، وهذا لا حيلة لكم في دَفْعه. _________ (1) «ح»: «قولكم». (2) «ح»: «تخلصوا». والمثبت هو الصواب؛ لأن الضمير يعود إلى من خاطبهم الرسول.
(1/453)
فهما طريقتان باطلتان مضادتان لقَصْد الرسالة. هؤلاء يقولون: أراد منهم أن يَتخيَّلوا ما ينفعهم، وإن لم يكن حقًّا في نفس الأمر. وأصحاب التأويل يقولون: أراد منهم ضدَّ ذلك المعنى الذي دلَّ عليه كلامه ونصُّه. وتارةً يقولون: أراد منهم تأويل النصوص. وتارةً يقولون: أراد منهم (1) تفويضها. وقد نزَّه الله رسوله عن أن يريد المعاني الباطلة، أو يُقَصِّر في بيان ما أراده، فإن الأول كَذِبٌ وتدليسٌ وتلبيسٌ، والثانيَ تقصيرٌ في البيان. وإذا كان الرسول منزهًا عن هذا وهذا فالربُّ تعالى أولى بتنزيهه عن الأمرين. وقد قام الدليل القطعي على تنزيه الله ورسوله عن ذلك، فلا يقدح فيه بالشُّبه الخيالية الفاسدة. الوجه الخامس والستون: أن الله سبحانه قسم الأدلة السمعية إلى قسمين: مُحكَم ومتشابِه، وجعل المُحكَم أصلًا للمتشابه وأُمًّا له يُردُّ إليه، فما (2) خالف ظاهر المحكم فهو متشابه يُردُّ إلى المحكم. وقد اتفق المسلمون على هذا، وأن المحكم هو الأصل والمتشابه مردودٌ إليه. وأصحاب هذا القانون جعلوا الأصل المحكم ما يدَّعونه من العقليات وجعلوا القرآن كله مردودًا إليه، فما (3) خالفه فهو متشابه، وما (4) وافقه فهو المحكم، ولم يَبْقَ عند أهل القانون في القرآن محكمٌ يُردُّ إليه المتشابه، _________ (1) «ح»: «منها». (2) «ح»: «فمن». والضمير يعود للأدلة السمعية. (3) «ح»: «فمن». (4) «ح»: «ومن».
(1/454)
ولا هو أمُّ الكتاب وأصله. الوجه السَّادس والستون: أنه على قول أرباب القانون لا سبيل لأحدٍ أن يعرف أن شيئًا من القرآن محكمٌ؛ فإن ذلك إنما يُعرف إذا حصل اليقين بانتفاء (1) المعارض العقلي، وهذا النفي غير معلومٍ؛ إذ غاية ما يمكن انتفاء العلم بالمعارض، لا العلم بانتفائه. فإن قلتم: نحن نقول: إن صرف اللفظ عن ظاهره وإخراجه عن كونه محكمًا لا يجوز إلَّا عند قيام الدليل العقلي القطعي على أن ظاهره محالٌ ممتنعٌ. قيل: وأنتم تقولون مع ذلك: إن حمله على ظاهره لا يجب إلَّا إذا قام الدليل العقلي على أن ظاهره حقٌّ، فما لم يُعَضِّدْه دليلٌ عقليٌّ لم يُجزَمْ بثبوته. فالمعتمَد إذًا عندكم في النفي والإثبات على الدليل العقلي، والقرآن عديم التَّأثير، لا يُجزم بنفي ما نفاه، ولا بإثبات ما أثبته. وهذا قول مَن لم يُؤمن بما أنزل الله من الكتاب، ولا بما أُرسِل به الرسول. الوجه السَّابع والستون: أن أصحاب القانون لا يمكنهم إنكار أن الأدلة اللفظية تُفيد ظنًّا غالبًا، وإن لم تُفدهم يقينًا، وما عندهم ممَّا يُسمونه أدلة عقلية على نفي ما دلَّ عليه القرآن والسُّنَّة من الصِّفات، إنما هي أقوالٌ باطلةٌ، لا تُفيد عند (2) التحقيق، لا علمًا ولا ظنًّا، بل جهلًا مركبًا يظن صاحبها [ق 42 أ] أن معه علمًا، وإنما معه الجهل المركب، فهي في العلوم كأعمال مَن _________ (1) «ح»: «باقتضاء». والمثبت هو الصواب. (2) «ح»: «عنه».
(1/455)
خالَفَ الرُّسُل في الأعمال: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسِبُهُ اُلظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اَللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاَللَّهُ سَرِيعُ اُلْحِسَابِ} [النور: 38]. فهذا مثل أعمال هؤلاء، وعلوم أولئك. ولا ريب أن الظن المستفاد من الأدلة السمعية خيرٌ من هذا الجهل المركب، إلَّا أن يقول أرباب القانون: إن الأدلة اللفظية لا يستفاد منها علمٌ ولا ظنٌّ البتةَ. ولا يبتعد هذا من قولهم، وهم يقولون: إن ظاهرها باطلٌ وتشبيهٌ وتجسيمٌ. وإذا انتهى الأمر إلى هنا انتقلنا إلى إثبات أن محمدًّا رسول الله؛ فإن زاعم ذلك غير مقرٍّ برسالته (1) في نفس الأمر، كما تقدَّم (2)، والله أعلم. الوجه الثَّامن والستون: أن هذا يتضمن القدح في أعظم آيات الربِّ الدَّالة على ربوبيته وحكمته، وجحد ما هو من أعظم نِعَمه على عباده. أمَّا الأول فلأن الله سبحانه جعل من آيات ربوبيته الهداية العامة لخلقه، كما قال: {سَبِّحِ اِسْمَ رَبِّكَ اَلْأَعْلَى (1) اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوّى (2) وَاَلَّذِي قَدَّرَ فَهَدى} [الأعلى: 1 - 3] وقال فرعون لموسى: {فَمَن رَّبُّكُمَا يَامُوسَى (48) قَالَ رَبُّنَا اَلَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى} [طه: 48 - 49]. فهَدَى كلَّ نَفْسٍ لجَلْب ما يُصلِحها وينفعها، ودَفْع ما يَضُرُّها ويُفسِدها، وخصَّ النوع الإنساني بأنواع أُخر من الهداية التي يعرفها ويتمكن من النطق بها لهداية غيره. ومن أعلى أنواع هذا الهدى هدى البيان والدلالة، وتعريف الإنسان ومعرفته مراده ومراد غيره، وذلك إنما هو بصفة النُّطْق التي هي أظهر ما في الإنسان، ولذلك شبَّه الله سبحانه بها ما أخبر به من الغيب فقال: {فَوَرَبِّ اِلسَّمَاءِ وَاَلْأَرْضِ إِنَّهُ _________ (1) «ح»: «مقربه ساكنه». وهو تحريف عجيب. (2) تقدم (ص 112).
(1/456)
لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات: 23]. وأمَّا أن ذلك من أعظم نِعَم الله على عباده؛ فلأن الإنسان إنما يُميَّز عن سائر الحيوان بكمال هذه القوة وتمامها فيه، واقتداره منها على ما لم يقتدر عليه الحيوانات العُجْم. ولذلك عدَّد ذلك مِن نعمه على عباده في جملة ما أنعم به عليهم، فقال: {اِلرَّحْمَنُ عَلَّمَ اَلْقُرْآنَ (1) خَلَقَ اَلْإِنسَانَ عَلَّمَهُ اُلْبَيَانَ} [الرحمن: 1 - 2] وقال: {اِقْرَأْ وَرَبُّكَ اَلْأَكْرَمُ (3) اُلَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ اَلْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [اقرأ: 3 - 5] وقال: {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ اُلنَّجْدَيْنِ} [البلد: 8 - 10]. فإنكارُ حصول العلم واليقين من كلام المتكلم قدحٌ في أعظم آيات الله، وجحدٌ لما هو من أعظم نِعَمه. وكنَّا نظن أن قائل ذلك أراد أن بعض الأدلة اللفظية لا تفيد العلم واليقين حتى رأيناه قد صرَّح بأن شيئًا منها لا يُفيد اليقين البتةَ، ولا قَدْحَ في آياته ولا جَحْدَ لنِعَمه أبلغ من ذلك. الوجه التَّاسع والستون: أن هذا القول الذي قاله أصحاب القانون لم يُعرف عن طائفةٍ من طوائف بني آدم، لا طوائف المسلمين ولا اليهود ولا النصارى ولا أحد من أهل الملل (1)، ولا طوائف الأطِبَّاء ولا النُّحاة ولا أهل اللغة ولا أهل المعاني والبيان ولا غيرهم قبل هؤلاء. وذلك لظهور العلم بفساده، فإنه يقدح فيما هو أظهر العلوم الضرورية لجميع الخلق، فإن بني آدم يتخاطبون ويكلِّم بعضهم بعضًا مخاطبةً ومكاتبةً، وقد أنطق الله سبحانه _________ (1) «ح»: «الملك». والمثبت من «م».
(1/457)
بعض الجمادات وبعض أنواع الحيوانات بمثل نُطق بني آدم، فلم يَستَرِبْ سامع ذلك النطقِ في حصول العلم واليقين به؛ بل كان ذلك عنده من أعظم العلوم الضرورية. فقالت النملة لأُمة النمل: {يَاأَيُّهَا اَلنَّمْلُ اُدْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل: 18] فلم يشكَّ النمل ولا سليمان في مرادها وفهموه يقينًا، ولما علم سليمان مرادها يقينًا تبسَّم ضاحكًا منه، وخاطَبَ الهدهدَ وخاطبه الهدهدُ، فحصل للهدهد العلم اليقينيُّ بمراد سليمان من كلامه، وحصل لسليمان ذلك من كلام الهدهد، وذهب الهدهد بكتاب (1) سليمان لَمَّا حصل له اليقين من كلامه، وأرسل سليمان الهدهد والكتاب وفَعَلَ ما حكى الله لمَّا حصل له اليقين بمراد الهدهد من كلامه. وأنطق سبحانه الجبال بالتسبيح مع داود، وعلَّم سليمان مَنطِقَ الطير، وأسمع الصَّحابةَ تسبيح الطعام مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2)، وأسمع رسوله تسليم (3) الحَجَر عليه (4). أفيقول مؤمنٌ أو عاقلٌ: إن اليقين لم يكن يحصل للسامع بشيءٍ من مدلول هذا الكلام؟! فعُلِمَ أن هذا القول في غاية السفسطة وجَحْد الحقائق وقلبها وإفساد العقول والفطر. _________ (1) «ح»: «وكتاب». والمثبت من «م». (2) أخرجه البخاري (3579) عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. (3) «ح»: «تسبيح». والمثبت من «م». (4) أخرجه مسلم (2277) عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه -.
(1/458)
الوجه السبعون: أن حاصل كلام أرباب القانون يدور على ثلاث مقدِّمات: الأولى: أن العلم بمراد المتكلم موقوفٌ على حصول العلم بما يدل على مراده. الثَّانية: أنه لا سبيل إلى العلم بمراده إلَّا بانتفاء هذه الأمور العشرة. الثَّالثة: [ق 42 ب] أنه لا سبيل إلى العلم بانتفائها. فهذه ثلاث مقدمات، الأولى منها صادقة، والأُخريان (1) كاذبتان. أمَّا المقدمة الأولى فصحيحةٌ، والعلم بمراد المتكلم كثيرًا ما يكون علمًا اضطراريًّا، كالعلم بمخبر الأخبار المتواترة، فإن الإنسان إذا سمع مخبرًا يُخبر بأمرٍ حصل عنده ظنٌّ، ثم يقوى بالمخبر الآخر حتى يصير علمًا ضروريًّا، فكذلك إذا سمع كلام المتكلم فقد يعلم مراده ابتداءً بالضرورة وقد يظنُّه، ثم يتكرر كلام المتكلم أو يتكرر سماعه له ولِما يدل على مراده، فيصير علمه بمراده ضروريًّا. وقد يكون الكلام بالمراد استدلالًا نظريًّا، وحينئذٍ فقد يتوقَّف على مقدِّمة واحدة، وقد يتوقف على مقدمتين أو أكثر بحسَب حاجة السَّامع وما عنده من القوة القريبة والبعيدة، وسرعة إدراكه وبطئه، وقلة تحصيله وكثرته، وحضور ذهنه وغيبته، وكمال بيان المتكلم وضعفه. فدعوى المدَّعي أن كل استدلالٍ بدليلٍ لفظيٍّ فإنه يتوقَّف على عشر مقدمات= فهذا باطلٌ قطعًا. _________ (1) «ح»: «والأخر».
(1/459)
وأبطلُ منه دعواه أن كل مقدمةٍ فهي ظنية، فإن عامة المقدمات التي يتوقَّف عليها فَهْم مراد المتكلم قطعية في الغالب. وأبطلُ من ذلك دعواه أنه لا يُعلَم المراد إلَّا بعد العلم بانتفاء الدليل الدَّالِّ على نقيضه، فإن هذا باطلٌ قطعًا؛ إذ من المعلوم أن العلم بثبوت أحد الضدين ينفي العلم بثبوت الضد الآخر، فنفس العلم بالمراد ينفي كل احتمال يناقضه. وهكذا الكلام في نفي المعارض العقلي والسمعي، فإنه إذا علم المراد علم قطعًا أنه لا ينفيه دليلٌ آخر لا عقلي ولا سمعي؛ لأن ذلك نقيضٌ له، وإذا علم ثبوت الشيء علم انتفاء نقيضه. وحينئذٍ فينقلب هذا القانون عليهم بأن نقول: العلم بمدلول كلام الله ورسوله علمٌ يقينيٌّ قطعيٌّ لا يحتمل النقيض، فنحن نستدلُّ على بطلان كل ما يخالفه ويناقضه بثبوت العلم به، فإن ثبوت أحد الضدين يستلزم نفي الضد الآخر، وحينئذٍ فيُقطع ببطلان كل شُبهةٍ عقليةٍ تناقِضُ مدلول كلام الله ورسوله، وإن لم يُنظَر فيها على التفصيل. وهذا الأصل العظيم أصحُّ من قانونهم، وأقرب إلى العقل والإيمان وتصديق الرُّسل، وإقرار كلام الله ورسوله على حقيقته، وما يظهر منه. يُوضِّحه: الوجه الحادي والسبعون: وهو أن أرباب هذا القانون الذي منعهم استفادة اليقين من كلام الله ورسوله مضطربون في العقل الذي يعارض النقل أشد اضطراب. فالفلاسفة ـ مع شدة اعتنائهم بالمعقولات ـ أشدُّ النَّاس اضطرابًا في هذا الباب من طوائف أهل الملل، ومن أراد معرفة ذلك فلْيقِف على مقالاتهم في
(1/460)
كتب أهل المقالات، كـ «المقالات الكبير» للأشعري و «الآراء والديانات» للنَّوبَخْتِي وغير ذلك. وأمَّا المتكلمون فاضطرابهم في هذا الباب من أشد اضطراب في العالم. فتأمَّلِ اختلاف فرق الشيعة والخوارج والمعتزلة وطوائف أهل الكلام ومقالاتهم المذكورة في كتب المقالات، وقد ذكرها أبو الحسن الأشعري في كتاب «مقالات المصلين» وغيره ممَّن صنَّف في المقالات، وكلٌّ منهم يدَّعي أن صريح العقل معه، وأن مخالِفَه قد خرج عن صريح العقل، فنحن نصدِّق جميعهم، ونُبطِل عقل (1) كل فرقةٍ بعقل الفرقة الأخرى، ثم نقول للجميع: بعقل مَن منكم يُوزن كلام الله ورسوله، وأي عقولكم تُجعل معيارًا له فما وافقه قُبل وأُقر على ظاهره، وما خالفه رُدَّ أو أُوِّل أو فُوِّض؟! وأي عقولكم هو إحدى المقدمات العشر التي تتوقف إفادة كلام الله ورسوله لليقين على العلم بعدم معارضته له، أعقل أرسطو (2) وشيعته، أم عقل (3) أفلاطون وشيعته، أم فيثاغورس، ................................... _________ (1) «ح»: «عقد». والمثبت من «م». (2) قال المصنف في «إغاثة اللهفان» (2/ 1021): «قد حكى أرباب المقالات أن أول من عرف عنه القول بقدم هذا العالم: أرسطو، وكان مشركًا يعبد الأصنام، وله في الإلهيات كلام كله خطأ من أوله إلى آخره، قد تعقبه بالرد عليه طوائف المسلمين، حتى الجهمية، والمعتزلة، والقدرية، والرافضة، وفلاسفة الإسلام، أنكروه عليه، وجاء فيه بما يسخر منه العقلاء، وأنكر أن يكون الله سبحانه يعلم شيئًا من الموجوادت، وقرر ذلك بأنه لو علم شيئًا لكمل بمعلوماته، ولم يكن كاملًا في نفسه، وبأنه كان يلحقه التعب والكلال من تصور المعلومات. فهذا غاية عقل هذا المعلم الأستاذ». (3) «ح»: «أعقل». والمثبت من «م».
(1/461)
أم بندقليس (1)، أم سقراط، أم ثامسطيوس (2)، أم الإسكندر بن فيلبس (3). أم عقل الفارابي، [أم ابن سينا، أم محمد بن زكريا، أم ثابت بن قُرَّة] (4)، أم عقل جهم بن صفوان، أم عقل النظَّام (5)، ...................... _________ (1) بندقليس: فيلسوف يوناني، تكلم في خلق العالم بأشياء يقدح ظاهرها في أمر المعاد، وهو أول من ذهب إلى الجمع بين معاني صفات الله تعالى، وأنها كلها تؤدي إلى شيءٍ واحدٍ، وأنه وإن وُصف بالعلم والجود والقدرة فليس هو ذا معانٍ متميزة تختص بهذه الأسماء المختلفة؛ بل الواحد بالحقيقة الذي لا يتكثر بوجهٍ ما أصلًا. ينظر: «عيون الأنباء» (ص 61) و «أخبار الحكماء» (ص 19). (2) ثامسطيوس: كان فيلسوفًا في تفاسير كتب أرسطوطاليس. ينظر «أخبار الحكماء» (ص 87). ووقع في «ح» أوله تاء مثناة، وقد ذكره ابن أبي أصيبعة بالثاء المثلثة. (3) الإسكندر بن فيلبس: هو الإسكندر المقدوني صاحب أرسطاطاليس وتلميذه، مَلَك اليونان وكانوا طوائف فوحَّدهم، ثم غزا الفرس في عقر دارهم وقتل ملكهم، ثم غزا الهند، وتناول أطراف الصين، وقصد مصر، وهو الذي بنى الإسكندرية .. ينظر: «المختصر في أخبار البشر» (1/ 45) و «أخبار الحكماء» (ص 27). وقوله: «أم بندقليس أم سقراط أم ثامسطيوس أم الإسكندر بن فيلبس» في «م»: «أم بقراط». (4) ما بين معقوفين سقط من «ح». وأثبته من «م». وثابت بن قرة بن مروان الصابئ: كان إليه المنتهى في علوم الأوائل، وله كتب كثيرة في فنون من العلم كالمنطق والحساب والهندسة والتنجيم والهيئة، مات سنة ثمان وثمانين ومائتين، ولم يُسلم. ينظر: «عيون الأنباء» (ص 295 - 300) و «أخبار الحكماء» (ص 93 - 98). (5) النظَّام: إبراهيم بن سيار البصري، أكبر شيوخ المعتزلة ومقدَّمهم في زمانه، كان يقول: إن الله لا يقدر على الظلم ولا الشر. قال: ولو كان قادرًا لكنا لا نأمن من أن يفعله أو أنه قد فعله، وإن الناس يقدرون على الظلم. وصرَّح بأن الله لا يقدر على إخراج أحدٍ من جهنم، واتفق هو والعلَّاف على أن الله ليس يقدر من الخير على أصلح مما عمل. ينظر: «الفصل» لابن حزم (3/ 112) و «تاريخ الإسلام» (5/ 735 - 736).
(1/462)
أم عقل العلَّاف (1)، أم عقل الجُبَّائييْنِ (2)، أم عقل بِشْر المَرِيسِي، أم عقل الإسكافي (3)، أم عقل حسين النَّجار (4)، ................................... _________ (1) أبو الهذيل العلَّاف: محمد بن الهذيل البصري المتكلم المعتزلي، أنكر صفات الله تعالى، وقال: علم الله هو الله، وقدرة الله هي الله. وزعم بجهله أن أهل الجنة تنقطع حركاتهم حتى لا يتكلمون كلمة، وينقطع نعيم الجنة. ونقل ابن حزم عنه أشياء هي كفر مجرد. ينظر: «الفصل» لابن حزم (3/ 111) و «تاريخ الإسلام» (5/ 737 - 738). (2) الجبائيان من رؤوس المعتزلة، وهما: أبو علي الجُبَّائي: محمد بن عبد الوهاب بن سلام البصري، كان رأسًا في الفلسفة والكلام، وله مقالات مشهورة وتصانيف، ومن ضلالاته أنه سمى الله عز وجل مطيعًا لعبده، ومن ضلالاته أنه أجاز وجود عرض واحد في أمكنة كثيرة. مات سنة ثلاث وثلاثمائة. ينظر: «الملل والنحل» للشهرستاني (1/ 90 - 95) و «تاريخ الإسلام» (7/ 70). وولده أبو هاشم الجُبَّائي: عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب، كان يُصرِّح بخلق القرآن كأبيه، ويقول بخلود الناس في النار، وأن التوبة لا تصح مع الإصرار عليها، وكذا لا تصح مع العجز عن الفعل. فقال: من كذب ثم خرس أو من زنى ثم جُبَّ ذَكَره ثم تابا لم تصح توبتهما. وأنكر كرامات الأولياء. مات سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة. ينظر: «الفصل» لابن حزم (3/ 118 - 120) و «تاريخ الإسلام» (7/ 444). (3) الإسكافي: محمد بن عبد الله السمرقندي المتكلم، وكان قد أخذ ضلالته في القدر عن جعفر بن حرب، ثم خالفه في بعض فروعه، وزعم أن الله تعالى يوصف بالقدرة على ظلم الأطفال والمجانين، ولا يوصف بالقدرة على ظلم العقلاء. وله كتاب «الرد على من أنكر خلق القرآن». ينظر: «الفرق بين الفرق» (ص 169 - 171) و «الملل والنحل» (1/ 73) و «السير» (10/ 550 - 551). (4) الحسين بن محمد النجار: تُنسب إليه الفرق النجارية، ويجمعهم القول بنفي صفات الله تعالى، وإحالة رؤيته بالأبصار، والقول بحدوث كلام الله تعالى. وقالوا: إن الإيمان يزيد ولا ينقص. وقالوا: كل خصلة من خصال الإيمان طاعةٌ وليست بإيمان، ومجموعها إيمان، وليست خصلة منها عند الانفراد إيمانًا ولا طاعة. وزعم النجار أن الجسم أعراض مجتمعة، وزعم أن كلام الله تعالى عرضٌ إذا قُرئ، وجسمٌ إذا كُتب. ينظر «الفرق بين الفرق» لعبد القاهر البغدادي (ص 207 - 209) و «الملل والنحل» (1/ 100 - 102).
(1/463)
أم أبي يعقوب الشحَّام (1)، أم أبي الحسين الخياط (2)، أم أبي القاسم البلخي (3)، أم ثُمامة بن أشرس (4)، ......................................... _________ (1) أبو يعقوب الشحام: كان على مقالة العلَّاف، وهو أستاذ الجبائي، وضلالاته كضلالات الجبائي، غير أنه أجاز كون مقدور واحد لقادرين، وامتنع الجبائي وابنه من ذلك. ينظر «الفرق بين الفرق» (ص 178) ... و «الملل والنحل» (1/ 67). (2) أبو الحسين الخياط: شارك سائر القدرية في أكثر ضلالاتها، وانفرد عنهم بقول لم يُسبَق إليه، فزعم أن الجسم في حال عدمه يكون جسمًا، وكان ينكر الحجة في أخبار الآحاد، وما أراد بإنكاره إلا إنكار أكثر أحكام الشريعة. ينظر «الفرق بين الفرق» (ص 179 - 180) و «الملل والنحل» (1/ 43، 89 - 90) .. (3) أبو القاسم البلخي: عبد الله بن أحمد بن محمود المعروف بالكعبي، كان حاطب ليل، من أقواله: إن إرادة الباري تعالى ليست صفة قائمة بذاته، وإذا أُطلق عليه أنه مريد فمعناه أنه عالم قادر غير مكرَه في فعله ولا كاره. ثم إذا قيل: هو مريد لأفعاله؛ فالمراد به أنه خالق لها على وَفْق علمه، وإذا قيل: هو مريد لأفعال عباده؛ فالمراد به أنه آمر بها راضٍ عنها. وقال: هو سميع بمعنى أنه عالم بالمسموعات، وبصير بمعنى أنه عالم بالمبصرات. وزعم أن المقتول ليس بميت. ينظر «الفرق بين الفرق» (ص 181 - 182) و «الملل والنحل» (1/ 89 - 90). (4) ثمامة بن أشرس النميري: كان جامعًا بين سخافة الدِّين وخلاعة النفس، وانفرد عن سائر المعتزلة ببدعتين أكفرته الأمة كلها فيهما: الأولى: زعم أن من لم يضطره الله تعالى إلى معرفته لم يكن مأمورًا بالمعرفة ولا منهيًّا عن الكفر، وزعم لأجل ذلك أن عوام الدهرية والنصارى والزنادقة يصيرون في الآخرة ترابًا. والثانية: قوله إن الافعال المتولدة أفعال لا فاعل لها. وهذه الضلالة تَجُرُّ إلى إنكار صانع العالم. ينظر «الفرق بين الفرق» (ص 172 - 175) و «الملل والنحل» (1/ 84 - 85).
(1/464)
أم جعفر بن مُبَشِّر (1)، أم جعفر بن حرب (2)، أم أبي الحسين الصَّالحي (3)، أم أبي الحسين البصري (4)، ................................................ _________ (1) جعفر بن مبشر: زعم أن في فُسَّاق هذه الأمة من هو شرٌّ من اليهود والنصارى والمجوس والزنادقة، هذا مع قوله بأن الفاسق موحِّدٌ وليس بمؤمنٍ ولا كافر. وزعم أن إجماع الصحابة على ضرب شارب الخمر الحدَّ وقع خطأً؛ لأنهم أجمعوا عليه برأيهم. وزعم أن من سرق حبة أو ما دونها فهو فاسقٌ مخلدٌ في النار. وزعم أن تأبيد المذنبين في النار من موجبات العقول. ينظر: «الفرق بين الفرق» (ص 167 - 169) و «الملل والنحل» (1/ 73). (2) «ح»: «حرمية». وهو تصحيف .. وجعفر بن حرب: زعم أن كلام الله عرض، وأنه مخلوق، وأحال أن يوجد في مكانين في وقت واحد، وزعم أن المكان الذي خلقه الله فيه محال انتقاله وزواله منه ووجوده في غيره، وقال: إن بعض الجملة غير الجملة. وهذا يوجب عليه أن تكون الجملة غير نفسها. ينظر: «مقالات الإسلاميين» (ص 192) و «الفرق بين الفرق» (ص 169) و «الملل والنحل» (1/ 73). (3) أبو الحسين الصالحي: زعم أن الإيمان هو المعرفة بالله فقط، وزعم أن الصلاة ليست بعبادة لله، وأنه لا عبادة إلا الإيمان به، والإيمان لا يزيد ولا ينقص، وكذلك الكفر. وزعم أن الله لم يزل عالمًا بالأشياء في أوقاتها، ولم يزل عالمًا أنها ستكون في أوقاتها، ولم يزل عالمًا بالأجسام في أوقاتها، وبالمخلوقات في أوقاتها، وقال: لا معلوم إلا موجود. ولا يسمي المعدومات معلومات، ولا يسمي ما لم يكن مقدورًا، ولا يسمي الأشياء أشياء إلا إذا وجدت، ولا يسميها أشياء إذا عدمت. ينظر: «مقالات الإسلاميين» (ص 132، 158، 310، 363). (4) أبو الحسين البصري: انفرد عن المعتزلة بمسائل: منها نفي الحال، ومنها نفي المعدوم شيئًا، ومنها نفي الألوان أعراضًا، ومنها قوله: إن الموجودات تتمايز بأعيانها. وذلك من توابع نفي الحال، ومنها رده الصفات كلها إلى كون الباري تعالى عالمًا قادرًا مدركًا. وله ميل إلى مذهب أن الأشياء لا تُعلَم قبل كونها. ينظر: «الملل والنحل» للشهرستاني (1/ 96).
(1/465)
أم أبي معاذ التُّومَني (1)، أم مُعمَّر بن عباد (2)، أم هشام الفُوَطي (3)، أم عَبَّاد بن سليمان (4)؟! _________ (1) أبو معاذ التومني: زعم أن الإيمان هو ما عَصَم من الكفر، وهو اسم لخصال إذا تركها التارك كفر، وكذلك لو ترك خصلة واحدة منها كفر، ولا يقال للخصلة الواحدة منها إيمان، ولا بعض إيمان. ينظر «الفرق بين الفرق» (ص 203 - 204) و «الملل والنحل» (1/ 166 - 167). (2) معمر بن عباد: من أعظم القدرية فريةً في تدقيق القول بنفي الصفات، ونفي القدر خيره وشره من الله تعالى، والتكفير والتضليل على ذلك، وانفرد عن أصحابه بمسائل؛ منها أنه قال: إن الله تعالى لم يخلق شيئًا غير الأجسام، فأما الأعراض فإنها من اختراعات الأجسام. ينظر: «الفرق بين الفرق» (ص 151 - 155) و «الملل والنحل» (1/ 79 - 82) .. (3) «ح»: «القرطي». وهو تصحيف. والفوطي: هو هشام بن عَمْرو، كان يرى أن القول بأن الله يُضِلُّ من يشاء ويهدي من يشاء إلحاد وضلال، وكان يمتنع من إطلاق إضافات أفعال إلى الباري تعالى وإن ورد بها التنزيل، ومن أقواله: قوله: إن الله لا يؤلف بين قلوب المؤمنين، بل هم المؤتلفون باختيارهم. ومنها قوله: إن الله لا يُحبِّب الإيمان إلى المؤمنين ولا يُزيِّنه في قلوبهم. ومن بدعه قوله: إن الأعراض لا تدل على كونه خالقًا، ولا تصلح الأعراض دلالات؛ بل الأجسام تدل على كونه خالقًا، ومن بدعه: أن الجنة والنار ليستا مخلوقتين الآن؛ إذ لا فائدة في وجودهما وهما جميعًا خاليتان ممن ينتفع ويتضرَّر بهما. ينظر: «الفصل» لابن حزم (3/ 114 - 115) و «الفرق بين الفرق» (ص 159 - 164) و «الملل والنحل» (1/ 85 - 87). (4) عباد بن سليمان: صاحب هشام الفوطي، منع أن يقال في القرآن: إنه عمى على الكافرين، ومنع أن يقال: إن الله تعالى خلق الكافر. لأن الكافر اسم لشيئين إنسان وكفره، وهو غير خالق لكفره عنده. ومنع أن يقال: إن الله عز وجل أملى للكافرين. وفي هذا عناد منه للقرآن. ينظر: «الفرق بين الفرق» (ص 161).
(1/466)
أم تَرْضَوْن بعقول المتأخرين الذين هذَّبوا العقليات، ومحضوا (1) زُبدَتها، واختاروا لنفوسهم، ولم يَرضَوْا بعقول سائر مَن تَقدَّمهم؟! فهذا أفضلهم عندكم محمد بن عمر الرَّازي، فبأي معقولاته تَزِنُون نصوص الوحي؟ وأنتم ترون اضطرابه فيها في كتبه أشد الاضطراب، فلا يَثبُت على قولٍ (2)، فعيِّنوا لنا عقلًا واحدًا من معقولاته ثبت عليه، ثم اجعلوه ميزانًا. أم ترضون بعقل نَصِير الشِّرك والكفر والإلحاد الطوسي (3)؟! فإن له عقلًا آخر خالَفَ فيه [ق 43 أ] سلفه من الملحدين، ولم يُوافق فيه أتباع الرُّسل. _________ (1) «م»: «مخضوا». بالخاء. (2) قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (16/ 213 - 214): «ينصر الإسلام وأهله في مواضع كثيرة، كما يشكك أهلَه ويشكك غيرَ أهله في أكثر المواضع، وقد ينصر غيرَ أهله في بعض المواضع، فإن الغالب عليه التشكيك والحَيْرة أكثر من الجزم والبيان». (3) نصير الدِّين الطوسي قال عنه المصنِّف في «إغاثة اللهفان» (2/ 1032): «نَصَرَ في كتبه قِدَمَ العالم، وبطلان المعاد، وإنكار صفات الرَّبِّ جلَّ جلاله، من علمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره، وأنه لا داخل العالم ولا خارجه، وليس فوق العرش إلهٌ يُعبد البتةَ، واتخذ للملاحدة مدارس، ورام جَعْلَ إشارات إمام الملحدين ابن سينا مكان القرآن، فلم يقدر على ذلك، فقال: هي قرآن الخواص، وذلك قرآن العوام. ورام تغيير الصَّلاة وجعلها صلاتين، فلم يَتِمَّ له الأمر، وتَعلَّمَ السِّحر في آخر الأمر؛ فكان ساحرًا يعبد الأصنام ... وبالجملة فكان هذا الملحد هو وأتباعه من الملحدين الكافرين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر».
(1/467)
أم ترضون عقول القرامطة (1) والباطنية (2) والإسماعيلية (3)، أم عقول الاتحادية القائلين بوحدة الوجود (4)؟ فكل هؤلاء وأضعافهم وأضعاف أضعافهم يدَّعي أن المعقول الصريح معه، وأن مخالفيه خرجوا عن صريح المعقول، وهذه عقولهم تنادي عليهم في كتبهم وكتب النَّاقلين عنهم، ولولا الإطالة لعرضناها على السَّامع عقلًا عقلًا، وقد عرضها المُعتَنُون بذِكْر المقالات. فاجمعوها إن استطعتم، أو خذوا منها عقلًا واجعلوه ميزانًا لنصوص _________ (1) القرامطة: قوم من الباطنية تَبِعُوا طريق الملحدين وجحدوا الشرائع، واستحلُّوا مكة ونهبوها، وقتلوا الحُجَّاج، وسلبوا البيت، وقلعوا الحَجَر الأسود، وحملوه معهم إلى هجر من أرض البحرين. ينظر: «الفرق بين الفرق» (ص 281 - 312) و «الأنساب» للسمعاني (2/ 42) و «تاريخ الإسلام» (6/ 472). (2) الباطنية: فرقة من الزنادقة ادعت أن لظواهر الشرع بواطن تجري مجرى اللُّب من القشر، وأن مَن وقف على علم الباطن سقطت عنه التكاليف. فأسقطوا الفرائض، واستحلوا الحرمات. ينظر: «الفرق بين الفرق» (ص 281 - 312) و «الملل والنحل» (1/ 228 - 235) و «الأنساب» للسمعاني (2/ 42) و «تاريخ الإسلام» (6/ 471 - 472). (3) الإسماعيلية: جماعة من الباطنية تولوا إسماعيل بن جعفر بن محمد، فنُسبوا إليه. ينظر: «الملل والنحل» (1/ 226 - 228) و «اللباب في تهذيب الأنساب» لابن الأثير (1/ 59). (4) الاتحادية: القائلون بوحدة الوجود، وأن وجود الربِّ عين وجود هذه الموجودات، بل ليس عندهم ربٌّ وعبدٌ، ولا خَلْقٌ وحقٌّ، بل الربُّ هو العبد، والعبد هو الربُّ، والخلق المشبَّه هو الحقُّ المنزَّه، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوًّا كبيرًا. قاله المصنف في «الوابل الصيب» (ص 159).
(1/468)
الوحي وما جاءت به الرسل وعيارًا على ذلك، ثم اعْذِروا بعدُ مَن قدَّم كتاب الله وسُنة رسوله ـ الذي يسمونه الأدلة اللفظية ـ على هذه العقول المضطربة المتناقضة بشهادة أهلها وشهادة أنصار الله ورسوله عليها، وقال: إن كتاب الله ورسوله يُفيد العلم واليقين، وهذه العقول المضطربة المتناقضة إنما تُفيد الشك (1) والحيرة والريب والجهل المركب؛ فإذا تعارض النقل وهذه العقول أُخذ بالنقل الصريح، ورُمي بهذه العقول تحت الأقدام، وحُطَّت حيث حطَّها الله وحطَّ أصحابها، والله المستعان. الوجه الثَّاني والسبعون: أن الله سبحانه دعا إلى تدبُّر كتابه وتعقُّله وتفهُّمه، وذمَّ الذين لا يفهمونه ولا يعقلونه، وأَسجَلَ عليهم بالكفر والنفاق، فقال عن المنافقين: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا اُلْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ اَلَّذِينَ طَبَعَ اَللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاَتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 17]. وقال: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} [الأنعام: 26] وقال: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ اُلصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ} [يونس: 42] وقال: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ اَلْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة: 77]. فالقائل: «إن كتاب الله وسُنة رسوله لا يُستفاد منهما يقينٌ» من جنس هؤلاء لا فرق بينهم وبينه. وأمَّا من يستفيد منهما (2) العلم واليقين فهم الذين قال الله فيهم: {وَيَرَى اَلَّذِينَ أُوتُوا اُلْعِلْمَ اَلَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ اَلْحَقَّ} [سبأ: 6]. وهؤلاء يرونه _________ (1) «ح»: «الشكوان». والمثبت من «م». (2) «ح»: «منها». والضمير يعود على كتاب الله وسنة رسوله.
(1/469)
غير مفيدٍ لليقين. وقد كشف سبحانه حال الفريقين بقوله: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ اَلْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا اُلْأَلْبَابِ} [الرعد: 21] وقال: {* مَثَلُ اُلْفَرِيقَيْنِ كَاَلْأَعْمَى وَاَلْأَصَمِّ وَاَلْبَصِيرِ وَاَلسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَّكَّرُونَ} [هود: 24]. الوجه الثَّالث والسبعون: أن أدلة القرآن والسُّنَّة ـ التي يُسمِّيها هؤلاء الأدلة اللفظية ـ نوعان: أحدهما: يدل بمجرد الخبر. والثَّاني: يدل بطريق التنبيه والإرشاد على الدليل العقلي. والقرآن مملوءٌ من ذكر الأدلة العقلية التي هي آيات الله الدَّالة عليه وعلى ربوبيته ووحدانيته وعلمه وقدرته وحكمته ورحمته. فآياته العيانية المشهودة في خلقه تدل على صدق النوع الأول، وهو مجرد الخبر، فلم يتجرد إخباره سبحانه عن آيات تدلُّ على صدقها، بل قد بيَّن لعباده في كتابه من البراهين الدَّالة على صدقه وصدق رسوله ما فيه شفاءٌ وهدًى وكفايةٌ. فقول القائل: «إن تلك الأدلة لا تُفيد اليقين» إن أراد به النوع المتضمن لذكر الأدلة العقلية العيانية؛ فهذا من أعظم البَهت والوقاحة والمكابرة، فإن آيات الله التي جعلها أدلةً وحُجَجًا على وجوده ووحدانيته وصفات كماله إن لم تُفد (1) يقينًا لم يُفد دليلٌ بمدلولٍ أبدًا. وإن أراد به النوع الأول الدَّال بمجرد الخبر فقد أقام (2) الله سبحانه _________ (1) «ح»: «يعد». والمثبت من «م». (2) «ح»: «قام». والمثبت من «م».
(1/470)
الأدلة القطعية والبراهين اليقينية على ثبوته، فلم يُحِلْ عبادَه فيه على خبرٍ مجردٍ لا يستفيدون ثبوته إلَّا من الخبر نفسه دون الدليل الدال ِّعلى صدق الخبر. وهذا غير الدليل العامِّ الدالِّ على صدقه فيما أخبر به، بل هو الأدلة المتعددة الدَّالة على التوحيد وإثبات الصِّفات والنبوات والمعاد وأصول الإيمان. فلا تجد كتابًا قد تضمن من البراهين والأدلة العقلية على هذه المطالب ما تضمنه القرآن. فأدلته لفظية عقلية، فإن لم يفد اليقين: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اَللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (1)} [الجاثية: 5]. فصل فهذا الطَّاغوت الأول وهو قولهم: إن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين. فإن قيل: فقد دلَّ القرآن على أن فيه محكمًا ومتشابهًا، ومعلوم أن المتشابه هو الذي يشبته (2) المراد به بغيره، وهو آيات الصِّفات، فلو أفادت اليقين لم تكن متشابهة. قيل: هذا السؤال مبنيٌّ على ثلاث مقدِّماتٍ: أحدها: أن القرآن متضمن للمتشابه. الثانية: أن المتشابه هو آيات الصِّفات. الثالثة: أن المتشابه لا يمكن حصول العلم واليقين بمعناه. _________ (1) «ح»: «يوقنون». والمثبت من «م». (2) «ح»: «يشبه».
(1/471)
وسنفرد الكلام على هذا بفصلٍ مستقلٍّ (1) بعد كسر الطواغيت الأربعة التي نصبوها لهدم معاقل (2) الدِّين، ونبيِّن معنى [ق 43 ب] المحكم بمعناه، ونبيِّن أن آيات الصِّفات محكمةٌ فإنها من أبين الكتاب إحكامًا، وأن ما تضمنته من الإحكام أعظم ممَّا تضمنه ما عداها، بعون الله وتوفيقه. * * * * * _________ (1) هذا الفصل لم يُذكر في آخر «مختصر الصواعق». (2) «ح»: «معاقد». والمثبت من عنوان الفصل.
(1/472)
فصل (1) في الطَّاغوت الثَّاني وهو قولهم: إن تعارَضَ العقل والنقل وجب تقديم العقل؛ لأنه لا يمكن الجمع بينهما ولا إبطالهما ولا تقديم النقل؛ لأن العقل أصل النقل، فلو قدَّمنا عليه النقل لبطل العقل، وهو أصل النقل، فلزم بطلان النقل، فيلزم من تقديم النقل بطلان العقل والنقل، فتعيَّن القسم الرَّابع، وهو تقديم العقل. فهذا الطَّاغوت أخو ذلك القانون، فهو مبنيٌّ على ثلاث مقدمات: الأولى: ثبوت التعارُض بين العقل والنقل. الثَّانية: انحصار التقسيم في الأقسام الأربعة التي ذُكرت فيه. الثَّالثة: بطلان الأقسام الثلاثة ليتعيَّن ثبوت الرَّابع. وقد أشفى شيخ الإسلام في هذا الباب بما لا مَزِيدَ عليه، وبَيَّنَ بطلانَ هذه الشُّبهة وكَسَّرَ هذا الطَّاغوت في كتابه الكبير (2). ونحن نشير إلى كلماتٍ يسيرةٍ هي قطرة من بحره تتضمن (3) كسره ودحضه، وذلك يظهر من وجوهٍ: الوجه الأول: أن هذا التقسيم باطلٌ من أصله، والتقسيم الصحيح أن يُقال: إذا تعارَضَ دليلان سمعيَّان أو عقليان (4) أو سمعيٌّ وعقليٌّ فإمَّا أن _________ (1) «ح»: «الفصل». (2) «درء التعارض» (1/ 78) وما بعدها. (3) «ح»: «يتضمن». والمثبت من «م». (4) «ح»: «سمعيين أوعقليين». والمثبت من «م».
(1/473)
يكونا (1) قطعيَّيْن، وإمَّا أن يكونا ظنِّييْن، وإمَّا أن يكون أحدهما قطعيًّا والآخر ظنيًّا. فأمَّا القطعيان فلا (2) يمكن تعارضهما في الأقسام الثلاثة؛ لأن الدليل القطعي هو الذي يستلزم مدلوله قطعًا، فلو تعارَضا لَزِمَ الجمع بين النقيضين، وهذا لا يشكُّ فيه أحدٌ من العقلاء. وإن كان أحدهما قطعيًّا والآخر ظنيًّا تعيَّن تقديم القطعيِّ، سواء كان عقليًّا أو سمعيًّا. وإن كانا جميعًا ظنييْن صرنا إلى الترجيح، ووجب تقديم الرَّاجح منهما، سمعيًّا كان أو عقليًّا. فهذا تقسيمٌ واضحٌ (3) متفَقٌ على مضمونه بين العقلاء. فأمَّا إثبات التعارض بين الدليل العقلي والسمعي والجزم بتقديم العقلي مطلقًا فخطأٌ واضحٌ، معلوم الفساد عند العقلاء. الوجه الثَّاني: أن قوله: «إذا تعارض العقل والنقل» فإمَّا أن يريد (4) به القطعيين فلا نُسلِّم إمكان التعارض، وإمَّا أن يريد به الظنييْن فالتقديم للراجح مطلقًا، وإمَّا أن يريد ما يكون أحدهما قطعيًّا والآخر ظنيًّا، فالقطعي (5) هو المقدَّم مطلقًا، فإذا قُدِّرَ أن العقلي هو القطعي كان تقديمه لأنه قطعي، لا لأنه عقلي. فعُلم أن تقديم العقلي مطلقًا خطأٌ، وأن جعْل جهة _________ (1) «ح»: «يكون». والمثبت من «م». (2) «ح»: «ولا». والمثبت من «م». (3) «م»: «راجح». (4) «ح»: «أريد». والمثبت من «م». (5) «ح»: «فاللفظي».
(1/474)
الترجيح كونه عقليًّا خطأ، وأن جعل سبب التَّأخير والاطِّراح كونه نقليًّا خطأ. الوجه الثَّالث: أنَّا لا نُسلِّم انحصار القسمة فيما ذكره من الأقسام الأربعة، إذ من الممكن أن يُقال: يُقدَّم العقلي تارةً، والسمعي تارةً، فأيهما كان قطعيًّا قُدِّم. فدعواه أنه لا بد من تقديم العقل مطلقًا أو السمع مطلقًا أو اعتبار الدليلين معًا أو إلغائهما معًا دعوى كاذبة، بل هاهنا قسمٌ غير هذه الأقسام وهو الحقُّ، وهو ما ذكرناه. الوجه الرَّابع: قوله: «إنْ قدَّمنا النقل لَزِمَ الطعن» فحاصله ممنوعٌ، فإن قوله: «العقل أصل (1) النقل» إمَّا أن يريد به أنه أصلٌ في ثبوته في نفس الأمر، أو أصلٌ في علمنا بصحَّته. فالأول لا يقوله عاقلٌ، فإن ما هو ثابتٌ في نفس الأمر ليس موقوفًا على علمنا به؛ فعدم عِلْمنا بالحقائق لا ينفي ثبوتها في نفس الأمر، فما أخبر به الصَّادق المصدوق هو ثابتٌ في نفسه، سواء علمناه بعقولنا أو لم نعلمه، وسواء صدَّقه النَّاس أو لم يصدِّقوه، كما أنه رسول الله حقًّا وإن كذَّبه مَن كذَّبه، كما أن وجود الربِّ تعالى وثبوت أسمائه وصفاته حقٌّ، سواء علمناه بعقولنا أو لم نعلمه، فلا يتوقَّف ذلك على وجودنا (2)، فضلًا عن علومنا وعقولنا. فالشرع المنزَّل من عند الله مستغنٍ في نفسه عن علمنا وعقلنا، ولكن نحن محتاجون إليه، وإلى أن نعلمه بعقولنا، فإذا علم العقل ذلك حصل له كمالٌ لم يكن قبل ذلك، وإذا فقده (3) كان ناقصًا جاهلًا. وأمَّا إن أراد أن العقل أصلٌ في معرفتنا بالسمع ودليلٌ على صِحَّته، وهذا _________ (1) «ح»: «أما». والمثبت من «م». (2) «ح»: «وجوده». والمثبت من «م». (3) «ح»: «قصده». والمثبت من «م».
(1/475)
هو مراده. فيقال له: أتعني بالعقل هنا القوة والغريزة التي فينا، أم العلوم المستفادة بتلك الغريزة؟ فالأول: لم تُرِدْه، وتمتنع إرادته؛ لأن تلك الغريزة ليست علمًا يمكن معارضته للنقل، وإن كانت شرطًا في كل علمٍ عقليٍّ أو سمعيٍّ، وما كان شرطًا في الشيء امتنع أن يكون منافيًا له. وإن أردت العلم والمعرفة الحاصلة (1) بالعقل، قيل لك: ليس كل ما يُعرف بالعقل يكون أصلًا للسمع ودليلًا على صحَّته، فإن المعارف العقلية أكثر من أن تُحصر، والعلم بصحة السمع غايته أن يتوقف على ما به يُعلم صدق [ق 44 أ] الرَّسول من العقليات، وليس كل العلوم العقلية يُعلم بها صدق الرَّسول، بل ذلك يُعلم بالآيات والبراهين الدَّالة على صدقه. فعُلم أن جميع المعقولات ليس أصلًا للنقل، لا بمعنى توقُّف (2) العلم بالسمع عليها، ولا بمعنى توقُّف ثبوته في نفس الأمر عليها، لا سيما وأكثر متكلمي أهل الإثبات كالأشعري ـ في أحد قولَيْه ـ وأكثر أصحابه يقولون: إن العلم بصدق الرَّسول (3) عند ظهور المعجزات الحادثة ـ [التي] (4) تجري [مَجرى] (5) تصديقه (6) ................................................... _________ (1) «ح»: «الحاصل». والمثبت من «م». (2) «ح»: «لمعنى يتوقف». والمثبت من «م». (3) بعده في «ح»: «عنه». (4) من «درء التعارض». (5) من «درء التعارض» (1/ 90). (6) في «درء التعارض»: «تصديق الرسول».
(1/476)
بالقول (1) ـ [عِلْمٌ] (2) ضروريٌّ (3). فحينئذٍ ما (4) يتوقف عليه العلم بصدق الرَّسول من العلم العقلي سهلٌ يسيرٌ، مع أن العلم بصدقه له طرقٌ كثيرةٌ متنوعةٌ. وحينئذٍ فإذا كان المعارض للسمع من المعقولات ما لا يتوقف العلم بصحة السمع عليه لم يكن القدح فيه قدحًا في أصل السمع، وهذا ـ بحمد الله ـ بيِّنٌ واضحٌ. وليس القدح في بعض العقليات قدحًا في جميعها، كما أنه ليس القدح في بعض السمعيات قدحًا في جميعها. فلا يلزم من صحة المعقولات التي يبنى عليها معرفتنا بالسمع صحة غيرها من المعقولات، ولا من فساد هذه فساد تلك، فلا يلزم من تقديم السمع على ما يُقال: إنه معقولٌ في الجملة القدحُ في أصله. الوجه الخامس: أن يُقال: العقل إمَّا أن يكون عالمًا بصدق الرَّسول وثبوت ما أخبر به في نفس الأمر، وإمَّا ألَّا يكون عالمًا بذلك. وإن لم يكن عالمًا امتنع التعارُض عنه لأن المعقول إن كان معلومًا له لم يتعارَض معلومٌ ومجهولٌ، وإن لم يكن معلومًا لم يتعارض مجهولان. وإن كان عالمًا بصدق الرَّسول امتنع ألَّا يعلم ثبوت ما أَخبَر به في نفس الأمر، إذا علم أنه أَخبَر به وهو عالم بصدقه لزم ضرورة أن (5) يكون عالمًا بثبوت مخبره. وإن كان كذلك استحال أن يقع عنده دليلٌ يعارض ما أخبر به، ويكون ذلك المعارض _________ (1) كذا في «ح». والذي في «درء التعارض»: «علم». (2) من «درء التعارض». (3) ينظر: «الإرشاد» للجويني (ص 324 - 330) و «النبوات» لابن تيمية (1/ 235 - 240). (4) «فحينئذ ما» «ح»: «فيما». والمثبت من «درء التعارض». (5) بعده في «ح»: «لم». وليس في «م».
(1/477)
واجب التقديم؛ إذ مضمون ذلك أن يُقال: لا تعتقد ثبوت ما علمت أنه أخبر به؛ لأن هذا الاعتقاد ينافي ما علمت به أن المخبر صادقٌ، وحقيقة ذلك لا تصدقه في هذا الخبر؛ لأن تصديقه يستلزم عدم تصديقه. فيقول: وعدم تصديقي له فيه هو عين اللازم المحذور. فإذا قيل لي: لا تصدقه لئلا يلزم عدم تصديقه، كان كما لو قيل: كذِّبْه لئلا يلزم تكذيبه. فهكذا حال من أمر النَّاس ألَّا يُصدِّقوا الرَّسول فيما علموا أنه أخبر به بعد علمهم أنه رسول؛ لئلا يُفضي تصديقهم إلى عدم تصديقه. يوضحه: الوجه السَّادس: وهو أن المنهي عنه من قبول هذا الخبر وتصديقه فيه هو عين المحذور، فيكون واقعًا في المنهي عنه، سواء أطاع أو عصى، ويكون تاركًا للمأمور به، سواء أطاع أو عصى، ويكون وقوعه في المخوف المحذور على تقدير الطَّاعة أعجل وأسبق منه على تقدير المعصية. والمنهي عنه على (1) هذا التقدير هو التصديق، والمأمور به هو التكذيب، وحينئذٍ فلا يجوز النهي عنه، سواء كان محذورًا أو لم يكن، فإنه إن لم يكن محذورًا لم يَجُز أن ينهى عنه، وإن كان محذورًا فلا بد منه على التقديرين، فلا فائدة في النهي عنه. الوجه السَّابع: أنه إذا قيل له: لا تصدقه في هذا، كان أمرًا له بما يناقض ما علم به صدقه، وكان أمرًا له بما يُوجب ألا يثق بشيءٍ من خبره؛ فإنه متى جوَّز كذبه أو غلطه في خبرٍ جوَّز ذلك في غيره، ولهذا آل الأمر بمن سلك هذه الطريق إلى أنهم لا يستفيدون من جهة الرَّسول شيئًا من الأمور الخبرية المتعلقة بصفات الله سبحانه وأفعاله، بل وباليوم الآخر عند بعضهم؛ _________ (1) «ح»: «أنه». والمثبت من «م».
(1/478)
لاعتقادهم أن هذه الأخبار على ثلاثة أنواع: نوع يجب ردُّه وتكذيبه، ونوع يجب تأويله وإخراجه عن حقيقته، ونوع يُقَرُّ. وليس لهم في ذلك أصلٌ يرجعون إليه، بل هذا يقول: ما أَثبَتَه عقلُك فأَثْبِتْه، وما نفاه عقلك فانْفِه. وهذا يقول: ما أَثبَتَه كشفُك فأَثْبِتْه، وما لا فلا. ووجود الرَّسول عندهم كعدمه في المطالب الإلهية ومعرفة الربوبية، بل على قولهم وأصولهم وجوده أضرُّ من عدمه؛ لأنهم لم يستفيدوا من جهته علمًا بهذا الشأن، واحتاجوا إلى دفع ما جاء به، إمَّا بتكذيبٍ، وإمَّا بتأويلٍ، وإمَّا بإعراضٍ وتفويضٍ. فإن قيل: لا يمكن أن يُعلم أنه أخبر بما ينافي العقل؛ فإنه منزَّهٌ عن ذلك، وهو ممتنعٌ عليه. قيل: هذا إقرارٌ باستحالة معارضة العقل للسمع، واستحالة المسألة، وعُلم أن جميع أخباره لا يناقض العقل فيها شيءٌ. فَغَدَا النَّقْلُ سَالِمًا مِنْ مُنَافٍ ... وَاسْتَرَحْنَا مِنَ الصُّدَاعِ جَمِيعَا (1) فإن قيل: بل المعارضة ثابتةٌ بين العقل وبين ما يُفهِمه ظاهر اللفظ، وليست ثابتة بين العقل وبين نفس ما أخبر به الرَّسول، فالمعارضة ثابتةٌ بين العقل وبين ما يظهر أنه دليلٌ وليس بدليلٍ، أو (2) يكون دليلًا ظنيًّا لتطرُّق الظنِّ إلى بعض مقدماته إسنادًا أو متنًا. _________ (1) عجز البيت لابن نُباتة، من أبيات له في «ديوانه» (ص 311 - 312)، والبيت هو: فقلت ليسا له ولا ليَ تُعزى ... وَاسْتَرَحْنَا مِنَ الصُّداع جميعَا (2) «ح»: «وأن». والمثبت من «م».
(1/479)
قيل: وهذا [ق 44 ب] يرفع صورة المسألة ويُحيلها بالكلية، وتصير صورتها هكذا: إذا تعارض الدليل العقلي وما ليس بدليلٍ صحيحٍ وجب تقديم العقلي. وهذا كلامٌ لا فائدة فيه، ولا حاصل له، وكل عاقلٍ يعلم أن الدليل لا يترك لما ليس بدليلٍ. ثم يُقال: إذا فسرتم الدليل السمعي بما ليس بدليلٍ في نفس الأمر بل اعتقاد دلالته جهلٌ، أو بما يظن أنه دليلٌ وليس بدليلٍ= فإن كان السمعي في نفس الأمر كذلك ـ لكونه خبرًا مكذوبًا، أو صحيحًا وليس فيه ما يدل على معارضة العقل (1) بوجهٍ ـ وأثبتُّم التعارض والتقديم بين هذين النوعين فساعدناكم عليه، وكُنَّا أسعد (2) بذلك منكم؛ فإنَّا أشدُّ نفيًا للأحاديث المكذوبة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشدُّ إبطالًا لما تحمله من المعاني الباطلة وأولى بذلك منكم. وإن كان الدليل السمعي صحيحًا في نفسه ظاهر الدلالة بنفسه على المراد لم يكن ما عارضه من العقليات إلَّا خيالات فاسدة، ومقدمات كاذبة، إذا تأمَّلها العاقل حقَّ التَّامل ومشى إلى آخرها وجدها مخالفة لصريح المعقول. وهذا ثابتٌ في كل دليلٍ عقليٍّ خالَفَ دليلًا سمعيًّا صحيح الدلالة. وحينئذٍ فإذا عارض هذا المسمَّى دليلًا عقليًّا للسمع وجب اطِّراحه لفساده وبطلانه. ولبيان العلم ببطلانه طريقان: كلي وجزئي. _________ (1) «ح»، «م»: «القول». والمثبت من حاشية «م». (2) «أسعد» ليس في «ح»، وأثبته من «م».
(1/480)
أمَّا الكلي فنقطع بأن كل دليلٍ عقليٍّ خالف السمعي الصريح الصحيح فهو باطلٌ في نفسه، مخالفٌ للعقل قبل أن ينظر في مقدماته. وأمَّا الجزئي فإنك إذا تأمَّلت جميع ما يدعوك به معارض السمع وجدته ينتهي إلى مقدماتٍ باطلةٍ بصريح العقل، لكن تَلَقَّاها مُعْوِرٌ عن مُعْوِرٍ (1)، فظنوها عقليات، وهي في التحقيق جهلٌ مركبٌ. وحينئذٍ فالواجب تقديم الدليل السمعي للعلم بصحته، وما عارضه فإمَّا معلوم البطلان، وإمَّا غير معلوم الصحة، وذلك أحسن أحواله. الوجه الثَّامن: أنه إذا اعتُقد في الدليل السمعي أنه ليس بدليلٍ في نفس الأمر بل اعتقاد دلالته على مخالف ما زعمتوه من العقل جهلٌ؛ أمكن أتباع الرسل المصدِّقين بما جاؤوا (2) به أن يعتقدوا في أدلتكم العقلية أنها ليست بأدلةٍ في نفس الأمر، وأن اعتقاد دلالتها جهلٌ، ويرمون أدلتكم بما رميتم به الأدلة السمعية، ثم الترجيح من جانبهم من وجوهٍ متعددةٍ. وكانوا في هذا الرمي أحسن حالًا منكم وأعذر، فإن معهم من البراهين الدَّالة على صحة ما _________ (1) «ح»: «معود عن معود». والتعبير مقتبس من قول الشاعر: ذهبَ الرِّجالُ المقتدى بفِعَالهم ... والمنكِرون لكل أمرٍ منكرِ وبقيتُ في خَلْفٍ يُزيِّن بعضُهم ... بعضاً ليدفع مُعْوِرٌ عن مُعْوِر يُنسب إلى بشر الحافي وإلى أبي الأسود الدؤلي وإلى غيرهما، ينظر «عيون الأخبار» (2/ 123) و «الحماسة البصرية» (3/ 1424) و «معجم الأدباء» (4/ 1423). والمعور: الرديء السريرة قبيحها، من العَوَر، وهو الشَّين والقُبح. «تاج العروس» (13/ 166). (2) «ح»: «جاء». والمثبت هو الصواب.
(1/481)
أخبر به السمع إجمالًا وتفصيلًا من المعقول أصح ممَّا (1) معكم، ولا تذكرون معقولًا يعارض ما ورد به الوحي إلَّا ومعهم معقولٌ أصح منه يُصدِّقه ويُؤيِّده. الوجه التَّاسع: أن يُقال: لو قُدِّر تعارض الشرع والعقل لوجب تقديم الشرع؛ لأن العقل قد صدَّق الشرع، ومِن ضرورة تصديقه له قبول خبره، والشرع لم يُصدِّق العقل في كل ما أخبر به، ولا العلم بصِدْق الشرع موقوفٌ على كل ما يخبر به العقل. ومعلوم أن هذا المسلك إذا سُلك أصح من مسلكهم، كما قال بعض أهل الإيمان: يكفيك من العقل أن يُعرفك صدق الرَّسول ومعاني كلامه، ثم يخلي بينك وبينه. وقال آخر: العقل سلطانٌ ولَّى الرَّسول ثم عزل نفسه. لأن (2) العقل دلَّ على أن الرَّسول يجب تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، ولأن العقل يدل على صدق الرَّسول دلالةً عامةً مطلقةً، ولا يدل على صدق قضايا نفسه دلالةً عامةً؛ ولأن العقل يغلط كما يغلط الحسُّ، وأكثر من غلطه بكثيرٍ، فإذا كان حكم الحسِّ من أقوى الأحكام ويعرض فيه من الغلط ما يعرض، فما الظن بالعقل؟! الوجه العاشر: أن العقل مع الوحي كالعامِّي المقلِّد مع المفتي العالم، بل ودون ذلك بمراتب كثيرة لا تُحصى، فإن المقلِّد يمكنه أن يصير عالمًا، ولا يمكن للعالم أن يصير نبيًّا رسولًا. فإذا عرف المقلِّد عين المفتي ودلَّ _________ (1) «ح»: «ما». (2) «ح»، «م»: «ولأن». والمثبت من «درء التعارض» (1/ 138).
(1/482)
غيره عليه أنه عالم مفتٍ، ثم اختلف العامي الدالُّ والمفتي فإن المستفتي (1) يجب عليه قبول قول المفتي دون المقلِّد الذي دلَّه (2) وعرَّفه بالمفتي. فلو قال له الدَّالُّ: الصواب معي دون المفتي؛ لأنِّي أنا الأصل في علمك بأنه مفتٍ، فإذا قدَّمتَ قوله على قولي قدحت في الأصل الذي به عرفت أنه مفتٍ، فلزم القدح في فرعه. فيقول له المستفتي: أنت لمَّا شهدت بأنه مفتٍ، ودللت على ذلك شهدت بوجوب تقليده دون تقليدك، كما شهد به دليلك، وموافقتي لك في هذا العلم المعيَّن لا تستلزم موافقتك في كل مسألة، وخطؤك فيما خالفت فيه المفتي ـ الذي هو أعلم منك ـ لا يستلزم خطأك في علمك بأنه مفتٍ. وأنت إذا علمت أنه مفتٍ باجتهادٍ واستدلالٍ، ثم خالفته باجتهادٍ واستدلالٍ، كنت مخطئًا في الاجتهاد والاستدلال الذي خالفت به مَن يجب عليك تقليدُه واتِّباعُ قوله، وإن أصبت في الاجتهاد [ق 45 أ] والاستدلال الذي به علمت أنه مفتٍ مجتهدٌ يجب عليك تقليده. هذا مع علمه بأن المفتي يجوز عليه الخطأ، والعقل يعلم أن الرَّسول معصومٌ في خبره عن الله، لا يجوز عليه الخطأ. الوجه الحادي عشر: أن الدليل الدَّال على صحة الشيء أو ثبوته أو عدالته أو قبول قوله لا يجب أن يكون أصلًا له، بحيث إذا قدم قول المشهود له والمدلول عليه على قوله يلزم إبطاله، وهذا لا يقوله من يدري ما يقول. غاية ما يُقال: إن العلم بالدليل أصل للعلم بالمدلول، فإذا حصل العلم _________ (1) من قوله «عين المفتي» إلى هنا في «ح»: «رجلا بأنه أهل المقلد الذي دل غيره بأن المستثني». والمثبت من «درء التعارض» (1/ 138). (2) «ح»: «دل».
(1/483)
بالمدلول لم يلزم من ذلك تقديم الدليل عليه في كل شيءٍ. فإذا شهد النَّاس لرجلٍ بأنه خبيرٌ بالطب أو التقويم (1) أو العيافة (2) دونهم، ثم تنازع الشهود والمشهود له في ذلك وجب تقديم قول المشهود له. فلو قالوا (3): نحن شهدنا لكم وزكَّيناكم، وبشهادتنا ثبتت أهليَّتُكم، فتقديم قولكم علينا والرجوع إليكم دوننا يقدح في الأصل الذي ثبت به قولكم. قالوا لهم: أنتم شهدتم بما علمتم أنَّا أهلٌ لذلك دونكم، وأن أقوالنا فيه مقبولة دون أقوالكم. فلو قدَّمنا قولكم على أقوالنا فيما اختلفنا فيه لكان ذلك قدحًا في شهادتكم وعلمكم بأنَّا أعلم منكم. وحينئذٍ فهذا وجهٌ ثاني عشر مستقلٌّ بكسر هذا الطَّاغوت: وهو أن تقديم العقل على الشرع يتضمن القدح في العقل والشرع؛ لأن العقل قد شهد للوحي بأنه أعلم منه، وأنه لا نسبة له إليه، وأن نسبة علومه ومعارفه إلى الوحي أقل من خردلة بالإضافة إلى جبل أو تلك التي (4) تعلَقُ بالإصبع بالنسبة إلى البحر (5)؛ فلو قدِّم حكم العقل عليه لكان ذلك قدحًا في شهادته، _________ (1) «درء التعارض»: «تقويم السلع». (2) «م»، «درء التعارض»: «القيافة». والقيافة أعم من العيافة، فالقيافة على قسمين: قيافة الأثر: ويقال لها العيافة، وهي تتبع آثار الأقدام والأخفاف والحوافر. وقيافة البشر: وهي الاستدلال بهيئات أعضاء الشخصين على المشاركة والاتحاد بينهما في النسب والولادة وفي سائر أحوالهما وأخلاقهما. «أبجد العلوم» (2/ 385، 436). (3) «ح»: «قال». والمثبت من «م». (4) «التي» سقط من «ح». (5) روى البخاري (4726) عن أبي بن كعب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الخضر عليه السلام قال لموسى عليه السلام: «إن لي علمًا لا ينبغي لك أن تعلمه، وإن لك علمًا لا ينبغي لي أن أعلمه. فأخذ طائر بمنقاره من البحر، وقال: والله ما علمي وما علمك في جنب علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من البحر».
(1/484)
وإذا بطلت شهادته بطل قبول قوله. فتقديم العقل على الوحي يتضمن القدح فيه وفي الشرع، وهذا ظاهر لا خفاء به. يوضحه: الوجه الثَّالث عشر: وهو أن الشرع مأخوذٌ عن الله بواسطة الرسولين المَلَكي والبشري بينه وبين عباده، مؤيَّدًا بشهادة الآيات وظهور البراهين على ما يوجبه العقل ويقتضيه تارةً، ويستحسنه تارةً، ويجوِّزه تارةً، ويَكِعُّ (1) عن دَرَكه تارةً؛ ولا سبيل له إلى الإحاطة به، ولا بد له من التسليم والانقياد لحكمه والإذعان والقبول. وهناك يسقط «لِمَ»، ويبطل «كيف»، ويزول «هلَّا»، ويذهب «لو» و «ليت» في الريح؛ لأن هذه المواد عن الوحي محبوسة (2)، واعتراض المعترض عليه مردودٌ، واقتراح المقترح ما يظن أنه أولى منه سَفَهٌ. وجملة الشريعة مشتملة على أعلى أنواع الحكمة علمًا وعملًا، التي لو جُمعت حِكَم جميع الأُمم ونُسبت إليها لم يكن لها إليها نسبة، وهي متضمنة لأعلى المطالب بأقرب الطرق وأتمِّ البيان، فهي متكفلةٌ بتعريف الخليقة ربَّها وفاطرها المحسن إليها بأنواع الإحسان بأسمائه وصفاته وأفعاله، وتعريف الطريق الموصِّل إلى رضاه وكرامته، والدَّاعي لديه، وتعريف حال السَّالكين بعد الوصول إليه. ويقابل هذه الثلاثة تعريفهم حال الدَّاعي إلى الباطل _________ (1) كعَّ عن الشيء يَكِعُّ كعًّا: إذا جبن عنه وأحجم. «النهاية في غريب الحديث» (4/ 180). (2) «ح»: «محسوسة». ولعل المثبت هو الصواب.
(1/485)
والطُّرُق الموصلة إليه، وحال السَّالكين تلك الطُّرق، وإلى أين تنتهي بهم. ولهذا تقبَّلَها العقولُ الكاملة أحسن تقبُّلٍ، وقابلتها (1) بالتسليم والإذعان، واستدارت حولها بحماية حوزتها والذبِّ عن سلطانها. فبين (2) ناصرٍ باللغة السَّائغة (3)، وحامٍ بالعقل الصريح، وذابٍّ عنه بالبرهان (4)، ومجاهدٍ بالسيف والرمح والسِّنان، ومتفقِّهٍ في الحلال والحرام، ومعتنٍ (5) بتفسير القرآن، وحافظٍ لمتون السُّنَّة وأسانيدها، ومفتِّشٍ على أحوال (6) رواتها، وناقدٍ لصحيحها من سقيمها، ومعلولها من سليمها. فهذه (7) الشريعة ابتداؤها من الله، وانتهاؤها إليه، فمنه بدأت، وإليه تعود. ليس فيها حديث المنجم في تأثيرات الكواكب وحركات الأفلاك (8) وهيآتها ومقادير الأجرام (9)، ولا حديث التربيع والتثليث والتسديس (10) والمقارنة (11). _________ (1) «ح»: «قابلها». (2) «م»: «فمن». (3) «م»: «الشائعة». (4) «ح»: «بالبراهين». والمثبت من «م». (5) «ح»: «ومعين». والمثبت من «م». (6) «ح»: «أحوالها». والمثبت من «م». (7) «ح»: «فهي». والمثبت من «م». (8) المنجمون يسمون السموات: الأفلاك. «مفاتيح العلوم» (ص 240). (9) الأجرام الفلكية: هي الأجسام التي فوق العناصر من الأفلاك والكواكب. «التعريفات» (ص 4). (10) «ح»: «التدليس». والمثبت من «م». (11) هي مصطلحات في تناظر الكواكب مع بعضها: فالتربيع: هو أن يصير منه على ربع الفلك. والتثليث: أن يصير منه على ثلث الفلك. والتسديس: أن يصير منه على سدس الفلك، والمقارنة: القران، وهو أن يكون النجمان في برج واحد. «مفاتيح العلوم» (ص 252) و «دستور العلماء» (4/ 36 - 37).
(1/486)
ولا حديث صاحب الطبيعة النَّاظر في آثارها واشتباك الأُسْتُقُصَّات (1) وامتزاجها وقواها، وما يتعلق بالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، وما الفاعل منها وما المنفعل، وكم درجاتها، وإلى أين تسري قواها؟ ولا فيها حديث المهندس الباحث عن مقادير الأشياء ونقطها وخطوطها وسطوحها وأجسامها وأضلاعها وزواياها ومعاطفها، وما الكرة وما الدَّائرة وما الخط المستقيم والمنحني؟ ولا فيها هذيان المنطقيين وبحوثهم في النوع والجنس والفصل والخاصة والعَرَض العام والمقولات العشر (2) والمختلطات (3)، والموجهات (4) الصَّادرة عن رجلٍ مشركٍ من يونان، كان يعبد الأوثان، _________ (1) الأستقصات ويقال الأستقسات ويقال الأسطقسات: جمع الأستقس، وهو الشيء البسيط الذي منه يتركب المركب، كالحروف التي منها يتركب الكلام، وكالواحد الذي منه يتركب العدد، وقد يُسمى الأسطقس: الركن. والأسطقسات الأربعة هي: النار والهواء والماء والأرض. وتُسمى: العناصر. «مفاتيح العلوم» (ص 158 - 159) و «دستور العلماء» (2/ 271). (2) المقولات العشر: الجوهر والأعراض التسعة: الكم، والكيف، والأين، والمتى، والإضافة، والملك، والوضع، والفعل، والانفعال. «دستور العلماء» (3/ 214). (3) كذا في «ح»، «م»، وكذا ستأتي (ص 545) أيضًا، ولا يوجد في كتب المنطق مصطلح المختلطات، فالأقرب أنه «المختلفات» أي: القضايا المختلفات. (4) القضية الموجهة: عبارة عمَّا كانت النسبة الواقعة بين جزأَيْها مقرونة بالوجوب أو الإمكان أو الامتناع، كقولنا: واجب أن يكون، أو ممكن أن يكون، أو ممتنع أن يكون. «المبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين» للآمدي (ص 326).
(1/487)
ولا يعرف الرحمن، ولا يصدق بمعاد الأبدان، ولا أن الله يرسل رسولًا بكلامه إلى نوع الإنسان، فجعَلَ هؤلاء المعارضين بين العقل والنقل عقل هذا الرجل عيارًا على كتب الله المنزَّلة وما أَرسل به رسله، فما زكَّاه منطقه وآلته وقانونه الذي وضعه بعقله قَبِلوه، وما لم يزكِّه تركوه. ولو كانت هذه الأدلة التي أفسدت عقول هؤلاء وأتباعهم، صحيحةً لكان صاحب الشريعة يُقوِّم شريعته بها ويكملها باستعمالها، وكان الله سبحانه يُنبِّه (1) عليها، ويحضُّ على التمسُّك بها، ويتقدم إلى عباده بالتمسُّك بها وبعلمها (2) وتعليمها، ويفرض عليهم القيام بها. فيا للعقول التي لم يخسف بها أين الدِّين من الفلسفة؟! وأين كلام ربِّ العالمين إلى آراء اليونان والمجوس وعُبَّاد الأصنام والصَّابئين؟! وأين المعقولات المؤيَّدة بنور النبوة إلى المعقولات المتلقاة عن أرسطو وأفلاطون والفارابي وابن سينا، وأتباع هؤلاء ممَّن لا يُؤمن بالله ولا صفاته ولا أفعاله ولا ملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر؟! وأين العلم المأخوذ عن الوحي النَّازل من عند ربِّ العالمين إلى الشُّبه المأخوذة عن آراء المتهوكين والمتحيرين؟! فإن أَدْلَوْا بالعقل (3) فلا عقل أكمل من عقول ورثة الأنبياء. _________ (1) «ح»: «يثيبه». والمثبت من «م». (2) كذا في «ح»، وربما كانت: «وتعلمها». (3) أدلى بحجته: أحضرها. «أساس البلاغة» (1/ 296).
(1/488)
وإن أَدْلَوْا برؤسائهم وأئمَّتهم كفرعون ونمرود وبطليموس وأرسطاطاليس ومقلدتهم وأتباعهم، فلم يزل أعداء الرسل يعارضونهم بهؤلاء وأمثالهم، ويقدمون عقولهم على ما جاءوا به. ويا للَّهِ العَجَبُ! كيف يُعارَض قول الرَّسول بقول الفيلسوف، وعلى الفيلسوف أن يتبع الرُّسل، وليس على الرُّسل أن تتبع الفيلسوف، فالرَّسول مبعوثٌ، والفيلسوف مبعوثٌ إليه، والوحي حاكمٌ، والعقل محكومٌ عليه؛ ولو كان العقل يُكتفى به لم يكن للوحي فائدة ولا غنًى، على أن منازل الخلق (1) متفاوتة في العقل أعظم تفاوت، وأبصارهم مختلفة، وليس العقل بأَسْره في واحدٍ من النَّاس أو طائفةٍ معيَّنةٍ حتى يكون تقديم عقولهم على (2) ما جاءت به الرُّسل، بل لكل طائفةٍ معقولٌ مخالفٌ معقولَ الأخرى. فمن أظلم وأشد عداوةً للرسل ممَّن جوَّز لكل طائفةٍ من طوائف العقلاء أن يقدم عقولها على ما جاءت به الرسل؟! فإن قالوا: إنما نُقدِّم العقل الصريح الذي لم يختلف فيه اثنان، على نصوص الأنبياء. فقد رَمَوُا الأنبياء بما هم أبعد الخلق منه، وهو أنهم جاؤوا بما يخالف العقل الصريح الذي لا يختلف فيه اثنان. هذا، وقد شهد الله ـ وكفى به شهيدًا ـ وشهد بشهادته الملائكة وأولو العلم أن طريقة الرُّسل (3) هي الطريقة البرهانية المتضمنة للحكمة، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا اَلنَّاسُ قَد _________ (1) «ح»: «الحق». والمثبت أليق بالسياق. (2) «ح»: «عا». والمثبت هو الصواب. (3) «م»: «الرسول».
(1/489)
جَّاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ} [النساء: 173] وقال: {وَأَنزَلَ اَللَّهُ (1) عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ وَاَلْحِكْمَةَ} [النساء: 112]. فالطريقة البرهانية هي الواردة بالوحي، النَّاطقة (2) بالرشد، الدَّاعية إلى الخير، الواعدة بحسن المآب، المبينة لحقائق الأنباء، المعرِّفة بصفات ربِّ الأرض والسماء. وإن الطريقة (3) التقليدية التخمينية الخَرْصية (4) هي المأخوذة من المقدمتين والنتيجة والدعوى، التي ليس مع أصحابها إلَّا الرجوع إلى رجلٍ من يونان (5)، كان يعبد الأوثان، ويجحد بالرحمن، فوضع بعقله قانونًا يصحح به بزعمه علوم الخلائق وعقولهم، فلم يستفد به عاقلٌ تصحيحَ مسألةٍ واحدةٍ في شيءٍ من علوم بني آدم، بل ما وُزن به علم إلَّا أفسده، وما برع فيه أحدٌ إلَّا انسلخ من حقائق الإيمان كانسلاخ القميص عن الإنسان. فما استُفيد بهذا العقل العائل إلَّا تعطيل الصَّانع عن صفات كماله ونعوت جلاله وعن أفعاله، والكفر بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. ومن العجب أن هؤلاء الأوقاح جعلوا نصوص الأنبياء من باب الظنون، وهي من الوحي، وجعلوا كلمات المنطقيين وقواعد الفلاسفة والجهمية من باب اليقين، ثم عارضوا بينهما، وقدَّموا هذه على نصوص الأنبياء! فالشريعةُ _________ (1) لفظ الجلالة سقط من «ح». (2) «م»: «الناظمة». (3) «الطريقة» ليس في «ح»، ومثبت من «م». (4) الخرص: الحزر والحدس والتخمين، وقيل: هو التظني فيما لا تستيقنه. «تاج العروس» (17/ 544). (5) بعده في «ح»: «فإن». وهو يقصد أرسطو.
(1/490)
ظهرت من الله على لسان أكمل الخلق عقلًا، وأعظمهم معرفةً، وأتمهم يقينًا؛ وعقلياتُكم ظهرت من جهة رجالٍ فكَّروا وقدَّروا، وظنوا وخَرَصُوا، وتَعِبوا وما أَغْنَوْا، ونَصَبُوا وما أخذوا، وحاموا وما وردوا، ونسجوا فهلهلوا (1)، ومَشَطُوا ففلفلوا (2). سافروا في دَرَك المطالب العالية على غير الطريق فما ربحوا إلَّا أذى السفر، وبحثوا في البلاد بغير دليلٍ فلم يقفوا للمطلوب على عينٍ ولا أثر. رَضُوا بالدَّعَاوَى وابْتُلُوا بِخَيَالِهِمْ ... وَخَاضُوا بِحَارَ الْفِكْرِ وَالْقَوْمُ مَا ابْتَلُّوا فَهُمْ فِي السُّرَى لَمْ يَبْرَحُوا مِنْ مَكانِهِمْ ... وَمَا ظَعَنُوا فِي السَّيْرِ عَنْهُ وَقَدْ كَلُّوا لَهُمْ كُلَّ وَقْتٍ حَيْرَةٌ بَعْدَ حَيْرَةٍ ... وَجَهْلٌ عَلَى جَهْلٍ فَلَا بُورِكَ الْجَهْلُ (3) الوجه الرَّابع عشر: أن الأُمة اختلفت ضروبًا من الاختلاف في الأصول والفروع، وتنازعوا فنونًا من التنازع في المشكل من الأحكام والحلال والحرام والتفسير والتأويل والأخبار، وتفرَّقت في آرائها ومذاهبها ومقالاتها، فصارت أصنافًا وفِرَقًا، كالخوارج والشيعة والمرجئة والمعتزلة؛ فما فَزِعَت طائفة من طوائف الأمة في اختلافها إلى منطق ولا فيلسوف، ولا إلى عقل يخالف صريح النقل، ولا قالت طائفة من هذه الطوائف: عقولنا [ق 46 أ] _________ (1) ثوبٌ هَلْهَلٌ: سخيف النسج، وقد هَلْهَل النسَّاج الثوبَ: إذا أرقَّ نَسْجَه وخفَّفه. «الصحاح» (5/ 1852). (2) شعر مفلفل: شديد الجعودة. «القاموس المحيط» (ص 1044). (3) البيتان الأول والثاني في «ديوان ابن الفارض» (ص 134 - 135) والبيت الأول فيه: رَضُوا بالأماني وابتُلوا بحُظوظِهِم ... وخاضوا بحارَ الحبِّ دعوى فما ابتلّوا
(1/491)
مقدَّمة على ما جاء به الرَّسول. وإن أشقَوا (1) مذاهبهم بالتأويل لما (2) جاء به، فلم تُقدِم طائفةٌ منهم على ما أقدمت عليه هذه الفرقة وقالوا: العقل أولى بالاتباع ممَّا جاء به الرَّسول، ولا قالت فرقة من هذه الفرق لأصحاب هذه المعقولات: أَعِينُونا بما عندكم، واشهدوا لنا وعلينا بما قِبَلكم؛ ولا حققت مقالتها بشهادتهم، ولا استعانت بطريقتهم، ولا وجدت عندها علمًا ومعرفةً لم تجده في كتاب ربِّها وسُنة نبيِّها. وكما لم تجد أحدًا من فِرَق هذه الأُمة يَفزَع إلى أرباب هذه العقول في شيءٍ من دينها، فكذلك كانت أُمة موسى وعيسى لم تُعَوِّل على هؤلاء في شيءٍ من أمر دينها، بل ما زال أهل الملل يُحذِّرون من هؤلاء أشد التحذير، وينفرون منهم أشد التنفير، عِلمًا بأنهم سُوس الملل وأعداء الرُّسل. وأنت إذا تأمَّلت أصول الفرق الإسلامية كلها وجدتها متفقةً على تقديم الوحي على العقل، ولم يُؤسسوا مقالاتهم على ما أسسها عليه هؤلاء من تقديم آرائهم وعقولهم على نصوص الوحي، فإن هذا أساس طريقة أعداء الرُّسل، فهم متفقون على هذا الأصل، ومنهم أُخذ وعنهم تُلقِّي، كما حكى الله سبحانه عنهم في كتابه أنهم عارضوا شرعه ودينه بآرائهم وعقولهم، ولكن الفرق بينهم وبين هؤلاء [أن] (3) أولئك جاهَروا بتكذيب الرُّسل ومعاداتهم، وهؤلاء أقرُّوا برسالاتهم، وانتسبوا في الظاهر إليهم، ثم نقضوا ما أقرُّوا به، وقالوا: يجب تقديم عقولنا وآرائنا على ما جاءوا به. فهم أعظم ضررًا على _________ (1) كذا في «ح». (2) «ح»: «بما». (3) زيادة يقتضيها السياق.
(1/492)
الإسلام وأهله من أولئك، لأنهم انتسبوا إليه وأخذوا في هدم قواعده وقلع أَساسه، وهم يتوهمون ويُوهمون أنهم ينصرونه. الوجه الخامس عشر: أن التفاوت الذي بين الرُّسل وبين أرباب هذه المعقولات أعظم بكثيرٍ من التفاوت الذي بين هؤلاء وبين أجهل النَّاس على الإطلاق، فإن هذا الجاهل يمكنه مع الطلب والتعليم أن يصير عالمًا بما عند هؤلاء، ولا يمكن أشدَّ هؤلاء حرصًا وذكاءً وقوةً وفراغًا أن يصير نبيًّا؛ فإن النبوة خاصةٌ من الله، يختصُّ بها من يشاء من عباده، لا تُنال بكَسْبٍ ولا باجتهادٍ. فإذا علم الإنسان بعقله أن هذا الرَّسول، وعلم أنه أخبر بشيءٍ، ووجد في عقله ما يُنافي خبره؛ كان الواجب عليه أن يُسلِّم لما أخبر به الصَّادق الذي هو أعلم منه، وينقاد له، ويتهم عقله، ويعلم أن عقله بالنسبة إليه أقل من عقل أجهل الخلق بالنسبة إليه هو، وأن التفاوت الذي بينهما في العلم والمعرفة بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله ودينه أعظم بكثير كثير من التفاوت الذي بين [من] (1) لا خبرة له بصناعة الطب ومن هو أعلم أهل زمانه بها. فيا للَّهِ العَجَبُ! إذا كان عقله يُوجب عليه أن ينقاد لطبيبٍ يهوديٍّ فيما يخبر به من قُوى الأدوية والأغذية والأشربة والأضمدة والمُسْهِلات (2) وصفاتها وكَمِّياتها ودرجاتها، مع ما عليه في ذلك من الكلفة والألم ومقاساة المكروهات؛ لظنِّه أن هذا اليهودي أعلم بهذا الشأن منه، وأنه إذا صدَّقه كان في تصديقه حصول الشفاء والعافية، مع علمه بأنه يُخطئ كثيرًا، وأن كثيرًا من _________ (1) زيادة ليستقيم الكلام. (2) «ح»: «المستهلات». والمثبت من «درء التعارض» (1/ 141). يقال: أُسهل بطنه، وأسهله الدواء: ألان بطنه، وهذا دواء مُسْهِل. «تاج العروس» (29/ 235 (.
(1/493)
النَّاس لا يُشفى بما يصفه الطبيب، بل يكون استعماله لما يصفه سببًا من أسباب هلاكه، وأن [من] (1) أسباب الموت أغلاط الأطباء، فكم لهم من قتيلٍ أسكنوه المقابر بغلطهم وخطئهم، وإن كان خطأُ الطبيب إصابةَ المقادير. وكيف لا يسلك هذا المسلك مع الرُّسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ وهم الصَّادقون المَصْدُوقون، ولا يجوز أن يكون خبرهم على خلاف ما أخبروا به، والذين عارضوا أقوالهم بعقولهم عندهم من الجهل والضلال المركب والبسيط ما لا يُحصيه إلَّا من هو بكل شيءٍ محيطٌ. الوجه السَّادس عشر: أن يُقال: تقديم العقول على الأدلة الشرعية ممتنعٌ متناقضٌ، وأمَّا تقديم الأدلة الشرعية فهو ممكنٌ مؤتلفٌ، فوجب الثَّاني، وامتنع الأول. بيانه: أن كون (2) الشيء معلومًا بالعقل أو غير معلومٍ بالعقل ليس هو صفة لازمة لشيءٍ من الأشياء، بل هو من الأمور النسبية الإضافية، فإن زيدًا قد يعلم بعقله ما لا يعلمه [بكر] (3) بعقله، وقد يعلم الإنسان في حال تعقُّله ما يجهله في وقتٍ آخر. والمسائل التي يُقال قد تعارض فيها العقل والشرع جميعًا قد اضطرب فيها أرباب العقل، ولم يتفقوا فيها على أمرٍ واحدٍ، بل كلٌّ منهم يقول: إن _________ (1) سقط من «ح». (2) «ح»: «يكون». والمثبت من «درء التعارض» (1/ 145). (3) «ح»: «ممكن». والمثبت من «درء التعارض».
(1/494)
العقل أَثبَتَ، أو أَوجَبَ، أو سوَّغَ ما يقول الآخر إن العقل نفاه، أو أحاله، أو منع منه. بل قد آل الأمر بينهم إلى التنازع فيما يقولون إنه من العلوم الضرورية، فيقول هذا: نحن نعلم بالضرورة العقلية ما يقول الآخر: إنه غير معلومٍ بالضرورة العقلية. وأبلغ من هذا أن يدَّعي بعضهم أن هذا مُحال بضرورة (1) العقل، فيدَّعي الآخر أنه ممكن بضرورة العقل. فأكثر العقلاء [ق 46 ب] يقولون: نحن نعلم بضرورة العقل امتناع رؤيا مرئيٍّ من غير معاينةٍ ومقابلةٍ. ويقول آخرون من المنتسبين إلى المعقولات: بل ذلك ممكنٌ لا يُحيله العقل. ويقول أكثر العقلاء: نحن نعلم أن حدوث حادثٍ بلا سبب حادث ممتنعٌ. ويقول آخرون: بل ذلك ممكن. ويقول أكثر العقلاء: إن كون العالِم عالِمًا بلا علمٍ، وحيًّا بلا حياةٍ، ومريدًا بلا إرادة، وسميعًا بصيرًا بلا سمعٍ ولا بصرٍ؛ مُحال بضرورة العقل. وآخرون يقولون: بل هو ممكنٌ غير مستحيلٍ، بل هو الواجب في حقِّ الله عز وجل. ويقول جمهور العقلاء: إن كون (2) المعنى الواحد أمرًا ونهيًا وخبرًا واستخبارًا ممتنع في ضرورة العقل. وآخرون يقولون: هو ممكنٌ واقعٌ. وجمهور العقلاء يقولون: إن إثبات موجودَينِ قائمَينِ بأنفسهما ليس أحدهما مباينًا للآخر ولا محايثًا له، ولا داخلًا فيه ولا خارجًا عنه، ولا متصلًا به ولا منفصلًا عنه؛ مكابرةٌ لصريح العقل. وآخرون يقولون: بل _________ (1) «ح»: «بالضرورة». (2) «ح»: «يكون». والمثبت من «درء التعارض» (1/ 145).
(1/495)
هو ممكنٌ واجبٌ في العقل. وجمهور العقلاء يقولون: إن إثبات كون المريد مريدًا بإرادةٍ لا في محلٍّ ممتنعٌ في ضرورة العقل. وآخرون ينازعوهم في ذلك. وجمهور العقلاء يقولون: إن الحروف والأصوات من المتكلم الواحد مقترنة بعضها ببعض في آنٍ واحدٍ محالٌ بضرورة العقل. وآخرون يقولون: بل هو ممكنٌ، بل واجبٌ في حق القديم. إلى أضعاف أضعاف ما ذكرنا. فلو قيل بتقديم العقل على نصوص الوحي ـ وهذا شأن العقل ـ لزم المحال، واجتماع النقيضين، وأُحيل (1) النَّاس على شيءٍ لا سبيل لهم إلى ثبوته ومعرفته. وأمَّا الوحي فهو قول الصَّادق، وهو صفةٌ لازمةٌ لا تختلف باختلاف أحوال النَّاس، والعلم بذلك ممكنٌ، وردُّ النَّاس إليه ممكنٌ. ولهذا جاء الوحي من الله سبحانه بردِّ النَّاس عند التنازع إلى كتابه وسُنة رسوله، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اُللَّهَ وَأَطِيعُوا اُلرَّسُولَ وَأُوْلِي اِلْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللَّهِ وَاَلرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاَلْيَوْمِ اِلْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 58]. فأَمَرَ المؤمنين عند التنازع بالردِّ إلى كتابه وسُنة رسوله، وهذا نصٌّ في تقديم السمع. قال هؤلاء: بل الواجب الردُّ إلى العقل، وردُّ السمع إن عارضه. ولو رُدَّ النَّاس الأمر عند النِّزاع إلى عقول الرجال وآرائهم ومقاييسهم لم يزدهم هذا الردُّ إلَّا اختلافًا واضطرابًا وشكًّا وارتيابًا. _________ (1) «ح»: «أو جبل».
(1/496)
فلا يمكن الحكم بين النَّاس في موارد النِّزاع والاختلاف على الإطلاق إلَّا بكتابٍ منزَّلٍ من السماء يرجع الجميع إلى حكمه، وإلَّا فكل واحدٍ من أرباب المعقولات يقول: عقلي أولى بالثقة به من عقل منازعي، وهذا يُدْلي بمعقولٍ، وهذا يُدلي بمعقولٍ. الوجه السَّابع عشر: أن الله سبحانه قد تمَّم الدِّين بنبيه - صلى الله عليه وسلم -، وأكمله به، ولم يُحْوِجْه ولا أُمتَه بعده إلى عقلٍ ولا نقلٍ سواه، ولا رأيٍ ولا منامٍ ولا كشوفٍ. قال تعالى: {اِلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ اُلْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] وأنكر على من لم يكتفِ بالوحي من غيره؛ فقال: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51]. ذكر هذا جوابًا لطلبهم آيةً تدلُّ على صدقه، فأخبر أنه يكفيهم من كل آيةٍ، فلو كان ما تضمنه من الإخبار عنه وعن صفاته وأفعاله واليوم الآخر يناقض العقل لم يكن دليلًا على صدقه، فضلًا عن أن يكون كافيًا. وسيأتي في الوجه الذي بعد هذا بيان أن تقديم العقل على النقل يبطل كون القرآن آيةً وبرهانًا على صحة النبوة. والمقصود أن الله سبحانه تمَّم الدِّين وأكمله بنبيه وما بعثه به، فلم يُحْوِجْ أُمته إلى سواه، فلو عارضه العقل وكان أولى بالتقديم منه لم يكن كافيًا للأُمة، ولا كان تامًّا في نفسه. في «مراسيل أبي داود» (1) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى بيد عمر بن الخطاب _________ (1) «المراسيل» (454) من طريق سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن يحيى بن جعدة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُتي بكتابٍ في كتفٍ فقال: «كفى بقوم ضلالة أن يبتغوا كتابًا غير كتابهم إلى نبي غير نبيهم». فأنزل الله عز وجل: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ}. والحديث أخرجه الدارمي في «مسنده» (495) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (9/ 3072) وابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» (1485) من طريق ابن عيينة به. وأخرجه الطبري في «التفسير» (18/ 429) من طريق ابن جريج عن عمرو بن دينار به مرسلًا. وخالف إبراهيم بن يزيد الخوزي ابن عيينة وابن جريج؛ فرواه عن عمرو عن يحيى عن أبي هريرة مرفوعًا، أخرجه الإسماعيلي في «معجمه» (384) وإبراهيم متروك الحديث، ولا يلتفت لمخالفته. وليس في طرق هذا الحديث أن الذي جاء بالكتاب عمر - رضي الله عنه -، ولعل المصنف عنى ما أخرجه أحمد (15156) وغيره، أو ما في «المراسيل» لأبي داود (455) عن أبي قلابة، وفي أسانيدها كلام، وينظر «مسند الفاروق» (2/ 544 - 548).
(1/497)
ورقةً فيها شيءٌ من التوراة فقال: «كَفَى بِقَوْمٍ ضَلَالَةً أَنْ تَبِعُوا كِتَابًا غَيْرَ كِتَابِهِمْ، أُنْزِلَ عَلَى نَبِيٍّ غَيْرِ نَبِيِّهِمْ». فأنزل الله عز وجل: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51]. وقال سبحانه: {* فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 64] فأقسم سبحانه بنفسه أنَّا لا نؤمن حتى نُحكِّم رسوله في جميع ما شجر بيننا وتتسع صدورنا بحكمه، فلا يبقى فيها حرجٌ، ونُسلِّم لحكمه تسليمًا؛ فلا نعارضه بعقلٍ ولا رأيٍ ولا هوًى ولا غيره. فقد أقسم الربُّ سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن هؤلاء الذين يُقدِّمون العقل على ما جاء به الرَّسول، وقد شهدوا هم على أنفسهم بأنهم غير مؤمنين بمعناه، وإن آمنوا بلفظه.
(1/498)
وقال تعالى: {وَمَا اَخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اَللَّهِ} [الشورى: 8]. وهذا نصٌّ صريحٌ في أن حكم جميع ما تنازعنا فيه مردودٌ [ق 47 أ] إلى الله وحده، وهو الحاكم فيه على لسان رسوله، فلو قُدِّم حكم العقل على حكمه لم يكن هو الحاكم بوحيه وكتابه. وقال تعالى: {اَتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: 2] فأمر باتِّباع الوحي المنزَّل وَحْدَه، ونهى عن اتِّباع ما خالفه. وأخبر سبحانه أن كتابه بيِّنةٌ وشفاءٌ وهدًى ورحمةٌ ونورٌ وفصلٌ وبرهانٌ وحجةٌ وبيانٌ (1)، فلو كان في العقل ما يعارضه ويجب تقديمه على القرآن لم يكن فيه شيءٌ من ذلك، بل كانت هذه الصِّفات للعقل دونه، وكان عنها بمعزلٍ؛ فكيف يَشفِي ويهدي ويُبيِّن ويُفصِّل ما يعارضه صريح العقل؟! الوجه الثَّامن عشر: أن ما عُلم بصريح العقل الذي لا يختلف فيه العقلاء لا يُتصوَّر أن يُعارضه الشرع البتَّة، ولا يأتي بخلافه، ومن تأمَّل ذلك فيما تنازع (2) العقلاء فيه من المسائل الكبار وجد ما خالفت النصوص الصحيحة الصريحة شبهاتٍ فاسدةً، يعلم بالعقل بطلانها، بل يعلم بالعقل ثبوت نقيضها الموافق للنقل. فتأمَّل ذلك في مسائل التوحيد والصفات، ومسائل القدر والنبوات والمعاد، تجد ما يدلُّ عليه صريح العقل لم يخالفه سمعٌ قط، بل السمع الذي يخالفه إمَّا أن يكون حديثًا موضوعًا، أو لا تكون دلالته مخالفة لِمَا دل عليه العقل. _________ (1) «ح»، «م»: «ونورا وفضلا وبرهانا وحجة وبيانا». (2) «ح»: «ينازع». والمثبت من «م».
(1/499)
ونحن نعلم قطعًا أن الرُّسل لا يُخبرون بمُحال (1) العقول، وإن أخبروا بمحارات العقول (2)، فلا يخبرون بما يُحيله العقل، وإن أخبروا بما يحار فيه العقل ولا يستقل بمعرفته. ومن تأمَّل أدلة نُفاة الصِّفات والأفعال والقدر والحكمة والمعاد وأعطاها حقها من النظر العقلي علم بالعقل فسادها وثبوت نقيضها، ولله الحمد. الوجه التَّاسع عشر: أن المسائل التي يُقال إنه قد تعارَض فيها العقل والسمع [ليست] (3) من المسائل المعلومة بصريح العقل كمسائل الحساب والهندسة والطبيعيات اليقينية، فلم يجئ في القرآن ولا في السُّنَّة حرفٌ واحدٌ يخالف العقل في هذا الباب. وما جاء من ذلك فهو مكذوبٌ ومفترًى كحديث: «إن الله لمَّا أراد أن يخلق نفسه خَلَقَ خيلًا فأجراها فعَرِقت، فخلق نفسه من ذلك العرق» (4)، وحديث: «نزوله عشية عرفة على جمل أورق _________ (1) «م»: «بمحالات». (2) «العقول» ليس في «ح». وأثبته من «م». (3) من «درء التعارض» (1/ 148). (4) أخرجه الجورقاني في «الأباطيل والمناكير» (53) وابن الجوزي في «الموضوعات» (1/ 105) وهو حديث باطل لا أصل له، قال الجورقاني: «هذا حديث موضوع، باطل كفر، لا أصل له عند العلماء، ما قاله رسول الله (، ولا رواه عنه أبو هريرة». وقال الدارمي في «نقضه على المريسي» (2/ 661): «وما يستنكر هذا الحديث أنه محال المعنى، بل هو كفرٌ لا ينقاد ولا ينقاس، فكيف خلق الخيل التي عرقت قبل أن تكون نفسه في دعواك؟ ويحك أيها المعارض! إنا نكفِّر من يقول: إن كلام الله مخلوق، فكيف من قال: نفسه». وقال الذهبي في «تلخيص الموضوعات» (ص 18): «لعن الله من وضعه».
(1/500)
يصافح الركبان، ويعانق المشاة» (1). وكقول اليهود: إنه سبحانه [بكى] (2) على الطوفان حتى رمد، وعادَتْه الملائكة، وإنه ندم على ذلك حتى عض أصابعه، وإنه تَبَدَّى لإسرائيل وصارعه. وكقول النصارى: إنه اتخذ مريم زوجةً، وأَوْلَدَها عيسى، فهي صاحبته، وعيسى ابنه. تعالى الله عمَّا يقول أعداؤه فيه علوًّا كبيرًا. وكقولهم: إنه نزل عن كرسي عظمته ودخل في فرج مريم والتحم بناسوت المسيح. وقول مشركي العرب: إنه صاهَرَ الجن فولدت له الملائكة. وأمثال ذلك من الأقوال المخالفة لصريح العقل. فكيف يجعل ما أثبته الله لنفسه في كتابه من صفاته وأفعاله، وما صحَّ عن رسوله أنه أثبته له من علوه فوق سماواته على عرشه واستوائه عليه، وتكلمه وتكليمه، وثبوت علمه وقدرته، وحياته وسمعه وبصره ووجهه الأعلى، _________ (1) أخرجه ابن عساكر في «التاريخ» (27/ 396) وابن الجوزي في «الموضوعات» (1/ 180) بنحوه. وقال ابن عساكر: «كتبه أبو بكر الخطيب الحافظ عن الأهوازي متعجبًا من نكارته، وهو حديث موضوع لا أصل له». وقال ابن الجوزي: «هذا حديث لا يشك أحد في أنه موضوع محال، لا يحتاج لاستحالته أن ينظر في رجاله». وقال ابن تيمية في «درء التعارض» (1/ 149) عن هذا الحديث وسابقه: «هي أحاديث مكذوبة موضوعة باتفاق أهل العلم». وينظر «ميزان الاعتدال» (1/ 513) و «السلسلة الضعيفة» (6330). (2) زدته من «درء التعارض» (6/ 348) و «هداية الحيارى» (ص 305).
(1/501)
ورحمته وغضبه ورضاه وفرحه وضحكه، ويديه (1) اللتين (2) يمسك بإحديهما السماوات السبع وبالأخرى الأرضين السبع ثم يهزهن، ونزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا، ونحو ذلك من صفات كماله ونعوت جلاله= كيف يجعل هذا بمنزلة ذاك في مخالفة كلٍّ منهما لصريح العقل، ويجعل إثبات هذا كإثبات ذلك، ووصفه بهذا كوصفه بذاك كما صرَّح به النُّفاة، وقالوا: إن هذا تشبيهٌ وتجسيمٌ، فلا فرق بينه وبين ذاك التشبيه والتجسيم؟ فلْيَبْكِ على عقله وما أُصيب به من سوَّى بين الأمرين، أحسن الله عزاءه في عقله، ولا بورك له في علمٍ هذه غايته التي لا يرضاها أعظم النَّاس انغماسًا في جهله! الوجه العشرون: أنه لا يُعلم آيةٌ من كتاب الله ولا نصٌّ صحيحٌ عن رسول الله في باب أصول الدِّين اجتمعت الأُمة على خلافه، وغاية ما يقدر اختلاف الأمة في القول بموجبه. ومن (3) له خبرة بمذاهب النَّاس وأقوال السلف يعلم قطعًا أن الأُمة أجمعت على القول به قبل ظهور المخالف، كما أجمعت بأن الله مستوٍ على عرشه فوق سماواته، وأن المؤمنين يرونه عيانًا بالأبصار من فوقهم في الجنة، وأنه سبحانه كلَّم نبيه موسى منه إليه بلا واسطة تكليمًا سمع به كلامه، ولم يشكَّ أنه هو الذي كان يكلمه، وأنه كتب مقادير الخلائق وقدَّرها قبل أن يخلقهم، وأنه علم ما هم عاملوه قبل أن يعملوه [ق 47 ب] وأنه يُحبُّ ويبغض، ويرضى ويغضب، ويضحك ويفرح، وأن له وجهًا ويدَينِ. _________ (1) زيادة يستقيم بها السياق. (2) «ح»: «التي». (3) «ح»: «ولا فيمن».
(1/502)
فهذا إجماعٌ معلومٌ متيقَّنٌ عند جميع أهل السُّنَّة والحديث، فالعقل الذي يعارِض هذا لم تُجمع عليه الأُمة، ولم يُعرف عن رجلٍ واحدٍ من السلف والأئمة أنه قاله. وغايته أن يكون عقل فرقةٍ من الفرق، اشتقَّتْ لأنفسها مذهبًا، وادَّعت له معقولًا، فلما صالت عليها نصوص الوحي التجأت إلى العقل، وادَّعت أنه يخالفها، وصَدَقَتْ وكَذَبَتْ. أمَّا صدقها فإن نصوص الوحي تخالف معقولها هي، وذلك من أدلِّ دليل على فساده في نفسه إذ شهدت له نصوص الوحي بالبطلان. وأمَّا كَذِبها فزعْمها أن نصوص الوحي تخالف العقل المتفق عليه بين العقلاء، فهذا لم يقع ولا يقع ما دامت السماء سماءً والأرض أرضًا، بل تزول السماء والأرض وهذا لا يكون! فأي ذنبٍ للنصوص إذا خالفت عقول بعض النَّاس، فقد وافقت عقول أصحِّ النَّاس عقلًا، {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكافِرِينَ (90) أُوْلَئِكَ اَلَّذِينَ هَدَى اَللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اُقْتَدِهْ} [الأنعام: 90 - 91]. الوجه الحادي والعشرون: أن الأدلة السمعية هي الكتاب والسُّنَّة والإجماع. وهو إنما يصار إليه عند تعذر الوصول إليهما، فهو في المرتبة الأخيرة، ولهذا أخَّره عمر في كتابه إلى أبي موسى حيث كتب إليه: «اقْضِ بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله فبما في سُنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن لم يكن في السُّنَّة فبما قضى به الصَّالحون قبلك» (1). _________ (1) أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (10885) وابن أبي شيبة في «المصنف» (23444) والدارمي في «مسنده» (169) والنسائي (5399) والضياء في «المختارة» (1/ 238) ولكنه في كتاب عمر - رضي الله عنه - إلى شريح، وليس في كتابه لأبي موسى - رضي الله عنه -.
(1/503)
وهذا السلوك هو كان سلوك الصَّحابة والتَّابعين ومن درج على آثارهم من الأئمة، أول ما يطلبون النَّازلة من القرآن، فإن أصابوا حكمها فيه لم يَعْدُوه إلى غيره، وإن لم يصيبوها فيه طلبوها من سُنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن أصابوها لم يَعْدُوها إلى غيرها، وإن لم يصيبوها طلبوها من اتفاق العلماء. وقد صان الله الأُمة أن تُجمع على خطأ، أو على ما يُعلم بطلانه بصريح العقل. فإذا كان الإجماع معصومًا أن ينعقد على ما يخالف العقل الصريح ـ بل إذا وجدنا معقولًا يخالفه الإجماع علمنا قطعًا أنه معقولٌ فاسدٌ ـ فلَأن يُصان كتاب الله وسُنة رسوله عن مخالفة العقل الصريح أولى وأحرى. الوجه الثَّاني والعشرون: أنه إذا قُدِّر تعارض العقل والكتاب، فردُّ العقل الذي لم يُضمن (1) لنا عصمته إلى الكتاب المعلوم العصمة هو الواجب. الوجه الثَّالث والعشرون: أن هؤلاء الخائضين في صفات الربِّ وأفعاله وما يجوز عليه وما لا يجوز بآرائهم وعقولهم تراهم مختلفين متنازعين حيارى متهوِّكين. وحاصل ما مع أكثرهم حُسن الظنِّ بإمامه الذي سلك طريقته وتقليده في أصوله، وهو يرى بعقله خلافها، ويستشكلها ويُقرُّ بأنها مشكلةٌ جدًّا، ثم يُنكَس على رأسه ويقول: هو أعلم بالمعقول مني. فنجد أتباع أرسطو ـ الملحد المشرك عابد الأوثان ـ يتبعونه فيما وضعه لهم من قواعد المنطق والطبيعي والإلهي، وكثيرٌ منهم يرى بعقله نقيض ما _________ (1) «ح»: «يتضمن».
(1/504)
قاله، ولكن لحُسن (1) ظنِّه به يتوقف في مخالفته، وينسب التقصير إلى فهمه والنقص إلى عقله؛ لعظمة أرسطو في نفسه، ولعلمه بأنه أعقل منه. وهكذا شأن جميع أرباب المقالات والمذاهب، يرى أحدهم في كلام متبوعه ومن يُقلِّده ما هو باطلٌ، وهو يتوقف في ردِّ ذلك لاعتقاده أن إمامه وشيخه أكمل منه علمًا، وأوفر عقلًا. هذا مع علمه وعلم العقلاء أن متبوعه وشيخه ليس بمعصومٍ من الخطأ. فهلَّا سلكوا هذا المسلك مع نبيهم ورسولهم، المضمون له العصمة، المعلوم صِدْقُه في كل ما يُخبر به! وهلَّا قالوا: عقله أوفر من عقولنا، وعلمه أصحُّ من علومنا، فنحن ننكر (2) معقولًا يخالفه، ونردُّه ولا نقبله، كما فعلوه مع شيوخهم ومتبوعيهم! ولكن {مَن يُرِدِ اِللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اَللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ اَلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اِللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي اِلدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي اِلْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 43]. الوجه الرَّابع والعشرون: أن كلَّ مَن أَعرَضَ عن السمع لظنِّه أن العقل يخالفه إمَّا بكون (3) أدلته لا تُفيد اليقين، أو لأنه خاطب الخلق خطابًا جمهوريًّا تخييليًّا، لا خطابًا برهانيًّا؛ تجد بينهم من النِّزاع والتفرُّق والشهادة مِن بعضهم على بعضٍ بالضلالة بحسَب إعراضهم عن السمع، وكل مَن كان عنه أَبعَدَ كان قوله أَفسَدَ، واختلاف طائفته أشد. _________ (1) «ح»: «يحسن». والمثبت من «درء التعارض» (1/ 151). (2) «ح»: «نتنكل». والمثبت هو الصواب. (3) «ح»: «إذ يكون». تحريف.
(1/505)
فالمعتزلة أكثر اختلافًا من متكلِّمة أهل الإثبات، وبين البصريين والبغداديين منهم من النِّزاع ما يطول ذكره، والبصريون أقرب إلى الإثبات والسُّنَّة من البغداديين، فالبصريون يُثبتون [ق 48 أ] كونه سبحانه سميعًا بصيرًا حيًّا عالمًا قديرًا، ويُثبتون له الإرادة، ولا يوجبون عليه الأصلح في الدنيا، ويثبتون خبر الواحد والقياس، ولا يُؤثِّمون المجتهدين. ثم بين المشايخية (1) والحسينية (2) من النِّزاع ما هو معروف. وأمَّا الشيعة فأعظم تفرُّقًا واختلافًا من المعتزلة، حتى قيل: إنهم يبلغون ثنتين وسبعين فرقة؛ وذلك لأنهم أبعد طوائف الملة عن السُّنَّة. وأمَّا الفلاسفة فلا يَجمَعهم جامعٌ، فتلاعب بالنبوات، ولا تقف مع حدودها، وقُلْ بعقلك ما شئت، وقد صرت فيلسوفًا حكيمًا! وهم أعظم اختلافًا من جميع طوائف المسلمين واليهود والنصارى، والفلسفة التي ذهب إليها الفارابي وابن سينا هي فلسفة المشَّائين أتباع أرسطو صاحب المنطق، وبينه وبين سلفه من النِّزاع ما يطول ذكره، ثم بين أتباعه من الخلاف ما يطول وصفه. وأما سائر طوائف الفلاسفة فلو حُكي لك اختلافهم في علم الهيئة وحدَه لرأيت العجب العُجاب. هذا والهيئة علم رياضي حسابي، هو من أصحِّ علومهم، فكيف باختلافهم في الطبيعيات، فكيف بالإلهيات؟! واعتبر هذا بما ذكره أرباب المقالات عنهم في العلوم الرياضية _________ (1) المشايخية: أتباع أبي علي وأبي هاشم الجبائيين. كما ذكر المصنِّف في «شفاء العليل» (ص 145). (2) «ح»: «الحسنية». والمثبت من «درء التعارض» (1/ 157) وعرَّفهم ابن تيمية بقوله: «أتباع أبي الحسين البصري». وقد مر ذكر أبي الحسين البصري (ص 465).
(1/506)
والطبيعية، كما نقله الأشعري في كتاب «مقالات غير الإسلاميين» وابن الباقلاني في كتاب «الدقائق». وفي هذين الكتابين من الاختلاف بينهم أضعاف ما ذكره الشهرستاني وابن الخطيب. والكتاب الذي اتفق عليه جمهورهم وهو «المجسطي» لبطليموس فيه قضايا كثيرة لا يقوم عليها دليلٌ صحيحٌ، وقضايا ينازعه فيها غيره، وقضايا مبنية على أرصاد منقولة عن غيره تقبل الغلط والكذب، وفيه قضايا برهانية صادقة، وهذا من أجود علومهم وأصحها. وأمَّا الطبيعيات ففيها من الاضطراب والاختلاف ما لا يكاد يُحصى، وهو أكثر من أن يُذكر، هذا وهو أقرب إلى الحسِّ (1) من العلم الإلهي. وأمَّا الإلهيات فإذا شئت مثالًا يُقرِّب إليك حالهم فمَثَلُهم كمثل قومٍ نزلوا بفلاة من الأرض في ليلة ظلماء، فهجم عليهم العدوُّ، فقاموا في الظلمة هاربين على وجوههم في كل ناحيةٍ! ولا إله إلَّا الله، كم (2) لهم فيه من خبطٍ وخرصٍ وتخمينٍ! وليسوا متفقين فيه على شيءٍ أصلًا، وأساطينهم قد صرَّحوا بأنهم لا يصلون فيه إلى اليقين، وإنما يتكلمون فيه بالأولى والأَخْلَق (3). ولهذا ظهر في السَّالكين خلفهم من الحَيْرة والتوقُّف والاعتراف بأنهم لم يصلوا إلى شيءٍ ما فيه عبرة لأهل الوحي أتباع الرُّسل المقدِّمين لما نزل به الوحي على عقول هؤلاء وأشباههم. وقد تقدَّم إقرار الشهرستاني وابن الخطيب وابن أبي الحديد والخونجي والجويني وغيرهم _________ (1) «ح»: «الجنس». والمثبت هو الصواب. (2) «ح»: «كمن». والمثبت هو الصواب. (3) «ح»: «ولا خلق». والأخلق: الأجدر والأولى. «المعجم الوسيط» (1/ 252).
(1/507)
على أنفسهم بذلك (1). وقد قال ابن رشد ـ وهو من أعلم النَّاس بمذاهب الفلاسفة ومقالاتهم ـ في كتابه «تهافت التهافت» (2): «ومَن الذي قال في الإلهيات شيئًا يُعتدُّ به». وهذا أفضل المتأخرين في زمانه أبو الحسن الآمدي واقف في المسائل (3) الكبار، يذكر حُجج الطوائف، ويبقى واقفًا حائرًا، لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء {وَمَن يُضْلِلِ اِللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 87]. وهذا صاحب الكتب المضنون بها على غير أهلها (4) مِن فَرْط ذكائه ومعرفته بالفلسفة والكلام ينتهي وقت الموت في هذه المسائل إلى الوقف والحَيْرة، ثم أَعرَضَ عن تلك الطُّرق، وأقبل على طريقة أهل الحديث، وأقبل على «صحيح البخاري» فمات وهو على صدره. وحدثني شيخ الإسلام قال: حكى لي بعض الأذكياء ـ وكان قد قرأ على أفضل أهل زمانه في الكلام والفلسفة، وهو ابن واصل الحموي ـ أنه قال له الشيخ: «أضطجعُ على فراشي وأضع الملحفة على وجهي، وأُقابل بين أدلة هؤلاء وأدلة هؤلاء حتى يطلع الفجر، ولم يترجَّح عندي شيءٌ» (5). ولهذا ذهب طائفة من أهل الكلام إلى القول بتكافؤ الأدلة، ومعناه أنها _________ (1) تقدم في مقدمة الكتاب (ص 16 - 17). (2) لم أقف عليه في «تهافت التهافت»، ونقله ابن تيمية في «درء التعارض» (1/ 162). (3) «ح»: «مسائل». والمثبت من «درء التعارض». (4) يقصد أبا حامد الغزالي، وقد صرَّح به ابن تيمية في «درء التعارض» (1/ 162). (5) «درء التعارض» (1/ 165، 3/ 363 - 364).
(1/508)
قد تكافأت وتعارضت فلم يُعرف الحق من الباطل، وصَدَقوا وكَذَبوا، أمَّا صِدْقهم فإن أدلتهم وطُرُقهم قد تكافأت وتصادمت حتى قال شاعرهم (1): وَنَظِيرِي فِي الْعِلْمِ مِثْلِيَ أَعْمَى ... فَتَرَانَا فِي حِنْدِسٍ نَتَصَادَمْ ولقد صدق هذا الأعمى البصر والبصيرة، ووصف حال القوم فأحسن والله الصفه (2)، وعبَّر عن حالهم بأشد عبارةٍ مطابقة، بزُمرة عميان قاموا في ليلة مظلمة يتهاوشون (3) ويتصادمون. وأمَّا كَذِبهم فإن أدلة الحقِّ وشُبَه الباطل لا تتكافأ حتى يتكافأ الضوء والظلام، والبياض والسواد، والمسك وأنتن الجِيَف. فسبحان من أعمى عن الحق بصائر من شاء من خلقه، كما أعمى عن الشمس أبصار من شاء منهم، فالذنب لتلك البصائر لا للحق، كما أن الحِجاب في تلك العيون لا في الشمس. ولقد أحسن القائل في وصف هؤلاء وبصائرهم أنها بمنزلة أبصار الخفاش يَعجِز عن ضوء النهار، ولا تفتح أعيُنَها فيه [ق 48 ب] ويلائمها ظلام الليل فتذهب فيه وتجيء. ولهذا تجد أكثر هؤلاء لمَّا لم يتبيَّن له الهدى في شيءٍ من تلك الطرق نكص على عقبَيْه، وخَلَعَ العِذَارَ، ونزع قيد الشريعة من قلبه، وأقبل على شهوات الغي في بطنه وفرجه أو رياسته وماله، فأقبل على اللذات، وسماع _________ (1) البيت لأبي العلاء المعري، وقد تقدم (ص 145). (2) «ح»: «الفقه». والصفة: الوصف. (3) تهاوش القوم تهاوشًا: إذا اختلطوا في الفتن واضطربوا. «غريب الحديث» لابن قتيبة (1/ 376).
(1/509)
المطربات، ومعاشرة الصور المستحسَنات. وذلك لخُلُوِّ قلبه عن حقائق العلم والإيمان الذي بعث الله به رسوله، فلم يصل إليه، ولا وصل من طرق أصحابه إلَّا إلى الشك والحَيْرة. فهؤلاء هم الذين عناهم الله سبحانه بقوله: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا اَلظَّنَّ وَمَا تَهْوَى اَلْأَنفُسُ} [النجم: 23] فعلومهم ظنون {وَإِنَّ اَلظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ اَلْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28] وإرادتهم هوى نفوسهم، وعلومهم تدعو إلى إرادتهم، وإرادتهم تدعو إلى علومهم، فإن اتِّباع الهوى يصدُّ عن الحقِّ، ويضل عن سبيل الله، فتولَّوْا عن القرآن، وآثروا عاجل الدنيا. وهؤلاء الذين أمر الله رسوله بالإعراض عنهم بعد إقامة الحُجة عليهم، فقال تعالى: {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيا (28) ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ اَلْعِلْمِ} [النجم: 28 - 29]. الوجه الخامس والعشرون: أن الله سبحانه لمَّا أَهبَطَ الأبوَينِ من الجنة عَهِدَ إليهما عهدًا تناولهما وتناول ذريتهما إلى يوم القيامة، وضمن لمَن تمسَّك بعهده أنه لا يَضِلُّ ولا يشقى، ولمَن أَعرَضَ عنه الضلال والشقاء؛ فقال تعالى: {قَالَ اَهْبِطَا (1) مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ (2) فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى (120) فَمَنِ اِتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقى (121) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ أَعْمى (122) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (123) * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اَلْيَوْمَ تُنسى} [طه: 120 - 124]. قال ابن عباسٍ: «تكفَّل الله لمَن قرأ القرآن _________ (1) «ح»: «قلنا اهبطوا». (2) {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} ليس في «ح».
(1/510)
وعمل بما فيه ألَّا يَضِلَّ في الدنيا ولا يشقى في الآخرة». ثم قرأ هذه الآية (1). وقوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي} يتناول الذِّكر الذي أنزله، وهو الهدى الذي جاءت به الرُّسل. ويدلُّ عليه سياق الكلام، وهو قوله: {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا} فهذا هو الإعراض عن ذِكْره. فإذا كان هذا حال المعرض عنه فكيف حال المعارض له بعقله أو عقل مَن قلَّده وأحسن الظن به؟! فكما أنه لا يكون مؤمنًا إلَّا من قبله وانقاد له، فمَن أعرض عنه وعارضه من أبعد النَّاس عن الإيمان به. الوجه السَّادس والعشرون: أن طالب الهدى في غير القرآن والسُّنَّة قد شهد الله ورسوله له بالضلال، فكيف يكون عقل الذي قد أضلَّه الله (2) مقدَّمًا على كتاب الله وسنة رسوله؟! قال تعالى في أرباب العقول التي عارضوا بها وحيَه: {أَفَرَءَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اُللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اِللَّهِ أَفَلَا تَذَّكَّرُونَ} [الجاثية: 22] وقال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاَتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا اُلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 154]. وقال فيمن قدَّم عقله على ما جاء به: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا اَلظَّنَّ وَمَا تَهْوَى اَلْأَنفُسُ وَلَقَد جَّاءَهُم مِّن رَّبِّهِمِ اِلْهُدى} [النجم: 23] والقرآن مملوءٌ بوصف مَن قدَّم عقله على ما جاء به بالضلال (3). _________ (1) أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (6033) وابن أبي شيبة في «المصنف» (30576، 35926) والطبري في «التفسير» (16/ 191). (2) بعده في «ح»: «أنه». وهي زائدة. (3) «ح»: «من الضلال». والمثبت هو الصواب.
(1/511)
وروى الترمذي (1) وغيره من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ. قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كِتَابُ اللهِ، فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، وَهُوَ الفَصْلُ لَيْسَ بِالهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللهُ، وَمَنِ ابْتَغَى الهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللهُ، وَهُوَ حَبْلُ اللهِ المَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الحَكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ، وَهُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الأَهْوَاءُ، وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الأَلْسُنُ، وَلَا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ العُلَمَاءُ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ تَنْتَهِ الجِنُّ إِذْ سَمِعَتْهُ حَتَّى قَالُوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى اَلرُّشْد} [الجن: 1 - 2] مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ». الوجه السَّابع والعشرون: أن ما عارض به هؤلاء نصوص الأنبياء من المعقولات قد شهدوا على أنفسهم بالحَيْرة والشك فيها، وأنهم لم يجزموا فيها بشيءٍ، ولم يظفروا منها بعلمٍ ولا يقينٍ ـ كما تقدم ذكر اليسير منه عن أفاضلهم (2) ـ وشهد به عليهم تناقضهم واضطرابهم واختلافهم، فإن ما كان من عند غير الله لا بد أن يقع فيه الاختلاف الكثير، وشهد عليهم بذلك أتباع الرَّسول، وشهد به عليهم مَن هو على كل شيءٍ شهيدٌ، وسيشهد به عليهم يوم _________ (1) «جامع الترمذي» (2906). وأخرجه الدارمي في «مسنده» (3374) والبزار في «مسنده» (836) والطبراني في «المعجم الكبير» (20/ 84) من طريق ابن أخي الحارث الأعور عن الحارث عن علي - رضي الله عنه -، وقال الترمذي: «حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإسناده مجهول، وفي الحارث مقال». (2) تقدم في مقدمة الكتاب (ص 16 - 17).
(1/512)
القيامة مَن أُنزل عليه: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41] وشهد به عليهم نصوص الكتاب والسُّنَّة، وشهد به عليهم أدلة العقول الصريحة الموافقة للنصوص. فهل عندهم مثل هؤلاء الشهود على صحة العقل الذي عارضوا به نصوص الأنبياء؟! نعم شهودهم أرسطو وأفلاطون وفيثاغورس وابن سينا والفارابي وجهم بن صفوان وأبو الهُذَيْل العلَّاف والنظَّام، وأوقاح الجهمية والمعتزلة، وأفراخ الصَّابئين والمجوس. ومن تعارضت عنده هذه البينات فلا (1) ننكر له أن يتعارض عنده العقل [ق 49 أ] والنقل، وأن يقدِّم العقل على النقل. الوجه الثَّامن والعشرون: أن أصحاب القرآن والإيمان قد شهد الله لهم ـ وكفى به شهيدًا ـ بالعلم واليقين والهدى، وأنهم على بصيرةٍ وبينةٍ من ربهم، وأنهم هم أولو العقول والألباب والبصائر، وأن لهم نورًا على نورٍ، وأنهم المهتدون المفلحون. قال تعالى في حقِّ الذين يؤمنون بالغيب ولا يعارضونه بعقولهم وآرائهم: {الم ذَلِكَ اَلْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (1) اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ اَلصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (2) وَاَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ اُلْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 1 - 4]. وقال: {وَيَرَى اَلَّذِينَ أُوتُوا اُلْعِلْمَ اَلَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ اَلْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ اِلْعَزِيزِ اِلْحَمِيدِ} [سبأ: 6]. وهذا دليلٌ ظاهرٌ أن الذي نراه _________ (1) «ح»: «ولا».
(1/513)
معارضًا للنقل (1) ويقدِّم العقل عليه ليس من الذين أوتوا العلم في قَبيلٍ ولا دَبيرٍ (2)، ولا قليلٍ ولا كثيرٍ. وقال: {* أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ اَلْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد: 21]. وهذه شهادةٌ من الله على عمى هؤلاء، وهي موافقة لشهادتهم على أنفسهم بالحيرة والشك، وشهادة المؤمنين عليهم. وقال: {* اَللَّهُ نُورُ اُلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ اِلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ اِلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دِرِّيءٌ تَوَقَّدَ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اِللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اُللَّهُ اُلْأَمْثَالَ لِلنّاسِ وَاَللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 35] فأخبر سبحانه عن مثل نور الإيمان به وبأسمائه وصفاته وأفعاله وصِدْق رُسُله في قلوب عباده، وموافقة ذلك لنور عقولهم وفِطَرهم التي أبصروا بها نور الإيمان؛ بهذا المَثَل المتضمِّن لأعلى أنواع النور المشهود، وأنه نورٌ على نورٍ، نور الوحي ونور العقل، نور الشرعة ونور الفِطْرة، نور الأدلة السمعية ونور الأدلة العقلية. وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا اَلْكِتَابُ وَلَا اَلْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 49]. وقال تعالى: {أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي _________ (1) «ح»: «للعقل». (2) يقال: فلان ما يدري قبيلا من دبير: أي ما يدري شيئًا. «لسان العرب» (4/ 271).
(1/514)
اِلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي اِلظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 123]. وقال تعالى: {فَاَلَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاَتَّبَعُوا اُلنُّورَ اَلَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ اُلْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]. وقال تعالى: {اِللَّهُ وَلِيُّ اُلَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ (255) وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ اُلطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ اَلنُّورِ إِلَى اَلظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ اُلنّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 255 - 256]. ثم أخبر سبحانه عن حال المُعْرِضين عن هذا النور المعارضين للوحي بالعقل بمَثليْنِ، يتضمن أحدهما وَصْفهم بالجهل المركب، والآخر بالجهل البسيط؛ لأنهم بين ناظرٍ وباحثٍ ومقدِّرٍ ومفكرٍ، وبين مقلِّدٍ يحسن الظن بهم، فقال في الطَّائفتين: {وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسِبُهُ اُلظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اَللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاَللَّهُ سَرِيعُ اُلْحِسَابِ (38) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اِللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} [النور: 38 - 39]. الوجه التَّاسع والعشرون: أن يُقال: إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم النقل؛ لأن الجمع بين المدلولين جمع بين النقيضين، وإبطالهما معًا (1) إبطال للنقيضين. وتقديم العقل ممتنعٌ لأن العقل قد دلَّ على صحة السمع، ووجوب قَبول ما أخبر به الرَّسول، فلو أبطلنا النقل لكُنَّا قد أبطلنا _________ (1) «ح»: «مع».
(1/515)
دلالة العقل، وإذا بَطَلت دلالته لم يصلح أن يكون معارضًا (1) للنقل؛ لأن ما ليس بدليلٍ لا يصلح لمعارضة الدليل، فكان تقديم العقل موجبًا لعدم تقديمه، فلا يجوز تقديمه. وهذا بيِّن جدًّا فإن العقل هو الذي دلَّ على صدق السمع وصحته، وأن خبره (2) مطابقٌ لمخبره، فإمَّا أن تكون هذه الدلالة صحيحة أو باطلة، فإن كانت صحيحة امتنع أن يكون في العقل ما يبطلها، وإن كانت باطلة لزم ألَّا يكون العقل دليلًا صحيحًا، وإذا لم يكن دليلًا صحيحًا لم يتبع بحالٍ، فضلًا أن يُقدَّم على الدليل السمعي الصحيح، فصار تقديم العقل على النقل قدحًا في العقل؛ بانتفاء لوازمه ومدلوله، وإذا كان تقديمه على النقل يستلزم القدح فيه، والقدح فيه يمنع دلالته، وذلك يمنع معارضته = استحال تقديمه عند المعارضة، لأن تقديمه عند المعارضة يبطل المعارضة، وذلك يحيل المسألة من أصلها. يوضحه: الوجه الثلاثون: وهو أن يُقال: معارضة العقل لما دلَّ العقل على أنه حقٌّ دليلٌ على تناقض دلالته، وذلك يوجب فسادها. وأمَّا السمع فلم يُعلم فساد دلالته، ولا تعارضها وتناقضها في نفسها، وإن قُدر أنه لم يعلم صحتها، وإذا تعارض دليلان: أحدهما عَلِمنا فساده، والآخر لم نعلم فساده، كان تقديم ما لم يُعلم فساده أقرب إلى الصواب من تقديم ما يُعلم فساده، وهذا كالشَّاهد إذا عُلِم كَذِبه وفِسْقه لم يَجُزْ تقديم شهادته على شاهدٍ مجهولٍ لم يُعلم كذبه، فكيف إذا كان [ق 49 ب] الشَّاهد الكاذب هو الذي شهد بأنه قد كذب في بعض شهاداته؟! _________ (1) «ح»: «تعارضا». (2) «ح»: «أخبره».
(1/516)
والعقل إذا صَدَّقَ السمع في كل ما يُخبر به، ثم قال: إنه أخبر بخلاف الحق، قد شهد للسمع بأنه يجب قبول قوله، وشهد له بأنه لا يجوز قبول قوله، وشهد له بأن ما أخبر به حقٌّ، وشهد بأن ما أخبر به ليس بحقٍّ. وهذا قدحٌ في شهادته مطلقًا وفي تزكيته، ولا تقبل شهادته الأولى ولا الثَّانية. يوضحه: الوجه الحادي والثلاثون: أن الآيات والبراهين اليقينية والأدلة القطعية قد دلت على صدق الرُّسل، وأنهم لا يُخبرون عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه إلَّا بالحق المحض، فهم صادقون فيما يبلِّغونه عن الله في الطلب والخبر، وهذا أول درجات الإيمان. فمتى (1) علم المؤمن بالرَّسول أنه أخبر بشيءٍ من ذلك جَزَمَ جزمًا لا يحتمل النقيض (2) أنه حقٌّ، وأنه لا يجوز أن يكون في الباطن بخلاف ما أخبر به، وأنه يمتنع أن يعارضه دليلٌ قطعيٌّ لا عقلي ولا سمعي، فإن كل ما يُظنُّ أنه يعارضه من ذلك فهي حُججٌ داحضةٌ، وشُبهٌ فاسدةٌ من جنس شُبه السفسطة والقرمطة. وإذ كان العقل العالم بصدق الرَّسول قد شهد له بذلك، وأنه ممتنعٌ أن يعارض خبرَه دليلٌ صحيحٌ، كان هذا العقل شاهدًا بأن كل ما عارض ما أخبر به الرَّسول فهو باطلٌ، فيكون هذا العقل الصحيح والسمع قد شَهِدَا ببطلان العقل المخالف للسمع. الوجه الثَّاني والثلاثون: أن الشُّبهات القادحة في نبوات الأنبياء ووجود الربِّ ومعاد الأبدان التي يُسميها أصحابها حُججًا عقلية هي كلها معارضة للنقل، وهي أقوى من الشُّبه التي يدَّعي النُّفاة للصفات أنها معقولات خالفت _________ (1) «ح»: «فمن». (2) «ح»: «النقيضين».
(1/517)
النقل، أو من جنسها، أو قريبة منها، كما قيل (1): دَعِ الخَمْرَ يَشْرَبْهَا الغُوَاةُ فَإِنَّنِي ... رَأَيْتُ أَخَاهَا مُغْنِياً بِمَكَانِهَا فَإِلَّا يَكُنْهَا أَوْ تَكُنْهُ فَإنَّهُ ... أَخُوهَا غَذَتْهُ أُمُّهُ بِلِبَانِهَا فقد أُورِدَ على القدح في النبوات ثمانون شبهةً أو أكثر، وهي كلها عقلية، وأُورد على إثبات الصَّانع سبحانه نحو أربعين شبهةً كلها عقلية، وأُورد على المعاد نحو ذلك. والله يعلم أن هذه الشُّبه من جنس شُبه نُفاة الصِّفات وعلو الله على خلقه وتكلُّمه وتكليمه ورؤيته بالأبصار عيانًا في الآخرة، لكن نفقت هذه الشُّبه بجاه (2) نسبة أربابها إلى الرَّسول والإسلام، وأنهم يذبُّون عن دينه، وينزهون الربَّ عمَّا لا يليق به، وإلَّا فعند التحقيق القاعُ عَرْفَجٌ (3) كلُّه، ولا فرق بين الشُّبه المعارضة لأصل نبوة الرسول والشُّبه المعارضة لما _________ (1) البيتان لأبي الأسود الدؤلي، وهما في «ديوانه» (ص 162) و «شرح أدب الكاتب» للجواليقي (ص 299). وقال الجواليقي: «يخاطب مولى له كان يحمل تجارة إلى الأهواز، وكان إذا مضى إليها يتناول شيئاً من الشراب؛ فاضطرب أمر البضاعة، فقال أبو الأسود هذه الأبيات ينهاه عن شرب الخمر، ويقول: إن الزبيب يقوم مقامها، فإن لم تكن الخمر نفسها من الزبيب فهي أخته، اغتديا من شجرة واحدة، وقيل: إنه عنى بقوله أخوها الطلاءَ». (2) «ح»: «الشبهة تجاه». والمثبت من «م». (3) «ح»: «عن فخ». والقاع: المستوي من الأرض. «الصحاح» (3/ 1274). والعرفج: شجر من شجر الصيف ليِّن أغبر، له ثمرة خشناء كالحسك. «تاج العروس» (6/ 100). والعرب تقول: «مررت بقاعٍ عرفجٍ كلُّه» أي: جاف وخشن. كما قال ابن جني في «الخصائص» (2/ 472).
(1/518)
(1) أخبر به الرسول. ومن تأمَّل هذا وهذا تبيَّن له حقيقة الحال، وربما وجد الشُّبه القادحة في أصل النبوة أكثر من الشبه القادحة فيما أخبرت به الرُّسل. فنقول لمن (2) قدَّم المعقول المعارض لما أخبر به الرَّسول: هل تُقدِّم المعقول المعارض لأصل الرسالة والنبوة، وأنت قد أوردته وأجبت عنه بما يُعلم أن صدرك لم يَثلَج له (3)، فإن تلك الأجوبة مبنيةٌ على قواعد قد اضطرب فيها قولك، فمرةً تثبتها، ومرةً تنفيها، ومرةً تقف فيها، أم تطرح تلك المعقولات وتهدرها وتشهد بفسادها؟ فحينئذٍ فهلَّا سلكت في المعقولات المعارضة لخبر الرَّسول ما سلكت في تلك، وكانت السبيل واحدة، والطريق في ردِّها واضحة، وأنت من أنصار الله ورسوله، محامٍ عن أصل الرسالة، وعمَّا جاء به الرَّسول، جازمٌ له بعقلك، لا تعارض خبره بعقلك! وهذا في غاية الظهور بحمد الله. ولولا خشية الإطالة لذكرنا ما ذكره من الشُّبه العقلية القادحة في إثبات الصَّانع ورسالة رسله وفي اليوم الآخر، وفي الشُّبه القادحة في علوِّه على خلقه وصفاته وكلامه ورؤيته، وعرضنا عليك الجميع، ثم إليك الوزن. يوضحه: الوجه الثَّالث والثلاثون: وهو أن أرباب تلك الشُّبه إنما استطالوا على النُّفاة والجهمية بما ساعدوهم عليه من تلك الشُّبه، وقالوا: كيف يكون _________ (1) «ح»: «ما». والمثبت من «م». (2) «ح»: «فيقول من». والمثبت من «م». (3) يقال: ثلجت نفسي بالأمر: إذا اطمأنت إليه وسكنت ووثقت به. «تاج العروس» (5/ 448).
(1/519)
رسولًا صادقًا مَن يُخبر بما يخالف صريح العقل؟! وأنتم قد سلَّمتم لنا ذلك، وساعدتمونا على أن صانع (1) العالم لا يختص بمكانٍ، ولا يتكلم، ولا يُرى، ولا يُشار إليه، ولا ينتقل من مكانٍ إلى مكانٍ، ولا تحله الحوادث، ولا له وجهٌ ولا يدٌ ولا إصبعٌ ولا سمعٌ ولا بصرٌ ولا علمٌ ولا حياةٌ ولا قدرة زائدٌ على مجرد ذاته. ومن أصولنا وأصولكم أنه لم يَقُمْ بذاته فعلٌ ولا وصفٌ ولا حركةٌ ولا استواءٌ ولا نزولٌ ولا غضبٌ في الحقيقة ولا رضًا فضلًا عن الفرح والضحك. ونحن وأنتم مُتَّفقون في نفس الأمر على أنه لم يتكلم بهذا القرآن ولا بالتوراة ولا بالإنجيل، وإنما ذلك كلام شيءٍ عنه بإذنه عندكم، وبواسطة العقل الفعَّال عندنا. ونحن وأنتم متفقون على أنه لم يتكلم به، ولم يُسمع منه. ونحن وأنتم متفقون على أنه لم يره أحدٌ (2) ولا يراه، ولم يسمع كلامه ولا يسمعه أحدٌ، وأن هذا محالٌ، فهو عندنا وعندكم بمنزلة [ق 50 أ] كونه يأكل ويشرب وينام. فعند التحقيق نحن وأنتم متفقون على الأصول والقواعد التي نفت هذه الأمور، وهي بعينها تنفي صحة نبوة من أخبر بها؛ فكيف يُمكن أن يُصدَّق مَن جاء بها، وقد اعترفتم معنا بأن العقل يدفع خبره ويرده؟ فما للحرب بيننا وبينكم وجهٌ، وكما تساعدنا نحن وأنتم على إبطال هذه الأخبار التي عارضت صريح العقل، فساعدونا على إبطال الأصل بنفس ما اتفقنا عليه جميعًا على إبطال الأدلة النقلية. _________ (1) «صانع» سقط من «ح». وأثبته من «م». (2) «أحد» سقط من «ح». وأثبته من «م».
(1/520)
فانظر هذا الإخاء ما ألصقه، والنَّسَب ما أقربه! وإذا أردت أن تعرف حقيقة الحال فانظر حالهم مع هؤلاء الزنادقة في ردِّهم عليهم، وبحوثهم معهم، وخضوعهم لهم فيها، ومقاومة أعداء الرُّسل لهم، واستطالتهم عليهم، ومقاتلتهم لهم بأسلحتهم التي استعاروها منهم. فإن قلت: كيف أُصيب القوم مع عقولهم وبحثهم ونظرهم واجتهادهم؟! قلت: أصاب عقولَهم ما أصاب عقول كفار قريشٍ وغيرهم من الأُمم الذين كذبوا الرُّسل مع تلك الأحلام (1) والعقول، ولكن كادها باريها (2) عبرة لكل ذي عقلٍ صحيحٍ إلى يوم القيامة. وهذا جزاء مَن لم يرضَ بوحي الله وما وهب لأنبيائه من العقول التي نسبتها إلى عقول العالمين كنسبتهم إليهم. الوجه الرَّابع والثلاثون: وهو أن الله سبحانه اقتضت حكمته وعدله أن يُفسد على العبد عقله الذي خالف به رسله، ولم يجعله منقادًا لهم، مسلِّمًا لما جاؤوا به، مذعنًا له، بحيث يكون مع الرَّسول كمملوكه المنقاد من جميع الوجوه للمالك المتصرف فيه، ليس له معه تصرُّف بوجهٍ من الوجوه. فأول ما أفسد سبحانه عقل شيخهم القديم إبليس، حيث لم يَنقَدْ به لأمره، وعارض النصَّ بالعقل، وذكر وجه المعارضة فأفسد عليه عقله غاية الإفساد حتى آل الأمر إلى أن صار إمام المبطلين، وقدوة الملحدين، وشيخ الكفار والمنافقين. _________ (1) «ح»: «الأحكام». والأحلام: الألباب والعقول، واحدها حِلم بالكسر. «النهاية في غريب الحديث» (1/ 434). (2) أي: مكر بها، والكيد: المكر، كاده يكيده كيدًا ومكيدة. «الصحاح» (2/ 533).
(1/521)
ثم تأمَّلْ كيف أفسد عقول مَن أعرض عن رسله وعارض ما أُرسلوا به، فآل بهم فساد تلك العقول إلى ما قصَّه الله عنهم في كتابه. ومن فساد تلك العقول أنهم لم يرضوا بنبيٍّ من النبيين، ورضوا بإلهٍ من الحجر. ومن فساد تلك العقول أنهم استحبوا العمى على الهدى، وآثروا عقوبة الدنيا والآخرة على سعادتهما، وبدَّلوا نعمة الله كفرًا، وأحلُّوا قومهم دار البوار. وأفسد عقول أهل الكتابين بكفرهم بالرَّسول حتى آل أمرهم إلى ما آل. [وأفسد عقول] (1) الفلاسفة التي قدَّموها على ما جاءت به الرُّسل حتى قالوا ما أضحكوا به كافة العقلاء، وإن كانوا أصحاب صنائع وأفكارٍ استنبطوها (2) بعقولهم لِعَجْز غيرهم عنها، لكن أفسد عليهم العقلَ الذي يُنال به سعادة الأبد، حتى قالوا في فرية سلسلة الموجودات عن واجب الوجود ما هو بسلسلة المجانين أشبه منه بكلام عقلاء الآدميين. وجعلوا العالم الذي شهدت عليه شواهد الصنعة والاحتياج والافتقار من كون غالبه مُسخرًا مُدبرًا مقهورًا على حركة لا يمكنه الخروج منها، وعلى مكانٍ لا يمكنه مفارقته، وعلى وضع لا يمكنه أن يزول عنه، وعلى ترتيب شهد العقل والفطرة أن غيره رتَّبه هذا الترتيب ووضعه في هذا الموضع وقهره على هذه (3) الحركة= وكون سافله منفعلًا غير فاعلٍ، متأثرًا غير مؤثرٍ كل وقتٍ في مبدأ ومعاد، وشواهدُ الفقر والحاجة والحدوث ظاهرةٌ _________ (1) زدته ليستقيم السياق. (2) «ح»: «واستنبطوها». والواو زائدة. (3) «ح»: «هذا».
(1/522)
على أجزائه وأنواعه= فجعلوه قديمًا غير مخلوقٍ ولا مصنوعٍ، فعطَّلوه عن صانعه وخالقه. ثم عطَّلوا الربَّ الذي فطر السماوات والأرض عن صفات كماله ونعوت جلاله وأفعاله، فلم يُثبتوا له ذاتًا ولا صفةً ولا فعلًا ولا تصرُّفًا باختياره في ملكه (1)، ولا عالمًا بشيءٍ ممَّا في العالم العلوي والسفلي، وعجَّزوا مَن أنشأ النشأة الأولى أن يُعيدها مرةً ثانيةً. وفي الحقيقة لم يُثبتوا ربًّا أنشأ شيئًا ولا ينشئه، ولا أثبتوا لله ملائكة ولا رسلًا ولا كلامًا ولا إلهيةً ولا ربوبيةً. وأمَّا الاتحادية (2) فأفسد عقولهم فلم يثبتوا ربًّا، وظنوا أن في الخارج إنسانًا (3) كليًّا، وحيوانا كليًّا، وجعلوا وجود الربِّ وجودًا مطلقًا مجردًا عن الماهيات، وقالوا: لا وجود للمطلق في الخارج. وبالجملة فلم يُصيبوا في الإلهيات في مسألةٍ واحدةٍ، بل قالوا في جميعها ما أضحكوا عليهم العقلاء. وأمَّا متكلمو الجهمية والمعتزلة فأفسد عقولهم عليهم حتى قالوا ما يسخر العقلاء من قائله، كما تقدَّم التنبيه على اليسير منه (4): وقالوا: يتكلم الربُّ بغير كلامٍ يقوم به، وخالقٌ بلا خَلْقٍ يقوم به، وسميع بلا سمع، وبصير بلا بصر (5)، وحيٌّ بلا حياة، وقديرٌ بلا قدرةٍ، ومريدٌ _________ (1) «ح»: «الممكة». (2) ينظر «الجواب الصحيح» لابن تيمية (4/ 397 - 398). (3) «ح»: «إنشا». (4) تقدم (ص 66). (5) «ح»: «يقوم به وسمع وبصر بلا بصيرة». والمثبت هو الصواب كما تقدم (ص 422).
(1/523)
بلا إرادة، وفعَّالٌ لما يريد ولا فِعْلَ له ولا إرادة. وقالوا: الربُّ موجودٌ قائمٌ بنفسه، ليس في العالم ولا خارجه، ولا متصلًا به ولا منفصلًا عنه، ولا فوقه ولا تحته، ولا عن يمينه ولا عن يساره. وقالوا: إنه لم [ق 50 ب] يزل معطَّلًا عن الفعل، والفعل ممتنع، ثم انقلب من الامتناع إلى الإمكان بغير تجدُّد سببٍ أصلًا. وقالوا: إن الأعراض لا تبقى زمانين، وأنكروا القوى والطبائع والغرائز والأسباب والحكم، وجعلوا الأجسام كلها متماثلة، وأثبتوا أحوالًا لا موجودة ولا معدومة، وأثبتوا مصنوعًا بلا صانعٍ، ومخلوقًا بلا خالقٍ، إلى أضعاف ذلك ممَّا يسخر منه العقلاء. وكلما كان الرجل عن الرَّسول أبعد كان عقله أقلَّ وأفسد. فأكملُ النَّاس عقولًا أتباعُ الرُّسل، وأفسَدُهم عقولًا المعرضُ عنهم وعمَّا جاؤوا به. ولهذا كان أهل السُّنَّة والحديث أعقل الأُمة، وهم في الطوائف كالصَّحابة في النَّاس. وهذه القاعدة مطَّردة في كل شيءٍ عُصي الربُّ سبحانه به، فإنه يُفسده على صاحبه، فمَن عصاه بماله أفسده عليه، ومن عصاه بجاهه أفسده عليه، ومن عصاه بلسانه أو قلبه أو عضوٍ من أعضائه أفسده عليه، وإن لم يشعر بفساده. فأي فسادٍ أعظم من فساد قلبٍ خَرِبٍ من محبة الله وخوفه ورجائه والتوكل عليه والإنابة إليه والطمأنينة بذكره والأُنس به والفرح بالإقبال عليه؟! وهل هذا القلب إلَّا قلب قد استحكم فساده، والمصاب لا يشعر! وأي فسادٍ أعظم من فساد لسانٍ تعطَّل عن ذكره وما جاء به وتلاوة كلامه
(1/524)
ونصيحة عباده وإرشادهم ودعوتهم إلى الله؟! وأي فسادٍ أعظم من فساد جوارح عُطِّلت عن عبودية فاطرها وخالقها وخدمته والمبادرة إلى مرضاته؟! وبالجملة فما عُصي الله بشيءٍ إلَّا أفسده على صاحبه، ومن أعظم معصية العقل إعراضه عن كتابه ووحيه الذي هدى به رسوله وأتباعه، والمعارضة بينه وبين كلام غيره، فأي فسادٍ أعظم من فساد هذا العقل؟! وقد أرى الله سبحانه أتباع رسوله من فساد عقل هؤلاء ما هو من أقوى أسباب زيادة إيمانهم بالرَّسول وبما جاء به، وموجبًا لشدة تمسكهم به. ولقد أحسن القائل (1): وَإِذَا نَظَرْتُ إِلَى أَمِيرِي زَادَنِي ... نَظَرِي لَهُ حُبًّا (2) إِلَى الْأُمَرَاء الوجه الخامس والثلاثون: هذه القاعدة التي أسَّسها مَن عارض بين العقل والنقل [تقتضي] (3) ألَّا ينتفع بخبر الأنبياء في باب الصِّفات والأفعال أحدٌ من الخاصة والعامة. أمَّا الخاصة فهم مُصرِّحون بأن علم ذلك ومعرفته موكول إلى العقول، فما (4) دلَّت عليه وشهدت به قُبل، وما خالفها من السمع وجب ردُّه، فلم يستفيدوا من جهة الخبر شيئًا، وإنما استفادوا الحقَّ من جهة العقل المعارض (5) لما أخبرت به الرُّسل. وأمَّا العامة فإنهم اعتقدوا ما دلَّ عليه الخبر، وهو باطلٌ في نفس الأمر، فلم _________ (1) البيت لعدي بن الرقاع في «ديوانه» (ص 162). وقد أنشده المصنِّف في «طريق الهجرتين» (2/ 569) أيضًا. (2) في «الديوان»: «ضنًا به نظري». (3) زدته ليستقيم السياق. (4) «ح»: «فيما». (5) «ح»: «العارض».
(1/525)
يستفيدوا منه معرفة الحق، بل إنما حصلوا على اعتقاد الباطل، فأي مُعاداةٍ لما جاء به الرَّسول أعظم من هذه؟! الوجه السَّادس والثلاثون: أن الرجل إمَّا أن يكون مقرًّا بالرُّسل، أو جاحدًا لرسالتهم. فإن كان منكرًا فالكلام معه في تثبيت النُّبوة، فلا وجه للكلام معه في تعارض العقل والنقل، فإن تعارضهما فرع الإقرار بصحة كل واحدٍ منهما لو تجرَّد عن المُعارِض. فمن لم يُقرَّ بالدليل العقلي (1) لم يخاطَب في تعارض الدليل العقلي والشرعي، وكذلك من لم يُقرَّ بالدليل الشرعي لم يخاطَب في هذا التعارض. فمن لم يُقرَّ بالأنبياء لم يستفد (2) من خبرهم دليلًا شرعيًّا، فهذا يُتكلَّم معه في إثبات النُّبوات أولًا. وإن كان مقرًّا بالرسالة فالكلام معه في مقامات: أحدها: صدق الرَّسول فيما أخبر به، فإن أنكر ذلك أنكر الرسالة والنُّبوة، وإن زعم أنه مقرٌّ بهما، وأن الرُّسل خاطبوا الجمهور بخلاف الحقِّ تقريبًا إلى أفهامهم، ومضمون هذا أنهم كَذَبوا للمصلحة، وهذا حقيقة قول هؤلاء، وهو عندهم كذبٌ حسنٌ. وإن أقرَّ بأنه صادقٌ فيما أخبر به فالكلام معه في: _________ (1) بعده في «ح»: «لم يخاطب في الدليل». وهي عبارة زائدة. (2) «ح»: «يسند».
(1/526)
المقام الثَّاني: وهو أنه هل يُقرُّ بأنه أخبر بهذا أو لا يقرُّ به؟ فإن لم يُقرَّ به جهلًا عُرِّف ذلك بما يَعْرِفُ به أنه ظهر ودعا إلى الله وحارب أعداءه. فإن أصرَّ على إنكاره ذلك فقد خرج من جملة العقلاء، وأنكر الأمور الضرورية، كوجود بغداد ومكة والهند وغيرها. وإن أقرَّ بأنه أخبر بذلك فالكلام معه في: المقام الثَّالث: وهو أنه هل أراد ما دلَّ عليه كلامه ولفظه أو أراد خلافه؟ فإن ادَّعى أنه أراده فالكلام معه في: المقام الرَّابع: وهو أن هذا المراد حقٌّ في نفسه أم باطلٌ؟ فإن كان حقًّا لم يتصور أن يُعارضه دليلٌ عقليٌّ البتةَ، وإن كان باطلًا انتقلنا معه إلى: مقامٍ خامسٍ: وهو أنه هل كان يعلم الحقَّ في نفس الأمر أو لا يعلمه؟ فإن قال: لم يكن عالمًا به، فقد نسبه إلى الجهل. وإن قال: كان عالمًا به انتقلنا معه إلى: مقامٍ سادسٍ: وهو أنه هل كان يمكنه التعبير والإفصاح عن الحقِّ ـ كما فعلتم أنتم بزعمكم ـ أم لم يكن ذلك ممكنًا له؟ فإن لم يكن ذلك ممكنًا له كان تعجيزًا له ولمرسله عن أمرٍ قدر عليه أفراخ الفلاسفة، وتلامذة اليهود، وأوقاح [ق 51 أ] المعتزلة والجهمية. وإن كان ممكنًا له ولم يفعله كان ذلك غشًّا للأُمة، وتوريطًا لها في الجهل بالله وأسمائه وصفاته، واعتقاد ما لا يليق بعظمته فيه، وأن الجهمية والمعتزلة وأفراخ اليونان وورثة الصَّابئين والمجوس هم الذين نزَّهوا الله سبحانه عمَّا لا يليق به، ووصفوه بما (1) يليق به، وتكلموا بالحقِّ الذي كتمه الرَّسول. وهذا أمرٌ لا محيد لكم عنه، _________ (1) بعده في «ح»: «لا». وهي زيادة مفسدة للمعنى.
(1/527)
فاختاروا أي قسمٍ شئتم من هذه الأقسام. والظَّاهر أنكم متنازعون في الاختيار، وأن عقلاءكم مختارون أن الرَّسول كان يعرف الحقَّ في خلاف ما أخبر به، وإن كان قادرًا على التعبير عنه، ولكن ترك ذلك خشية التنفير، فخاطب النَّاس خطابًا جمهوريًّا يناسب عقولهم بما الأمر بخلافه. وهذا أحسن أقوالكم إذا آمنتم بالرَّسول وأقررتم بما جاء به. الوجه السَّابع والثلاثون: أنه إذا جُوِّز أن يكون في العقل ما يُعارض ما أخبر به الرَّسول كان الإيمان الجازم موقوفًا على العلم بانتفاء ذلك المُعارض، ومشروطًا به، والمشروط بالشيء يُعدم عند عدمه، ومعلومٌ أن ما يستخرجه النَّاس بعقولهم أَمْرٌ لا غاية له، سواء (1) كان حقًّا أو باطلًا. فإذا جوَّز المجوز أن يكون في المعقولات ما يناقض خبر الرَّسول لم يمكنه أن يثق (2) بشيءٍ من أخبار الرَّسول؛ لجواز أن يكون في المعقولات التي لم تظهر له بعدُ ما يناقض خبره. فإن قال: أنا أقرُّ من السمعيات بما لم ينفه العقل، وأثبت من الصِّفات ما لم يخالفه العقل؛ لم يكن لقوله ضابطٌ، فإنه وقف التصديق بالسمع على أمرٍ لا ضابط له، وما كان مشروطًا بعدم أمرٍ لا ينضبط لم ينضبط. فلا يبقى مع هذا الأصل إيمانٌ جازمٌ البتةَ. ولهذا تجد من تعوَّد معارضة الشرع بالرَّأي لا يستقر في قلبه إيمانٌ أبدًا، ولا يكون الرجل مؤمنًا حتى يؤمن بالرَّسول إيمانًا جازمًا، ليس مشروطًا _________ (1) «ح»: «سواءهم». (2) بعده في «ح»: «به». وهي زائدة.
(1/528)
بعدم معارضٍ. فإذا قال: أنا أؤمن بخبره ما لم يظهر له معارضٌ يدفعه؛ لم يكن مؤمنًا به، كما لو قال: أنا أشهد أن لا إله إلَّا الله إلَّا أن يكون في العقل دليلٌ يدل على إثبات إلهٍ آخر. أو يقول: أنا أؤمن بالمعاد إلَّا أن يكون في العقل دليلٌ ينفيه. أو يقول: أنا أؤمن بالرَّسول إلَّا أن يكون في العقل ما يبطل رسالته. فهذا وأمثاله ليس بمؤمنٍ جازمٍ بإيمانه، وأحسن أحواله أن يكون شاكًّا. الوجه الثَّامن والثلاثون: أنَّ طُرق العلم ثلاثةٌ: الحسُّ والعقل والمركب منهما. فالمعلومات ثلاثة أقسام: أحدها: ما يُعلم بالعقل. والثَّاني: ما يُعلم بالسمع. والثَّالث: ما يُعلم بالعقل والسمع. وكلٌّ منهما ينقسم إلى ضروريٍّ ونظريٍّ، وإلى معلومٍ ومظنونٍ وموهومٍ. فليس كل ما يحكم به العقل علمًا، بل قد يكون ظنًّا، وقد يكون وهمًا كاذبًا، كما أن ما يدركه السمع والبصر كذلك. فلا بد من حَكَمٍ يفصل بين هذه الأنواع، ويميِّز بين معلومها ومظنونها وموهومها، فإذا اتفق العقل والسمع والعقل والحسُّ على قضيةٍ كانت معلومةً يقينيةً، وإن انفرد بها الحسُّ عن العقل كانت وهميةً. كما ذكر من أغلاط الحسِّ في رؤية المتحرك أشد الحركة وأسرعها ساكنًا، والسَّاكن متحركًا، والواحد اثنين، والاثنين واحدًا، والعظيم الجُرْم صغيرًا، والصغير كبيرًا، والنقطة دائرة، وأمثال ذلك. فهذه الأمور يجزم
(1/529)
بغلطها تفرُّد الحسِّ بها عن العقل. وكذلك حكم السمع قد يكون كاذبًا، وقد يكون صادقًا ضرورةً ونظرًا، وقد يكون ظنيًّا، فإذا قارنه العقل كان حكمه علمًا ضروريًّا ونظريًّا (1) كالعلم بمجرد الأخبار المتواترة، فإنه حصل بواسطة السمع والعقل، فإن السمع أدَّى إلى العقل ما سمعه من ذلك، والعقل حكم بأن المُخبرِينَ لا يمكن تواطؤهم على الكذب، فأفاده علمًا ضروريًّا أو نظريًّا على الاختلاف في ذلك بوجود المخبَر به، والنزاع في كونه ضروريًّا أو نظريًّا لفظيٌّ (2) لا فائدة فيه. وكذلك الوهم (3) يدرك أمورًا لا يدري صحيحة هي أم باطلة، فيردها إلى العقل الصريح، فما صححه منها قَبِلَه، وما حكم ببطلانه ردَّه. فهذا أصلٌ يجب الاعتناء به ومراعاته، وبه يُعلم الصحيح من الباطل. فإذا عُرف هذا فمعلومٌ أن السمع الذي دلَّ العقل على صحته أصح من السمع الذي لم يشهد له عقلٌ. ولهذا كان الخبر المتواتر أعرف عند العقل من الآحاد، وما ذاك إلَّا لأن دلالة العقل قد قامت على أن المخبرين لا يتواطؤون على الكذب، وإن كان الذي أخبروا به مخالفًا لما اعتاده المُخبَر وأَلِفَه وعَرَفه، فلا يجد مَحِيدًا عن تصديقهم. _________ (1) «ح»: «ونظير». والمثبت من «م». (2) «ح»: «نظير العظمي». (3) الوهم: من خطرات القلب، والجمع أوهام، وللقلب وهم، وتوهَّم الشيء: تخيَّله وتمثَّله، كان في الوجود أو لم يكن. «لسان العرب» (12/ 643). وينظر «التعريفات» للجرجاني (ص 276).
(1/530)
فالأدلة (1) العقلية البرهانية على صدق الرُّسل وتثبيت نبوتهم أضعاف الأدلة الدَّالة على صدق المُخبرِينَ خبر التواتر، فإن أولئك لم يَقُمْ على صدق كل واحدٍ منهم دليلٌ، وإنما أفاد اجتماعهم على الخبر دليلًا على صدقهم. والرسل ـ صلاة الله وسلامه عليهم ـ قد قامت البراهين اليقينية على صدق كل فردٍ فردٍ منهم [ق 51 ب] وقد اتفقت كلمتهم وتواطَأَ خبرهم على إثبات العلوِّ والفوقية لله، وأنه على عرشه فوق سماواته بائنٌ من خلقه، وأنه مكلَّمٌ متكلِّمٌ، آمِرٌ ناهٍ، يرضى ويغضب، ويُثيب ويعاقب، ويُحبُّ ويُبغض. فإفادة خبرهم العلم بالمخبر عنه أعظم من إفادة الأخبار المتواترة لمخبرها، فإن الأخبار المتواترة مستندةٌ إلى حسٍّ قد يغلط، وأخبار الأنبياء مستندةٌ إلى وحيٍ لا يغلط، فالقدح فيها بالعقل من جنس شُبه السوفسطائية القادحة في الحسِّ والعقل. ولو التفتنا إلى كل شبهةٍ يُعارض بها الدليل القطعي لم يبق لنا وثوقٌ بشيءٍ نعلمه بحسٍّ أو عقلٍ أو بهما. يوضحه: الوجه التَّاسع والثلاثون: أن المعلومات الغائبة التي لا تُدرك إلَّا بالخبر أضعاف أضعاف المعلومات التي تدرك بالحسِّ والعقل، بل لا نسبة بينهما بوجهٍ من الوجوه. ولهذا كان إدراك السمع أعمَّ وأشمل من إدراك البصر، فإنه يُدرك الأمور المعدومة والموجودة والحاضرة والغائبة، والعلوم التي لا تدرك بالحسِّ. وهذا حُجة مَن فضَّل السمع على البصر من النُّظار وغيرهم، وخالفهم آخرون، فرجَّحوا البصر على السمع لقوة إدراكه وجزمه بما يدركه، وبُعده من الغلط. وبين الفريقين مباحثاتٌ يطول ذكرها، قد ذكرها ابن قتيبة (2) _________ (1) «ح»: «بالأدلة». والمثبت من «م». (2) أشار إلى ذلك في «تأويل مشكل القرآن» (ص 5 - 6).
(1/531)
وأبو المعالي الجويني وغيرهما. وفَصْل النِّزاع بينهما أن ما يُدرك بالسمع أعمُّ وأشمل، وما يُدرك بالبصر أتمُّ وأكمل، فهذا له القوة والتمام، وذاك له العموم والإحاطة (1). والمقصود أن الأمور الغائبة عن الحسِّ نسبة المحسوس إليها كقطر في بحرٍ، ولا سبيل إلى العلم بها إلَّا بخبر الصَّادق، وقد اصطفى الله من خلقه أنبياء، نبَّأهم من هذا الغيب بما يشاء، وأطلعهم منه على ما لم يُطلِع عليه غيرهم، كما قال تعالى: {* مَّا كَانَ اَللَّهُ لِيَذَرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اَللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى اَلْغَيْبِ وَلَكِنَّ اَللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ} [آل عمران: 179] وقال تعالى: {عَالِمُ اُلْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ اِرْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن: 26 - 27] وقال تعالى: {اِللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ اَلْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ اَلنَّاسِ إِنَّ اَللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 73]. فهو سبحانه يصطفي من يُطلعه من أنباء الغيب على ما لم يُطلع عليه غيره، ولذلك سُمِّي نبيًّا ـ من الإنباء وهو الإخبار ـ لأنه مخبَرٌ من جهة الله، ومخبِرٌ عنه، فهو منبَّأٌ ومنبِّئٌ. وليس كل ما أخبر به الأنبياء يمكن معرفته بدون خبرهم، بل ولا أكثره. ولهذا كان أكمل الأُمم علمًا أتباع الرُّسل، وإن كان غيرهم أحذق منهم _________ (1) وهذا ترجيح شيخ الإسلام ابن تيمية في «درء التعارض» (7/ 325) وفي «الرد على المنطقيين» (ص 96) ونقله المصنف عنه في «بدائع الفوائد» (1/ 124). وقد توسَّع المصنف في بيان هذه المسألة في «بدائع الفوائد» (1/ 123 - 130، 3/ 1106 - 1108).
(1/532)
في علم الرَّمل (1) والنجوم والهندسة والقسطة (2) وعلم الكمِّ المتصل والمنفصل (3) وعلم النبض (4) والقارورة والأبوال ومعرفة قوامها وطعومها ورائحتها (5) ونحوها من العلوم التي لما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بها، وآثروها على علوم الرسل وما جاءوا به. وهي كما قال الواقف على نهاياتها الواصل إلى غاياتها وهي بين ظنون كاذبة، وإن بعض الظنِّ إثمٌ، وبين علوم غير (6) نافعة، ونعوذ بالله من علمٍ لا ينفع، وإن نفعت فنَفْعها بالنسبة إلى علوم الأنبياء كنفع العيش العاجل بالنسبة إلى الآخرة ودوامها. فليس العلم في الحقيقة إلَّا ما أخبرت به الرُّسل عن الله عز وجل طلبًا _________ (1) الرَّمل: علم يبحث فيه عن المجهولات، وهو خرافة. «المعجم الوسيط» (1/ 374). وينظر: «أبجد العلوم» (2/ 304 - 305) و «كشاف اصطلاحات العلوم» للتهانوي (1/ 874). (2) كذا في «ح»، وبعض نسخ «هداية الحيارى» للمصنف (ص 276). وليست هذه الكلمة في «م»، ولم أدر ما المقصود منها. (3) الكم: هو العرض القابل للانقسام بالذات، وهو على نوعين: متصل ومنفصل، فعلم الحساب: علم بالكم المنفصل، والهندسة: علم بالكم المتصل. ينظر: «مجموع الفتاوى» (9/ 126) ... و «دستور العلماء» (3/ 103). (4) النبض: ضربات الشرايين من انقباضات القلب، يستدل بها على حالة الجسم من صحة ومرض، يقال: جسَّ الطبيب نبضه. «المعجم الوسيط» (2/ 897). وقد تكلم ابن سينا عن النبض في «القانون» (1/ 168 - 182) في تسعة عشر فصلًا. (5) يشير إلى تحليل الأبوال في القارورة لمعرفة حال الصحة والمرض، وقد تكلم ابن سينا عن معرفة الأبوال في «القانون» (1/ 183 - 198) في اثني عشر فصلًا. (6) «غير» من «م».
(1/533)
وخبرًا، فهو العلم المُزكِّي للنفوس، المُكمِّل للفِطَر، المُصحِّح للعقول، الذي خصَّه الله باسم العلم، وسمَّى ما عارضه ظنًّا لا يغني من الحقِّ شيئًا، وخرصًا وكذبًا، فقال تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ} [آل عمران: 60]. وشهد لأهله أنهم أولو العلم، فقال تعالى: {وَقَالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اُلْعِلْمَ وَاَلْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثتُّمْ فِي كِتَابِ اِللَّهِ إِلَى يَوْمِ اِلْبَعْثِ} [الروم: 56]. وقال: {شَهِدَ اَللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَاَلْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا اُلْعِلْمِ} [آل عمران: 18] والمراد أولو العلم بما أنزله على رسله ليس إلَّا، ليس المراد أولو العلم بالمنطق والفلسفة وفروعهما (1). وقال تعالى: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 111] فالعلم الذي أمره باستزادته هو علم الوحي، لا علم الكلام والفلسفة والمنطق. وقال تعالى: {* لَّكِنِ اِللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 165] أي: أنزله وفيه عِلْمُه (2)، لا يعلمه البشر. فالباء للمصاحبة، مثل قوله: {* فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاَعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اِللَّهِ} [هود: 14] أي: أُنزل وفيه علم الله (3)، وذلك من أعظم البراهين على صحة نبوة من جاء به. ولم يصنع _________ (1) «ح»: «وفروعهم». والمثبت من «م». (2) وهو قول الزجاج في «معاني القرآن» (2/ 134) وأبي علي الفارسي في «الحجة للقراء السبعة» (2/ 160). وينظر «التفسير البسيط» (7/ 199). (3) قال الزجاج في «معاني القرآن» (3/ 42): «ومعنى {أُنزِلَ بِعِلْمِ اِللَّهِ} أي: أُنزل والله عالم بإنزاله، وعالم أنه حقٌّ من عنده، ويجوز أن يكون ـ والله أعلم ـ {بِعِلْمِ اِللَّهِ} أي: بما أنبأ الله فيه من غيبٍ، ودلَّ على ما سيكون وما سلف، ممَّا لم يقرأ به النبي - صلى الله عليه وسلم - كتابًا، وهذا دليل على أنه من عند الله».
(1/534)
شيئًا من قال إن المعنى أنزله وهو يعلمه، [ق 52 أ] وهذا وإن كان حقًّا، فإن الله يعلم كل شيءٍ، فليس في ذلك دليلٌ وبرهانٌ على صحة الدعوى، فإن الله يعلم الحق والباطل، بخلاف ما إذا كان المعنى أنزله متضمنًا لعلمه الذي لا يعلمه غيره إلَّا من أطلعه عليه فأعلمه به، فإن هذا من أعظم أعلام النُّبوة والرِّسالة. وقال فيما عارضه من الشُّبه الفاسدة التي يُسميها أربابها قواطع عقلية: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا اَلظَّنَّ وَإِنَّ اَلظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ اَلْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28] وقال: {إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا اَلظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 149]. وقال لمن أنكر المعاد بعقله: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا اَلدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا اَلدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 23]. والظنُّ الذي أثبته سبحانه للمعارضين نصوصَ الوحي بعقولهم ليس هو الاعتقاد الرَّاجح؛ بل هو أَكْذب (1) الحديث، وقال: {قُتِلَ اَلْخَرَّاصُونَ (10) اَلَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} (2) [الذَّاريات: 10 - 11] وأنت إذا تأمَّلْت ما عند هؤلاء المعارضين لنصوص الأنبياء بعقولهم رأيته كله خرصًا، وعلمت أنهم هم الخرَّاصون، وأن العلم في الحقيقة ما نزل به الوحي على الأنبياء والمرسلين، وهو الذي أقام الله به حُجته، وهدى به أنبياءه ورُسُله وأتباعهم (3)، وامتنَّ _________ (1) «ح»: «الكذب». والمثبت من «م». وقد أخرج البخاري (5143) ومسلم (2563) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث». (2) قال الواحدي في «التفسير البسيط» (20/ 431 - 432): «{قُتِلَ اَلْخَرَّاصُونَ} قال جماعة المفسرين وأهل المعاني: لُعن الكذَّابون». (3) بعده في «ح»: «به».
(1/535)
عليهم؛ فقال: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ اُلْكِتَابَ وَاَلْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (150) فَاَذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاَشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 150 - 151]. وقال: {وَأَنزَلَ اَللَّهُ عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ وَاَلْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اُللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 112]. وقال: {لَقَدْ مَنَّ اَللَّهُ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ اُلْكِتَابَ وَاَلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [آل عمران: 164]. وقال: {هُوَ اَلَّذِي بَعَثَ فِي اِلْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ اُلْكِتَابَ وَاَلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الجمعة: 2]. فهذه النعمة والمنَّة والتزكية إنما هي لمَن عرف أن ما جاء به الرَّسول وأخبر به عن الله وصفاته وأفعاله هو الحق كما أخبر به، لا [لمن] (1) زعم أن ذلك مخالفٌ لصريح العقل، وأن العقول مقدَّمة عليه، والله المستعان. الوجه الأربعون: أن علوم الأنبياء وما جاؤوا به عن الله لا يُمكن أن يُدرك بالعقل ولا يُكتسب، وإنما هو وحيٌ أوحاه الله إليهم بواسطة الملَك، أو كلامٌ يُكلِّم به رسوله منه إليه بغير واسطة، كما كلَّم موسى. وهذا متفَقٌ عليه بين جميع أهل الملل المقرِّين بالنبوة والمصدِّقين للرُّسل. وإنما خالفهم في ذلك جهلة الفلاسفة وسفلتهم الذين يقولون: إن _________ (1) «ح»، «م»: «كمن».
(1/536)
الأنبياء يعلمون ما يعلمونه بقوةٍ عقليةٍ، وهم أكمل من غيرهم في قوة الحدس، ويُسمونها القوة القدسية. قالوا: ويتميز النبي عن غيره بقوة التخيل والتخييل، فيتخيل الأمور للعقول في الصور المحسوسة، ويُخيلها إلى النَّاس في قوالب تلك الصور. ويتميز أيضًا بقوة النفس، فيتصرف بقوتها في مواد العلم وعناصره بقلب بعضها إلى بعضٍ. فهذه عندهم خواصُّ النبوة، فالأنبياء عندهم من جنس غيرهم من البشر، ونبواتهم من جنس صنائع النَّاس وسياساتهم ورياضاتهم، حتى قال أقرب هؤلاء إلى الإسلام: «اعلم أن أصول الصناعات أربعة: صنعة التجارة والحدادة والنساجة والسياسة، وأصعبها صنعة السياسة، وأصعب هذه الصناعة صناعة النبوة» (1). هذا كلامه بعينه في كتابه. فلمَّا كانت النبوة عندهم في هذه المرتبة كانت علومها وأعمالها من جنس علوم البشر وأعمالهم. فالعقل مشتركٌ بينهم وبين كافة العقلاء، فلما جاءت الرسل بما لا تُدركه عقولهم، وليس في قواعدهم ونظرهم ومنطقهم ما يدلُّ عليه؛ قابلوه بالإنكار، وقالوا: قد تعارض العقل وما جئتم به، وإذا تعارض العقل وخبركم فلا سبيل إلى تقديم أخباركم على العقل لأن ذلك يتضمن القدح فيه. فهؤلاء هم الذين عارضوا أولًا بين العقل والوحي، وهم الذين أسسوا هذه القاعدة، ووضعوا هذا البناء؛ إذ كانت علوم الأنبياء وعقولهم عندهم من جنس علومهم وعقولهم، وربما رجَّحوا علم الفيلسوف وعقله، وبعضهم يرجح النبي من وجهٍ، والفيلسوف من وجهٍ. فهؤلاء إذا عارضوا بين العقل والنقل، ثم قدَّموا العقل على النقل عملوا بمقتضى أصولهم وقواعدهم. أمَّا مَن عرف الرُّسل وآمن بهم، وعلم أن الله _________ (1) لم أقف على هذا القول.
(1/537)
أرسلهم، وأوحى إليهم من غيبه ما لم يُطلِع عليه سواهم، وأن نسبة عقول العالمين وعلومهم إليهم أقل بكثيرٍ من نسبة عقول صبيان المكاتب إلى عقول العقلاء، وأن بين ما جاؤوا به من عند الله وبين ما عند هؤلاء كما يدخل الرَّجل إصبعه في اليم، والأمر فوق ذلك. يوضحه: الوجه الحادي والأربعون: [ق 52 ب] وهو أن يُقال لهؤلاء المعارضين بين العقل ونصوص الوحي: أخبرونا عن خلق هذا النوع الإنساني من قبضة تراب، وعن [رجل] (1) دعا على (2) قومه ألَّا يَدَعَ الله منهم على الأرض ديَّارًا، فأرسل السماء عليهم، وأنبع الماء من تحتهم من بيت النار حتى علا الماء فوق رؤوس شواهق الجبال علوًّا عظيمًا، ثم ابتلعته الأرض شيئًا فشيئًا حتى عادت يَبَسًا. وعن رجلٍ دعا على قومه ـ وهم أعظم النَّاس أجسامًا وأشدهم قوةً ـ فأُرسلتْ عليهم بدعوته ريحٌ عاصفٌ، جعلت تحملهم بين السماء والأرض ثم تدق أعناقهم. وعن أُمةٍ كذَّبت نبيها وسألوه آيةً، فانفلقت صخرةٌ بمحضرٍ لهم، وتمخَّضَت عن ناقةٍ من أعظم النُّوق قائمةً وشكلًا وهيئةً، فلمَّا تمادوا على تكذيبه سمعوا صيحة من السماء قطعت أكبادهم وقلوبهم في أجوافهم، فماتوا موتة رجلٍ واحدٍ. وعن نارٍ عظيمةٍ أُوقدت برهةً من الدهر، حتى كان الطير يمر عليها من _________ (1) زدته ليستقيم السياق. (2) «ح»: «إلى».
(1/538)
عالٍ فيقع مشويًّا، أُلقي فيها رجلٌ مكتوفًا، فصارت عليه بردًا وسلامًا، وعادت روضةً خضراء، وماءً جاريًا. وعن رجلٍ ألقى عصًا في يده فعادت ثعبانًا عظيمًا ابتلع ما بحضرته من حبالٍ وعصيٍّ لا يحصيها إلَّا الله، ثم عادت عصًا كما كانت. وعن يدٍ أدخلها صاحب هذه العصا إلى جيبه ثم أخرجها، فإذا لها شعاعٌ كشعاع الشمس. وعن ماءٍ انقلب دمًا في آنيته ومواضعه. وعن كثيبٍ (1) عظيمٍ ضربه بعصاه فاستحال قَمْلًا كلُّه سُلِّط على أهل بلدٍ عظيمٍ. وعن بحر ضربه بعصاه فانفلق اثني عشر طريقًا، ثم أُرسلت عليه (2) الريح والشمس فأيبسته في ساعةٍ، وقام الماء بين تلك الطرق كالحياض، فلمَّا جاوزه وسلكه آخرون ضربه بعصاه فالتأم عليهم، فلم يُفلت منهم إنسانٌ. وعن جبلٍ قُلع من مكانه على قدر عسكرٍ عظيمٍ حتى رُفع فوق رؤوسهم، وقيل لهم: إن تقبلوا ما أُمرتم به، وإلَّا أُطبق عليكم، ثم رُدَّ إلى مكانه. وعن قومٍ أمسَوْا وهم في صور بني آدم، فأصبحوا وهم في صور القردة والخنازير. _________ (1) الكثيب: قطعة من الرمل، شبه الربوة من التراب. «مشارق الأنوار» (1/ 336). (2) «ح»: «عليهم».
(1/539)
وعن مُدُنٍ قُلعت من أصولها، ثم رُفعت في الهواء، ثم أُفِكَتْ (1) بأهلها، وجُعل عاليها سافلها، وأُتبعت بمطرٍ من الحجارة. وعن رجلٍ وُلد من غير أبٍ، وامرأةٍ خرجت من غير أمٍّ، ورجل يمسح على عين الذي وُلد أَكْمَهَ (2) ويدعو الله، فإذا به يبصر بعينين كالصحيح، ويمسح الأبرص ليبرأ كأن لم يكن به بأسٌ، وينفخ في كُبَّةٍ (3) من الطين فينقلب طائرًا له لحمٌ ودمٌ وريشٌ، وجماعة ينامون في غارٍ ثلاثمائة وتسع سنين، لم تأكل الأرض لحومهم، ثم ينتبهون من نومهم قيامًا ينظرون. وعن رجلٍ أدركه الموت هو وحماره فمكثا مائة عامٍ، ثم قام الرجل حيًّا، وشاهد عظام حماره وهي تُكسى اللحمَ، ويتصل بعضها ببعضٍ حتى قام الحمار حيًّا، وشاهد طعامه لم يتغير، بل هو على حاله. وعن قتيلٍ قُتل بين ظهرانَيْ قومٍ، فأمرهم نبيهم أن يذبحوا بقرةً ويضربوه ببعضها، ففعلوا، فقام القتيل حيًّا ناطقًا، وقال: فلان قتلني. وعن رسولٍ سأله قومه آيةً فأومأ إلى القمر فانشقَّ فلقتين ـ وهم يشاهدونهما ـ ثم عاد فالتأم، وقدم السَّفْر فأخبروا برؤية ذلك عيانًا (4). _________ (1) أي: قُلبت، يقال: ائتفكت البلدة بأهلها أي: انقلبت. والمؤتفكات: المدن التى قلبها الله تعالى على قوم لوط عليه السلام. «الصحاح» (4/ 1573). (2) الأكمه: الذي يُولد أعمى. «الصحاح» (6/ 2247). (3) الكُبُّ: الشيء المجتمع من تراب وغيره، وكُبَّة الغزل: ما جمع منه، مشتق من ذلك. «لسان العرب» (1/ 696). (4) أخرجه البخاري (3637) ومسلم (2802) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -.
(1/540)
وأنه قبض قبضةً من ترابٍ ثم رمى بها في وجوه عسكر لا يلتقي طرفاه فلم يبق منهم أحدٌ إلَّا ملأت عينيه (1). وأنه وضع يده في ماء لا يواريها، فعاد الماء حتى ملؤوا منه كل قربةٍ وكل وعاءٍ في العسكر الجرار (2). وأن جماعةً كثيرةً شبعت من بُرمةٍ بقدر جسم القطا (3). وأن جذعًا حنَّ حنين النَّاقة [العُشراء] (4) إلى ولدها إليه (5). وأن الحصى كان يُسبِّح في كفِّه وكفِّ بعض أصحابه تسبيحًا يسمعه الحاضرون (6). _________ (1) أخرجه مسلم (1177) عن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه -. (2) أخرجه مسلم (3013) عن جابر - رضي الله عنه -. (3) أخرجه البخاري (3578) ومسلم (2040) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -. (4) «ح»: «العشار». والعِشار: جمع عُشراء، وهي الناقة التى أتت عليها من يوم أرسل فيها الفحل عشرة أشهر وزال عنها اسم المخاض، ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع، وبعد ما تضع أيضًا. «الصحاح» (2/ 747). (5) أخرجه البخاري (3583) عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -. وقال ابن كثير في «البداية والنهاية» (8/ 679): «قد ورد من حديث جماعة من الصحابة بطرق متعددة تفيد القطع عند أئمة هذا الشأن وفرسان هذا الميدان؛ قال القاضي عياض في كتابه «الشفا»: وهو حديث مشهور منتشر متواتر، خرجه أهل الصحيح، ورواه من الصحابة بضعة عشر». وينظر «موافقة الخُبْر الخبر» لابن حجر (1/ 221). (6) أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» (1146) والبزار في «مسنده» (4044) والطبراني في «الأوسط» (2/ 59) من طرق عن أبي ذر - رضي الله عنه -، وقال الدارقطني في «العلل» (1104): «الحديث مضطرب». وله شاهد من حديث أنس - رضي الله عنه -، أخرجه خيثمة بن سليمان في «حديثه» (ص 106) ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (39/ 121) وصحح الحديث الشيخ الألباني في «ظلال الجنة» (1146).
(1/541)
وأن الحَجَر كان يُسلِّم عليه سلامًا يسمعه بأذنه (1). وأن بطنه شُقَّ من ثُغرة (2) نحره إلى أسفله، ثم استُخرج قلبه فغُسل ثم أُعيد، وهو حيٌّ ينظر (3). وأن شجرتين دعا بهما فأقبلتا تَخُدَّان (4) الأرض حتى قامتا بين يديه فالتزقتا، ثم رجعت كل واحدةٍ منهما إلى مكانها (5). وأن ذئبًا تكلَّم، وأن بقرةً تكلمت (6). وأن نبيًّا كان يأمر بعسكره فيقعد على بساطٍ فرسخٍ في فرسخٍ، فيأمر الريح فترتفع به بين السماء والأرض، فتحمل العسكر على متنها مسيرة شهر مقبلةً، ومسيرة شهر مدبرةً في كل يومٍ واحدٍ. وأنه أمر بسريرٍ عظيمٍ لملكة فشقَّ الأرض وصار بين يديه في أسرعَ من ردِّ الطرف. إلى أضعاف أضعاف ما ذكرنا ممَّا يشاهده النَّاس بأبصارهم عيانًا. _________ (1) تقدم تخريجه (ص 458). (2) الثُّغرة: نقرة النحر التي بين الترقوتين. «الصحاح» (2/ 605). (3) أخرجه البخاري (1636) ومسلم (162) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -. (4) أي: تشقان. «الصحاح» (2/ 468). (5) أخرجه مسلم (3012) عن جابر - رضي الله عنه -. (6) أخرجه البخاري (3471) ومسلم (2388) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
(1/542)
فهل مخالفة الأدلة القطعية لِما أخبرت به الأنبياء عن الله أعظم من مخالفتها لهذه الأمور؟ والشُّبه العقلية التي تُذكر على استحالة هذه الأمور أكثر وأقوى من الشُّبه التي يذكرونها في معارضة نصوص الوحي، بل لا نسبة بينهما، فإذا تعارضت أدلة [ق 53 أ] العقول بزعمكم وهذه الأمور ماذا تصنعون؟ أتقدمونها على أدلة العقول، فتدخلون في المؤمنين بالله ورسله، أم تكذبون بذلك وتقولون: العقل يناقض ذلك ويبطله؟! ومعارضة العقل عندكم لهذه الآيات من جنس معارضته لخبر الأنبياء، لا فرق بينهما البتةَ. بل الشُّبه التي يقيمها أعداء الرُّسل من العقل على بطلان هذه الآيات أقوى من الشُّبه التي ذكرها الجهمية والنُّفاة على بطلان ما أخبرت به الرُّسل من صفات الله، وعلوِّه على خلقه، واستوائه على عرشه، وكلامه وتكليمه، وقيام أفعاله به. فعُلم أن مَن قدَّم ما يظنُّه مِن العقل على نصوص الوحي لم يبق معه من الإيمان بالرُّسل عينٌ ولا أثرٌ، ولا حسٌّ ولا خبرٌ. وإذا كان هذا حالهم في الأمور التي قد وقعت وشاهدها النَّاس بأبصارهم، فكيف حالهم في الإيمان ببشرٍ ينزل من السماء بين ملَكين واضعًا يديه على مناكبهما والنَّاس يرونه عيانًا (1)؟ وكيف حالهم في الإيمان بأن الشمس تطلع من مغربها والنَّاس يرونها عيانًا (2)؟ وكيف بحالهم إلى غير ذلك ممَّا أخبر به الصَّادق، كدابةٍ تنشقُّ عنها _________ (1) يعني: حديث نزول عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام. وقد أخرجه مسلم (2937) عن النواس بن سمعان - رضي الله عنه -. (2) أخرجه البخاري (6506) ومسلم (157) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
(1/543)
الأرض فتخرج تكلم النَّاس وتخاطبهم (1)، إلى غير ذلك ممَّا يُقيمون بعقولهم شُبهًا يُسمونها أدلةً عقليةً تُحيل ذلك، فمن قدَّم العقل على الوحي لم يمكنه أن يجزم بصدق شيءٍ من ذلك، والله المستعان. الوجه الثَّاني والأربعون: أن هؤلاء عكسوا شِرعة الله وحكمته، وضادوه في أمره، فإن الله سبحانه جعل الوحي إمامًا، والعقل مؤتمًّا به، وجعله حاكمًا والعقل محكومًا عليه، ورسولًا والعقل مرسلًا إليه، وميزانًا والعقل موزونًا به، وقائدًا والعقل منقادًا له. فصاحب الوحي مبعوثٌ، وصاحب العقل مبعوثٌ إليه، والآتي بالشرع مخصوصٌ بوحي من الله، وصاحب العقل مخصوصٌ ببحثٍ عن رأيٍ وفكرةٍ، وصاحب الوحي ملقًّى (2)، وصاحب العقل كادحٌ طالبٌ. هذا يقول: أُمرت، ونُهيت، وأُوحي إليَّ، وقيل لي، وما أقول شيئًا من تلقاء نفسي، ولا من قِبَل عقلي، ولا من جهة فكري ونظري. وذاك المتخلف يقول: نظرت، ورأيت، وفكرت، وقدَّرت، واستحسنت، واستنتجت. والمتخلف يقول: معي آلة المنطق، والكليات الخمس (3)، والمقولات _________ (1) جاء ذكرها في قول الله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ اَلْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ اَلْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ إِنَّ اَلنَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} [النمل: 84]. وأخرج مسلم (2901) عن حذيفة بن أسيد - رضي الله عنه - خبرها. (2) أي: متلقى، مأخوذ من قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى اَلْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل: 6]. (3) الكليات الخمس: هي الجنس، والنوع، والفصل، والخاصة، والعرض العام. «المعجم الفلسفي» (2/ 239).
(1/544)
العشر (1)، والمختلطات، والموجهات (2) أهتدي بها. والرَّسول يقول: معي كتاب الله وكلامه ووحيه. والمتخلف يقول: معي العقل. والرَّسول يقول: معي نور خالق العقل، به أهدي وأهتدي. والرَّسول يقول: قال الله كذا، قال جبريل عن الله كذا. والمتخلف يقول: قال أفلاطون، قال بقراط، قال أرسطو كذا، قال ابن سينا، قال الفارابي. فيُسمع من الرَّسول ظاهر التنزيل، وصحيح التأويل، وشرع سنة، وأمرٌ بمعروفٍ، ونهيٌ عن منكر، وخبرٌ عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، وخبرٌ عن السماء والملائكة واليوم الآخر. ويُسمع من الآخر: الهيولي (3) والصورة، والطبيعة، والأُسُتُقُصُّ (4)، والذَّاتي (5)، والعَرَضي، والجنس، والنوع، والفصل، والخاصة، والأيس والليس (6)، وعكس النقيض (7)، ........................................... _________ (1) تقدم تفسيرها (ص 487). (2) تقدم تعريفها (ص 487). (3) هيولى كل جسم: هو الحامل لصورته، كالخشب للسرير والباب، وكالفضة للخاتم والخلخال، وكالذهب للدينار والسوار. والهيولى يُسمى المادة والعنصر والطينة. والصورة تُسمى الشكل والهيئة والصيغة. «مفاتيح العلوم» للخوارزمي (ص 158). (4) الاستقص: الشيء البسيط الذي منه يتركب المركب. وتقدم (ص 487). (5) الذاتي هو الوصف المقوم لماهية الشيء، والعرضي هو الوصف الخارج عن الماهية. ينظر «شرح الإشارات والتنبيهات» للطوسي (1/ 151 - 153). (6) أي: الوجود والعدم. وينظر «العين» للخليل بن أحمد (7/ 300). (7) عكس النقيض: هو جعل نقيض الجزء الثاني من القضية الحملية جزءًا أولًا، ونقيض الأول ثانيًا مع بقاء الكيف والصدق بحالهما، فإذا قلنا: كل إنسان حيوان. كان عكسه: كل ما ليس بحيوان ليس بإنسان. «التعريفات» (ص 159).
(1/545)
والعكس المستوي (1). وما شاكل هذا ممَّا لا يسمع من مسلمٍ ولا يهوديٍّ ولا نصرانيٍّ ولا مجوسيٍّ إلَّا من رضي لنفسه بما رضي به هؤلاء المتخلفون لأنفسهم، ورغب فيما رغبوا فيه. وبالجملة فهما طريقان متباينان، فمن أراد أن يتمعقل بعقول هؤلاء فليعزل نظره عن الوحي، ويُخَلِّ بينه وبين أهله، ومن أحب أن يكون من أهل العقل والوحي فليعتصم بالوحي ويستمسك بغَرْز (2) من جاء به، ويُسلِّم إليه أعظم من تسليم الصبي لأستاذه ومُعلِّمه بكثيرٍ؛ فإن التبايُن الذي بين النَّبي وبين صاحب المعقول أضعاف أضعاف التباين الذي بين الصبي والأستاذ. ومن العجب أن هؤلاء المقدِّمين عقولهم على الوحي خاضعون لأئمتهم وسلفهم، مستسلمون لهم في أمورٍ كثيرةٍ. يقولون: هم أعلم بها منَّا، وعقولهم أكمل من عقولنا، فليس لنا أن نعترض عليهم. فكيف يعترض على الوحي بعقله مَن نسبته إليه أدق وأقل من نسبة عقل الطفل إلى عقله؟! وجِمَاع الأمر أن قضايا المعقول مشتملة على العلم والظنِّ والوهم، وقضايا الوحي كلها حقٌّ، فأين قضايا مأخوذة عن عقلٍ قاصرٍ عاجزٍ عرضةٍ للخطأ من قضايا مأخوذة عن خالق العقول وواهبها هي كلامه وصفاته؟! _________ (1) العكس المستوي: هو عبارة عن جعل الجزء الأول من القضية الحملية ثانيًا، والجزء الثاني أوَّلًا، مع بقاء الصدق والكيف بحالهما، كما إذا أردنا عكس قولنا: كل إنسان حيوان. بدلنا جزأَيْه، وقلنا: بعض الحيوان إنسان. أو عكس قولنا: لا شيء من الإنسان بحجر. قلنا: لا شيء من الحجر بإنسان. «التعريفات» (ص 159). (2) الغَرْز: ركاب كور الجمل، مثل الركاب للسرج، وقوله: يستمسك بغرزه: أي يعتلق به ويمسكه، ويتبع قوله وفعله، ولا يخالفه. «النهاية في غريب الحديث» (3/ 359).
(1/546)
الوجه الثَّالث والأربعون: أن العقل تحت حَجْر (1) الشرع فيما يطلبه ويأمر به، وفيما يحكم به ويُخبر عنه، فهو محجورٌ عليه في الطلب والخبر، وكما أن من عارض أمر الرُّسل بعقله لم يُؤمن بهم وبما جاؤوا به؛ فكذلك من عارض [ق 53 ب] خبرهم بعقله، ولا فرق بين الأمرين أصلًا. يُوضِّحه أن الله سبحانه وتعالى حكى عن الكفار معارضة أمره بعقولهم، كما حكى عنهم معارضة خبره بعقولهم. أمَّا الأول: ففي قوله تعالى: {اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ اَلرِّبَاا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ اُلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اُلشَّيْطَانُ مِنَ اَلْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا اَلْبَيْعُ مِثْلُ اُلرِّبَاا وَأَحَلَّ اَللَّهُ اُلْبَيْعَ وَحَرَّمَ اَلرِّبَاا} [البقرة: 274]. فعارضوا تحريمه للرِّبا بعقولهم التي سوَّت بين الرِّبا والبيع، فهذا معارضة النصِّ بالرَّأي. ونظير ذلك ممَّا عارضوا به تحريم الميتة بقياسها على المذكَّى، وقالوا تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ممَّا قتل الله. وفي ذلك أنزل الله: {وَإِنَّ اَلشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 122] (2). وعارضوا أمره بتحويل القبلة بعقولهم، وقالوا: إن كانت القبلة الأولى حقًّا فقد تركتَ الحقَّ، وإن كانت باطلًا فقد كنتَ على باطلٍ. _________ (1) الحَجْر: المنع من التصرف، ومنه: حَجَر القاضي على الصغير والسفيه: إذا منعهما من التصرف في مالهما. «النهاية في غريب الحديث» (1/ 342). (2) أخرجه أبو داود (2818، 2819) والنسائي في «السنن الكبرى» (4511) وابن ماجه (3173) والحاكم (4/ 113، 231، 233) والضياء في «المختارة» (10/ 256 - 257) عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -.
(1/547)
وإمام هؤلاء شيخ الطريقة إبليس ـ عدو الله ـ؛ فإنه أول من عارض أمر الله بعقله، وزعم أن العقل يقتضي خلافه. وأما الثَّاني: وهو معارضة خبره بالعقل؛ فكما حكى سبحانه عن منكري المعاد أنهم عارضوا ما أخبر به عنه بعقولهم، فقال تعالى: {* وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِ اِلْعِظَامَ وَهْيَ رَمِيمٌ} [يس: 77] وأخبر سبحانه أنهم عارضوا ما أخبر به من التوحيد بعقولهم، وعارضوا أخباره عن النُّبوات بعقولهم، وعارضوا بعض الأمثال التي ضربها بعقولهم، وعارضوا أدلة نبوة رسوله بمعارضة عقلية، وهي قولهم: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا اَلْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ اَلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 30]. وأنت إذا صُغتَ هذه المعارضة صوغًا مزخرفًا وجدتها من جنس معارضة المعقول للمنقول. وعارضوا آيات نبوته بمعارضة عقلية أخرى وهي قولهم: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا اَلرَّسُولِ يَأْكُلُ اُلطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي اِلْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} [الفرقان: 7 - 8] أي: لو كان رسولًا لخالق السماوات والأرض لما أحوجه أن يمشي بيننا في الأسواق في طلب المعيشة، ولَأغناه عن أكل الطعام، ولَأرسل معه مَلَكًا من الملائكة، ولَألقى إليه كنزًا يُغنيه عن طلب الكسب. وعارضوا شرعه سبحانه ودينه الذي شرعه لهم على لسان رسوله وتوحيده بمعارضةٍ عقليةٍ استندوا فيها إلى (1) القَدَر، فقال تعالى: {سَيَقُولُ اُلَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اَللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ اَلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا _________ (1) «إلى» سقط من «ح». وأثبته من «م».
(1/548)
إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا اَلظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (149) قُلْ فَلِلَّهِ اِلْحُجَّةُ اُلْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149 - 150]. وحكى مثلَ هذه المعارضة عنهم في سورة النحل (1) وفي الزخرف (2)، وإذا تأمَّلْتها حق التَّامُّل رأيتها أقوى بكثيرٍ من معارضة النُّفاة آيات الصِّفات وأخبارهم بعقولهم، فإن إخوانهم عارضوا بمشيئة الله للكائنات (3)، والمشيئة ثابتةٌ في نفس الأمر، والنُّفاة عارضوا بأصولٍ فاسدةٍ هم وضعوها من تلقاء أنفسهم، أو تلقَّوْها عن أعداء الرُّسل من الصَّابئة والمجوس والفلاسفة، وهي خيالات فاسدة، ووهميات ظنوها قضايا عقلية. وبالجملة فمعارضة أمر الرُّسل وخبرهم بالمعقولات إنما هي طريقة الكفار، فهم سلف للخلف بعدهم، فبئس السلف وبئس الخلف. ومن تأمَّلَ معارضة المشركين والكفار للرسل بالعقول وجدها أقوى من معارضة الجهمية والنُّفاة لخبرهم عن الله وصفاته وعُلُوِّه على خلقه وتكليمه لملائكته ورسله بعقولهم، فإن كانت تلك المعارضة باطلةً فهذه أبطل، وإن صحت هذه المعارضة فتلك أولى بالصحة منها، وهذا لا محيد لهم عنه، يوضحه: الوجه الرَّابع والأربعون: أن القرآن مملوءٌ من ذكر الصِّفات والعلو على _________ (1) في قوله تعالى: {وَقَالَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اَللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ اَلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى اَلرُّسُلِ إِلَّا اَلْبَلَاغُ اُلْمُبِينُ} [النحل: 34]. (2) في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ اَلرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف: 19]. (3) «ح»: «الكائنات». والمثبت من «م».
(1/549)
الخلق، والاستواء على العرش، وتكلُّم الله وتكليمه للرُّسل، وإثبات الوجه واليدين والسمع والبصر والحياة والمحبة والغضب والرضا للرب سبحانه. وهذا عند النُّفاة بمنزلة وَصْفِه بالأكل والشرب والجوع والعطش والنوم والموت، كل ذلك مستحيلٌ عليه، ومعلوم أن إخبار الرَّسول عنه سبحانه بما هو مستحيلٌ عليه من أعظم المنفِّرات عنه، ومعارضته فيه أسهل من معارضته فيما عداه، ولم يعارضه أعداؤه في حرفٍ واحدٍ من هذا الباب، ولا أنكروا عليه كلمةً واحدةً منه، مع حرصهم على معارضته بكل ما يقدرون عليه، فهلَّا عارضوه بما عارضته به الجهمية والنُّفاة، وقالوا: قد [ق 54 أ] أخبرتنا بما يخالف العقل الصريح، فكيف يمكننا تصديقك؟! بل كان القوم على شركهم وضلالهم أَعرَفَ بالله وصفاته من النُّفاة الجهمية، وأقرب إلى إثبات الأسماء والصفات والقدر والمشيئة والفعل من شيوخ هؤلاء الفلاسفة وأتباعهم من السيناوية والفارابية والطوسية (1)، الذين ليس للعالم عندهم ربٌّ يُعبد، ولا رسول يُطاع، ولا معادَ للخليقة، ولا يُزيل الله هذا العالم ويأتي بعالمٍ آخر. فهذه الأصول قد اشتركت فيها أعداء الرُّسل، وامتازت كفار قريش بإثباتهم الربوبية والصفات والملائكة وخلق العالم وكون الرب فاعلًا بمشيئته وقدرته، ولهذا لم يعارضوا الرَّسول في شيءٍ من ذلك. الوجه الخامس والأربعون: أنه لو جاز أن يكون في العقول ما يُناقض خبر الرَّسول لم يُتصور الإيمان به البتَّةَ لوجهين: _________ (1) نسبة لابن سينا والفارابي والطوسي.
(1/550)
أحدهما: أنه لا سبيل إلى العلم بانتفاء جميع المعارض (1)، وما عُلِّق على الممتنع فهو ممتنعٌ. الثَّاني: أن تصديقهم والإيمان بهم يكون موقوفًا على الشرط، والإيمان لا يصح تعليقه بالشرط، فلو قال: آمنت بالرَّسول إن أَذِنَ لي أبي، أو إن أعطيتموني كذا، أو إن جُعل لي الأمر من بعده ونحو ذلك لم يكن مؤمنًا بالاتفاق، كما قال مسيلمة: إن جعل محمدٌ الأمر لي من بعده آمنت به، فلم يَصِرْ مؤمنًا بذلك، وكان من أكفر الكفار، فهكذا إذا قال: آمنت بما أخبر به إلَّا أن يعارضه دليلٌ عقليٌّ. وهذا حقيقة قول هؤلاء، فإن هذا لم يؤمن به باتفاق الأُمة، وهذا كما أنه كُفرٌ في الشرع فهو فاسدٌ في العقل. فالواجب على الخلق الإيمان بالرَّسول إيمانًا مطلقًا جازمًا غير معلَّقٍ على شرطٍ، ومن قال أُصَدِّق بما صدَّق عقلي به، وأردُّ ما ردَّه عقلي، أو عقل مَن هو أعقل مني أو مثلي= فهو كافرٌ باتفاق الأمة، فاسد العقل. وهو نظير طائفة من اليهود يقولون: نُصدِّق أنه رسول الله حقًّا، ولكن لم يُبعث إلينا، وإنما بُعث إلى العرب. فهذا في إنكار عموم رسالته في المرسل إليهم نظير إنكار عموم رسالته في المرسل به، فتأمَّلْه. وهؤلاء شرٌّ من الذين قال الله فيهم: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اُللَّهِ} [الأنعام: 125] فأولئك وقفوا الإيمان على أن يُؤتوا نظير ما جاءت به الرُّسل، وهؤلاء وقفوه على ما يناقض ما جاءت به الرُّسل. الوجه السَّادس والأربعون: أن هذه المعارضة ميراث بالتعصيب مِن الذين ذمَّهم الله في كتابه بجدالهم في آياته بغير سلطانٍ وبغير علمٍ، وأخبر أن _________ (1) كذا، ولعلها: «المعارضات».
(1/551)
مصدر تلك المجادلة كِبْرٌ واستكبارٌ عن قبول الحق ممَّن يرون أنهم أعلم منهم، كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسْلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ اَلْعِلْمِ} [غافر: 82]. وهذا شأن النفوس الجاهلة الظَّالمة إذا كان عندها شيءٌ (1) من علمٍ قد تميَّزت به عمَّن هو أجهل منها، وحصل لها به نوعُ رياسةٍ ومالٍ، فإذا جاءها من هو أعلم منها بحيث ينمحي رسوم علومها ومعارفها في علمه ومعرفته؛ عارضته بما عندها من العلم، وطعنت فيما عنده بأنواع المطاعن. قال تعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اُللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ (34) اِلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اِللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اَللَّهِ وَعِندَ اَلَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اُللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبٍ مُّتَكَبِّرٍ جَبّارٍ} [غافر: 34 - 35]. وقال تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اِللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ} [غافر: 56] والسلطان هو الكتاب المنزَّل من السماء. وقال تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ اِلْحَقَّ} [غافر: 4] وقال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ اُلْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ اُلَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ اِلْحَقَّ وَاَتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُؤًا} [الكهف: 55]. وهذا كثيرٌ في القرآن، يذم به سبحانه الذين عارضوا كتبه ورسله بما عندهم من الرَّأي والمعقول والبدع، والكلام الباطل مشتقٌّ من الكفر، فمَن عارض الوحي بآراء الرجال كان قوله مشتقًّا من أقوال هؤلاء الضُّلال. قال مالك: «أَوَكلما جاءنا رجلٌ أجدلُ من رجلٍ تركنا ما جاء به جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لجدله» (2). _________ (1) «ح»: «شيئًا». (2) أخرجه المروزي في «تعظيم قدر الصلاة» (731) وابن بطة في «الإبانة الكبرى» (2/ 507) واللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (293) والهروي في «ذم الكلام» (855، 857).
(1/552)
ومن وقف على أصول هؤلاء المعارضين ومصدرها تبيَّن له أنها نشأت من أصلين: من كِبْرٍ عن اتباع الحق، وهوًى مُعْمٍ للبصيرة، وصادمته شُبهات كالليل المظلم، فكيف لا يُعارِض مَن هذا وَصْفُه خبرَ الأنبياء بعقله وعقل من يُحسن به الظن. ثم دخلت تلك الشُّبهات في قلوب قومٍ لهم دينٌ، وعندهم إيمانٌ وخيرٌ، فعجزوا عن دفعها فاتخذوها دِينًا، وظنوها تحقيقًا لِما بعث الله به رسوله، فحاربوا عليها، واستحلوا ممَّن خالفهم فيها ما حرَّمه الله ورسوله، وهم بين جاهلٍ مقلدٍ [ق 54 ب] ومجتهدٍ مخطئٍ حَسَن القصد، وظالمٍ معتدٍ متعصِّبٍ، والقيامة موعد الجميع، والأمر يومئذٍ لله. الوجه السَّابع والأربعون: أن دلالة السمع على مدلوله متفَقٌ عليها بين العقلاء، وإن اختلفوا في جهتها هل هي قطعية أو ظنية، وهل أرادت الرُّسل إفهام مدلولها واعتقاد ثبوته (1)، أم أرادت إفهام غيره وتأويل تلك الأدلة وصَرْفَها عن ظاهرها؟! فلا نزاع بين العقلاء في دلالتها على مدلولها. ثم قال أتباع الرُّسل: مدلولها ثابتٌ في نفس الأمر وفي الإرادة. وقالت النُّفاة أصحاب التأويل: مدلولها منتفٍ في نفس الأمر وفي الإرادة. وقال أصحاب التخييل: مدلولها ثابتٌ في الإرادة منتفٍ في نفس الأمر. وأمَّا دلالة ما عارضها من العقليات على مدلوله فلم يتفق أربابها على دليلٍ واحدٍ منها. بل كل طائفةٍ منهم تقول في أدلة خصومها: إن العقل يدل على فسادها، لا على صحتها. وأهل السمع مع كل طائفة تخالفه في دلالة _________ (1) «ح»: «نبوته». والمثبت من «م».
(1/553)
العقل على فساد قول تلك الطَّائفة المخالفة للسمع، فكل طائفة تدعي فساد قول خصومها بالعقل، يُصدِّقهم أهل السمع على ذلك، ولكن يكذبونهم في دعواهم صحة قولهم بالعقل، فقد تضمنت دعوى الطوائف فسادها بفهمٍ من العقل بشهادة بعضهم على بعضٍ، وشهادة أهل الوحي والسمع معهم. ولا يُقال: هذا ينقلب عليكم باتفاق شهادة الفِرَق كلها على بطلان ما دلَّ عليه السمع، وإن اختلفوا في أنفسهم. لأن المطلوب أنهم كلَّهم متفقون على أن السمع دلَّ على الإثبات، ولم يتفقوا على أن العقل دلَّ على نقيضه، فيمتنع تقديم الدلالة التي لم يُتفق عليها على الدلالة المتفق عليها، وهو المطلوب. الوجه الخمسون (1): أن نقول (2): كل ما عارض السمع من العقليات ففساده معلومٌ بالعقل وإن لم يُعارض السمع، فلسنا (3) متوقفين في إبطاله والعلم بفساده على كونه عارَضَ السمع، بل هو باطلٌ في نفسه، ومعارضةُ السمع له دليلٌ سمعي على بطلانه، فقد اتفق على فساده وبطلانه دليل العقل والسمع، وما كان هكذا لم يصلح أن يُعارَض به عقلٌ ولا سمعٌ. وتفصيل هذه الجملة ببيان شبهة المخالفين للسمع وبيان فسادها ومخالفتها لصريح العقل، وهذا الأمر ـ بحمد الله ـ لم يزل أنصار الرَّسول يقومون به ويتكفلون _________ (1) كذا في «ح» وكتب على حاشيتها: «هكذا في الأصل». قلت: قد أتبع الوجه السابع والأربعين بالوجه الخمسين مباشرة، ولم يذكر الوجهين الثَّامن والأربعين والتَّاسع والأربعين، فإما أن يكون سقط الوجهان الثَّامن والأربعون والتَّاسع والأربعون، أو يكون ترقيم الوجوه خطأ. (2) «ح»: «يقول». (3) «ح»: «فليسا».
(1/554)
ببيانه، وهم فيه درجات عند الله على منازلهم من العلم والإيمان والبيان. ولا ترى مسألةً واحدةً عُورض بها الرَّسول إلَّا وقد ردَّها أنصاره وحزبه، وبيَّنوا فسادها، وسخافة عقل أربابها المعارضين بها في كل نوعٍ من أنواع العلم. وقد أجرى الله سُنته وعادته أن يكشف عن عورة المعارِض ويفضحه ويخذله في عقله حتى يقول ما يَضحَك منه الإنسان، كما خذل المعارض بكلامه حتى أضحك عليه النَّاس فيما عارضه به. وهذا من تمام أدلة النبوة وبراهين صحة الوحي: أن تجد المعارض له يأتي بما يضحك منه العقلاء! فلعل قائلًا يقول: ما جاءت به الرُّسل قد يكون له معارضٌ صحيحٌ، فإذا وقفَ (1) على المعارض وسخفه وتحقَّق بطلانه زاده قوة في إيمانه ويقينه. وصار ذلك بمثابة رجلٍ ادَّعى أن معه طِيبًا ليس مع أحدٍ مثله ولا مثل ريحه، فعارضه آخر بأن معه مثله أو أفضل (2) منه، فلمَّا أخرجه إذا هو أنتن شيءٍ وأخبثه ريحًا. ولكن هناك عقول جُعلية (3) نشأت في النتن والحشوش فلا تَألَف غير ما نشأت فيه! الوجه الحادي والخمسون: أن الأمور السمعية التي يُقال: إن العقل عارضها ـ كإثبات علو الله على خلقه، واستوائه على عرشه، وتكلُّمه، ورؤية العباد له في الآخرة، وإثبات الصِّفات له ـ هي ممَّا (4) عُلم بالاضطرار أن _________ (1) «ح»: «وقفت». (2) «ح»: «فضل». (3) نسبة للجُعل، وهو حيوان معروف كالخنفساء. «النهاية في غريب الحديث» (1/ 277). (4) «ح»: «ما». والمثبت من «م».
(1/555)
الرَّسول جاء بها، وعُلم بالاضطرار صحة نبوته ورسالته؛ وما عُلم بالاضطرار امتنع أن يقوم على بطلانه دليلٌ، وامتنع أن يكون له معارضٌ صحيحٌ؛ إذ لو جاز أن يكون له معارضٌ صحيحٌ لم يبق لنا وثوقٌ بمعلومٍ أصلًا، لا حسيٍّ ولا عقليٍّ، وهذا يبطل حقيقة الإنسانية، بل حقيقة الحيوانية المشتركة بين الحيوانات، فإن لها تمييزًا وإدراكًا للحقائق بحسَبها. وهذا الوجه في غاية الظهور، غني بنفسه عن التأمُّل. وهو مبنيٌّ على مقدمتين قطعيتين: إحداهما: أن الرَّسول أخبر عن الله بذلك. والثَّانية: أنه صادقٌ. ففي أي المقدمتين يقدح المعارض بين العقل والنقل؟! الوجه الثَّاني والخمسون: أن دليل العقل هو إخباره عن الذي خلقه وفَطَره أنه وضع فيه ذلك وعلمه إيَّاه وأرشده إليه، ودليل السمع هو الخبر عن الله أنه قال ذلك وتكلَّم به وأوحاه، وعرَّف به الرَّسول (1)، وأمره أن يُعرِّف [ق 55 أ] الأُمة ويخبرهم به، ولا يكون أحدهما صحيحًا حتى يكون الآخر مطابقًا لمخبره، وأن الأمر كما أخبر به. وحينئذٍ فقد شهد العقل لخبر الرَّسول بأنه صدقٌ وحقٌّ، فعَلِمْنا مطابقته لمخبره بمجموع الأمرين: بخبر الرَّسول به، وشهادة العقل الصريح بأنه لا يكذب في خبره. _________ (1) «ح»: «الرسل». والمثبت من «م».
(1/556)
وأمَّا خبر العقل عن الله بما يُضاد ذلك بأن الله وضع فيه ذلك وعلَّمه إيَّاه فلم يشهد له الرَّسول بصحة هذا الخبر، بل شهد ببطلانه، فليس معه إلَّا شهادته لنفسه بأنه صادقٌ فيما أخبر به، فكيف يقبل شهادته لنفسه مع عدم شهادة الرَّسول له، فكيف مع تكذيبه إيَّاه، فكيف مع تكذيب العقل الصريح المؤيَّد بنور الوحي له، فكيف مع تهاتُر أصحابه وتكاذبهم وتناقضهم؟! يزيده إيضاحًا: الوجه الثَّالث والخمسون: وهو أن الأدلة السمعية نوعان: نوعٌ دلَّ بطريق التنبيه والإرشاد على الدليل العقلي: فهو عقليٌّ سمعيٌّ، ومِن هذا غالب أدلة النبوة والمعاد والصفات والتوحيد، وما لا يقوم التنبيه على الدليل العقلي منه فهو (1) اليسير جدًّا منه (2). وإذا تدبَّرت القرآن رأيت هذا أغلب النوعين عليه، وهذا النوع يمتنع أن يقوم دليلٌ صحيحٌ على معارضته؛ لاستلزامه مدلوله، وانتقالُ الذهن فيه من الدليل إلى المدلول ضروريٌّ. وهو أصل للنوع الثَّاني: الدَّال بمجرد الخبر. فالقدح في النوعين بالعقل ممتنعٌ بالضرورة، أمَّا الأول فلِما تقدم، وأمَّا الثَّاني فلاستلزام القدح فيه القدح في العقل الذي أثبته، وإذا بطل العقل الذي أثبت السمع بطل ما عارضه من العقليات، كما تقدم تقريره (3). يوضحه: _________ (1) «ح»: «ما تقدَّم التنبيه على». والمثبت من «م». (2) تقدم (ص 470). (3) ينظر ما تقدم (ص 470 - 471).
(1/557)
الوجه الرَّابع والخمسون: أنه ليس في القرآن صفة إلَّا وقد دلَّ العقل الصريح على إثباتها لله، فقد تواطأ عليها دليل العقل ودليل السمع، فلا يمكن أن يُعارض ثبوتها (1) دليلٌ صحيحٌ البتةَ، لا عقلي ولا سمعي، بل إن كان (2) المعارض سمعيًّا كان كذبًا مفترًى أو ممَّا أخطأ المعارض في فهمه، وإن كان عقليًّا فهو شُبه خيالية وهمية، لا دليل عقلي برهاني. واعلم أن هذه دعوى عظيمة يُنكرها كل جهميٍّ ونافٍ وفيلسوف وقرمطيٍّ وباطنيٍّ، ويعرفها مَن نوَّر الله قلبه بنور الإيمان، وباشر قلبَه معرفةُ الذي دعت إليه الرُّسل، وأقرت به الفِطَر، وشهدت به العقول الصحيحة المستقيمة، لا المنكوسة المركوسة التي نُكست قلوب أصحابها، فرأت الحقَّ باطلًا والباطل حقًّا، والهدى ضلالةً، والضلالة هدًى. وقد نبَّه الله سبحانه في كتابه على ذلك، وأرشد إليه، ودلَّ عليه في غير موضعٍ منه، وبيَّن أن ما وصف به نفسه هو الكمال الذي لا يستحقه سواه، فجاحِده جاحدٌ لكمال الربِّ؛ فإنه تمدَّح بكل صفةٍ وَصَفَ بها نفسه، وأثنى بها على نفسه، ومجَّد بها نفسه، وحمد بها نفسه، فذكرها سبحانه على وجه المدحة له والتعظيم والتمجيد، وتعرَّف بها إلى عباده؛ ليعرفوا كماله وعظمته ومجده وجلاله. وكثيرًا ما يذكرها عند ذكر آلهتهم التي عبدوها من دونه، وجعلوها شركاء له، فيذكر سبحانه من صفات كماله وعلوه على عرشه وتكلمه وتكليمه وإحاطة علمه ونفوذ مشيئته ما هو منتفٍ عن آلهتهم؛ فيكون ذلك _________ (1) «ح»: «بثبوتها». والمثبت من «م». (2) «ح»: «كل». والمثبت من «م».
(1/558)
من أدلِّ الدليل على بطلان آلهيتها، وفساد عبادتها من دونه. ويذكر ذلك عند دعوته عباده إلى ذكره وشكره وعبادته، فيذكر لهم من أوصاف كماله ونعوت جلاله ما يجذب قلوبهم إلى المبادرة إلى دعوته، والمسارعة إلى طاعته، والتنافس (1) في القرب منه. ويذكر صفاته أيضًا عند ترغيبه لهم وترهيبه وتخويفه؛ ليُعرِّف القلوب من تخافه وترجوه وترغب إليه وترهب منه. ويذكر صفاته أيضًا عند أحكامه وأوامره ونواهيه. فقلَّ أن تجد آيةَ حُكْم من أحكام المكلفين إلَّا وهي مختتَمة بصفةٍ من صفاته أو صفتين. وقد يذكر الصفة في أول الآية ووسطها وآخرها كقوله: {قَد سَّمِعَ اَللَّهُ قَوْلَ اَلَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اَللَّهِ وَاَللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اَللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1] فيذكر صفاته عند سؤال عباده لرسوله عنه، ويذكرها عند سؤالهم له عن أحكامه، حتى إن الصلاة لا تنعقد إلَّا بذكر أسمائه وصفاته، فذكر أسمائه وصفاته روحها وسرها يصحبها من أولها إلى آخرها، وإنما أمر بإقامتها ليُذكَر بأسمائه وصفاته. وأمر عباده أن يسألوه بأسمائه وصفاته، ففتح لهم باب الدعاء رَغَبًا ورَهَبًا ليذكره الدَّاعي بأسمائه وصفاته، فيتوسَّل إليه بها. ولهذا كان أفضل الدعاء وأجوبه ما توسل فيه الدَّاعي إليه بأسمائه وصفاته. قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ اِلْأَسْمَاءُ اُلْحُسْنى فَاَدْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] وكان اسم الله الأعظم في هاتين [ق 55 ب] الآيتين: آية الكرسي وفاتحة آل عمران (2)؛ لاشتمالهما على صفة الحياة المصححة لجميع الصِّفات، _________ (1) «ح»: «ولساقس». والمثبت هو الصواب. (2) أخرج الإمام أحمد في «المسند» (28259) من طريق شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد - رضي الله عنها - قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في هاتين الآيتين {اَللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ اَلْحَيُّ اُلْقَيُّومُ} و {الم اَللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ اَلْحَيُّ اُلْقَيُّومُ}: «إن فيهما اسم الله الأعظم». وشهر فيه كلام معروف، والمشهور في لفظ هذا الحديث ما أخرجه أبو داود (1496) والترمذي (3478) وابن ماجه (3855) وغيرهم من طريق شهر عن أسماء - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ اَلرَّحْمَنُ اُلرَّحِيمُ} وفاتحة آل عمران {الم اَللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ اَلْحَيُّ اُلْقَيُّومُ}». وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وأخرج الحاكم في «المستدرك» (1/ 505 - 506) من طريق القاسم أبي عبد الرحمن عن أبي أمامة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن اسم الله الأعظم في ثلاث سور من القرآن: في سورة البقرة، وآل عمران، وطه». قال القاسم: فالتمستها أنه الحي القيوم.
(1/559)
وصفة القيومية المتضمنة لجميع الأفعال، ولهذا كانت سيدة آي القرآن وأفضلها (1). ولهذا كانت سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن (2)؛ لأنها أُخلصت للخبر عن الربِّ تعالى وصفاته دون خلقه وأحكامه وثوابه وعقابه، و «سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلًا يدعو: اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الذي لا إله إلَّا أنت المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم» (3). وسمع آخر يدعو: «اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله الذي لا إله _________ (1) أخرج مسلم (810) عن أُبي بن كعب - رضي الله عنه -. (2) أخرجه البخاري (5015) ومسلم (811) عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. (3) أخرجه أحمد (12388، 12806، 13777، 14006) وأبو داود (1495) والنسائي في «السنن الكبرى» (1224، 7654) وابن ماجه (3857) والحاكم في «المستدرك» (1/ 504) والضياء في «المختارة» (4/ 384، 5/ 257) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -.
(1/560)
إلَّا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد» (1) فقال لأحدهما: «لَقَدْ سَأَلْتَ اللهَ بِاسْمِهِ الأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى». وقال للآخر: «سَلْ تُعْطَهْ» (2). وذلك لما تضمنه هذا الدعاء من أسماء الربِّ وصفاته، وأحب ما دعاه الدَّاعي به أسماؤه وصفاته. وفي الحديث الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «مَا أَصَابَ عَبْدًا قَطُّ هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ أَنْ تَجْعَلَ القُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي وَغَمِّي، إِلَّا أَذْهَبَ اللهُ هَمَّهُ وَغَمَّهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَحًا. قالوا: أفلا نتعلمهنَّ يا رسول الله؟! قال: بَلَى، يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهُنَّ أَنْ يَتَعَلَّمَهُنَّ» (3). _________ (1) أخرجه الإمام أحمد (23418، 23431) وأبو داود (1493) والترمذي (3475) والنسائي في «السنن الكبرى» (11652) وابن حبان (891، 892) والحاكم (1/ 504) عن بريدة - رضي الله عنه -. وقال الترمذي: حديث حسن غريب. (2) لم نقف في طرق الحديثين على أن النبي (قال هذا لأحدهما، وسيأتي الحديثان بنصهما (ص 1062) ولعل المصنف عنى حديث عبد الله بن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر به وهو يصلي ومعه أبو بكر وعمر، قال ابن مسعود: فلما جلست بدأت بالثناء على الله، ثم الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم دعوت لنفسي فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «سل تعطه، سل تعطه». أخرجه أحمد (4341) والترمذي (593) وابن حبان (1970) والحاكم (1/ 705) وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. (3) أخرجه الإمام أحمد (4404) وابن حبان (972) والحاكم (1/ 509) عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. وينظر «السلسلة الصحيحة» (199).
(1/561)
وقد نبَّه سبحانه على إثبات صفاته وأفعاله بطريق المعقول، فاستيقظت لتنبيهه العقول الحية، واستمرت على رقدتها العقول الميتة، فقال الله تعالى في صفة العلم: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهْوَ اَللَّطِيفُ اُلْخَبِيرُ} [الملك: 15]. فتأمَّلْ صحة هذا الدليل مع غاية إيجاز لفظه واختصاره. وقال: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ} [النحل: 17]. فما أصح هذا الدليل وما أوجزه! وقال تعالى في صفة الكلام: {وَاَتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} [الأعراف: 148]. نبَّه بهذا الدليل على أن مَن لا يُكلِّم ولا يهدي لا يصلح أن يكون آلهًا. وكذلك قوله في الآية الأخرى عن العجل: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} [طه: 88] فجعل امتناع صفة الكلام والتكليم وعدم مِلْك الضر والنفع دليلًا على عدم الإلهية. وهذا دليلٌ عقليٌّ سمعيٌّ على أن الإله لا بد أن يُكلِّم ويتكلَّم، ويملك لعابده الضر والنفع، وإلَّا لم يكن إلهًا. وقال: {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ اُلنَّجْدَيْنِ} [البلد: 8 - 10]. نبَّهك بهذا الدليل العقلي القاطع أن الذي جعلك تبصر وتتكلم وتعلم أولى أن يكون بصيرًا متكلِّمًا عالمًا، فأيُّ دليلٍ عقليٍّ قطعيٍّ أقوى من هذا وأبين وأقرب إلى المعقول؟! وقال تعالى في آلهة المشركين المعطلين: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 195] فجعل سبحانه عدم البطش والمشي والسمع والبصر دليلًا على عدم
(1/562)
إلهية من عُدمت فيه هذه الصِّفات، فالبطش والمشي من أنواع الأفعال، والسمع والبصر من أنواع الصفات. وقد وصف نفسه سبحانه بضد صفة أوثانهم، وبضد ما وصفه به المعطلة والجهمية، فوصف نفسه بالسمع والبصر، والفعل باليدين، والمجيء والإتيان، وذلك ضد صفات الأصنام التي جعل امتناع هذه الصِّفات عليها منافيًا لإلهيتها. فتأمَّل آيات التوحيد والصفات في القرآن على كثرتها وتفنُّنها واتساعها وتنوعها، كيف تجدها كلها (1) قد أثبتت الكمال للموصوف بها، وأنه المتفرد بذلك الكمال، فليس له فيه شَبَهٌ ولا مثالٌ. وأي دليلٍ في العقل أوضح من إثبات الكمال المطلق لخالق هذا العالم ومدبِّره، ومَلِك السماوات والأرض وقيُّومهما، فإذا لم يكن في العقل إثبات جميع أنواع الكمال له فأي قضيةٍ تصح في العقل بعد هذا؟! ومن شكَّ في أن صفة السمع والبصر والكلام والحياة والإرادة والقدرة والغضب والرضا والفرح والرحمة والرَّأفة كمالٌ فهو ممن سُلب خاصة الإنسانية، وانسلخ من العقل. بل مَن شكَّ أن إثبات الوجه واليدين وما أثبته لنفسه معهما كمالٌ، فهو مَؤُوفٌ (2) مصابٌ في عقله. ومن شكَّ أن كونه يفعل باختياره ما يشاء، ويتكلم إذا شاء، وينزل إلى حيث شاء، ويجيء إلى حيث شاء= كمالٌ، فهو جاهلٌ بالكمال، والجامد عنده أكمل من الحي الذي تقوم به الأفعال الاختيارية. كما أن عند شقيقه _________ (1) «ح»: «كلما». والمثبت من «م». (2) سبق تفسيرها (ص 423).
(1/563)
الجهمي أن الفاقد لصفات الكمال أكمل من الموصوف بها، كما أن عند أستاذهما [ق 56 أ] وشيخهما الفيلسوف أن من لا يسمع ولا يُبصر ولا يعلم، ولا له حياة ولا قدرة ولا إرادة ولا فعل ولا كلام، ولا يُرسل رسولًا، ولا يُنزل كتابًا، ولا يتصرف في هذا العالم بتحويلٍ وتغييرٍ وإزالةٍ ونقلٍ وإماتةٍ وإحياءٍ؛ أكمل ممَّن يتصف بذلك. فهؤلاء كلهم قد خالفوا صرائح المعقول، وسلبوا الكمال عمَّن هو أحق بالكمال من كل ما سواه. ولم يكفهم ذلك حتى جعلوا الكمال نقصًا، وعدمه كمالًا، فعكسوا الأمر، وقلبوا الفِطَر، وأفسدوا العقول. فتأمَّل شُبههم الباطلة، وخيالاتهم الفاسدة، التي عارضوا بها الوحي هل تُقاوِم (1) هذا الدليل الدَّال على إثبات الصِّفات والأفعال للربِّ سبحانه؟ ثم اختر لنفسك بعدُ ما شئت. وهذا قطرةٌ من بحرٍ نبَّهنا به تنبيهًا يعلم به اللبيب ما وراءه، وإلا فلو أعطينا هذا الموضع حقَّه ـ وهيهات أن يصل إلى ذلك علمنا أو قدرتنا ـ لكتبنا فيه عدة أسفارٍ. وكذا كل وجهٍ من هذه الوجوه، فإنه لو بُسط وفُصِّل لاحتمل سفرًا أو أكثر، والله المستعان، وبه التوفيق. الوجه الخامس والخمسون: أن غاية ما ينتهي إليه من ادَّعى معارضة العقل للوحي أحد أمورٍ أربعةٍ لا بد له منها: إمَّا تكذيبها وجحدها. _________ (1) «ح»: «تقادم». «م»: «تصادم». والمثبت أصح.
(1/564)
وإمَّا اعتقاد أن الرُّسل خاطبوا الخلق بها خطابًا جمهوريًّا لا حقيقة له، وإنما أرادوا منهم التخييل وضرب الأمثال. وإمَّا اعتقاد أن المراد تأويلها وصرفها عن حقائقها وما تدل عليه إلى المجازات والاستعارات. وإمَّا الإعراض عنها وعن فهمها وتدبرها، واعتقاد أنه لا يعلم ما أريد بها إلَّا الله. فهذه أربع مقامات، وقد ذهب إلى كل مقامٍ منها طوائف من بني آدم. المقام الأول: مقام التكذيب والجحد. وهؤلاء استراحوا من كُلفة النصوص والوقوع في التجسيم والتشبيه، وخلعوا رِبْقَة الإيمان (1) من أعناقهم، وقالوا لسائر الطوائف: منكم إلى هذه النصوص (2)، وأمَّا نحن فلسنا منها في شيءٍ؛ لأن عقولنا لمَّا عارضتها دفعنا في صدر من جاء بها، وقابلناه بالتكذيب. المقام الثَّاني: مقام أهل التخييل. قالوا: إن الرُّسل لم يمكنهم مخاطبة الخلق بالحقِّ في نفس الأمر، فخاطبوهم بما يُخيل إليهم، وضربوا لهم الأمثال، وعبروا عن المعاني المعقولة بالأمور القريبة من الحسِّ، وسلكوا ذلك في باب الإخبار عن الله وأسمائه وصفاته واليوم الآخر، وأقرُّوا باب _________ (1) الربقة في الأصل: عروة في حبل تُجعل في عنق البهيمة أو يدها تمسكها، فاستعارها للإيمان، يعني: ما يشد به المسلم نفسه من عُرى الإيمان: أي حدوده وأحكامه وأوامره ونواهيه. «النهاية في غريب الحديث» (2/ 190 (. (2) كذا جاءت هذه العبارة، وهي غريبة، ولعلها عبارة عامية.
(1/565)
الطلب على حقيقته. ومنهم من سلك هذا المسلك في الطلب أيضًا، وجعل الأمر والنهي أمثالًا وإشاراتٍ ورموزًا. فهم ثلاث فرقٍ، هذه إحداها. والثَّانية: سلكت ذلك في الخبر دون الأمر. والثَّالثة: سلكت ذلك في الخبر عن الله وصفاته دون المعاد والجنة والنَّار. وذلك كله إلحادٌ في أسماء الربِّ وصفاته ودينه واليوم الآخر، والملحد لا يتمكن من الردِّ على الملحد وقد وافقه في الأصل، وإن خالفه في فروعه. فلهذا استطال على هؤلاء الملاحدةُ كابن سينا وأتباعه غاية الاستطالة، وقالوا (1): القول في نصوص المعاد كالقول في نصوص الصفات. قالوا بل الأمر فيها أسهل من نصوص الصِّفات؛ لكثرتها وتنوُّعها وتعدُّد طرقها، وإثباتها على وجه يتعذر معه التأويل، فإذا كان الخطاب بها خطابًا جمهوريًّا فنصوص المعاد أولى. قال: فإن قلتم نصوص الصِّفات قد عارضها ما يدل على انتفائها من العقل. قلنا: ونصوص المعاد قد عارضها من العقل ما يدل على انتفائه (2). ثم ذكر العقليات المعارضة للمعاد بما يعلم به العاقل أن العقليات المعارضة للصفات من جنسها أو أضعف منها. المقام الثَّالث: مقام أهل التأويل، قالوا: لم يُرد منَّا اعتقاد حقائقها، وإنما أُريد منَّا تأويلها بما يخرجها عن ظاهرها وحقيقتها. فتكلفوا لها وجوه _________ (1) ينظر «الرسالة الأضحوية» لابن سينا (ص 97 - 102). (2) «م»: «انتفائها».
(1/566)
التأويلات المستكرَهة، والمجازات المستنكَرة، التي يعلم العقلاء أنها أبعد شيءٍ عن احتمال ألفاظ النصوص لها، وأنها بالتحريف أشبه منها بالتفسير. والطَّائفتان اتفقتا على أن الرَّسول لم يُبيِّن الحقَّ للأُمة في خطابه لهم ولا أوضحه، بل خاطبهم بما ظاهره باطلٌ ومحال. ثم اختلفوا: فقال أصحاب التخييل: أراد منهم اعتقاد خلاف الحقِّ والصواب، وإن كان في ذلك مفسدة، فالمصلحة المترتبة عليه أعظم من المفسدة التي فيه. وقال أصحاب التأويل: بل أراد منَّا أن نعتقد خلاف ظاهره وحقيقته، ولم يُبيِّن لنا المراد تعريضًا لنا إلى حصول [ق 56 ب] الثواب بالاجتهاد والبحث والنظر، وإعمال الفكر في معرفة الحقِّ بعقولنا، وصرف تلك الألفاظ عن حقائقها وظواهرها لننال ثواب الاجتهاد والسعي في ذلك. فالطَّائفتان متفقتان على أن ظاهر خطاب الرَّسول ضلالٌ وكفرٌ وباطلٌ، وأنه لم يُبيِّن الحقَّ، ولا هدى إليه الخلق (1). المقام (2) الرَّابع: مقام الما أدرية (3) الذين يقولون: لا ندري معاني هذه الألفاظ، ولا ما أُريد منها، ولا ما دلت عليه. وهؤلاء ينسبون طريقتهم إلى السَّلف، وهي التي يقول المتأولون: إنها أسلم، ويحتجون عليها بقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اَللَّهُ} [آل عمران: 7]. ويقولون هذا هو الوقف التَّام عند _________ (1) «ح»: «الحق». والمثبت من «م». (2) «ح»: «الوجه». والمثبت من «م». (3) رسمه في «ح»، «م»: «الملادرية» اتصلت اللام بالألف. ويقصد بهم هنا المفوضة الذين يفوضون المعنى والكيفية، فيقولون: لا ندري معنى الصفة ولا كيفيتها. وينسبون ذلك لمذهب السلف خطأ، فالسلف إنما يفوضون الكيفية فقط، وقد تقدم الكلام على سلفهم من لا أدرية الفلاسفة السوفسطائية (ص 201 - 202).
(1/567)
جمهور السَّلف، وهو قول أُبي بن كعبٍ وعبد الله بن مسعودٍ وعبد الله بن عباسٍ وعائشة وعروة بن الزبير، وغيرهم من السلف والخلف (1). وعلى قول هؤلاء يكون الأنبياء والمرسلون (2) لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص ولا الصَّحابة ولا التَّابعون لهم بإحسانٍ، بل يقرؤون كلامًا لا يعقلون معناه. ثم هم متناقضون أفحش تناقضٍ، فإنهم يقولون: تُجرى على ظاهرها، وتأويلها باطلٌ. ثم يقولون: لها تأويل لا يعلمه إلَّا الله. وقول هؤلاء أيضًا باطلٌ، فإن الله سبحانه أَمَرَ بتدبُّر كتابه وتفهُّمه وتعقله، وأخبر أنه بيانٌ وهدًى وشفاءٌ لما في الصدور، وحاكمٌ بين النَّاس فيما اختلفوا فيه، ومن أعظم الاختلاف اختلافهم في باب الصِّفات والقدر والأفعال، واللفظ الذي لا يُعلم ما أراد به المتكلم لا يحصل به حكمٌ ولا هدًى ولا شفاءٌ ولا بيانٌ. وهؤلاء طرَّقوا (3) لأهل الإلحاد والزندقة والبدع أن يستنبطوا الحقَّ من عقولهم وآرائهم، فإن النفوس طالبة لمعرفة هذا الأمر أعظم طلبٍ، والمقتضى التَّام لذلك فيها موجودٌ، فإذا قيل لها: إن ألفاظ القرآن والسُّنَّة في _________ (1) ينظر: «تفسير الطبري» (5/ 217) و «الوقف والابتداء» لابن الأنباري (2/ 568) و «القطع والائتناف» لابن النحاس (212 - 213) و «المكتفى» لأبي عمرو الداني (ص 70). (2) «ح»: «والمرسلين». والمثبت من «م». (3) يقال: طرَّق طريقًا: إذا سَهَّله حتى طَرَقَه الناس بسَيْرهم. «تاج العروس» (26/ 80).
(1/568)
ذلك لها تأويل لا يعلمه إلَّا الله، ولا يعلم أحدٌ معناها، وما أُريد بها، وما دلَّت عليه= فَرُّوا إلى عقولهم ونظرهم وآرائهم. فسدَّ هؤلاء باب الهدى والرشاد، وفتح أولئك باب الزندقة والبدعة والإلحاد، وقالوا: قد أقررتم بأن ما جاءت به الرُّسل في هذا الباب لا يحصل منه علم بالحق ولا يهدي إليه، فهو في طريقتنا لا في طريقة الأنبياء، فإنَّا نحن نعلم ما نقوله ونثبته بالأدلة العقلية، والأنبياء لم يعلموا تأويل ما قالوه، ولا بيَّنوا مراد المتكلم به، وأصاب هؤلاء من الغلط على السمع ما أصاب أولئك من الخطأ في العقل. وهؤلاء لم يفهموا مراد السلف بقولهم: لا يعلم تأويل المتشابه إلَّا الله. فإن التأويل في عُرْف السلف المراد به التأويل في مثل قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ اُلَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَد جَّاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 52] وقوله تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 58] وقول يوسف: {يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيَايَ مِن قَبْلُ قَد جَّعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف: 100] وقول يعقوب: {وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ اِلْأَحَادِيثِ} [يوسف: 6] {وَقَالَ اَلَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَاَدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف: 45] وقال يوسف: {لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا} [يوسف: 37]. فتأويل الكلام الطلبي هو نفس فعل المأمور به [وترك] (1) المنهي عنه، _________ (1) «ترك» ليس في «ح»، «م». وأثبته من «درء التعارض» (1/ 206). وقال ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (17/ 368): «تأويل الأمر والنهي: نفس فعل المأمور، ونفس ترك المحظور».
(1/569)
كما قال ابن عُيينة: «السُّنَّة تأويل الأمر والنهي» (1). وقالت عائشة: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في ركوعه وسجوده: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ. يتأوَّل القرآن» (2). وأمَّا تأويل ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر فهو نفس الحقيقة التي أخبر الله عنها، وذلك في حقِّ الله هو كُنْه ذاته وصفاته التي لا يعلمها غيره. ولهذا قال مالك (3) وربيعة (4): «الاستواء معلومٌ، والكيف مجهولٌ». وكذلك قال ابن الماجشون (5) .......................... _________ (1) ذكره ابن تيمية في «درء التعارض» (1/ 206). (2) متفق عليه، وتقدم تخريجه (ص 24). (3) أخرجه ابن المقري في «المعجم» (1003) واللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (664) وأبو نعيم في «الحلية» (6/ 325) والصَّابوني في «عقيدة السلف» (ص 38 - 39) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (867) والذهبي في «العلو» (ص 139). وقال الذهبي: «هذا ثابت عن مالك، وتقدم نحوه عن ربيعة شيخ مالك، وهو قول أهل السنة قاطبة أن كيفية الاستواء لا نعقلها بل نجهلها، وأن استواءه معلوم كما أخبر في كتابه، وأنه كما يليق به». (4) أخرجه اللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (665) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (868) وابن قدامة في «إثبات صفة العلو» (74) والذهبي في «العلو» (ص 129). وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (5/ 40): «أن الخلال رواه بإسناد كلهم أئمة ثقات». (5) هو عبد العزيز بن عبد الله بن سلمة الماجشون، وقد أخرجه عنه ابن بطة في «الإبانة» ـ كما في «المختار من الإبانة» (59) ـ والذهبي في «العلو» (ص 129) وفي «سير أعلام النبلاء» (7/ 311 - 312) مطولًا. وعلَّقه اللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (873). وصححه الذهبي في «العلو»، وقال ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (5/ 42): «روى الأثرم في «السنة» وأبو عبد الله بن بطة في «الإبانة» وأبو عمرو الطلمنكي وغيرهم بإسنادٍ صحيحٍ عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، وهو أحد أئمة المدينة الثلاثة الذين هم مالك بن أنس وابن الماجشون وابن أبي ذئب». فذكره.
(1/570)
والإمام أحمد (1) وغيرهما من السلف: «إنَّا لا نعلم كيفية ما أخبر الله به عن نفسه، وإن كنَّا نعلم تفسيره ومعناه». وقد فسَّر الإمام أحمد الآيات التي احتج بها الجهمية من المتشابه، وقال: إنهم تأوَّلُوها على غير تأويلها، وبيَّن معناها (2). وكذلك الصَّحابة والتَّابعون فسَّروا القرآن، وعلموا المراد بآيات الصِّفات، كما علموا المراد من آيات الأمر والنهي، وإن لم يعلموا الكيفية؛ كما علموا معاني ما أخبر الله به في الجنة والنَّار، وإن لم يعلموا حقيقة كُنْهِه وكيفيته. فمَن قال من السلف: إن تأويل المتشابه لا يعلمه إلَّا الله بهذا المعنى؛ فهو حقٌّ. وأمَّا من قال: إن التأويل الذي هو تفسيره وبيان المراد منه لا يعلمه إلَّا الله؛ فهذا غلطٌ، والصَّحابة والتَّابعون وجمهور الأمة على خلافه. قال مجاهد: «عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته أقفه عند كل آية وأسأله عنها» (3). وقال عبد الله بن مسعود: «ما في [ق 57 أ] كتاب الله _________ (1) هذا معلوم من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وينظر: «المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد بن حنبل في العقيدة» (1/ 276 - 278). (2) وذلك في كتاب «الرد على الجهمية والزنادقة فيما شكوا فيه من متشابه القرآن وتأولوه على غير تأويله». (3) أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص 359) وابن أبي شيبة في «المصنف» (30918) والطبري في «التفسير» (1/ 85) والحاكم (2/ 307).
(1/571)
آية إلَّا وأنا أعلم فيما أنزلت» (1). وقال الحسن البصري: «ما أنزل الله آية إلَّا وهو يحب أن يُعلم ما أراد بها» (2). وقال مسروق: «ما نسأل أصحاب محمدٍ عن شيءٍ إلَّا وعلمه في القرآن، ولكن علمنا قصر عنه» (3). وقال الشعبي: «ما ابتدع قومٌ بدعةً إلَّا وفي كتاب الله بيانها» (4). والمقصود أن من ادَّعى معارضة العقل للسمع لا بد له أن يسلك أحد هذه المسالك الأربعة الباطلة، وأسلمها هذا المسلك الرَّابع، وقد علمتَ بطلانه. وإنما كان أقل بطلانًا لأنه لا يتضمن الخبر الكاذب على الله ورسوله، فإن صاحبه يقول: لا أفهم من هذه النصوص شيئًا، ولا أعرف المراد بها، وأصحاب تلك المسالك تتضمن (5) أقوالهم تكذيب الله ورسوله، أو الإخبار عن النصوص بالتكذيب. وبالله التوفيق. الوجه السَّادس والخمسون: أن هؤلاء المعارضين للكتاب والسُّنَّة بعقلياتهم ـ التي هي في الحقيقة جهليات ـ إنما يبنون (6) أمرهم في ذلك على أقوالٍ مشتبهةٍ مجملةٍ (7) تحتمل معاني متعددة، ويكون ما فيها من الاشتباه في _________ (1) أخرجه البخاري (5002) ومسلم (2463). (2) أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص 97). (3) أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص 96). (4) لم نقف عليه مسندًا عنه، وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في «درء التعارض» (1/ 208). (5) «ح»: «تتضمون». والمثبت من «م». (6) «ح»: «يثبتون». والمثبت من «م». (7) «م»: «محتملة».
(1/572)
المعنى والإجمال في اللفظ يوجب تناولها بحقٍّ وباطلٍ، فبما فيها من الحقِّ يقبل من لم يُحِط بها علمًا ما فيها من الباطل لأجل الاشتباه والالتباس، ثم يُعارضون بما فيها من الباطل نصوص الأنبياء. وهذا منشأ ضلال من ضلَّ من الأمم قبلنا. وهو منشأ البدع كلها، فإن البدعة لو كانت باطلًا محضًا لما قُبلت، ولبادر كل أحدٍ إلى ردِّها وإنكارها، ولو كانت حقًّا محضًا لم تكن بدعةً، وكانت موافقة للسُّنة؛ ولكنها تشتمل على حقٍّ وباطلٍ، ويلتبس فيها الحق بالباطل، كما قال تعالى: {وَلَا تَلْبِسُوا اُلْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا اُلْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 41] فنهى عن لَبْس الحق بالباطل وكتمانه، ولبسَه به خلطه به حتى يلتبس أحدهما بالآخر، ومنه التلبيس وهو التدليس والغش الذي يكون باطنه خلاف ظاهره، فكذلك الحق إذا لُبِس بالباطل يكون فاعله قد أظهر الباطل في صورة الحقِّ، وتكلم بلفظٍ له معنيان، معنًى صحيح، ومعنًى باطل، فيتوهم السَّامع أنه أراد المعنى الصحيح، ومراده الباطل، فهذا من الإجمال في اللفظ. وأمَّا الاشتباه في المعنى فيكون له وجهان، هو حقٌّ من أحدهما، وباطلٌ من الآخر، فيُوهم (1) إرادة الوجه الصحيح، ويكون مراده الباطل. فأصل ضلال بني آدم من الألفاظ المجملة والمعاني المشتبهة، ولا سيما إذا صادفت أذهانًا مخبَّطةً، فكيف إذا انضاف إلى ذلك هوًى وتعصُّب؟! فسَلْ مثبِّت القلوب أن يثبِّت قلبك على دينه، وألَّا يوقعك في هذه الظُّلمات. قال الإمام أحمد في خطبة كتابه في «الرد على الجهمية» (2): «الحمد لله _________ (1) «ح»: «فيتوهم». والمثبت من «م». (2) «الرد على الجهمية والزنادقة» (ص 55).
(1/573)
الذي جعل في كل زمان فترةٍ من الرُّسل بقايا من أهل العلم، يَدْعُون من ضلَّ إلى الهُدى، ويصبرون منهم على الأذى، يُحيون بكتاب الله الموتى، ويُبصِّرون بكتاب الله أهل العمى. فكم من قتيلٍ لإبليس قد أحيوه، وكم من تائهٍ ضالٍّ قد هدوه! فما أحسن أثرهم على النَّاس، وما أقبح أثر النَّاس عليهم! ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة. فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون على مخالفة الكتاب. يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علمٍ، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جُهال النَّاس بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين». وهذه الخطبة تلقَّاها الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب أو وافقه فيها؛ فقد ذكرها محمد بن وضاح في أول كتابه في «الحوادث والبدع» (1) فقال: حدثنا أسد، ثنا رجلٌ ـ يُقال: له يوسف، ثقةٌ ـ عن أبي عبد الله الواسطي رفعه إلى عمر بن الخطاب أنه قال: «الحمد لله الذي امتنَّ على العباد بأن جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضلَّ إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يُحيون بكتاب الله أهل العمى. كم من قتيلٍ لإبليس قد أحيوه، وضالٍّ تائهٍ قد هدوه. بذلوا دماءهم وأموالهم دون هلكة العباد، فما أحسن أثرهم على النَّاس، وما أقبح أثر النَّاس عليهم! وما نسيهم ربك، وما كان ربك نسيًّا، جعل قصصهم هدًى (2)، وأخبر عن حسن مقالاتهم، فلا تقصر (3) عنهم؛ فإنهم في منزلة رفيعة، وإن _________ (1) «البدع والنهي عنها» (ص 3). (2) «ح»: «يصفهم هذا». تحريف، والمثبت من «م»، «البدع» لابن وضاح. (3) «ح»: «يقتصر». والمثبت من «م»، «البدع» لابن وضاح.
(1/574)
أصابتهم الوضيعة (1)». فقوله: «يتكلمون بالمتشابه من الكلام» هو الذي له وجهان، يخدعون به جهال النَّاس، كما يُنَفِّق أهل الزَّغَل (2) النقد المغشوش الذي له [ق 57 ب] وجهان، يخدعون به من لم يعرفه من النَّاس، فلا إله إلَّا الله كم قد ضلَّ بذلك طوائف من بني آدم لا يُحصيهم إلَّا الله. واعتبر ذلك بأظهر الألفاظ والمعاني في القرآن والسُّنَّة وهو التوحيد ـ الذي حقيقته إثبات صفات الكمال لله، وتنزيهه عن أضدادها، وعبادته وحده لا شريك له ـ فاصطلح أهل الباطل على وضعه للتعطيل المحض، ثم دعوا النَّاس إلى التوحيد، فخدعوا به من لم يعرف معناه في اصطلاحهم، وظنَّ أن ذلك التوحيد هو الذي دعت إليه الرُّسل. والتوحيد اسم لستة معانٍ: توحيد الفلاسفة، وتوحيد الجهمية، وتوحيد القدرية الجبرية، وتوحيد الاتحادية؛ فهذه الأربعة أنواعٍ من التوحيد جاءت الرسل بإبطالها، ودلَّ على بطلانها العقل والنقل. فأمَّا توحيد الفلاسفة فهو إنكار ماهية الربِّ الزَّائدة على وجوده، وإنكار صفات كماله، وأنه لا سمع له ولا بصر، ولا قدرة ولا حياة، ولا إرادة ولا كلام، ولا وجه ولا يدين، وليس فيه معنيان متميزٌ أحدهما عن الآخر البتَّةَ. قالوا: لأنه لو كان كذلك لكان مركبًا، وكان جسمًا مؤلَّفًا، ولم يكن واحدًا من كل وجهٍ. فجعلوه من جنس الجوهر الفرد الذي لا يُحَسُّ _________ (1) الوضيعة: الخسارة. «النهاية في غريب الحديث» (5/ 198). (2) الزَّغَل: الغش. كما تقدم (ص 214).
(1/575)
ولا يُرى، ولا يتميز منه جانب عن جانب، بل الجوهر الفرد يمكن وجوده، وهذا الواحد الذي جعلوه حقيقة ربِّ العالمين يستحيل وجوده. فلمَّا اصطلحوا على هذا المعنى في التوحيد وسمعوا قوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة: 162] وقوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} [المائدة: 75] نزَّلوا لفظ القرآن على هذا المعنى الاصطلاحي، وقالوا: لو كان له صفة أو كلام أو مشيئة أو علم أو حياة أو قدرة أو سمع أو بصر لم يكن واحدًا، وكان مركبًا مؤلَّفًا. فسَمَّوْا أعظم التعطيل بأحسن الأسماء، وهو التوحيد، وكَسَوْه ثوبه، وسمَّوا أصح الأشياء وأحقها بالثبوت ـ وهو صفات الربِّ، ونعوت كماله ـ بأقبح الأسماء، وهو التركيب والتَّأليف. فتولَّد من بين هذه التسمية المنكرة للمعنى الصحيح وتلك التسمية الصحيحة للمعنى الباطل جحدُ حقائق أسماء الربِّ وصفاته، بل وجحدُ ماهيته وذاته، وتكذيبُ رسله. ونشأ من نشأ على اصطلاحهم ـ مع إعراضه عن استفادة الهُدى والحق من الوحي ـ فلم يعرف سوى الباطل الذي اصطلحوا عليه، فجعله أصلًا لدينه؛ فلما رأى ما جاءت به الرُّسل يعارضه قال: إذا تعارض العقل والنقل قُدِّم العقل. التوحيد الثَّاني: توحيد (1) الجهمية، وهو مشتقٌّ من توحيد الفلاسفة، وهو نفي صفات الربِّ، كعلمه وكلامه وسمعه وبصره وحياته وعلوِّه على عرشه، ونفي وجهه ويديه. وقُطْب رحى هذا التوحيد جحد حقائق أسمائه وصفاته. _________ (1) «توحيد» سقط من «ح»، وأثبته من «م».
(1/576)
التوحيد الثَّالث: توحيد القدرية الجبرية، وهو إخراج أفعال العباد أن تكون فعلًا لهم، وأن تكون واقعة بكسبهم أو إرادتهم، بل هي نفس فعل الله، فهو الفاعل لها دونهم، ونسبتها (1) إليهم وأنهم فعلوها ينافي التوحيد عندهم. التوحيد الرَّابع: توحيد القائلين بوحدة الوجود، وأن الوجود عندهم واحدٌ، ليس عندهم وجودان: قديم وحادث، وخالق ومخلوق، وواجب وممكن؛ بل الوجود عندهم واحدٌ بالعين. والذي يُقال: له الخَلْق المُشبَّه هو الحق المُنَّزه، والكل من عينٍ واحدةٍ، بل هو العين الواحدة. فهذه الأنواع الأربعة سمَّاها أهل الباطل توحيدًا، فاعتصموا بالاسم من إنكار المسلمين عليهم، وقالوا: نحن الموحدون. ودعوا النَّاس إلى الباطل باسم التوحيد، فجعلوه جُنَّةً وتُرْسًا ووقايةً. وسَمَّوُا التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنبياءه تركيبًا وتجسيمًا وتشبيهًا، وجعلوا هذه الألقاب له سهامًا وسلاحًا يُقاتلون بها أهله، فتترَّسوا بما عند أهل الحق من الأسماء الصحيحة، وقاتلوهم بالأسماء الباطلة، التي سَمَّوْا بها ما بعث الله به رسوله، فقاتلوهم باسم التركيب والتجسيم والتشبيه، وتترسوا منهم باسم التوحيد والتنزيه. وقد قال جابر في الحديث الصحيح في حجة الوداع: «فأهلَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتوحيد: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ» (2). فهذا توحيد الرَّسول المتضمن لإثبات صفات الكمال التي يستحق _________ (1) «ح»: «نسبتها». والمثبت من «م». (2) أخرجه مسلم (1218).
(1/577)
عليها الحمد، ولإثبات الأفعال التي استحق بها أن يكون مُنعِمًا، ولإثبات القُدرة والمشيئة، والإرادة والتصرف، والغضب والرضا، والغنى والجود، الذي [ق 58 أ] هو حقيقة ملكه. وعند الفلاسفة والجهمية والمعطلة لا حمد له في الحقيقة ولا نعمة ولا ملك. والله يعلم أنَّا لم نُجازف في نسبة ذلك إليهم، بل هو حقيقة قولهم. فأي حمدٍ لمن لا يسمع ولا يُبصر، ولا يعلم ولا يتكلم، ولا يفعل، ولا هو في هذا العالم ولا خارج عنه، ولا متصل به ولا منفصل عنه، ولا فوقه ولا تحته، ولا عن يمنته (1) ولا عن يَسْرته. وأي نعمةٍ لمن لا يقوم به فعلٌ البتَّةَ، وأي مُلْكٍ لمن لا وَصْفَ له ولا فِعْلَ؟ فانظر إلى توحيد الرُّسل، وتوحيد من خالفهم! ومن العجب أنهم سَمَّوْا توحيد الرُّسل شركًا وتجسيمًا وتشبيهًا، مع أنه غاية الكمال، وسَمَّوْا تعطيلهم واتحادهم ونفيهم توحيدًا، وهو غاية النقص، ثم نسبوا أتباع الرسل إلى نقص الربِّ، وقد سلبوه كل كمالٍ، وزعموا أنهم أثبتوا له الكمال، وقد نزَّهوه عنه. فهذا توحيد الملاحدة والجهمية والمعطلة. وأمَّا توحيد الرُّسل فهو إثبات صفات الكمال له سبحانه، وإثبات كونه فاعلًا بمشيئته وقدرته واختياره، وأن له فعلًا حقيقة، وأنه وَحْدَه الذي يستحق أن يُعبد ويُخاف ويُرجى ويُتوكل عليه، فهو المستحق لغاية الحب بغاية الذُّل. وليس لخلقه من دونه وكيلٌ ولا وليٌّ ولا شفيعٌ، ولا واسطةَ بينه وبينهم في رفع حوائجهم إليه، وفي تفريج كرباتهم، وإغاثة لهفاتهم، وإجابة _________ (1) «ح»: «يمينه». واللفظ غير منقوط في «م»، والمثبت هو الأنسب للسياق.
(1/578)
دعواتهم. وبينه وبينهم واسطة في تبليغ أمره ونهيه وخبره إليهم، فلا يعرفون ما يحبه ويرضاه ويبغضه ويسخطه، ولا حقائق أسمائه وتفصيل ما يجب له ويمتنع عليه ويُوصف به إلَّا من جهة هذه الواسطة. فجاء هؤلاء الملاحدة فعكسوا الأمر، وقلبوا الحقائق، فنَفَوْا كون الرُّسل وسائطَ في ذلك، وقالوا: يكفي توسط (1) العقل. ونفوا حقائق أسمائه وصفاته وقالوا: هذا التوحيد. فهذا توحيدهم، وهذا إيمانهم بالرُّسل. ويقولون: نحن نُنزِّهه (2) عن الأعراض والأغراض والأبعاض والحدود والجهات وحلول الحوادث. فيسمع الغِرُّ المخدوع هذه الألفاظ فيتوهَّم منها أنهم يُنزِّهون الله عمَّا يُفهم من معانيها عند الإطلاق من العيوب والنقائص والحاجة، فلا يشك أنهم يمجدونه ويعظمونه. ويكشف النَّاقد البصير ما تحت هذه الألفاظ فيرى تحتها الإلحاد، وتكذيب الرُّسل، وتعطيل الربِّ تعالى عمَّا يستحقه من كماله. فتنزيهه عن الأعراض هو جحد صفاته، كسمعه وبصره وحياته وعلمه وكلامه وإرادته، فإن هذه أعراض لا تقوم إلَّا بجسمٍ، فلو كان متصفًا بها لكان جسمًا، وكانت أعراضًا له، وهو منزَّهٌ عن الأعراض. وأمَّا الأغراض فهي الغاية والحكمة التي لأجلها يفعل ويخلق ويأمر وينهى ويُثيب ويعاقب، وهي الغايات المحمودة المطلوبة له من أمره ونهيه وفعله، فيسمونها عللًا وأغراضًا، ثم ينزهونه عنها. _________ (1) «ح»: «تلقى يوسط». والمثبت من «م». (2) «ح»: «ننزه». والمثبت من «م».
(1/579)
وأمَّا الأبعاض فمرادهم بتنزيهه عنها أنه ليس له وجهٌ ولا يدان ولا يمسك السماوات على إصبع والأرض على إصبع والشجر على إصبع والماء على إصبع، فإن ذلك كله أبعاض، والله منزهٌ عن الأبعاض. وأمَّا الحدود والجهات فمرادهم بتنزيهه عنها أنه ليس فوق السماوات ربٌّ، ولا على العرش إلهٌ، ولا يشار إليه بالأصابع إلى فوق، كما أشار إليه أعلم الخلق به، ولا ينزل منه شيءٌ، ولا يصعد إليه شيءٌ، ولا تعرج الملائكة والروح إليه، ولا رفع المسيح إليه، ولا عرج برسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - إليه؛ إذ لو كان ذلك لزم إثبات الحدود والجهات له، وهو منزهٌ عن ذلك. وأمَّا حلول الحوادث فيُريدون به أنه لا يتكلم بقدرته ومشيئته، ولا ينزل كل ليلةٍ إلى سماء الدنيا، ولا يأتي يوم القيامة ولا يجيء، ولا يغضب بعد أن كان راضيًا، ولا يرضى بعد أن كان غضبان، ولا يقوم به فعلٌ البتةَ، ولا أمرٌ مُجدد بعد أن لم يكن، ولا يريد شيئًا بعد أن لم يكن (1) مريدًا له، ولا يقول له: كن حقيقةً، ولا استوى على عرشه بعد أن لم يكن مستويًا عليه، ولا يغضب يوم القيامة غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولا يُنادي عباده يوم القيامة بعد أن لم يكن مناديًا لهم، ولا يقول للمصلي «إذا قال: {اِلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اِلْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 1]: حمدني عبدي. فإذا قال: {اَلرَّحْمَنِ اِلرَّحِيمِ} [الفاتحة: 2] قال: أثنى عليَّ عبدي. وإذا قال: {مَلِكِ يَوْمِ اِلدِّينِ} [الفاتحة: 3] قال: مجَّدَني عبدي» (2). فإن هذه كلها حوادث، وهو منزهٌ عن حلول الحوادث. _________ (1) «ح»: «يكون». والمثبت من «م». (2) أخرجه مسلم (395) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
(1/580)
وبعضهم يختصر العبارة ويقول: أنا أُنزِّهه عن التعدد والتحدد والتجدد. فيتوهم السَّامع الجاهل بمراده أنه ينزهه عن تعدد الآلهة، وعن تحددٍ تُحيطُ به حدودٌ وجوديةٌ تحصره وتحويه كتحدد [ق 58 ب] البيت ونحوه، وعن تجدد إلهيته وربوبيته. ومراده بالتعدد الذي نَزَّهَه (1) عنه تعدد أسمائه وصفاته، وأنه لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم شيئًا ولا يتكلم. ومراده بالتحدد أنه ليس فوق خلقه، ولا هو مستوٍ على عرشه، ولا فوق العرش إلهٌ يُعبد، وليس فوق العرش إلَّا العدم. ومراده بالتجدد أنه لا يقوم به فعلٌ ولا إرادةٌ ولا كلامٌ بمشيئته وقدرته. وبعضهم يقتصر على حرفين فيقول: نحن ننزهه عن التكثر والتغير. فيتوهم السَّامع تكثر الآلهة، وتغيره سبحانه واستحالته من حالٍ إلى حالٍ، وحقيقة هذا التنزيه أنه لا صفة له ولا فعل. وكذلك قول الجهمية: نحن نثبت قديمًا واحدًا، ومثبتو الصِّفات يثبتون عدة قُدماء. قال: والنصارى أثبتوا ثلاثة قدماء مع الله فكفَّرهم (2)، فكيف من أثبت سبعة قدماء أو أكثر؟! فانظر إلى هذا التلبيس والتدليس الذي يوهم السَّامع أنهم أثبتوا قدماء مع الله، وإنما أثبتوا قديمًا واحدًا بصفاته، وصفاته داخلة في مسمَّى اسمه. إنما أثبتوا إلهًا واحدًا، ولم يجعلوا كل صفةٍ من صفاته إلهًا؛ بل هو الإله الواحد بجميع أسمائه وصفاته. وهذا بعينه متلقًّى عن عُبَّاد الأصنام المشركين بالله المكذبين لرسوله، حيث قالوا: يدعو محمدٌ إلى إلهٍ واحدٍ، ثم يقول: يا ألله _________ (1) «ح»: «نزه». والمثبت أصح. (2) «ح»: «بكفرهم». والمثبت من «م».
(1/581)
يا رحمن يا سميع يا بصير، فيدعو آلهةً متعددةً. فأنزل الله عز وجل: {قُلُ اُدْعُوا اُللَّهَ أَوُ اُدْعُوا اُلرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ اُلْأَسْمَاءُ اُلْحُسْنى} (1) [الإسراء: 109] أي: إنكم إنما تدعون إلهًا واحدًا له الأسماء الحسنى، فأي اسمٍ دعوتموه فإنما دعوتم المسمَّى بذلك الاسم. فأخبر سبحانه أنه إلهٌ واحدٌ وإن تعددت أسماؤه الحُسنى المشتقة من صفاته، ولهذا كانت حُسنى، وإلَّا فلو كانت ـ كما يقول الجاحدون لكماله ـ أسماءً محضة فارغة من المعاني ليس لها حقائق؛ لم تكن حُسنى، ولكانت أسماءُ الموصوفين بالصفات والأفعال أحسن منها، فنزلت الآية على توحيد الذَّات وكثرة النُّعوت والصفات. ومن ذلك قول هؤلاء المعطلة: أخصُّ صفات الإله: القديم، فإذا أثبتم معه صفات قديمة لزم أن تكون آلهةً، فلا يكون الإله واحدًا؛ بل يكون لكم آلهة متعددة. فيقال لهؤلاء المُدلِّسين المُلبِّسين على أمثالهم من أشباه الأنعام: المحذور الذي نفاه العقل والشرع والفطرة وأجمعت الأنبياء من أوَّلهم إلى آخرهم على بطلانه أن يكون مع الله آلهة أخرى، لا أن يكون إله العالمين الواحد القهار حيًّا قيومًا، سميعًا بصيرًا، متكلِّمًا آمرًا ناهيًا، فوق عرشه، له الأسماء الحسنى والصفات العُلى. فلم يَنْفِ العقل والشرع والفطرة أن يكون للإله الواحد صفاتُ كمال _________ (1) أخرجه البخاري في «خلق أفعال العباد» (369) عن أبي الجوزاء أوس بن عبد الله عن عائشة - رضي الله عنها -، وحديث أبي الجوزاء عن عائشة مرسل، ينظر «التمهيد» (20/ 205)، وله شواهد عن ابن عباس - رضي الله عنه - وعن مكحول مرسلًا، أخرجهما الطبري في «تفسيره» (15/ 123 - 124) وينظر «فتح الباري» لابن حجر (13/ 360) و «الدر المنثور» (9/ 461).
(1/582)
ونعوت جلال يختص بها لذاته. فلبَّستم على المخدوعين المغرورين، وأوهمتموهم أنه لو كان فوق عرشه موصوفًا بصفات الكمال يُرى بالأبصار عيانًا يوم القيامة؛ لم يكن إلهًا واحدًا، وكان هناك آلهة متعددة، وقدماء متغايرة، وأعراض وأبعاض، وحدود وجهات، وتكثُّر وتغير، وتحدد وتجدد، وتجسم وتشبيه وتركيب. وأكثر النَّاس إذا سمعوا هذه الألفاظ نفرت عقولهم من مسمَّاها، ونَبَتْ (1) أسماعهم عنها. وقد علم المؤمنون المصدقون للرسول العارفون بالله وصفاته وأسمائه أنكم توسلتم بها إلى نفي صفاته وأفعاله وحقائق أسمائه، فلم ترفعوا بها رأسًا، ولم تروا لها حرمة، ولم ترقبوا فيها ذمة، وغرَّت ضعافَ العقول الجاهلين بحقائق الإيمان فضلُّوا بها، وأضلوا كثيرًا، وضلوا عن سواء السبيل. فلفظ الجسم لم ينطق به الوحي إثباتًا، فتكون له حرمة الإثبات، ولا نفيًا، فيكون له إلغاء النفي، فمن أطلقه نفيًا أو إثباتًا سُئل عمَّا أراد به. فإن قال: أردت بالجسم (2) معناه في لغة العرب، وهو البدن الكثيف الذي لا يُسمَّى في اللغة جسمٌ سواه، فلا (3) يُقال للهواء جسم لغةً، ولا للنار ولا للماء، فهذه اللغة، وكُتُبها بين أَظهُرنا = فهذا المعنى منفيٌّ عن الله عقلًا وسمعًا. وإن أردتم به المركب من المادة والصورة، أو المركب من الجواهر _________ (1) «ح»: «وبث». والمثبت هو الصواب، يقال: نبا الشيء عني ينبو: أي تجافى وتباعد. «الصحاح» (6/ 2500). (2) «ح»: «الجسم». والمثبت من «م». (3) «ح»: «ولا». والمثبت من «م».
(1/583)
الفردة (1)؛ فهذا منفيٌّ عن الله قطعًا، والصواب نفيه عن الممكنات أيضًا، فليس الجسم المخلوق مركبًا من هذا ولا من هذا. وإن أردتم بالجسم ما يُوصف بالصفات، ويُرى بالأبصار، ويتكلم ويكلم، ويسمع ويُبصر، ويرضى ويغضب؛ فهذه المعاني ثابتة للربِّ تعالى وهو موصوفٌ بها، فلا ننفيها عنه بتسميتكم للموصوف بها جسمًا؛ كما أنا لا نسبُّ الصَّحابة لأجل تسمية الروافض لمن يحبهم ويواليهم نواصبَ، ولا ننفي قَدَرَ الربِّ ونكذِّب به لأجل تسمية القدرية لمن [ق 59 أ] أثبته جبريًّا، ولا نرد ما أخبر به الصَّادق عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله لتسمية أعداء الحديث لنا حشوية، ولا نجحد صفات خالقنا وعلوه على خلقه واستواءه على عرشه لتسمية الفرعونية المعطلة لمن أثبت ذلك مجسمًا مشبهًا. فَإِنْ كَانَ تَجْسِيمًا ثُبُوتُ اسْتِوَائِهِ ... عَلَى عَرْشِهِ إِنِّي (2) إِذًا لَمُجَسِّمُ وَإِنْ كَانَ تَشْبِيهًا ثُبُوتُ صِفَاتِهِ ... فَمِنْ ذَلِكَ التَّشْبِيهِ لَا أَتَكَتَّمُ وَإِنْ كَانَ تَنْزِيهًا جُحُودُ اسْتِوَائِهِ ... وَأَوْصَافِهِ أَوْ كَوْنِهِ يَتَكَلَّمُ فَعَنْ ذَلِكَ التَّنْزِيهِ نَزَّهْتُ رَبَّنَا ... بِتَوْفِيقِهِ وَاللَّهُ أَعْلَى وَأَعْظَمُ (3) ورضي الله عن الشَّافعي حيث فتح للناس هذا الباب في قوله (4): _________ (1) الجوهر الفرد: هو الجزء الذي لا يتجزأ، وهو جوهر ذو وضع لا يقبل القسمة لا قطعًا ولا كسرًا، ولا وهمًا ولا فرضًا. «دستور العلماء» (1/ 269). (2) «ح»: «أنا». والمثبت من «م». (3) الظاهر أن هذه الأبيات للإمام ابن القيم نفسه، وليست من قصيدته الميمية المشهورة. (4) البيتان في «ديوان الشافعي» (80).
(1/584)
يَا رَاكِبًا قِفْ بِالْمُحَصَّبِ مِنْ مِنًى ... وَاهْتِفْ بِقَاعِدِ خَيْفِهَا وَالنَّاهِضِ إِنْ كَانَ رَفْضًا حُبُّ آلِ مُحَمَّدٍ ... فَلْيَشْهَدِ الثَّقَلَانِ أَنِّيَ رَافِضِي ورضي الله عن شيخنا إذ يقول (1): فَإِنْ كَانَ نَصْبًا وَلَاءُ الصِّحَابِ ... فَإِنِّي كَمَا زَعَمُوا نَاصِبِي وَإِنْ كَانَ رَفْضًا وَلَا آلِهِ (2) ... فَلَا بَرِحَ الرَّفْضُ مِنْ جَانِبِي وهذا كله كأنه مأخوذٌ من قول الأول (3): وَعَيَّرَنِي الْوَاشُونَ أَنِّي أُحِبُّهَا ... وَذَلِكَ ذَنْبٌ لَسْتُ مِنْهُ أَتُوبُ وقول الآخر (4): فَإِنْ كَانَ ذَنْبِي حُبَّكُمْ وَوَلَاءَكُمْ ... فَإِنِّي مُصِرٌّ مَا بَقِيتُ عَلَى الذَّنْب وإن أردتم بالجسم ما يُشار إليه إشارةً حسيةً، فقد أشار إليه أعرف الخلق به بإصبعه رافعًا لها إلى السماء، يُشهِد الجَمْع الأعظم، مستشهدًا له (5)، لا للقبلة. _________ (1) البيتان أنشدهما شيخ الإسلام ابن تيمية في «درء التعارض» (1/ 240) لقائل لم يسمه، فلعله أراد بالقائل نفسه. (2) في «درء التعارض»: «ولاء الجميع». (3) لأبي ذؤيب الهذلي في «أشعار الهذليين» (1/ 70): وعيَّرها الواشون أنِّي أحبُّها ... وتلك شَكاةٌ ظاهرٌ عنك عارُها ولعل البيت المذكور هنا مأخوذ عنه. (4) لم نقف على قائله. (5) أخرجه مسلم عن جابر بن عبد الله، كما تقدم (ص 124).
(1/585)
أو أردتم بالجسم ما يُقال: أين هو؟ فقد سأل أعلم الخلق به عنه بأين (1) منبِّهًا على علوه على عرشه، وسمع السؤال بأين وأجاب عنه (2)، ولم يقل هذا السؤال إنما يكون عن الجسم. وإن أردتم بالجسم ما يلحقه «مِن» و «إلى» فقد نزل جبريل من عنده، ونزل كلامه من عنده، وعرج برسوله إليه، وإليه يصعد الكلم الطيب، وعنده المسيح رُفع إليه. وإن أردتم بالجسم ما يتميز منه أمرٌ عن (3) أمرٍ، فهو سبحانه موصوفٌ بصفات الكمال جميعها من السمع والبصر والعلم والقدرة والحياة، وهذه صفات متميزة متغايرة، ومن قال: إنها صفة واحدة، فهو بالمجانين أشبه منه بالعقلاء. وقد قال أعلم الخلق به: «أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَأَعُوذُ بِعَفْوِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ» (4). والمستعاذ به غير المستعاذ منه. وأمَّا استعاذته - صلى الله عليه وسلم - به منه فباعتبارين مختلفين، فإن الصفة المستعاذ بها والصفة المستعاذ منها صفتان لموصوفٍ واحدٍ وربٍّ واحدٍ، فالمستعيذ بإحدى الصفتين من الأخرى مستعيذ بالموصوف (5) بهما منه. _________ (1) أخرجه مسلم، وهو حديث الجارية، وقد تقدم تخريجه (ص 124). (2) يعني: حديث أبي رزين العقيلي - رضي الله عنه - لما سأل النبي (بقوله: «أين كان ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض ... » الحديث. أخرجه أحمد (16438، 16450) والترمذي (3109) وابن ماجه (182) وابن حبان (6140) وقال الترمذي: «حديث حسن». (3) «ح»: «عين». والمثبت من «م». (4) أخرجه مسلم (486). (5) «ح»: «من الموصوف». والمثبت من «م».
(1/586)
وإن أردتم بالجسم ما له وجهٌ ويدان وسمعٌ وبصرٌ، فنحن نؤمن بوجه ربنا الأعلى وبيديه وبسمعه وبصره، وغير ذلك من صفاته (1) التي أطلقها على نفسه. وإن أردتم بالجسم ما يكون فوق غيره ومستويًا على غيره، فهو سبحانه فوق عباده مستوٍ على عرشه. وكذلك إن أردتم بالتشبيه والتركيب هذه المعاني التي دلَّ عليها الوحي والعقل، فنفيكم لها بهذه الألقاب المنكرة خطأ في اللفظ والمعنى، وجناية على ألفاظ الوحي والعقل وحقائق صفات الربِّ. أمَّا الخطأ اللفظي فتسميتكم الموصوف بذلك جسمًا مركبًا مؤلَّفًا مشبهًا لغيره، وتسميتكم هذه الصِّفات تجسيمًا وتركيبًا وتشبيهًا؛ فكذبتم على القرآن وعلى الرَّسول وعلى اللغة، ووضعتم لصفاته ألفاظًا منكم بدأت، وإليكم تعود. وأمَّا خطأكم في المعنى فنفيكم وتعطيلكم لصفات كماله بواسطة هذه التسمية والألقاب، فنفيتم المعنى الحقَّ، وسميتموه بالاسم المنكر. وكنتم في ذلك بمنزلة من سمع أن في العسل شفاءً ولم يره، فسأل عنه فقيل له: مائع رقيق أصفر شبه العذرة تتقيَّأه الزنابير. ومن لم يعرف العسل يَنفِر عنه بهذا التعريف، ومن عرفه وذاقه لم يزده هذا التعريف عنده إلَّا محبةً له ورغبةً فيه. وما أحسن ما قال القائل (2): _________ (1) «ح»: «صفات». والمثبت من «م». (2) البيتان لابن الرومي، أنشدهما في «ديوانه» (3/ 1144)، وقد وقع فيهما تغيير، والصواب كما في «الديوان»: في زخرف القول ترجيح لقائله ... والحق قد يَعْتريهِ بعض تَغييرِ تقول هذا مُجاج النَّحل تمدحه ... وإنْ تَعِبْ قلتَ ذا قَيْءُ الزَّنابيرِ مدحًا وذمًّا وما جاوزتَ وصفهما ... سحر البيان يُري الظلماء كالنور
(1/587)
تَقُولُ هَذَا جَنِيُّ النَّحْلِ تَمْدَحُهُ ... وَإِنْ تَشَأْ قُلْتَ ذَا قَيْءُ الزَّنَابِيرِ مَدْحًا وَذَمًّا وَمَا جَاوَزْتَ وَصْفَهُمَا ... وَالْحَقُّ قَدْ يَعْتَرِيهِ سُوءُ تَعْبِير وأشدُّ ما حاول (1) أعداء الرَّسول من التنفير عنه سوءُ التعبير عمَّا جاء به، وضربُ الأمثال القبيحة له، والتعبيرُ عن تلك المعاني ـ التي لا أحسن منها ـ بألفاظٍ منكرةٍ ألقوها في مسامع المغترين المخدوعين، فوصلت إلى قلوبهم فنفرتْ منه. وهذا شأن كل مبطلٍ، وكلُّ من يكيد الحقَّ وأهله هذه طريقه ومسلكه، وأكثر (2) العقول ـ كما عهدتُ ـ [ق 59 ب] تقبل القول بعبارةٍ وترده بعينه بعبارةٍ أخرى. وكذلك إذا قال الفرعوني: لو كان فوق السماوات ربٌّ أو على العرش إلهٌ لكان مركبًا؛ قيل له: لفظ «المركب» في اللغة هو الذي ركَّبه غيرُه في محله، كقوله تعالى: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَك} [الانفطار: 8] وقولهم: ركبت الخشبة والباب؛ أو ما تَركَّب من أخلاطٍ (3) وأجزاء، بحيث كانت أجزاؤه متفرقة فاجتمعت ورُكبت حتى صار شيئًا واحدًا، كقولهم: ركبت الدواء، وركَّبتُ الطعام من كذا وكذا. فإن أردتم بقولكم: لو كان فوق العرش كان _________ (1) «م»: «جادل». (2) «ح»: «وأكثره». والمثبت من «م». (3) «ح»: «اختلاط». والمثبت من «م».
(1/588)
مركَّبًا هذا التركيبَ المعهودَ أو أنه كان متفرقًا فاجتمع = فهو كذبٌ وفريةٌ وبهتٌ على الله وعلى الشرع وعلى العقل. وإن أردتم أنه لو كان فوق عرشه لكان عاليًا على خلقه بائنًا منهم مستويًا على عرشه ليس فوقه شيءٌ = فهذا المعنى حقٌّ، وكأنك قلت: لو كان فوق العرش لكان فوق العرش، فنفيت الشيء بتغيير العبارة عنه وقَلْبِها إلى عبارةٍ أخرى. وهذا شأنكم في أكثر مطالبكم. وإن أردت بقولك: «كان مركبًا» أنه يتميز منه شيءٌ عن شيءٍ، فقد وصفته أنت بصفاتٍ يتميز بعضها عن بعضٍ، فهل كان هذا عندك تركيبًا؟ فإن قلت: هذا لا يُقال لي، وإنما يُقال لمن أثبت شيئًا من الصِّفات، وأمَّا أنا فلا أُثبت له صفةً واحدةً فرارًا من التركيب. قيل لك: العقل لم يدل على نفي المعنى الذي سمَّيته أنت تركيبًا. وهَبْك سمَّيته تركيبًا وقد دلَّ العقل والوحي والفِطَر على ثبوته؛ أفتنفيه لمجرد تسميتك (1) الباطلة؟ فإن التركيب يُطلق ويُراد به خمسة (2) معانٍ: تركيب الذَّات من الوجود والماهية عند من يجعل وجودها زائدًا على ماهيتها. فإذا نفيت هذا التركيب جعلته وجودًا مطلقًا، إنما هو في الأذهان لا وجود له في الأعيان. الثَّاني: تركيب الماهية من الذَّات والصفات. فإذا نفيت هذا التركيب جعلته ذاتًا مجردةً عن كل وصفٍ، لا يسمع ولا يُبصر ولا يعلم ولا يقدر _________ (1) «ح»: «تسميك». والمثبت من «م». (2) «ح»: «خمس». والمثبت من «م».
(1/589)
ولا يريد ولا له حياة ولا مشيئة ولا صفة أصلًا. فكل ذات في المخلوقات أكمل من هذه الذَّات، فاستفدت بنفيك هذا التركيب كفرك بالله وجحدك لذاته وصفاته وأفعاله، فكان اسم التركيب ملقيًا لك في أعظم الكفر، وموجبًا لك (1) أشد التعذيب. الثَّالث: تركيب الماهية الجسمية من الهيولى (2) والصورة كما يقوله الفلاسفة. الرَّابع: تركيبها (3) من الجواهر الفردة (4) كما يقوله كثيرٌ من أهل الكلام. الخامس: تركيب الماهية من أجزاء كانت متفرقة فاجتمعت وتركبت. فإن أردت بقولك: «لو كان فوق العرش لكان مركبًا» ما تدعيه الفلاسفة والمتكلمون، قيل لك: جمهور العقلاء عندهم أن الأجسام المحدثة المخلوقة ليست مركبة لا من هذا ولا من هذا، فلو كان فوق العرش جسمٌ مخلوقٌ محدثٌ لم يلزم أن يكون مركبًا بهذا الاعتبار، فكيف يلزم ذلك في حقِّ خالق المفرد والمركب، الذي يجمع المتفرق ويُفرِّق المجتمع، ويُؤلِّف بين الأجزاء فيُركبها كما يشاء؟! والعقل إنما دلَّ على إثبات إلهٍ واحدٍ وربٍّ واحدٍ لا شريك له ولا شبيه له، ولم يدل على أن ذلك الربَّ الواحد لا اسم له، ولا صفة له، ولا وجه ولا _________ (1) «ح»: «لكي». (2) تقدم (ص 545) تعريفه. (3) «ح»: «تركبها». والمثبت من «م». (4) تقدم (ص 584) تعريفه.
(1/590)
يدين، ولا هو فوق خلقه، ولا يصعد إليه شيءٌ، ولا ينزل منه شيءٌ. فدعوى ذلك على العقل كذبٌ صريحٌ عليه، كما هي كذبٌ صريحٌ على الوحي. وكذلك قولهم: «نُنزِّهه عن الجهة» إن أردتم أنه منزَّهٌ عن جهة وجودية تحيط به وتحويه وتحصره إحاطة الظرف للمظروف وحصره له، فنعم هو أعظم من ذلك وأكبر وأعلى، ولكن لا يلزم من كونه فوق عرشه هذا المعنى. وإن أردتم بالجهة أمرًا يُوجب مباينة الخالق للمخلوق، وعلوه على خلقه واستواءَه على عرشه؛ فنفيكم لهذا المعنى باطلٌ، وتسميتكم له جهة اصطلاح منكم توسلتم به إلى نفي ما دلَّ عليه العقل والنقل والفطرة. فسمَّيتم ما فوق العالم جهةً، وقلتم: منزَّهٌ عن الجهات. وسميتم العرش حيزًا، وقلتم: الربُّ ليس بمتحيز. وسميتم الصِّفات أعراضًا، وقلتم: الربُّ منزَّهٌ عن قيام الأعراض به. وسميتم حكمته غرضًا، وقلتم: إنه منزهٌ عن الأغراض. وسمَّيتم كلامه بمشيئته، ونزوله إلى سماء الدنيا، ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء، وإرادته ومشيئته المقارنة لمراده، وإدراكه المقارن لوجود المُدرَك، وغضبه إذا عُصي، ورضاه إذا أُطيع، وفرحه إذا تاب إليه العباد، ونداءه لموسى حين أتى إلى الشجرة، ونداءه للأبوين حين أكلا من الشجرة في الجنة، ونداءه لعباده يوم القيامة، ومحبته لمن كان يبغضه في حال كفره ثم صار يحبه [ق 60 أ] بعد إيمانه، وشؤون (1) ربوبيته التي هو كل يوم في شأنٍ _________ (1) «ح»: «وسميتم». والصواب حذف «سميتم»؛ لأنه لم يذكر المفعول الثاني لقوله: «وسميتم كلامه ... » إلى آخره، فقوله: «شؤون ربوبيته» معطوف على «كلامه». ويدل عليه ما في «م»، فإن فيها: «وربوبيته». فحذف كلمة شؤون اختصارًا.
(1/591)
منها = حوادث، وقلتم: الربُّ منزهٌ عن حلول الحوادث. وحقيقة هذا التنزيه أنه منزهٌ عن الوجود، وعن الإلهية (1)، وعن الربوبية، وعن الملك، وعن كونه فعالًا لما يريد، بل عن الحياة والقيومية. ولا يتقرر كونه ربًّا للعالمين وإلهًا للعِباد إلَّا بالتنزيه عن هذا التنزيه، والإجلال عن هذا الإجلال. فانظر ماذا تحت تنزيه المعطلة النُّفاة بقولهم: ليس بجسمٍ، ولا جوهرٍ، ولا مركبٍ، ولا يقوم به الأعراض، ولا يُوصف بالأبعاض، ولا يفعل الأغراض، ولا تحله الحوادث، ولا تحيط به الجهات، ولا يُقال في حقه: «أين»، وليس بمتحيزٍ، كيف كَسَوْا حقائق أسمائه وصفاته، وعلوه على خلقه واستواءَه على عرشه، وتكليمه لعباده، ورؤيتهم له بالأبصار في دار كرامته = هذه الألفاظَ، ثم توسلوا إلى نفيها بواسطتها، وكفَّروا وضلَّلوا مَن أثبتها، واستحلوا منه ما لم يستحلوه من أعداء الله من اليهود والنصارى؟! فالله الموعد، وإليه التحاكم، وبين يديه التخاصم، و: نَحْنُ وَإِيَّاهُمُ نَمُوتُ وَلَا ... أَفْلَحَ عِنْدَ الْحِسَابِ مَنْ نَدِمَا (2) *** _________ (1) «م»: «الماهية». (2) لم نقف على تسمية قائله، ولعله للإمام ابن القيم نفسه، وقد أنشده في «الرسالة التبوكية» (ص 22) أيضًا.
(1/592)
فصل ومن ذلك لفظ العدل، جعلته القدرية اسمًا لإنكار قدرة الربِّ على أفعال عباده وخلقه لها ومشيئته، فجعلوا إخراجها عن قدرته ومشيئته وخلقه هو العدل (1)، وجعل سلفهم إخراجها عن تقدم علمه وكتابته من العدل، وسَمَّوْا أنفسهم بالعدلية، وعَمَدوا إلى إثبات عموم قدرته على كل شيءٍ من الأعيان والأفعال وخلقه لكل شيءٍ وشمول مشيئته له فسمَّوْه جبرًا (2)، ثم نفوا هذا المعنى الصحيح، وعبَّروا عنه بهذا الاسم المنكر، وأثبتوا ذلك المعنى الباطل، وعبَّروا عنه بالاسم المعروف، ثم سمَّوْا أنفسهم أهل العدل والتوحيد (3)، وسمَّوْا مَن أثبت صفات الربِّ وأثبت قَدَره وقضاءه أهل التشبيه والجبر. وكذلك فعل الرَّافضة سواءً، سَمَّوْا موالاة الصَّحابة نَصْبًا، ومعاداتهم موالاةً لأهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكذلك المرجئة سمَّوْا من قال في الإيمان بقول الصَّحابة والتَّابعين واستثنى فيه، فقال: أنا مؤمن إن شاء الله (4) = شكَّاكًا. وهكذا شأن كل مبتدعٍ وملحدٍ، وهذا ميراث مِن تسمية كفار قريشٍ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الصَّبَأة، وصار هذا ميراثًا منهم لكل مبطلٍ وملحدٍ _________ (1) «ح»: «العقل». والمثبت من «م». (2) «ح»: «حيزًا». وهو تصحيف، والمثبت من «م». (3) هم المعتزلة، لقبوا أنفسهم بذلك. وينظر «بدائع الفوائد» للمصنِّف (2/ 648). (4) ينظر مسألة الاستثناء في الإيمان في كتاب «الإيمان» لابن تيمية (ص 334 - 359).
(1/593)
ومبتدعٍ، يُلقِّب الحق وأهله بالألقاب الشنيعة المنفرة. فإذا أطلقوا لفظ الجسم صوروا في ذهن السَّامع جثة من الجثث الكثيفة، أو بدنًا له حاملٌ يحمله. وإذا قالوا: «مركبًا» صوروا في ذهنه أجزاءً كانت متفرقة فركبها مركِّبٌ، وهذا حقيقة المركب لغةً وعرفًا. فإذا قالوا: «يلزم أن تَحُلَّه الحوادث» صوروا في ذهنه ذاتًا تَعتَوِر عليها الآفات وحوادث الزمان. وإذا قالوا: «لا تقوم به الأعراض» صوروا في الذهن ذاتًا تنزل (1) بها الأعراض النَّازلة بالمخلوقين، كما مثَّل النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن آدم وأمله وأجله والأعراض إلى جانبه إن أخطأه هذا أصابه هذا (2). وإذا قالوا: «يقولون بالحيز والجهة» صوروا في الذهن موجودًا محصورًا بالأحياز. وإذا قالوا: «لزم الجبر (3)». صوروا في الذهن قادرًا ظالمًا يجبر الخلق على ما لا يريدون، ويعاقبهم على ما لا يفعلون. وإذا قالوا: «أنتم نواصب» صوروا في الذهن قومًا نصبوا العداوة لآل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته واستحلُّوا حُرُماتهم. _________ (1) «ح»: «نزل». والمثبت من «م». (2) أخرجه البخاري (6417). (3) «ح»: «الحيز». والمثبت من «م».
(1/594)
وإذا قالوا لمن قال أنا مؤمن إن شاء الله: «شكاكًا» صوروا في الذهن قومًا يَشُكُّون في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسوله ولقائه، لا يجزمون بذلك. وإذا قالوا لمن أثبت الصِّفات: «إنه مشبِّهٌ» صوروا في الذهن قومًا يقولون: إن الله مثلهم، وله وجهٌ كوجوههم، وسَمْعٌ كأسماعهم، وبصرٌ كأبصارهم، ويدان كأيديهم، ونزولٌ كنزولهم، واستواءٌ كاستوائهم، وفرحٌ كفرحهم. وإذا قالوا: «حشوية» صوروا في ذهن السَّامع قومًا قد حشوا في الدين ما ليس منه وأدخلوه فيه، وهو حشوٌ لا أصل له. = فتنفر القلوب من هذه الألقاب وأهلها. ولو ذكروا حقيقة قولهم (1) لما قَبِلَت العقول السليمة والفطر المستقيمة سواه، والله يعلم وملائكته ورسله ـ وهم أيضًا ـ أنهم بَراءٌ من هذه المعاني الباطلة، وأنهم أبعد الخلق منها، وأن خصومهم جمعوا بين أذى الله ورسوله بتعطيل صفاته، وبين أذى المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا، فقعدوا تحت قوله [ق 60 ب]: {إِنَّ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اُللَّهُ فِي اِلدُّنْيا وَاَلْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا (57) وَاَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَاَلْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اَكْتَسَبُوا فَقَدِ اِحْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 57 - 58]. أفيظن الجاهلون أنَّا نجحد صفات ربنا، وعلوه على خلقه، واستواءه على عرشه، وتكلُّمَه بالقرآن العربي، وتكليمه لموسى حقيقةً كلامًا أَسْمَعه إيَّاه بغير واسطةٍ، وننكر سمعه وبصره وعلمه وقدرته وحياته وإرادته ووجهه _________ (1) «ح»: «كقولهم». والمثبت من «م».
(1/595)
الكريم ويديه ـ وكلتا (1) يديه يمين ـ اللتين يقبض سماواته بإحداهما والأرض بالأخرى (2)، ورؤية وجهه الكريم في جنات عدن، ومحبته ورضاه، وفرحه بتوبة التَّائبين، ونزوله إلى سماء الدنيا حين يمضي شطر الليل، ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء بين الخلائق؛ لأسماءٍ سمَّوْها هم وسلفهم ما أنزل الله بها من سلطان، وألقابٍ وضعوها من تلقاء أنفسهم لم يأتِ بها سُنةٌ ولا قرآن، وشُبهاتٍ قذفت بها قلوب ما استنارت بنور الوحي، ولا خالطتها بشاشة الإيمان، وخيالاتٍ هي بتخيلات (3) الممرورين (4) وأصحاب الهَوَس (5) أشبه منها بقضايا العقل والبرهان، ووهمياتٍ نِسْبَتُها إلى العقل الصحيح كنسبة السراب إلى الأبصار في القيعان، وألفاظٍ مجملةٍ ومعانٍ مشتبهةٍ قد لُبس فيها الحق بالباطل، فصار ذا خفاءٍ (6) وكتمان. فدعونا من هذه الدعاوي الباطلة التي لا تفيد إلَّا إتعاب الإنسان وكثرة الهذيان، وحاكمونا إلى الوحي والميزان، لا إلى منطق يونان، ولا إلى قول فلان ورأي فلان. فهذا كتاب الله ليس فوق بيانه مرتبة في البيان، وهذه سُنة رسوله مطابقة له أعظم من مطابقة البنان للبنان (7). وهذه أقوال أعقل الأمم _________ (1) «ح»: «اللتين كلتا». (2) تقدم تخريجه. (3) «م»: «تخييلات». (4) يعني: المجانين، كما تقدم (ص 141). (5) الهَوَسُ: طَرَفٌ من الجنون. «الصحاح» (3/ 992). (6) «ذا خفاء» تحرف في «ح» إلى: «داحضًا». والمثبت من «م». (7) «ح»: «البيان للبيان». «م»: «البيان للسان». ولعل المثبت هو الصواب.
(1/596)
بعده والتَّابعين لهم بإحسان، لا يختلف منهم في هذا الباب اثنان (1)، ولا يوجد عنهم فيه قولان متنافيان. بل قد تتابعوا كلهم على إثبات الصِّفات، وعلو الله على خلقه، واستوائه على عرشه، وإثبات تكلمه وتكليمه وسائر ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله كتتابع الأسنان. وقالوا للأُمة: هذا عهد نبينا إلينا، وهو عهدنا إليكم، وإلى مَن بعدكم إلى آخر الزمان، وهذا هو الذي نادى به المنادي، وأذَّن به على رءوس الملأ في السِّر والإعلان، فحيَّ على الصلاة وراء هذا الإمام يا أهل الإيمان، وحيَّ على الفلاح بمتابعته يا أهل القرآن، والصلاة خير من النوم في ظلمة ليلِ الشكوك والإفك والكفران. فلا تصح القدوة بمن أقر على نفسه ـ وصدَّقه المؤمنون ـ بأنه تائهٌ في بيداء الآراء والمذاهب حيران، وأنه لم يصل إلى اليقين بشيءٍ منها، لا هو ولا مَن قبله من أمثاله على تطاول الأزمان، وأن غاية ما وصلوا إليه الشك والتشكيك والحيرة ولقلقة اللسان (2). فالحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى، وخصَّهم بكمال العقول، وصحة الفِطَر، ونور البرهان، وجعلهم هداةً مهتدين، مستبصرين مبصرين، أئمة للمتقين، يهدون بأمره، ويبصرون بنوره، ويدعون إلى داره، ويحاربون (3) كل مُفتَّنٍ فتَّان (4)، فحيَّ على خير العمل بمتابعة المبعوث _________ (1) «ح»: «إثبات». والمثبت من «م». (2) اللقلق: اللسان، واللقلقة: صوته، وكل صوت في اضطراب، أو شدة الصوت. «القاموس المحيط» (ص 922). (3) «م»: «يجادلون». (4) الفتنة: الضلال والإثم، والمفتن: المفتون، والفاتن: المضل عن الحق. «لسان العرب» (13/ 318).
(1/597)
بالفرقان، وتحكيمه وتلقِّي (1) حُكْمه بالتسليم والقبول والإذعان، ومقابلة ما خالف حكمه بالإنكار والردِّ والهوان، ومطاعنة المعارضين له بعقولهم بالسَّيف والسِّنان (2)، وإلا فبالقلم واللسان. فالعقول السليمة والفِطَر المستقيمة لنصوص الوحي يسجدان، ويُصدِّقان بما شهدت به ولا يُكذِّبان، ويُقرَّان أن لها عليهما أعظم السلطان، وأنهما إن خرجا عنها غُلبا ولا ينتصران، [وإن استقاما عليها] (3) ظفرا بالهُدى والعلم واليقين والإيمان. والله المستعان، وعليه التكلان. الوجه السَّابع والخمسون: أن المعارضة بين العقل ونصوص الوحي لا تتأتَّى على قواعد المسلمين المؤمنين بالنُّبوة حقًّا، ولا على أصول أحدٍ من أهل الملل المُصدِّقين بحقيقة النُّبوة. وليست هذه المعارضة من الإيمان بالنُّبوة في شيءٍ، وإنما تتأتى هذه المعارضة ممَّن يُقرُّ بالنُّبوة على قواعد الفلسفة ويجريها على أوضاعهم، وأن الإيمان بالنُّبوة عندهم هو الاعتراف بموجودٍ حكيمٍ له طالعٌ مخصوصٌ يقتضي طالعه أن يكون متبوعًا، فإذا أخبرهم بما لا تدركه عقولهم عارضوا خبره بعقولهم، وقدَّموها على خبره. فهؤلاء هم الذين عارضوا بين العقل ونصوص الأنبياء، فعارضوا نصوص الأنبياء في باب الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر في هذه الأصول الخمس بعقولهم، فلم يصدقوا بشيءٍ منها على طريقة الرُّسل. _________ (1) «ح»: «وتكفي». والمثبت من «م». (2) السِّنان: نصل الرمح، والسنان: القوة. «النهاية في غريب الحديث» (2/ 411) و «لسان العرب» (13/ 223). (3) «إن استقاما عليها» ليس في «ح». وزدته ليستقيم السياق.
(1/598)
ثم سَرَتْ معارضتهم [ق 61 أ] في المنتسبين إلى الرُّسل، فتقاسموها تقاسُم الوارث لتركة موروثهم، فكل طائفةٍ كان الوحي على خلاف مذهبهم وقول من قلَّدوه (1) لجؤوا إلى هذه المعارضة، واعتصموا بها دون نصوص الوحي، ومعلومٌ أن هذا يناقض الإيمان بالنبوة، وإن تناقَضَ القائل به. فغايته أن يثبت كون النبي رسولًا للعمليات دون العِلميات، أو في بعض العِلميات التي أخبر بها دون البعض. وهذا أسوأ حالًا ممَّن جعله رسولًا إلى بعض النَّاس دون بعض، فإن القائل بهذا يجعله رسولًا في العِلميات والعمليات، ولا يعارض بين خبره وبين العقل، وإن تناقض في جحده عموم رسالته بالنسبة إلى كل مكلفٍ. فهذا جَحَدَ عموم رسالته إلى المدعوين، وذاك جحد عموم رسالته في المدعو إليه المخبر به، ولم يؤمن في الحقيقة برسالته لا هذا ولا هذا. فإنه يُقال لهذا: إن كان رسولَ الله إلى هؤلاءحقًّا فهو رسوله إلى الآخرين قطعًا؛ لأنه أخبر بذلك، ومن ضرورة تصديقه الإيمان بعموم رسالته. ويقال للآخر: إن (2) كان رسولَ الله في العمليات وأنها حقٌّ من عند الله فهو رسوله في العِلميات (3)، فإنه أخبر عنه بهذا وهذا. الوجه الثَّامن والخمسون: أن أمر النُّبوة وما يُخبر به الرَّسول عن الله هو طَوْرٌ آخر وراء مدارك الحسِّ والعقل والخيال والوهم والمنام والكشف، والعقل معزولٌ عمَّا يُدرك بنور النبوة وطُرق الوحي، كعزل السمع عن إدراك الألوان (4)، _________ (1) «ح»: «قلده». (2) «إن» سقط من «ح». وأثبته من «م». (3) «ح»: «العمليات». والمثبت من «م». (4) «ح»: «الأكوان».
(1/599)
والبصر عن إدراك الأصوات، وسائر الحواس عن إدراك المعقولات. فكما أن العقل طورٌ من أطوار الآدمي يحصل فيه عينٌ يبصر بها أنواعًا من المعقولات والحواس معزولة عنها، فالنبوة طورٌ آخر يحصل فيه عينٌ لها نورٌ يظهر في نورها أمورٌ لا يدركها العقل، بل هو معزول عنها كعزل الحواس عن مدارك العقول. فتكذيب ما يدرك بنور النبوة لعجز العقل عن إدراكه وكونه معزولًا عنه كتكذيب ما يدركه العقل لعجز الحواس عن إدراكه وكونها معزولة عنه، فإن الإنسان كما قال الله عز وجل: {وَاَللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78] فهو في أصل الخلقة خُلق خاليًا ساذجًا لا عِلْم له بشيءٍ من المعقولات ولا المحسوسات البتةَ. فأول ما يُخلق فيه حاسة اللمس، فيدرك بها أجناسًا من الموجودات كالحرارة والرطوبة واليبوسة واللين والخشونة وغيرها، فاللمس قاصر عن الألوان والأصوات، بل هي كالمعدومة بالنسبة إليه. ثم يُخلق له البصر فيدرك به الألوان والأشكال والقُرب والبُعد والصِّغَر والكِبَر والطول والقصر والحركة والسكون وغير ذلك. ثم ينفتح له السمع فيسمع الأصوات السَّاذجة والنغمات، ثم يترقى في مدارك هذه الحاسة على التدريج حتى يسمع من البُعد ما لم يكن يسمعه قبل ذلك. ويتفاوت النَّاس في قوة هذين الإدراكين وضعفهما تفاوتًا بيِّنًا حتى يدرك الواحد ما يجزم الآخر بكذبه فيه، والمُدْرِك مشاهدٌ له لا يمكنه تكذيب نفسه فيه، وذنبه عند المُكذِّب له أنه اختص بإدراكه دونه. ثم يُخلق له الذوق فيدرك به تفاضُل الطعوم من الحلاوة والحموضة والمرارة وما بين ذلك ما لم يكن له به شعورٌ قبل ذلك، وكذلك الشم هو
(1/600)
أكمله، وليس عنده من المعقولات عينٌ ولا أثرٌ ولا حسٌّ ولا خبرٌ. ثم يُخلق فيه التمييز، وهو طورٌ آخر من أطوار وجوده، فيدرك في هذا الطور أمورًا أُخَرَ زائدة على المحسوسات لم يكن يدركها قبل ذلك. ثم يترقى إلى طورٍ آخر يدرك به الواجب والجائز والمستحيل، وأن حكم الشيء حكم مثله، والضد لا يجتمع مع ضده، والنقيضان إذا صدق أحدهما كذب الآخر، ونحو ذلك من أوائل العلوم الضرورية. ثم يترقى إلى طورٍ آخر يستنتج فيه العلوم النظرية من تلك الضروريات التي تقدَّم علمه بها، ثم يترقى في هذا الطور من أمرٍ إلى أمرٍ فوقه وأغمض منه نسبةُ ما قبله إليه كنسبة الحسِّ إلى العقل. ثم وراء ذلك كله طورٌ آخر نسبةُ ما قبله إليه كنسبة أطوار الإنسان إلى طور العقل أو دون هذه النسبة، ينفتح فيه عينٌ يُبصر بها الغيب وما سيكون في المستقبل وأمورًا العقل معزولٌ عنها كعزل الحسِّ عن مدركات العقل. وهذا هو طور النبوة الذي نسبةُ نور العقل المجرد إليه دون نسبة ضوء السِّراج إلى الشمس. فإنكار العقل لما يُخبر به النبي عين الجهل، ولا مستند له في إنكاره، إلَّا أنه لم يبلغه ولم يصل إليه، فيظن أنه غير ثابتٍ في نفسه. يوضحه: الوجه التَّاسع والخمسون: وهو أنك [ق 61 ب] إذا جعلت العقل ميزانًا ووضعت في أحد كِفَّتَيْه كثيرًا من الأمور المشاهَدة المحسوسة التي ينالها العيان، ووضعت في الكِفَّة الأخرى الأمور التي أخبرتْ بها الرسل عن الله وأسمائه وصفاته وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وجدت ترجيحَه لهذه الكفة وتصديقه بها فوق ترجيحِه للتي قبلها وتصديقِه بها أقوى (1)، ولولا _________ (1) كذا في «ح، «م» ولفظ أقوى زائد اختل به السياق، فقد تمَّ الكلام قبله.
(1/601)
الحسُّ والمشاهدة تمنعه من إنكار ذلك لأنكره. وهذه دعوى نعلم أنك تتعجب ممَّن (1) يدعيها، وتنسبه إلى المجازفة، وقلة التحصيل، والخطابة التي تليق بالعامة. وعَمْرو الله إن مدَّعيها ليعجب من إنكارك (2) لها وتوقُّفك فيها بعد البيان. فنقول وبالله التوفيق: انْسُبْ إلى العقل حيوانًا يرى ويسمع ويُحسُّ ويتكلم ويعمل، فغشيه أمرٌ أُلقي له كأنه خشبة لا روح فيها، وزال إحساسه وإدراكه، وتوارى عنه سمعه وبصره وعقله، بحيث لا يعلم شيئًا، فأدرك في هذه الحال من العلوم العجيبة والأمور الغائبة ما لم يدركه حال حضور ذهنه واجتماع حواسه ووفور عقله، وعلم من أمور الغيب المستقبلة ما لم يكن له دليلٌ ولا طريقٌ إلى العلم به. وانسب إليه أيضًا حيوانًا خرج من إحليله مجَّةُ ماءٍ مستحيلةُ (3) عن حصول الطعام والشراب كالمَخْطة، فامتزجت بمثلها في مكانٍ ضيقٍ، فأقامت هناك برهةً من الدهر، فانقلبت دمًا قد تغير لونها وشكلها وصفاتها، فأقامت كذلك مدةً، ثم انقلبت قطعة لحمٍ، فأقامت كذلك مدةً، ثم انقلبت عظامًا وأعصابًا وعروقًا وأظفارًا مختلفة الأشكال والأوضاع، وهي جماد لا إحساس لها، ثم عادت حيوانًا يتحرك ويتغذى وينقلب، ثم أقام ذلك الحيوان مدة ًطويلةً في مكانٍ لا يجد فيه متنفسًا، وهو داخل أوعية بعضها فوق بعضٍ، ثم انفتح له بابٌ ضيقٌ عن مسلك الذَّكر ـ فلا يسلكه إلَّا بضغطه _________ (1) «ح»: «من». والمثبت من «م». (2) «ح»: «إنكارها». والمثبت من «م». (3) أي: متحولة.
(1/602)
وعصره ـ فوُسع له ذلك الباب حتى خرج منه (1). وانْسُبْ إليه أيضًا شيئًا بقدر الحبة ترسله في مدينةٍ عظيمةٍ من أعظم المدن فيأكل المدينة وكل من فيها، ثم يقبل على نفسه فيأكلها، وهو النَّار. وانسب إليه أيضًا شيئًا بقدر بِزر الخَشْخاش (2) يحمله الإنسان بين ثيابه مدةً، فينقلب حيوانًا يتغذى بورق الشجر بُرهةً، ثم إنه يبني على نفسه قِبابًا مختلفة الألوان من أبيض وأصفر وأحمر بناءً محكمًا متقنًا، فيقيم (3) في ذلك البناء مدةً من الزمان لا يتغذى بشيءٍ البتةَ، فينقلب في القبة طائرًا له أجنحة يطير بها بعد أن كان دودًا يمشي على بطنه، فيفتح على نفسه باب القبة ويطير، وذلك دود القز. إلى أضعاف أضعاف ما ذكرنا ممَّا يُشاهد بالعيان ممَّا لو حُكي لمن لم يره لَعَجِبَ من عقل مَن حكاه له، وقال: وهل يُصدِّق بهذا عاقل؟! وضرورة العقل تدفع هذا. وأقام الأدلة العقلية على استحالته. فقال (4) في النَّائم مثلًا: القوى الحساسة أسباب لإدراك الأمور الوجودية _________ (1) قد تكلم المصنف - رحمه الله - على مراحل خلق الجنين وعجيب صنع الله سبحانه فيه في مواضع كثيرة، منها: «التبيان في أيمان القرآن» (1/ 608 - 609) و «مفتاح دار السعادة» (2/ 538 - 543). (2) نبات حولي، يُستخرج الأفيون من ثماره، واحدته خشخاشة. «المعجم الوسيط» (1/ 235). (3) «ح»: «فيقم». والمثبت من «م». (4) «ح»: «فقام». والمثبت من «م».
(1/603)
وآلة لها فمن لا يُدرك الشيء مع وجودها واستجماعها ووفورها فلأن (1) يتعذر عليه إدراكه مع عدمها (2) وبطلان أفعالها أولى وأحرى. وهذا قياس أنت تجده أقوى من الأقيسة التي يُعارض بها خبر الأنبياء، والحس والعيان يدفعه. ومن له خبرة بمواد الأدلة وترتيب مقدماتها وله أدنى بيانٍ يُمْكِنه أن ينظم أدلة عقلية على استحالة كثيرٍ من الأمور المشاهدة المحسوسة، وتكون مقدمات تلك الأدلة من جنس مقدمات الأدلة التي تُعارض بها النصوص أو أصح منها. وانسب إلى العقل وجود ما أخبرت به الرُّسل عن الله وصفاته وأفعاله وملائكته وعن اليوم الآخر، وثبوت هذه الأمور التي ذكرنا اليسير منها، وما لم نذكره ولم يخطر لنا ببالٍ أعجب من ذلك بكثيرٍ، تَجِدْ تصديقَ العقل بما أخبرت به الرسل أقرب إليه من تصديقه بهذه الأمور، ولولا المشاهدة لكذب بها. فيا لِلَّه العَجَبُ كيف يستجيز العقل إنكار ما أخبرت به الرُّسل بعد أن رأى وعاين وسمع ما لولا الحسُّ لأنكره غاية الإنكار! ومن هاهنا قال من صحَّ عقله وإيمانه: إن نسبة العقل إلى الوحي أدق وأقل بكثيرٍ من نسبة مبادئ سنِّ (3) التمييز إلى العقل. _________ (1) «ح»: «فأن». والمثبت من «م». (2) «ح»: «وجودها». والمثبت من «م». (3) «ح»: «منادى شز». وفي «م»: «مبادئ». ولعل المثبت هو الصواب.
(1/604)
الوجه الستون: أن هؤلاء المعارضين بين العقل والوحي لا يمكنهم إثبات الصَّانع ـ بل نفيه (1) بالكلية لازم قولهم لزومًا بيِّنًا ـ ولا أن العالم مخلوقٌ له، ولا يمكنهم إقامة الدليل على استحالة إلهين، ولا يمكنهم إقامة دليلٍ واحدٍ على استحالة كون الصَّانع جسمًا، ولا يمكنهم إثبات كونه عالمًا ولا قادرًا ولا ربًّا؛ فهم عاجزون عن إثبات [ق 62 أ] وجود الصَّانع، فضلًا عن تنزيهه. ونقتصر من هذه الجملة على بيان عجزهم عن إثبات وجوده سبحانه، فضلًا عن تنزيهه عن صفات كماله، فنقول: المُعارِضون بين الوحي والعقل في الأصل هم الزنادقة المنكرون للنبوات وحدوث العالم والمعاد، ووافقهم في هذا الأصل الجهمية والمعطلة لصفات الربِّ وأفعاله، والطَّائفتان لم تُثبت (2) للعالم صانعًا البتةَ، فإن الصَّانع الذي أثبتوه وجوده مستحيلٌ، فضلًا عن كونه واجب الوجود قديمًا. أمَّا زنادقة الفلاسفة فإنهم أثبتوا للعالم صانعًا لفظًا لا معنًى، ثم لبَّسوا على النَّاس وقالوا: إن العالم صُنْعُه وفِعْلُه وخَلْقُه. وهو في الحقيقة عندهم غير مصنوعٍ ولا مخلوقٍ ولا مفعولٍ، ولا يمكن على أصلهم أن يكون العالم مخلوقًا ولا مفعولًا. قال أبو حامد (3): «وذلك لثلاثة أوجه: وجه في الفاعل، ووجه في الفعل، ووجه في نسبة مشتركة بين الفعل والفاعل. _________ (1) «ح»: «نعته». والمثبت من «م». (2) كذا في «ح»، «م» في موضع: «لم تثبتا». (3) «تهافت الفلاسفة» (ص 134).
(2/605)
أمَّا الذي في الفاعل فهو أنه لا بد أن يكون مريدًا مختارًا عالمًا بما يريده حتى (1) يكون فاعلًا لما يريده، والله تعالى عندهم ليس مريدًا، بل لا صنعة له أصلًا، وما يصدر عنه فيلزم لزومًا ضروريًّا. والثَّاني: أن العالم قديمٌ عندهم، والفعل هو الحادث. والثَّالث: أن الله تعالى عندهم واحدٌ من كل وجهٍ، والواحد لا يصدر عنه عندهم إلَّا واحدٌ، والعالم مركب من مختلفات، فكيف يصدر عنه؟!». قال (2): «ولنحقق وجه كل واحدٍ من هذه الوجوه الثلاثة مع جدالهم في دفعه، فنقول: الفاعل عبارةٌ عمَّن يصدر عنه الفعل مع الإرادة للفعل على سبيل الاختيار مع العلم بالمراد، وعندهم أن العالم مع الله كالمعلول مع العلة يلزم لزومًا ضروريًّا لا يتصور من الله دفعه، لزومَ (3) الظل للشخص والنور للشمس، وليس هذا من الفعل في شيءٍ. بل من قال: إن السراج يفعل الضوء والشخص يفعل الظل، فقد تَجَوَّزَ (4) وتوسَّع في التجوُّز توسعًا خارجًا عن الحدِّ، واستعار اللفظ واكتفى (5) بوقوع المشاركة بين المستعار له والمستعار عنه (6) في وصفٍ واحدٍ، وهو أن الفاعل سبب على الجملة، والسراج سبب للضوء، والشمس سبب للنور. والفاعل لم يُسمَّ فاعلًا صانعًا _________ (1) «ح»، «م»: «حين». والمثبت من «تهافت الفلاسفة». (2) «تهافت الفلاسفة» (ص 134 - 135). (3) في «تهافت الفلاسفة»: «كلزوم». (4) «ح»، «م»: «جاوز». والمثبت من «تهافت الفلاسفة». (5) «تهافت الفلاسفة»: «اكتفاء». (6) «تهافت الفلاسفة»: «منه».
(2/606)
بمجرد كونه سببًا، بل بكونه سببًا على وجه الإرادة والاختيار، حتى لو قال قائل: الجدار ليس بفاعلٍ، والحجر ليس بفاعلٍ، والجماد ليس بفاعلٍ، وإنما الفعل للحيوان = لم ننكر ذلك، ولم يكن قوله كذبًا. وللحجر فعلٌ عندهم، وهو الهُوِيُّ إلى السفل والميل إلى المركز، كما أن للنار فعلًا، وهو التسخين، وللحائط فعلًا، وهو الميل إلى المركز ووقوع الظل؛ لأن ذلك صادرٌ عنه، وهذا محالٌ». قال (1): «فإن قيل: كل موجودٍ ليس بواجب الوجود لذاته، بل هو موجودٌ بغيره، فإنا نُسمي ذلك الشيء مفعولًا، ونُسمي سببه فاعلًا، ولا نُبالي كان المسبب فاعلًا بالطبع أو بالإرادة، كما أنكم لا تُبالون أنه كان فاعلًا بآلةٍ أو بغير آلةٍ، بل الفعل (2) جنسٌ ينقسم إلى ما يقع بآلةٍ وإلى ما يقع بغير آلةٍ، فكذلك هو جنسٌ ينقسم إلى ما يقع بالطبع وإلى ما يقع بالاختيار، بدليل أنَّا إذا قلنا: فِعْلٌ بالطبع، لم يكن قولنا «بالطبع» ضدًّا لقولنا «فعل» ولا دفعًا ولا نقضًا له، بل كان بيانًا لنوع الفعل، كما إذا قلنا: فعل مباشرةً (3) بغير آلةٍ، لم يكن نقضًا، بل كان تنويعًا وبيانًا، وإذا قلنا: فعل بالاختيار، لم يكن تَكرارًا، بل كان بيانًا لنوع الفعل، كقولنا: فعل بآلةٍ. ولو كان قولنا «فعل» يتضمن الإرادة وكانت الإرادة ذاتية للفعل من حيث إنه فعل لكان قولنا «فعل بالطبع» متناقضًا كقولنا: فعل وما فعل. قلنا (4): هذه التسمية فاسدةٌ. لا يجوز أن يُسمَّى كل سببٍ بأي وجهٍ كان _________ (1) «تهافت الفلاسفة» (ص 135 - 138). (2) «ح»: «لعقل». والمثبت من «م»، «تهافت الفلاسفة». (3) «ح»: «مباشر». والمثبت من «م»، «تهافت الفلاسفة». (4) القائل هو الغزالي في «تهافت الفلاسفة».
(2/607)
فاعلًا، ولا كل سبب مفعولًا. ولو كان ذلك ما صحَّ أن يُقال: الجماد لا فعل له، وإنما الفعل للحيوان. وهذه من الكليات (1) المشهورة الصَّادقة. فإن سُمي الجماد فاعلًا فبالاستعارة، كما يُسمى طالبًا مريدًا على سبيل المجاز، إذ يُقال: الحجر يَهوِي لأنه يريد المركز ويطلبه. والطلب والأمر حقيقة لا يتصور إلَّا مع العلم بالمراد المطلوب، فلا يتصور إلَّا مع الحيوان. وأمَّا قولكم: «إن قولنا «فعل» عامٌّ، وينقسم إلى ما هو بالطبع وإلى ما هو بالإرادة» [فهو] (2) غير مسلَّمٍ، وهو كقول القائل: قولنا «أراد» عامٌّ، وينقسم إلى من يريد مع العلم بالمراد، وإلى من يريد ولا يعلم ما يريد. وهو فاسد؛ إذ الإرادة تتضمن العلم بالضرورة، وكذلك الفعل يتضمن الإرادة بالضرورة. وأمَّا قولكم: «إن قولنا «فعل بالطبع» ليس بنقضٍ للأول»، فليس كذلك، فإنه نقضٌ له من حيث الحقيقة، ولكنه لا يسبق إلى الفهم التناقض (3)، ولا يشتد نفور الطبع عنه، فإنه لمَّا أن كان سببًا بوجهٍ ما (4) والفاعل أيضًا سبب [ق 62 ب] سُمي فاعلًا مجازًا. وإذا قال: «فعل بالاختيار» فهو تكرير على التحقيق كقوله: أراد وهو عالمٌ بما أراد، إلَّا أنه لمَّا تصور أن يُقال: «فعل» وهو مجازٌ، ويقال: «فعل» وهو حقيقةٌ، لم تنفر النفس عن قوله «فعل بالاختيار» وكان معناه: فَعَلَ فعلًا حقيقيًّا لا مجازيًّا، كقول القائل: تكلم بلسانه ونظر بعينه. فإنه لمَّا جاز أن _________ (1) «ح»، «م»: «الكلمات». والمثبت من «تهافت الفلاسفة». (2) من «تهافت الفلاسفة». (3) «ح»: «فهم المتناقض». والمثبت من «م»، «تهافت الفلاسفة». (4) «ح»، «م»: «موجبا». والمثبت من «تهافت الفلاسفة».
(2/608)
يستعمل النظر في القلب مجازًا، أو الكلام في تحريك الرَّأس واليد مجازًا، لم يستقبح أن يُقال: قال بلسانه ونظر بعينيه (1). ويكون معناه نفي احتمال المجاز؛ فهذه مزلة القدم. فإن قيل: تسمية الفاعل فاعلًا إنما تُعرف من اللغة، وإلَّا فقد ظهر في العقل أن ما يكون سببًا للشيء ينقسم إلى ما يكون مريدًا وإلى ما لا يكون، فوقع النِّزاع في أن اسم الفاعل على كلا القسمين حقيقة أم لا؛ إذ العرب تقول: النَّار تُحرِق، والثلج يُبرِّد، والسيف يَقطَع، والخبز يُشبِع، والماء يُروِي، فقولنا: «يقطع» معناه يفعل القطع، وقولنا: «تحرق» معناه تفعل الإحراق. فإن قلتم: إن ذلك مجازٌ، فأنتم متحكمون من غير مستندٍ. قال: والجواب أن ذلك بطريق المجاز، وإنما الفعل الحقيقي ما يكون بالإرادة. والدليل عليه أنَّا لو فرضنا حادثًا توقف حصوله على أمرين، أحدهما إرادي والآخر غير إرادي، أضاف العقل الفعل إلى الإرادي، فكذا اللغة. فإن من ألقى إنسانًا في نارٍ فمات، فيقال هو القاتل دون النَّار، حتى إذا قيل: ما قتله إلَّا فلان، كان صادقًا. فإن كان اسم الفاعل على (2) المريد وغير (3) المريد على وجهٍ واحدٍ لا بطريق كون أحدهما أصلًا والآخر مستعارًا، فلِمَ يُضاف القتل إلى المريد لغةً وعرفًا وعقلًا، مع أن النَّار هي العلة القريبة في القتل (4)؟ وكأن الملقي لم يتعاطَ إلَّا الجمع بينه وبين النَّار، _________ (1) «م»، «تهافت الفلاسفة»: «بعينه». (2) «على» ليس في «ح»، «م». وأثبته من «تهافت الفلاسفة». (3) «ح»: «وعين». والمثبت من «م»، «تهافت الفلاسفة». (4) «ح»، «م»: «العقل». والمثبت من «تهافت الفلاسفة».
(2/609)
ولكن لمَّا كان الجمع بالإرادة وتأثير النَّار بغير إرادة سُمي قاتلًا، ولم تُسمَّ النَّار قاتلة إلَّا بمعنى الاستعارة، فعُلم أن الفاعل من يصدر الفعل عن إرادته، وإذا لم يكن الله مريدًا عندهم ولا مختارًا للفعل (1) لم يكن صانعًا ولا فاعلًا إلَّا مجازًا. فإن قيل: نحن نعني بكون الله فاعلًا أنه سبب لوجود كل موجودٍ سواه، وأن العالم قوامه به، ولولا وجود الباري لما تصور وجود العالم، ولو قدر عدم الباري لانعدم العالم، كما لو قدر عدم الشمس لانعدم الضوء، فهذا ما نعنيه بكونه فاعلًا، فإن كان الخصم يأبى أن يُسمي هذا المعنى فعلًا فلا مشاحَّة (2) في الأسامي بعد ظهور المعنى. قلنا: غرضنا أن نبيِّن أن هذا المعنى لا يُسمى فعلًا وصنعًا، وإنما يُسمى بالفعل والصنع ما يصدر عن الإرادة حقيقةً، وقد نفيتم حقيقة معنى الفعل، ونطقتم بلفظه تجملًا بالإسلام (3)، ولا يتم الدِّين بإطلاق الألفاظ الفارغة عن المعاني، فصرِّحوا بأن الله لا فعل له، حتى يتضح أن معتقدكم مخالفٌ لدين المسلمين، ولا تُلَبِّسوا بقولكم إن الله صانع العالم، وإن العالم صنعه؛ فإن هذه لفظة أطلقتموها ونفيتم حقيقتها. ومقصود هذه المسألة الكشف عن هذا التلبيس فقط». ثم ساق الكلام إلى آخر المسألة. قلت: ولا ريب أن أصولهم التي عارضوا بها الوحي تنفي وجود الصَّانع، فضلًا عن كونه صانعًا للعالم؛ بل تجعله ممتنع الوجود، فضلًا عن _________ (1) «تهافت الفلاسفة»: «لفعل العالم». (2) أي: لا مضايقة ولا منازعة. «الكليات» للكفوي (ص 970). (3) «تهافت الفلاسفة»: «بالإسلاميين».
(2/610)
كونه واجب الوجود؛ لأن الصِّفات التي وصفوه بها صفات معدومٍ ممتنعٍ في العقل والخارج، فلا العقل يتصوره (1) إلَّا على سبيل الفرض الممتنع كما يفرض المستحيلات، ولا يمكن في الخارج وجوده، فإن ذاتًا هي وجود مطلق لا ماهية لها سوى الوجود المطلق المجرد عن كل ماهية، ولا صفة لها البتة، ولا فيها معنيان متغايران في المفهوم، ولا هي هذا العالم ولا صفة من صفاته، ولا داخلة فيه ولا خارجة عنه، ولا متصلة به ولا منفصلة عنه، ولا محايثة له ولا مباينة، ولا فوقه ولا تحته، ولا يمينه ولا يساره (2)، ولا تُرى ولا يمكن أن تُرى، ولا تدرِك شيئًا، ولا تُدرك هي بشيءٍ من الحواس، ولا هي متحركة ولا ساكنة، ولا توصف بغير السلوب والإضافات العدمية، ولا تُنعت (3) بشيءٍ من الأمور الثبوتية = هي بامتناع الوجود أحق منها بإمكان الوجود، فضلًا عن وجوبه. وتكليف العقل بالاعتراف بوجود هذه الذَّات ووجوبها كتكليفه الجمع بين النقيضين، ومعلوم أن مثل هذه الذَّات لا تصلح لفعلٍ ولا ربوبيةٍ ولا إلهيةٍ، وأي ذاتٍ فُرضت في الوجود فهي أكمل منها. فالذي جعلوه واجب الوجود هو أعظم استحالة من كل ما يُقدر مستحيلًا. فلا يكثر عليهم بعد هذا إنكارهم لصفاته، كعلمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره، ولا إنكارهم لكلامه وتكليمه، فضلًا عن استوائه على عرشه ونزوله [ق 63 أ] إلى سماء الدنيا، ومجيئه وإتيانه، وفرحه وحبه، وغضبه _________ (1) «ح»: «يتصور». والمثبت من «م». (2) «ح»: «يسرته». والمثبت من «م». (3) «ح»: «نفعت». والمثبت من «م».
(2/611)
ورضاه. فمَن هدم قواعد البيت من أصلها هان عليه هدم السقف والجدران! ولهذا كان حقيقة قول هؤلاء القول بالدهر، وإنكار الخالق بالكلية، وقولهم: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا اَلدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا اَلدَّهْرُ} [الجاثية: 23]. وإنما صانعوا المسلمين بألفاظٍ لا حقيقة لها. واشتق إخوانهم الجهمية النفي والتعطيل من أصولهم، فسدُّوا على أنفسهم طريق العلم بإثبات الخالق وتوحيده (1) بمشاركتهم لهم في الأصل المذكور، وإن باينوهم في بعض لوازمهم، كإثباتهم كون الربِّ تعالى قادرًا مريدًا فاعلًا بالاختيار، وإثباتهم معاد الأبدان والنبوة، ولكن لم يثبتوا ذلك على الوجه الذي جاءت به الرُّسل، ولا نفوه نفي إخوانهم الملاحدة، بل اشتقوا مذهبًا بين المذهبين، وسلكوا طريقًا بين الطريقين، لا للملاحدة فيه وافقوا، ولا للرسل اتبعوا. ولهذا عظمت بهم البلية على الإسلام وأهله بانتسابهم إليه، وظهورهم في مظهرٍ ينصرون به الإسلام، ويردون به على الملاحدة، فلا للإسلام نصروا، ولا لأعدائه كسروا، بل أتباع الرُّسل كفَّروهم وضلَّلوهم، وصاحوا بهم من أقطار الأرض: امتازوا من المسلمين أيها المعطلون، وانحازوا إلى إخوانكم من الملاحدة الذين هم بربهم يعدلون، وخَلُّوا عن نصوص الوحي، فكم بها تتلاعبون، فمرةً تقولون: هي أدلةٌ لفظيةٌ معزولةٌ عن إفادة العلم واليقين. ومرةً تقولون: هي مجازات واستعارات لا حقيقة لها عند العارفين. ومرةً تقولون: لا سبيل إلى تحكيمها والالتفات إليها وقد عارضها المعقول وقواطع البراهين. ومرةً تقولون: أخبار آحادٍ فلا يُحتجُّ بها في المسائل _________ (1) «م»: «وتوحده».
(2/612)
القطعية التي يُطلب منها اليقين. فأرضيتم بذلك إخوانكم من الملاحدة أعداء الدِّين، وكنتم بذلك لهم موافقين، فصالوا عليكم به فيما أثبتموه، وكنتم به من الإسلام وأهله متقربين، وصال عليكم المسلمون (1) بما وافقتم فيه إخوانكم من الضلال المبين، فتدافعكم الفريقان تدافع الكرة بين الضَّاربين. فدعونا من التلبيس والمصانعة، بالله هل أثبتم للعالم ربًّا بائنًا عنه، وهل عندكم فوق العرش إلهٌ يُعبد، ويُصلى له ويسجد، أم ليس فوق العرش إلَّا العدم الذي لا شيء هو؟ وهل أثبتم لصانع العالم سبحانه صفةً ثبوتيةً تقوم به، فهل أثبتم له علمًا حقيقةً، وسمعًا وبصرًا، وحياة ومشيئة وإرادة حقيقةً؟ وهل تعتقدون أنه تكلم أو كلَّم أحدًا حقيقةً، أو أمر أو نهى، أو قال أو يقول، أو نادى أو يُنادي، أو أخبر أو نبَّأ أو أنبأ، أو عَهِدَ أو وصَّى، أو خاطب أو ناجى، أو أثنى على نفسه أو على أحدٍ من خلقه، أو قال قط: {إِنَّنِيَ أَنَا اَللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} [طه: 13] أو نزل من عنده شيءٌ، أو صعد إليه شيءٌ، أو قام به فعل البتة يجب أن (2) يكون به فاعلًا، أو قام به حُبٌّ أو بغضٌ، أو رضًا أو سُخْط، أو له وجهٌ أعلى، أو خَلَقَ آدم بيديه، أو أَغرَسَ (3) جنة عدنٍ بيده، أو كتب التوراة بيده (4)، أو يقبض سماواته السبع بيده والأرضين السبع بيده (5)، أو كتب بيده كتابًا فهو عنده موضوعٌ على العرش أن رحمته سبقت غضبه (6)، _________ (1) «ح»: «المسلمين». (2) «أن» ليس في «ح». (3) كذا في «ح» وهو صحيح؛ يقال: غرس الشجر يغرسه: أثبته في الأرض، كأغرسه. «القاموس المحيط» (ص 561). (4) تقدم تخريجه. (5) تقدم تخريجه. (6) أخرجه البخاري (3194) ومسلم (2751) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
(2/613)
أو يراه أنبياؤه ورسله والمؤمنون في دار الجزاء، فضلًا عن أن يتجلى لهم من فوقهم يضحك إليهم (1) ويُسلِّم عليهم؟! فبالله (2) هل لهذا كله عندكم حقيقةٌ؟! أم إذا تجملتم وأجملتم قلتم: كل ذلك مجازاتٌ واستعاراتٌ ليس له حقيقة. فاسألوا بالله إذًا إخوانكم من أرباب المعقولات هل يُصدِّق أحدٌ منكم أن إنسانًا خُلق من ترابٍ، وأنه يعود حيًّا بعدما صار إلى التراب. وأن عصًا انقلبت فصارت حيةً عظيمةً أكلت ما مرَّت عليه، ثم انقلبت فصارت عصًا كما كانت. وأن يدًا خرجت بيضاء لها ضوء مثل ضوء الشمس. وأن بحرًا (3) من بحار العالم انفلق بعسكرٍ عظيمٍ اثني عشر طريقًا، وصار الماء بين الطُّرُق كالحيطان. وأن جبلًا قُلع من موضعه على قدر عسكرٍ عظيمٍ، ووقف على رؤوسهم بين السماء والأرض ـ وهم ينظرون إليه عيانًا ـ ثم عاد إلى مكانه. وأن حجرًا مربعًا يُحمل مع قومٍ يُضرب بعصًا فينفجر منه اثنا عشر نهرًا، كل نهرٍ لطائفةٍ عظيمةٍ يختصون بمشربه، لا يَشرَكهم فيه الآخرون. وأن قتيلًا ضُرب بعضوٍ من بقرةٍ مذبوحةٍ فقام القتيل حيًّا. _________ (1) أخرج مسلم (191) عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - ذكر الورود على النار والشفاعة، وفيه: «فيتجلى لهم يضحك». (2) «ح»: «فباره». ولعل المثبت هو الصواب. (3) «ح»: «بحارا».
(2/614)
وأن إنسانًا رُمي به في نارٍ تأجج فلم تحرق منه شيئًا، وعادت خضراء وروضة. وأن مدائن قُلعت من أصولها كما يُقلع الشجر ثم رُفعت في الهواء ثم قُلبت بمَن فيها، فماتوا موتة رجلٍ واحدٍ. وأن صخرةً تمخَّضت وتحركت ثم انفلقت عن ناقةٍ كأحسن النوق [ق 63 ب]. وأن قمرًا انشق في السماء شقتين ثم عاد فالتأم كما كان (1). وأن يدًا وُضعت في ماءٍ لا يغمرها فتفجر الماء من بين أصابعها وثار كأمثال العيون حتى روي منه عسكرٌ عظيمٌ جرارٌ، وملؤوا منه كل قربةٍ وكل إناءٍ معهم (2). وأن رجلًا وُلد من غير أبٍ، وأن امرأةً وُلدت من غير أمٍّ (3). وأن رجلًا حُمل من مكة إلى بيت المقدس، ثم رُفع حتى جاوز السماوات السبع، ثم عاد إلى فراشه في ليلته (4). _________ (1) تقدم تخريجه. (2) تقدم تخريجه. (3) يعني: حواء عليها السلام؛ فقد قال في «أعلام الموقعين» (1/ 104): «فكيف يستنكر وجود عيسى من غير أب من يُقر بوجود آدم من غير أبٍ ولا أمٍّ؟ ووجود حواء من غير أمٍّ»؟ (4) يعني: حديث الإسراء والمعراج، وهو حديث متواتر؛ قد رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعة كثيرة، ينظر «تفسير ابن كثير» (5/ 1 - 45) و «الدر المنثور» (9/ 139 - 232).
(2/615)
وأن عسكرًا عظيمًا قاموا بدوابهم وخدمهم وعددهم على بساطٍ واحدٍ بين السماء والأرض على متن الريح مسيرة شهر في مقدار غدوة من النهار، ثم يرجعون في مقدار ذلك، ولا تمس ركابهم الأرض. فبالله يا أرباب المعقولات، ويا أهل الذَّاتي والعَرَضي (1)، وأهل المقولات (2) العشر، والكليات الخمس (3)، ويا أهل المختلطات والموجهات والقضايا المسوَّرات (4) والمهملات (5)، ويا أهل الشكل الأول والثَّاني والرَّابع، وأصحاب القياس الحملي (6) والشرطي (7)، وأهل العقول _________ (1) «ح»: «أشيا عرضي». وتقدم (ص 545) تعريف الذاتي والعرضي. (2) «ح»: «المعقولات». وقد تقدم تفسيرها (ص 487). (3) تقدم (ص 544). (4) «ح»: «المستورات». والسور عند المنطقيين اللفظ الدال على كمية أفراد الموضوع في القضايا الحملية، كلفظ كل وبعض في قولنا: «كل إنسان فانٍ». و «بعض الناس طبيب». ويطلق أيضًا على كمية الأوضاع في القضايا الشرطية، كلفظ «كلما»، و «مهما»، و «متى»، و «ليس كلما»، و «ليس مهما»، و «ليس متى»، والقضية المشتملة على السور تسمَّى مسوَّرة ومحصورة. «المعجم الفلسفي» (1/ 676). (5) القضية المهملة: هي قضية حملية موضوعها كلي، ولكن لم يبين أن الحكم في كله أو في بعضه، كقولنا: الإنسان أبيض. «المعجم الفلسفي» (1/ 676). (6) القياس الحملي: هو القياس الاقتراني، وهو الذي يكون ما يلزمه ليس هو ولا نقيضه مقولًا فيه بالفعل بوجهٍ ما، بل بالقوة، كقولك: كل جسم مؤلف، وكل مؤلف محدث، فكل جسم محدث. «المعجم الفلسفي» (2/ 207). (7) القياس الشرطي: مؤلف من مقدمتين: إحداهما شرطية، والأخرى وضع أو رفع لأحد جزأيها، مثل قولنا: إن كانت النفس لها فعل بذاتها، فهي قائمة بذاتها، لكن لها فعل بذاتها، فهي إذن قائمة بذاتها. «المعجم الفلسفي» (1/ 699).
(2/616)
ا المقدَّمة ـ بزعم أربابها ـ على الوحي، هل تصدِّقون بشيءٍ من هذا، وهل يُصدِّق أفراخكم وتلامذتكم بشيءٍ ممَّا ذكرنا من شأن الربوبية؟ أم التكذيب بهذا وهذا ثمرة (1) عقولكم وحاصل معقولكم؟! فَعَلَى عُقُولِكُمُ الْعَفَاءُ فَإِنَّكُمْ ... عَادَيْتُمُ الْمَعْقُولَ وَالْمَنْقُولَا وَطَلَبْتُمُ أَمْرًا مُحَالًا وَهْوَ إِدْ ... رَاكُ الْهُدَى لَا تَبْتَغُونَ (2) رَسُولَا وَزَعَمْتُمُ أَنَّ الْعُقُولَ كَفِيلَةٌ ... بِالْحَقِّ أَيْنَ الْعَقْلُ كَانَ كَفِيلَا وَهُوَ الَّذِي يَقْضِي فَيَنْقُضُ (3) حُكْمَهُ ... عَقْلٌ تَرَوْنَ كِلَيْهِمَا مَعْقُولَا وَتَرَاهُ يَجْزِمُ بِالقَضَاءِ وَبَعْدَ ذَا ... يُلْفَى لَدَيْهِ بَاطِلًا مَعْلُولَا لَا يَسْتَقِلُّ الْعَقْلُ دُونَ هِدَايَةٍ ... بِالْوَحْيِ تَأْصِيلًا وَلَا تَفْصِيلَا كَالطَّرْفِ دُونَ النُّورِ لَيْسِ بِمُدْرِكٍ ... حَتَّى يَرَاهُ بُكْرَةً وَأَصِيلَا وَإِذَا الظَّلَامُ تَلَاطَمَتْ أَمْوَاجُهُ ... وَطَمِعْتَ بِالْإِبْصَارِ كُنْتَ مُحِيلَا فإِذَا النُّبُوَّةُ لَمْ يَنَلْكَ ضِيَاؤُهَا ... فَالْعَقْلُ لَا يَهْدِيكَ قَطُّ سَبِيلَا نُورُ النُّبُوَّةِ مِثْلُ نُورِ الشَّمْسِ لِلْـ ... ـعَيْنِ البَصِيرَةِ فَاتَّخِذْهُ دَلِيلَا طُرُقُ الْهُدَى مَسْدُودَةٌ إِلَّا عَلَى ... مَنْ أَمَّ هَذا الْوَحْيَ والتَّنْزِيلَا فَإِذَا عَدَلْتَ عَنِ الطَّرِيقِ تَعَمُّدًا ... فَاعْلَمْ بِأَنَّكَ مَا أَرَدْتَ وُصُولَا يَا طَالبًا دَرَكَ الْهُدَى بالْعَقْلِ دُو ... نَ النَّقْلِ لَنْ تَلْقى لِذَاكَ دَلِيلَا _________ (1) «ح»: «وهل أثمره». ولعل المثبت هو الصواب. (2) «م»: «تتبعون». وهو خطأ يختل به الوزن. (3) «ح»: «قينقبض». والمثبت من «م».
(2/617)
كَمْ رَامَ قَبْلَكَ ذَاكَ مِنْ مُتَلَدِّدٍ (1) ... حَيْرَانَ عاشَ مَدَى الزَّمانِ جَهُولَا مَا زَالَتِ الشُّبُهاتُ تَغْزُو قَلْبَهُ (2) ... حَتَّى تَشَحَّطَ بَيْنَهُنَّ قَتِيلَا فَتَرَاهُ بِالْكُلِّيِّ وَالْجُزْئِيِّ وَالذْ ... ذَاتِيِّ وَالعَرَضِيِّ (3) طُولَ زَمَانِهِ مَشْغُولَا فَإِذَا أَتَاهُ الْوَحْيُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ ... وَيَقُومُ بَيْنَ يَدَيْ عِدَاهُ مَثِيلَا وَيَقُولُ تِلْكَ أَدِلَّةٌ لَفْظِيَّةٌ ... مَعْزُولَةٌ عَنْ أَنْ تَكُونَ دَلِيلَا وَإِذَا تَمُرُّ عليهِ قَالَ لَهَا (4) اذْهَبِي ... نَحْوَ الْمُجَسِّمِ أَوْ خُذِي التَّأْوِيلَا وَإِذَا أَبَتْ إِلَّا النُّزُولَ عَلَيْهِ كَا ... نَ لَهَا الْقِرَى التَّحْرِيفَ وَالتَّبْدِيلَا فَيَحِلُّ بالْأَعْدَاءِ ما تَلْقَاهُ مِنْ ... كَيْدٍ يَكُونُ لِحَقِّهَا تَعْطِيلَا وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا بِعُمْيَانٍ خَلَوْا ... في ظُلْمَةٍ لَا يَهْتَدُونَ سَبِيلَا فَتَصَادَمُوا بِأَكُفِّهِمْ وَعِصِيِّهِمْ ... ضَرْبًا يُدِيرُ رَحَى الْقِتَالِ طَوِيلَا حَتَّى إِذا مَلُّوا الْقِتَالَ رَأَيْتَهُمْ ... مَشْجُوجًا (5) اوْ مَفْجُوجًا (6) اوْ مَقْتُولَا _________ (1) «ح»: «متلذذ». والمثبت من «م»، يقال: تلدد فلان: إذا تلفت يمينًا وشمالًا وتحير متبلدًا، مأخوذ من لديدَيِ الوادي أي: جانبيه. «تاج العروس» (9/ 137). (2) «ح»: «قبله». والمثبت من «م». (3) كذا في «ح»، «م»، وزيادة قوله «والعرضي» تفسد الوزن. (4) «ح»: «لا». والمثبت من «م». (5) الشج في الرأس خاصة في الأصل، وهو أن يضربه بشيءٍ فيجرحه فيه ويشقه، ثم استعمل في غيره من الأعضاء. «الصحاح» (1/ 323) و «النهاية في غريب الحديث» (2/ 445). (6) فج الأرض: شقها شقًّا بالغًا. «المعجم الوسيط» (2/ 674).
(2/618)
وَتَسَامَعَ الْعُمْيَانُ حَتَّى أَقْبَلُوا ... لِلصُّلْحِ فَازْدَادَ الصِّيَاحُ عَوِيلَا (1) يوضحه: الوجه الحادي والستون: وهو أن الطُّرق التي سلكها هؤلاء المعارضون بين الوحي والعقل في إثبات الصَّانع هي بعينها تنفي وجوده، فإنها متضمنةٌ لنفي صفاته وأفعاله صريحًا، وهي تنفي وجوده لزومًا؛ فإن هؤلاء المعارضين صنفان: الفلاسفة والجهمية: أمَّا الفلاسفة فأثبتوا وجود الصَّانع بطريق التركيب، وهو أن الأجسام مركبة، والمركب يفتقر إلى أجزائه، وكل مفتقرٍ ممكنٌ، والممكن لا بد له من وجود واجبٍ، وتستحيل الكثرة في ذات الواجب بوجهٍ من الوجوه؛ إذ يلزم تركيبه وافتقاره، وذلك ينافي وجوبه. وهذا هو غاية توحيدهم، وبه أثبتوا الخالق على زعمهم، ومعلومٌ أن هذا من أعظم الأدلة على نفي الخالق؛ فإنه ينفي قدرته ومشيئته وعلمه وحياته؛ إذ لو ثبتت له هذه الصِّفات ـ بزعمهم ـ لكان مركبًا، والمركب مفتقرٌ إلى غيره، فلا يكون واجبًا بنفسه. وفي هذه الشبهة من التلبيس والتدليس والألفاظ المجملة والمعاني المشتبهة ما يطول وصفه، وقد انتدب لإفسادها جنود الإسلام على اختلاف مذاهبهم، فإن المركب لفظٌ مجملٌ، يُراد به ما ركَّبه غيره، وما كا ن متفرقًا فاجتمعت أجزاؤه، [ق 64 أ] وما يمكن تفريق بعضه عن بعضٍ، والله سبحانه منزَّهٌ عن هذه التراكيب، ويُراد به في اصطلاح هؤلاء: ما له ماهيةٌ خاصةٌ يتميز _________ (1) هذه القصيدة لم نقف عليها في غير «الصواعق» و «مختصره»، ولعلها للإمام ابن القيم نفسه.
(2/619)
بها عن سائر الماهيات، وما له ذاتٌ وصفاتٌ بحيث يتميز بعض صفاته عن بعضٍ. وهذا ثابتٌ للربِّ (1) سبحانه، وإن سمَّاه هؤلاء تركيبًا كما تقدم (2). وكذلك لفظ الافتقار لفظٌ مجملٌ، يُراد به فقر الماهية إلى موجدٍ غيرها يتحقق (3) وجودها به؛ والله سبحانه غنيٌّ عن هذا الافتقار. ويُراد به أن الماهية مفتقرةٌ في ذاتها إلى ذاتها، ولا قوام لذاتها إلَّا بذاتها، وأن الصفة لا تقوم بنفسها، وإنما تقوم بالموصوف، وهذا المعنى حقٌّ، وإن سمَّاه هؤلاء المُلبِّسون فقرًا. وكذلك لفظ الغَيْر فيه إجمالٌ، يراد بالغيرين ما [جازت] (4) مفارقة أحدهما للآخر ذاتًا أو مكانًا أو زمانًا، فصفات القديم سبحانه ليست غيرًا له بهذا الاعتبار. ويراد بالغيرين ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر، وهذا المعنى حقٌّ في ذاته وصفاته سبحانه، وإن سمَّاها هؤلاء (5) أغيارًا. فإن المخلوق يعلم من الخالق صفة بعد صفة، وقد قال أعلم الخلق به: «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» (6). وهذا لكثرة أسمائه وصفات (7) كماله ونعوت جلاله. وقال: «أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَأَعُوذُ _________ (1) «للرب» من «م». (2) تقدم (ص 589 - 590). (3) «ح»: «بتحقيق». والمثبت من «م». (4) زيادة يقتضيها السياق. (5) بعده في «ح»: «ولا». وهي زائدة ليست في «م». (6) أخرجه مسلم (486). (7) «ح»: «صفاته». والمثبت من «م».
(2/620)
بِعَفْوِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ». والمستعاذ به غير المستعاذ منه. والمقصود أن تسمية هذا تركيبًا وافتقارًا وغيرًا وضعٌ وضعه (1) هؤلاء، وليس الشأن في الألفاظ، إنما الشأن في المعاني. وقولهم: «إنه مفتقر إلى جزئه» تلبيسٌ، فإن القديم الموصوف بالصفات اللازمة له تمتنع أن تفارقه صفاته، وليست له حقيقة غير الذَّات الموصوفة حتى يُقال: إن تلك الحقيقة مفتقرةٌ إلى غيرها، وإن سُمِّيت تلك الصفة غيرًا. فالذَّات والصفات متلازمان (2) لا يوجد أحدهما إلَّا مع الآخر، وهذا التلازم لا يقتضي حاجة الذَّات والصفات إلى موجدٍ أوجدها وفاعلٍ فعلها، والواجب بنفسه يمتنع أن يكون مفتقرًا إلى ما هو خارجٌ عن نفسه. فأمَّا ألَّا يكون له صفة ولا ذات، ولا يتميز منه أمرٌ عن أمرٍ، فلا يلزم ذلك من وجوبه وكونه غنيًّا بنفسه عن كل ما سواه. فقول الملبِّس: «إنه مفتقرٌ إلى ذلك» كقوله: «لو كان له ماهية لكان مفتقرًا إلى ماهيته». والله سبحانه اسم للذات المتصفة بكمال العلم والقدرة والحياة والمشيئة وسائر صفات الكمال، ليس اسمًا لذاتٍ مجردةٍ عن الأوصاف والنعوت، فكل ذاتٍ أكمل من هذه الذَّات، تعالى الله عن قول الملحدين في أسمائه وصفاته علوًّا كبيرًا. والمقصود أن هذه الطريق التي سلكها هؤلاء في إثبات الصَّانع هي أعظم الطرق في نفيه وإنكار وجوده، وكذلك كان سالكوها لا يؤمنون بالله ولا بملائكته وكتبه ولا رسله ولا باليوم الآخر، وإن صانع من صانع منهم _________ (1) «ح»: «وضعية». والمثبت من «م». (2) «ح»: «ملازمان». والمثبت من «م».
(2/621)
لأهل الملل بألفاظٍ (1) لا حاصل لها. فصل وأمَّا المتكلمون فلمَّا رأوا بطلان هذه الطريق عدلوا عنها إلى طريق الحركة والسكون والاجتماع والافتراق وتماثل الأجسام وتركبها من الجواهر المفردة، وأنها قابلة للحوادث، وما يقبل الحوادث فهو حادثٌ، فالأجسام كلها حادثةٌ؛ فإذًا يجب أن يكون لها مُحْدِثٌ ليس بجسمٍ. فبنوا العلم بإثبات الصَّانع على حدوث الأجسام، واستدلوا على حدوثها بأنها مستلزمة للحركة والسكون والاجتماع والافتراق، ثم قالوا: إن تلك أعراضٌ، والأعراض حادثةٌ، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادثٌ. فاحتاجوا في هذه الطريق إلى إثبات الأعراض أولًا، ثم إثبات لزومها للجسم ثانيًا، ثم إبطال حوادث لا أول لها ثالثًا، ثم إلزام (2) بطلان حوادث لا نهاية لها رابعًا عند فريقٍ منهم (3)، وإلزام الفرق عند فريقٍ آخر، ثم إثبات الجوهر الفرد خامسًا، ثم إلزام كون العرض لا يبقى زمانين سادسًا، فيلزم حدوثه، والجسم لا يخلو منه، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادثٌ، ثم إثبات تماثل الأجسام سابعًا، فيصح على بعضها ما يصح على جميعها. فعلمهم بإثبات الخالق سبحانه مبنيٌّ على هذه الأمور السبعة (4)، فلزمهم من سلوك هذه الطريق إنكار كون الربِّ تعالى فاعلًا في الحقيقة، وإن _________ (1) «ح»: «بالألفاظ». والمثبت من «م». (2) «ح»: «منكم». والمثبت من «م». (3) «ح»: «التزام». والمثبت من «م». (4) «ح»: «الشنيعة». تصحيف، والمثبت من «م».
(2/622)
سمَّوْه فاعلًا بألسنتهم، فإنه لا يقوم به عندهم فعلٌ، وفاعلٌ بلا فعلٍ كقائمٍ بلا قيامٍ، وضاربٍ بلا ضربٍ، وعالمٍ بلا علمٍ. وضمَّ الجهمية إلى ذلك أنه لو قام به صفةٌ لكان جسمًا، ولو كان جسمًا لكان حادثًا، فيلزم من إثبات صفاته إنكار ذاته. فعطلوا صفاته وأفعاله بالطريق الذي أثبتوا بها وجوده، فكانت [ق 64 ب] أبلغ الطرق في تعطيل صفاته وأفعاله. وعن هذه الطريق أنكروا علوَّه على عرشه، وتكلُّمه بالقرآن وتكليمه لموسى، ورؤيته بالأبصار في الآخرة، ونزوله إلى سماء الدُّنيا كل ليلة (1)، ومجيئه لفصل القضاء بين الخلائق، وغضبه ذلك اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله (2)، وجميع ما وصف به نفسه من وصفٍ ذاتيٍّ أو معنويٍّ أو فعليٍّ، فأنكروا وجهه الأعلى، وأنكروا أن له يدين، وأن له سمعًا وبصرًا وحياة، وأنه يفعل شيئًا حقيقةً، وإن سُمِّي فاعلًا فلم يستحق ذلك لفعلٍ قام به، بل فِعْلُه هو عين مفعوله. وكذلك الطريق التي سلكوها في إثبات النُّبوة لم يثبتوا بها نبوةً في الحقيقة، فإنهم بنوها على مجرد خرق العادة، وهو مشترك بين النَّبي وغيره، وحاروا في الفرق فلم يأتوا فيه بما يَثلج له الصدر، ولا يحصل به برد اليقين؛ مع أن النُّبوة التي أثبتوها لا ترجع إلى وصفٍ وجوديٍّ، بل هي تعلق الخطاب الأزلي بالنَّبي، والتعلق عندهم أمرٌ عدميٌّ، فعادت النُّبوة عندهم إلى أمرٍ عدميٍّ، وقد صرَّحوا بأنها لا ترجع إلى صفةٍ ثبوتيةٍ قائمةٍ بالنَّبي. وأيضًا فحقيقة النُّبوة والرسالة إنباء الله سبحانه وتعالى لرسوله، وأمره بتبليغ كلامه _________ (1) تقدم تخريجه. (2) أخرجه البخاري (4712) ومسلم (194) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
(2/623)
إلى عباده، وعندهم أن الله لا يتكلم ولا يقوم به كلامٌ. وأمَّا اليوم الآخر فإن جمهورهم بنوه على إثبات الجوهر الفرد، وقالوا: لا يتأتى التصديق بالمعاد إلَّا (1) بإثباته. وهو في الحقيقة باطلٌ لا أصل له (2)، والمثبتون له يعترفون بأن القول به في غاية الإشكال، وأدلته متعارضة، وكثيرٌ منهم له قولان في إثباته ونفيه. وسلكوا في تقرير المعاد ما خالفوا فيه جمهور العقلاء، ولم يوافقوا ما جاءت به الأنبياء، فقالوا: إن الله سبحانه يُعدم أجزاء العالم كلها حتى تصير عدمًا محضًا، ثم يُعيد المعدوم ويقلبه وجودًا حتى إنه يُعيد زمنه بعينه ويُنشئه لا من مادة كما قالوا في المبدأ، فجنوا على العقل والشرع، وأَغرَوْا أعداء الشرع به، وحالوا بينهم وبين تصديق الرُّسل. وأمَّا المبدأ فإنهم قالوا: كان الله سبحانه معطلًا في الأزل، والفعلُ غير ممكنٍ ـ مع قولهم كان قادرًا عليه ـ ثم صار فاعلًا بعد أن لم يكن فاعلًا من (3) غير تجدد أمرٍ أصلًا، وانقلب الفعل من الامتناع الذَّاتي إلى الإمكان الذَّاتي، وذات الفاعل قبل الفعل ومع الفعل وبعد الفعل واحدة. فهذا غاية عقولهم التي عارضوا بها بين الوحي والعقل، وهذه طرقهم العقلية التي لم يثبتوا بها ربًّا ولا رسالةً ولا مبدأً ولا معادًا، ونحن إنما أشرنا إلى ذلك أدنى إشارةٍ، وإلا فبَسْط ذلك في غير هذا الموضع. وقد بسطه شيخنا في عامة كتبه المطولات والمبسوطات، وبيَّنه بيانًا شافيًا؛ فمن أحب _________ (1) «ح»: «لا». والمثبت من «م». (2) ينظر «درء التعارض» (4/ 135 - 136). (3) «من» سقط من «ح». وأثبته من «م».
(2/624)
الوقوف عليه وجده في مظانِّه. وبالله التوفيق. الوجه الثَّاني والستون: أن هؤلاء المعارضين للوحي بعقولهم ارتكبوا أربع عظائم: إحداها: ردهم لنصوص الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. الثَّانية: إساءة الظنِّ [بالوحي] (1) وجعله منافيًا للعقل مناقضًا له. الثَّالثة: جنايتهم على العقل بردِّهم ما يوافق النصوص من المعقول؛ فإن موافقة العقل للنصوص التي زعموا أن العقل يردها أظهر للعقل من معارضته لها. الرَّابعة: تكفيرهم أو تبديعهم وتضليلهم لمن خالفهم في أصولهم التي اخترعوها وأقوالهم التي ابتدعوها، مع أنها مخالفةٌ للعقل والنقل، فصوَّبوا رأي مَن تمسك بالقول المخالف للعقل والنقل، وخطَّؤوا مَن تمسك بما يوافقهما، وراج ذلك على من لم يجعل الله له نورًا ولم يشرق على قلبه نور النُّبوة. الوجه الثَّالث والستون: أن من عارض بين الوحي والعقل فقد قال بتكافؤ الأدلة؛ لأن العقل الصحيح لا يكذب، والوحي أصدق منه، وهما دليلان صادقان، فإذا تعارضا تكافآ، فإن لم يُقدِّم أحدهما بقي في الحيرة والشك، وإن قدَّم أحدهما على الآخر أبطل موجب الدليل الصحيح وأخرجه عن كونه دليلًا، فيبقى حائرًا بين أمرين لا بد له من أحدهما: إمَّا أن يُسيء الظنَّ بالوحي أو بالعقل، والعقل عنده أصل الوحي فلا يمكنه أن يُسيء الظنَّ به، فيسطو على الوحي تارةً بالتحريف والتأويل، وتارةً بالتخييل، _________ (1) «بالوحي» زدته ليستقيم السياق.
(2/625)
وتارةً بالدفع والتكذيب إن أمكن، وذلك في نصوص السُّنَّة، وتارةً [ق 65 أ] يدعي ذلك في نصوص القرآن، كما يدَّعيه غُلاة الرَّافضة وكثيرٌ من القرامطة وأشباههم، وهذا كله إنما نشأ من ظنونهم الفاسدة أن العقل الصحيح يُعارض الوحي الصريح. وأمَّا أهل العلم والإيمان ـ أهل السمع والعقل (1) ـ فعندهم أن فرض هذه المسألة محالٌ، وأن فرضها كفرض مسألة إذا تعارض العقل وأدلة ثبوت النُّبوة والرِّسالة، وإذا تعارض العقل وأدلة ثبوت الخالق وتوحيده، والمعارضة بين العقل والوحي كالمعارضة بين العقل وإثبات الصَّانع وتوحيده ورسالة رسله، ولهذا طرَدوا منع هذه القاعدة في ذلك الأصل، وقالوا (2): الباب كله واحدٌ. الوجه الرَّابع والستون: أن هؤلاء المعارضين للوحي بالعقل بنوا أمرهم على أصلٍ فاسدٍ، وهو (3) أنهم جعلوا أقوالهم ـ التي ابتدعوها، وجعلوها أصول دينهم ومعتقدهم في ربِّ العالمين ـ هي المُحْكَمة، وجعلوا قول الله ورسوله هو المتشابه الذي لا يُستفاد منه علمٌ ولا يقينٌ. فجعلوا المتشابه من كلامهم هو المُحْكم، والمُحْكم من كلام الله ورسوله هو المتشابه، ثم ردُّوا متشابه الوحي إلى محكم كلامهم وقواعدهم. وهذا كما جعلوا ما أحدثوه من الأصول ـ التي نفوا بها صفات الربِّ جل جلاله، ونعوت كماله، ونفوا بها كلامه وتكليمه، وعلوَّه على عرشه، ورؤيته _________ (1) يعني: العقل الصحيح المستقيم، لا العقل الزائف المدَّعى. (2) «ح»: «قال». (3) «ح»: «وهم».
(2/626)
في الدَّار الآخرة ـ محكمًا، وجعلوا النصوص الدَّالة على خلاف تلك القواعد والأصول متشابهة، يُقضى بتلك القواعد عليها، وتُرد النصوص إليها. فتارةً يحرفون النصوص عن مواضعها، ويُسمون ذلك التحريف تأويلًا في اللفظ وتنزيهًا في المعنى، وتارةً يقول من تجمَّل منهم فأحسن: أراد الله ورسوله من هذه النصوص أمورًا لا نعرفها ولا ندري ما أراد. وتارةً يقولون: قصد خطاب الجمهور، فأفهمهم (1) الأمر على خلاف حقيقته؛ لأن مصلحتهم في ذلك. وتارةً يفسرون صفةً بصفةٍ، كما يُفسرون الحبَّ والبغض والغضب والرضا والرحمة بالإرادة والسمع والبصر والكلام بالعلم، ثم يجعلون ذلك نفس الذَّات، ومنهم من يجعل العلم نفس المعلوم، كما قاله أفضل متأخريهم عندهم، وأجهلهم بالله وأكفرهم، نصير الكفر والشرك: الطوسي. فأمَّا أهل العلم والإيمان فطريقهم عكس هذه الطريقة من كل وجهٍ. يجعلون كلام الله ورسوله هو الأصل الذي يُعتمد عليه، ويُردُّ ما يتنازع النَّاس فيه إليه، فما وافقه كان حقًّا، وما خالفه كان باطلًا. وإذا ورد عليهم لفظٌ مشتبهٌ ليس في القرآن ولا في السُّنَّة لم يتلقَّوْه بالقبول ولم يردوه بالإنكار حتى يستفصلوا قائله عن مراده، فإن كان حقًّا موافقًا للعقل والنقل قَبِلوه، وإن كان باطلًا مخالفًا للعقل والنقل ردُّوه، ونصوص الوحي عندهم أعظم وأكبر في صدورهم من أن يقدِّموا عليها ألفاظًا مجملةً لها معانٍ مشتبهة. وبنوا أصولهم على أربع قواعد: إحداها: بيان أن (2) ما جاء به الوحي هو الهُدى والحق واليقين. _________ (1) «ح»: «فإفهامهم». (2) «ح»: «أن البيان».
(2/627)
الثَّانية: بيان أن ما يُقدَّر من الاحتمالات المعارضة لظاهره وحقيقته باطلٌ لغةً. الثَّالثة: بيان أن ما يُدَّعى أنه معارض لذلك من العقل فهو باطلٌ. الرَّابعة: بيان أن العقل موافقٌ له معاضدٌ، لا معارضٌ مناقضٌ. {فَأَيُّ اُلْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 83]. الوجه الخامس والستون: أن هؤلاء المعارضين بين العقل والنقل قد فارقوا العقل والنقل، فلا عقل ولا نقل، وهم الذين يقولون: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ اِلسَّعِيرِ} [الملك: 11]. أمَّا النقل فإنهم قد سمحوا بمفارقته، وهان عليهم أمره. وأمَّا العقل فلو تدبروا أقوالهم ومعقولهم الذي عارضوا به النقل لاستحيوا من أهل العقل الذين هم أهله. فإن هؤلاء يجعلون الاثنين واحدًا والواحد اثنين، والمستحيل واجبًا والواجب ممتنعًا، والكلي جزءًا من المعين الجزئي، والمعدوم موجودًا والموجود معدومًا، والثَّابت منتفيًا والمنتفي ثابتًا، ويفرِّقون بين الشيء ونظيره في الحكم، ويحملون على الشيء بحكم ضده ونقيضه، وينفون (1) النقيضين تارةً، ويثبتونهما تارةً، ويثبتون الشيء وينفون لازمه البيِّن [اللزوم، وينفون اللازم] (2) ويثبتون ملزومه. فيجعلون الصفة هي عين الصفة الأخرى، ثم يجعلونها هي نفس الموصوف، كما يقولون: العلم هو القدرة، والقدرة هي الإرادة، والسمع هو _________ (1) «ح»: «يعرفون». والمثبت هو الصواب. (2) «ح»: «للزوم اللام». والمثبت ما يقتضيه السياق.
(2/628)
البصر. ثم يقولون: إن ذلك هو نفس العالم القادر المريد [ق 65 ب] ويجعلون تارةً العلم هو المعلوم، وتارةً يجعلون الفعل هو عين المفعول. ويجعلون الصفة التي لا تقوم إلَّا بمحل قائمة بنفسها، كما يقولون: الربُّ تعالى مريدٌ بإرادةٍ قديمةٍ لا في محلٍّ. ويجعلون الأمر هو عين النهي، وهما عين الخبر، وهو (1) عين الاستفهام. ويجعلون وجود الربِّ تعالى وجودًا مطلقًا بشرط الإطلاق أو بلا شرطٍ، ثم يُصرِّحون بأن المطلق لا وجود له في الخارج. ويجعلون الشيء المعين كهذا الإنسان مثلًا عدة جواهر حيوانًا وناطقًا وحساسًا، ويجعلون كلًّا من هذه الجواهر غير الآخر، ومعلومٌ أنه جوهرٌ واحدٌ له صفات متعددة. ويُفرِّقون بين المادة والصورة، ويجعلونهما (2) جوهرين عقليين قائمين بأنفسهما، والمعقول قيام الصِّفات بالموصوفات والأعراض بالجواهر. ويجعلون الصور الذهنية ثابتة في الخارج كقولهم في المجردات المفارقات للمادة، وليس معهم ما يثبت أنه مفارق إلَّا النفس النَّاطقة إذا فارقت البدن بالموت، والمجردات هي الكليات التي تجردها النفس من الأعيان المشخصة، فيرجع الأمر إلى النفس وما يقوم بها. ويجعلون المعدوم الممتنع الذي لا يُتصور وجوده هو الواجب الذي _________ (1) «ح»: «وهي». (2) «ح»: «ويجعلونها».
(2/629)
يمتنع عدمه، كما أثبتوا صانع العالم وجودًا مطلقًا مقيدًا بسلب الأمور الثبوتية، ليس له ماهية غير ذلك الوجود. ويثبتون كونه حيًّا بلا حياةٍ، وعالمًا بلا علمٍ، وقادرًا بلا قدرةٍ. إلى أضعاف أضعاف ذلك من ضلالهم في عقلياتهم التي جعلوها معارضة للوحي، وقدَّموها عليه. وكلما تدبَّر العاقل الذكي المنصف أحوال هؤلاء ومن وافقهم على بعضها تبيَّن له أن القوم لا عقل ولا نقل، و (1) تفصيل هذا يستدعي بسطًا طويلًا، والله المستعان. الوجه السَّادس والستون: أن هؤلاء في معارضتهم للوحي سلكوا طريقًا سحروا بها عقول ضعفاء النَّاس وبصائرهم، فشُبهت عليهم، وخُيل إليهم أنها حقٌّ، فأصابهم في ذلك مثل ما أصاب السحرة حين عارضوا (2) عصى موسى بما خُيل إلى أبصار النَّاظرين أنه حقٌّ. فإن هؤلاء عمدوا إلى ألفاظٍ مجملةٍ تحتها معانٍ مشتبهةٌ تحتمل في لغات الأُمم معاني متعددة، وأدخلوا فيها من المعاني غيرَ المفهوم منها في لغات الأُمم، ثم ركَّبوها وألَّفوها تأليفًا طويلًا بنوا بعضه على بعضٍ، ففكَّروا فيه وقدَّروا، وأطالوا التفكير والتقدير، ثم عظَّموا قولهم وهوَّلوه في نفوس من لم يفهمه. ولا ريب أن فيه دقةً وغموضًا، لما فيه من الألفاظ المجملة والمعاني المشتبهة، فإذا دخل معهم الطَّالب وسمع منهم (3) ما تنفر عنه فطرته، فأخذ يعترض عليهم، قالوا له: أنت لا تفهم هذا، وهذا لا يصلح لك، وهذا أمرٌ قد _________ (1) بعده في «ح»: «لا». (2) «ح»: «رضوا». ولعل المثبت هو الصواب. (3) «ح»: «معهم».
(2/630)
صقلته الأذهان على تطاول الأزمان، وتلقَّته العقول بالقبول والتسليم، وفزعت إليه عند التخاصم والتحاكم (1). فيبقى ما في النفوس من الحمية والأنفة يحملها على تسليم تلك الأمور قبل تحقيقها، وعلى ترك الاعتراض عليها خشية أن ينسبوه إلى نقص العلم والعقل، فيأخذها مُسلَّمةً، فإذا جاءت لوازمها لم يجد بُدًّا من التزامها، ويرى أن التزام تلك اللوازم أهون عليه من القدح في تلك القواعد وإبطالها. فهذا أصلُ ضلال من ضلَّ من أهل النظر والبحث في المعقولات، وأمَّا الأعمى المُقلِّد فليس معه أكثر من: هكذا قال العقلاء. وهذا القدر الذي وقع من ضلال هؤلاء لم يقصده عقلاؤهم ابتداءً؛ بل كان قصدهم تحصيل العلوم والمعارف، ولكن أخطؤوا بطلبها من غير طريقها؛ فضلوا وأضلوا. وقد سُئل شيخنا - رضي الله عنه - عن بعض رؤساء هؤلاء ممَّن له علمٌ وعقلٌ وسلوكٌ وقصدٌ ثم (2) أخطأ الصواب، فقال: «طَلَبَ الأمور العلية من غير الطُّرق النبوية فقادته قسرًا إلى المناهج الفلسفية» (3). وما أحسن ما قال! فإن من طلب أمرًا عاليًا من غير طريقه لم يحصل إلَّا على ضدِّه. فالواجب على من يريد كشف ضلال هؤلاء وأمثالهم ألَّا يوافقهم على لفظٍ مجملٍ حتى يتبيَّن معناه ويعرف مقصوده، فيكون الكلام في معنى معقولٍ يتوارد النفي والإثبات فيه على محلٍّ واحدٍ، لا في لفظ مجملٍ مشتبه المعنى. وهذا نافعٌ في الشرع والعقل والدِّين والدُّنيا، وبالله التوفيق. _________ (1) ينظر «مفتاح دار السعادة» للمصنف (1/ 446). (2) كذا في «ح»، والأصوب: «لِمَ». (3) لم أقف عليه إلا في كتابنا هذا، ولعل المصنِّف تلقاه عن شيخه ابن تيمية شفاهًا.
(2/631)
الوجه السَّابع والستون: أن الله سبحانه نهى المؤمنين أن يتقدَّموا بين يدي رسوله، وأن يرفعوا أصواتهم فوق صوته، وأن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعضٍ، وحذَّرهم من حبوط أعمالهم بذلك؛ فقال [ق 66 أ]: {يَاأَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اِللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاَتَّقُوا اُللَّهَ إِنَّ اَللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَاأَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ اِلنَّبِيِّ ... } الآية [الحجرات: 1 - 2]. فإذا كان سبحانه قد نهى عن التقديم بين يديه، فأي تقدُّمٍ أبلغ من تقديم عقله على ما جاء به؟! قال غير واحدٍ من السلف: لا تقولوا حتى يقول، ولا تفعلوا حتى يأمر (1). ومعلوم قطعًا أن من قدَّم عقله أو عقل غيره على ما جاء به فهو أعصى النَّاس لهذا النبي، وأشدهم تقدُّمًا بين يديه. وإذا كان سبحانه قد نهاهم أن يرفعوا أصواتهم فوق صوته، فكيف برفع معقولاتهم فوق كلامه وما جاء به؟! ومن المعلوم قطعًا أنه لم يكن يفعل هذا في عهده إلَّا الكفار والمنافقون (2)، فهم الذين حكى الله سبحانه عنهم معارضة ما جاء به بعقولهم وآرائهم، وصارت تلك المعارضة ميراثًا في أشباههم، كما حكى الله عن المشركين معارضة شرعه وأمره بقضائه وقدره، ووَرِثَهم في هذه المعارضة طائفتان: _________ (1) أقرب ما وجدت إلى هذا المعنى في تفسير الآية قول مجاهد بن جبر: «لا تفتاتوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيءٍ حتى يقضيه الله على لسانه». «تفسير مجاهد» (ص 610). وأخرجه الطبري في «التفسير» (21/ 336) ومحمد بن نصر المروزي في «تعظيم قدر الصلاة» (725) والطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (1/ 316) والبيهقي في «شعب الإيمان» (1429) والهروي في «ذم الكلام وأهله» (564). والافتيات: افتعالٌ من الفوت، وهو السبق إلى الشيء دون ائتمار من يُؤتمر. «الصحاح» (1/ 260). (2) «ح»: «المنافقين».
(2/632)
إحداهما: إخوانهم المباحية (1) الذين خلعوا رِبْقَة الشريعة (2) من أعناقهم ودانوا بالقدر. والثَّانية: الذين عارضوا (3) قضاءه وقدره بأمره، وقالوا: لا يمكن الجمع بينهما، فأبطلوا القدر بالأمر. وأولئك أقعد بالميراث من هؤلاء. وقد ذكر سبحانه الأمثال العقلية التي عارض المشركون (4) بها الوحي؛ لتكون عبرةً للمؤمنين، ومثلًا للمعارضين: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اَللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 43]. الوجه الثَّامن والستون: أن معارضة الوحي بالعقل ميراث عن الشيخ أبي مُرَّةٍ (5)؛ فهو أول من عارض السمع بالعقل وقدَّمه عليه، فإن الله سبحانه لمَّا أمره بالسجود لآدم عارض أمره بقياسٍ عقليٍّ مركبٍ من مقدمتين حمليتين (6): _________ (1) المباحية: قوم يحتجون بالقدر على المعاصي، فيكفرون بالشرائع، ويستحلون المحرمات، وهم من شر الطوائف. «مجموع الفتاوى» (8/ 458، 19/ 149 - 150). (2) الربقة في الأصل: عروة في حبل تجعل في عنق البهيمة أو يدها تمسكها، فاستعارها للشريعة، يعني: ما يشد به المسلم نفسه من عرى الإسلام، أي: حدوده وأحكامه وأوامره ونواهيه. «النهاية في غريب الحديث» (2/ 190). (3) «ح»: «عرضوا». (4) «ح»: «المنزلون». (5) أبو مرة: أشهر كنى إبليس لعنه الله. «المرصع في الآباء والأمهات والأبناء» لابن الأثير (ص 249، 291) «تهذيب الأسماء واللغات» للنووي (1/ 106). (6) تقدم (ص 616) معنى القياس الحملي.
(2/633)
إحداهما (1): قوله: {أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ} فهذه هي الصُّغرى، والكبرى محذوفةٌ، تقديرها (2): والفاضل لا يسجد للمفضول، وذكر مستند المقدمة الأولى، وهو أيضًا قياس حملي حذف إحدى مقدمتيه فقال: {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف: 11]. والمقدمة الثَّانية: كأنها معلومةٌ، أي: ومن خُلق من نارٍ أفضل ممَّن خُلق من طينٍ، فهما قياسان متداخلان، وهذه يُسميها المنطقيون الأقيسة المتداخلة: فالقياس الأول هكذا: أنا خيرٌ منه، وخير المخلوقين لا يسجد لمن هو دونه، وهذا من الشكل الأول. والقياس الثَّاني هكذا: خلقتني من نارٍ وخلقته من طينٍ، والمخلوق من النَّار خيرٌ من المخلوق من الطين، فنتيجة هذا القياس العقلي: أنا خير منه. ونتيجة الأول: ولا ينبغي لي أن أسجد له. وأنت إذا تأمَّلت مادة هذا القياس وصورته رأيته أقوى من كثيرٍ من قياساتهم التي عارضوا بها الوحي، وقدَّموها عليه، والكل باطل. وقد اعتذر أتباع الشيخ (3) له بأعذارٍ: منها: أنه لمَّا تعارض عنده العقل والنقل قدَّم العقل. ومنها: أن الخطاب بصيغة الضمير في قوله: {اِسْجُدُوا} [البقرة: 33] ولا عموم له؛ فإن الضمائر ليست من صيغ العموم. _________ (1) «ح»: «أحدهما». والمثبت من «م». (2) «ح»: «بتدبرها». والمثبت من «م». (3) يعني: إبليس لعنه الله.
(2/634)
ومنها: أنه وإن كان اللفظ عامًّا فإنه خصَّه بالقياس المذكور. ومنها: أنه لم يعتقد أن الأمر للوجوب؛ بل حمله على الاستحباب، لأنه المتيقن، أو على الرجحان دفعًا للاشتراك والمجاز. ومنها: أنه حمله على التراخي، ولم يحمله على الفور. ومنها: أنه صان جناب الربِّ أن يُسجد لغيره، ورأى أنه لا يليق به السجود لسواه. فبالله تأمَّل هذه التأويلات، وقابل بينها وبين كثيرٍ من التأويلات التي يذكرها كثيرٌ من النَّاس والمعارضات التي يعارض بها النصوص، وفي بني آدم من يصوِّب رأي إبليس وقياسه ويقول: الصواب معه، ولهم في ذلك تصانيف. وكان بشَّار بن بُرد الأعمى الشَّاعر على هذا المذهب. ولهذا يقول في قصيدته الرَّائية (1): الْأَرْضُ مُظْلِمَةٌ سَوْدَاءُ مُقْتِمَةٌ ... وَالنَّارُ مَعْبُودَةٌ مُذْ كَانَتِ النَّارُ ولمَّا علم الشيخ (2) أنه قد أُصيب من معارضة الوحي بالعقل، وعلم أنه لا شيء أبلغ في مناقضة الوحي والشرع وإبطاله من معارضته بالعقول أوحى إلى تلامذته وإخوانه من الشبهات الخيالية ما يُعارض به الوحي، وأوهم _________ (1) أنشده له الجاحظ في «البيان والتبيين» (1/ 16) والمبرد في «الكامل» (3/ 1111) والأصفهاني في «الأغاني» (3/ 26). وينظر «ملحقات ديوان بشار» (4/ 78)، وقد ذكره ابن القيم في «إغاثة اللهفان» (2/ 989) والشطر الأول فيه: «الأرض سافلة سوداء مظلمة» والرواية المشهورة: «الْأَرْضُ مُظْلِمَةٌ وَالنَّارُ مُشْرِقَةٌ». (2) يعني: إبليس لعنه الله.
(2/635)
أصحابه وتلاميذه أنها قواطع عقلية، وقال: إن قدَّمتم الوحي عليها فسدت عقولكم. قال تعالى: {وَإِنَّ اَلشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 122] ومن المعلوم أن وحيهم إنما هو شُبَهٌ عقليةٌ. وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ اَلْإِنسِ وَاَلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ اَلْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (113) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ اُلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ (114) أَفَغَيْرَ اَللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهْوَ اَلَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ اُلْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَاَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اُلْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنزَلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُمْتَرِينَ (115) وَتَمَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهْوَ اَلسَّمِيعُ اُلْعَلِيمُ (116) وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي اِلْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اِللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا اَلظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (117) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهْوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [الأنعام: 113 - 118]. [ق 66 ب] الوجه التَّاسع والستون: في بيان فساد معقول الشيخ الذي عارض به الوحي، وذلك من وجوهٍ: أحدها: أنه قياس في مقابلة النصِّ، والقياس إذا صادم النصَّ وقابله كان قياسًا باطلًا، ويُسمى قياسًا إبليسيًّا، فإنه يتضمن معارضة الحق بالباطل وتقديمه عليه، ولهذا كانت عقوبته أن أفسد عليه عقله ودنياه وآخرته. وقد بيَّنَّا فيما تقدم أنه ما عارض أحدٌ الوحي بعقله إلَّا أفسد الله عليه عقله حتى يقول ما يضحك منه العقلاء (1). _________ (1) تقدم (ص 521 - 525).
(2/636)
الثَّاني: أن قوله: «أنا خير منه» كذبٌ، ومستنده في ذلك باطلٌ، فإنه لا يلزم من تفضيل مادةٍ على مادةٍ تفضيل المخلوق منها على المخلوق من الأخرى، فإن الله سبحانه يخلق من المادة المفضولة ما هو أفضل من المخلوق من غيرها، وهذا من كمال قدرته سبحانه. ولهذا كان محمد وإبراهيم وموسى وعيسى ونوح والرُّسل أفضل من الملائكة، ومذهب أهل السُّنَّة أن صالحي البشر أفضل من الملائكة (1)، وإن كانت مادتهم نورًا، ومادة البشر ترابًا. فالتفضيل ليس بالمواد والأصول، ولهذا كان العبيد والموالي الذين آمنوا بالله ورسوله خيرًا وأفضل عند الله ممَّن ليس مثلهم من قريشٍ وبني هاشمٍ. وهذه المعارضة الإبليسية صارت ميراثًا في أتباعه في التقديم بالأصول والأنساب على الإيمان والتقوى، وهي التي أبطلها الله عز وجل بقوله: {يَاأَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اَللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اَللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ (2) الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ، _________ (1) قال المصنف في «بدائع الفوائد» (3/ 1104) عن ابن تيمية: «أنه سُئل عن صالحي بني آدم والملائكة أيهما أفضل؟ فأجاب: بأن صالحي البشر أفضل باعتبار كمال النهاية، والملائكة أفضل باعتبار البداية، فإن الملائكة الآن في الرفيق الأعلى منزهين عمَّا يُلابسه بنو آدم، مستغرقون في عبادة الرب، ولا ريب أن هذه الأحوال الآن أكمل من أحوال البشر، وأما يوم القيامة بعد دخول الجنة فيصير حال صالحي البشر أكمل من حال الملائكة. وبهذا التفصيل يتبين سر التفضيل، وتتفق أدلة الفريقين، ويصالح كل منهم على حقه». وينظر «مجموع الفتاوى» (4/ 350 - 392). (2) والعُبية: الكبر والنخوة، يريد بهذا القول ما كان عليه أهل الجاهلية من التفاخر بالأنساب والتباهي بها. «غريب الحديث» للخطابي (1/ 290). وينظر «تصحيفات المحدثين» للعسكري (1/ 291) و «الفائق» للزمخشري (2/ 384 - 385).
(2/637)
النَّاسُ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ» (1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَبْيَضَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَبْيَضَ إِلَّا بِالتَّقْوَى، النَّاسُ مِنْ آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ» (2). فانظر إلى سريان هذه النُّكتة الإبليسية في نفوس أكثر النَّاس من تفضيلهم بمجرد الأصول والأنساب. الثَّالث: أن ظنَّه أن النَّار خيرٌ من التراب باطلٌ، مستنده ما فيها من الإضاءة والخفة، وما في التراب من الثقل والظُّلمة، ونسي الشيخ ما في النَّار من الطيش والخفة وطلب العلو والإفساد بالطبع، حتى لو وقع منها شواظ بقدر الحبة في مدينة عظيمة لأفسدها كلها ومَن فيها، بل التراب خيرٌ من النَّار وأفضل من وجوهٍ متعددةٍ: منها: أن طبعه السُّكون والرزانة، والنَّار بخلافه. ومنها: أنه مادة الحيوان والنبات والأقوات، والنَّار بخلافه. _________ (1) أخرجه أحمد (8857، 10932) وأبو داود (5116) والترمذي (3956) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح». وفي الباب عن عبد الله ابن عمر وعبد الله بن عباس - رضي الله عنهم -، ينظر «تخريج أحاديث الكشاف» للزيلعي (1245). (2) أخرجه الإمام أحمد في «المسند» (23972) عن أبي نضرة حدثني من سمع خطبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن تيمية في «اقتضاء الصراط المستقيم» (1/ 412): رويناه بإسناد صحيح.
(2/638)
ومنها: أنه لا يمكن أحدًا أنْ (1) يعيش بدونه ودون ما خُلق منه البتة، ويمكنه أن يعيش برهةً بلا نارٍ، قالت عائشة: «كان يمرُّ بنا الشهر والشهران ما نوقد في بيوتنا نارًا، أو ما نرى نارًا. قال لها عروة: فما كان قُوتُكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء» (2). ومنها: أن الأرض تُؤدِّي إليك بما فيها من البركة أضعاف أضعاف ما تُودعه من الحب والنَّوى، وتُربِّيه لك وتغذيه وتنمِّيه. والنَّار تفسده عليك وتمحق بركته. ومنها: أن الأرض مهبط وحي الله، ومسكن رسله وأنبيائه وأوليائه، وكِفاتُهم (3) أحياءً وأمواتًا، والنَّار مسكن أعدائه ومأواهم. ومنها: أن في الأرض بيته الذي جعله إمامًا للناس وقيامًا لهم، وجعل حجَّه مَحَطًّا لأوزارهم، ومُكفِّرًا لسيئاتهم، وجالبًا لهم مصالح معايشهم ومعادهم. ومنها: أن النَّار طبعها العلو والفساد، وأن الله لا يحب المستكبرين ولا يحب المفسدين، والأرض طبعها الخشوع والإخْبات، والله يحب المُخْبِتين الخاشعين. وقد ظهر هذا بخلق إبراهيم ومحمد وموسى وعيسى والرُّسل من المادة الأرضية، وخلق إبليس وجنوده من المادة النَّارية. _________ (1) سقط من «ح». وأثبته من «م». (2) أخرجه البخاري (2567) ومسلم (2972). (3) الكفات: الموضع الذي يُكفت فيه شيء: أي يُضم، ومنه قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ اِلْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات: 25 - 26]. «الصحاح» (1/ 263).
(2/639)
نعم وخُلق من المادة الأرضية الكفار والمشركون، ومن المادة النَّارية صالحو الجن، ولكن ليس في هؤلاء مثل إبليس، وليس (1) في أولئك مثل الرُّسل والأنبياء، فمعلِّم الخير من المادة الأرضية، ومعلِّم الشرِّ من المادة النَّارية. ومنها: أن النَّار لا تقوم بنفسها، بل لا بد لها من محلٍّ تقوم به لا تستغني عنه، وهي محتاجة إلى المادة التُّرابية في قوامها وتأثيرها، والأرض قائمة بنفسها لا تحتاج إلى محلٍّ تقوم به، ولا يفتقر قوامها ونفعها إلى النَّار. ومنها: أن التراب يُفسد صورة النَّار ويبطلها ويقهرها وإن علت عليه. ومنها: أن الرحمة تنزل على الأرض فتقبلها، وتحيا بها، وتُخرج زينتها وأقواتها، وتشكر ربها، وتنزل على النَّار فتأباها وتطفيها وتمحوها وتذهب بها، فبينها وبين الرحمة معاداة، [ق 67 أ] وبين الأرض وبين الرحمة موالاةٌ وإخاءٌ. ومنها: أن النَّار تُطفَأ عند التكبير (2) فتضمحلُّ عند ذكر كبرياء الربِّ، _________ (1) «ح»: «فليس». والمثبت من «م». (2) أخرج ابن السني في «عمل اليوم والليلة» (294 - 297) والعقيلي في «الضعفاء الكبير» (3/ 316) والطبراني في «الدعاء» (1002) عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا رأيتم الحريق فكبروا، فإن التكبير يطفئه». وفيه القاسم ابن عبد الله العمري، وهو متروك الحديث، وكذَّبه الإمام أحمد. وأخرج الطبراني في «المعجم الأوسط» (8569) وفي «الدعاء» (1001) وقوام السنة في «الترغيب والترهيب» (769) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أطفئوا الحريق بالتكبير». وفي إسناده نوح بن دراج وهو متروك الحديث، وكذَّبه بعضهم. وينظر: «المطالب العالية» لابن حجر (3413) و «المقاصد الحسنة» للسخاوي (ص 39) و «السلسلة الضعيفة» للألباني (2603).
(2/640)
ولهذا يهرب المخلوق منها عند الأذان حتى لا يسمعه (1)، والأرض تبتهج بذلك وتفرح به، وتشهد به لصاحبه يوم القيامة (2). ويكفي في فضل المخلوق من الأرض على المخلوق من النَّار أن الله سبحانه خلقه بيديه، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلَّمه أسماء كل شيءٍ، فهل حصل للمخلوق من النَّار واحدة من هذه؟! فقد تبيَّن لك حال هذه المعارضة العقلية للسمع وفسادها من هذه الوجوه وأكثر (3) منها، وهي من شيخ القوم ورئيسهم ومعلِّمهم الأول، فما الظنُّ بمعارضة التلامذة؟! ونحن نقول قولًا نُقدِّم بين يديه مشيئة الله وحوله، والاعتراف بمِنَّته علينا، وفضله لدينا، وأنه محض منَّته وجوده وفضله، فهو المحمود أولًا _________ (1) أخرج البخاري (608) ومسلم (389) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا نُودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين». (2) أخرج البخاري (609) عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يسمع مدى صوت المؤذِّن جنٌّ ولا إنسٌ ولا شيءٌ إلَّا شهد له يوم القيامة». وأخرج الإمام أحمد (9328) وأبو داود (515) والنسائي (645) وابن ماجه (724) وابن خزيمة (390) وابن حبان (1666) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المؤذن يُغفر له مدى صوته، ويشهد له كل رطبٍ ويابسٍ». وقال ابن حجر في «نتائج الأفكار» (1/ 312): حديث حسن. وفي الباب عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم -، ينظر: «البدر المنير» (3/ 380 - 387) و «التلخيص الحبير» (2/ 571 - 573). (3) «ح»: «وأكثره». والمثبت من «م».
(2/641)
وآخرًا على توفيقنا له وتعليمنا إيَّاه (1): إن كل شُبهةٍ من شُبه أرباب المعقولات عارضوا بها الوحي فعندنا ما يبطلها بأكثر من الوجوه التي أبطلنا بها معارضة شيخ القوم، وإن مدَّ الله في الأجل أفردنا في ذلك كتابًا كبيرًا. ولو نعلم أن في الأرض من يقول ذلك ويقوم به تبلغ إليه أكباد الإبل لاقتدينا بالمسير إليه بموسى في سفره إلى الخضر، وبجابر بن عبد الله في سفره إلى عبد الله بن أُنيسٍ لسماع حديث واحد (2)، ولكن أزهد النَّاس في عالمٍ قومه. وقد قام قبلنا بهذا الأمر من برّز به على أهل الأرض في عصره وفي الأعصار قبله، فأدرك مَن قبله وحيدًا، وسبق مَن بعده سبقًا بعيدًا (3)، واستنقذ النصوص من أيدي الملحدين، ونفى عنها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وجعل ملوك أرباب المعقولات المعارضين لها أسرى في أيدي المسلمين، وأخذ عليهم بمجامع الطُّرق حتى لم يبق لهم مددٌ ولا كمين، فجرى عليه من تلامذة هذا الشيخ وأتباعه من الجاهلين والمعاندين والمعطلين ما جرى على من قام مقامه على مرِّ السنين. مَضَوْا وَمَضَى ثُمَّ الْتَقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ ... فَأَخَّرَهُمْ لِلْحُكْمِ يَوْمَ التَّخَاصُمِ (4) _________ (1) أي: توفيقنا لهذا القول وتعليمنا إياه. (2) علقه البخاري في «الصحيح» (1/ 26). ووصله الإمام أحمد (16288) والبخاري في «الأدب المفرد» (970) والحاكم في «المستدرك» (2/ 437، 4/ 574) وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد. (3) يعني: شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -. (4) لم نقف على قائله.
(2/642)
الوجه السبعون: أن العقل الذي عارض به هؤلاء السمع هو النفي، والذي دلَّ عليه السمع هو الإثبات. فإن السمع دلَّ على إثبات الصِّفات، والكلام والتكليم، وعلو الربِّ على خلقه، واستوائه على عرشه، ونزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا، ومجيئه وإتيانه، وإثبات وجهه الأعلى، ويديه اللتين كلتاهما يمينٌ، وغير ذلك؛ والعقل عندهم دلَّ على نفي ذلك كله. فالمعارضة التي ادَّعوها هي معارضة بين النفي والإثبات، فالرُّسل جاؤوا بالإثبات المفصَّل للأسماء والصفات والأفعال، فجاء أرباب هذا العقل بالنفي المفصَّل لها، وادَّعوا التعارض بين دليل هذا الإثبات ودليل النفي، ثم قدَّموا دليل النفي. فيقال: الكلام معكم في مقامين: أحدهما: أن العقل لم يدلَّ على ثبوتها. والثَّاني: أنه دلَّ على انتفائها. فإن أردتم بدلالة العقل المقام الأول، فنفيها خطأٌ، فإنه لو نُفي كل ما لم يدلَّ عليه عقلٌ أو حسٌّ نُفيت أكثر الموجودات التي لا ندركها بعقولنا ولا حواسنا، وهذا هو حاصل ما عند القوم عند التحقيق. ومَن تدبَّر أدلتهم حقَّ التدبُّر علم أنه ليس فيها دليلٌ واحدٌ يدل على النفي، ومعلوم أن الشيء لا ينتفي لانتفاء دليلٍ يدل عليه، وإن انتفى العلم به، فنفي العلم لا يستلزم نفي المعلوم، فكيف والعقل الصريح قد دلَّ على ثبوتها، كما نبَّهنا عليه، وسنذكره. وإن أردتم الثَّاني ـ وهو أن العقل [دل على انتفائها] (1) ـ فيقال: العقل إنما يدل على نفي الشيء إذا علم ثبوت نقيضه، فيُعلم حينئذٍ أن النقيض _________ (1) «دل على انتفائها» سقط من «ح»، وزدته مما سبق أعلاه.
(2/643)
الآخر منتفٍ. فأين في العقل المقطوع بحكمه أو المظنون ما يدل على نقيض ما أخبرت به الرُّسل بوجهٍ من وجوه الأدلة الصحيحة. فالمسلمون يقولون: قد دلَّ العقل والوحي معًا على إثبات علم الربِّ تعالى آمرًا ناهيًا، وعلى كونه فوق العالم كله، وعلى كونه يفعل بقدرته ومشيئته، وعلى أنه يرضى ويغضب، ويُثيب ويُعاقب، ويُحب ويُبغض، فقد شهد بذلك العقل والنقل: أمَّا النقل فلا يمكنكم المكابرة فيه. وأمَّا العقل فلأن ذات الربِّ أكمل من كل ذاتٍ على الإطلاق، بل ليس الكمال المطلق التَّام من كل وجهٍ إلَّا له وحدَه، فيستحيل وصفه بما يضاد كماله، وكلُّ ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله فهو صفة كمالٍ، ثبوتها له أكمل من نفيها عنه. وقد اتفقت الأُمم على أن الله سبحانه موصوفٌ بالكمال منزَّهٌ عن أضداده، وإن تنازعوا في كون الصفة المعينة والفعل المعين كمالًا أو ليس بكمالٍ، والذين نفوه تخيلوا أن إثباته يستلزم النقص والحدوث، وأن الكمال في نفيه. وإن كان كثيرٌ من طوائف [ق 67 ب] بني آدم يستجيزون وصفه بالنقائص والعيوب مع علمهم بأنها عيوبٌ ونقائص. كما صرَّحت به اليهود من قولهم: إنه فقير (1)، وإنه تعب لمَّا خلق العالم (2)، وأنه بكى على الطوفان حتى رمدت عيناه وعادته الملائكة، وإنه _________ (1) قال الله عنهم: {لَّقَد سَّمِعَ اَللَّهُ قَوْلَ اَلَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اَللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ اُلْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ اَلْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اَللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} [آل عمران: 181 - 182]. (2) رد الله تعالى كذبهم وافتراءهم فقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا اَلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} [ق: 38].
(2/644)
ندم على خلق آدم وذريته ندمًا عظيمًا حتى عض أنامله. ويقولون في صلاتهم: يا إلهنا انتبه من رقدتك، كم تنام؟! ونحو ذلك. والنصارى لا يخفى على أحدٍ منهم أن نزوله عن عرشه ودخوله في رحم امرأةٍ، وإقامته هناك تسعة أشهر بين الحيض والبول، ثم خروجه طفلًا صغيرًا يرضع ويبكي، ويأكل ويشرب ويبول، وينام ويألم، ثم تمكُّن أعدائه منه وصفعه وتسمير يديه ورجليه، وصلبه بين نصبين وعلى رأسه تاج من الشوك = أن هذا غاية التنقص المنافي لكماله. والاتحادية مصرِّحون بأنه موصوفٌ بكل صفةٍ مذمومةٍ عقلًا وعرفًا وشرعًا. ومعلومٌ أن هذه النقائص (1) هي التي دلَّ العقل الصريح واتفاق المرسلين من أولهم إلى آخرهم على نفيها عن الله وتنزيهه عنها، فمن جعل دلالته على نفي علمه، وسمعه، وبصره، وقوته، وقدرته، وحياته، وإرادته، وكلامه (2) وتكليمه، وعلوه على عرشه، ووجهه الأعلى، ويديه، وغضبه ورضاه؛ كدلالته على نفي تلك العيوب والنقائص، وإثباتها له كإثبات تلك العيوب والنقائص، وأن العقل يوجب نفي هذا وهذا = فهو من أسخف النَّاس عقلًا، وأعظمهم جهلًا، وأفسدهم فطرة. وكان الذين وصفوه سبحانه بتلك العيوب والنقائص أقرب إلى العقل منه، فإنهم وصفوه بالكمال والنقص، وهؤلاء نزَّهوه عن الكمال، وهو يستلزم وصفه بالنقص فقط، ومعلوم أن ذاتًا موصوفة بالكمال والنقائص أكمل من ذاتٍ لا تُوصف بشيءٍ _________ (1) «ح»: «التناقض»، تحريف. (2) «ح»: «وكماله». ولعل المثبت هو الصواب.
(2/645)
من الكمالات البتة، وتوصف بأضدادها. وأيضًا فإن تلك الذَّات يُمكن وجودها، وهذه الذَّات يمتنع (1) وجودها. والمقصود أنه قد دلَّ العقل مع السمع على إثبات ما يقول هؤلاء إن العقل عارضه، وغاية ما معهم أن عقولهم لم تدلَّ على إثباته، وقد بيَّنا أنه يستحيل دلالة العقل على نفيه، فإن العقل إنما يدلُّ على نفي ما علم ثبوت نقيضه بالعقل، والعقل لم يُعلم به ثبوت نقيض الصِّفات العُلى والأسماء الحُسنى، واستواء الربِّ على عرشه، وتكلمه، ورؤية أوليائه له في الآخرة عيانًا بالأبصار فوق رؤوسهم؛ حتى يكون نفي ذلك معلومًا بالعقل. فإن قيل: نحن ما نفينا ذلك إلَّا لدلالة العقل على نفيه، فإنه لو كان فوق العرش، أو كان يُرى بالأبصار، أو كان مكلمًا متكلِّمًا، أو كان له وجهٌ ويدٌ وسمعٌ وبصرٌ؛ لزم أن يكون جسمًا، ويلزم من كونه جسمًا أن يكون مركبًا من الجواهر المفردة أو من المادة والصورة. وإن قلنا بتماثل الأجسام لزم أن يكون مماثلًا لكل جسمٍ، ويلزم من كونه مركبًا أن يكون مفتقرًا إلى أجزائه، وأجزاء المركب غيره، ويلزم من افتقاره إلى غيره أن يكون مخلوقًا مصنوعًا، فهذا (2) الدليل العقلي الذي أوجب لنا أن ننفي ما نفيناه؛ لنثبت إلهيته وربوبيته وقِدمه، وأمَّا أنتم فلمَّا أثبتم له هذه الصِّفات لزمكم نفي قِدمه ونفي ربوبيته. قيل: هذا الدليل هو الذي خرَّب دياركم، وقلع الإيمان بشروشه (3) من _________ (1) «ح»: «تمنع». ولعل المثبت هو الصواب. (2) «ح»: «بهذا». ولعل المثبت هو الصواب. (3) «ح»: «بسروسه». و الشِّرْش: أصل الشجر، وجمعها شروش. «تكملة المعاجم العربية» (6/ 288). فالمعنى وقلع الإيمان بأصوله.
(2/646)
قلوبكم، وسهَّل عليكم الإلحاد (1) في أسماء الربِّ وصفاته وتعطيلَه عن كل كمالٍ وسلبه عنه، وهو في الحقيقة مستلزمٌ لجحد وجود الخالق سبحانه، وإنكار أن يكون للعالم صانعٌ على الحقيقة. ففررتم من إثبات الكمالات له سبحانه لظنكم أنها تستلزم افتقاره وحدوثه، فوقعتم في شرٍّ (2) من ذلك وهو تعطيل العالم عن ربٍّ يدبره، فعطلتم الصَّانع عن كماله، وعطلتم العالم عن صانعه. ولقد أقامت الدهرية والمعطلة أربعين شبهةً، التي ذكرتموها واحدة من تلك الأربعين، فقالوا: لو كان للعالم ربٌّ أو صانعٌ أو خالقٌ لكان إمَّا جسمًا وإمَّا عرضًا، ودليل هذا الحصر أنه إمَّا أن يكون قائمًا بنفسه، وهو الذي نعني بالجسم؛ وإمَّا أن يكون قائمًا بغيره؛ وهو الذي نعني بالعرض. فلا يجوز أن يكون عرضًا، لأنه لا يقوم بنفسه، فهو مفتقرٌ إلى محلٍّ يقوم به. ولا يجوز أن يكون جسمًا لما ذكرتم من الدليل المتقدم بعينه. وكل ما تُجيبون به إخوانكم في الأصل عن هذه الشُّبهة فهو جواب أهل السمع والعقل لكم بعينه. فإن قلتم: بل هو قائمٌ بنفسه، وليس بجسمٍ. قال لكم أهل السمع والعقل: فقولوا هو فوق عرشه، موصوفٌ بصفات كماله، ونعوت جلاله، وحقائق أسمائه، وليس بجسمٍ. فإن قلتم: هذا لا يُعقل. _________ (1) «ح»: «الاتحاد»، تصحيف. (2) «ح»: «شيء». والمثبت هو الصواب.
(2/647)
قيل لكم: فكيف عقلتم ذاتًا قائمة بنفسها فاعلة لغيرها [ق 68 أ] ليست بجسمٍ؟! فإن قلتم: دلَّ الدليل على انتهاء الممكنات والمصنوعات إلى ذات هذا شأنها، فأثبتناها بالدليل. قيل لكم: ودلَّ الدليل على انتهاء المخلوقات والمصنوعات إلى ذات موصوفةٍ بالصفات التي تُؤثر بها في المخلوقات ومقاديرها، وصفاتها وأشكالها وهيئاتها، وإعدامها بعد إيجادها (1)، وإيجاد بدلٍ (2) منها، ودلالتُه على ذاتٍ هذا شأنها أعظم من دلالته على ذاتٍ مجردةٍ لا فعل لها ولا صفة ولا قدرة ولا مشيئة ولا إرادة. فإن قلتم: يلزم من ثبوت صفاتها حدوثها، ولا يلزم من تجردها عنها حدوثها. قيل لكم: بل يلزم من تجردها عنها عدمها، وامتناع وجودها، فلو لزم من ثبوت صفاتها ما لزم كان خيرًا من جحدها ونفيها بالكلية. كيف وتلك اللوازم التي ركبتم بعضها على بعضٍ فيها من التلبيس والتدليس والإجمال اللفظي والاشتباه المعنوي، ما إذا كُشف أمره تبيَّن أنها زَغَلٌ ومحالٌ، وأشد شيءٍ منافاة للعقل والسمع، وكل مقدماتها دعاوٍ كاذبةٌ باطلةٌ بصريح العقل والسمع. فلا يلزم من كونه فوق سماواته على عرشه، يسمع ويرى، ويأمر وينهى، ويتكلَّم ويُكلِّم؛ أن يكون مركبًا من جواهر فردة، ولا من مادة وصورة، ولا أن يكون مماثلًا لخلقه. فدعوى هذا اللزوم عين البَهت والكذب _________ (1) بعده في «ح»: «وإيجادها». وهي كلمة زائدة. (2) «ح»: «بدلها». والمثبت هو الصواب.
(2/648)
الصراح، بل العرش خلقٌ من خلقه، ولا يلزم من كونه فوق السماوات كلها أن يكون مركبًا من الجواهر المفردة، ولا من المادة والصورة، ولا مماثلًا لغيره من الأجسام. وكذلك جبريل مخلوق من مخلوقاته، وهو ذو قوةٍ وحياةٍ وسمعٍ وبصرٍ وأجنحةٍ، ويصعد وينزل، ويُرى بالأبصار؛ ولا يلزم من وصفه بذلك أن يكون مركبًا من الجواهر المفردة ولا من المادة والصورة، ولا أن يكون جسمه مماثلًا لأجسام الشياطين، فدعونا من هذا الفَشْر (1) والهذيان والدعاوي الكاذبة. والتفاوت الذي بين الله وخلقه أعظم من التفاوت الذي بين جسم العرش وجسم الثَّرَى والهواء والماء، وأعظم من التفاوت الذي بين أجسام الملائكة وأجسام الشياطين، والعاقل إذا أطلق على جسمٍ صفةً من صفاته وضدُّه من كل وجهٍ موصوف بتلك الصفة، لم يلزم من ذلك تماثلهما. فإذا أطلق على الرجيع ـ الذي قد بلغ غاية الخُبث ـ أنه جسمٌ قائمٌ بنفسه ذو رائحةٍ ولونٍ، وأطلق ذلك على المسك، لم يقل ذو حسٍّ سليمٍ ولا عقلٍ مستقيمٍ إنهما متماثلان. وأين التفاوت الذي بينهما من التفاوت الذي بين الله وخلقه، فكم تُلبِّسون، وكم تُدلِّسون وتُموهون! فاشتراك الذَّاتين في معنًى من المعاني لا يستلزم تماثلهما عند أحدٍ من العقلاء، وإن المختلفات والمتضادات تشترك في أشياء متعددة، فمشاركة الماء للنار في مسمَّى الجسمية (2) والحركة وإدراك الحس لهما لا يوجب تماثلهما. _________ (1) الفشر: الهذيان. «تكملة المعاجم العربية» (8/ 74). (2) «ح»: «بالجسمية». والمثبت هو الصواب.
(2/649)
وليس معكم دليلٌ واحدٌ صحيحٌ يدل على تركب الأجسام كما ذكرتم، فكيف ولو أقمتم الدليل على ذلك لم يلزم منه تركُّب خالق الأجسام وجواهرها وأعراضها ممَّا تركبت منه الأجسام بوجهٍ من الوجوه، سوى الدعوى الكاذبة، وهو أنه لو كان فوق عرشه أو موصوفًا بالصفات أو يُرى بالأبصار لزم أن يكون مركبًا. وليس العجب من عقولٍ رضيت لنفسها بمثل هذا الهذيان حتى اعتقدَتْه غاية الغايات العقلية، ونهايات المعارف الإلهية والمباحث الحكمية، ثم قدَّمته على نصوص الوحي، فإن هذا في الأصل وضعُ من قصد معارضة الأنبياء ورد ما جاؤوا به؛ بل العجب من قوم صدَّقوا الأنبياء، وشهدوا أن الرَّسول حقٌّ، وجاءهم بالبينات، وعلموا أنه الصَّادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى} [النجم: 4] ثم ولج هذا الهذيان في آذانهم فسمعوه (1)، ودخل إلى قلوبهم فقبلوه، وعظَّموا أصحابه، وسمَّوْهم المحققين، وقدَّموا أقوالهم على نصوص الوحي المبين، فضلًا عن تقديمه على كلام الصَّحابة والتَّابعين. ولقد أحسن القائل فيهم وإن قصد سواهم (2): خَفَافِيشُ أَعْشَاهَا النَّهَارُ بِضَوْئِهِ ... وَلَاءَمَهَا قِطْعٌ مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمُ وهذه الحجة الدَّاحضة باطلةٌ من أكثر من سبعين وجهًا تُذكر في غير هذا _________ (1) «ح»: «فسموا». والمثبت هو الصواب. (2) البيت لابن الرومي في «ديوانه» (1/ 157) وقافيته: «غيهبُ» وكذا أنشده له: الحسن بن وكيع في «المنصف للسارق والمسروق منه» (ص 373) والثعالبي في «التمثيل والمحاضرة» (ص 374).
(2/650)
الموضع. فلا يلزم من استوائه على عرشه، وثبوت صفات كماله، وتكلمه وتكليمه، ورؤيته بالأبصار؛ أن يكون جسمًا بالمعنى الذي اصطلحوا عليه. ولو لزم أن يكون جسمًا لم يلزم أن يكون مركبًا بالاعتبار الذي ذكروه. ولو لزم أن يكون مركبًا لم يلزم أن يكون مفتقرًا إلى مركبٍ ركَّبه، ولا محتاجًا إلى غيره بوجهٍ من الوجوه. ولو لزم أن يكون جسمًا مركبًا لم يلزم أن يكون مماثلًا للأجسام بوجهٍ من الوجوه [ق 68 ب]. فشيءٌ من ذلك غير لازمٍ لعلوه على عرشه وثبوت صفاته، لا عقلًا ولا سمعًا إلَّا بالدعاوى الكاذبة، حتى لو قُدِّر لزوم ذلك كله لكان التزامه أسهل من تعطيل علوِّه على عرشه، وتعطيل كلامه، وإبطال أمره ونهيه، وتعطيل صفاته وأفعاله، وجعله بمنزلة المعدوم الممتنع الذي لا هو داخل العالم ولا خارجه، ولا له فعلٌ يقوم به، ولا صفة كمالٍ يتصف بها، فلا يسمع ولا يُبصر، ولا يعلم ولا يقدر، ولا يريد ولا يفعل (1) شيئًا؛ فأي ذاتٍ من الذوات المخلوقة المتصفة بذلك فُرضت فهي أكمل من هذه الذَّات. وقد تقدَّم (2) أن الدليل العقلي الصحيح إنما دلَّ على انتهاء المخلوقات إلى خالقٍ واحدٍ قديمٍ غير مخلوقٍ ولا مصنوعٍ ولا محتاج إلى سواه بوجهٍ من الوجوه، وكل ما عداه محتاجٌ إليه من جميع الوجوه؛ ولم يدل على أن هذا الواحد سبحانه معطلٌ عن الأفعال والصفات وحقائق الأسماء الحُسنى. وأن الدليل العقلي إنما دلَّ على خلاف ذلك، وأنه أحقُّ بكل صفة كمالٍ من غيره، وأن كل كمالٍ ثبت للمخلوق لا نقص فيه، فلا يستلزم نقصًا؛ فمعطيه _________ (1) «ح»: «يعقل». ولعل المثبت هو الصواب. (2) تقدم (ص 648).
(2/651)
وموجده أحقُّ به وأولى: فكيف يكون المخلوق يتكلم، وخالقه لا يتكلم؟! وكيف يكون سميعًا بصيرًا، وخالقه لا يسمع ولا يبصر؟! وكيف يكون حيًّا عليمًا قديرًا حكيمًا، وخالقه ليس كذلك؟! وكيف يكون ملِكًا آمرًا ناهيًا مرسلًا مثيبًا معاقبًا، وخالقه ليس كذلك؟! وكيف يكون فاعلًا باختياره ومشيئته، وخالقه ليس كذلك؟! وكيف يكون قويًّا، وخالقه ليس له قوة؟! وكيف يكون رحيمًا، وخالقه لم تقم به صفة رحمة ولا رأفة؟ وكيف يكون كريمًا حليمًا جوادًا ماجدًا، وخالقه ليس كذلك؟! هذا ومن المعلوم بالضرورة أن ما يُرى أكمل ممَّن لا يمكن أن يُرى؛ فإنه إمَّا معدومٌ، وإما عرضٌ، والمرئي أكمل منهما. وما يتكلم أكمل ممَّن لا يتكلم، فإنه إمَّا جمادٌ وإمَّا عرضٌ وإمَّا معدومٌ، والمتكلم أكمل من ذلك. وما له سمعٌ وبصرٌ ووجهٌ ويدان أكمل من الفاقد لذلك بالضرورة. وهكذا سائر الصِّفات، فلا أحسن الله في تلك العقول عن أصحابها إذا أحسن عن الصَّابئين (1)، ولا حيَّاها بما حيَّى به عباده المرسلين، ولا زكَّاها بما زكَّى به أتباعهم من المؤمنين، ونسأله ألَّا يبتلينا بما ابتلاهم به من مفارقة _________ (1) كذا جاءت هذه العبارة في «ح»، ولم أفهم معناها، ولعلها مصحفة.
(2/652)
المنقول والمعقول، وتلقي العلم واليقين من غير مشكاة الرَّسول، ولا يجعلنا من أتباع قومٍ ضلُّوا من قبلُ وأضلُّوا كثيرًا وضلُّوا عن سواء السبيل. الوجه الحادي والسبعون: أنه سبحانه وصف نفسه بأنه ليس كمثله شيءٌ، وأنه لا سَمِيَّ له، ولا كفؤ له، وهذا يستلزم وصفه بصفات الكمال التي فات بها شبه المخلوقين، واستحق بقيامها به أن يكون {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 9] وهكذا كونه ليس له سَمِيٌّ، أي: مثيلٌ يُساميه في صفاته وأفعاله ولا مَن يكافئه فيها. ولو كان مسلوب الصِّفات والأفعال والكلام والاستواء والوجه واليدين، ومنفيًّا عنه مباينة العالم ومحايثته، واتصاله به وانفصاله عنه وعلوه عليه، وكونه يَمنَتَه أو يَسْرَتَه وأمامه أو وراءه = لكان كل عدمٍ مثلًا له في ذلك، فيكون قد نفى عن نفسه مشابهة الموجودات، وأثبت لها مماثلة المعدومات. فهذا النفي واقع على أكمل الموجودات وعلى العدم المحض، فإن العدم المحض لا مثل له ولا كفؤ ولا سَمِيَّ. فلو كان المراد بهذا نفي صفاته وأفعاله واستوائه على عرشه وتكلمه بالوحي وتكليمه لمن يشاء من خلقه؛ لكان ذلك وصفًا له بغاية العدم. فهذا النفي واقع على العدم المحض وعلى مَن كثرت أوصاف كماله ونعوت جلاله وأسماؤه الحُسنى حتى تفرَّد بذلك الكمال؛ فلم يكن له شبه في كماله ولا سَمِيٌّ ولا كفوءٌ. فإذا أبطلتم هذا المعنى الصحيح تعيَّن ذلك المعنى الباطل قطعًا، وصار المعنى أنه لا يُوصف بصفةٍ أصلًا، ولا يفعل فعلًا، ولا له وجهٌ ولا يدٌ، ولا يسمع ولا يُبصر، ولا يعلم ولا يقدر، تحقيقًا لمعنى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ
(2/653)
شَيْءٌ}. وقال إخوانكم من الملاحدة: ليس له ذات أصلًا، تحقيقًا لهذا النفي. وقال غُلاتهم: ولا وجود له تحقيقًا لهذا النفي. وأمَّا الرُّسل وأتباعهم فقالوا: إنه حيٌّ وله حياة، وليس كمثله شيءٌ في حياته، وهو قويٌّ وله القوة، وليس كمثله (1) شيءٌ في قوته، وهو سميعٌ بصيرٌ له السمع والبصر يسمع ويبصر، وليس كمثله شيءٌ في سمعه وبصره، ومتكلم ومكلم، وليس كمثله شيءٌ في كلامه وتكليمه، وله وجه ويدان وليس كمثله شيءٌ، وهو مستوٍ على عرشه وليس كمثله شيءٌ. وهذا النفي لا يتحقق إلَّا بإثبات صفات الكمال؛ فإنه مدحٌ له وثناءٌ أثنى به على نفسه، والعدم المحض لا يُمدح به (2) أحدٌ، ولا يُثنى به عليه، ولا يكون كمالًا له، بل هو أنقص النقص، وإنما يكون كمالًا إذا تضمن الإثبات، كقوله [ق 69 أ] تعالى: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 253] لكمال حياته وقيُّوميته. وقوله: {مَن ذَا اَلَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 253] لكمال غناه وملكه وربوبيته. وقوله: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 45] {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 48] {وَمَا اَللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ} [غافر: 31] لكمال عدله وغناه ورحمته. وقوله: {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} [ق: 38] لكمال قدرته. وقوله: {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي اِلْأَرْضِ وَلَا فِي اِلسَّمَاءِ} [يونس: 61] {وَمَا يَخْفَى عَلَى اَللَّهِ مِن شَيْءٍ فِي اِلْأَرْضِ وَلَا فِي اِلسَّمَاءِ} [إبراهيم: 40] _________ (1) «ح»: «مثله». والمثبت من «م». (2) «به» ليس في «ح». ومثبت من «م».
(2/654)
ونظائر ذلك، لكمال علمه. وقوله: {لَّا تُدْرِكُهُ اُلْأَبْصَارُ} [الأنعام: 104] لعظمته وإحاطته بما سواه، وأنه أكبر من كل شيءٍ، وأنه واسع؛ فيُرى ولكن لا يُحاط به إدراكًا، كما يُعلم ولا يحاط به علمًا، فيُرى ولا يحاط به رؤيةً. فهكذا {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} هو متضمن لإثبات جميع صفات الكمال على وجه الإجمال. وهذا هو المعقول في نظر النَّاس وعقولهم، وإذا قالوا: فلان عديم المثل، أو قد أصبح ولا مثل له في النَّاس، أو ما له شبيهٌ، ولا له من يكافئه؛ إنما يريدون بذلك أنه تفرد من الصِّفات والأفعال والمجد بما لم يلحقه فيه غيره، فصار واحدًا من الجنس لا مثيل له. ولو أطلقوا ذلك عليه باعتبار نفي صفاته وأفعاله ومجده لكان ذلك عندهم غاية الذمِّ والتنقُّص له. فإذا أُطلق ذلك في سياق المدح والثناء لم يَشُكَّ عاقلٌ في أنه إنما أراد كثرة أوصافه وأفعاله وأسمائه التي لها حقائق تحمل عليها. فهل يقول عاقلٌ لمن لا علم له، ولا قدرة، ولا سمع ولا بصر، ولا يتصرف بنفسه، ولا يفعل شيئًا، ولا يتكلم، ولا له وجهٌ ولا يدٌ ولا قوة ولا فضيلة من الفضائل: إنه لا شبيه له، ولا مثل له، وإنه وحيدُ دهره، وفريدُ عصره ونسيجُ وحده. وهل فَطَرَ الله الأُمم وأطلق ألسنتهم ولغاتهم إلَّا على ضد ذلك؟! وهل كان ربُّ العالمين أهلَ الثناء والمجد إلَّا بأوصاف كماله، ونعوت جلاله، وأفعاله، وأسمائه الحسنى. وإلا فبماذا يُثني عليه المثنون، وبماذا يُثني على نفسه أعظمَ ممَّا يُثني به عليه جميع خلقه؟ ولأي شيءٍ يقول أعرف
(2/655)
خلقه به: «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» (1)؟ ومعلومٌ أن هذا الثناء الذي أخبر أنه لا يُحصيه لو كان بالنفي لكان هؤلاء أعلم به منه، وأشد إحصاءً له، فإنهم نفوا عنه حقائق الأسماء والصفات نفيًا مفصَّلًا، وذلك ممَّا يُحصيه المُحصي بلا كُلفةٍ ولا تعبٍ، وقد فصَّله النُّفاة وأحصوه وحصروه. يوضحه: الوجه الثَّاني والسبعون: أن الله سبحانه إنما نفى عن نفسه ما يُناقض الإثبات ويُضاد ثبوت الصِّفات والأفعال، فلم ينفِ إلَّا أمرًا عدميًّا أو ما يستلزم العدم، فنفى السِّنَة والنوم المستلزم لعدم كمال الحياة والقيومية. ونفى العُزُوب والخفاء المستلزم لنفي كمال العلم. ونفى اللغوب المستلزم نفي كمال القدرة. ونفي الظلم المستلزم لنفي كمال الغنى والعدل. ونفى العبث المستلزم لنفي كمال الحكمة والعلم. ونفى الصَّاحبة والولد المستلزمَينِ لعدم كمال الغنى. وكذلك نفى الشَّريك والظَّهير والشَّفيع المتقدِّم بالشفاعة المستلزم لعدم كمال الغنى والقهر والملك. ونفى الشبيه والمثيل والكفؤ المستلزم لعدم التفرد بالكمال المطلق. ونفى إدراك الأبصار له وإحاطة العلم به المستلزمَينِ لعدم كمال عظمته وكبريائه وسَعته وإحاطته. _________ (1) أخرجه مسلم، وقد تقدم تخريجه.
(2/656)
وكذلك نفى الحاجة والأكل والشرب عنه سبحانه لاستلزام ذلك عدم غناه الكامل. وإذا كان إنما نفى عن نفسه العدم أو ما يستلزم ذلك العدم عُلم أنه أحقُّ بكل وجودٍ وثبوتٍ وكلِّ أمرٍ وجودي لا يستلزم عدمًا ولا نقصًا ولا عيبًا. وهذا هو الذي دلَّ عليه صريح العقل؛ فإنه سبحانه له الوجود الدَّائم القديم الواجب بنفسه الذي لم يستفده من غيره، ووجودُ كل موجودٍ فمفتقرٌ (1) إليه، ومتوقفٌ في تحققه عليه، والكمال وجودٌ كله، والعدم نقصٌ كله، فإن العدم كاسمه لا شيء. فعاد النفي الصحيح إلى نفي النقائص والعيوب، ونفي المماثلة في الكمال، وعاد الأمران إلى نفي النقص، وحقيقة ذلك نفي العدم وما يستلزم العدم. فتأمَّل هل نفى القرآن والسُّنَّة عنه سبحانه سوى ذلك؟ وتأمَّل هل ينفي العقل الصحيح ـ الذي لم يفسد بشُبه هؤلاء الضُّلال الحيارى ـ غير ذلك؟ فالرُّسل جاؤوا بإثبات ما يضاده، وهو سبحانه أخبر أنه لم يكن له كفوًا أحد بعد وصفه نفسه بأنه الصمد. والصمد: السيد الذي كمل في سؤدده، ولهذا كانت العرب تُسمِّي أشرافها بهذا الاسم؛ لكثرة الصِّفات المحمودة في المسمَّى به، قال شاعرهم (2): _________ (1) «م»: «مفتقر». (2) البيت لهند بنت مَعْبد بن نَضْلة تبكي عمَّيها عمرَو بن مسعودٍ، وخالدَ بن نَضْلة. وقد قتلهما النعمان بن المنذر اللخمي، كما في «السيرة النبوية» لابن هشامٍ (1/ 572). ويُنسب لسبرة بن عمرو الأسدي، ينظر «الصحاح» للجوهري (2/ 652) و «البيان والتبيين» للجاحظ (1/ 180) و «سمط الآلي» (ص 933).
(2/657)
أَلَا بَكَرَ النَّاعِي بِخَيْرِ (1) بَنِي أَسَدْ ... بِعَمْرِو بْنِ مَسْعُودٍ وَبِالسَّيِّدِ الصَّمَدْ فإن الصمد من تَصمُد نحوه القلوب بالرغبة والرهبة، وذلك لكثرة خصال الخير فيه، وكثرة الأوصاف الحميدة له، ولهذا قال جمهور السلف [ق 69 ب] منهم عبد الله بن عباسٍ: «الصمد: السيد الذي كمُل سُؤْدُده، فهو العالم الذي كمُل علمه، القادر الذي كمُلت قدرته، الحكيم الذي كمُل حكمه، الرحيم الذي كمُلت رحمته، الجواد الذي كمُل جوده» (2). ومن قال: «إنه الذي لا جوف له» (3) فقوله لا يناقض هذا التفسير، فإن اللفظة من الاجتماع، فهو الذي اجتمعت فيه صفات الكمال ولا جوف له، فإنما لم يكن أحدٌ كفوًا له لمَّا كان صمدًا كاملًا في صمديته. فلو لم يكن له (4) صفات كمالٍ ونعوت جلالٍ، ولم يكن له علمٌ ولا قدرةٌ ولا حياةٌ ولا إرادةٌ ولا كلامٌ، ولا وجهٌ ولا يدٌ ولا سمعٌ ولا بصرٌ، ولا فعل يقوم به، ولا يفعل شيئًا البتة، ولا هو داخل العالم _________ (1) «ح»: «يخبر». «م»: «بخبر». والرواية الأخرى: «بخيري». ينظر المصادر السابقة. (2) أخرجه الطبري في «التفسير» (24/ 736) وأبو الشيخ في «العظمة» (96) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (98). وينظر في تفسير الصمد: «تفسير الطبري» (24/ 731 - 736) و «البسيط» للواحدي (24/ 436 - 444) و «النكت والعيون» للماوردي (6/ 371 - 372). (3) أخرجه سعيد بن منصور في «التفسير» (2548) وابن أبي عاصم في «السنة» (665) والطبري في «التفسير» (24/ 731) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (100) عن ابن عباس - رضي الله عنه -. وروي عن جماعة من الصحابة والتابعين، ينظر «تفسير الطبري» (24/ 731 - 732) و «الدر المنثور» (15/ 777 - 778). (4) «له» ليس في «ح»، ومثبت من «م».
(2/658)
ولا خارجه، ولا فوق عرشه، ولا يرضى ولا يغضب، ولا يحب ولا يبغض، ولا هو فعالٌ لما يريد، ولا يُرى ولا يمكن أن يُرى، ولا يُشار إليه، ولا يُمكن أن يُشار إليه = لكان العدم المحض كفوًا له، فإن هذه الصِّفات منطبقةٌ على المعدوم، فلو كان ما يقوله المعطلون هو الحقَّ لم يكن صمدًا، وكان العدم كفوًا له. وكذلك قوله: {رَّبُّ اُلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاَعْبُدْهُ وَاَصْطَبِر لِّعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 64] فأخبر أنه لا سَمِيَّ له، عَقِيبَ قول العارفين به: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (63 ) رَّبُّ اُلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاَعْبُدْهُ وَاَصْطَبِر لِّعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 63 - 64]. فهذا الربُّ الذي له هذا الجند العظيم ولا يتنزَّلون (1) إلَّا بأمره، وهو المالك ما بين أيديهم وما خلفهم وما بين ذلك، فهو الذي قد كمُلت قدرته وسلطانه وملكه، وكمُل علمه؛ فلا ينسى شيئًا أبدًا، وهو القائم بتدبير أمر السماوات والأرض وما بينهما، كما هو الخالق لذلك كله، وهو ربُّه ومليكه (2)، فهذا الربُّ هو الذي لا سَمِيَّ له لتفرُّده (3) بكمال هذه الصِّفات والأفعال. فأمَّا مَن لا صفة له ولا فعل ولا حقائق لأسمائه، إن هي إلَّا ألفاظ فارغةً من المعاني؛ فالعدم سَمِيٌّ له. _________ (1) «ح»: «ينزلون». والمثبت من «م». وهو الموافق للآية الكريمة. (2) «ح»: «وملائكته». والمثبت من «م». (3) «ح»: «التفرده». والمثبت من «م».
(2/659)
وكذلك قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 9] فإنه سبحانه ذكر ذلك بعد ذكر نعوت كماله وأوصافه فقال: {حم عسق كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى اَلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اَللَّهُ اُلْعَزِيزُ اُلْحَكِيمُ (1) لَهُ مَا فِي اِلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي اِلْأَرْضِ وَهْوَ اَلْعَلِيُّ اُلْعَظِيمُ (2) * تَكَادُ اُلسَّمَاوَاتُ يَنفَطِرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَاَلْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي اِلْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْغَفُورُ اُلرَّحِيمُ (3) وَاَلَّذِينَ اَتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اَللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} [الشورى: 1 - 4] إلى قوله: {فَاطِرُ اُلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ اَلْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهْوَ اَلسَّمِيعُ اُلْبَصِيرُ} [الشورى: 9]. فهذا الموصوف بهذه الصِّفات والنُّعوت والأفعال والعلو والعظمة والحفظ والعزَّة والحكمة والملك والحمد والمغفرة والرحمة والكلام والمشيئة والرحمة (1) والولاية وإحياء الموتى والقدرة التَّامة الشَّاملة والحكم بين عباده وكونه فاطر السماوات والأرض، وهو السميع البصير = فهذا هو الذي ليس كمثله شيءٌ، لكثرة نعوته وأوصافه وأسمائه وأفعاله، وثبوتها له على وجه الكمال الذي لا يماثله فيه شيءٌ. فالمثبِتُ للصفات والعلو والكلام والأفعال وحقائق الأسماء هو الذي يصفه سبحانه بأنه ليس كمثله شيءٌ. وأمَّا المعطل النَّافي لصفاته وحقائق _________ (1) أعاد ذكر الرحمة في «ح» هنا وقد ذكرت قبل الكلام، ولم يعده في «م». وإنما كررها اتباعًا لقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اَللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَاَلظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (6) أَمِ اِتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاَللَّهُ هُوَ اَلْوَلِيُّ وَهْوَ يُحْيِ اِلْمَوْتى وَهْوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الشورى: 6 - 7]. فقد ذُكرت الرحمة مرتين في الآيات: مرة مع المغفرة، ومرة مع المشيئة.
(2/660)
أسمائه فإن وصفه له بأنه ليس كمثله شيءٌ مجازٌ لا حقيقة له، كما يقول في سائر أوصافه وأسمائه. ولهذا قال من قال من السَّلَف: إن النُّفاة جمعوا بين التشبيه والتعطيل (1)، فسمَّوْا تعطيلهم تنزيهًا، وسمَّوْا ما وصف به نفسه تشبيهًا، وجعلوا ما يدلُّ على ثبوت صفات الكمال وكثرتها دليلًا على نفيها وتعطيلها، وراج ذلك على من لم يجعل الله له نورًا، واغترَّ به من شاء الله، وهدى الله من اعتصم بالوحي والعقل والفطرة، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. الوجه التَّاسع (2) والسبعون: أنه سبحانه وصف نفسه بأن له المثل الأعلى، فقال تعالى: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ اُلسَّوْءِ وَلِلَّهِ اِلْمَثَلُ اُلْأَعْلَى وَهْوَ اَلْعَزِيزُ اُلْحَكِيمُ} [النحل: 60]. وقال تعالى: {وَهْوَ اَلَّذِي يَبْدَأُ اُلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهْوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ اُلْمَثَلُ اُلْأَعْلَى فِي اِلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ وَهْوَ اَلْعَزِيزُ اُلْحَكِيمُ} [الروم: 26]. فجعل مَثَل السَّوء المتضمن للعيوب والنقائص وسلب الكمال للمشركين وأربابهم، وأخبر أن المثل الأعلى المتضمن لإثبات الكمالات كلها له وحده. وبهذا كان المثل أعلى (3)، وهو أفعل تفضيلٍ، أي: أعلى من غيره، فكيف يكون أعلى وهو عدمٌ محضٌ ونفيٌ صرفٌ، وأيُّ مَثَلٍ أدنى من هذا؟! تعالى الله عن قول المعطلين علوًّا كبيرًا. _________ (1) وتقدم بيان المصنِّف لهذا المعنى في الفصل الثامن (ص 73 - 106). (2) كتب الناسخ بحاشية «ح»: «هكذا في الأصل». فقد انتقل من الثاني والسبعين إلى التاسع والسبعين مباشرة، فلم يذكر من الثالث والسبعين إلى الثامن والسبعين. (3) «ح»: «الأعلى». والمثبت من «م».
(2/661)
فمثل السَّوء لعادم [ق 70 أ] صفات الكمال، ولهذا جعله مثل الجاحدين لتوحيده وكلامه وحكمته، لأنهم فقدوا الصِّفات التي من اتصف بها كان كاملًا، وهي: الإيمان، والعلم، والمعرفة، واليقين، والعبادة لله، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، والصبر، والرضا، والشكر، وغير ذلك من الصِّفات التي اتصف بها من آمن بالآخرة. فلمَّا سُلبت تلك الصِّفات عنهم ـ وهي صفات كمالٍ ـ صار لهم مثل السَّوء. فمن سلب صفات الكمال عن الله وعلوه على خلقه وكلامه وعلمه وقدرته ومشيئته وحياته وسائر ما وصف به نفسه؛ فقد جعل له مثل السَّوء، ونزَّهه عن المثل الأعلى، فإن مثل السَّوء هو العدم وما يستلزمه، وضده المثل الأعلى وهو الكمال المطلق المتضمن للأمور الوجودية والمعاني الثبوتية، التي كلما كانت أكثر في الموصوف وأكمل كان أعلى من غيره. ولمَّا كان الربُّ تعالى هو الأعلى، ووجهه (1) الأعلى، وكلامه الأعلى، وسمعه الأعلى، وبصره وسائر صفاته عُليا؛ كان له المثل الأعلى، وكان أحق به من كل ما سواه. بل يستحيل أن يشترك في المثل الأعلى اثنان، لأنهما إن تكافآ لم يكن أحدهما أعلى من الآخر، وإن لم يتكافآ فالموصوف بالمَثَل الأعلى أحدهما وحده، يستحيل أن يكون لمن له المثل الأعلى مِثْل أو نظير. وهذا برهانٌ قاطعٌ من إثبات صفات الكمال على استحالة التمثيل والتشبيه، فتأمَّلْه فإنه في غاية الظهور والقوة. ونظير هذا: القهر المطلق مع الوحدة؛ فإنهما متلازمان، فلا يكون القهار إلَّا واحدًا؛ إذ لو كان معه كفؤ له فإن لم يقهره لم يكن قهارًا على الإطلاق، _________ (1) «هو الأعلى ووجهه» في «ح»: «هؤلاء على وجه». والمثبت من «م».
(2/662)
وإن قهره لم يكن كفؤًا، وكان القهار واحدًا. فتأمَّل كيف كان قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 9] وقوله: {وَلَهُ اُلْمَثَلُ اُلْأَعْلَى} [الروم: 26] من أعظم الأدلة على ثبوت صفات كماله سبحانه. فإن قلت: قد فهمت هذا وعرفته، فما حقيقة المثل الأعلى؟ قلت: قد أَشكل هذا على جماعةٍ من المفسرين، واستشكلوا قول السلف فيه، فإن ابن عباس وغيره قالوا: «{مَثَلُ اُلسَّوْءِ} العذاب والنَّار {وَلِلَّهِ اِلْمَثَلُ اُلْأَعْلَى} شهادة أن لا إله إلَّا الله» (1). وقال قتادة: «هو الإخلاص والتوحيد» (2). قال الواحدي (3): «هذا قول المفسرين في هذه الآية، ولا أدري لِمَ قيل للعذاب مثل السَّوء، وللإخلاص المثل الأعلى». قال (4): «وقال قومٌ: المثل السَّوء الصفة السَّوء من احتياجهم إلى الولد وكراهتهم للإناث خوف العَيْلة والعار {وَلِلَّهِ اِلْمَثَلُ اُلْأَعْلَى} الصفة العُليا من تنزهه وبراءته (5) عن الولد. قال: وهذا قولٌ صحيحٌ، فالمثل كثيرًا يرد بمعنى الصفة، وقاله جماعةٌ من المتقدمين. وقال ابن كيسان: مثل السوء ما ضرب الله للأصنام وعَبَدَتها من الأمثال، والمثل الأعلى نحو قوله: {اَللَّهُ نُورُ اُلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ} الآية [النور: 35]». _________ (1) نسبه الواحدي في «التفسير البسيط» (13/ 96) لابن عباس - رضي الله عنهما -. وأخرجه عبد الرزاق في «التفسير» (1/ 357) والطبري في «التفسير» (14/ 258) عن قتادة. (2) أخرجه الطبري في «التفسير» (14/ 258). (3) «التفسير البسيط» (13/ 96). (4) «التفسير البسيط» (13/ 97). (5) «ح»: «وبراءة». والمثبت من «م»، «البسيط».
(2/663)
وقال ابن جرير (1): «{وَلَهُ اُلْمَثَلُ اُلْأَعْلَى} نحو قوله هو الأطيب والأفضل والأحسن والأجمل، وذلك التوحيد والإذعان له بأنه لا إله غيره». قلت: المثل الأعلى يتضمن الصفة العُليا، وعلم العالمين بها، ووجودها العلمي، والخبر عنها وذكرها، وعبادة الربِّ سبحانه بواسطة العلم والمعرفة القائمة بقلوب عابديه وذاكريه. فهاهنا أربعة أمور: ثبوت الصِّفات العُليا لله سبحانه في نفس الأمر، عَلِمَها العِباد أو جهلوها، وهذا معنى قول من فسَّره بالصفة. الثَّاني: وجودها في العلم (2) والتصور. وهذا معنى قول من قال من السلف والخلف: إنه ما في قلوب عابديه وذاكريه من معرفته، وذكره ومحبته وإجلاله وتعظيمه. وهذا الذي في قلوبهم من المثل الأعلى لا يشترك فيه غيره معه، بل يختص به في قلوبهم كما اختص في ذاته. وهذا معنى قول من قال من المفسِّرين: أهل السماء يُعظِّمونه ويحبونه ويعبدونه، وأهل الأرض يُعظِّمونه ويُجلُّونه، وإن أشرك به من أشرك، وعصاه من عصاه، وجحد صفاته من جحدها، فكل أهل الأرض معظِّمون له، مجلُّون له، خاضعون لعظمته، مستكينون لعزته وجبروته، قال تعالى: {و لَّهُ مَن فِي اِلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} [الروم: 25] فلست تجد أحدًا من أوليائه وأعدائه إلَّا والله أكبر في صدره وأكمل وأعظم من كل ما سواه. _________ (1) «تفسير الطبري» (14/ 258). (2) «ح»: «العالم». والمثبت من «م».
(2/664)
الثَّالث: ذكر صفاته والخبر عنها وتنزيهها عن النقائص والعيوب والتمثيل. الرَّابع: محبة الموصوف بها وتوحيده والإخلاص له والتوكل عليه والإنابة إليه. وكلما كان الإيمان بالصفات [ق 70 ب] أكمل كان هذا الحب والإخلاص أقوى، فعبارات السلف تدور حول هذه المعاني الأربعة لا تتجاوزها. وقد ضرب الله سبحانه مثل السوء للأصنام بأنها لا تخلق شيئًا وهي مخلوقة، ولا تملك لأنفسها ولا لعابديها ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا (1). وقال تعالى: {* ضَرَبَ اَللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَّمْلُوكًا لَّا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهْوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اَللَّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهْوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهْوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [النحل: 75 - 76]. فهذان مثلان ضربهما لنفسه وللأصنام، فللأصنام مثل السَّوء، وله المثل الأعلى. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا اَلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاَسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اِللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اِجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ اُلذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ اَلطَّالِبُ وَاَلْمَطْلُوبُ (71) مَا قَدَرُوا اُللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اَللَّهَ لَقَوِيٌّ _________ (1) قال تعالى: {وَاَتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} [الفرقان: 3].
(2/665)
عَزِيزٌ} [الحج: 71 - 72]. فهذا المثل الأعلى الذي له سبحانه، والأول مثل السَّوء للصنم وعابديه. وقد ضرب سبحانه للمعارضين (1) بين الوحي وعقولهم مثل السَّوء بالكلب تارةً (2)، وبالحُمُر تارةً (3)، وبالأنعام تارةً (4)، وبأهل القبور تارةً (5)، وبالعُمْي الصُّم تارة (6)، وغير ذلك من الأمثال السوء التي ضربها لهم ولأوثانهم، وأخبر عن مثله الأعلى بما ذكره من أسمائه وصفاته وأفعاله، وضرب لأوليائه وعابديه أحسن أمثال (7). ومَن تدبر القرآن فَهِمَ المراد بالمثل الأعلى ومثل السوء، وبالله التوفيق. _________ (1) «ح»: «للعارضين». والمثبت من «م». (2) قال تعالى: {وَاَتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ اَلَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَاَنسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ اُلشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ اَلْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى اَلْأَرْضِ وَاَتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ اِلْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ اُلْقَوْمِ اِلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاَقْصُصِ اِلْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 175 - 176]. (3) قال تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ اِلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 49 - 51]. (4) قال تعالى: {وَلَقَد ذَّرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ اَلْجِنِّ وَاَلْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَاَلْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ اُلْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]. (5) قال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي اِلْأَحْيَاءُ وَلَا اَلْأَمْوَاتُ إِنَّ اَللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي اِلْقُبُورِ} [فاطر: 22]. (6) قال تعالى: {مَثَلُ اُلْفَرِيقَيْنِ كَاَلْأَعْمَى وَاَلْأَصَمِّ وَاَلْبَصِيرِ وَاَلسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَّكَّرُونَ} [هود: 24] .. (7) «ح»: «الأمثال». والمثبت من «م».
(2/666)
الوجه الثمانون: أن كل من عارض بين الوحي والعقل وردَّ نصوص الكتاب والسُّنَّة بالرَّأي ـ الذي يُسمِّيه عقلًا ـ لا بد أن يبغض (1) تلك النصوص المخالفة لعقله ويُعاديها، ويود أنها لم تكن جاءت، وإذا سمعها وجد لها على قلبه من الثقل والكراهة بحسب حاله، واشمأز لها قلبه، والله يعلم ذلك من قلوبهم، وهم يعلمونه أيضًا، حتى حمل جهمًا الإنكارُ والبُغْض لقوله: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4] على أن قال: «لو أمكنني كَشْطها من المصحف كشطتها» (2). وحمل آخَرَ (3) بُغْضُ قوله: {وَكَلَّمَ اَللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 163] على أن حرَّفها وقرأها بالنصب، وكلَّم اللهَ موسى تكليمًا، أي أن موسى هو الذي كلَّم الله وخاطبه، والله لم يكلمه (4). فقال له أبو عمرو بن العلاء: فكيف تصنع بقوله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143]؟! فبُهت المعطِّل. وجرى بيني وبين بعض رؤساء هؤلاء مناظرة في مسألة الكلام، فقال: نحن وسائر الأمة نقول: القرآن كلام الله لا يُنازع في هذه الإضافة أحدٌ، ولكن _________ (1) «ح»: «ينقض». والمثبت هو الموافق للسياق. (2) أخرجه البخاري في «خلق أفعال العباد» (70). (3) «ح»: «أخرى». والمثبت هو الصواب. وهو عمرو بن عبيد، قد سمَّاه ابن تيمية في «بيان تلبيس الجهمية» (3/ 303). (4) أخرج ابن مردويه عن عبد الجبار بن عبد الله قال: جاء رجل إلى أبي بكر بن عياش فقال: سمعت رجلًا يقرأ: «وكلم اللهَ موسى تكليمًا» فقال أبو بكر: ما قرأ هذا إلا كافر. قال ابن كثير: وإنما اشتد غضب أبي بكر بن عياش - رحمه الله - على من قرأ كذلك لأنه حرَّف لفظ القرآن ومعناه. «تفسير ابن كثير» (2/ 474).
(2/667)
لا يلزم منها أن يكون الله بنفسه متكلِّمًا، ولا أنه يتكلم، فمن أين لكم ذلك؟ فقال له بعض من كان معي من أصحابنا: قد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ» (1). وقالت عائشة: «ولَشأني كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بوحيٍ يُتلى» (2). فرأيت الجهمي قد عَبَس وبَسَر وكَلَح (3)، وزوى وجهه عنه، كالذي شمَّ رائحةً كريهةً أعرض عنها بوجهه، أو ذاق طعامًا كريهًا مُرًّا مذاقه. وهذا أمرٌ (4) لم يزل عليه كل مبطلٍ إذا واجهته بالحق المخالف له وصدمته به، وقلَّ من يتصبَّر منهم عند الصدمة الأولى. ولهذا قال بعض السلف (5): «ما ابتدع أحدٌ بدعةً إلَّا خرجت حلاوة الحديث من قلبه». وقال بعض رؤساء الجهمية ـ إمَّا بشر المريسي أو غيره (6) ـ: «ليس شيءٌ أبغضَ لقولنا من القرآن، فأقِرُّوا به ثم أوِّلوه». وقال بشرٌ أيضًا (7): «إذا احتجوا عليكم بالقرآن فغالطوهم بالتأويل، وإذا احتجوا بالأخبار فادفعوها بالتكذيب». وقال الإمام أحمد: «قلَّ من نظر في الكلام إلَّا وفي قلبه غلٌّ على الإسلام» (8). _________ (1) تقدم (ص 54 - 55) تخريجه. (2) أخرجه البخاري (2661) ومسلم (2770). (3) عَبَسَ يَعْبِس عبوسًا فهو عابس الوجه غضبان، فإن أبدى عن أسنانه في عبوسه قلت: كَلَح. وإن اهتمَّ لذلك وفكر فيه قلت: بَسَرَ. «العين» (1/ 343). (4) «ح»: «أمره». (5) هو أحمد بن سنان القطان، كما في «ذم الكلام» للهروي (229) و «شرف أصحاب الحديث» للخطيب البغدادي (ص 73). (6) كذا نسبه ابن تيمية في «درء التعارض» (5/ 217) لبشر أو غيره. (7) نقله عنه الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في «النقض» (2/ 868). (8) «جامع بيان العلم وفضله» لابن عبد البر (2/ 939) و «تحريم النظر في كتب أهل الكلام» لابن قدامة (ص 41).
(2/668)
وجاء أفضل متأخريهم (1) فنصب على حصون الوحي أربعة مناجنيق (2): الأول: أنها أدلةٌ لفظيةٌ لا تُفيد اليقين. الثَّاني: أنها مجازاتٌ واستعاراتٌ لا حقيقة لها. الثَّالث: أن العقل عارضها، فيجب تقديمه عليها. الرَّابع: أنها أخبار آحادٍ، وهذه المسائل علمية فلا يجوز أن يُحتج فيها بالأخبار. ولهذا تجد كثيرًا من هؤلاء لا يحب تبليغ النصوص النبوية أو إظهارها وإشاعتها، وقد يشترطون في أماكن يوقفونها (3) ألَّا يُقرأ فيها أحاديث الصِّفات، وكان بعض متأخريهم ـ وهو أفضلهم عندهم (4) ـ كَلِفًا بإعدام كتب السُّنَّة المصنَّفة في الصِّفات وكتمانها وإخفائها (5). وبلغني عن كثيرٍ منهم أنه كان يَهُمُّ بالقيام والانصراف عند ختم «صحيح البخاري» وما (6) فيه من التوحيد والردِّ على الجهمية، وسُمع منه الطعن في _________ (1) يعني: الفخر الرازي. (2) كذا في «ح»، والمنجنيق يجمع على منجنيقات ومجانق ومجانيق. «المعجم الوسيط» (1/ 140). (3) «ح»: «يقفونها». ولعل المثبت هو الصواب. (4) لم أقف على تسميته. (5) وقد اشتهر ذلك عن كتب شيخ الإسلام ابن تيمية ومدرسته خاصةً، بل لقد حدث هذا مع كتاب «الصواعق المرسلة» نفسه، فلم نجد له نسخة تامة إلى الآن، نسأل الله أن يمنَّ علينا بنسخة تامة منه؛ إنه جواد كريم. (6) كذا في «ح»، ولعل الأنسب «لما».
(2/669)
محمد بن إسماعيل. وما ذنب البخاري وقد بلَّغ ما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وقال آخر من هؤلاء: «لقد شان البخاري صحيحه بهذا الذي أتى به في آخره». ومعلومٌ أن هذه مضادةٌ صريحةٌ لِمَا يحبه الله ورسوله من التبليغ عنه، حيث يقول: «لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ» (1). وقال: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً» (2). وقال: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ إِلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ؛ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» (3). وقد ذمَّ الله في كتابه الذين يكتمون ما أنزله من البينات والهدى، وهؤلاء يختارون كتمان ما أنزله الله؛ لأنه يُخالف ما يقولونه، ويُعارض ما حكمت به عقولهم وآراؤهم. وهؤلاء الذين قال فيهم عمر: «إنهم أعداء السُّنن» (4). يوضحه: الوجه الحادي والثمانون: أن كل من أبغض شيئًا من نصوص الوحي _________ (1) أخرجه البخاري (67) ومسلم (1679) عن أبي بكرة - رضي الله عنه -. (2) أخرجه البخاري (3461) عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -. (3) أخرجه الإمام أحمد (21991) وأبو داود (3660) والترمذي (2656) وابن ماجه (230) وابن حبان (680) عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه -. وقال الترمذي: «حديث حسن». وقال ابن حجر في «موافقة الخبر الخبر» (1/ 363): «وهو حديث مشهور خُرِّج في السنن أو بعضها من حديث ابن مسعود وزيد بن ثابت وجبير بن مطعم، وصححه ابن حبان والحاكم، وذكر أبو القاسم بن منده في «تذكرته»: رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعة وعشرون صحابيًّا. ثم سرد أسماءهم، وقد تتبعت طرقه فوقع لي أكثرها وزيادة ستة». (4) أخرجه ابن شبَّة في «تاريخ المدينة» (3/ 801) والدارقطني في «السنن» (5/ 256) واللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (201).
(2/670)
ففيه من عداوة الله ورسوله بحسب ذلك، ومن (1) أحب نصوص الوحي ففيه من ولاية الله ورسوله بحسب ذلك. وأصل العداوة البغض، كما أن أصل الولاية الحب، قال عبد الله بن مسعود: «لا يسأل أحدكم عن نفسه غير القرآن؛ فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله، وإن كان يبغض القرآن فهو يبغض الله» (2). ومن تأمَّل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ اَلْإِنسِ وَاَلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ اَلْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 113] وجده منطبقًا على هؤلاء أتمَّ انطباق، فإنهم يُوحي بعضهم إلى بعضٍ زخرف القول غرورًا. والزخرف هو الكلام المُزيَّن، كما يُزيَّن الشيء بالزُّخرف، وهو الذَّهب. وهو غرورٌ (3) لأنه يغرُّ المستمع، والشُّبهات المعارضة للوحي هي كلامٌ زخرفٌ يغرُّ المستمع: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ اُلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 114]. فانظر إلى إصغاء (4) المستجيبين لهؤلاء، ورضاهم بذلك، واقترافهم المترتب عليه، فتأمَّل. الوجه الثَّاني والثمانون (5): وهو قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اَللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهْوَ اَلَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ اُلْكِتَابَ مُفَصَّلًا} [الأنعام: 115] وهذا يُبيِّن أن الحَكَم _________ (1) «ح»: «وما». (2) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (1097) وأبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص 51) والبغوي في «مسند علي بن الجعد» (1956) وعبد الله بن أحمد في «السنة» (125). (3) غرَّه يَغُرُّه غرورًا: خدعه. «الصحاح» (2/ 769). (4) أصغى يُصغي إصغاءً: إذا أمال سمعه. «جمهرة اللغة» (2/ 890). (5) «ح»: «والثمانين».
(2/671)
بين النَّاس هو الله عز وجل وحدَه بما أنزله من الكتاب المفصَّل، كما قال في الآية الأخرى: {وَمَا اَخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اَللَّهِ} [الشورى: 8] وقال تعالى: {* كَانَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اَللَّهُ اُلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ اُلْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ فِيمَا اَخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 211] وقال تعالى: {* إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ بِمَا أَراكَ اَللَّهُ} [النساء: 104] وقال: {* فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 64]. فقوله: {أَفَغَيْرَ اَللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} [الأنعام: 115] استفهام إنكارٍ. يقول: كيف أطلب حَكَمًا غير الله وقد أنزل كتابًا مفصَّلًا؛ فإن قوله: {وَهْوَ اَلَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ اُلْكِتَابَ مُفَصَّلًا} جملةٌ في موضع الحال. وقوله: {مُفَصَّلًا} يُبيِّن أن الكتاب الحاكم مفصَّلٌ بيِّنٌ، ضد ما يصفه به من يزعم أن عقول الرجال وآراءهم تُعارِض بعض نصوصه، وأن نصوصه خيَّلتْ وأفهمتْ خلاف الحقِّ لمصلحة المخاطب، أو أن لها معانيَ لا تُفهم ولا يُعلم المراد منها، أو أن لها تأويلاتٍ باطلةً خلاف ما دلَّت عليه ظواهرها. فهؤلاء كلهم ليس الكتاب عندهم مفصَّلًا، بل مجملٌ مؤوَّلٌ (1)، أو لا يُعلم المراد منه، أو المراد منه (2) خلاف ظاهره، أو إفهام خلاف الحقِّ. ثم قال: {وَاَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اُلْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنزَلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُمْتَرِينَ} [الأنعام: 115] وذلك أن الكتاب الأول مصدقٌ للقرآن، فمن نظر فيه علم علمًا يقينيًّا أن هذا وهذا من مشكاةٍ واحدةٍ، _________ (1) «ح»: «ما دل». وهو تحريف، والمثبت من «م». (2) «أو المراد منه» سقط من «ح»، وأثبته من «م».
(2/672)
لا سيما في باب التوحيد والأسماء والصفات، فإن التوراة مطابقةٌ للقرآن في ذلك موافقةٌ له، وهذا يدل على أن ما في التوراة من ذلك ليس هو من المُبَدَّل المُحَرَّف الذي أنكره الله عليهم، بل هو من الحق الذي شهد له القرآن (1) وصدَّقه. ولهذا لم يُنكر النَّبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم ما في التوراة من الصِّفات، ولا عابهم به، ولا جعله تشبيهًا وتجسيمًا وتمثيلًا، كما فعل كثيرٌ من النُّفاة، وقالوا: اليهود أُمة التشبيه والتجسيم. ولا ذنب لهم في ذلك، فإنهم قرؤوا (2) ما في التوراة، فالذي عابهم الله به من تأويل التحريف والتبديل لم يَعِبْهم به المعطلة النُّفاة؛ بل شاركوهم فيه، والذي استشهد الله سبحانه على نبوة رسوله به من موافقة ما عندهم من التوحيد والصفات، عابوهم به ونسبوهم فيه إلى التجسيم والتشبيه. وهذا ضدُّ ما كان عليه الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فإنهم كانوا إذا ذكروا له شيئًا من هذا ـ الذي تُسميه المعطلة تجسيمًا وتشبيهًا ـ صدَّقهم عليه وأقرَّهم ولم يُنكره، كما صدَّقهم في خبر الحبر المتفَق على صحته من حديث عبد الله بن مسعودٍ، وضحك [ق 71 ب] تعجبًا وتصديقًا له (3)، وفي غير ذلك. ثم قال: {وَتَمَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الأنعام: 116] فقرَّر (4) أن ما أخبر به فهو صدقٌ، وما أمر به فهو عدلٌ. وهذا يُبيِّن (5) _________ (1) في «ح»: «شهد للقرآن». والمثبت من «م». (2) كذا في «ح»، «م». ولعل الصواب: «قرروا». (3) أخرجه البخاري (4811) ومسلم (2786). (4) «ح»: «فقدر». والمثبت من «م». (5) «ح»: «يميز». والمثبت من «م».
(2/673)
أن ما في النصوص من الخبر فهو صدقٌ، علينا أن نُصدِّق به، لا نُعرض عنه ولا نُعارضه، ومن دفعه أو عارضه بعقله لم يُصدِّق به، ولو صدَّقه تصديقًا مجملًا ولم يصدقه تصديقًا مفصَّلًا في أعيان ما أخبر به لم يكن مؤمنًا، ولو أقرَّ بلفظه مع جَحْد معناه أو صَرْفه إلى معانٍ أُخَر غير ما أُريد به لم يكن مُصدِّقًا؛ بل هو إلى التكذيب أقرب. الوجه الثَّالث والثمانون: أنه سبحانه أخبر أن كل حُكمٍ خالف حُكمه الذي أنزله على رسوله فهو من أحكام الهوى، لا من أحكام العقل، وهو من أحكام الجاهلية، لا من حكم العلم والهدى، فقال تعالى: {وَأَنِ اِحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اَللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاَحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اَللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاَعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اُللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ اَلنَّاسِ لَفَاسِقُونَ (51) أَفَحُكْمَ اَلْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اَللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 51 - 52] فأخبر سبحانه وتعالى أنه ليس وراء ما أنزله إلَّا اتباع الهوى الذي يُضل عن سبيله، وليس وراء حكمه إلَّا حكم الجاهلية. وكل هذه الآراء والمعقولات المخالفة لما جاء به الرَّسول هي من قضايا الهوى وأحكام الجاهلية، وإن سمَّاها أربابها بالقواطع العقلية والبراهين اليقينية، كتسمية المشركين أوثانهم وأصنامهم آلهةً، وتسمية المنافقين السعي في الأرض بالفساد وصدَّ القلوب عن الإيمان إصلاحًا وإحسانًا وتوفيقًا. وقال تعالى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاَعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اِتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ لَا يَهْدِي اِلْقَوْمَ اَلظَّالِمِينَ} [القصص: 50]. وقال: {وَلَئِنِ اِتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ اَلَّذِي جَاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ مَا لَكَ
(2/674)
مِنَ اَللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 119] وقال: {وَلَئِنِ اِتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ اَلظَّالِمِينَ} [البقرة: 144] وقال: {فَلِذَلِكَ فَاَدْعُ وَاَسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [الشورى: 13] وقال: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاَلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 151]. وهؤلاء وإن أقرُّوا بألفاظ الوحي فقد كذَّبوا بمعاني آياته، وجحدوا حقائقها، ولهذا اتفق السلف على تسميتهم «أهل الأهواء»، وأخبروا أن سبب ظهورهم خفاء السُّنن، كما قال عبد الله بن المبارك: «إذا خفيت السُّنَّة ظهرت الأهواء، وإذا قلَّ العلم ظهر الجفاء» (1). بل أهل الأهواء أحسن حالًا من المعارضين للوحي بعقولهم؛ فإنهم عند السلف إنما سُمُّوا أهل الأهواء لأنهم تأوَّلوا النصوص على تأويلات نزلوها على أهوائهم، وهؤلاء عارضوا بينها وبين معقولاتهم. الوجه الرَّابع والثمانون: أن من عارض نصوص الوحي بالعقل لزمه لازم من (2) خمسة لا محيد له البتَّةَ: إمَّا تكذيبها، وإمَّا كتمانها، وإمَّا تحريفها، وإمَّا تخييلها، وإمَّا تجهيلها وهو نسبة المصدِّقين بها إلى الجهل، إمَّا البسيط وإمَّا المركب؛ وفساد اللازم يدل على فساد الملزوم (3). _________ (1) لم نقف عليه عن الإمام ابن المبارك، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في «درء التعارض» (1/ 271) وفي «مجموع الفتاوى» (17/ 308، 20/ 163) عن الإمام مالك نحوه. (2) «ح»: «في». (3) «ح»: «اللازم». والمثبت هو الصواب.
(2/675)
وبيان الملازمة أنه [ق 72 أ] إذا اعتقد أن العقل يخالف ظاهرها فقد اعتقد أن ظاهرها باطلٌ ومحالٌ، فإمَّا أن يُقرَّ بلفظها وأن الرَّسول جاء به أو لا، فإن لم يُقِرَّ بذلك فهو مكذبٌ، وإن أقرَّ بألفاظها فإمَّا أن يقرَّ بأنه أراد معانيها وحقائقها أم لا، فإن أقرَّ بذلك لزمه اعتقاد التخييل فيها والخطاب الجمهوري، وإن لم يقرَّ بأنه أراد حقائقها وما دلت عليه فإمَّا أن يقول: إنه أراد خلاف ظواهرها وحقائقها أو لا. فإن قال: أراد خلاف حقائقها وظواهرها، لزم التحريف والتأويل الباطل. وإن قال: لم يرد ذلك، فإمَّا أن يقول: لم يرد بها معنًى أصلًا، بل هي بمنزلة الألفاظ المهملة التي لا معنى لها، أو يقول: أراد بها معنًى لا يفهمه ولا يعرفه. وهذا هو التجهيل. وقد ذهب إلى كل تقديرٍ من هذه التقادير طائفةٌ من النَّاس، وقد ذمَّ الله سبحانه الجميع. قال تعالى: {* أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اَللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (74) وَإِذَا لَقُوا اُلَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اَللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (75) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اَللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ اَلْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (77) فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ اَلْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اِللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 74 - 78]. فذمَّ سبحانه وتعالى المُحرِّفين لكتابه، والأُميين الذين لا يعلمون منه إلَّا مجرد التلاوة ـ وهي الأماني ـ والذين يكتبون، فيكتبون الباطل ويقولون: هذا حقٌّ وهو من عند الله. وذمَّ في عدة مواضع الذين يكتمون ما أنزله من الكتاب والبينات والهدى.
(2/676)
وهذه الأنواع الأربعة المذمومة موجودة في هؤلاء المعرضين عن نصوص الوحي، المعارضين لها بآرائهم وعقولهم وأهوائهم، فإنهم تارةً يكتمون الأحاديث والآيات المخالفة لأقوالهم، ومنهم طوائف تضع أحاديث على وَفْق مذاهبهم وأهوائهم في الأصول والفروع، ويقولون هذا من عند الله، وتارةً يضعون كُتبًا بآرائهم وعقولهم وأذواقهم وخيالاتهم، ويدَّعون أنها دين [الله] (1) الذي يجب اتباعه، ويقدمونها على نصوص الوحي. وأمَّا تحريفهم للنصوص بأنواع التأويلات الفاسدة التي يُحرِّفون بها الكلم عن مواضعه فأكثر وأشهر من أن تُذكر، كتأويلات القرامطة والباطنية والفلاسفة والرَّافضة والجهمية والقدرية. وأمَّا التخييل فكثيرٌ منهم يُصرِّحون بأن الرُّسل قصدت من النصوص إفهام خلاف الحقِّ للمصلحة الجمهورية. وأمَّا التجهيل فكثيرٌ منهم يصرِّح بأن هذه النصوص لا معنى لها، وإنما هي ألفاظٌ مجردةٌ. ومَن أحسنَ منهم وأجملَ يقول: لها معانٍ استأثر الله بعلمها، ولم يجعل لنا سبيلًا إلى العلم بها. وأكثر هذه الطوائف لا يعرف الحديث ولا يسمعه، وكثيرٌ منهم لا يُصدِّق به إذا طرقَ سمعه، ثم إذا صدَّقوا به فإن تحريفهم له وإعراضهم عن معانيه أعظم من تحريف القرآن والإعراض عنه. ولهذا يُقرُّ بعض هؤلاء بما في القرآن من الصِّفات دون ما في الحديث وحده. الوجه الخامس والثمانون: أن المعارضين للوحي بآرائهم خمس طوائف: _________ (1) سقط من «ح» لفظ الجلالة، وأثبته من «درء التعارض» (5/ 226).
(2/677)
طائفةٌ عارضته بعقولهم في الخبريات، وقدَّمت عليه العقل، فقالوا لأصحاب الوحي: لنا العقل ولكم النقل (1). وطائفةٌ عارضته بآرائهم وقياساتهم، فقالوا لأهل الحديث: لكم الحديث ولنا الرَّأي [ق 72 ب] والقياس. وطائفةٌ عارضته بحقائقهم وأذواقهم، وقالوا: لكم الشريعة ولنا الحقيقة. وطائفةٌ عارضته بسياساتهم وتدبيرهم، فقالوا: أنتم أصحاب الشريعة ونحن أصحاب السياسة. وطائفةٌ عارضته بالتأويل الباطن، فقالوا (2): أنتم أصحاب الظَّاهر ونحن أصحاب الباطن. ثم إن كل طائفةٍ من هذه الطوائف لا ضابط لما تأتي به من ذلك، بل ما تأتي به تبعٌ (3) لأهوائها؛ كما قال تعالى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاَعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص: 50] وقال: {وَأَنِ اِحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اَللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 51] فما هو إلَّا الوحي أو الهوى (4)، كما قال تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ اِلْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى} [النجم: 3 - 4] فجعل النُّطق نوعين: نطقًا عن الوحي، ونطقًا عن الهوى. ثم إذا رُدَّ على كلٍّ من هؤلاء باطله رجع إلى طاغوته، وقال: في العقل ما _________ (1) «ح»: «لنا النقل ولكم العقل». وهو مقلوب. (2) «ح»: «فقال». (3) «ح»: «تتبع». (4) «ح»: «الوحي».
(2/678)
لا يقتضيه النقل. وقال الآخر: في الرَّأي والقياس ما لا يجيزه الحديث. وقال الآخر: في الذوق والحقيقة ما لا تسوغه الشريعة. وقال الآخر: في السياسة ما تمنع منه الشريعة. وقال الآخر: في الباطن ما يكذبه الظَّاهر. فباطل هؤلاء كلهم لا ضابط له، بخلاف الوحي فإنه أمر مضبوطٌ مطابقٌ لما عليه الأمر في نفسه، تلقَّاه الصَّادق المصدوق من لدن حكيمٍ عليمٍ. الوجه السَّادس والثمانون: أن الصَّحابة كانوا يستشكلون بعض النصوص فيه (1)، فيوردون إشكالاتهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيجيبهم عنها، وكانوا يسألونه عن الجمع بين النصوص التي يوهم ظاهرها التعارض، ولم يكن أحدٌ منهم يورد عليه معقولًا يعارض النَّصَّ البتةَ، ولا عُرف فيهم أحدٌ ـ وهم أكمل الأُمم عقولًا ـ عارَضَ نصًّا بعقله يومًا من الدهر، وإنما حكى الله سبحانه ذلك عن الكفار ـ كما تقدم (2). وثبت في «الصحيح» (3) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ. فقالت عائشة يا رسول الله: أليس الله يقول: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 7 - 8] فقال: بَلَى، وَلَكِنْ ذَلِكَ الْعَرْضُ، وَمَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ». فأشكل عليها الجمع بين النصَّين حتى بيَّن لها ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أنه لا تعارُض بينهما، وأن الحساب اليسير هو العرض الذي لا بد أن يُبيِّن الله فيه لكل عاملٍ عمله، كما قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 18] حتى إذا ظنَّ _________ (1) «فيه» ليس في «م». والضمير يعود للوحي. (2) تقدم (ص 674 - 675). (3) البخاري (6536) ومسلم (2876).
(2/679)
أنه لن ينجو نجَّاه الله تعالى بعفوه ومغفرته ورحمته، فإذا ناقشه الحساب عذَّبه ولا بدَّ. ولمَّا قال: «لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ. قالت له حفصة: أليس الله يقول: {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 70] قال: أَلَمْ تَسْمَعِي قَولَهُ تَعَالى: {ثُمَّ نُنَجِّي اِلَّذِينَ اَتَّقَوا وَّنَذَرُ اُلظَّالِمِينَ فِيهَا جُثِيًّا} [مريم: 71]» (1). فأشكل عليها الجمع بين النصين، وظنت الورود دخولها، كما يُقال: ورد المدينة، إذا دخلها. فأجابها النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن ورود المتقين غير ورود الظَّالمين، فإن المتقين يردونها ورودًا ينجون به من عذابها، والظَّالمين يردونها ورودًا يصيرون جثيًّا (2) فيها به، فليس الورود كالورود. وقال عمر يوم الحديبية: «ألم تكن تحدثنا أنَّا نأتي البيت ونطوف به. فقال: هَلْ قُلْتُ لَكَ: إِنَّكَ تَدْخُلُهُ الْعَامَ؟ قال: لا. قال: فَإِنَّكَ آتِيهِ، وَمُطَّوِّفٌ بِهِ» (3). فأشكل على عمر رجوعهم عام الحديبية ولم يدخلوا المسجد الحرام ولا طافوا بالبيت، وظنَّ أن الدخول والطواف الذي بشرهم به ووعدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - [يكون ذلك العام] (4)، فبيَّن له أن [ق 73 أ] اللفظ مطلقٌ لا دليل فيه على ذلك العام بعينه، فتنزيله على ذلك العام غلطٌ، فرجع عمر، وعَلِمَ أنه غَلِطَ في فهمه. ولمَّا أنزل الله عز وجل: {* لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ اِلْكِتَابِ مَن _________ (1) أخرجه مسلم (2496). (2) أي: قيامًا على الرُّكَب. وينظر «التفسير البسيط» للواحدي (14/ 287 - 288). (3) رواه البخاري، وقد تقدم تخريجه. (4) قوله: «يكون ذلك العام» ليس في «ح». وأثبته ليستقيم السياق.
(2/680)
يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 122] قال أبو بكر الصدِّيق: «يا رسول الله جاءت قاصمة الظهر، وأيُّنا لم يعمل سوءًا؟ فقال: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَسْتَ تَنْصَبُ؟ أَلَسْتَ تَحْزَنُ؟ أَلَيْسَ يُصِيبُكَ الْأَذَى (1)؟ قال: بلى. قال: فَذَلِكَ مِمَّا تُجْزَوْنَ بِهِ» (2). فأشكل على الصدِّيق أمرُ النجاة مع هذه الآية، وظن أن الجزاء في الآخرة ولا بدَّ، فأخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن جزاءه وجزاء المؤمنين بما يعملونه من السوء في الدنيا، بما يصيبهم من النَّصَب والحزن والمشقة واللأواء (3)؛ فيكون ذلك كفارة لسيئاتهم، ولا يُعاقبون عليها في الآخرة. وهذا مثل قوله: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 28] ومثل قوله: {* مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اَللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء: 78] وقوله: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] وإن كان قوله: {مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 122] أعم؛ لأنه يتناول الجزاء في الدنيا والآخرة. _________ (1) كذا في «ح»، «م». وكأن المصنِّف ذكره بالمعنى، والمعروف في لفظ الحديث: «ألست تصيبك اللأواء». (2) أخرجه الإمام أحمد (68) وسعيد بن منصور في «التفسير» (696) وابن أبي الدنيا في «الهم والحزن» (86) وابن حبان (2910، 2926) والحاكم في «المستدرك» (3/ 74) والضياء في «المختارة» (1/ 159 - 161) عن أبي بكر بن زهير عن أبي بكر الصدِّيق - رضي الله عنه -، وروايته عنه مرسلة، وللحديث شواهد كثيرة يتقوَّى بها، منها ما أخرجه مسلم في «صحيحه» (2574) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «لما نزلت {مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} بلغت من المسلمين مبلغًا شديدًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قاربوا وسددوا، ففي كل ما يُصاب به المسلم كفارةٌ، حتى النَّكْبة يُنكَبُها، أو الشوكة يشاكها». (3) اللأواء: الشدة وضيق المعيشة. «النهاية في غريب الحديث» (4/ 221).
(2/681)
ولمَّا نزل قوله تعالى: {اَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اُلْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 83] قال الصَّحابة: وأيُّنا يا رسول الله لم يلبس إيمانه بظلمٍ. قال: «ذَلِكَ الشِّرْكُ، أَلَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَ الْعَبْدِ الصَّالِحِ: {إِنَّ اَلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 12]» (1). فلمَّا أشكل عليهم المراد بالظلم وظنوا أن ظلم النفس داخلٌ فيه، وأن من ظلم نفسه أيَّ ظلمٍ كان لا يكون آمنًا، أجابهم صلوات الله وسلامه عليه بأن الظلم الرَّافع للأمن والهداية على الإطلاق هو الشرك. وهذا والله هو (2) الجواب الذي يَشفي العليل ويروي الغليل، فإن الظلم المطلق التَّامَّ هو الشرك ـ الذي هو (3) وضع العبادة في غير موضعها ـ والأمن والهُدى المطلق هو (4) الأمن في الدنيا والآخرة، والهُدى إلى الصراط المستقيم. فالظلم المطلق التَّامُّ [رافعٌ للأمن وللاهتداء المطلق التامِّ] (5)، ولا يمنع ذلك أن يكون مطلق الظلم مانعًا من مطلق الأمن ومطلق الهدى، فتأمَّلْه، فالمطلق للمطلق، والحصة للحصة. ولمَّا أنزل الله سبحانه قوله: {* لِّلَّهِ مَا فِي اِلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي اِلْأَرْضِ وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اِللَّهُ فَيَغْفِر لِّمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّب مَّن يَشَاءُ} [البقرة: 283] أشكل ذلك على بعض الصَّحابة، وظنوا أن ذلك من تكليفهم ما لا يطيقونه، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقابلوا النَّصَّ بالقبول _________ (1) أخرجه البخاري (32) ومسلم (124) عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. (2) أثبته من «م». (3) «هو» ليس في «ح». وأثبته من «م». (4) في «فتح المجيد شرح كتاب التوحيد» (ص 57): «هما». وقد نقل عن الإمام ابن القيم تفسير الآية. (5) سقط من «ح»، وأثبته من «فتح المجيد» (ص 57).
(2/682)
لا بالعصيان، فبيَّن الله سبحانه وتعالى بعد ذلك أنه لا يُكلف نفسًا إلَّا وُسْعَها، وأنه لا يُؤاخذهم بما نسوه وأخطؤوا فيه، وأنه لا يَحمِل عليهم إصرًا كما حمله على الذين من قبلهم، وأنه لا يُحمِّلهم ما لا طاقة لهم به، وأنهم إن قصَّروا في بعض ما أُمروا به أو نُهوا عنه ثم استعفوه واستغفروه عفا عنهم وغفر لهم ورحمهم. فانظر ماذا أعطاهم الله لمَّا قابلوا خبره بالرضا والتسليم والقبول والانقياد دون المعارضة والردِّ. ومن ذلك أن عائشة لمَّا سمعت قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» عارضته بقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} (1) [الأنعام: 166] ولم تعارضه بالعقل، بل غلَّطت الرَّاوي. والصواب عدم المعارضة وتصويب الرواة؛ فإنهم (2) ممَّن لا يُتَّهم، وهم عمر (3) وابنه (4) والمغيرة بن شعبة (5) وغيرهم. والعذاب الحاصل للميت [ق 73 ب] ببكاء أهله عليه هو تألمه وتأذيه ببكائهم عليه، والوزر المنفي حمل غير صاحبه له هو عقوبة البريء وأخذه بجريمة غيره، وهذا لا ينفي تأذي البريء السليم بمصيبة غيره (6). فالقوم لم يكونوا يُعارضون النصوص بعقولهم وآرائهم، وإن كانوا يطلبون الجمع بين نصين يُوهم ظاهرهما التعارض (7). ولهذا لمَّا عارض _________ (1) أخرجه البخاري (1288) ومسلم (929). (2) «ح»: «فإنه». والمثبت من «م». (3) أخرجه البخاري (1290) ومسلم (927). (4) أخرجه البخاري (1286) ومسلم (928). (5) أخرجه البخاري (1291) ومسلم (933). (6) قرر المصنِّف هذا المعنى أتم تقرير في «تهذيب سنن أبي داود» (3/ 1483 - 1489). (7) «ح»: «العارض». والمثبت من «م».
(2/683)
بلال بن عبد الله قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ». برأيه وعقله، وقال: والله لنمنعهنَّ؛ أقبل عليه أبوه عبد الله فسبَّه سبًّا ما سبَّه مثله، وقال: أُحدِّثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول: والله لنمنعهنَّ (1). ولمَّا حدَّث عمران بن حصين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «إِنَّ الْحَيَاءَ خَيْرٌ كُلُّهُ»، فعارضه مُعارِضٌ بقوله: إن منه وقارًا ومنه ضعفًا، فاشتد (2) غضب عمران بن حصين، وقال: أُحدِّثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول إن (3) منه كذا ومنه كذا (4). وظنَّ أن المُعارِض زنديقٌ، فقيل له: يا أبا نُجَيد (5): إنه لا بأس به. ولمَّا حدث عبادة بن الصَّامت بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ ... » الحديث، قال معاوية: ما أرى بهذا بأسًا، يعني بيع آنية الفضة بالفضة متفاضلًا. غضب عبادة وقال: تراني أقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقول: ما أرى بهذا بأسًا، لا أساكنك بأرضٍ أنت بها أبدًا (6). ومعاوية لم يُعارض النص بالرَّأي، وكان أتقى لله من ذلك، وإنما خصَّص عمومه وقيَّد مطلقه بهذه الصورة وما شابهها، ورأى أن التفاضل في مقابل أثر الصنعة، فلم يدخل في الحديث، وهذا ممَّا يسوغ فيه الاجتهاد؛ _________ (1) أخرجه مسلم (442) والحديث دون القصة في البخاري (900). (2) «ح»: «واشتد». والمثبت من «م». (3) «وتقول إن» سقط من «ح»، وأثبته من «م». (4) أخرجه البخاري (6117) ومسلم (37) وهذا لفظ مسلم. (5) «ح»: «عبد». والمثبت من «م» و «صحيح مسلم»، وهو الصواب، كما قيده ابن ماكولا في «الإكمال» (1/ 188) وغيره. (6) أخرجه مسلم (1587) بلفظ: «ما أبالي ألَّا أَصحَبَه في جُنْدِه ليلةً سوداءَ». وهو عند ابن ماجه (18) بلفظ: «لا أساكنك بأرضٍ لك عليَّ فيها إمرة».
(2/684)
وإنما أنكر عليه عبادة مقابلته لما رواه بهذا الرَّأي. ولو قال له: نعم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الرَّأس والعين (1) ولا يجوز مخالفته بوجهٍ، ولكن هذه الصورة لا تدخل في لفظه؛ فإنه إنما قال: «الْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ وَزْنًا بِوَزْنٍ»، وهذه الزيادة ليست في مقابلة الفضة، وإنما هي في مقابلة الصنعة، ولا تذهب الصنعة هدرًا (2) = لما أنكر عليه عبادة، فإن هذا من تمام فهم النصوص وبيان ما أُريد بها. كما أنه هو (3) ومعاذ بن جبل (4) وغيرهما من الصَّحابة لمَّا وَرَّثوا المسلم من الكافر ولم يورثوا الكافر من المسلم، لم (5) يعارضوا قوله: «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ» (6) بآرائهم وعقولهم، بل قيَّدوا مطلق هذا اللفظ، أو خصُّوا عمومه، وظنُّوا أن المراد به الحربي، كما فعل ذلك بعض الفقهاء بقوله: «لا يُقتل مسلمٌ بكافرٍ» (7) حيث حملوه على الحربي دون الذِّمي والمعاهد. والصَّحابة في ذلك التقييد والتخصيص أعذر _________ (1) «ح»: «والعينين». والمثبت من «م». (2) «جواز بيع المصوغ من الذهب بالذهب والمصوغ من الفضة بالفضة من غير اشتراط تماثل، وجعل الزائد في مقابلة الصنعة». هذا اختيار شيخَيِ الإسلام ابن تيمية وابن القيِّم، ينظر: «العقود الدرية» (ص 391) و «الفروع» لابن مفلح (6/ 294) و «اختيارات شيخ الإسلام» للبعلي (ص 188) و «أعلام الموقعين» (3/ 409 - 410). (3) أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (32102). (4) أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (32101). (5) «ح»، «م»: «ولم». وهو جواب «لمَّا» فيما يظهر. (6) أخرجه البخاري (6764) ومسلم (1614) عن أسامة بن زيد - رضي الله عنهما -. (7) أخرجه البخاري (111) عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.
(2/685)
من هؤلاء من وجوهٍ كثيرةٍ ليس هذا موضعها (1). وقد كان السلف يشتد عليهم معارضة النصوص بآراء الرِّجال، ولا يُقرُّون المعارِض على ذلك. وكان عبد الله بن عباسٍ يحتج في مسألة متعة الحج بسُنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمره لأصحابه بها، فيقولون له: إن أبا بكر وعمر أفردا الحج، ولم يتمتعا. فلمَّا أكثروا عليه قال: «يوشك أن تنزل عليكم حجارةٌ من السماء. أقول لكم: قال رسول الله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر» (2). فرحم الله ابن عباسٍ كيف لو رأى أقوامًا يُعارضون قول الله ورسوله بقول أرسطو وأفلاطون وابن سينا والفارابي وجهم بن صفوان وبشر المريسي وأبي الهذيل العلاف وأضرابهم؟! ولقد سُئل عبد الله بن عمر عن متعة الحجِّ فأمر بها، فقيل له: إن أباك نهى عنها. فقال: إن أبي لم يرد ما تقولون. فلمَّا أكثروا عليه، قال: أفرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق أن تتبعوا أمْ عمر (3)؟! _________ (1) ينظر للمصنِّف «أحكام أهل الذمة» (2/ 855 - 856). (2) ذكره بهذا اللفظ شيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (20/ 215) وغيره، ولم نقف عليه مسندًا بهذا اللفظ، إنما وجدناه بلفظ: «أراهم سيهلكون، أقول قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويقولون نهى أبو بكر وعمر». أو نحوه، أخرجه الإمام أحمد (3182) وعبد الرزاق في «المناسك الكبير» (476) وإسحاق بن راهويه في «المسند» ـ كما في «المطالب العالية» (1306) ـ والطبراني في «المعجم الأوسط» (1/ 11) وابن عبد البر في «الجامع» (2378) والخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 376) وابن حزم في «حجة الوداع» (391) والضياء في «المختارة» (10/ 331) من طرق. وصحَّح ابن حجر في «المطالب» إسناد «مسند إسحاق». (3) أخرجه الإمام أحمد (5804) والترمذي (824) وعبد الرزاق في «المناسك الكبير» (462) وأبو عوانه في «المسند» (3826) والبيهقي في «السنن الكبرى» (5/ 21) وابن حزم في «حجة الوداع» (445). وقال النووي في «المجموع» (7/ 155): «رواه الترمذي بإسنادٍ صحيحٍ».
(2/686)
ولمَّا حدَّث حميدٌ عن ثابتٍ عن أنسٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تفسير قوله: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [الأعراف: 143] قال: وضع إصبعه على طرف (1) خِنصِره فساخ الجبل = أنكر عليه بعض الحاضرين، وقال: أتحدث بهذا؟ فضرب حميدٌ في صدره، وقال: أُحدِّثك عن ثابتٍ عن أنسٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقول: أتحدث بهذا (2)؟! _________ (1) «ح»: «ظفر». والمثبت من «م». (2) كذا أورد الإمام ابن القيم هذا الحديث هنا وفي «مدارج السالكين» (2/ 486). جعل حميدًا هو الراوي للحديث عن ثابت وجعله المنكر عليه، والذي وجدناه أن راوي الحديث عن ثابت البناني هو حماد بن سلمة، وأن حميدًا هو المنكر له، أنكره على ثابت البناني، فقد أخرجه الإمام أحمد (12453) وابن أبي عاصم في «السنة» (480، 481) وابن خزيمة في «التوحيد» (162 - 165) والطبري في «التفسير» (10/ 429) والضياء في «المختارة» (1672 - 1675) وغيرهم عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس - رضي الله عنه -، قال حماد: فقال حميدٌ لثابت: تقول هكذا؟ فوكزه، وقال: «يقوله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويقوله أنسٌ، فأكتمه أنا»؟! وقال الذهبي في كتاب «الأربعين في صفات رب العالمين» (ص 128): «هذا الحديث على رسم مسلم». وقال المصنِّف في «مدارج السالكين» (2/ 486): «إسناده على شرط مسلم». والحديث دون القصة أخرجه الإمام أحمد (13380) والترمذي (3047) والحاكم في «المستدرك» (1/ 25، 2/ 577) وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلَّا من حديث حماد بن سلمة». وقال الحاكم: «حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه». وقد أدخل ابن الجوزي هذا الحديث في «الموضوعات» (1/ 122): وقال: «هذا حديث لا يثبت». وتعقبه السيوطي في «اللآلئ المصنوعة» (1/ 25) فقال: «هذا الحديث صحيح رواه خلق عن حماد، وأخرجه الأئمة من طرق عنه وصححوه ... ».
(2/687)
وهذا كثيرٌ عنهم (1) جدًّا، لا يتسع له هذا الموضع. فكانت نصوص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَجَلَّ في صدورهم وأعظم في قلوبهم من أن يعارضوها بقول أحدٍ من النَّاس كائنًا من كان، ولا يثبت قدم الإيمان إلَّا على ذلك، وفتحُ باب هذه المعارضة الباطلة سدٌّ لباب الإيمان، والله المستعان. الوجه السَّابع والثمانون: أن حقيقة قول المعارضين بين النصوص الإلهية النبوية وآراء الرجال وتقديم الآراء عليها ألَّا يُحتج بالقرآن والسُّنَّة على [ق 74 أ] شيءٍ من المسائل العلمية، بل ولا يُستفاد التصديق الجازم بشيءٍ من أخبار الله ورسوله البتةَ. فإذا جاز أن يكون فيما أخبر الله به ورسوله في الكتاب والسُّنَّة أخبارٌ يُعارضها صريح العقل، ويجب تقديم العقل عليها، من غير بيانٍ من الله ورسوله للحق الذي يُطابق مدلول العقل، ولا لمعاني تلك الأخبار المناقضة لصريح العقل. فالإنسان لا يخلو من حالين: فإنه إذا سمع النصوص التي أخبر الله ورسوله فيها عمَّا لا يُدركه عقله فإمَّا أن يقدَّر أن له رأيًا مخالفًا للنصِّ، أو ليس له رأيٌ يخالفه. فإن كان عنده معقولٌ ـ بزعمه ـ يناقض خبر الله ورسوله قدَّم معقوله (2) وألقى خبر الله ورسوله، وحينئذٍ فكل من اقتضى عقله مناقضة خبر من أخبار الله ورسوله قدَّم عقله، ولم يستفد بخبر الرَّسول العلم بثبوت (3) مخبره، ولم _________ (1) «ح»: «عليهم». ولعل المثبت هو الصواب. (2) «ح»: «منقوله». والمثبت هو الصواب. (3) «ح»: «يكبوت». والمثبت هو الصواب.
(2/688)
يستفد منه فائدةً علميةً، بل غايته أن يستفيد إتعاب قلبه، وإعمال فكره فيما يحتمله ذلك اللفظ من المعاني التي لا يدل عليها الخطاب، ليصرف دلالة الخطاب إليها، ومعلوم أن المقصود من الخطاب الإفهام، وهذا لم يستفد من الخطاب الإفهام، ولا الصواب، فإنَّ الحق إنما استفاده من عقله، والمعنى الذي دلَّ عليه الخطاب الدلالةَ المألوفة لم يُقصد بالخطاب إفهامه، والمعنى البعيد ـ الذي صَرف اللفظ إليه وحمله عليه ـ هو عالمٌ بثبوته بدون الخطاب، فلم يكن في خطاب الله ورسوله عند هؤلاء فائدةٌ علميةٌ البتة. ولقد صرَّحوا بهذا، وقالوا: المقصود تعريض متأوليه للثواب. ومضمون هذا أن نصوص الوحي إنما أفادت تضليل الإنسان، وإتعاب الأذهان، والتفريق بين أهل الإيمان. وإلقاء العداوة بينهم والشنآن، وتمكين أهل الإلحاد من الطعن في القرآن والإيمان، هذا إن كان في عقله معارضٌ لخبر الله ورسوله. وإن لم يكن عنده معقولٌ يُعارض النصوص لم يَجزم بأنه ليس في عقول جميع النَّاس ما يُعارض ذلك الخبر، وعدم العلم بالمعارض لا يستلزم العلم بعدمه، فهو يجوِّز أن يكون ثَمَّ معارضٌ ولا علم له به. وهذا يمنع الجزم بالتصديق قطعًا، كما تقدَّم التنبيه عليه (1). فظهر أن هذه الطريقة تمنع التصديق الجازم بما (2) أخبر به الرَّسول من الغيب، وتحول بين القلب وبين الإيمان. _________ (1) تقدم (550 - 551). (2) «ح»: «بما».
(2/689)
وسر (1) المسألة أنه متى جُوِّز أن يكون في العقل ما يناقض خبر الله ورسوله امتنع منه الإيمان الجازم. والإيمان اليقيني الجازم وهذا التجويز لا يجتمعان أبدًا. يوضحه: الوجه الثَّامن والثمانون: أن المعقولات ليس لها ضابطٌ يضبطها، ولا هي منحصرة في نوعٍ معينٍ، فإنه ما من أُمة من الأُمم إلَّا ولهم عقليات يختصون بها، فللفُرْس عقلياتٌ، وللهند عقلياتٌ، ولليونان عقلياتٌ، وللمجوس عقلياتٌ، وللصابئة عقلياتٌ. بل كل طائفةٍ من هذه الطوائف ليسوا متفقين على العقليات، بل بينهم فيها من الاختلاف والتباين ما هو معروفٌ عند المعتنين به. ونحن نُعفيكم من هذه (2) المعقولات واضطرابها، ونحاكمكم إلى المعقولات التي في هذه الأُمة، فإنه ما من مدةٍ من المدد إلَّا (3) وقد ابتُدعت فيها بدعٌ يزعم أربابها أن العقل دلَّ عليها، ونحن نسوق لك الأمر من أوله إلى أن يصل إليك ـ بعون الله وحُسن توفيقه ـ فنقول: لمَّا أظلمت الأرض، وبعُد عهد أهلها بنور الوحي، وتفرقوا في الباطل فرقًا وأحزابًا، لا يجمعهم جامعٌ، ولا يحصيهم إلَّا الذي خلقهم، فإنهم فقدوا نور النبوة، ورجعوا إلى مجرد العقول، فكانوا كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه أنه قال: «إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ (4) عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا _________ (1) «ح»: «ويكسر». ولعل المثبت هو الصواب. (2) «هذه» سقط من «ح». وأثبته من «م». (3) «ح»: «وإلا». والمثبت من «م». (4) أي: استخفتهم، فذهبت بهم وساقتهم إلى ما أرادوه منهم وجالوا معهم. «مشارق الأنوار» (1/ 165).
(2/690)
بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا. وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ» (1). فكان أهل العقول كلهم في مقته إلَّا بقايا متمسكين بالوحي، فلم يستفيدوا بعقولهم حين فقدوا نور الوحي إلَّا عبادة الأوثان أو الصلبان أو النيران أو الكواكب والشمس والقمر، أو (2) الحيرة والشك، أو السحر، أو تعطيل الصَّانع والكفر به، فاستفادوا بها مقت الربِّ سبحانه لهم، وإعراضه عنهم. فأطلع الله شمس الرِّسالة في تلك الظُّلَم سراجًا منيرًا، وأنعم بها على أهل الأرض في عقولهم وقلوبهم، ومعاشهم ومعادهم، نعمة لا يستطيعون لها شكورًا ـ فأبصروا بنور الوحي ما لم يكونوا بعقولهم يبصرونه، [ق 74 ب] ورأوا في ضوء الرِّسالة ما لم يكونوا بآرائهم يرونه. فكانوا كما قال الله تعالى: {اِللَّهُ وَلِيُّ اُلَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ} [البقرة: 255] وقال: {الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ اَلنَّاسَ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ اِلْعَزِيزِ اِلْحَمِيدِ} [إبراهيم: 1 - 2] وقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا اَلْكِتَابُ وَلَا اَلْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 49] وقال: {أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي اِلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي اِلظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} [الأنعام: 123]. فمضى الرعيل الأول في ضوء ذلك النُّور لم تطفئه عواصف الأهواء، _________ (1) أخرجه مسلم (2865) عن عياض بن حمار - رضي الله عنه -. (2) «ح»: «و». والمثبت من «م».
(2/691)
ولم تلتبس به ظُلَم الآراء، وأوصوا من بعدهم ألَّا يُفارقوا (1) النُّور الذي اقتبسوه منهم، وألَّا يخرجوا عن طريقهم. فلمَّا كان في أواخر عصرهم حدثت الشيعة والخوارج والقدرية والمرجئة، فبعدوا عن النُّور الذي كان عليه أوائل الأُمة (2). ومع هذا فلم يفارقوه بالكلية، بل كانوا للنصوص معظِّمين، وبها مستدلين، ولها على العقول والآراء مقدِّمين، ولم يَدَّعِ أحدٌ منهم أن عنده عقليات تعارض النصوص، وإنما أُتوا من سُوء الفهم فيها، والاستبداد بما ظهر لهم منها دون مَن قبلهم، ورأوا أنهم إن اتبعوهم (3) كانوا مقلِّدين لهم، فصاح بهم من أدركهم من الصَّحابة وكبار التَّابعين من كل قُطرٍ، ورموهم بالعظائم، وتبرؤوا منهم، وحذَّروا من سبيلهم أشد التحذير، وكانوا لا يرون السلام عليهم، ولا مجالستهم. وكلامهم فيهم معروفٌ في كتب السُّنَّة، وهو أكثر من أن يُذكر هاهنا. فلمَّا كثرت الجهمية ـ في أواخر عصر التَّابعين ـ كانوا هم أول من عارض الوحي بالرَّأي، ومع هذا كانوا قليلين أذلاء مقموعين مذمومين عند الأُمة. وأولهم وشيخهم الجعد بن درهم. وإنما نفق (4) عند النَّاس بعضَ الشيء لأنه كان معلم مروان بن محمد وشيخه، ولهذا كان يُسمَّى مروان الجعدي، وعلى رأسه سلب الله بني أمية الملك والخلافة، وشتتهم في البلاد، ومزقهم كل ممزقٍ ببركة شيخ المعطلة النُّفاة. فلمَّا اشتهر أمره في المسلمين طلبه (5) _________ (1) بعده في «م»: «ذلك». (2) «ح»: «الأئمة». والمثبت من «م». (3) «ح»: «ابتغوا بهم». (4) نفق البيع نَفَاقًا بالفتح: أي راج. «الصحاح» (4/ 1560). (5) «ح»: «فطلبه». والمثبت من «م».
(2/692)
خالد بن عبد الله القسري ـ وكان أميرًا على العراق ـ حتى ظفر به، فخطب النَّاس في يوم الأضحى، وكان آخر ما قال في خطبته: «أيها النَّاس، ضَحُّوا تقبَّل الله ضحاياكم، فإني مضحٍّ بالجعد بن درهم، فإنه زعم أن الله لم يُكلِّم موسى تكليمًا، ولم يتخذ إبراهيم خليلًا. تعالى الله عمَّا يقول الجعد علوًّا كبيرًا. ثم نزل فذبحه في أصل المنبر؛ فكان ضحيَّته (1)» (2). ثم طفئت تلك البدعة، فكانت كأنها حصاة رُمي بها، والنَّاس إذ ذاك عُنُقٌ واحدٌ (3): أن الله فوق سماواته على عرشه، بائنٌ من خلقه، موصوفٌ بصفات الكمال ونعوت الجلال، وأنه كلَّم عبده ورسوله موسى تكليمًا، وتجلَّى للجبل فجعله دكًّا هشيمًا. إلى أن جاء أول المائة الثَّالثة وولي على النَّاس عبد الله المأمون، وكان يحب أنواع العلوم، وكان مجلسه عامرًا بأنواع المتكلمين في العلوم، فغلب عليه حبُّ المعقولات، فأمر بتعريب كتب يونان، وأقدم لها المترجمين من البلاد، فعُرِّبت له، واشتغل بها النَّاس. والملك سُوقٌ ما نفق (4) فيه جُلب _________ (1) «ح»: «ضحية». والمثبت من «م». (2) أخرج القصة البخاري في «خلق أفعال العباد» (3) وفي «التاريخ الكبير» (1/ 64) والدارمي في «النقض على المريسي» (1/ 580 - 581) وفي «الرد على الجهمية» (13، 387) وحرب الكرماني في «مسائله» (1847) والخلال في «السنة» (1690) والآجري في «الشريعة» (694، 2072) واللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (512) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (563) وفي «السنن الكبرى» (10/ 205) وغيرهم. وقال الذهبي في «تاريخ الإسلام» (3/ 219): «هذه قصة مشهورة». (3) أي: جماعة واحدة. «تهذيب اللغة» (1/ 252). (4) «ح»: «سوق». والمثبت من «م».
(2/693)
إليه. فغلب على مجلسه جماعة من الجهمية ـ ممَّن كان أبوه الرشيد قد أقصاهم وتتبعهم (1) بالحبس والقتل ـ فحشوا بدعة التجهُّم في أذنه وقلبه، فقبلها واستحسنها، ودعا النَّاس إليها، وعاقبهم عليها، فلم تَطُلْ مدته. فصار الأمر بعده إلى المعتصم ـ وهو الذي ضرب الإمام أحمد بن حنبل ـ فقام بالدعوة بعده، والجهمية تصوِّب فِعْله، وتدعوه إليه، وتخبره أن ذلك هو تنزيه الربِّ عن التشبيه والتمثيل والتجسيم، وهم الذين قد غلبوا على قربه ومجلسه، والقضاة والولاة منهم، فإنهم تبعٌ لملوكهم. ومع هذا فلم يكونوا يتجاسرون على إلغاء النصوص، وتقديم الآراء والعقول عليها، فإن الإسلام كان في ظهورٍ وقوةٍ، وسوق الحديث نافقةٌ، ورؤوس السُّنَّة على ظهر الأرض، ولكن كانوا على ذلك يحومون، وحوله يدندون، وأخذوا النَّاس بالرغبة والرهبة (2)، فمِن بين أعمى مستجيبٍ، ومن بين مكرهٍ مفتدٍ (3) نفسَه منهم بإعطاء ما سألوه، وقلبه مطمئنٌ بالإيمان. وثبَّت الله أقوامًا جعل قلوبهم في نصر دينه أقوى من الصخر، وأشد من الحديد، وأقامهم لنصر دينه [ق 75 أ] وجعلهم أئمةً يقتدي بهم المؤمنون؛ لمَّا صبروا وكانوا بآياته يوقنون، فإنه بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدِّين، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَىمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]. فصبروا من الجهمية على الأذى الشديد، ولم يتركوا سُنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لِمَا أرغبوهم به من الوعد، ولا لِمَا (4) ............................................ _________ (1) «ح»: «تبعهم». والمثبت من «م». (2) «ح»: «الرغبة والهبة». والمثبت من «م». (3) «ح»: «مقيد». وهو تصحيف، والمثبت من «م». (4) «ولا لما» «ح»: «وما». والمثبت من «م».
(2/694)
تهددوهم (1) به من الوعيد. ثم أطفأ الله برحمته تلك الفتنة، وأخمد تلك الكلمة، ونصر السُّنَّة نصرًا عزيزًا، وفتح لأهلها فتحًا مبينًا، حتى صُرخ (2) بها على رؤوس المنابر، ودُعي إليها في كل بادٍ وحاضر، وصُنِّف ذلك الزمانَ في السُّنَّة ما لا يُحصيه إلَّا الله. ثم انقضى ذلك العصر وأهله، وقام بعدهم ذريتهم يدعون إلى كتاب الله وسُنة رسوله على بصيرة، إلى أن جاء ما لا قِبل لأحدٍ به، وهم جنود إبليس حقًّا، المعارضون لما جاءت به الرسل بعقولهم وآرائهم من القرامطة والباطنية والملاحدة، ودعوتهم إلى العقل المجرد، وأن أمور الرُّسل تُعارض المعقول، فهم (3) القائمون بهذه الطريقة حقَّ القيام بالقول والفعل. فجرى على الإسلام وأهله منهم ما جرى، وكسروا عسكر الخليفة مرارًا عديدة، وقتلوا الحاجَّ قتلًا ذريعًا، وانتهوا إلى مكة، فقتلوا بها من وصل من الحاجِّ إليها، وقلعوا الحجر الأسود من مكانه، وقويت شوكتهم، واستفحل أمرهم، وعظمت بهم الرزية، واشتدت بهم البلية. وأصل طريقهم: أن الذي أخبرت به الرُّسل قد عارضه العقل، وإذا تعارض العقل والنقل قدَّمنا العقل، قالوا: فنحن أنصار العقل الدَّاعين إليه المخاصمين به المحاكمين (4) إليه. وفي زمانهم استولى الكفار على كثيرٍ من _________ (1) «م»: «أرعبوهم». (2) «م»: «صرح». بالحاء المهملة. (3) «ح»: «المنقول منهم». والمثبت من «م». (4) كذا في «ح»: «الداعين، المخاصمين، المحاكمين». ثلاثتها منصوبة، وهي صفات لمرفوع وهو «أنصار»، على تقدير أعني.
(2/695)
بلاد الإسلام في الشرق والغرب، وكاد الإسلام أن ينهدَّ ركنه؛ لولا دفاع الذي ضمن حفظه إلى أن يرث الأرض ومن عليها. ثم خمدت دعوة هؤلاء في المشرق، وظهرت من المغرب قليلًا قليلًا حتى استفحلت وتمكنت، واستولى أهلها على كثيرٍ من بلاد المغرب، ثم أخذوا يطوون البلاد حتى وصلوا إلى بلاد مصر، فملكوها، وبنوا بها القاهرة، وأقاموا على هذه الدعوة مُصرِّحين بها غير متحاشين (1) منها، هم وولاتهم وقضاتهم وأتباعهم. وفي زمانهم صُنِّفت «رسائل إخوان الصفا» (2) و «الإشارات» (3) و «الشفا» وكُتب ابن سينا، فإنه قال: كان أبي من أهل الدعوة الحاكمية. وعُطلت في زمانهم السُّنَّة وكتبها والآثار جملة إلَّا في الخفية، بحيث يكون قارئها وذاكرها وكاتبها على أعظم خطر. وشعار هذه الدعوة تقديم العقل على الوحي، واستولوا على بلاد الغَرْب (4) ومصر والشَّام والحجاز، واستولوا على العراق سنة، وأهل السُّنَّة فيهم كأهل الذِّمَّة بين المسلمين، بل _________ (1) «ح»: «محاسين». ولعل المثبت هو الصواب. (2) قال شيخ الإسلام في «مجموع الفتاوى» (4/ 79) عنه: «صنَّفه جماعة في دولة بني بويه ببغداد، وكانوا من الصابئة المتفلسفة المتحنفة، جمعوا بزعمهم بين دين الصابئة المبدلين وبين الحنيفية، وأتوا بكلام المتفلسفة وبأشياء من الشريعة، وفيه من الكفر والجهل شيءٌ كثيرٌ، ومع هذا فإن طائفة من الناس ـ من بعض أكابر قضاة النواحي ـ يزعم أنه من كلام جعفر الصادق، وهذا قول زنديق، وتشنيع جاهل». (3) «إشارات ابن سينا» يعرف جمهور المسلمين الذين يعرفون دين الإسلام أن فيها إلحادًا كثيرًا. «منهاج السنة النبوية» (5/ 433). (4) «م»: «المغرب».
(2/696)
كان لأهل الذِّمة من الأمان (1) والجاه والعزِّ عندهم ما لا يصل (2) إليه أحدٌ من أهل السُّنَّة، ولا يطمع فيه. فكم أُغمدت سيوفهم في أعناق العلماء، وكم مات في سجونهم من ورثة الأنبياء، وكم ماتت بهم سُنة، وقامت بهم (3) بدعة وضلالة (4)! حتى استنقذ الله الأُمة والملَّة من أيديهم في أيام نور الدِّين وابن أخيه صلاح الدِّين (5)، فأبلَّ (6) الإسلام من علته بعدما وطَّن المسلمون أنفسهم على العزاء، وانتعش بعد طول الخمول حتى استبشر أهل الأرض والسماء، وأبدر هلاله بعد أن دخل في المُحاق (7)، وثابَتْ إليه رُوحه بعدما بلغت التراقيَ وقيل: من راق! واستنقذ الله سبحانه بعبده وجنوده بيت المقدس من أيدي عبدة الصليب، وأخذ كلٌّ من أنصار الله ورسوله من نصرة دينه بنصيب، وعلت كلمة الإسلام والسُّنَّة، وأُذِّن بها على رؤوس الأشهاد، ونادى المنادي: يا أنصار الله لا تنكلوا (8) عن الجهاد، فإنه أبلغ الزَّاد ليوم المعاد. _________ (1) «ح»: «الإيمان». والمثبت من «م». (2) «ح»: «يحصل». (3) «ح»: «به». (4) وينظر «إغاثة اللهفان» (2/ 1031). (5) كذا في «ح»، «م»، والمراد نور الدِّين محمود زنكي وصلاح الدِّين الأيوبي، ومعلوم أن نور الدِّين ليس عمًّا لصلاح الدِّين، وإنما عمُّه أسد الدِّين شيركوه أحد قادة نور الدِّين. وينظر «النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية» لابن شداد (ص 31). فلعل الصواب: «نور الدِّين وأسد الدِّين وابن أخيه صلاح الدِّين». (6) بلَّ من مرضه وأبلَّ واستبلَّ، أي: برأ. «الصحاح» (4/ 1640). (7) المحاق من الشهر: ثلاث ليال من آخره. «الصحاح» (4/ 1553). (8) نَكَل عن العدو ينكُل بالضم: أي جبن. «الصحاح» (5/ 1835).
(2/697)
فعاش النَّاس في ذلك النُّور مدةً حتى استولت الظُّلمة على بلاد الشرق، وطفي نور النبوة والوحي، وقدَّموا العقول والآراء والسياسة والأذواق (1) على الوحي، وظهرت فيهم الفلسفة والمنطق وتوابعها. فبعث الله عليهم عبادًا له أولي بأسٍ شديدٍ فجاسوا خلال الدِّيار، وعاثوا في القُرى والأمصار، وكاد الإسلام أن يذهب اسمه وينمحي رَسْمُه. وكان مشار هذه الفرقة وعالمها الذي يرجعون إليه، وزعيمها الذي يُعوِّلون عليه، شيخ شيوخ المعارضين بين الوحي والعقل وإمامهم في وقته: نصير الكفر والشرك الطوسي، فلم يُعلَم في عصره أحدٌ عارض بين العقل والنقل معارضته، فرام إبطال السمع بالكلية، وإقامة الدعوة الفلسفية، وجعل «الإشارات» بدلًا عن السُّوَر والآيات، وقال: هذه عقليات [ق 75 ب] قطعية برهانية، قد عارضت تلك النقليات الخطابية. واستعرض علماء الإسلام وأهل القرآن والسُّنَّة على السيف، فلم يُبق منهم إلَّا من أعجزه؛ قصدًا لإبطال الدعوة الإسلامية، وجعل مدارس المسلمين وأوقافهم للبخشية (2) السَّحَرة والمنجمين والفلاسفة والملاحدة والمنطقيين، ورام إبطال الأذان، وتحويل الصلاة إلى القطب الشمالي، فحال بينه وبين ذلك من تكفَّل بحفظ الإسلام ونصره. وهذا كله من ثمرة المعارضين بين الوحي والعقل وتقديم العقل على _________ (1) بعده في «ح»: «والرأي». وهي زائدة، ليست في «م». (2) «ح»: «البخسية». والمثبت من «م». والبخشية: كهنة البوذية، عبدة الأصنام. ينظر: «منهاج السنة النبوية» (3/ 446) و «مجموع الفتاوى» (14/ 166) و «النبوات» (1/ 158) و «نهاية الأرب» للنويري (27/ 406).
(2/698)
السمع. ولتكن قصة شيخ هؤلاء القديم (1) منك على ذُكْرٍ كلَّ وقتٍ؛ فإنه أول من عارض بين العقل والنقل، وقدَّم العقل، فكان من أمره ما قصَّ الله عليك. وورَّث هذا الشيخُ تلامذتَه هذه المعارضة، فلم يزل يجري على الأنبياء وأتباعهم منها كل محنةٍ وبليةٍ. وأصل كل بليةٍ في العالم ـ كما قال محمد الشهرستاني (2) ـ: من معارضة النص بالرَّأي، وتقديم الهوى على الشرع. والنَّاس إلى اليوم في شرور هذه المعارضة وشؤم عاقبتها، فإلى الله المشتكى وبه المستعان. ثم إنه خرج مع هذا الشيخ المتأخر (3) المعارض بين العقل والنقل أشياء لم تكن تُعرف قبله، جُست (4) العميدي، وحقائق ابن عربي، وتشكيكات الرَّازي. وقام سوق الفلسفة والمنطق وعلوم أعداء الرُّسل التي فرحوا بها لمَّا جاءتهم رسلهم بالبينات، وصارت الدولة والدعوة لأرباب هذه العلوم. ثم نظر الله إلى عباده وانتصر لكتابه ودينه، وأقام جندًا تغزو ملوك هؤلاء _________ (1) يعني: إبليس لعنه الله. (2) ينظر «الملل والنحل» (1/ 10). (3) يعني: نصير الدِّين الطوسي. (4) جُسْت: كلمة فارسية، معناها بحث وفحص، وقد سُمي بها فرع من فروع الخلاف، وكان العميدي إمامًا في فنِّ الخلاف، وهو أول من أفرد الجُست بالتصنيف، فنُسب إليه. ينظر «وفيات الأعيان» لابن خلكان (4/ 257) و «تكملة المعاجم العربية» (2/ 211). والعميدي هو ركن الدِّين أبو حامد محمد بن محمد العميدي الحنفي، توفي ببخارى سنة خمس عشرة وستمائة. ترجمته في «سير أعلام النبلاء» (22/ 76 - 77).
(2/699)
بالسيف والسنان، وجندًا تغزو علماءهم بالحجة والبرهان. ثم نبغت نابغةٌ منهم في رأس القرن الثَّامن (1)، فأقام الله لدينه شيخ الإسلام أبا العباس ابن تيميَّة ـ قدَّس الله روحه ـ فأقام على غزوهم مدة حياته، باليد والقلب واللسان، وكشف للناس باطلهم، وبيَّن تلبيسهم وتدليسهم، وقابلهم بصريح المعقول، وصحيح المنقول، وشفى واشتفى. وبيَّن مناقضتهم ومفارقتهم لحكم العقل، الذي به يُدِلُّون، وإليه يدعون، وأنهم أترك النَّاس لأحكامه وقضاياه، فلا وحي ولا عقل، فأرداهم في حُفَرهم، ورشقهم بسهامهم. وبيَّن أن صحيح معقولاتهم خَدَمٌ لنصوص الأنبياء، شاهدة لها بالصحة. وتفصيل هذه الجملة موجودة في كتبه، فمن نصح نفسه ورغب عن قوله: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف: 22] يتبيَّن له حقيقة الأمر: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اِللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} [النور: 39]. والمقصود أن كل بليةٍ طرقت العالم عامَّةً أو خاصَّةً فأصلها من معارضة الوحي بالعقل، وتقديم الهوى على الأمر، والمعصوم من عصمه الله. الوجه التَّاسع والثمانون: أنه قد ثبت بالعقل الصريح والنقل الصحيح ثبوت صفات الكمال للربِّ سبحانه، وأنه أحق بالكمال من كل ما سواه، وأنه يجب أن تكون القوة كلها له، والعزة كلها له، والعلم كله له، والقدرة كلها له، والجمال كله له، وكذلك سائر صفات الكمال. وقام البرهان السمعي والعقلي على أنه يمتنع أن يشترك في الكمال التَّام اثنان، وأن الكمال التَّام _________ (1) «م»: «السابع».
(2/700)
لا يكون إلَّا لواحدٍ. وهاتان مقدمتان يقينيتان معلومتان بصريح العقل، وجاءت نصوص الأنبياء مفصلةً لما في صريح العقل إدراكه قطعًا، فاتفق على ذلك العقل والنقل. قال تعالى: {وَلَوْ يَرَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ اَلْعَذَابَ أَنَّ اَلْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [البقرة: 164]. وقد اختُلف في تعلُّق قوله: {أَنَّ اَلْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} بماذا؛ فقالت طائفة: هو مفعول (1) {يَرَى} أي: ولو يرون أن القوة لله جميعًا لما عصوه، ولما كذَّبوا رسله، وقدَّموا عقولهم على وحيه. وقالت طائفة: بل المعنى لأن القوة لله جميعًا، وجواب {لَوْ} محذوفٌ على التقديرين، أي: لو يرى هؤلاء حالهم وما أعدَّ الله لهم إذ يرون العذاب لرأوا أمرًا عظيمًا، ثم قال: {أَنَّ اَلْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} وهو متضمن للتهديد الشديد والوعيد (2). وقال تعالى: {بَل لِّلَّهِ اِلْأَمْرُ جَمِيعًا} [الرعد: 32] وقال: {إِنَّ اَلْأَمْرَ كُلُّهُ لِلَّهِ} [آل عمران: 154]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعاء الاستفتاح: «لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدَيْكَ (3)» (4). وفي الأثر الآخر: «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ، وَلَكَ الْمُلْكُ كُلُّهُ، وَبِيَدِكَ الْخَيْرُ كُلُّهُ، وَإِلَيْكَ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ» (5). فلله سبحانه كل _________ (1) «ح»: «منقول». وهو تصحيف، والمثبت من «م». (2) ينظر: «التفسير البسيط» للواحدي (3/ 471 - 477). (3) «م»: «في يديك». وكذا في «صحيح مسلم». (4) أخرجه مسلم (771) عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. (5) أخرجه الإمام أحمد في «المسند» (23835) وعبد الرزاق في «المصنف» (5142، 7949) وابن أبي الدنيا في «الهواتف» (ص 61) والطبراني في «الدعاء» (1746) عن رجل عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنهما - مرفوعًا، وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 96 (: «رواه أحمد، وفيه راوٍ لم يسم، وبقية رجاله ثقات». وينظر «السلسلة الضعيفة» (6850). وله شاهد أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (4087) عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -. وشاهد آخر أخرجه إسحاق بن راهويه في «مسنده» ـ كما في «المطالب العالية» (462) و «إتحاف الخيرة» (1249) ـ والبرقاني ـ كما في «الجمع بين الصحيحين» للحميدي (3017) ـ عن رفاعة بن رافع الأنصاري - رضي الله عنه - موقوفًا عليه. قال ابن حجر في «المطالب»: «هذا حديث صحيح، وهو هنا غير مرفوع، وأظن أن حكمه الرفع». وذكر أن البخاري روى طرفًا منه في «صحيحه»، وأن باقيه على شرطه.
(2/701)
صفة كمال، وهو موصوفٌ بتلك الصِّفة كلها. ونذكر من ذلك صفةً واحدةً تعتبر بها سائر الصِّفات، وهو أنك لو فرضت جمال الخلق كلهم من أولهم إلى آخرهم اجتمع لشخصٍ واحدٍ منهم، ثم كان الخلق كلهم على جمال ذلك الشخص؛ لكان نسبته إلى جمال [ق 76 أ] الربِّ تبارك وتعالى دون نسبة سراج ضعيف إلى جِرْم الشمس. وكذلك قوَّته سبحانه وعلمه وسمعه وبصره وكلامه وقدرته ورحمته وحكمته وجوده، وسائر صفاته. وهذا ممَّا دلت عليه آياته الكونية السمعية، وأخبرت به رسله عنه، كما في «الصحيح» (1) عنه - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ (2) مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ». _________ (1) «صحيح مسلم» (179) عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -. (2) يقال في السُّبحة: إنها جلال وجهه ونوره، ومنه قيل: سبحان الله؛ إنما هو تعظيم له وتنزيه. «غريب الحديث» لأبي عبيد (3/ 7).
(2/702)
فإذا كانت سُبحات وجهه الأعلى لا يقوم لها شيءٌ من خلقه، ولو كشف حجابَ النور عن تلك السُّبحات لاحترق العالم العُلوي والسُّفلي، فما الظنُّ بجلال ذلك الوجه الكريم وعظمته وكبريائه وكماله وجلاله؟! وإذا كانت السماوات مع عظمتها وسعتها يجعلها على إصبع من أصابعه، والأرض على إصبع، والجبال على إصبع، والبحار على إصبع (1)، فما الظن باليد الكريمة التي هي صفة من صفات ذاته؟! وإذا كان يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات، على تفنُّن الحاجات، في أقطار الأرض والسماوات، فلا يشتبه عليه ولا يختلط ولا يلتبس ولا يغلطه سمعٌ عن سمعٍ (2). ويرى دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، تحت أطباق الأرض في الليلة الظلماء. ويعلم ما تُسِرُّه القلوب وأخفى منه، وهو ما لم يخطر لها أنه (3) سيخطر لها. ولو كان البحر المحيط بالعالم مدادًا ويحيط به من بعده سبعة أبحر كلها مداد وجميع أشجار الأرض ـ وهو كل نبتٍ قام على ساقٍ ممَّا يُحصد وممَّا لا يُحصد ـ أقلام يُكتب بها، نَفِدَتِ البحار والأقلام ولم ينفد كلامه. _________ (1) كما في حديث الحبر اليهودي وتصديق النبي - صلى الله عليه وسلم - له، أخرجه البخاري (4811) ومسلم (2786) عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. (2) «عن سمع» ليس في «ح»، وأثبته من «م». (3) بعده في «ح»، «م»: «سبحانه». وهي زيادة تفسد المعنى، وقد ضرب عليها ناسخ «م».
(2/703)
وهذا وغيره بعض ما تَعرَّف به إلى عباده من كماله (1)، وإلَّا فلا يمكن أحدًا قط أن يُحصي ثناءً عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، فكل الثناء وكل الحمد وكل المجد وكل الكمال له سبحانه. هذا الذي وصلت إليه عقول أهل الإثبات، وتلقَّوْه عن الرَّسول، ولا يحتاجون في ثبوت علمهم وجزمهم بذلك إلى الجواب عن الشُّبه القادحة في ذلك، وإذا وردت عليهم لم تقدح فيما علموه وعرفوه ضرورةً من كون ربهم تبارك وتعالى كذلك وفوق ذلك. فلو قال لهم قائل: هذا الذي علمتموه لا يثبت إلَّا بجواب عمَّا عارضه من العقليات، قالوا لقائل هذه المقالة: هذا كذبٌ وبهتٌ؛ فإن الأمور الحسية والعقلية واليقينية قد وقع فيها شبهاتٌ كثيرةٌ تُعارض ما عُلم بالحسِّ والعقل، فلو توقف علمنا بذلك على الجواب عنها وحلِّها لم يثبت لها ولا لأحدٍ علمٌ بشيءٍ من الأشياء، ولا نهاية لما تقذف به النفوس من الشُّبه، وهي من جنس الوساوس والخطرات والخيالات التي لا تزال تحدث في النفوس شيئًا فشيئًا. بل إذا جزمنا بثبوت الشيء جزمنا ببطلان ما يُناقض ثبوته، ولم يكن ما يُقدر من الشُّبه الخيالية على نقيضه مانعًا من جزمنا به، ولو كانت الشُّبه ما كانت، فما من موجود يدركه الحسُّ إلَّا ويمكن كثيرًا من النَّاس أن يقيم على عدمه شُبهًا كثيرةً يعجز السَّامع عن حلها. ولو شئنا لذكرنا لك طرفًا منها تعلم أنه أقوى من شُبه الجهمية النُّفاة لعلو الربِّ على خلقه وكلامه وصفاته. وقد رأيت أو سمعت ما أقامه كثيرٌ من المتكلمين من الشُّبه على أن _________ (1) «ح»: «كلامه». والمثبت من «م».
(2/704)
الإنسان تُبدَّل نفسه النَّاطقة (1) في السَّاعة الواحدة أكثر من ألف مرةٍ (2)، وكل لحظة تذهب روحه وتفارق، وتحدث له روحٌ أخرى غيرها هكذا أبدًا. وما أقاموه من الشُّبه على أن السماوات والأرض والجبال والبحار تتبدل كل لحظةٍ ويخلفها غيرها. وما أقاموه من الشُّبه على أن رُوح الإنسان ليست فيه ولا خارجة عنه، وزعموا أن هذا أصحُّ المذاهب في الرُّوح. وما أقاموه من الشُّبه على أن الإنسان إذا انتقل من مكانٍ إلى مكانٍ لم يمر على تلك الأجزاء التي بين مبدأ حركته ونهايتها ولا قطعها ولا حاذاها، وهي مسألة طفرة النظَّام (3). وأضعاف أضعاف ذلك. وهؤلاء طائفة الملاحدة من الاتحادية كلهم يقول: إن ذات الخالق هي عين ذات المخلوق، لا فرق بينهما البتةَ، وأن الاثنين واحدٌ، وإنما الحس والوهم يغلط في التعدد. ويقيمون على ذلك شُبهًا كثيرةً قد نظمها ابن الفارض في «قصيدته» (4) وذكرها صاحب «الفتوحات» في _________ (1) «ح»: «الناقصة». والمثبت من «م». والنفس الناطقة هي الروح. (2) «مرة» ليس في «ح»، وأثبته من «م». (3) ضُرب المثل بهذه المسألة، فقيل: طفرة النظَّام. فإنها ضحكة. قاله الصفدي في «الوافي بالوفيات» (6/ 14). (4) القصيدة التائية المشهورة المسماة بـ «نظم السلوك»، قال عنها ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (4/ 73 - 74): «وقد نظم فيها الاتحاد نظمًا رائق اللفظ، فهو أخبث من لحم خنزير في صينية من ذهب، وما أحسن تسميتها بنظم الشكوك، الله أعلم بها وبما اشتملت عليه، وقد نفقت كثيرًا وبالغ أهل العصر في تحسينها والاعتداد بما فيها من الاتحاد». وقال عنها الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (22/ 368): «فإن لم يكن في تلك القصيدة صريح الاتحاد الذي لا حيلة في وجوده، فما في العالم زندقة ولا ضلال».
(2/705)
«فصوصه» (1) وغيرهما. وهذه الشُّبَه كلها من وادٍ واحدٍ، ومشكاةٍ واحدةٍ، وخزانةٍ واحدةٍ، وهي مشكاة الوساوس، وخزانة الخيال، فلو لم [ق 76 ب] نجزم بما علمناه إلَّا بعد التعرض لتلك الشُّبَه على التفصيل وحلِّها والجواب عنها لم يثبت لنا علمٌ بشيءٍ أبدًا. فالعاقل إذا علم أن هذا الخبر صادقٌ علم أن كل ما عارضه فهو كذبٌ، ولم يَحتَجْ أن يعرف أعيان الأخبار المعارضة له ولا وجوهها، وبالله المستعان. الوجه التسعون: أن هؤلاء المعارضين لنصوص الوحي بعقولهم ليس عندهم علمٌ ولا هدًى ولا كتابٌ مبينٌ، فمعارضتهم باطلةٌ، وهم فيها أتباع كل {شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ اِلسَّعِيرِ} [الحج: 3 - 4] فهذه حال كل من عارض آيات الله بمعقوله، ليس عنده إلَّا الجهل والضلال، ورتَّب سبحانه هذه الأمور الثلاثة أحسن ترتيب، فبدأ بالأعم وهو العلم، وأخبر أنه لا علم عند المعارض لآياته بعقله (2)، ثم انتقل منه إلى ما هو أخص، وهو الهدى، ثم انتقل إلى ما هو أخص، وهو الكتاب المبين؛ فإن العلم أعم ممَّا يُدرك بالعقل والسمع والفطرة، وأخص منه الهدى _________ (1) قال ابن كثير في «البداية والنهاية» (17/ 253): «الكتاب المسمى بـ «فصوص الحكم» فيه أشياء كثيرة ظاهرها كفر صريح». ولشيخ الإسلام ابن تيمية «الرد الأقوم على ما في «فصوص الحكم» مطبوع ضمن «مجموع الفتاوى» (2/ 362 - 451). (2) «ح»: «بفعله».
(2/706)
الذي لا يُدرك إلَّا من جهة الرُّسل، وأخص منه الكتاب الذي أنزله الله على رسوله، فإن الهدى قد يكون كتابًا وقد يكون سُنةً (1). وهذه الثلاثة منتفية عن هؤلاء قطعًا. أمَّا الكتاب والهدى المأخوذ عن الرُّسل فقد قالوا: إنه لايفيد علمًا ولا يقينًا، والمعقول يعارضه. فقد أقروا أنهم ليس معهم كتابٌ ولا سُنةٌ، وبقي العلم، فهم يدَّعونه، والله تعالى قد نفاه عنهم، وقد قام البرهان والدليل العقلي المستلزم لمدلوله على صدق الربِّ في خبره، فعُلم قطعًا أن هذا الذي عارضوا به الوحي ليس بعلمٍ؛ إذ لو كان علمًا لَبَطَل دليل العقل الدَّالِّ على صدق الربِّ تعالى في خبره، فهذا يكفي في العلم بفساد كون ما عارضوا به علمًا. فكيف وقد قام الدليل العقلي الصحيح المقدمات على فساد تلك المعارضة، وأنها تخص الجهل المركب؛ فكيف وقد اتفق على فساد تلك المعارضة العقل والنقل. ونحن نطالب هؤلاء المعارضين بواحدة من ثلاثٍ: إمَّا كتابٍ مُنزَّلٍ، أو أثارةٍ من علمٍ يُؤثر عن نبيٍّ من الأنبياء، أو معقولٍ صحيح المقدمات قد اتفق العقلاء على صحة مقدماته. وهم يعلمون ـ والله شهيدٌ عليهم ـ بأنهم عاجزون عن (2) هذا وهذا. [أفنترك] (3) ما علمناه من كتاب ربنا، وسُنة نبينا، ونزل به جبريل من ربِّ العالمين على قلب رسوله الأمين بلسانٍ عربيٍ مبينٍ؛ لوحي الشياطين، وشُبَه الملحدين، وتأويلات المعطِّلين؟! _________ (1) «ح»: «شبه». وهو تصحيف. (2) «ح»: «على». (3) «ح»: «فترك». والمثبت ليستقيم الكلام.
(2/707)
فإن قيل: فما الفرق بين الصِّنف الأول الذي يجادل في الله بغير علمٍ ويتَّبع كل شيطانٍ مريدٍ، والصنف الثَّاني الذي يجادل في الله بغير علمٍ ولا هدًى ولا كتابٍ منيرٍ، كما ذكرهم سبحانه صنفين؟ قيل: قد ذكر سبحانه ثلاثة أصناف: صنفًا يجادل في الله بغير علمٍ ويتَّبع كل شيطانٍ مريدٍ مكتوبًا عليه إضلال مَن تولاه، وهذه حال المتَّبِع لأهل الضلال. وصنفًا يجادل في الله بغير علمٍ ولا هدًى ولا كتابٍ منيرٍ ثاني عِطْفِه ليُضِلَّ عن سبيله (1)، وهذه حال المتبوع المستكبر الصادِّ عن سبيل الله. فالأول حال الأتباع، والثَّاني حال (2) المتبوعين. ثم ذكر حال من يعبد الله على حَرْف، وهذه حال المتَّبِع لهواه، الذي إن حصل له ما يهواه من الدنيا عَبَدَ الله، وإن أصابه ما يُمتحَن به في دنياه ارتد عن دينه، وهذه حال من كان مريضًا في إرادته وقصده، وهي حال أهل الشهوات والأهواء، ولهذا ذكر ذلك في العبادة [التي] (3) أصلها القصد والإرادة. وأمَّا الأولان فحال الضالِّ والمضل، وذلك مرضٌ في العلم والمعرفة، وهي حال أهل الشُّبهات والنظر الفاسد والجدال بالباطل. والله سبحانه _________ (1) في قوله تعالى: {وَمِنَ اَلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اِللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيَضِلَّ عَن سَبِيلِ اِللَّهِ لَهُ فِي اِلدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ عَذَابَ اَلْحَرِيقِ} [الحج: 8 - 9]. (2) «ح»: «حالة». (3) ليس في «ح»، وأثبته ليستقيم الكلام.
(2/708)
يحب البصر النَّافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات، ولا صلاح للعبد إلَّا بمعرفة الحقِّ وقصده، كما قال تعالى: {اُهْدِنَا اَلصِّرَاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ (5) صِرَاطَ اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ (6) غَيْرِ اِلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا اَلضَّالِّينَ} [الفاتحة: 5 - 7]. فمن لم يعرف الحقَّ كان ضالًّا، ومن عرفه ولم يَتَّبعه كان مغضوبًا عليه، ومن عرفه واتَّبعه فقد هُدي إلى الصراط المستقيم. وأول الشرِّ (1) الضلال، ومنتهاه الغضب، كما أن أول الخير الهدى، ومنتهاه الرحمة والرضوان. فذكر سبحانه في آيات الحجِّ ما يعرض في العلم من الضلال والإضلال، وما يعرض في الإرادة والعمل من اتباع الأهواء، كما جمع بينهما في قوله: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا اَلظَّنَّ وَمَا تَهْوَى اَلْأَنفُسُ وَلَقَد جَّاءَهُم مِّن رَّبِّهِمِ اِلْهُدى} [النجم: 23]. فقال أولًا: {وَمِنَ اَلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اِللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ} [الحج: 3]. وهذا يتضمن الجدال فيه بغير هدًى [ق 77 أ] ولا كتابٍ منيرٍ، فإن من جادل بغير ذلك فقد جادل بغير علمٍ، فنفي العلم يقتضي نفي كل ما يكون علمًا بأي طريقٍ حصل، وذلك ينفي أن يكون مجادلًا بهدًى أو كتابٍ منيرٍ، هذه حال الضالِّ المتبع لمن يُضِلُّه فلم يَحتَجْ إلى تفصيل، فبيَّن أنه يجادل بغير علمٍ، ويتَّبع كل شيطانٍ مريدٍ، كُتب على ذلك الشيطان أن من اتبعه فإنه يضله ويهديه (2) إلى عذاب السعير، وهذه حال مقلدة أئمة الضلال من الكفار وأهل الأهواء والبدع. _________ (1) «ح»: «الشهر». (2) «ح»: «ويهدي».
(2/709)
ثم ذكر حال المتبوع الذي يثني عِطْفَه تكبُّرًا؛ كما قال: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا} [لقمان: 6] وذكر التفصيل في مجادلة المتبوع الدَّاعي، وأنها (1) في الله بغير علمٍ ولا هدًى ولا كتابٍ منيرٍ. واكتفى في ذكر التَّابع بنفي العلم المستلزم لنفي هذه الثلاثة، فإن مجادلة المتبوع أصلٌ، وهو أقعد بها من مجادلة التَّابع، ومصدرها كِبْرٌ، ومصدر مجادلة التَّابع ضلالٌ وتقليدٌ، فذكر حال المتبوع على التفصيل، ولهذا ذكر فساد قصده وعلمه، وذكر من عقوبته أشد ممَّا (2) ذكر من عقوبة التَّابع. وهذا وأمثاله من أسرار القرآن التي حرَّمها الله على من عارض بينه وبين العقل وقدَّم العقل عليه. الوجه الحادي والتسعون (3): أن العقل ملزوم لعلمنا بالشرع ولازم له، ومعلوم أنه إذا كان اللزوم من أحد الطرفين لزم من وجود الملزوم وجود اللازم، ومن نفي اللازم نفي الملزوم، فكيف إذا كان التلازم من الجانبين. فإن هذا (4) التلازم يستلزم أربع (5) نتائج، إذ يلزم من ثبوت هذا الملزوم ثبوت لازمه، ومن ثبوت لازمه المساوي ثبوته، ومن نفي اللازم نفي ملزومه، ومن نفي ملزومه (6) المساوي نفيه. وهذا شأن كل شيئين بينهما _________ (1) «ح»: «وأنه». (2) «ح»: «من». (3) «ح»: «والسبعون». (4) بعده في «ح»: «التزام». وهي زائدة. (5) «ح»: «سيلزم أربعة». ولعل المثبت هو الصواب. (6) قوله «ومن نفى ملزومه» تكرر في «ح».
(2/710)
تلازمٌ من الطرفين. وبيان ذلك هاهنا أنه إذا كان العقل هو الأصل الذي به عُرف صحة السمع ـ كما تقدم (1) ـ وقد بيَّنا أن العقل ليس أصلًا للسمع في ثبوته في نفس الأمر، بل هو أصلٌ في ثبوت علمنا (2)، أي: دليل لنا على صحته. وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن الدليل يجب طرده، وهو ملزوم للمدلول عليه، فيلزم من ثبوت الدليل ثبوت المدلول عليه، ولا يجب عكسه، فلا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول، فإن المخلوقات آيات ودلائل على الخالق سبحانه يلزم من ثبوتها ثبوته، ولا يلزم من عدمها عدمه، ولا من وجوده وجودها، وكذلك الآيات الدَّالة على نبوة رسله. هذا إذا لم يكن الدليل لازمًا للمدلول عليه، فإن كان لازمًا أمكن أن يكون مدلولًا له؛ إذ المتلازمان يمكن أن يستدل بكلٍّ منهما على الآخر، مثل الحكم الشرعي الذي لا يثبت إلَّا بدليلٍ شرعيٍّ، فإنه يلزم من عدم دليله عدمه، وكذلك ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله إذا لم يُنقل فإنه يلزم من عدم نقله عدمه، وإذا كان من المعقول ما هو دليلٌ على صحة الشرع لزم من ثبوت ذلك المعقول ثبوت الشرع، ولم يلزم من ثبوت الشرع ثبوته في نفس الأمر. لكن نحن إذا لم يكن لنا طريقٌ إلى العلم بصحة الشرع إلَّا ذلك العقل لزم من علمنا بالشرع علمنا بدليله العقلي الدَّال عليه، ولزم من علمنا بذلك الدليل العقلي علمنا به، فإن العلم بالدليل يستلزم العلم بالمدلول عليه. فإذا كان صحة الشرع لا تعلم إلَّا بدليلٍ عقليٍّ فإنه يلزم من علمنا بصحة الشرع _________ (1) تقدم (ص 475 - 477). (2) «ح»: «علمناه».
(2/711)
علمنا بالدليل العقلي الدَّال عليه، ويلزم من علمنا بذلك الدليل العقلي علمنا بصحة الشرع، ويلزم أيضًا من ثبوت ذلك الدليل المعقول في نفس الأمر ثبوت الشرع، ولا يلزم من ثبوت الشرع ثبوت ذلك الدليل، وإذا كان العلم بصحة الشرع لازمًا للعلم بالمعقول الدَّال عليه وملزومًا له فمن الممتنع تناقض اللازم والملزوم، فضلًا عن تعارض المتلازمين. فإن المتعارضين هما المتنافيان اللذان يلزم من ثبوت أحدهما انتفاء الآخر، كالضدين والنقيضين، والمتلازمين يلزم من ثبوت كلٍّ منهما ثبوت الآخر، ومن انتفائه انتفاؤه، فكيف يكون المتلازمان متعارضين متنافيين متناقضين أو متضادين؟! فهؤلاء عمدوا إلى المتلازمين المتصادقين فأبطلوا أحدهما بالآخر، ولزم من بطلانه بطلانهما جميعًا كما تقدم بيانه (1)، وقد تبيَّن أن الدليل العقلي الذي به يُعلم صحة الشرع مستلزمٌ للعلم بصحة الشرع، ومستلزم لثبوت الشرع في نفس الأمر، وعِلْمنا بالشرع يستلزم العلم بالدليل العقلي الذي قيل إنه أصل الشرع، والعلم بصحة الشرع موقوفٌ عليه، وليس ثبوت الشرع في نفسه مستلزمًا لثبوت ذلك الدليل العقلي. فعُلم [ق 77 ب] أن ثبوت الشرع في نفس الأمر أقوى من ثبوت دليله العقلي في نفس الأمر، فإن ثبوت الشرع في علمنا أقوى من ثبوت دليله العقلي، إن قيل إنه يمكن أن يُعلم صحته بغير ذلك الدليل، وإلَّا كان العلم بهذا والعلم بهذا متلازمين، وإذا كان كذلك كان القدح في الشرع قدحًا في _________ (1) تقدم (ص 710).
(2/712)
دليله العقلي على صحته بخلاف العكس، وكان القدح في الشرع قدحًا في هذا العقلي، وليس القدح في (1) هذا العقلي مستلزمًا للقدح في الشرع مطلقًا. وأمَّا ما سوى المعقول الدَّال على صحة الشرع فذلك لا يلزم من بطلانه بطلان الشرع، كما لا يلزم من صحته صحة الشرع. الوجه الثَّاني والتسعون: أن هؤلاء المعارضين بين العقل والوحي هم في الأصل فرقتان: الفلاسفة وجهمية المتكلمين، وهؤلاء لهم طريقٌ قد سلكوها، وأولئك لهم طريقٌ أخرى، وكلٌّ من الفريقين ينقض حجج الفريق الآخر، ويبيِّن فساد طريقته، ثم كل فرقةٍ منهما تنقض بعضهم حجج بعضٍ. واعتبر هذا بالرَّازي والآمدي؛ فإنهما جمعا خلاصة ما ذكره النُّفاة من أهل الفلسفة والكلام، ثم إنهما أفسدا عامة تلك الطرق التي سلكوها، فكل طائفةٍ تُبطل الطريقة العقلية التي اعتمدت عليها الأخرى، بما يظهر به بطلانها بالعقل الصريح، وليسوا متفقين على طريقةٍ واحدةٍ. وهذا يبيِّن خطأهم كلهم من وجهين: من جهة العقل الصريح الذي يبيِّن به كل قومٍ فساد ما قاله الآخرون. ومن جهة أنه ليس معهم معقولٌ اشتركوا فيه، فضلًا عن أن يكون من صريح المعقول، بل المقدمة التي تدعي طائفة من النظار صحتها تقول الأخرى هي باطلةٌ. وهذا بخلاف مقدمات أهل الإثبات الموافقة لما جاء به الرَّسول؛ فإنها _________ (1) بعده في «ح»: «الشرع قدحًا في هذا العقلي، وليس القدح في». وهو تكرار، ربما نشأ من انتقال النظر.
(2/713)
من العقليات التي تقبلها فطر العقلاء السليمة، بل الفطر التي لم تفسد متفقة عليها، ولا ينازع فيها إلَّا من تلقى تعلمًا من غيره، لا من موجب فطرته، فإنما يقدح فيها بمقدمةٍ تقليدية، وهو يدَّعي أنها عقلية فطرية. ومن تدبَّر ما عند المعارضين ولم يقلدهم فيه تبيَّن له أن جميع المقدمات التي ترجع إليها أدلة المعارضين إنما ترجع إلى تقليدٍ منهم لأسلافهم، لا إلى ما يُعلم بضرورة العقل ولا نظره، فهم يُعارضون ما قامت الأدلة العقلية على ثبوت تصديقه وسلامته من الخطأ بما قامت الأدلة العقلية على أنه لا يجب تصديقه، بل قد عُلم جواز الخطأ عليه، وعُلم وقوع الخطأ فيه فيما هو دون الإلهيات، فضلًا عن الإلهيات التي تُيُقِّن خطأ من خالف الرُّسل فيها بالأدلة المجملة والمفصَّلة، بل يعارضون ما يجب تصديقه بما يُعلم بصريح العقل أنه خطأ، بل يعارضون السمعيات التي يُعلم أن العقل الصريح موافقٌ لها بما يعلم العقل الصريح أنه باطلٌ. والمقصود أن الطرق التي سلكها الفلاسفة في إبطال الصِّفات والأفعال قد أفسدها عليهم المتكلمون وبيَّنوا خطأهم فيها بصريح العقل، كما هو موجود في كتب هؤلاء وهؤلاء. فانظر ما فعل أبو علي وأبو هاشم والقاضي عبد الجبار والأشعري وأبو بكر بن الباقلاني وأبو الحسين البصري والجويني والغزالي وأمثالهم بطريق الفلاسفة، وانظر ما فعل ابن سينا وابن رشد والطوسي وأمثالهم بطرق المتكلمين؛ فإنك تجد ذلك من أعظم النُّصرة للنصوص النبوية. والمثال المنطبق عليهم بعسكر الإسلام خرج عليه عسكرٌ كثيفٌ يغزونهم، فخرج على ذلك العدوِّ عدوٌّ من ورائهم، فأقبلوا إليهم واشتغلوا
(2/714)
بهم، فيصادم بعضهم بعضًا، ويكسر بعضهم سلاح بعضٍ، وعسكر الإسلام في حصنٍ من الطَّائفتين، ولكن إذا اصطلح العسكران فإنهما يصطلحون على المسلمين. ومن علم ما في الوجود تبيَّن له مطابقة هذا المثال، وبالله التوفيق. الوجه الثَّالث والتسعون: أن الطريقة التي سلكها نُفاة الصِّفات والعلو والتكليم من معارضة النصوص الإلهية بآرائهم وما يُسمُّونه معقولًا هي بعينها الطريق التي سلكها إخوانهم من الملاحدة في معارضة نصوص المعاد بآرائهم وعقولهم، ومقدماتها مقدماتها، ثم نقلوها بعينها إلى ما أُمروا به من الأعمال كالصلوات الخمس والزكاة والحج والصيام، فجعلوها للعامة دون الخاصة، فآل بهم الأمر إلى أن ألحدوا في الأصول الثلاثة التي اتفق عليها جميع الملل، وجاءت بها جميع الرُّسل، وهي الإيمان بالله [ق 78 أ] واليوم الآخر والأعمال الصَّالحة، قال الله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَاَلَّذِينَ هَادُوا وَاَلنَّصَارى وَاَلصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَاَلْيَوْمِ اِلْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 61]. فهؤلاء الملاحدة يحتجون على نُفاة الصِّفات بما وافقوهم عليه من الإعراض عن نصوص الوحي ونفي الصِّفات، كما ذكر ابن سينا في «الرسالة الأضحوية» (1) فإنه قال فيها لما ذكر حجة من أثبت معاد البدن، وأن الدَّاعي لهم إلى ذلك ما ورد به الشرع من بعث الأموات، فقال: «وأمَّا أمر الشرع فينبغي أن يُعلم فيه قانونٌ واحدٌ، وهو أن الشرع والملة الآتية على لسان نبيٍّ من الأنبياء يُرام بها خطاب الجمهور كافة. _________ (1) «الرسالة الأضحوية» (ص 97 - 103).
(2/715)
ثم من المعلوم الواضح أن التحقيق الذي ينبغي أن يرجع إليه في صحة التوحيد من الإقرار بالصَّانع موحدًا مقدسًا عن الكم والكيف والأين والمتى والوضع والتغير، حتى يصير الاعتقاد به أنه ذاتٌ واحدةٌ، لا يمكن أن يكون لها شريك في النوع، أو يكون لها جزءٌ وجودي كمي أو معنوي، ولا يمكن أن تكون خارجة عن العالم ولا داخلة فيه، ولا حيث تصح الإشارة إليه بأنه هنا أو هناك = ممتنع إلقاؤه إلى الجمهور، ولو أُلقيَ هذا على هذه الصورة إلى العرب العاربة أو العبرانيين الأجلاف لسارعوا إلى العناد، واتفقوا على أن الإيمان المدعو إليه إيمانٌ بمعدومٍ لا وجود له أصلًا، ولهذا ورد ما في التوراة تشبيهًا كله. ثم إنه لم يرد في الفرقان من الإشارة إلى هذا الأمر الأهم شيءٌ، ولا أتى بصريح (1) ما يحتاج إليه في التوحيد بيانٌ مفصلٌ، بل أتى بعضه على سبيل التشبيه في الظَّاهر، وبعضه جاء تنزيهًا مطلقًا عامًّا جدًّا لا تخصيص ولا تفسير له. وأمَّا الأخبار التشبيهية فأكثر من أن تُحصى، ولكن لقومٍ ألَّا يقبلوها (2)، فإذا كان الأمر في التوحيد هكذا (3) فكيف بما (4) هو بعده من الأمور الاعتقادية. ولبعض النَّاس أن يقولوا: إنَّ للعرب توسُّعًا في الكلام ومجازًا، وإن الألفاظ التشبيهية مثل الوجه واليد والإتيان (5) في ظُلل من _________ (1) «ح»، «م»: «إلى تصريح». والمثبت من «الرسالة الأضحوية». (2) «ح»: «يقبلوه». والمثبت من «م». (3) «ح»، «م»: «هذا». والمثبت من «الرسالة الأضحوية». (4) في «الرسالة الأضحوية»: «فيما». (5) «ح»: «الإثبات». والمثبت من «م»، و «الرسالة الأضحوية».
(2/716)
الغمام والمجيء والذهاب والضحك والحياء والغضب صحيحةٌ، ولكن هي مستعملة استعارة ومجازًا». قال: «ويدل على استعمالها غير مجازيةٍ ولا مستعارةٍ بل محققةً أن المواضع التي يوردونها حجةً في أن العرب تستعمل هذه المعاني بالاستعارات والمجاز على غير معانيها الظَّاهرة = مواضعُ في مثلها يصلح أن تُستعمل على غير هذا الوجه ولا يقع فيها تلبيس ولا تدليس. وأمَّا قوله: {فِي ظُلَلٍ مِّنَ اَلْغَمَامِ} (1) [البقرة: 208] وقوله: {* هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ اُلْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 159] على القسمة المذكورة وما جرى مجراه، فليس (2) ممَّا (3) تذهب الأوهام فيه البتة إلى أن العبارة مستعارة أو مجازية، فإن كان أُريد فيها ذلك إضمارًا فقد رضي بوقوع الغلط والتشبيه والاعتقاد المعوج بالإيمان بظاهرها تصريحًا. وأمَّا قوله: {يَدُ اُللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] وقوله: {مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اِللَّهِ} [الزمر: 53] فهو موضع الاستعارة والمجاز والتوسع في الكلام، ولا يَشك في ذلك اثنان من فصحاء العرب، ولا يلتبس على ذي معرفةٍ في لغتهم كما يلتبس (4) في تلك الأمثلة؛ فإن هذه الأمثلة لا تقع شبهةٌ في أنها مستعارةٌ مجازيةٌ، كذلك في تلك لا تقع شبهةٌ في أنها ليست استعارية، _________ (1) الآية بتمامها: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اُللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ اَلْغَمَامِ}. (2) «ح»: «تلبس». والمثبت من «م» و «الرسالة الأضحوية». (3) «مما» ليس في «الرسالة الأضحوية». (4) «ح»: «تلبس». «م»: «تلتبس». والمثبت من «الرسالة الأضحوية».
(2/717)
ولا مرادًا فيها شيء غير الظَّاهر. ثم هب أن هذه كلها موجودة (1) على الاستعارة فأين التوكيد (2) والعبارة المشيرة بالتصريح إلى التوحيد المحض الذي تدعو إليه حقيقة هذا الدِّين المعترف بجلالته على لسان حكماء العالم قاطبة». ثم قال في ضمن كلامه: «إن الشريعة الجائية على لسان نبينا جاءت أفضل ما يمكن أن تجيء عليه الشرائع وأكمله، ولهذا صلحت أن تكون خاتمة للشرائع وآخر الملل». قال: «وأين الإشارة إلى الدقيق من المعاني المشيرة إلى علم التوحيد مثل أنه عالم بالذَّات أو عالم بعلم، قادر بالذَّات أو قادر بقدرةٍ، واحد الذَّات على كثرة الأوصاف أو قابل للكثرة تعالى عنها بوجهٍ من الوجوه، متحيز الذَّات (3) أو منزَّه (4) عن الجهات، فإنه لا يخلو إمَّا أن تكون هذه المعاني واجبًا تحققها وإتقان المذهب الحق فيها، أو يسع الصدوف عنها وإغفال البحث والرَّوِيَّة (5) فيها، فإن كان البحث عنها معفوًّا عنه وغلط الاعتقاد الواقع فيها غير مؤاخذٍ به؛ فجلُّ مذهب هؤلاء القوم المخاطبين بهذه الجملة تكلفٌ وعنه غنية، وإن كان فرضًا محكمًا فواجب أن يكون ممَّا صرح به في _________ (1) «الرسالة الأضحوية»: «مأخوذة». (2) «الرسالة الأضحوية»: «النصوص التوكيدية». (3) «الرسالة الأضحوية»: «بالذات». (4) «ح»: «منزهًا». والمثبت من «م» و «الرسالة الأضحوية». (5) روَّأت في الأمر تروئة وترويئًا: إذا نظرت فيه ولم تعجل بجواب، والاسم الرَّوِيَّة، جرت في كلامهم غير مهموزة. «الصحاح» (1/ 54).
(2/718)
الشريعة، وليس التصريح المُعمَّى أو المُلبَّس أو المقتصَر فيه بالإشارة والإيماء، بل (1) التصريح المستقصى [ق 78 ب] فيه والمنبَّه عليه، والموفَّى حق البيان والإيضاح والتعريف على معانيه، فإن المبرزين (2) المنفقين أيامهم ولياليهم وساعات عمرهم على تمرين أذهانهم وتزكية أفهامهم وترسيخ نفوسهم لسرعة الوقوف على المعاني الغامضة يحتاجون في تفهُّم (3) هذه المعاني إلى فضل بيانٍ وشرح عبارة، فكيف غُتْم (4) العبرانيين وأهل الوبر من العرب. لعمري لو كلف الله رسولًا من الرُّسل أن يلقي حقائق هذه الأمور إلى الجمهور من العامة الغليظة طباعهم المتعلقة بالمحسوسات الصرفة أوهامهم، ثم سامه (5) أن ينتجز (6) منهم الإيمان والإجابة غير متمهَّلٍ فيه، وسامه أن يتولى رياضة نفوس النَّاس قاطبة حتى يستعد للوقوف عليها = لكلَّفه شططًا، وأن يفعل ما ليس في قوة البشر، اللهم إلَّا أن تدركهم خاصة إلهية، وقوة علوية، وإلهام سماوي، فتكون حينئذٍ وساطة الرَّسول مستغنًى عنها، وتبليغه غير محتاجٍ إليه. _________ (1) بعده في «ح»: «بلى». وهي زائدة عن السياق. (2) «ح»: «المبرين». والمثبت من «م» و «الرسالة الأضحوية». (3) «ح»: «تفرسهم». والمثبت من «م» و «الرسالة الأضحوية». (4) «ح»: «قتم». وفي «الرسالة الأضحوية»: «غشم». والمثبت من «م». والغُتمة: العجمة، والأغتم: الذي لا يفصح شيئًا، والجمع غُتْم. «الصحاح» (5/ 1995). (5) أي: حمله عليه وطلبه منه. «مشارق الأنوار» (2/ 230). (6) «ح»: «منجز». والمثبت من «م» و «الرسالة الأضحوية».
(2/719)
ثم هب أن الكتاب العربي جاء على لغة العرب وعبارة لسانهم في الاستعارة والمجاز، فما قولهم في الكتاب العبراني، وكله من أوله إلى آخره تشبيهٌ صرفٌ. وليس لقائلٍ أن يقول: إن ذلك الكتاب محرفٌ كله. وأنى يُحرَّفُ كليةً كتابٌ منتشرٌ (1) في أُمم لا يُطاق تعدادهم (2)، وبلادهم متباينة وأهواؤهم (3) متباينة، منهم يهودي ونصراني (4)، وهم أمتان متعاديتان. فظاهر من هذا كله أن الشرائع واردة بخطاب الجمهور بما يفهمون، مقرِّبًا ما لا يفهمون إلى أفهامهم بالتمثيل والتشبيه، ولو كان غير ذلك لما أغنت الشرائع البتة». قال: «فكيف يكون ظاهر الشرائع حجة في هذا الباب ـ يعني: أمر المعاد ـ ولو فرضنا الأمور الأخروية روحانيةً غيرَ مجسمةٍ، بعيدةً عن إدراك بدائة الأذهان تحقيقها لم يكن سبيل (5) للشرائع إلى الدعوة إليها والتحذير عنها إلَّا بالتعبير عنها بوجوهٍ من التمثيلات المقرِّبة إلى الأفهام، فكيف يكون وجود شيءٍ حجة على وجود شيءٍ آخر، لو لم يكن الشيء الآخر على الحالة المفروضة لكان الشيء الأول على حالته. فهذا كله هو الكلام على تعريف من طلب أن يكون خاصًّا من النَّاس لا عامًّا: أن ظاهر الشرائع غير محتجٍّ به في مثل هذه الأبواب». _________ (1) «ح»: «مبشر». والمثبت من «م» و «الرسالة الأضحوية». (2) «ح»: «تعدديهم». وفي «الرسالة الأضحوية»: «تعديدهم». والمثبت من «م». (3) «ح»، «م»: «وأوهامهم». والمثبت من «الرسالة الأضحوية». (4) في «الرسالة الأضحوية»: «يهود ونصارى». (5) «ح»: «سبيلي». والمثبت من «م» و «الرسالة الأضحوية».
(2/720)
فتأمَّل كلام هذا الملحد بل رأس ملاحدة الملة، ودخولَه إلى الإلحاد من باب نفي الصِّفات، وتسلطه في إلحاده على المعطلة النُّفاة بما وافقوه عليه من النفي، وإلزامَه لهم أن يكون الخطاب بالمعاد جمهوريًّا أو مجازًا واستعارة، كما قالوا في نصوص الصِّفات التي اشترك هو وهم في تسميتها تشبيهًا وتجسيمًا (1)، مع أنها أكثر تنوعًا، وأظهر معنًى، وأبين دلالة من نصوص المعاد، فإذا ساغ لكم أن تصرفوها عن ظاهرها بما لا تحتمله اللغة فصرف هذه عن ظواهرها أسهل. ثم زاد هذا الملحد عليهم باعترافه بأن نصوص الصِّفات لا يمكن حملها كلها على المجاز والاستعارة، وأن يُقال: إن المراد غير ظاهرها، وإن لذلك الاستعمال مواضع تليق به، بحيث تكون دعوى ذلك في غيرها غلطًا محضًا، كما في مثل قوله: {* هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ اُلْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 159] فمع هذا التقسيم والتنويع يمتنع المجاز والاستعارة، فإنما أُريد ما دلَّ اللفظ عليه ظاهرًا، ومع هذا فقد ساعدهم على امتناعه لقيام الدليل العقلي عليه، فهكذا نفعل نحن في نصوص المعاد سواء. فهذا حاصل كلامه وإلزامه ودخوله إلى الإلحاد (2) من باب نفي الصِّفات والتجهم، وطريق الردِّ المستقيم بإبطال قوله وقول المعطلة جميعًا. والمقصود أن هؤلاء الجهمية والمعتزلة لمَّا وافقوا هذا الملحد على نفي الصِّفات، وأن هذا النفي هو التوحيد الحق، احتج عليهم بهذه الموافقة _________ (1) «ح»: «تجسمًا». والمثبت من «م». (2) «ح»: «إلحاد». والمثبت من «م».
(2/721)
على أن الرُّسل لم يثبتوا ما هو الحق في نفسه في معرفة توحيد الله ومعرفة اليوم الآخر، ولم يذكروا ما هو الذي يصلح لخاصة بني آدم وأولي العقول بينهم أن يفهموه ويعقلوه من هذا الباب، وأن نصوص الوحي من كتب الله المنزلة وكلام رسله لا يُحتجُّ بها في باب الإيمان بالله ولا في اليوم الآخر، لا في الخلق ولا في البعث، لا المبدأ ولا المعاد، وأن الكتب الإلهية إنما أفادت تخييلًا ينتفع به العامة لا تحقيقًا يفيد العلم والمعرفة، وأن أعظم العلوم وأجلها وأشرفها ـ وهو العلم بالله ـ لم تُثبِته الرُّسل ولم تنطق به، ولم يهد إليه الخلق، فلم تُبيِّنْ معرفة الله ولا معرفة المبدأ ولا [ق 79 أ] المعاد، بل نطقت فيه بخلاف الصواب. فاشتركت المعطلة الجهمية والملاحدة في نسبة الرَّسول إلى ذلك في باب الصِّفات، وامتازت عليها الملاحدة بأن الرَّسول أراد إفهام ظاهرها، وقالت المعطلة: أراد إتعاب الأذهان في إفهام خلاف ظاهرها، وعَرَّض الأُمة إلى الباطل في اعتقاده ظاهرها. الوجه الرَّابع والتسعون: أن يُقال: لا يخلو إمَّا أن يكون الرَّسول يعرف ما دلَّ عليه العقل بزعمكم ـ من إنكار علو الله على خلقه، واستوائه على عرشه، وتكليمه لرسله وملائكته ـ أو لم يكن يعرف ذلك. فإن قلتم: لم يكن يعرفه، كانت الجهمية والمعطلة والملاحدة والمعتزلة والقرامطة الباطنية والنصيرية والإسماعيلية وأمثالهم وأفراخهم وتلامذتهم أعلم بالله وأسمائه وصفاته وما يجب له ويمتنع عليه من رُسله وأتباعه. وإن كان يعرفه امتنع ألَّا يتكلم به يومًا من الدهر مع أحد من خاصته والمطلعين على سرِّه. ومن المعلوم قطعًا أن الرَّسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لم يتكلم مع أحدٍ بما يناقض ما أظهره للناس، ولا كان خواصُّ
(2/722)
أصحابه يعتقدون فيه نقيض ما أظهره للناس، بل كل من كان به أخص وبحاله أعرف كان أعظم موافقةً له وتصديقًا له على ما أظهره وبيَّنه وأخبر به. فلو كان الحق في الباطن خلاف ما أظهره لزم أحد الأمرين: إمَّا أن يكون جاهلًا به، أو كاتمًا له عن الخاصَّة والعامَّة، ومظهرًا خلافه للخاصة والعامة، وهذا من أعظم الأمور امتناعًا، ومُدَّعيه في غاية الوقاحة والبهت. ولهذا لمَّا علم هؤلاء أنه يستحيل كتمان ذلك عن خواصه وضعوا أحاديث بيَّنوا فيها أنه كان له خطابٌ مع خاصَّته غير الخطاب العامِّي، مثل الحديث المُختلق المُفترى عن عمر أنه قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحدث مع أبي بكر وكنت كالزنجي بينهما» (1). ومثل ما تدعيه الرَّافضة أنه كان عند عليٍّ علمٌ خاصٌّ باطنٌ يُخالف هذا الظَّاهر. ولمَّا علم الله (2) سبحانه أن ذلك يُدَّعى في عليٍّ وَفَّقَ مَن سأله: هل عندكم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيءٌ خصكم به دون النَّاس؟ فقال: «لا، والذي خلق الحبة، وبرأ النسمة، ما أَسَرَّ إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا كتمه عن غيرنا إلَّا فهمًا يُؤتيه الله عبدًا في كتابه، وما في هذه الصحيفة. وكان فيها العقول والديات (3) وفكاك _________ (1) أخرجه عمر بن محمد الملا في «وسيلة المتعبدين» كما في «الرياض النضرة» للمحب الطبري (1/ 151) وهو حديث موضوع مكذوب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في «الفرقان» (ص 19): «كذبٌ موضوعٌ باتفاق أهل العلم بالحديث». وعَدَّه المصنف في «المنار المنيف» (ص 77) مما وضعه جهلة المنتسبين للسنة في فضائل أبي بكر الصدِّيق - رضي الله عنه -. وينظر «مجموع الفتاوى» (11/ 109). (2) «ح»: «أنه». والمثبت من «م». (3) كذا في «ح»، «م»، والعقول هي الديات، وقد تقدم (ص 260) بلفظ «العقل أي الديات».
(2/723)
الأسير، وألَّا يُقتل مسلمٌ بكافر». وهذا الحديث متفق على صحته (1)، وفي لفظ في «الصحيح» (2): «عهد إليك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا لم يعهده إلى النَّاس؟ فقال: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة». الوجه الخامس والتسعون: أن الله سبحانه أنزل كتبه حاكمةً بين النَّاس فيما اختلفوا فيه. قال الله تعالى: {* كَانَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اَللَّهُ اُلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ اُلْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ فِيمَا اَخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 211] وقال تعالى: {* إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ بِمَا أَراكَ اَللَّهُ} [النساء: 104] وقال تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللَّهِ وَاَلرَّسُولِ} [النساء: 58]. فكيف يحكم بين النَّاس في مواطن الخلاف والنزاع كلامٌ وخطابٌ ليس فيه علمٌ ولا هدًى ينتفع به أولو الألباب، كما زعم هؤلاء أن الكتب الإلهية لا يُحتج بها في مثل هذه الأبواب، فكيف تكون حاكمة بين النَّاس فيما اختلفوا فيه؟! وأي اختلافٍ أعظم من الاختلاف في أجلِّ الأمور، وهو معرفة الله تعالى واليوم الآخر، والخلاف الحقيقي إنما يكون في الأمور العلمية والقضايا الخبرية التي لا تقبل النسخ والتغيير، فأمَّا العمليات التي تقبل النسخ فتلك تنوع في الشريعة الواحدة، فكيف بالشرائع المتنوعة! وما جاز تنوعه لم يكن الخلاف فيه حقيقيًّا، فإنهما إن كانا مشروعين في وقتين أو برسولين فكلاهما حقٌّ، وإن كان الخلاف في المشروع منهما أيهما هو، فهذا يُعلم بالخبر المنقول عن الصَّادق. وحينئذٍ فنقول في: _________ (1) تقدم تخريجه. (2) «صحيح البخاري» (3047، 6903، 6915).
(2/724)
الوجه السَّادس والتسعين (1): إن ما ذكره ابن سينا وأمثاله من (2) أنه لم يرد في القرآن من الإشارة إلى توحيدهم شيءٌ، فكلامٌ صحيحٌ، وهذا دليلٌ على أنه باطلٌ لا حقيقة له، وأن من وافقهم عليه فهو جاهلٌ ضالٌّ. وكذلك ما ذكره من (3) أن من المواضع التي ذُكرت فيها الصِّفات ما لا يحتمل اللفظ فيها إلَّا معنًى واحدًا لا يحتمل ما يدَّعيه أهل التأويل من الاستعارة والمجاز، كما ذكره في قوله [ق 79 ب]: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اُللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ اَلْغَمَامِ وَاَلْمَلَائِكَةُ} [البقرة: 208] وقوله: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 159]. وهذا حجةٌ على من نفى حقيقة ذلك ومدلَوله من المعطلة نفاة الصِّفات، وهو حجة عليه وعليهم جميعًا، وموافقتهم له على التعطيل لا ينفعه؛ فإن ذلك حجةٌ جدليةٌ لا علمية؛ إذ تسليمهم له ذلك لا يوجب على غيرهم أن يسلم ذلك له، فإذا تبيَّن بالعقل الصريح ما يوافق النقل الصحيح دلَّ ذلك على فساد قوله وقولهم جميعًا. وكذلك قوله: «هب أن هذه كلها موجودة على الاستعارة فأين (4) التوحيد والدلالة بالتصريح على التوحيد المحض الذي يدعو إليه حقيقة هذا الدِّين القيِّم المعترف بجلالته على لسان حكماء العالم قاطبة»؟ كلامٌ صحيحٌ لو كان ما قاله النُّفاة حقًّا، فإنه على قولهم لا يكون هذا (5) الدِّين القيِّم قد بيَّن _________ (1) «ح»: «والتسعون». (2) «ح»: «في». والمثبت من «م». (3) «من» ليس في «ح»، ومثبت من «م». (4) «ح»: «فإلى». والمثبت من «م». (5) «ح»: «لهذا». والمثبت من «م».
(2/725)
التوحيد الحقَّ أصلًا، وحينئذٍ فنقول في: الوجه السَّابع والتسعين (1): أن التوحيد الذي دعا إليه هؤلاء الملاحدة، وذكروا أنه التوحيد الحق هو من أعظم الإلحاد في أسماء الربِّ وصفاته وأفعاله، وهو حقيقة الكفر به، وتعطيل العالم عن صانعه، وتعطيل الصَّانع الذي أثبتوه عن صفات كماله. فشِرْك (2) عُبَّاد الأصنام والأوثان والكواكب والشمس والقمر خيرٌ من توحيد هؤلاء بكثيرٍ، فإنه شركٌ في الإلهية مع إثبات صانع العالم وصفاته وأفعاله وقدرته ومشيئته وعلمه بالكليات والجزئيات، وتوحيدُ هؤلاء تعطيلُ الربوبية والإلهية وسائر صفاته، وهذا التوحيد ملازمٌ لأعظم أنواع الشرك، ولهذا كلما كان الرجل أعظم تعطيلًا كان أعظم شركًا، ولا تجد معطلًا نافيًا إلَّا وفيه من الشرك بقدر ما فيه من التعطيل. وتوحيد الجهمية والفلاسفة مناقض لتوحيد الرُّسل من كل وجهٍ، فإن مضمون توحيد الجهمية إنكارُ حياة الربِّ وعلمه وقدرته وسمعه وبصره وكلامه واستوائه على عرشه، ورؤية المؤمنين له بأبصارهم عيانًا من فوقهم يوم القيامة، وإنكارُ وجهه الأعلى ويديه ومجيئه وإتيانه ومحبته ورضاه وغضبه وضحكه وسائر ما أخبر به الرَّسول عنه. ومعلومٌ أن هذا التوحيد هو نفس تكذيب الرَّسول فيما أخبر به عن الله وجحده، فاستعار له أصحابه اسم التوحيد وقالوا: نحن الموحدون (3). كما استعار المنكرون للقدر اسم العدل بجحده ودفعه، وقالوا: نحن أهل _________ (1) «ح»: «والتسعون». (2) «ح»: «فسر لي». والمثبت من «م». (3) «ح»: «الموحدين».
(2/726)
التوحيد والعدل. فهذا (1) توحيدهم وهذا عدلهم! والعدل والتوحيد الذي جاء به الرَّسول خلاف هذا وهذا، قال الله تعالى: {شَهِدَ اَللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَاَلْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا اُلْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ اَلْعَزِيزُ اُلْحَكِيمُ (18) إِنَّ اَلدِّينَ عِندَ اَللَّهِ اِلْإِسْلَامُ} [آل عمران: 18 - 19]. الوجه الثَّامن والتسعون: أنه لو كان الحق فيما يقوله هؤلاء النُّفاة المعطلون وإخوانهم من الملاحدة لكان (2) قبول الفِطَر له أعظم من قبولها للإثبات الذي هو ضلالٌ وباطلٌ عندهم، فإن الله سبحانه نصب على الحقِّ الأدلة والأعلام الفارقة بين الحق والباطل والنور والظلام، وجعل فطر عباده مستعدة لإدراك الحقائق ومعرفتها، ولولا ما في القلوب من الاستعداد لمعرفة الحقائق لم يمكن النظر والاستدلال ولا الخطاب والكلام والفهم والإفهام. وكما أنه سبحانه جعل الأبدان مستعدة للاغتذاء بالطعام والشراب ولولا ذاك لما أمكن تغذيتها وتربيتها، وكما أن في الأبدان قوةً تفرق بين الغذاء الملائم والمنافي، ففي القلوب قوة تفرق بين الحق والباطل أعظم من ذلك. فخاصة العقل الفرق (3) بين الحق والباطل، وتمييز هذا من هذا، كما أن خاصة السمع التمييز بين الأصوات حسنها وقبيحها، وخاصة الشم (4) التمييز بين أنواع الروائح طيبها وخبيثها، وكذلك خاصة الذوق في الطعوم. فإذا ادعيتم على العقول أنها لا تقبل الحق، وأنها لو صُرِّح لها به لأنكرته _________ (1) «ح»: «أنه». (2) «ح»: «فكان». والمثبت من «م». (3) «م»: «التفريق». (4) «ح»: «السمع». وهو خطأ ظاهر.
(2/727)
ولم تذعن (1) إلى الإيمان؛ فقد سلبتم العقول خاصتها، وقلبتم الحقيقة التي خلقها الله وفَطَرَها عليه، وكان نفس ما ذكرتم أن الرُّسل لو خاطبت به النَّاس لنفروا عن الإيمان من أعظم الحجج عليكم، وأنه مخالف للعقل والفطرة كما هو مخالف للسمع والوحي [ق 80 أ]. فتأمل هذا الوجه فإنه كافٍ في إبطال قولهم. ولهذا إذا أراد أهله (2) أن يدعوا النَّاس إليه ويقبلوه منهم وطَّؤوا له توطئات (3)، وقدَّموا له مقدمات، بنوها في القلب درجةً بعد درجةٍ، ولا يُصرِّحون به أولًا، حتى إذا أحكموا ذلك البناء استعاروا له ألفاظًا مزخرفةً، واستعاروا لما خالفه ألفاظًا شنيعةً، فتجتمع تلك المقدمات التي قدموها، وتلك الألفاظ التي زخرفوها، وتلك الشناعات التي على من خالفهم (4) شنعوها، فهنالك إن لم يُمسِك الإيمانَ مَن يمسك السماوات والأرض أن تزولا وإلَّا (5) تَرَحَّل عن القلب ترحُّل الغيث استدبرته الريح، يوضحه: الوجه التَّاسع والتسعون: أنَّا نعرض على الفطر السليمة والعقول التي لم _________ (1) «ح»: «تدعي». والمثبت من «م». (2) أي: أهل التأويل. (3) «ح»: «تاطوله موطيات». والمثبت من «م». (4) «ح»: «ما خالفه». والمثبت من «م». (5) لا يصح المعنى إلا بحذف «وإلا»، وهو تركيب شائع في كتب الشيخين ابن تيمية وابن القيم وغيرهما من ذلك العصر، والمعنى: إن لم يمسك الله الإيمانَ ترحل الإيمانُ.
(2/728)
تفسد بتلقِّي المقالات الفاسدة وتلقنها (1) عن المعلمين خصمين اختصموا في ربهم: فقال أحدهما: هو الله الذي لا إله إلَّا هو عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، الملك القدوس، السلام المؤمن المهيمن، العزيز الجبار المتكبر، الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيامٍ ثم استوى على العرش، يدبر الأمر، ما من شفيع إلَّا من بعد إذنه، حيٌّ له الحياة، قديرٌ له صفة القدرة، مريدٌ له صفة الإرادة، كلَّم موسى تكليمًا، وتجلَّى للجبل فجعله دكًّا هشيمًا، فوق سماواته مستوٍ على عرشه، بائنٌ من خلقه، يرى من فوق سبع سماوات، ويسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، ويرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في غياهب الظلمات، لا تتحرك ذرةٌ إلَّا بإذنه، ولا تسقط ورقةٌ إلَّا بعلمه، ولا يَعزُب عن علمه مثقال ذرةٍ في الأرض ولا في السماوات، تُرفع إليه الحاجات، وتصعد إليه الكلمات الطيبات، وينزل من عنده الأمر بتدبير المخلوقات، له القوة كلها، والعزُّ كله، والجمال كله، والعلم كله، والكمال كله، وهو الحي القيوم الذي لا تأخذه سِنةٌ ولا نومٌ، موصوفٌ بكل جمالٍ، منزَّهٌ عن كل نقصٍ وعيبٍ، لا تُضرب له الأمثال، ولا يُشبَّه بالمخلوقات، فعالٌ لما يريد، لوجهه سُبحات الجلال، وهو الجميل الذي له كل الجمال، إحدى يديه للجود والفضل، والأخرى للقسط والعدل، يقبض سماواته السبع بإحدى يديه، والأرضين السبع باليد الأخرى، ثم يهزهن ثم يقول: أنا الملك. لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار _________ (1) «ح»: «وتلقيها». ولعل المثبت هو الصواب.
(2/729)
قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سُبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، قريبٌ مجيدٌ، رحيمٌ ودودٌ، لطيفٌ خبيرٌ. فصل وقال الآخر: بل هو موصوفٌ بالسلوب والإضافات، فلا سمع له، ولا بصر، ولا حياة ولا إرادة، ولا يتكلم ولا يكلِّم أحدًا من خلقه، ولا هو داخل العالم ولا خارجه، ولا فوق العرش ولا تحته، ولا يمينه ولا يساره، ولا خلفه ولا أمامه، ولا له وجهٌ ولا يدٌ، ولا يرضى ولا يغضب، ولا يسخط ولا يضحك، ولا يفرح بتوبة تائبٍ، ولا استوى على عرشه، ولا ينزل كل ليلةٍ إلى سماء الدنيا، ولا يأتي يوم القيامة، ولا يجيء لفصل القضاء، ولا يراه المؤمنون بأبصارهم، ولا يستمعون كلامه، ولا يقوم به فعل البتة ولا وصف، ولا له حقيقة وماهية غير وجودٍ مطلقٍ، وهو وجهٌ كله، وسمعٌ كله، وبصرٌ كله، ويدٌ كله، علمه ذاته، وسمعه وبصره علمه، ليس له يدٌ غير القدرة، خلق بها آدم، وكتب بها التوراة، وغرس بها جنة عدن، يقبض بها السماوات، وليس له وجهٌ يراه المؤمنون بأبصارهم، ليس بجوهرٍ ولا جسمٍ ولا متحيزٍ ولا متحركٍ ولا ساكنٍ، ولا ينزل من عنده شيءٌ، ولا يصعد إليه شيءٌ، ولا يقرب من شيءٍ، ولا يقرب منه شيءٌ، ولا يحبه أحدٌ، ولا يحب أحدًا، إلى أمثال ذلك من النفي. فاعرض أقوال هذين الخصمين على الفطرة الصحيحة والعقل واجلس مجلس الحكومة بينهما، ثم تحيَّزْ إلى أيِّ الفئتين شئت، فما ثَمَّ إلَّا الإثبات من كل وجهٍ لما أثبته الله لنفسه وأثبته رسوله، أو التعطيل الصرف والنفي المحض. فاختر لنفسك إحدى الخطتين، واجعلها مع إحدى الفئتين، فالمرء
(2/730)
مع من أحب، وحينئذٍ فنقول في: الوجه المائة: أن الأعمال الصَّالحة والفاسدة نتائج الاعتقادات الصحيحة والباطلة، فانظر رؤوس المثبتة والنُّفاة وملوكهم وأتباعهم يُبَيَّنْ لك حقيقة [ق 80 ب] الأمر، فرؤوس المثبتة آدم ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب وإبراهيم الخليل، وسائر الأنبياء من ذريته، وموسى الكليم وعيسى، وجاء خاتمهم وآخرهم وأعلمهم بالله سيِّد ولد آدم محمد بن عبد الله عبد الله ورسوله، فجاء بالإثبات المفصَّل الذي لم يأت رسولٌ (1) بمثله، فصرَّح من إثبات الصِّفات والأفعال بما لم يصرِّح به نبيٌّ قبله، وذلك لكمال عقول أمته، وكمال تصديقهم، وصحة أذهانهم. فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حامل لواء الإثبات، وتحت ذلك اللواء آدم وجميع الأنبياء وأتباعهم، ثم المهاجرون والأنصار، وأهل بدر، وأهل بيعة الرضوان، وسائر الصَّحابة، ثم التَّابعون (2) لهم بإحسانٍ ممَّن لا يحصيهم إلَّا الله، ثم أتباع التَّابعين، ثم أئمة الفقه في الأعصار والأمصار، منهم الأئمة الأربعة، ثم أهل الحديث قاطبةً وأئمة التفسير والتصوف والزهد والعبادة المقبولون عند الأُمة ممَّن لا يحصي عددهم إلَّا الله. فهل سُمع في الأولين والآخرين بمثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والعشرة المشهود لهم بالجنة وسائر المهاجرين والأنصار؟ وهل سُمع بقومٍ أتم عقولًا، وأصح أذهانًا، وأكمل علمًا ومعرفة، وأزكى قلوبًا من هؤلاء الذين قال الله فيهم: {قُلِ اِلْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ اِلَّذِينَ اَصْطَفَى} [النمل: 61] قال غير واحدٍ _________ (1) «ح»: «رسوله». (2) «ح»: «التابعين».
(2/731)
من السلف: هم أصحاب محمدٍ (1). قال فيهم عبد الله بن مسعود: «من كان منكم مستنًّا فليستنَّ بمَن قد مات، فإن الحي لا تُؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمدٍ، أبرُّ هذه الأُمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسَّكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم» (2). فهؤلاء أُمراء هذا الشأن، وأمَّا الجند والعساكر فالتَّابعون كلهم، ثم الذين يلونهم، مثل: مالك بن أنسٍ، وسفيان بن عُيينة، وسفيان الثَّوْري، وحماد بن زيدٍ، وحماد بن سلمة، وعبد الله بن المبارك، والليث بن سعدٍ، وإسحاق بن راهويه، والإمام أحمد، والشَّافعي، وعلي بن المديني، ويحيى بن مَعِين، والبخاري، ومسلم، وأبي داود، والتِّرمذي، والنَّسائي، ومحمد بن أسلم الطوسي، وأبي حاتم وأبي زُرعة الرَّازيَّان (3)، وأمثالهم. وأمَّا عامتهم فأهل _________ (1) أخرجه الطبري في «التفسير» (18/ 98) وابن أبي حاتم في «التفسير» (9/ 2906) والبزار في «مسنده» ـ كما في «كشف الأستار عن زوائد البزار» (2480) ـ والثعلبي في «الكشف والبيان» (20/ 300 - 301) عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -. وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (7/ 87): «رواه البزار، وفيه الحكم بن ظهير، وهو متروك». وأخرجه الطبري في «التفسير» (18/ 99) والثعلبي في «الكشف والبيان» (20/ 301) وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (7/ 77) عن سفيان الثوري. وأخرجه ابن عدي في «الكامل» (3/ 241) عن السدي. (2) أخرجه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» (1810) والخطيب في «تلخيص المتشابه» (1/ 460) والهروي في «ذم الكلام» (746). وأخرجه أبو نعيم في «حلية الأولياء» (1/ 305) عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. (3) كذا في «ح»، بدلًا من: «الرازيين».
(2/732)
الدِّين والصدق والورع والزُّهد والعبادة والإخلاص واجتناب المحارم وتوقِّي المآثم. وأمَّا رؤوس النُّفاة والمعطلين ففرعون إذ يقول: {يَاهَامَانُ اُبْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّيَ أَبْلُغُ اُلْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ اَلسَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36 - 37] وجنوده كلهم، ونمرود بن كنعان ـ هذا خصم إبراهيم الخليل، وذاك خصم موسى الكليم ـ وأرسطاطاليس وبقراطيس وأضرابهما، وطمطم (1) وتنكلوشا (2) وابن وحشية (3) وأضرابهم (4)، وابن سينا والفارابي، وكل فيلسوفٍ لا يُؤمن بالله ولا ملائكته ولا كتبه ولا رسله ولا لقائه. _________ (1) طمطم الهندي صاحب كتاب صور الدَّرج والكواكب. ينظر: «الرد على المنطقيين» (ص 286 - 287) و «مفتاح دار السعادة» (3/ 1439) و «النونية» (3/ 758) و «تاريخ ابن خلدون» (1/ 655). (2) تينكلوش البابلي ويقال: تنكلوشا، كان عالمًا من علماء بابل، وله تصنيف، وهو كتاب «الوجوه والحدود» كتاب مشهور. ينظر: «أخبار العلماء» للقفطي (ص 85) و «الرد على المنطقيين» (ص 286 - 287) و «مفتاح دار السعادة» (3/ 1439) و «النونية» (3/ 758). (3) هو أبو بكر أحمد بن علي بن قيس الصوفي الكُسْدَاني، كان يدَّعي أنه ساحر، وله مؤلَّفات، منها كتاب «الفلاحة النبطية». ينظر: «الفهرست» للنديم (ص 378، 439) و «سلم الوصول إلى طبقات الفحول» لحاجي خليفة (1/ 180). (4) قال ابن تيمية في «بيان تلبيس الجهمية» (3/ 55 - 56): «الرازي اعتمد في الإشراك وعبادة الأوثان على مثل تنكلوشا البابلي، ومثل طمطم الهندي، ومثل ابن وحشية أحد مردة المتكلمين بالعربية».
(2/733)
وأمَّا عوامُّهم فاعتبر عوام النُّصَيرية والإسماعيلية والدُّرزية والحاكمية (1) والطُّرقية (2) والعرباء (3)، وعبادهم: البخشية (4) والطونية (5). وعلماؤهم السحرة. وعساكرهم: المشركون، والقرامطة الذين هم أعظم الأمم إفسادًا للدُّنيا والدِّين. فليعتبر العاقل خواص هؤلاء وهؤلاء، وعوام هؤلاء وهؤلاء، وليقابل بين الطَّائفتين، وحينئذٍ يتبين له أنه ما كان ولا يكون ولي لله إلَّا من أهل الإثبات، وما كان ولا يكون ولي للشيطان إلَّا من أهل النفي والتعطيل: إمَّا تعطيل الصَّانع عن صفات كماله ونعوت جلاله، وإمَّا تعطيل القلب عن توحيده وعبوديته وإخلاص الدِّين له. واعتبر ذلك بإمام النُّفاة في زمانه وما جرى على أهل السُّنَّة منه: ابن أبي دؤاد (6) وأصحابه الذين سَعَوْا في ضرب الإمام أحمد، وقتل كثيرٍ من _________ (1) هم فرقة ضالة تعتقد رجوع الحاكم بأمر الله الفاطمي بزعمهم. «اللباب في تهذيب الأنساب» (1/ 332). (2) هم أتباع الطرق الصوفية المبتدعة. (3) كذا في «ح»، و «درء التعارض» (5/ 67). ولم أتبين من هم. (4) تقدم (ص 698) أنهم كهنة البوذية، عبدة الأصنام. (5) هم طائفة من سحرة التتر، كما في «درء التعارض» (5/ 67) وفي «ح»: «الطوسية»، تصحيف. (6) أحمد بن أبي دؤاد الإيادي، ولي القضاء للمعتصم وللواثق بالله، وكان مصرحًا بمذهب الجهمية، داعية إلى القول بخلق القرآن، وهو الذي أفتى بقتل الإمام أحمد بن حنبل، توفي سنة 240 هـ. ينظر: «تاريخ بغداد» (5/ 233 - 252) و «تاريخ الإسلام» (5/ 758 - 761).
(2/734)
أهل السُّنَّة، وحبسهم وتشتيتهم في البلاد، وقطع أرزاقهم؛ ثم إمامهم في زمانه نصير الكفر والشرك الطوسي، وما جرى على المسلمين منه من قتل خليفتهم وعلمائهم وعُبَّادهم. وإذا اعتبرت أحوال القوم رأيت عوامَّ اليهود والنصارى أقلَّ فسادًا في الدِّين والدُّنيا من أئمة هؤلاء المعارضين لنصوص الأنبياء بعقولهم، وغاية الواحد من هؤلاء إذا أراد الجاه أن يتقرب إلى الملوك الجهلة الظلَمة بما يناسبهم من السحر، فيُصنِّف لهم فيه، ويتقرب به إليهم. فهؤلاء علماؤهم وملوكهم وعوامهم، فكيف يكون هؤلاء أحظى بالعقل وأسعد به من الرُّسل وأتباعهم، وسيرةُ هؤلاء وهؤلاء معلومةٌ في العالم، وأعمالُهم وعلومهم ومعارفهم وآثارهم دالةٌ لمن له أدنى عقلٍ على حقيقة الحال، والله أعلم. [ق 81 أ] الوجه الحادي والمائة: أن تجويز معارضة العقل للوحي يوجب وصف الوحي بضد ما وصفه الله به، فإن الله سبحانه وصفه بكونه هُدًى في غير موضعٍ، وأخبر أنه يهدي للتي هي أقوم (1)، أي: للطريق التي هي أقوم الطُّرق، وهي أقربها إلى الحقِّ، فإن الطريق المستقيم هو أقرب خط موصل (2) بين نقطتين، وكلما تعوَّج بَعُدَ. وأخبر سبحانه أنه شفاءٌ لما في الصدور (3). وهذا يتضمن أنه يشفي ما _________ (1) في قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا اَلْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]. (2) «ح»: «مفصل». والمثبت هو الصواب كما جاء فيما يأتي. (3) في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا اَلنَّاسُ قَد جَّاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي اِلصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57].
(2/735)
فيها من الجهل والشك والحيرة والريب، كما أن الهُدى يتضمن أنه موصلٌ إلى المقصود، فالهدى يوصلها إلى الحقِّ المقصود من أقرب الطُّرق، والشفاء يزيل عنها أمراضها المانعة لها من معرفة الحقِّ وطلبه، فهذا يُحصِّل المقتضى، وهذا يزيل المانع، ومن المحال أن تكون هذه صفة كلامٍ مخالفٍ (1) للعقل ومعارضه. وكذلك أخبر أنه نورٌ، كما قال تعالى: {فَاَلَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاَتَّبَعُوا اُلنُّورَ اَلَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ اُلْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157] وقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا اَلْكِتَابُ وَلَا اَلْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 49] فهو نور البصائر من العمى، كما هو شفاء الصدور من الجهل والشك. ومحالٌ أن تتنوَّر البصائر بما يخالف صريح العقل؛ فإن ما يخالف العقل مستوجب (2) الظُّلمة. وأخبر سبحانه أنه برهانٌ، فقال: {يَاأَيُّهَا اَلنَّاسُ قَد جَّاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا} [النساء: 173]. ومحالٌ أن يكون ما يخالف صريح العقل برهانًا. وأخبر سبحانه أنه علمٌ، كما قال: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ} [آل عمران: 60]، وما يخالف العقل الصريح لا يكون علمًا. وأخبر أنه حقٌّ، والعقل الصريح لا يخالف الحق، فقال تعالى: {الم اَللَّهُ _________ (1) «ح»: «مخالفة». (2) «ح»: «فوجبَ».
(2/736)
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ اَلْحَيُّ اُلْقَيُّومُ (1) نَزَّلَ عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [آل عمران: 1 - 2] وقال: {* إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [النساء: 104] وقال: {لَقَد جَّاءَكَ اَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُمْتَرِينَ} [يونس: 94] وقال: {إِنَّ هَذَا لَهْوَ اَلْقَصَصُ اُلْحَقُّ} [آل عمران: 62]. وحينئذٍ فكونه حقًّا يدل على أن ما خالفه ممَّا يُسمَّى معقولًا باطل، فإن كان ما خالفه حقًّا لزم أن يكون باطلًا، وإن كان هو الحق فما خالفه باطلٌ قطعًا. وأخبر أنه آياتٌ بيناتٌ (1)، وما يخالف صريح العقل لا يكون كذلك. وأخبر أنه أحسن القصص (2)، وأحسن الحديث (3)، ولو خالف صريح العقل لكان موصوفًا بضد ذلك. وأخبر أنه أصدق الكلام، فقال: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اَللَّهِ قِيلًا} [النساء: 121] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اَللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 86]. ولو خالف العقل لم يكن كذلك، وكان كلام هؤلاء الضَّالين المضلين أصدق منه. وأخبر أن القلوب تطمئن به، أي: تسكن إليه من قلق الجهل والريب والشك، كما يطمئن القلب إلى الصدق، ويرتاب بالكذب، فقال تعالى: {اَلَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اِللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اِللَّهِ تَطْمَئِنُّ اُلْقُلُوبُ} [الرعد: 29] وجعل هذا من أعظم الآيات على صدقه، وأنه حقٌّ من عنده، ولهذا ذكره جوابًا لقول الكفار: {لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ} فقال: {قُلْ إِنَّ اَللَّهَ يُضِلُّ _________ (1) في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الحج: 16] وغيره. (2) في قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ اَلْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا اَلْقُرْآنَ} [يوسف: 3]. (3) في قوله تعالى: {اِللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ اَلْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ} [الزمر: 22].
(2/737)
مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (28) اَلَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اِللَّهِ} [الرعد: 28 - 29]. أي: بكتابه الذي أنزله، وهو ذكره وكلامه، ولو كان في العقل الصريح ما يخالفه لم تطمئن به قلوب العقلاء. والعاقل اللبيب إذا تدبَّر القرآن وتدبَّر كلام هؤلاء المعارضين له تبين أن الريبة كلها في كلامهم، والطمأنينة في كلام الله ورسوله. وأخبر سبحانه أن التوراة ـ التي هو أكمل وأجلُّ منها ـ إمامٌ، فقال تعالى: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً} [الأحقاف: 11] والإمام هو القدوة الذي يُؤتم به، وكيف يُقتدى بكلامٍ يخالف صريح العقل. وسمَّاه سبحانه فرقانًا (1)؛ لأنه فرق بين الحق والباطل، فلو خالف صريح العقل لم يكن فرقانًا، ولكان الفرقان كلام هؤلاء الضَّالين المضلين. وأخبر أنه كتابٌ مباركٌ (2)، والمبارك: الكثير البركة والخير والهُدى والرحمة، وهذا لا يكون فيما يردُّه العقل ويقضي بخلافه. وأخبر أن الباطل لا يأتيه من بين يديه ولا من خلفه (3)، ولو كان العقل يخالفه لأتاه الباطل من كل جهةٍ. وأخبر أنه كتابٌ أُحكِمت آياته (4)، .................................... _________ (1) في قوله تعالى: {تَبَارَكَ اَلَّذِي نَزَّلَ اَلْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]. (2) في قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 93] وغيره. (3) في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (40) لَّا يَأْتِيهِ اِلْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 40 - 41]. (4) في قوله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1].
(2/738)
وأنه حكيمٌ (1)، وأنه فصلٌ (2). وما يخالفه العقل لا يوصف بشيءٍ من ذلك. وأخبر أنه مهيمنٌ على (3) كل كتابٍ (4)، أي: أمينٌ عليه وحاكمٌ وشاهدٌ وقيِّمٌ، ولو خالفه العقل لكان مهيمنًا عليه، وكانت معقولات هؤلاء الضَّالين المضلين هي (5) المهيمنة عليه، ولم يكن هو المهيمن عليها. وأخبر أنه لا عوج فيه وأنه قيِّمٌ، فقال: {اِلْحَمْدُ لِلَّهِ اِلَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ اِلْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا} [الكهف: 1 - 2]، وأي عوجٍ أعظم من مخالفة صريح العقل له؟ وقال تعالى: {وَلَقَد ضَّرَبْنَا لِلنّاسِ فِي هَذَا اَلْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (26) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر: 26 - 27] ومن تدبَّره وتدبَّر ما خالفه عرف أن العوج (6) كله فيما خالفه، وعِلْمُه بتعوُّج ما خالفه يُعرَف من طريقتين: من جهة الكلام في نفسه وأنه باطلٌ، ومن جهة مخالفته للقرآن. وجعله سبحانه حجة على خلقه كما قال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاَتَّبِعُوهُ وَاَتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (156) أَن تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ اَلْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (157) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا _________ (1) في قوله تعالى: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ اَلْأيَاتِ وَاَلذِّكْرِ اِلْحَكِيمِ} [آل عمران: 57]. (2) في قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْل} [الطارق: 13]. (3) «ح»: «في». (4) في قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 50]. (5) «ح»: «من». (6) «ح»: «القدح».
(2/739)
اَلْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَد جَّاءَكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اِللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي اِلَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ اَلْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} [الأنعام: 156 - 158]. وقال تعالى: {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اَللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ اَلرُّسُلِ} [النساء: 164]. وكيف تقوم الحجة بكلامٍ يخالف صريح العقل؟ وحينئذٍ فنقول في: الوجه الثَّاني والمائة: إن الله سبحانه ضمن الهُدى والفلاح لمن اتبع القرآن، والضلال والشقاء لمن أعرض عنه، فكيف بمن عارضه (1) بمعقولٍ أو رأيٍ، أو حقيقةٍ باطلةٍ، أو سياسةٍ ظالمةٍ، أو قياسٍ إبليسيٍّ، أو خيالٍ فلسفيٍّ ونحو ذلك؟ قال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى (120) فَمَنِ اِتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقى (121) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ أَعْمى (122) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (123) * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اَلْيَوْمَ تُنسى} [طه: 120 - 124] فضمن سبحانه لمن اتبع هداه ـ وهو كلامه ـ الهُدى في الدنيا والآخرة، والسعادة في الدنيا والآخرة. فهاهنا أمران: طريقٌ وغايةٌ. فالطريق: الهُدى، والغاية: السعادة والفلاح. فمن لم يسلك هذه الطريق لم يصل إلى هذه الغاية، والله سبحانه قد أخبر أن كتابه الذي أنزله هو الهُدى والطريق، فلو كان العقل الصريح يخالفه (2) لما كان طريقًا إلى الفلاح والرشد. _________ (1) «ح»: «عارض». (2) «ح»: «يخالفهم».
(2/740)
وقد أخبر سبحانه أن الذين اتبعوا النور الذي أُنزل مع رسوله هم المفلحون لا غيرهم، وقال تعالى: {الم ذَلِكَ اَلْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (1) اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ اَلصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (2) وَاَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ اُلْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 1 - 4]. وكما جعل سبحانه الهُدى والفلاح لمن اتبع كتابه وآمن به وقدَّمه على غيره، جعل الضلال والشقاء لمن أعرض عنه واتبع غيره وعارضه برأيه ومعقوله وقياسه. قال تعالى: {اِللَّهُ وَلِيُّ اُلَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ (255) وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ اُلطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ اَلنُّورِ إِلَى اَلظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ اُلنّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 255 - 256]. وقال: {إِنَّ اَلْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 47]. وقال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ أَعْمى} [طه: 122] فوصفه بالعمى الذي هو ضد الهُدى، وبالمعيشة الضنك التي هي ضد السعادة، فكتاب الله أوله هداية وآخره سعادة، وكلام المعارضين له بمعقولهم أوله ضلال وآخره شقاوة. الوجه الثَّالث بعد المائة: أن الله سبحانه ذمَّ المجادلين في آياته بالباطل في غير آيةٍ من كتابه، فقال تعالى: {اِلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اِللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اَللَّهِ وَعِندَ اَلَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اُللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبٍ مُّتَكَبِّرٍ جَبّارٍ} [غافر: 35]. وقال: {إِنَّ اَلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اِللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ} [غافر: 56].
(2/741)
وقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اِللَّهِ أَنّى يُصْرَفُونَ (69) اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسْلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ اِلْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ ... } إلى قوله: {فَبِئْسَ مَثْوَى اَلْمُتَكَبِّرِينَ} [غافر: 69 - 75]. وأنت إذا تأمَّلت أقوال هؤلاء وسيرتهم رأيت هذه الآيات منطبقة عليهم، وهم المرادون بها، ومن أعظم الجدال في آيات الله جدال من يعارض النقل بالعقل ثم يقدِّمه [ق 82 أ] عليه، فإن جداله يتضمن أربع مقامات: أحدها: أنه تبيَّن أن الأدلة النقلية من الكتاب والسُّنَّة لا تُفيد علمًا ولا يقينًا. الثَّاني: أن ظاهرها يدل على الباطل والتشبيه والتمثيل. الثَّالث: أن صريح العقل يخالفها. الرَّابع: أنه يتعيَّن تقديمه عليها. ولا يصل إلى هذه المقامات إلَّا بأعظم الجدال، فهو مراد بهذه الآيات قطعًا، وأعمالهم شاهدةٌ عليهم لمن لم يطلع على حقيقة أقوالهم، وهي التكبر والتجبر والفرح في الأرض بغير الحق والمرح وطلب العلو في الأرض والفساد، ولا تجد من يعارض الوحي بالعقل ويقدمه عليه إلَّا بهذه المنزلة، فهذه علومهم وعقائدهم، وهذه إراداتهم وأعمالهم. الوجه الرابع والمائة: أن الله سبحانه وصف المُعْرِضين عن الوحي المعارضين له بعقولهم وآرائهم بالجهل والضلال والحيرة والشك والعمى والريب، فلا يجوز وصفهم بالعلم والعقل والهدى. ومنشأ ضلال هؤلاء من شيئين:
(2/742)
أحدهما: الإعراض عمَّا جاء به الرسول. الثاني: معارضته بما يناقضه. فمن ذلك نشأت الاعتقادات المخالفة للكتاب والسُّنَّة. فكل من أخبر بخلاف ما أخبر به الرسول عن شيءٍ من أمر الإيمان بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله واليوم الآخر أو غير ذلك فقد ناقضه وعارضه، سواءٌ اعتقد ذلك بجَنانه أو قاله بلسانه أو كَتَبَه ببنانه. وهذا حال أهل الجهل المركب. ومن أعرض عمَّا جاء به الرسول ولم يعرفه ولم يتبيَّنه ولا عارضه بمعقولٍ أو رأيٍ فهو من أهل الجهل البسيط. وهو أصل المركب، فإن القلب إذا كان خاليًا من معرفة الحق واعتقاده والتصديق به ومحبته كان معرَّضًا لاعتقاد نقيضه والتصديق به، لا سيما في الأمور الإلهية التي هي غاية مطالب البرية، وهي أفضل العلوم وأعلاها، وأشرفها وأسماها. وهي الغاية التي شمَّر إليها المشمِّرون، وتنافس فيها المتنافسون، وأجرى إليها المتسابقون. فإلى نحوها تمتد الأعناق، وإليها القلوب الصحيحة بالأشواق، فالصادقون فيها أهل الإثبات أئمة الهدى، كإبراهيم خليل الرحمن وأهل بيته، والكاذبون فيها أهل النفي والتعطيل، كفرعون وقومه. وقال تعالى في أئمة الهدى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ (1) أَىمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]. وقال في أئمة الضلال: _________ (1) «ح»: «وجعلناهم». وهذه في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَىمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ اَلْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ اَلصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ اَلزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 72].
(2/743)
{وَجَعَلْنَاهُمْ أَىمَّةً يَدْعُونَ إِلَى اَلنّارِ وَيَوْمَ اَلْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ} [القصص: 41]. فمن لم يكن فيها على طريق أئمة الهُدى كان على طريق أئمة الضلال، إذ كان ثغر قلبه مفتوحًا (1) لهم يلقون فيه أنواع الضلال، ويصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون. ومصداق هذا أن ما وقع في هذه الأمة من البدع والضلال كان من أسبابه التقصير في إظهار السُّنَّة والهُدى، فإن الجهل المركب الذي وقع فيه أهل التعطيل والنفي في توحيد الله وأسمائه وصفاته كان من أعظم أسبابه التقصير في إثبات ما جاء به الرسول عن الله وفي معرفة معاني أسمائه وآياته، حتى إن كثيرًا من المنتسبين إلى السُّنَّة يعتقدون أن طريقة السلف هي الإيمان بألفاظ النصوص والإعراض عن تدبُّر معانيها وفقهها وتعقلها، فلما أفهموا النُّفاة والمعطلة أن هذه طريقة السلف قال من قال منهم: طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم. لأنه اعتقد أن طريقة الخلف متضمنة لطلب معاني نصوص الإثبات، ولنفي حقائقها وظاهرها (2) الذي هو باطل عنده، فكانت متضمنة للعلم والتنزيه، وكان فيها علم بمعقولٍ وتأويل لمنقولٍ، ومذهب السلف عنده عدم النظر في النصوص وفهم المراد منها لتعارض (3) الاحتمالات. وهذا عنده أسلم؛ لأنه إذا كان اللفظ يحتمل عدة معانٍ فحَمْله على بعضها دون بعض مخاطرة، وفي الإعراض عن ذلك سلامة من هذه المخاطرة. _________ (1) «ح»: «مفسوحًا». (2) «ح»: «ظواهرها». (3) «ح»: «التعارض». والمثبت من «درء التعارض» (5/ 378).
(2/744)
فلو تبين لهذا البائس وأمثاله أن طريقة السلف إنما هي إثبات ما دلت عليه النصوص من الصِّفات وفهمُها وتدبُّرها وتعقُّل معانيها وتنزيه الربِّ عن تشبيهه فيها بخلقه، كما ينزهونه عن العيوب والنقائص، وإبطال طريقة النُّفاة المعطلة وبيان مخالفتها لصريح المعقول، كما هي مخالفة لصحيح المنقول = عَلِمَ أن طريقة السلف أعلم وأحكم وأسلم وأهدى [ق 82 ب] إلى الطريق الأقوم، وأنها تتضمن تصديق الرسول فيما أخبر وفَهْم ذلك ومعرفته. ولا يناقض ذلك إلَّا ما هو باطلٌ وكذبٌ وخيالٌ. ومن جعل طريقة السلف عدم العلم بمعاني الكتاب والسُّنَّة، وعدم إثبات ما تضمناه من الصِّفات، فقد أخطأ خطأً فاحشًا على السلف، كما أن من قال على الرسول أنه لم يُبعث بالإثبات وإنما بُعث بالنفي كان من أعظم الناس افتراءً عليه. فهؤلاء المعطلة مفترون على الله ورسوله، وعلى سلف الأمة، وعلى العقول والفِطَر، وما نصبه الله من الأدلة العقلية والبراهين اليقينية. والكذب قرين الشرك، كما قرن الله بينهما في غير موضع كقوله تعالى: {وَاَجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ (28) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج: 28 - 29]. وقال: {إِنَّ اَلَّذِينَ اَتَّخَذُوا اُلْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي اِلْحَيَاةِ اِلدُّنْيا وَكَذَلِكَ نَجْزِي اِلْمُفْتَرِينَ} [الأعراف: 152]. وقال: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَاءِيَ اَلَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ اَلْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [القصص: 74 - 75].
(2/745)
وقوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ اَلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَاَلْإِثْمَ وَاَلْبَغْيَ بِغَيْرِ اِلْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزِلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اَللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 31]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ». مرتين أو ثلاثًا (1). الوجه الخامس والمائة: أن هؤلاء المعارضين للوحي بآرائهم ومعقولاتهم لا يمكنهم أن يقولوا: كل واحد من الدليلين المتعارضين (2) يقيني، وأنهما قد تعارضا على وجهٍ لا يُمكن الجمع بينهما، فإن هذا لا يقوله من يفهم ما يقول. ولكن نهاية ما يقولون أن الأدلة الشرعية لا تفيد اليقين، وأن ما ناقضها من الأدلة البدعية التي يُسمُّونها هم العقليات تُفيد اليقين. فينفون إفادة اليقين عن كلام الله ورسوله، ويثبتونه لما ناقضه من أدلتهم المبتدعة التي يدَّعون أنها براهين قطعية، ولهذا كان لازم قولهم لا محالة _________ (1) أخرجه الإمام أحمد (19200) وأبو داود (3599) والترمذي (2300) وابن ماجه (2372) من طريق محمد بن عبيد، عن سفيان بن زياد العصفري، عن أبيه، عن حبيب بن النعمان، عن خريم بن فاتك - رضي الله عنه - مرفوعًا. وقال العقيلي في «الضعفاء الكبير» (5/ 63): «هذا يروى عن خريم بن فاتك بإسنادٍ صالحٍ». وأخرجه الإمام أحمد (17878، 18329، 19204) والترمذي (2299) وابن قانع في «معجم الصحابة» (1/ 53) من طريق مروان بن معاوية، عن سفيان بن زياد، عن فاتك بن فضالة، عن أيمن بن خريم به. وقال الترمذي: «وهذا حديث غريب إنما نعرفه من حديث سفيان بن زياد، واختلفوا في رواية هذا الحديث عن سفيان بن زياد، ولا نعرف لأيمن بن خريم سماعًا من النبي - صلى الله عليه وسلم -». والحديث ضعَّفه ابن القطان في «بيان الوهم والإيهام» (4/ 548) وابن حجر في «التلخيص الحبير» (6/ 3185)، وينظر «البدر المنير» لابن الملقن (9/ 576 - 578). (2) «ح»: «المعارضين». والمثبت من «درء التعارض» (6/ 3).
(2/746)
الإلحاد والنفاق والإعراض عمَّا جاء به الرسول. وهذه حال الذين ذكرهم الله في قوله: {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ اِلْحَقَّ فَأَخَذتُّهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر: 4]. وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ اَلْإِنسِ وَاَلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ اَلْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 113]. فجنس هؤلاء هم المكذبون للرسل، ولا يُحتج عليهم بما هم مكذبون به، ولا بما يزعمون أن العقل الصريح عارضه. ولكن المقصود تعريف حال هؤلاء، وأن طريقتهم مشتقة من طريقة المكذبين للرسل. وأمَّا طريق الرد عليهم فلأتباع الرسول وأنصاره فيه مسالك: الأول: بيان فساد ما ادعوه معارضًا للنصوص من عقلياتهم. الثاني: بيان [أن] (1) ما جاء به الرسول من الإثبات معلوم بالضرورة من دينه، كما هو معلوم بالأدلة اليقينية، فلا يمكن مع تصديق الرسول مخالفة ذلك. الثالث: بيان أن المعقول الصريح يوافق ما جاء به الرسول، لا يعارضه. وبيان أن ذلك معلومٌ بضرورة العقل تارةً (2)، وبنظره تارةً. وهذا أقطع لحجة المعارضين للوحي؛ فإنهم يدلون بالعقل، والعقل الصحيح من أقوى الأدلة على بطلان قولهم. _________ (1) من «درء التعارض» (6/ 4). (2) في: «ح»: «بشأنه». ولعل المثبت هو الصواب.
(2/747)
الوجه السادس والمائة: أن هذه المعقولات التي عارضوا بها الوحي لها معقولات تعارضها هي أقوى منها، ومقدِّماتها أصح من مقدِّماتها، فيجب تقديمها عليها لو (1) قُدر تعارضهما، ولا يمكن هؤلاء أن يدفعوا كون النصوص من جانب هذه المعقولات. وحينئذٍ فمعقول تشهد له النصوص أولى بالصحة والقبول من معقول تدفعه النصوص. فنحن ندفع معقولاتهم بهذه المعقولات تارةً، وبالنصوص تارةً، وبهما تارةً. ولا يمكنهم القدح في هذه المعقولات إلَّا بمقدمات يردُّها النصُّ وهذا العقل، فكيف ترد هذه المعقولات والنصوص بتلك؟ وهذا قاطع لمن تدبَّره. واعتَبِرْ ذلك بالمعقولات التي أقامها المعطلة على نفي علو الله على خلقه ومباينته للعالم، والمعقولات التي أقامها أهل الإثبات على ضد قولهم، يتبين لك ما بينهما من التفاوت، [ق 83 أ] وتَسْلَم نصوص الوحي عن المعارض. ونحن نعلم أن المعطلة تقدح في مقدمات هذه المعقولات الدالة على الإثبات، ولكن القدح فيها من جنس القدح في الضروريات والبديهيات. ولا ينفعهم كون طائفة من العقلاء منكرين لها، والضروريات لا ينكرها أحدٌ؛ فإن هذا ينتقض عليهم، بكل طائفة من طوائف (2) بني آدم قالوا ما يخالف ضرورة العقل، مع كونهم أكثر من هؤلاء النُّفاة، وكل طائفة تشهد على الأخرى أنها خالفت ضرورة العقل. فيشهد أصحاب العقل والسمع على النفاة أنهم كما خالفوا صحيح (3) النقل خالفوا صريح العقل، _________ (1) «ح»: «ولو». ولعل المثبت هو الصواب. (2) «ح»: «الطوائف». (3) «ح»: «صريح».
(2/748)
وسيشهدون على ذلك: {إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي اِلْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي اِلصُّدُورِ} [العاديات: 9 - 10]. وقال المعارضون للوحي: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ اِلسَّعِيرِ} [الملك: 11]. الوجه السابع والمائة: أن كل عاقلٍ يعلم بالضرورة أن من خاطب الناس في علم من أنواع العلوم من الطب أو الحساب أو النحو أو الهيئة أو غير ذلك بكلامٍ ذكر أنه بيَّن لهم فيه حقيقة ذلك العلم وأوضح مشكلاته وبيَّن غوامضه ولم يُحْوِجهم بعده إلى كتابٍ سواه، ولم يكن في ذلك الكتاب بيان ذلك العلم، ولا معرفة ذلك المطلوب، بل كانت دلالة الكتاب على نقيض ذلك العلم أكمل، وعلى خلافه أدل، أو كان العقل الصريح يدل على خلاف ما دل عليه ذلك الكتاب = كان هذا المصنِّف مفرطًا في الجهل والضلال، أو في المكر والاحتيال (1)، أو في الكذب والمحال. فكيف بكتابٍ لم ينزل من السماء كتابٌ أهدى منه، خضعت له الرِّقاب، وسجدت له عقول ذوي الألباب، وشهدت العقول والفِطَر بأن مثله ليس من كلام البشر، وأن فضله على كل كلامٍ كفضل المتكلم به على الأنام، وأنه نور البصائر من عماها، وجلاء القلوب من صداها، وشفاء الصدور من أدوائها وجواها (2)، فهو حياها الذي به حياها (3)، ونورها الذي انقشعت به عنها ظَلْماها، وغذاؤها الذي به قوام قوتها، ودواؤها الذي به حِفْظ صحتها. وهو _________ (1) «ح»: «الأخبال». (2) الجوى مقصور: كل داءٍ يأخذ في الباطن لا يُستمرأ معه الطعام، وقيل: هو داءٌ يأخذ في الصدر. «لسان العرب» (14/ 158). (3) الحيا الأول بمعنى الغيث، والحيا الثاني بمعنى الخصب.
(2/749)
البرهان الذي زاد على برهان الشمس ضياءً ونورًا، فلو {اِجْتَمَعَتِ اِلْإِنسُ وَاَلْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا اَلْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]. فيه نبأ ما كان قبلنا، وخبر ما يكون بعدنا، وحكم ما بيننا. وهو الجدُّ ليس باللعب، والفصل ليس بالهزل. وهو حبل الله المتين، ونوره المبين، والذِّكر الحكيم، والصِّراط المستقيم، والنبأ العظيم. وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يعوجُّ فيُقوَّم، ولا يزيغ فيتشعَّب. ولا تَخلَق بهجته على كثرة التَّرداد، بل لا يزداد على تتابع التلاوة إلَّا بهجة وطلاوة وحلاوة. من تركه من جبارٍ قصمه الله، ومن ابتغى الهُدى في غيره أضله الله. ومن أعرض عنه أو عارضه بعقله أو رأيه أو سياسته أو خياله فالضلال منتهاه، والنار منقلبه ومثواه، والخذلان قرينه، والشقاء صاحبه وخدينه. مَن قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن حاكم إليه فلج، ومن خاصم به استظهر بأقوى الحُجَج، ومن استنصر به فهو مؤيَّد ومنصور، ومن عدل عنه فهو مخذول ومثبور. فبغاه هؤلاء النُّفاة المعطلة عِوَجًا، وجعلوا دون الاهتداء به بابًا مُرْتَجًا (1)، وعزلوه عن إفادة (2) العلم واليقين، وقالوا: قد عارض ما أثبته العقول والبراهين. وقالوا: لم يدلَّ على الحقِّ في الأمور الإلهية، ولا أفاد علمًا ولا يقينًا في هذه المطالب العلية. بل دلالته ظاهرة في نقيض الصواب، مُفهِمة لنقيض ما يقوله أولو العقول والألباب. فالواجب أن _________ (1) أَرتَجْتُ الباب: أغلقته إغلاقًا وثيقًا. «العين» (6/ 91). (2) «ح»: «الإفادة».
(2/750)
نحترمه (1) بالإمساك والتفويض، أو نُسلط عليه التأويل إن (2) أَفهَمَ الخلاف والضد والنقيض. فإن عجزنا عن ذلك أتينا بالقانون المشهور بيننا والمقبول: أنه إذا تعارض العقل والنقل قدَّمنا المعقول على المنقول. فهذا حقيقة قول هؤلاء النُّفاة المعطلين في كلام ربِّ العالمين وكلام رسوله الأمين. الوجه الثامن والمائة: أن هذا يتضمن الصدَّ عن آيات الله وبغيها عوجًا. وقد ذمَّ الله سبحانه مَن فعل ذلك، وتوعَّده بأليم العقاب؛ فقال: {الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ اَلنَّاسَ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ (1) بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ اِلْعَزِيزِ اِلْحَمِيدِ (2) اِللَّهِ اِلَّذِي لَهُ مَا فِي اِلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي اِلْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (3) اِلَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيا عَلَى اَلْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اِللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} [إبراهيم: 1 - 4]. [ق 83 ب] وقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللَّهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ اُلْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ اِلَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اُللَّهِ عَلَى اَلظَّالِمِينَ (18) اَلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اِللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [هود: 18 - 19]. وهؤلاء المعارضون للوحي بعقولهم جمعوا بين الأمور الثلاثة: الكذب على الله، والصد عن سبيل الله، وبَغْيها عوجًا. أمَّا الكذب على الله فإنهم نفوا عنه ما أثبته لنفسه من صفات الكمال، ووصفوه بما لم يصف به نفسه. وأمَّا صدهم عن سبيله وبغيها عوجًا فإنهم أفهموا الناس بل صرَّحوا لهم _________ (1) «ح»: «نحرمه». (2) «ح»: «وإن».
(2/751)
بأن كلام الله ورسوله ظواهر لفظية لا تُفيد علمًا ولا يقينًا، وأن العقول عارضتها فيجب تقديم العقول عليها. وأيُّ عِوَج أعظم من عوج مخالفة العقل الصريح؟! وقد وصف الله كتابه بأنه غير ذي عوجٍ، ولا ريب أن الله هو الصادق في ذلك، وأنهم هم الكاذبون. فإن قلت: بغى يبغي (1) يتعدى إلى مفعولٍ واحدٍ، فما وجه انتصاب «عِوَجًا»؟ قيل: فيه وجوهٌ: أحدها: أنه نصب على الحال، أي: يطلبونها ذات عوجٍ، لا يطلبونها مستقيمة، والمعنى يطلبون لها العوج (2). الثاني: أن «عوجًا» مفعول «يبغونها» على تقدير حذف اللام، أي: يطلبون لها عوجًا، يرمونها به، ويصفونها به (3). وأحسن منهما أن تُضمَّن «يبغونها» إمَّا معنى يعوجونها، فيكون «عوجًا» منصوبًا على المصدر، ودلَّ فعل البغي على طلب ذلك وابتغائه. وإمَّا معنى يسومونها ويُولونها. وعلى كل تقديرٍ فسبيل الله: هداه وكتابه الهادي للطريق الأقوم والسبيل الأقصد. فمن زعم أن في العقل ما يعارضه فقد بغاه عوجًا، ودعا إلى الصدِّ _________ (1) «ح»: «بغا لهما». (2) وهو قول الزجاج في «معاني القرآن» (3/ 145). (3) ذكر هذين القولين الواحدي في «البسيط» (5/ 456 - 460) ومكي بن أبي طالب في «الهداية» (5/ 3771) وابن عطية في «المحرر الوجيز» (3/ 322).
(2/752)
عنه. ومن له خبرة بالمعقول الصحيح يعلم أن العوج في كلام هؤلاء المُعْوِجين الذين هم عن الصِّراط ناكبون، وعن سبيل الرشد حائدون، وعن آيات الله بعيدون، وبالباطل والقضايا الكاذبة يُصدقون، وفي ضلالهم يعمهون، وفي ريبهم يترددون، وهم للعقل الصريح والسمع الصحيح مخالفون، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي اِلْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (10) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ اُلْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لَّا يَشْعُرُونَ (11) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ اَلنَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ اَلسُّفَهَاءُ اَلَا إِنَّهُمْ هُمُ اُلسُّفَهَاءُ وَلَكِن لَّا يَعْلَمُونَ (12) وَإِذَا لَقُوا اُلَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ (13) اَللَّهُ يَسْتَهْزِيئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:10 - 14]. الوجه التاسع والمائة: أن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم لم يسكتوا عن الكلام في هذا الباب، بل تكلموا فيه بغاية الإثبات المناقض لما عليه الجهمية المعطلة، وعند الجهمية أن الساكت عنه خيرٌ من المتكلم فيه بالإثبات المناقض لتعطيلهم، والمتكلم فيه بالنفي والتعطيل ـ الذي يُسمونه تنزيهًا ـ خيرٌ من الساكت عنه، فجعلوا المتكلم فيه بالإثبات آخر المراتب وأخسها (1). ولا ريب أن هذا يستلزم غاية القدح في الرُّسل والتنقص بهم (2) ونسبتهم إلى القبيح، ووصفهم بخلاف ما وصفهم الله به. ومضمون هذا أنهم لم يهدوا الخلق، ولم يعلموهم الحق، بل لبَّسوا عليهم، ودلسوا، وأضلوهم، _________ (1) «ح»: «وأحسنها». ولعل المثبت هو الصواب. (2) كذا في «ح».
(2/753)
وعرضوهم للجهل المركب، ولو تركوهم في جهلهم البسيط لكان خيرًا لهم، بل تركوهم في حيرة مذبذبين، لا يعرفون الحق من الباطل، ولا الهُدى من الضلال. فعند هؤلاء الضالين كلام الأنبياء لا يشفي عليلًا، ولا يروي غليلًا، ولا يبيِّن الحق من الباطل ولا الهدى من الضلال، بل يكون كلام مَن تَسَفْسَطَ في العقليات وتَقَرْمَطَ في السمعيات (1) ـ وهو كخيط السحار والمشعوذ، يخرجه تارة أحمرَ، وتارة أبيض، وتارة أسود ـ أهدى سبيلًا من نصوص الوحي، فإن نصوص الوحي عند هؤلاء أضلت الخلق وأفسدت عقولهم وعرَّضتهم لاعتقاد الباطل. ومن راعى حرمة النصوص منهم قال: فائدة إنزالها اجتهاد أهل العلم في صرفها عن مقتضاها وحقائقها بالأدلة المعارضة لها، حتى تنال النفوس كد (2) الاجتهاد، وتنهض إلى التفكر [ق 84 أ] والاستدلال بالأدلة العقلية المعارضة لها الموصلة إلى الحق. فحقيقة الأمر عند المعطلة أن الرُّسل خاطبوا الخلق (3) بما لا يُبيِّن الحقَّ، ولا يُنال منه الهدى، بل ظاهره يدل على الباطل، ويُفهم منه الضلال، ليكون انتفاع الخلق بخطاب الرسول اجتهادهم في ردِّ ما أظهرته الرُّسل وأفهمته الخلق، ليصلوا بِرَدِّه إلى معرفة الحق الذي استنبطوه بعقولهم، ولم _________ (1) يعني: سلك مذهب السوفسطائين في العقليات ومذهب القرامطة في السمعيات. (2) «ح»: «كل». والمثبت من «درء التعارض» (5/ 365). والكدُّ: الشدة في العمل وطلب الكسب. «الصحاح» (2/ 530). (3) «ح»: «الحق». والمثبت من «درء التعارض» (5/ 365).
(2/754)
يحتاجوا فيه إلى الرُّسل، بل احتاجوا فيه إلى ردِّ ما جاؤوا به بالقانون العقلي، أو رد معناه بالتأويل اللفظي. وحينئذٍ فنقول في: الوجه العاشر بعد المائة: إن مَثَل ما جاءت به الرُّسل عند النُّفاة والمعطلة مثل من أرسل مع الحاج أدِلَّاء يدلونهم على (1) طريق مكة، وأوصى الأدلاء بأن يخاطبوهم بخطابٍ يدلهم على غير الطريق، ليكون ذلك الخطاب سببًا لنظرهم واستدلالهم حتى يعرفوا الطريق بنظرهم واستدلالهم لا بأولئك الأدلة. وحينئذٍ يردُّون ما فهموا من كلام الأدلة وخطابهم، ويجتهدون في نفي دلالته، وإبطال مفهومه ومقتضاه. ومن المعلوم أن خَلْقًا كثيرًا لا يتبعون إلَّا الأدلاء الذين يدَّعون أنهم أخبر بالطريق منهم، وأن ولاة الأمور قلدوهم دلالة الحاج وتعريفهم الطريق، وأن دَرَكَ (2) ذلك عليهم. والطائفة التي ظنت أن الأدلاء لم [يقصدوا] (3) بكلامهم الدلالة والإرشاد إلى سبيل الرشاد، صار كل منهم يستدل بنظره واجتهاده، فاختلفوا في الطُّرق وتشتتوا، فمنهم من سلك طُرقًا أخرى غير طُرق مكة، فأفضت بهم إلى مفاوزمُعطِشة، وأودية مهلكة، وأرض مَسبَعة (4)، فأهلكتهم. وطائفة أخرى شكُّوا وحاروا، فلا (5) مع الأدلاء سلكوا فأدركوا المقصود، ولا لطُرق المخالفين للأدلاء اتَّبَعُوا؛ بل وقفوا مواقف التائهين _________ (1) «ح»: «يدلون بهم في». والمثبت من «درء التعارض» (5/ 366). (2) الدَّرَك: التَّبِعَة. «الصحاح» (4/ 1582). (3) سقط من «ح»، وأثبته من «درء التعارض» (5/ 366). (4) أرض مَسبَعة بفتح الأول والثالث: كثيرة السِّباع. «المصباح المنير» (1/ 264). (5) «ح»: «ولا». والمثبت من «درء التعارض» (5/ 366).
(2/755)
الحائرين حتى هلكوا في أمكنتهم أيضًا جوعًا وعطشًا، كما هلك أرباب تلك الطُّرق فلم ينجوا من المكروه ولم يظفروا بالمطلوب. وآخرون اختصموا فيما بينهم فصاروا حزبين: حزبًا يقولون: الصواب مع الأدلاء فإنهم أهل هذا الشأن الذي نُصبوا له دون غيرهم. وحزبًا يقولون: بل الصواب مع هؤلاء الذين يقولون إنهم أخبر وأصدق، وكلامهم في الدلالة أبين وأصدق. فاقتتل الفريقان وطال بينهم الخصام والجدال، وانتشر القيل والقال. وشهد آخرون الوقعة فوقفوا بين هؤلاء وهؤلاء، وخذلوا الفريقين ولم يتحيزوا إلى واحدة من الطائفتين، فهلك الحجيج، وكثر الضجيج، وعظم البكاء والنشيج، واضطربت الآراء، وعصفت الأهواء، وصار حالهم كحال قوم سَفْر نزلوا في ليلة ظلماء، فهجم عليهم عدو وهم نيام، فقاموا في ظلمة الليل على وجوههم هاربين لا يهتدون سبيلًا، ولا يتَّبعون دليلًا! وهذا كله إنما نشأ من قول السلطان للأدلاء: خاطبوا الناس بما يدلهم على غير الطريق، ليجتهدوا بعقولهم ونظرهم في معرفة الطريق. فهل يكون مَن فعل هذا بالحجيج قد هداهم السبيل، أو أرشدهم إلى اتِّباع الدليل، أو أراد بهم ما يريده الراعي المشفقُ على رعيته الناصحُ لهم؟ وهل هذا مطابق لقول الدليل: {يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ} [الأعراف: 92] وقوله: {وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اَللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 61] وقوله: {أَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف: 67]؟ فأين النُّصح والأمانة على قول المعطلين النُّفاة؟!
(2/756)
فإذا قال هذا الدليل: إنما قصدت بذلك أن يجتهد الحاج في معرفة الطريق بعقولهم وبحثهم ونظرهم، ولا يستدلوا بكلامي؛ فهل يكون هذا دليلًا أم قاطع طريق؟! فهذا مثال ما يقوله هؤلاء المعطلة النُّفاة في رسل الله، الذين أرسلهم الله سبحانه إلى الخلق ليعلموهم ويهدوهم، ويدعوهم إلى الله وإلى السبيل الموصلة إليه. فجعل هؤلاء المعطلة الجهاد في إفساد سبيل الله جهادًا في سبيله، والاجتهاد في ردِّ ما جاءت به رسله اجتهادًا في الإيمان به، والسعي في إطفاء نور الله سعيًا في إظهار نوره، والحرصَ على ألَّا يُصدق كلامه ولا تُقبل شهادته ولا تُتبع دلالته حرصًا على أن تكون كلمة الحق هي العليا، والمبالغة في طريق أهل الإشراك والتعطيل مبالغةً في طريق التوحيد الموصلة إلى سواء السبيل [ق 84 ب]. فقلبوا الحقائق، وأفسدوا الطرائق، وأضلوا الخلائق، وعطَّلوا الخالق. وإنما يعرف حقيقة هذا المثل ومطابقته للواقع من ضرب في الكتاب والسُّنَّة بسهمٍ (1)، وحصل منهما على نصيبٍ وافرٍ، واطلع على حقيقة أقوال المعطلين النُّفاة في دلائلهم ومسائلهم، ونظر إلى غايتها من خلال كلماتهم. ومن البلية العُظمى أن كثيرًا ممَّن لهم علمٌ وفقهٌ وعبادةٌ وزُهدٌ ولسان صدقٍ في العامة، وقد ضرب في العلم والدِّين بسهمٍ؛ قد التبس عليه كثيرٌ من كلامهم، فقبله معتقدًا أنه حقٌّ، وأن أصحابه محققون! فسمع كلام الله وكلام رسوله وكلام أهل العلم والإيمان، وكلام هؤلاء وغيرهم من أهل الإلحاد، _________ (1) «ح»: «نسبهم». والمثبت هو الصواب.
(2/757)
فيؤمن بهذا وهذا إيمانًا مجملًا، ويُصدِّق الطائفتين، ولا يدخل في تحقيق طريق هؤلاء ولا هؤلاء. فإذا سمع القرآن والحديث قال: هذا كلام الله وكلام رسوله. وإذا سمع كلام الملاحدة والمعطلة الذين حَسُنَ ظنه بهم قال: هذا كلام العارفين المحققين والنُّظارِ أصحاب العقول والبراهين. وإذا سمع كلام الاتحادية الملاحدة الذين هم أكفر طوائف بني آدم قال: هذا كلام أولياء الله أو كلام خاتم الأولياء، ومرتبتنا تقصر عن فهمه، فضلًا عن الاعتراض عليه. وبالجملة فلِرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتباع خاصة وعامة، ولمسيلمة الكذاب أتباع خاصة وعامة، والله تعالى جعل للهدى أئمة وأتباعًا إلى آخر الدهر، وللضلال أئمة وأتباعًا إلى آخر الدهر. الوجه الحادي عشر بعد المائة: أن لوازم هذا القول معلومة البطلان بالضرورة من دين الإسلام، وهي من أعظم الكفر والإلحاد، وبطلان اللازم يستلزم بطلان ملزومه، فإن من لوازمه ألَّا يُستفاد من خبر الرسول عن الله في هذا الباب علمٌ ولا هُدًى ولا بيان للحق في نفسه. ومن لوازمه أن يكون كلامه متضمنًا (1) لضدِّ ذلك، ظاهرُه وحقيقته. ومن لوازمه القدح في علمه ومعرفته، أو في فصاحته وبيانه، أو في نصحه وإرادته، كما تقدم تقريره مرارًا. ومن لوازمه أن يكون المعطلة النُّفاة أعلم بالله منه أو أفصح أو أنصح. ومن لوازمه أن يكون أشرف الكتب وأشرف الرُّسل قد قصَّر في هذا _________ (1) «ح»: «مضمونًا». والمثبت من «م».
(2/758)
الباب غاية التقصير، بل أَفرَطَ في التجسيم والتشبيه غاية الإفراط، وتنوَّع فيه غاية التنوع: فمرةً يقول: أين الله (1)؟ ومرةً يُقرُّ عليها لمن سأله ولا ينكرها (2). ومرةً يشير بإصبعه (3)، ومرةً يضع يده على عينه وأذنه حين يُخبر عن سمع الربِّ وبصره (4). ومرةً يصفه بالنزول (5) والمجيء والإتيان (6) والانطلاق (7) _________ (1) لفظ الجلالة ليس في «ح»، وأثبته من «م». والحديث أخرجه مسلم كما تقدم (ص 124). (2) في حديث أبي رزين العقيلي، تقدم تخريجه (ص 586). (3) في حديث جابر في حجة الوداع، تقدم تخريجه (ص 426). (4) في حديث أبي هريرة، تقدم تخريجه (ص 182 - 183). (5) أحاديث النزول متواترة، وتقدمت الإشارة إليها (ص 177). (6) مجيء الرب سبحانه وإتيانه ثابتان في القرآن الكريم، وقد تقدمت الإشارة إلى الآيات (ص 725). (7) هذا لفظٌ غريبٌ في صفات الله تعالى، وقد جاء في أثر جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: «فتُدعى الأمم بأوثانها وما كانت تعبد، الأول فالأول، ثم يأتينا ربنا بعد ذلك، فيقول: من تنظرون؟ فيقولون: ننظر ربنا. فيقول: أنا ربكم. فيقولون: حتى ننظر إليك. فيتجلى لهم يضحك، قال: فينطلق بهم ويتبعونه ... ». أخرجه مسلم في «صحيحه» (191) هكذا موقوفًا. قال المصنِّف في «اجتماع الجيوش الإسلامية» (1/ 65 - 66): «وتأمل ذكر الانطلاق واتباعه سبحانه بعد هذا وذلك؛ يفتح لك بابًا من أسرار التوحيد وفهم القرآن، ومعاملة الله سبحانه وتعالى لأهل توحيده الذين عبدوه وحدهم ولم يشركوا به شيئًا، هذه المعاملة التي عامل بمقابلها أهل الشرك، حيث ذهبت كل أمةٍ مع معبودها؛ فانطلق بها، واتبعته إلى النار، وانطلق المعبود الحق واتبعه أولياؤه وعابدوه، فسبحان الله رب العالمين الذي قرَّت عيون أهل التوحيد به في الدنيا والآخرة، وفارقوا الناس فيه أحوج ما كانوا إليهم».
(2/759)
والمشي (1) والهرولة (2). ومرةً يُثبت له الوجه والعين واليد والإصبع والقدم والرِّجل، والضَّحك والفرح والرِّضا والغضب، والكلام والتكليم، والنِّداء بالصوت (3) _________ (1) هذا لفظٌ غريبٌ في صفات الله تعالى، وقد جاء في حديث رجلٍ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «قال الله تعالى: يا ابن آدم قم إلي أمش إليك، وامش إلي أهرول إليك». أخرجه الإمام أحمد في «المسند» (16171) وقال المنذري في «الترغيب والترهيب» (4/ 104): «رواه أحمد بإسنادٍ صحيحٍ». وأخرجه مسدد في «مسنده» ـ كما في «المطالب العالية» (3146) ـ موقوفًا. قال ابن حجر: «صحيحٌ موقوفٌ» .. (2) أخرج البخاري (7405) ومسلم (2675) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ هم خير منهم، وإن تقرب مني شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إلي ذراعًا تقربت منه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة». (3) أخرج البخاري في «صحيحه» (4741، 7483) عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يقول الله: يا آدم. فيقول: لبيك وسعديك. فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثًا إلى النار». وأخرج الإمام أحمد في «المسند» (16288) والبخاري في «الأدب المفرد» (970) وفي «خلق أفعال العباد» (480) والحاكم في «المستدرك» (2/ 437، 574) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (600) والضياء في «الأحاديث المختارة» (9/ 25 - 26) وغيرهم عن القاسم بن عبد الواحد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله أنه سمع عبد الله بن أنيس - رضي الله عنه - يقول: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بَعُدَ كما يسمعه من قَرُبَ: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة». وعلَّقه البخاري في «الصحيح» (9/ 141). وقال الحاكم: «حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه». وقال البيهقي: «هذا حديث تفرد به القاسم بن عبد الواحد عن ابن عقيل، وابن عقيل والقاسم بن عبد الواحد بن أيمن المكي لم يحتج بهما الشيخان ـ أبو عبد الله البخاري وأبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري ـ ولم يخرجا هذا الحديث في «الصحيح» بإسناده، وإنما أشار البخاري إليه في ترجمة الباب، واختلف الحفاظ في الاحتجاج بروايات ابن عقيل لسوء حفظه، ولم تثبت صفة الصوت في كلام الله عز وجل أو في حديثٍ صحيحٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير حديثه، وليس بنا ضرورة إلى إثباته». وقد حسَّن الحديث: المنذري في «الترغيب والترهيب» (4/ 404) وابن حجر في «فتح الباري» (1/ 174) وابن ناصر الدِّين في جزءٍ أفرده للكلام على هذا الحديث، وغيرهم.
(2/760)
والمناجاة (1)، ورؤية أهل الجنة له مواجهة عيانًا بالأبصار من فوقهم، ومحاضرته لهم محاضرةً، ورفع الحُجُب بينه وبينهم، وتجليه لهم، واستدعاءهم لزيارته (2)، وسلامه عليهم سلامًا حقيقيًّا قولًا من ربٍّ رحيمٍ، _________ (1) أخرج البخاري (2441) ومسلم (2768) عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله يدني المؤمن، فيضع عليه كنفه ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا، أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب. حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك، قال: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته». (2) أخرجه الترمذي (2549) وابن ماجه (4336) وابن حبان (7438) وغيرهم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - في حديث سوق الجنة. وقال الترمذي: «هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه». وقد اختلف في إسناده، وصوَّب الدارقطني وغيره أنه منقطع. ينظر: «علل الدارقطني» (1348) و «الحنائيات» (19) و «حادي الأرواح» (1/ 571 - 573).
(2/761)
واستماعه وأَذَنه لِحَسَنِ الصوت إذا تلا كلامه (1)، وخلقه ما شاء بيده، وكتابته كلامَه بيده، ويصفه بالإرادة والمشيئة والقوة والقدرة والحياة والحياء، وقبض السماوات وطيها بيده، والأرض بيده الأخرى، ووضعه السماوات على إصبع، والأرض على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر على إصبع. وإلى أضعاف ذلك ممَّا إذا سمعه المعطلة سبَّحوا الله ونزهوه جحودًا وإنكارًا، لا إيمانًا وتصديقًا. فما ضحك منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعجبًا وتصديقًا لقائله (2) يعبس منه هؤلاء إنكارًا وتكذيبًا. وما شهد لقائله بالإيمان، شهد هؤلاء له بالكفر والضلال. وما أوصى بتبليغه إلى الأُمة وإظهاره يُوصي هؤلاء بكتمانه وإخفائه. وما أطلقه على ربِّه لئلا يُطْلَق عليه ضدُّه ونقيضُه، يُطْلِق هؤلاء عليه ضدَّه ونقيضَه؛ لئلا يُطْلَق هو عليه. وما نزَّه ربَّه عنه من العيوب والنقائص، يمسكون عن تنزيهه عنه، وإن اعتقدوا أنه منزَّه عنه، ويبالغون في تنزيهه عمَّا وصف به نفسه. فتراهم يبالغون أعظم المبالغة في تنزيهه عن علوه على خلقه، واستوائه على عرشه، وتكلُّمه بالقرآن حقيقة، وإثبات الوجه واليد والعين له = ما لا يبالغون مثله ولا قريبًا منه في تنزيهه عن الظلم والعبث (3) والفعل (4) _________ (1) أخرج البخاري (5024) ومسلم (792) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا أَذِنَ اللهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ». ومعناه: ما استمع الله لشيء كاستماعه لنبي يتغنى بالقرآن، أي يتلوه يجهر به. «النهاية في غريب الحديث» (1/ 33). (2) في حديث ابن مسعود المتفق عليه، وقد تقدم تخريجه (ص 209). (3) «ح»: «والعيب». والمثبت من «م» (4) «ح»: «والعقل». والمثبت من «م».
(2/762)
لا لحكمة، والتكلم بما ظاهره ضلالٌ ومحالٌ. وتراهم إذا أثبتوا أثبتوا [ق 85 أ] مجملًا لا تعرفه القلوب، ولا تُميِّز بينه وبين العدم. وإذا نفوا نفوا نفيًا مفصَّلًا (1) يتضمن تعطيل ما أثبته الرسول حقيقة. فهذا وأضعافه وأضعاف أضعافه من لوازم قول المعطلة. ومن لوازمه: أن القلوب لا تحبه، ولا تريده، ولا تبتهج به، ولا تشتاق إليه، ولا تلتذ بالنظر إلى وجهه الكريم في دار النعيم، كما صرَّحوا بذلك وقالوا: هذا كله إنما يصح تعلُّقه بالمحدث لا بالقديم. قالوا: وإرادته ومحبته محال، لأن الإرادة إنما تتعلق بالمعدوم لا بالموجود، والمحبة إنما تكون لمناسبة بين المحب والمحبوب، ولا مناسبة بين القديم والمُحْدَث. ومن لوازمه: أعظم العقوق لأبيهم آدم، فإن من خصائصه أن الله خلقه بيده، فقالوا: إنما خلقه بقدرته، فلم يجعلوا له مزية على إبليس في خلقه. ومن لوازمه، بل صرَّحوا به: جحدهم حقيقة خُلَّة إبراهيم، وقالوا: هي حاجته وفاقته وفقره إلى الله. فلم يثبتوا له بذلك مزيةً على أحدٍ من الخلق، إذ كل أحدٍ فقيرٌ إليه في كل نَفَسٍ وطرفة عينٍ. ومن لوازمه، بل صرَّحوا به: أن الله لم يكلم موسى تكليمًا، وإنما خلق كلامًا في الهواء أسمعه إياه فكلمه في الريح، لا أنه أسمعه كلامه الذي هو صفة من صفاته قائم بذاته، لا يُصدِّق الجهمي بهذا أبدًا. ومن لوازمه، بل صرَّحوا به: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يعرج به إلى الله حقيقةً، _________ (1) «ح»: «مفصلًا نفيًا». والمثبت من «م».
(2/763)
ولم يَدْنُ من ربه حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، ولم يرفع من عند موسى إلى عند ربه مرارًا يسأل التخفيف لأمته؛ فإن «من» و «إلى» عندهم في حق الله محال فإنها تستلزم المكان ابتداءً وانتهاءً. ومن لوازمه: أن الله سبحانه لم يفعل شيئًا، ولا يفعل شيئًا البتةَ، فإن الفعل (1) عندهم عين المفعول، وهو غير قائم بالرب تعالى، فلم يقم به عندهم فعل أصلًا، وسَمَّوْه فاعلًا من غير فعلٍ يقوم به، كما سَمَّوْه مريدًا من غير إرادة تقوم به، وسَمَّوْه متكلمًا من غير كلامٍ يقوم به، وسمَّاه زعيمهم ـ المستأخر عند الله وعند عباده ـ عالمًا من غير علمٍ يقوم به؛ حيث قال: العلم هو المعلوم، كما قالوا: الفعل هو المفعول. ومن لوازمه أنه لا يسمع ولا يبصر، ولا يرضى ولا يغضب، ولا يحب ولا يبغض؛ فإن ذلك من مقولة «أن ينفعل»، وهذه المقولة لا تتعلق به، وهي في حقِّه محال؛ كما نفوا علوه على خلقه واستواءه على عرشه بكون ذلك من «مقولة الأين» وهي عليه محال، ونفوا كلامه وحياته وقدرته ومشيئته وإرادته وسائر صفاته لأنها من «مقولة العرض» وهي ممتنعة عليه؛ كما نفوا استواءه على عرشه لأنه من «مقولة الوضع» المستحيل ثبوتها له. ولوازم قولهم أضعاف أضعاف ما ذكرناه، وإنما أشرنا إلى بعضها إشارةً يتفطن بها اللبيب لما وراءها، وبالله التوفيق. الوجه الثاني عشر بعد المائة: أن الرسول إذا لم يُبيِّن للناس أصول إيمانهم ولا عرَّفهم علمًا يهتدون به في أعظم أمور الدِّين، وأصل مقاصد _________ (1) «ح»: «العقل». والمثبت من «م».
(2/764)
الدعوة النبوية، وأجلِّ ما خلق الخلق له، وأفضل ما أدركوه وحصلوه وظفروا به، وهو معرفة الله ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله وما يجب له ويمتنع عليه، بل إنما بيَّن لهم الأمور العملية، كانت رسالته مقصورة (1) على أدنى المقصودَينِ، فإن الرِّسالة لها مقصودان عظيمان: أحدهما: تعريف العباد ربهم ومعبودهم بما هو عليه من الأسماء والصفات. والثاني: محبته وطاعته والتقرب إليه. فإذا لم يكن الرسول قد بيَّن للأمة أجلَّ المقصودَينِ وأفضلهما كانت رسالته قاصرة جدًّا، فكيف إذا أخبرهم فيه بما تحيله عقولهم وأذهانهم. وإذا كان النُّفاة المعطلة قد بيَّنوا ذلك بيانًا مُفصَّلًا يجب على كل أحدٍ اعتقاده، فحينئذٍ ما أتوا به أفضل ممَّا (2) جاء به الرسول في القسمين، فإن النفي عندهم هو الحق، والإثبات باطلٌ. فما جاؤوا به من ذلك خيرٌ عندهم ممَّا جاء به الرسول من هذا الوجه، ومن جهة أن العلم أشرف من العمل. ومن المعلوم أن النُّفاة المعطلة ليس فيهم أحدٌ من أئمة الإسلام ومَنْ لهم في الأمة لسان صدقٍ، وإنما أئمتهم الكبار: القرامطة والباطنية والإسماعيلية والنُّصيرية، وأمثالهم من ملاحدة الفلاسفة كابن سينا والفارابي وأمثالهما، وملاحدةِ المتصوفة القائلين بوحدة الوجود، كابن سبعين وصاحب «الفصوص» وصاحب «نظم السلوك» (3) وأمثالهم. ثم من أئمتهم من هو أمثل من هؤلاء كأئمة الجهمية، كالجهم [ق 85 ب] بن صفوان والجعد بن درهم _________ (1) «ح»: «مقصودة». (2) «ح»: «كما». والمثبت هو الصواب. (3) هو ابن الفارض، وقد تقدم (ص 705 - 706) الكلام على «نظم السلوك».
(2/765)
وأبي الهذيل العلاف وإبراهيم النظَّام وبشر المَرِيسي وثمامة بن أشرس، وأمثال هؤلاء ممَّن هم من أجهل الخلق بما بعث الله به رسوله. فيا للعقول! ويا للعجب! أيكون ما أتى به هؤلاء من التعطيل والنفي أكمل ممَّا أتى به موسى بن عمران ومحمد بن عبد الله خاتم الرُّسل وإخوانهما من المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم؟! فإن الرسل عند النُّفاة لم يُبيِّنوا أفضل العلم والمعرفة، وإنما هم الذين بيَّنوا ذلك ودلائله تأصيلًا وتفصيلًا، وقد صرَّح ملاحدة هؤلاء بأن الرُّسل راموا إفادة ما بيَّنوا (1) هؤلاء الملاحدة، كما قال ابن سبعين في خطبة كتابه: «أمَّا بعد: فإني قد عزمت على إفشاء السِّرِّ (2) الذي رمز إليه هرامس (3) الدُّهور الأولية، ورامت (4) إفادته الهداية النبوية» (5). ويقول صاحب «الفصوص»: «إن الرُّسل يستفيدون معرفة ذلك من مشكاة خاتم الأولياء، وأن هذا الخاتم يأخذ العلم من المعدن الذي يأخذ منه المَلَك الذي يُوحي به إلى الرسول» (6). _________ (1) كذا في «ح» على لغة أكلوني البراغيث. (2) «بد العارف»: «الحكمة». (3) «بد العارف»: «هرامسة». والهرامسة: ثلاثة من الحكماء، يزعمون أن أولهم نبي الله إدرس عليه السلام، ويلقبونه هرمس الهرامسة. ينظر «إخبار العلماء» للقفطي (ص 8، 259). (4) «بد العارف»: «والحقائق التي رامت». (5) «بد العارف» (ص 29). (6) «فصوص الحكم» (1/ 62 - 63).
(2/766)
فهو أعلى إسنادًا من الرسول، وأقرب تلقيًا على قوله. وطائفة من الفلاسفة تقول: «إن الفيلسوف أفضل من النبي وأكمل منه» بناءً على هذا الأصل الملعون، ومن لم يصل إلى هذا ـ الذي هو غاية تحقيقهم ـ من أهل التعطيل والتجهيم ومبتدعة المتصوفين فقد شاركهم في الأصل، وقاسمهم في الربح والثمرة، والله الموفق. الوجه الثالث عشر بعد المائة: أن أقوال هؤلاء النُّفاة المعطلة متناقضةٌ مختلفةٌ، وذلك يدل على بطلانها وأنها ليست من عند الله. وما جاء به الرسول متسقٌ متفقٌ، يُصدِّق بعضه بعضًا، ويوافق بعضه بعضًا. وهذا يدل على أنه حقٌّ في نفسه، قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اِللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 81]. وأنت إذا تأمَّلت مقالات القوم ومعقولاتهم وجدتها أعظم شيءٍ تناقضًا، ولا تجد أحدًا من فضلائهم ورؤسائهم أصلًا إلَّا وهو يقول الشيء ويقول ما يخالفه ويناقضه تارةً في المسألة الواحدة، وتارةً يقول القول ثم ينقضه في مسألة أخرى من ذلك الكتاب بعينه، وأمَّا قوله الشيء وقول نقيضه في الكتاب الآخر، فمن له فهمٌ واطلاعٌ على كتب القوم يعلم ذلك. وأمَّا الجاهل المقلد فلا تعبأ به، ولا يسوءك سبُّه وتكفيره وتضليله، فإنه كنباح الكلب، فلا تجعل للكلب عندك قدرًا أن ترد عليه كلما نبح عليك، ودعه يفرح بنباحه، وافرح أنت بما فَضُلْتَ به عليه من العلم والإيمان والهُدى، واجعل الإعراض عنه من بعض شكر نعمة الله التي ساقها إليك وأنعم بها عليك.
(2/767)
ولولا خشية الإطالة لذكرنا في هذا الموضع من تناقضهم في مسائلهم ودلائلهم في كل مسألةٍ ما يتعجب منه العاقل، ويتنبه به الغافل. وأمَّا مناقضة بعضهم بعضًا ومعارضة بعضهم بعضًا في الأدلة والأحكام فأمر لا خفاء به. فالواحد منهم متناقض مع نفسه، وأصحابه متناقضون فيما بينهم، وهم وخصومهم في هذا الباب أشد تناقضًا، ومناقضتهم (1) لنصوص الوحي معلومة، وهم متناقضون لما تعلم صحته بصريح العقل، فهم في {ظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراهَا} ولكن لا يرى هذه الظلمات إلَّا من هو في نور السمع والعقل {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اِللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} [النور: 39]. الوجه الرابع عشر بعد المائة: أن هؤلاء المعارضين بين الوحي والعقل يستلزم قولهم ثلاث مقدِّمات تناقض دعواهم غاية المناقضة: المقدمة الأولى: ثبوت الرِّسالة في نفس الأمر على قاعدة أهل الملل (2)، وأن الرسول جاء من عند الله برسالةٍ ليس مقدورًا لبشرٍ نيلها باكتساب ولا رياضة ولا صناعة من الصنائع. الثانية: أنه جاء بهذا الكلام الذي ادعوا أن العقل عارضه. الثالثة: أنه أراد به حقيقته وظاهره. فلا تتم دعوى المعارضة إلَّا بهذه الأمور، وحينئذٍ فإمَّا أن يقر المعارض _________ (1) «ح»: «مناقضا ومناقضة». (2) «ح»: «الملك».
(2/768)
بها أو ينكرها، فإن أقر بها ثم ادعى المعارضة كان قوله في غاية القدح (1) في المرسل والرسول. وإن أنكرها كان الكلام معه في أصل ثبوت الرسالة، واحتج عليه بما يُحتج على منكري النبوات. وإن أقر بالنبوة على طريقة ملاحدة الفلاسفة ومن سلك سبيلهم [ق 86 أ] أنها مكتسبة، وأن خاصة النبي قوة ينال بها العلم، وقوة يتصرف بها في العالم، وقوة يتصرف فيها في المعقولات فيشكلها في نفسه خيالات تُرى وتُسمع، وهي المسماة بالملائكة، كما يقوله شيوخ هؤلاء كابن سينا وأتباعه، ولم يمكنه أن يجزم بأن النبي عالمٌ بما يقول، معصومٌ عن الخطأ فيه، فكيف وهو يقول: إن النبي قد يقول ما يعلم خلافه = فهو لا يستفيد بخبر النبي حقًّا البتةَ، فكيف يتكلم في المعارضة التي هي فرع الاعتراف بصحة الدليل ولكن قد عارضه غيره (2). فيكون مقام هذا مقام منع لا مقام معارضة، فإما أن يمنع كون النبي عالمًا بما يقول، أو كونه جازمًا معصومًا فيه، أو كونه جاء بذلك، أو كونه أراد به خلاف ما دلَّ العقل بزعمه عليه؛ وإلَّا فمع إقراره بذلك تستحيل المعارضة؛ إذ (3) ترجع حقيقتها إلى أن ما جاء به حقٌّ وأنه باطلٌ، وهذا جمع بين النقيضين. فثبت أن هذه الطريقة طريقة ممانَعة (4)، لا طريقة معارضة، وأن دعوى المعارض تستلزم الجمع بين النقيضين. فمن لم يعلم أن الرسول _________ (1) «ح»: «غاية وحالة القدح». والكلمة الثانية زائدة أو محرفة. (2) جملة «ولكن قد عارضه غيره» إما أنها مقحمة أو وقع فيها سقط أو تحريف. (3) «ح»: «أن». ولعل المثبت هو الصواب. (4) «ح»: «مانعة». ولعل المثبت هو الصواب.
(2/769)
معصومٌ صادقٌ فيما يُخبر به كيف تمكنه المعارضة، ومن لم يعلم أنه جاء بكذا لم تمكنه المعارضة، ومن لم يعلم أنه أراده بكلامه لم تمكنه المعارضة، ومن علم هذه الأمور الثلاثة وأقر (1) بها لم يمكنه المعارضة. فبطلت دعوى المعارضة على التقريرين، وبالله التوفيق. الوجه الخامس عشر بعد المائة: أن من عرف بطلان هذه المعقولات التي يُعارض هؤلاء بها السمع امتنع عنده أن يحصل بها المعارضة لامتناع ثبوت المعارضة بين الحق والباطل، ومن اعتقد صحتها فاعتقاد صحتها عنده ملزومٌ لبطلان السمع، فيلزم من صحتها بطلانه، وتمتنع المعارضة أيضًا، فالمعارضة ممتنعة على تقدير صحتها وفسادها. الوجه السادس عشر بعد المائة: أن تجويز التعارض بين السمع والعقل والإيمان بالله ورسوله لا يمكن اجتماعهما البتةَ، فإن صَحَّتِ المعارضة امتنع الإيمان، وإن صحَّ الإيمان امتنعت المعارضة. فإن الإيمان مبناه على أن الرسول صادقٌ فيما يُخبِر به عن الله، معصومٌ في خبره، وعلى أنه جاء بهذا الكتاب، وعلى أنه أراد من الأُمة أن يثبتوا حقائقه ويفهموه ويتدبروه، ولا ينفوا حقائق ما أخبر به، ويُقِرُّوا بلفظه، فلا يمكن وجود الإيمان بالرسول إلَّا بهذه الأصول الثلاثة. فإذا جوَّزنا معارضة العقل الصريح لما جاء به لزم القدح والطعن فيها أو في بعضها، والطعن في الأمرين الأولين مناقضٌ للإيمان بالذات، والطعن في الثالث يستلزم الطعن فيهما؛ إذ غايته الاعتراف بأنه جاء بهذه الألفاظ ولم _________ (1) «ح»: «استقر». ولعل المثبت هو الصواب.
(2/770)
يجئ بحقائقها ومعانيها، وهذا جحدٌ لما أُرسل به حقيقةً. فثبت أن الإيمان وهذه المعارضة لا يجتمعان أبدًا. ويوضحه: الوجه السابع عشر بعد المائة: وهو أن يقال لهؤلاء المعارضين للوحي بآرائهم: إمَّا أن تردوا هذه النصوص وتكذبوها، وإمَّا أن تصدقوها وتقبلوها. والأول إلحادٌ وكفرٌ ظاهرٌ. وإن قبلتموها فإمَّا أن تعتقدوا أن الرسول أراد حقائقها ومعانيها المفهومة منها أو لا، فإن اعتقدتم أنه أراد حقائقها فإمَّا أن تعتقدوا ثبوت تلك الحقائق في نفس الأمر أو انتفاءها أو تشكون في الأمر، ولا ريب أنه مع اعتقاد ثبوت تلك الحقائق تمتنع المعارضة، وأنه مع الشك تمتنع المعارضة. فلا تمكن المعارضة إلَّا على تقدير العلم بانتفاء تلك الحقائق في نفس الأمر، وحينئذٍ فإذا أراد إفهامها فقد أراد إفهام خلاف الحقِّ، فإمَّا أن توافقوه في مراده وتمنعوا تأويلها بما يخالف حقائقها لأنه مناقضة لمراده، وإمَّا أن توجبوا تأويلها بما يخرجها عن حقائقها ومعانيها المفهومة منها. والأول يستلزم الإقرار على الباطل، وإفهام أقبح الكذب، وهو الكذب على الله وأسمائه وصفاته، وهذا يرجع على أصل الرسالة ومقصودها (1) بالإبطال، فلم يبق إلَّا التأويل. ولا يمكنكم سلوك طريقه؛ لأنكم تناقضون فيه أقبح التناقض، فإنكم إمَّا أن تتأولوا الجميع، وليس في المنتسبين إلى القبلة من يجوِّز ذلك ولا يمكنه، وإمَّا أن تتأولوا البعض دون البعض، فيقال لكم: ما الفرق بين ما جوَّزتم تأويله فصرفتموه عن حقيقته ومعناه الظاهر منه _________ (1) «ومقصود لها». ولعل المثبت هو الصواب.
(2/771)
وبين ما أقررتموه على حقيقته؟ فإن قلتم ما يقوله جمهوركم: إن ما عارضه عقليٌّ قاطعٌ تأولناه، وما لم يعارضه عقليٌّ قاطعٌ أقررناه. قيل لكم: فحينئذٍ لا يمكنكم نفي التأويل عن شيءٍ، [ق 86 ب] فإنكم لا يمكنكم نفي جميع المعارضات العقلية ـ كما تقدم ـ؛ إذ غاية ما معكم نفي العلم بها، وعدم العلم لا يستلزم عدم المعلوم. وأيضًا فمعقولات الناس ليست على حدٍّ واحدٍ، فهب أن معقولاتكم ليست تعارض ما أقررتموه فقد ادَّعى غيركم أن معقولاته تعارضها، وبيَّن تلك المعارضة بمقدمات أقوى من مقدماتكم التي عارضتم بها ما تأولتموه ومثلِها. وأيضًا فعدم العلم بالمعارض العقلي القطعي لا يوجب الجزم بمدلول الدليل السمعي، فإنكم إذا جوَّزتم على الرسول أن يقول قولًا له معنًى وهو لا يريده ـ لأن في العقليات الدقيقة التي لا تخطر ببال أكثر الناس أو لا تخطر ببال الخلق في قرونٍ كثيرةٍ ما يخالف ذلك ـ جاز أن يريد بما أقررتموه ما يخالف مقتضاه، وعدم العلم بما يعارضه من العقليات لا يستلزم عدم المعارض في نفس الأمر، وهذا ممَّا لا جواب لكم عنه. فإن قلتم: نتأول ما [لا] (1) يُعلم بالاضطرار أنه جاء به وأراده، وما عُلم بالاضطرار أنه جاء به وأراد معناه أقررناه. قيل لكم: فخصومكم من أهل الباطل يقولون لكم فيما أقررتموه: نحن لم نعلم أنه جاء بهذا ولا أراد معناه، كما قلتم أنتم فيما تأولتموه سواء. _________ (1) سقط من «ح».
(2/772)
فدعواكم من جنس دعواهم، لا فرق بينهما، فما الذي جعل قولكم أولى بالصواب من قولهم؟ وأتباع الرسول وحزبه العالمون بما جاء به ـ الذين هم خاصته ـ يعلمون بالاضطرار من دينه أنه جاء بما يخالف تأويلاتكم وتأويلات إخوانكم، ويعلمون بالضرورة أنها مناقضةٌ لما جاء به مناقضةً ظاهرةً، ولا يدَّعون عليكم أنكم تعلمون ذلك؛ فإنكم لا علم لكم بما جاء به، وأنتم من أبعد الناس عنه. فإذا قلتم: لا نعلم أنه جاء به صدَّقوكم في ذلك، ولكن جهلكم بما جاء به وإعراضكم عنه، لا يوجب مشاركتهم لكم في هذا الجهل. فالمثبتون لعلوِّ الله على خلقه، واستوائه على عرشه، وتكلمه بالقرآن حقيقة، وتكليمه لعبده موسى حقيقة منه إليه بلا واسطةٍ كلامًا أسمعه إياه، وتكليمه عباده في الآخرة، وتكليمه ملائكته، وإثبات صفاته، ورؤية المؤمنين له في الجنة من فوقهم عيانًا جهرة بأبصارهم = يعلمون أن نبيَّهم جاء بذلك ضرورةً، كما أنه جاء بالوضوء والغسل من الجنابة والصلاة وصوم رمضان والحج والزكاة وتحريم الظلم والفواحش، فكيف تنكرون ذلك لعدم علمكم؟ ولما علم أئمة هؤلاء وفضلاؤهم أن هذا لازم لا محالة صرحوا بأنه لا يُستفاد من السمعيات علمٌ ولا يقينٌ؛ إذ هي موقوفة على أمور عشرة، ومنها نفي المعارض العقلي، ولا سبيل إلى العلم بانتفائه، وهذا أتم ما يكون من عزل الرسول عن موجب رسالته، وبالله التوفيق. الوجه الثامن عشر بعد المائة: أن هؤلاء المُعرِضين عن الأدلة السمعية المعارضين لها إذا فعلوا ذلك لم يبق لهم إلَّا طريقان: إمَّا طريق النظار وهي
(2/773)
الأدلة القياسية العقلية، وإمَّا طريق الكشف وما يدرك بالرياضة وصفاء الباطن. وكل من هاتين الطريقتين باطِلُه أضعاف حقِّه، وفيها من التناقض والاضطراب والفساد ما لا يُحصيه إلَّا رب العباد. ولهذا تجد غاية من سلك الطريق الأولى الحيرة والشك، وغاية من سلك الطريق الثانية الشطح. فغاية أولئك عدم التصديق بالحق، وغاية هؤلاء التصديق بالباطل. وحال أولئك تشبه حال المغضوب عليهم، وحال هؤلاء (1) تشبه حال الضالين. ونهاية أولئك التعطيل والنفي، ونهاية هؤلاء الإلحاد والقول بالوحدة والاتحاد. ولهذا لمَّا وصل حُذَّاقهم في طريقة النظر إلى آخرها ورأوا غوائلها وآفاتها ورأوها لا توصل إلى المطلوب الصحيح رجعوا إلى طريقة الوحي والآثار النبوية، كما صرَّح به الرازي (2) وابن أبي الحديد (3) وأبو حامد (4) وأبو المعالي (5) وغيرهم، واعترفوا في آخر الأمر بأن الطرق كلَّها مسدودة إلَّا طريقة الوحي والأثر. الوجه التاسع عشر بعد المائة: أن يقال لمن جوَّز مجيء الرسول بما يخالف صريح العقل: ما تقول إذا سمعت كلامه قبل أن تعلم هل في العقل ما يخالفه أم لا؟ هل تبادر إلى ردِّه وإنكاره؟ أم إلى قبوله واعتقاده؟ أم تتوقف _________ (1) «ح»: «أولئك». (2) تقدم (ص 17) قوله. (3) تقدم (ص 371) قوله. (4) تقدم (ص 17) قوله. (5) تقدم (ص 17) قوله.
(2/774)
فيه ولا تصدقه ولا تكذبه ولا تقبله ولا ترده؟ أم تعلق تصديقه والإقرار به على الشرط، وتقول: أنا أعتقد موجبه إن لم يكن في العقل ما يرده؟ فلا بد لك من واحد من هذه الأمور الأربعة، فالأول والثالث والرابع مناقضٌ للإيمان بالرسول مناقضةً صريحةً، [ق 87 أ] والثاني (1) لا سبيل لك إليه؛ لأنك قد جوَّزت أن يكون في صريح العقل ما يناقض ما أخبر به، فكيف تجزم مع ذلك بصحته! فالقسم الإيماني قد سددتَ طريقه على نفسك، والأقسام الثلاثة مستلزمة لعدم الإيمان. وهذا إنما نشأ من تجويز أن يكون في العقل الصريح ما يناقض ما أخبر به. يوضحه: الوجه العشرون بعد المائة: أن كل من لم يُقرَّ بما جاء به الرسول إلَّا بعد أن يقوم على صحته عنده دليلٌ منفصلٌ من عقلٍ أو كشفٍ أو منامٍ أو إلهامٍ لم يكن مؤمنًا به قطًعا، وكان من جنس الذين قال الله فيهم: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اُللَّهِ} [الأنعام: 125] بل قد يكون هؤلاء خيرًا منهم من وجهٍ، فإنهم علقوا الإيمان بأن يُؤتَوا سمعًا مثل ما أوتيه الرُّسل، وهؤلاء علَّقوا الإيمان على قيام دليلٍ عقليٍّ على صحة ما أخبروا به، وإذا كان مَن فعل هذا ليس بمؤمنٍ بالرُّسل، فكيف من عارض ما جاؤوا به بمعقوله ثم قدَّمه عليه؟! الوجه الحادي والعشرون بعد المائة: أن حال هؤلاء المعارضين بين الوحي والعقل ضدُّ حال أهل الإيمان من كل وجهٍ، فإن الله سبحانه أخبر عن أهل الإيمان بأنهم كلما سمعوا نصوص الوحي زادتهم إيمانًا وفرحًا _________ (1) «ح»: «الثانية».
(2/775)
واستبشارًا، وأن الذين في قلوبهم مرضٌ وريبٌ يزيدهم رجسًا إلى رجسهم، ويودون أنها لم تنزل. قال الله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَت سُّورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (125) وَأَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 125 - 126]. وإذا أردت أن تعرف حقيقة الحال فانظر إلى وجوه القوم وشمائلهم عند استماع آيات الصِّفات وأخبارها، كيف تجدهم ورثة الذين قال الله فيهم: {وَإِذَا مَا أُنزِلَت سُّورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَراكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ اَنصَرَفُوا صَرَفَ اَللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 128]. وقال تعالى: {وَاَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اُلْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} [الرعد: 37]. وهؤلاء يسوءهم ما يخالف قواعدهم الباطلة ممَّا أنزل إليه. وقال تعالى: {إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات: 15]. وهؤلاء في أعظم الريب في أشرف ما جاء به الرسول. ومن جوَّز أن يكون فيما أخبر به ما يُعارضه صريح المعقول لم يزل في ريبٍ من ثبوت ما أخبر به، ولا يزال بنيانهم (1) لتلك القواعد التي بنوها ممَّا يُعارض ما جاء به الرسول {رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَن تُقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 111]. وقال تعالى: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ اَلْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا اُلْأَلْبَابِ} [الرعد: 21]. وهؤلاء يرون أن أشرف ما أُنزل إليه _________ (1) «ح»: «بنيانه».
(2/776)
يخالفه صريح العقل. وقال تعالى: {وَيَرَى اَلَّذِينَ أُوتُوا اُلْعِلْمَ اَلَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ اَلْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ اِلْعَزِيزِ اِلْحَمِيدِ} [سبأ: 6]. وهؤلاء يرون أن أشرف ما أنزل إليه وأجلَّه يخالف المعقول (1) ويهدي إلى التشبيه والتجسيم والضلال. الوجه الثاني والعشرون بعد المائة: أن هؤلاء المعارضين للوحي بآرائهم جعلوا كلام الله ورسوله من الطرق الضعيفة المزيفة التي لا يتمسك فيها في العلم واليقين. ولعلك تقول إنا حكينا ذلك عنهم بلازم قولهم، فاسمع حكاية ألفاظهم. قال الرازي في «نهايته» (2): «فصل في تزييف الطُّرق الضعيفة وهي أربع ... »، فذكر نفي الشيء لانتفاء دليله، وذكر القياس، وذكر الإلزامات، ثم قال (3): «والرابع هو التمسك بالسمعيات». وهذا تصريحٌ بأن التمسك بكلام الله ورسوله من الطرق الضعيفة المزيفة، وأخذ في تقرير ذلك فقال (4): «المطالب على أقسام ثلاثة: منها: ما يستحيل [حصول] (5) العلم بها بواسطة السمع، ومنها: ما يستحيل [حصول] (6) العلم بها إلَّا من السمع، ومنها: ما يصح حصول العلم بها من السمع تارةً، ومن العقل أخرى». _________ (1) «ح»: «للمعقول». (2) «نهاية العقول» (1/ 124 - 142) مطولًا جدًّا. (3) «نهاية العقول» (1/ 142). (4) «نهاية العقول» (1/ 142). (5) من «نهاية العقول». (6) من «نهاية العقول».
(2/777)
قال (1): «أمَّا القسم الأول فكل ما يتوقف العلم بصحة السمع على العلم بصحته استحال تصحيحه بالسمع، مثل العلم بوجود الصانع، وكونه مختارًا وعالمًا بكل المعلومات، وصِدقِ الرسول». قال (2): «وأمَّا القسم الثاني فهو ترجح أحد طرفي الممكن على الآخر، إذا لم يجده الإنسان من نفسه ولا يدركه بشيءٍ من حواسه، فإن حصول (3) غراب على قُلَّة (4) جبل قاف (5) إذا كان جائز الوجود والعدم مطلقًا، وليس هناك ما يقتضي وجوب أحد طرفيه أصلًا، وهو غائب (6) عن الحسِّ والنفس، استحال العلم بوجوده إلَّا من قول [ق 87 ب] الصادق. وأمَّا القسم الثالث: وهو معرفة وجوب الواجبات، وإمكان الممكنات، أو استحالة المستحيلات، التي لا يتوقف العلم بصحة السمع على العلم بوجوبها وإمكانها واستحالتها، مثل مسألة الرُّؤية والصفات والوحدانية وغيرها ... » ثم عدَّد أمثلة (7). _________ (1) «نهاية العقول» (1/ 142). (2) «نهاية العقول» (1/ 142 - 143). (3) كذا في «ح»، «م». وفي «نهاية العقول»: «جلوس». (4) القلة: أعلى الجبل. «الصحاح» (5/ 1804). (5) جبل قاف ذكر بعض المفسرين وغيرهم أنه جبل محيط بالأرض، قال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» (7/ 394): «وكأن هذا ـ والله أعلم ـ من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعض الناس، لما رأى من جواز الرواية عنهم فيما لا يُصدق ولا يُكذب، وعندي أن هذا وأمثاله وأشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم، يُلبِّسون به على الناس أمر دينهم». (6) «ح»: «غرائب». والمثبت من «م» و «نهاية العقول». (7) كذا في «ح»، «م». وليس في «نهاية العقول» بعده أي أمثلة، وكأن المصنِّف أخذه مما فهمه من كلام شيخه ابن تيمية، فإنه عقب في «درء التعارض» (5/ 330) على كلام الرازي هذا بقوله: «قلت: ليس المقصود هنا استيفاء الكلام فيما ذكره من الأمثال». ففهم أنه عدد بعده أمثلة، والله أعلم.
(2/778)
ثم قال (1): «إذا عرفت ذلك فنقول: أمَّا أن الأدلة السمعية لا يجوز استعمالها في الأصول في القسم الأول فهو ظاهر وإلا وقع الدور (2). وأمَّا أنه يجب استعمالها في القسم الثاني فهو ظاهر كما سلف. وأمَّا القسم الثالث ففي جواز استعمال الأدلة السمعية فيه إشكال، وذلك لأنَّا لو قدرنا قيام الدليل القاطع العقلي على خلاف ما أشعر به ظاهر الدليل السمعي، فلا خلاف بين أهل التحقيق بأنه يجب تأويل الدليل السمعي؛ لأنه إذا لم يمكن الجمع بين ظاهر النقل وبين مقتضى الدليل العقلي فإما أن نكذب بالعقل، وإمَّا أن يُؤول النقل، فإن كذبنا العقل مع أن النقل لا يمكن إثباته إلَّا بالعقل فإن الطريق إلى إثبات الصانع ومعرفة النبوة ليس إلَّا العقل، فحينئذٍ تكون صحة النقل متفرعة على ما يجوز فساده وبطلانه، فإذًا لا يكون النقل (3) مقطوع الصحة. فإذًا تصحيح النقل بردِّ العقل يتضمن القدح في النقل، وما أدى ثبوته إلى انتفائه كان باطلًا، وتعين تأويل النقل. فإذًا الدليل السمعي لا يفيد اليقين بوجود مدلوله إلَّا بشرط ألَّا يوجد دليل عقلي على خلاف ظاهره، فحينئذٍ لا يكون الدليل النقلي مفيدًا للمطلوب إلَّا إذا أثبتنا أنه ليس في العقل ما _________ (1) «نهاية العقول» (1/ 143 - 145). (2) الدور: هو توقف الشيء على ما يتوقف عليه. «التعريفات» (ص 47). وقيل: هو علاقة بين شرطين يتوقف ثبوت أحدهما على ثبوت الآخر. «المعجم الفلسفي» (1/ 567). (3) «ح»، «م»: «العقل». والمثبت من «نهاية العقول».
(2/779)
يقتضي خلاف ظاهره. ولا طريق لنا إلى إثبات ذلك إلَّا من وجهين: إمَّا أن نقيم دلالة عقلية على صحة ما أشعر به ظاهر الدليل النقلي، وحينئذٍ يصير الاستدلال بالنقل فضلًا غير محتاج إليه. وإمَّا بأن نزيف أدلة المنكرين لما دلَّ عليه ظاهر النقل، وذلك ضعيفٌ لما بيَّنا من أنه لا يلزم من فساد ما ذكروه ألَّا يكون هناك معارض أصلًا، إلَّا أن نقول: إنه لا دليل على هذه المعارضات فوجب نفيه (1)، ولكنا زيَّفنا هذه الطريقة ـ يعني: انتفاء الشيء لانتفاء دليله ـ أو نقيم (2) دلالةً قاطعةً على أن المقدمة الفلانية غير معارضة لهذا النصِّ، ولا المقدمة الأخرى، وحينئذٍ نحتاج إلى إقامة الدليل على أن كل واحدةٍ من هذه المقدِّمات التي لا نهاية لها غير معارضة لهذا الظاهر. فثبت أنه لا يمكن حصول اليقين بعدم ما يقتضي خلاف الدليل النقلي، وثبت أن الدليل النقلي تتوقف إفادته لليقين على ذلك، فإذًا الدليل النقلي تتوقف إفادته اليقين على مقدمة غير يقينية، وهي عدم دليل عقلي، وكل ما يبتنى صحته على ما لا يكون يقينًا لا يكون هو أيضًا يقينًا، فثبت أن ذلك الدليل النقلي من هذا القسم لا يكون مفيدًا لليقين». قال: «وهذا بخلاف الأدلة العقلية، فإنها مركبة من مقدِّمات لا يُكتفى فيها بألَّا يُعلم فسادها، بل لا بد وأن يُعلم بالبديهة صحتها، أو (3) يُعلم بالبديهة لزومها ممَّا عُلم صحته بالبديهة، ومتى كان كذلك استحال أن يُوجد _________ (1) بعده في «ح»: «على». وهي زائدة. (2) «ح»: «ويقيم». والمثبت من «م» و «نهاية العقول». (3) «ح»: «إذ» والمثبت من «نهاية العقول».
(2/780)
ما يُعارضه؛ لاستحالة التعارض في العلوم البديهية». ثم قال (1): «فإن قيل: إن الله سبحانه لمَّا أسمع المكلف الكلام الذي يُشعر ظاهره بشيءٍ، فلو كان في العقل ما يدل على بطلان ذلك الشيء وجب عليه سبحانه أن يُخطِر ببال المكلف ذلك الدليل، وإلَّا كان ذلك تلبيسًا من الله تعالى، وإنه غير جائز. قلنا: هذا بناء على قاعدة الحُسن والقُبح، وأنه يجب على الله سبحانه شيءٌ، ونحن لا نقول بذلك. سلمنا (2) ذلك، فلِمَ قلتم: إنه يجب على الله أن يُخطِر ببال المكلف ذلك الدليل العقلي؟ وبيانه أن الله تعالى إنما يكون ملبسًا على المكلف لو أسمعه كلامًا يمتنع عقلًا أن يريد به إلَّا ما أشعر به ظاهره. وليس الأمر كذلك؛ لأن المكلف إذا سمع ذلك الظاهر [ثم إنه يجوز أن يكون هناك دليل على خلاف ذلك الظاهر] (3) فبتقدير أن يكون الأمر كذلك لم يكن مراد الله من ذلك الكلام ما أشعر به الظاهر، فعلى هذا إذا أسمع الله تعالى المكلف ذلك الكلام فلو قطع المكلف بحمله على ظاهره مع قيام الاحتمال الذي ذكرنا كان ذلك التقصير (4) واقعًا من المكلف لا من قِبَل الله تعالى، حيث قطع لا في موضع القطع. فثبت أنه لا يلزم من عدم إخطار الله تعالى ببال المكلف ذلك الدليل العقلي المعارض للدليل السمعي أن يكون مُلبِّسًا». _________ (1) «نهاية العقول» (1/ 145 - 146). (2) «نهاية الإقدام»: «ثم إن سلمنا». (3) ليس في «ح»، «م». وأثبته من «درء التعارض» (5/ 334) و «نهاية الإقدام». (4) «نهاية الإقدام»: «التقدير التقصير».
(2/781)
قال (1): «فخرج ممَّا (2) ذكرنا أن الأدلة النقلية لا يجوز التمسك بها في باب المسائل العقلية. نعم، يجوز التمسك بها في المسائل النقلية، تارةً لإفادة اليقين كما في مسألة الإجماع [ق 88 أ] وخبر الواحد، وتارةً لإفادة الظن كما في الأحكام الشرعية». انتهى. فليتدبَّر المؤمن هذا الكلام، وليرُدَّ أوله على آخره وآخره على أوله ليتبيَّن له ما ذكرناه عنهم من العزل (3) التام للقرآن والسُّنَّة عن أن يستفاد منهما علمٌ أو يقين في باب معرفة الله، وما يجب له وما يمتنع عليه، وأنه لا يجوز أن يُحتج بكلام الله ورسوله في شيءٍ من هذه المسائل. وأن الله تعالى يجوز عليه التلبيس والتدليس على الخلق، وتوريطهم في طُرق الضلال، وتعريضهم لاعتقاد الباطل والمحال. وأن العباد مقصرون غاية التقصير إذا حملوا كلام الله ورسوله على حقيقته وقطعوا بمضمون ما أخبر به حيث لم يشكوا في ذلك، إذ قد يكون في العقل ما يعارضه ويناقضه، فإن غاية ما يمكن أن يُحتج بكلام الله ورسوله عليه من الجزئيات ما كان مثلَ الإخبار بأن على قُلَّة جبل قاف غُرابًا صفته كيت وكيت، أو على مسألة الإجماع وخبر الواحد. وأن مقدِّمات أدلة القرآن والسُّنَّة غير معلومةٍ ولا متيقنة الصحة، ومقدمات أدلة أرسطو ـ صاحب المنطق ـ والفارابي وابن سينا وإخوانهم قطعيةٌ معلومة الصحة. _________ (1) «نهاية العقول» (1/ 146). (2) «ح»: «ما». والمثبت من «م»، «نهاية العقول». (3) «ح»: «العدل». والمثبت من «م».
(2/782)
وأنه لا طريق لنا إلى العلم بصحة الأدلة السمعية في باب الإيمان بالله وأسمائه وصفاته البتة؛ لتوقفها على انتفاء ما لا طريق لنا إلى العلم بانتفائه، وأن الاستدلال بكلام الله ورسوله في ذلك فضلة لا يُحتاج إليها، بل هي مستغنًى عنها إذا كان موافقًا للعقل. فتأمَّل هذا البنيان الذي بنوه، والأصل الذي أصَّلوه، هل في قواعد الإلحاد أعظم هدمًا منه لقواعد الدِّين، وأشد مناقضةً منه لوحي ربِّ العالمين؟! وبطلان هذا الأصل معلوم بالاضطرار من دين جميع الرُّسل، وعند جميع أهل الملل. وهذه الوجوه المتقدمة التي ذكرناها هي قليلٌ من كثيرٍ ممَّا يدل على بطلانه. ومقصودنا من ذكره اعترافهم به بألسنتهم لا بإلزامنا لهم به. وتمام إبطاله أن نُبيِّن (1) فساد كل مقدمة من مقدمات الدليل الذي عارضوا به النقل وأنها مخالفة للعقل كما هي مناقضة للوحي، والله يعلم أنَّا عازمون على ذلك وبيانه على التفصيل في جميع أدلتهم إن ساعد التوفيق. ويجب على كل مؤمنٍ بالله ورسوله أن يعتقد ذلك جملةً، وإن لم يُحط (2) به تفصيلًا، ولا يضع قدمه في أول درجة من درجات الإيمان إلَّا بذلك. والمقصود أن مناقضة هذا الأصل الإيمان بالله ورسوله كمناقضة أحد الضدَّين للآخر، وبالله التوفيق. الوجه الثالث والعشرون بعد المائة: أن يقال: كل ما أخبر به الرسول عن الله سبحانه إثباتًا ونفيًا فهو واجب عليه وممتنع عليه، أو ما أثبته له فهو كمالٌ، _________ (1) «ح»: «يتبين». والمثبت من «م». (2) «ح»: «يحيط».
(2/783)
والكمال كله واجبٌ له، وما نفاه عنه فهو نقصٌ، والنقائص كلها ممتنعة عليه. وقد صرَّح هؤلاء بأن ما يجب لله ويمتنع عليه لا تمكن استفادته من الرسول؛ لأنه إن أخبر بما يخالفه العقل من ذلك لم يجز إثباته، ولم يلتفت إلى خبره فيه. وإن أخبر بما يدل عليه العقل كان الاستدلال بخبره فضلةً غير محتاجٍ إليها، لا سيما وقد صرَّحوا بأنه ليس في حقِّ الربِّ ما يمكن أن يوصف به وما لا يمكن، بل إمَّا واجبٌ وإمَّا محالٌ، والعلم بوجوب الواجبات واستحالة المحالات لا يتوقف على السمع، ولا يحتاج إليه فيه. وهذا تصريحٌ بأنه لا يُحتج بكلام الله ورسوله على شيءٍ من هذه المسائل، ولا يُصدَّق بشيءٍ من خبر الرسول عن ذلك لكونه أخبر به؛ بل لكون العقل دلَّ عليه، وذلك يستلزم الكفر (1) والإلحاد والزندقة. وهذا لازمٌ لكل من سلك هذه الطريق؛ لأنه إذا جوَّز المجوِّز أن يكون في الأدلة العقلية التي يجب اتباعها ما يناقض ما أخبر الله به ورسوله ـ من ذكر صفاته سبحانه وصفات ملائكته وعرشه والجنة والنار والمعاد والعقوبات التي أخبر بها عن الأمم والمعجزات التي أيَّد بها أنبياءه ورسله ـ لم يمكنه أن يعرف ثبوت شيءٍ كما أخبر به الرسول إذ (2) لم يعلم انتفاء المعارض. ولا طريق له إلى ذلك إلَّا أن يحيط علمًا بكل ما يخطر ببال بني آدم في كل وقتٍ ممَّا يُظن أنه دليلٌ عقليٌّ، وهذا أمر لا ينضبط وليس له حدٌّ، فلا تزال الشُّبه العقلية تتولد في نفوسهم تولد الوساوس والخطرات [ق 88 ب] وحديث النفس. وقد اعترف هؤلاء بأنه لا سبيل إلى العلم بانتفاء المعارض على التفصيل، وحينئذٍ _________ (1) «ح»: «للكفر». (2) «ح»: «أو». ولعل المثبت هو الصواب.
(2/784)
فلا يمكن الجزم بانتفاء المعارض أبدًا، فلا يمكن الجزم بشيءٍ ممَّا أخبر به الرسول أبدًا إن لم يكن في العقل الصريح ما يقتضي ثبوته. وحقيقةُ هذا سلبُ الإيمان برسالة الرسول وعدم تصديقه. فهذا الأصل الباطل الجائر الظالم مستلزمٌ للزندقة والإلحاد، فمن طرده أدَّاه إلى الكفر والنفاق والزندقة، ومن لم يطرده تناقض وفارق المعقول الصريح. ومن هذا (1) دخلت الملاحدة والقرامطة والباطنية على كل فرقةٍ من الطوائف الذين وافقوهم على هذا الأصل أو على بعض شُعبه، حتى إن من استجاب لهم إلى بعضه دعوه إلى طرده إن أمكنهم وإلَّا رضوا منه بما وافقهم فيه. الوجه الرابع والعشرون بعد المائة: أن هؤلاء يعيبون أهل السُّنَّة والحديث المتمسكين بها التاركين لما خالفها بالتقليد، وأنهم (2) يأخذون ما يعتقدونه مُسلَّمًا من غير قيام برهانٍ عقليٍّ على اعتقاده. فإن كان تمسكهم بكلام المعصوم تقليدًا، واقتداؤهم (3) بآثار أصحابه تقليدًا؛ فهم لا ينكرون هذا التقليد، ولا ينفرون عن عيبهم به. ولكن العيب كل العيب تقليد المشركين وعُبَّاد الأصنام والمجوس والهند والصابئين عبدة الكواكب والملاحدة الذين لا يؤمنون بالله ولا رسله ولا كتبه ولا ملائكته ولا باليوم الآخر، فإن مقدمات هذه الأدلة العقلية التي عارضوا بها النصوص وقدموها عليها متلقاة عن هؤلاء، فخَلَفهم مقلِّدون لسلفهم، إذا حاققتهم _________ (1) كذا في «ح»، ولعل الصواب: «هنا». (2) «ح»: «وأنها». ولعل المثبت هو الصواب. (3) «ح»: «وأووهم». ولعل المثبت هو الصواب.
(2/785)
عليها وطلبت منهم البرهان على صحتها، قالوا (1): هكذا قال العقلاء أرباب المعقولات. وسلفهم ليسوا فيها على بصيرةٍ، بل على خَرْصٍ وحَدْسٍ وتخمينٍ، فالسلف خرَّاصون، والخلف عُميٌ مقلدون. وإذا تأملها اللبيب العاقل الفطن وجدها مبنيةً على ألفاظٍ مجملةٍ ومعاني مشتبهة، متى استفسرتهم عن معانيها وفصَّلت مجملها تجدها دعاوى كاذبة، تتضمن الجمع بين المختلفات، والتفريق بين المتماثلات: فيجمعون بين الشيئين اللذين هما في غاية التباين لاشتراكهما في بعض الصِّفات، ويفرقون بين المثلينِ من كل وجهٍ بالدعاوى الكاذبات. ويثبتون الشيء وينفون لازمه، وينفون الشيء ويثبتون ملزومه. ويقدحون في الضروريات بالقضايا الوهميات. ويجعلون الذهني خارجًا، ويصفون الوجود الخارجي بما ينافي وجوده، وواجب الوجود بما يجعله ممتنع الوجود. ويجردون الماهية عن صفاتها التي لا تحقق إلَّا بها، ثم يجعلون الصفة هي الذات. ويجعلون العاقل والمعقول والعقل شيئًا واحدًا. ويجعلون العلم هو نفس المعلوم، والفعل هو عين المفعول. وواجب الوجود الذي يمتنع عدمه هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق أو بغير شرط الذي يمتنع وجوده (2). _________ (1) «ح»: «قال». (2) كذا في «ح» والعبارة مختلة، والذي في «درء التعارض» (5/ 313): «وهذا يقول: وجوده وجود مطلق: إما بشرط الإطلاق، وإما مطلقًا لا بشرط، وإما بشرط سلب جميع الأمور الثبوتية عنه، وهذا يمتنع ثبوته في الموجودات».
(2/786)
إلى أضعاف أضعاف ذلك من مقالاتهم التي هي عند من فهمها وعرف مضمونها (1) ضحكةٌ للعاقل تارةً، وأعجوبةٌ له تارةً، ومغضبةٌ له تارةً. ومثل هذه المعقولات لو (2) تصرف بها الرجل في تجارة أو صناعة من الصناعات لأفسد التجارة والصناعة، فكيف يتصرف بها في الأمور الإلهية وفي صفات ربِّ البرية، ثم يعارض بها كلام الله الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه؟! وإنما عظمت الشبهة بذلك بأن أقوامًا لهم نوع ذكاءٍ تميزوا (3) به في أنواع من العلوم، ولم تكن لهم خبرة بالأمور الإلهية كخبرتهم بتلك العلوم، فخاضوا فيها بعقولهم، وظنُّوا أنهم يبرزون فيها كما برزوا في تلك العلوم، وظنَّ المقلدون لهم ذلك أيضًا، فرُكِّب من ظنِّهم وظنِّ مقلَّدهم اعتقادها والدعوة إليها، وإساءةُ الظن بما خالفها. ثم إنهم رأوا النصوص واقفة في طريقها، فقاموا لها وقعدوا، وجدوا في دفعها واجتهدوا، فتارةً سطوا عليها بالتأويل، وتارة نسبوا من تكلم بها إلى قصد التخييل، ودفعوا بجهدهم في الصدور منها والأعجاز، وقالوا: لا مقام لك عندنا ولا عبور لك علينا، وإن كان لا بد فعلى سبيل المجاز! _________ (1) «ح»: «ستمونها». ولعل المثبت هو الصواب، والذي في «درء التعارض» (5/ 314): «حقيقة قول أصحابها». (2) «ح»: «لم». والمثبت من «درء التعارض» (5/ 314). (3) «ح»: «تميزون». والمثبت من «درء التعارض» (5/ 314).
(2/787)
وتارةً قالوا: هذه أخبار آحاد، والمسألة [ق 89 أ] من المسائل العلمية. وإن كان قرآنًا أو خبرًا متواترًا قالوا: تلك أدلة لفظية معزولة عن إفادة العلم واليقين، وغايتها إفادة الظن والتخمين. وإن أعجزهم ذلك أو طال عليهم طريقه لجؤوا إلى القانون المجتث لقواعد الإيمان، الكفيل بالإلحاد والكذب والبهتان، الذي جعلوه أصلًا لتقديم آرائهم الباطلة على السُّنَّة والقرآن، وقالوا: قد تعارض العقل والنقل ولا سبيل إلى الجمع، وتقديمُ النقل قدحٌ في العقل، فتعيَّن تقديم العقل بهذا البرهان. والمقصود أنك إذا حققت الأمر على هؤلاء المعارضين لم يكن عندهم إلَّا الرجوع إلى تقليد أسلافهم الماضين، وقولهم: هذه أمور عقلية قد صقلتها الأذهان منذ دهر وزمان. وإذا دعوتهم إلى كتاب الله وسُنَّة رسوله دعوك إلى قول أرسطو عابد الأوثان، وإلى ما أصَّله من منطق اليونان. وإن أحسنوا دعوك إلى أصول جهم بن صفوان، وقول الجعد بن درهم معلِّم مروان، الذي ضحَّى به خالد بن عبد الله القسري يوم ذبائح القربان. وإن زادوا في الإحسان دعوك إلى قول أبي الهذيل العلَّاف و [أبي] (1) يعقوب الشحَّام وإبراهيم النظَّام وأبي علي وأبي هاشم الجبائيان (2)، فإنهم تلقوا كلمات هؤلاء يدرسونها لا كدرس القرآن، ويحاربون بها أهل العلم والإيمان، ويحرفون بها التنزيل _________ (1) سقط من «ح»، وتقدم (ص 464) ذكر أبي يعقوب الشحام. (2) كذا في «ح» في موضع «الجبائيين».
(2/788)
عن مواضعه إذا عجزوا عن الليِّ والكتمان، وآخر أمرهم أن يصلوا إلى: هكذا قال فلان وهكذا قال فلان! فإذا ذكرت لهم الحجة الصحيحة التي يقبلها العقل وفطرة الإنسان، قالوا: كيف يظن بأرسطو وابن سينا وأبي الهذيل وأبي علي وابنه وأمثالهم أن يخفى عليهم مثل هذا، وهم أهل العقل والحجة والبرهان؟! هذا وهم يرون تعصبًا وجهلًا تقليدَ من لا ينطق عن الهوى، إن هو إلَّا وحي يوحى، ومن قام الدليل على عصمته وعلمه ومعرفته وصدق اللهجة منه واللسان. فما أشبههم بإبليس أبي الجان، حين استكبر عن السجود لآدم ورضي أن يكون قوادًا لأهل الفسوق والعصيان. وما أشبههم بأعداء الرسل إذ أنفوا أن ينقادوا لرسول من نوع الإنسان، ثم رضوا بعبادة (1) الشيطان والأوثان والصلبان والنيران، وسلكوا سبيل هؤلاء في تنزيه الربِّ تعالى عن صفات كماله خشية التجسيم والتشبيه المستلزم عندهم للنقصان، ثم شبهوه بالناقصات بل بالمعدومات بل بالممتنعات التي لا تدخل تحت قضايا الإمكان. فنزهوه خشية الحصر عن استوائه على عرشه الذي هو فوق جميع الأكوان، ثم قالوا: هو في كل مكان. فيا للعقول! أيُّ الأمكنة أشرف وأجلًّ: أعرش الوحي أم الآبار والأنجاس والمواطن التي يرغب عن ذكرها كل إنسان؟! فاسأل مقلِّب القلوب أن يثبت قلبك على دينه الذي أرسل به رسوله وأنزل به الفرقان، وألَّا يزيغه بعد أن هداه عن سبيل الهدى والإيمان، وقل: اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث وعليك التكلان. _________ (1) «ح»: «فعبادة». والمثبت هو الصواب.
(2/789)
الوجه الخامس والعشرون بعد المائة: أن الدِّين تصديق الرسول فيما أخبر وطاعته فيما أمر. وكلٌّ منهما نوعان: مطلقٌ ومقيدٌ. فالمقيد مثل أن يقول: لا أصدقه إلَّا فيما علمت صحته بعقلي أو فيما [لا] (1) يخالف عقلي أو وافقه فيه شيخي وإمامي وأصحاب مذهبي. والمقيد من طاعة الأمر أن يطيعه فيما وافق حظَّه وهواه، فإن جاء أمره بخلاف ذلك قدم حظَّه وهواه عليه. فهذا غير مطيعٍ للرسول في الحقيقة، بل هو متبعٌ لهواه، كما أن ذاك غير مصدقٍ له في الحقيقة، بل إن وافق قوله عقله أو قول شيخه وإمامه ومتبوعه قبله لا لكونه قاله، كما أن مطيعه فيما وافق هواه إنما هو متبعٌ لما يحبه ويهواه، فإن جاء الأمر بما يهواه فعله، وإلا لم يفعله. وهذا حال أكثر الناس، وأحسن أحوال هؤلاء أن يكونوا من الذين قال الله فيهم: {* قَالَتِ اِلْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ اِلْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اُللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَئْلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الحجرات: 14]. ثم ذكر وصف أهل الإيمان فقال: {إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اِللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ اُلصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15]. فالتصديق والطاعة لا يكون إيمانًا حتى يكون مطلقًا، فإذا تقيَّد فأعلى أحواله ـ إن سلم من الشك ـ أن يكون إسلامًا، [ق 89 ب] ويكون صاحبه من عوام المسلمين، لا من خواص المؤمنين. _________ (1) سقط من «ح».
(2/790)
الوجه السادس والعشرون بعد المائة: أن السمع حجة الله على خلقه، وكذلك العقل. فهو سبحانه أقام عليهم حجته بما ركَّب فيهم من العقل، وبما أنزل إليهم من السمع. والعقل الصريح لا يتناقض في نفسه، كما أن السمع الصحيح لا يتناقض في نفسه، وكذلك العقل مع السمع. فحجج الله وبيناته لا تتناقض ولا تتعارض، ولكن تتوافق وتتعاضد. وأنت لا تجد سمعًا صحيحًا عارضه معقولٌ مقبولٌ عند كافة العقلاء أو أكثرهم، ولا تجده ما دام الحق حقًّا والباطل باطلًا، بل العقل الصريح يدفع المعقول المعارض للسمع الصحيح، ويشهد ببطلانه. وهذا يظهر بالامتحان في كل مسألةٍ عُورض فيها السمع بالمعقول، ونحن نذكر من ذلك مثالًا واحدًا يُعلم به ما عداه. فنقول: قالت الفرقة الجامعة بين التجهم ونفي القدر، معطلة الصِّفات المكذِّبة بالقدر: صِدْقُ الرَّسول موقوفٌ على قيام المعجزة الدالة على صدقه، وقيام المعجزة موقوف على العلم بأن الله لا يُؤيِّد الكذاب بالمعجزة، والعلم بذلك موقوفٌ على العلم (1) بقبحه، وعلى أن الله لا يفعل القبيح، وتنزيهُه عن فعل القبيح موقوفٌ على العلم بأنه غنيٌّ عنه عالمٌ بقبحه، والغنيُّ عن القبيح العالمُ بقبحه لا يفعله، وغناه عنه موقوفٌ على أنه ليس بجسمٍ، وكونُه ليس بجسمٍ موقوفٌ على عدم قيام الأعراض والحوادث به، وهي الصِّفات والأفعال، ونفي ذلك موقوف على ما دل على حدوث الأجسام، والذي دلنا على حدوث الأجسام أنها لا تخلو عن الحوادث، وما لا يخلو عن الحوادث لا يسبقها، وما لا يسبق الحوادث فهو حادث. _________ (1) «ح»: «الصحة». والمثبت من «م».
(2/791)
وأيضًا فإنها لا تخلو عن الأعراض، والأعراض لا تبقى زمانين؛ فهي حادثة، فإذا لم تَخْلُ الأجسام عنها لزم حدوثها. وأيضًا فإن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة (1)، والمركب مفتقر إلى جزئه، وجزؤه غيره، وما افتقر إلى غيره لم يكن إلَّا حادثًا مخلوقًا. وأيضًا فالأجسام متماثلة، كل ما صحَّ على بعضها صحَّ على جميعها، وقد صحَّ على بعضها التحليل والتركيب والاجتماع والافتراق، فيجب أن يصح على جميعها. قالوا: وبهذا الطريق أثبتنا حدوث العالم، ونفي كون الصانع جسمًا، وإمكان المعاد، فلو بطل الدليل على حدوث الجسم بطل الدليل الدال على إثبات الصانع وصدق الرسول. فصار العلم بإثبات الصانع وصدق الرسول وحدوث العالم وإمكان المعاد موقوفًا على نفي الصِّفات والأفعال، فإذا جاء في السمع ما يدل على إثبات الصِّفات والأفعال لم يمكن القول بموجبه، ويُعلم أن الرسول لم يُرد إثبات ذلك؛ لأن إرادته لإثباته تنافي تصديقه، ثم إمَّا أن يُكذِّب الناقل، وإمَّا أن يَتأول المنقول، وإمَّا أن يُعرِض عن ذلك جملةً كافةً، ويقول: لا نعلم المراد. فهذا أصل ما بنى عليه القوم دينهم وإيمانهم، ولم يُقيَّض لهم من يُبيِّن لهم فساد هذا الأصل وبطلانه، ومخالفته لصريح العقل. بل قُيِّض لهم من المنتسبين إلى السُّنَّة من وافقهم عليه، ثم أخذ يُشنع عليهم القول بنفي الصِّفات والأفعال، وتكليم الربِّ لخلقه، ورؤيته في الدار الآخرة، وعلوه _________ (1) «م»: «الفرد».
(2/792)
على خلقه، واستوائه على عرشه، ونزوله إلى سماء الدنيا، فأضحكهم عليه، وأغراهم به، ونسبوه إلى ضعف العقل والحشو والبله. والمصيبة مركبة من عدوان هؤلاء وبغيهم وظلمهم، وتقصير أولئك وموافقتهم لهم في الأصل، ثم تكفيرهم وتبديعهم في القول بفروعه ولوازمه. وهذه الطريق من الناس من يظنها من لوازم الإيمان، وأن الإيمان لا يتم إلَّا بها، ومن لم يعرف ربَّه بهذه الطريق لم يكن مؤمنًا به، ولا بما جاء به رسوله. وهذا يقوله الجهمية والمعتزلة ومتأخرو الأشعرية، بل أكثرهم، وكثيرٌ من المنتسبين إلى الأئمة الأربعة، وكثيرٌ من أهل الحديث والصوفية. ومن الناس من يقول: ليس الإيمان موقوفًا عليها، ولا هي من لوازمه، وليست طريقة الرُّسل، ويحرم سلوكها لما فيها من الخطر والتطويل، وإن لم يعتقد بطلانها. وهذا قول أبي الحسن الأشعري نفسه، فإنه صرَّح بذلك في «رسالته إلى أهل الثغر» (1) وبيَّن أنها طريقةٌ خطرةٌ مذمومةٌ محرمةٌ، وإن كانت غير باطلة، ووافقه على هذا جماعةٌ من أصحابه من أتباع الأئمة. وقالت طائفة أخرى: بل هي طريقٌ في نفسها متناقضةٌ مستلزمةٌ لتكذيب الرسول [ق 90 أ] لا يتم سلوكها إلَّا بنفي ما أثبته، وهي مستلزمة لنفي الصانع بالكلية، كما هي مستلزمة لنفي صفاته ونفي أفعاله، وهي مستلزمة لنفي المبدأ والمعاد. فإن هذه الطريقة لا تتم إلَّا بنفي سمع الربِّ وبصره وقدرته وحياته وإرادته وكلامه، فضلًا عن نفي علوه على خلقه، ونفي الصِّفات الخبرية من أولها إلى آخرها، ولا تتم إلَّا بنفي (2) أفعاله جملةً وأنه لا يفعل _________ (1) (ص 185 - 192). (2) «ح»: «نفي». والمثبت من «م».
(2/793)
شيئًا البتةَ إذ لم يقم (1) به فعلٌ، وفاعلٌ بلا فعل محالٌ في بدائه العقول. فلو صحتْ هذه الطريق نفتِ الصانع، وصفاته وأفعاله، وكلامه، وخلقه للعالم، وتدبيره له. وما يثبته أصحاب هذه الطريق من ذلك لا حقيقة له، بل هو لفظٌ لا معنى له. فأنتم تثبتون ذلك (2) وتُصرِّحون بنفي لوازمه البينة التي لا ريب في لزومها، فتثبتون ما لا حقيقة له، بل ما يخالف العقل الصريح، كما تنفون ما دلَّ العقل الصريح على إثباته، فهي مستلزمة لإنكار جميع الصِّفات والأفعال والعلو والكلام، وذلك يستلزم نفي الرسالة، فحقيقتها جحد الرِّسالة والمرسل، ولوازمها الباطلة أكثر من مائة لازم لا تُحصى إلَّا بكلفة. فأول لوازمها نفي الصِّفات، ونفي الأفعال، ونفي العلو، ونفي الكلام، ونفي الرُّؤية. ومن لوازمها: القول بخلق القرآن. وبهذه الطريق استُجيز ضرب الإمام أحمد، لما قال بما يخالفها من إثبات الصِّفات، وتكلم الله بالقرآن، ورؤيته في الدار الآخرة. وكان أرباب هذه الطريقة هم المستولين على الخليفة، فقالوا له: اضرب عنقه فإنه كافرٌ مشبِّهٌ مجسمٌ. فقيل له: إنك إن قتلته ثارت عليك العامة، ولم تأمن مَعَرَّتهم. فأمسَكوا عن قتله لذلك بعد الضرب الشديد. ومن لوازمه: أن الربَّ تعالى كان مُعطَّلًا عن الفعل من الأزل، والفعل ممتنعٌ عليه، ثم انقلب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي بغير موجبٍ في _________ (1) «ح»: «يتم». والمثبت من «م». (2) زاد بعده في «ح»: «لا حقيقة له بل هو لفظ لا معنى له». وهي عبارة زائدة ليست في «م».
(2/794)
ذلك الوقت دون ما قبله. وهذا ممَّا أغرى (1) الفلاسفة بالقول بقدم العالم، ورأوا أنه خيرٌ من القول بذلك. بل حقيقة هذا القول أن الفعل لم يزل ممتنعًا منه أزلًا وأبدًا، إذ يستحيل قيامه به. وعن هذه الطريق قال جهم ومن وافقه بفَناء الجنة وفناء أهلها وعدمهم (2) عدمًا محضًا. وعنها قال أبو الهذيل العلاف بفناء حركاتهم دون ذواتهم، فإذا رفع أحدهم اللقمة إلى فيه وفنيت الحركات بقيت يده ممدودة لا تتحرك، وتبقى كذلك أبد الآبدين، وإذا جامع الحوراء وفنيت الحركات يبقيان كذلك في تلك الحال أبد الآبدين، فيبقون في سكون الأحجار. وعن هذه الطريق قالت الجهمية: إن الله في كل مكان بذاته. وقال إخوانهم: ليس في العالم، ولا خارج العالم، ولا متصلًا به، ولا منفصلًا عنه، ولا مباينًا له، ولا محايثًا له، ولا (3) فوقه ولا خلفه، ولا أمامه ولا وراءه. وعنها قال من قال: إن ما شاهده من الأعراض الثابتة كالأكوان والمقادير والأشكال تتبدل في كل نَفَسٍ ولحظةٍ، ويخلفها غيرها، حتى قال من قال: إن الروح عَرَضٌ، وإن (4) الإنسان يستحدث في كل ساعةٍ عدة أرواح، تذهب له روحٌ، وتجيء غيرها. وعنها قال من قال: إن جسم أنتن الرجيع وأخبثه مماثل لجسم أطيب الطيب في الحدِّ والحقيقة، لا فرق بينهما إلَّا بأمر عرضي، وإن جسم النار _________ (1) «ح»: «اعترى». والمثبت من «م». (2) «ح»: «عرفهم». والمثبت من «م». (3) «ح»: «و». والمثبت من «م». (4) «ح»: «إن». والمثبت من «م».
(2/795)
مساوٍ لجسم الماء في الحدِّ والحقيقة. وعنها قالوا: إن الروائح والأصوات والمعارف والعلوم تُؤكل وتُشرب وتُرى وتُسمع وتُلمس، وإن الحواس الخمس تتعلق بكل موجودٍ. وعنها قالوا: إن الله سبحانه لم يُكلِّم موسى تكليمًا، ولا اتخذ إبراهيم خليلًا، ولا تجلى للجبل، ولا يتجلى لعباده يوم القيامة. وقالوا: ليس [له] (1) وجهٌ يراه المؤمنون، ولا يدٌ خلق بها آدم وكتب بها التوراة وغرس بها جنة عدن ويقبض بها السماواتِ، والأرضُ بيدٍ أخرى، ليس لشيءٍ (2) من ذلك حقيقة، إنْ هو إلَّا مجازات واستعارات وتخييلات. وعنها قالوا: إن الله لا يُحِب ولا يُحَب، ولا يغضب ولا يرضى، ولا يضحك ولا يفرح، ولا له رحمة ولا رأفة في الحقيقة. بل ذلك كله إرادةٌ محضةٌ، أو ثوابٌ منفصلٌ مخلوقٌ سُمِّي بهذه الأسماء. وعنها قالوا: إن الكلام معنًى واحد بالعين، لا ينقسم ولا يتبعض، ولا له جزءٌ ولا كلٌّ، وهو الأمر بكل مأمورٍ، والنهي عن كل منهيٍّ، والخبر عن كل مُخبرٍ عنه، والاستخبار عن كل مستخبرٍ عنه. كل ذلك حقيقة واحدة بالعين. وكذلك قالوا في العلم: [ق 90 ب] إنه أمرٌ واحدٌ، فالعلم بوجود الشيء هو عين (3) العلم بعدمه، لا فرق بينهما البتة، وإنما يتعدد التعلق. _________ (1) «له» ليس في «ح». وزدته ليستقيم الكلام. (2) «ح»: «بشيء». (3) «ح»: «غير». والمثبت من «م».
(2/796)
وكذلك قالوا: إن إرادة إيجاد الشيء هي (1) نفس إرادة إعدامه ليس هنا إرادتان (2)، وكذلك رؤية زيدٍ هي نفس رؤية عمرٍو. ومعلوم أن هذا لا يُعقل، بل هو مخالف لصريح العقل، وهذا كله وأمثاله نشأ عن هذه الطريق واعتقاد صحتها. ومن العجب أنهم لم يثبتوا بها في الحقيقة صانعًا، ولا صفةً من صفاته، ولا فعلًا من أفعاله، ولا نبوةً، ولا مبدأً، ولا معادًا، ولا حكمةً؛ بل هي مستلزمة لنفي ذلك كله صريحًا، أو لزومًا بيِّنًا أو بوسطٍ (3). فالطريق التي جعلوها أصلًا للدِّين هي أصل المناقضة للدِّين وتكذيب الرسول. وجاء آخرون فراموا إثبات الصِّفات والأفعال وموافقتهم في هذه الطريق، فتجشموا أمرًا ممتنعًا، واشتقوا طريقة لم يمكنهم الوفاء بها، فجاؤوا بطريقة بين النفي والإثبات. لم يُوافقوا فيها المعطلة النُّفاة، ولم يسلكوا فيها مسلك أهل الإثبات، فجاءت طريقًا بين الطريقتين، ومقالة بين المقالتين، لم يكونوا فيها بررةً أتقياءَ، ولا فجرةً أقوياءَ. وظنوا أنهم بذلك يجمعون بين المعقول والمنقول، ويصلون في هذه الطريق إلى تصديق الرَّسول، وصار كثيرٌ من الناس يحب النظر والبحث والمعقول، وهو مع ذلك يريد ألَّا (4) يخرج عمَّا جاء به الرسول، ويرى أن هذا المسلك أصح من مسلك أولئك _________ (1) «ح»: «هو». والمثبت من «م». (2) «ح»: «إرادات». والمثبت من «م». (3) «ح»: «يوسط». وينظر «مجموع الفتاوى» (9/ 179) و «الرد على المنطقيين» (ص 190). (4) «ح»: «أن». والمثبت من «م».
(2/797)
النُّفاة، وأنه لا طريق غير الطريقين، وتلك لا سبيل إلى المصير إليها، فتعيَّن المصير إلى هذه الطريق. ولما أصَّل هؤلاء هذا الأصل، وجاؤوا إلى تفصيله ظهر سرُّ تأصيلهم في تفصيلهم، ودلَّ بطلان تفصيلهم على فساد تأصيلهم، فإنهم أصَّلوا تأصيلًا مستلزمًا لبطلان التفصيل، ثم فصَّلوا تفصيلًا دلَّ على بطلان الأصل وفساده، فصاروا حائرين بين التأصيل والتفصيل. وصار من طرد منهم هذا الأصل خرج عن العقل والسمع بالكلية، وبالغ في التعطيل والإلحاد. ومن لم يطرده تناقَضَ واضطربت أقواله. وقد سلك الناس في إثبات الصانع وحدوث العالم طرقًا متعددة سهلة قريبة موصلة (1) إلى المقصود، لم يتعرضوا فيها لطريقة هؤلاء بوجهٍ، وذموا هذه الطريقة. قال الخطابي (2): «وإنما سلك المتكلمون في الاستدلال بالأعراض مذهب الفلاسفة، وأخذوه عنهم. وفي الأعراض اختلافٌ كثيرٌ (3)، منهم من ينكرها ولا يثبتها رأسًا، ومنهم من لا يُفرِّق بينها وبين الجواهر في أنها قائمة بأنفسها كالجواهر». قلت: ومنهم من يقول بكمونها وظهورها، ومنهم من يقول بعدم بقائها. ثم سلك طرقًا في إثبات الصانع، منها الاستدلال بأحوال الإنسان من مبدئه إلى غايته، والاستدلال بأحوال الحيوان والنبات والأجرام العلوية وغير ذلك. _________ (1) «ح»: «موصولة». والمثبت من «م». (2) قاله في كتابه «شعار الدين»، وهو كتاب مفقود حسب علمي، وهذا القول قد نقله عنه ابن تيمية في «منهاج السنة» (2/ 141 - 143). (3) «ح»: «كثيرة». والمثبت من «م».
(2/798)
ثم قال: «والاستدلال بطريق الأعراض لا يصح إلَّا بعد استبراء هذه الشُّبه، وطريقنا الذي سلكناه بريءٌ من هذه الآفات، سليمٌ من هذه الريب». قال: «وقد سلك بعض مشايخنا في هذا طريق الاستدلال بمقدمات النبوة ومعجزات الرسالة التي دلائلها مأخوذة من طريق الحسِّ لمن شاهدها، ومن طريق استفاضة الخبر لمن غاب عنها، فلما ثبتت النبوة صارت أصلًا في وجوب قبول ما دعا إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -». قال: «وهذا النوع مقنع في الاستدلال لمن لم يتسع فهمه لإدراك وجوه الأدلة، ولم يتبين معاني تعلق الأدلة بمدلولاتها، ولا يكلف الله نفسًا إلَّا وسعها». قلت: وهذه الطريق من أقوى الطرق وأصحها، وأدلها على الصانع وصفاته وأفعاله، وارتباط أدلة هذه الطريق بمدلولاتها أقوى من ارتباط الأدلة العقلية الصريحة بمدلولاتها، فإنها جمعت بين دلالة الحسِّ والعقل، ودلالتها ضرورية بنفسها، ولهذا يُسميها الله سبحانه آياتٍ بيناتٍ، وليس في طرق الأدلة أوثق ولا أقوى منها. فإن انقلاب عصًا تُقِلُّها (1) اليد ثعبانًا عظيمًا يبتلع ما يمرُّ به، ثم يعود عصًا كما كانت من أدل الدليل على وجود الصانع وحياته وقدرته وإرادته وعلمه بالكليات والجزئيات، وعلى رسالة الرسول وعلى المبدأ والمعاد، فكل قواعد الدِّين في هذه العصا. وكذلك اليد [ق 91 أ] وفَلْق البحر طُرقًا والماء قائمٌ بينهما كالحيطان، _________ (1) أقل الشيء يقله: إذا رفعه وحمله. «النهاية في غريب الحديث» (4/ 104).
(2/799)
ونتق الجبل من موضعه، ورفعه على قدر العسكر العظيم فوق رؤوسهم، وضرب حجرٍ مربعٍ بعصًا فتسيل منه اثنتا عشرة (1) عينًا تكفي أُمةً عظيمة. وكذلك سائر آيات الأنبياء. فإخراج ناقة عظيمة من صخرة تمخضت بها، ثم انصدعت عنها والناس حولها ينظرون، وكذلك تصوير طائر من طين، ثم ينفخ فيه النبي فينقلب طائرًا ذا لحمٍ ودمٍ وريشٍ وأجنحةٍ يطير بمشهد من الناس. وكذلك إيماء الرسول إلى القمر فينشق نصفين، بحيث يراه الحاضر والغائب، فيخبر به كما رآه الحاضرون. وأمثال ذلك ممَّا هو من أعظم الأدلة على الصانع وصفاته وأفعاله وصدق رسله واليوم الآخر. وهذه من طرق القرآن التي أرشد إليها عباده ودلَّهم بها، كما دلهم بما يشاهدونه من أحوال الحيوان والنبات والمطر والسحاب والحوادث التي في الجو وفي الأرض، وأحوال المعلومات من السماء والشمس والقمر والنجوم، وأحوال النُّطفة، وتقلُّبها (2) طَبَقًا بعد طَبَق، حتى صارت إنسانًا سميعًا بصيرًا حيًّا متكلمًا عالمًا قادرًا، يفعل الأفعال العجيبة، ويعلم العلوم العظيمة. فكل طريقٍ من هذه الطرق أصحُّ وأقرب وأسهل وأوصل من طُرق المتكلمين التي لو صحت لكان فيها من التطويل والتعقيد والتعسير ما يمنع الحكمة الإلهية والرحمة الرَّبانية أن يدلَّ بها عباده عليه، وعلى صدق رسله، _________ (1) «ح»: «اثنا عشر». والمثبت من «م». (2) «ح»: «وبقلها». والمثبت من «م».
(2/800)
وعلى اليوم الآخر. فأين هذه الطريق الطويلة العسرة الباطلة المستلزمة لتعطيل الربِّ عن صفاته وأفعاله وكلامه وعلوه على خلقه، وإنكار وجهه الأعلى ويديه الكريمتين ورؤيته في الدار الآخرة وسائر ما أخبر به عن نفسه، وأخبر به عنه رسوله؛ إلى طرق القرآن التي هي ضدُّ هذه الطريق من كل وجه، وكلُّ طريقٍ منها كافية شافية هادية، وإن صرَّفها الله لعباده ونوَّعها {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اَللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 43]. هذا، وإن القرآن وحده ـ لمن جعل الله له نورًا ـ أعظم آيةٍ ودليلٍ وبرهانٍ على هذه المطالب، وليس في الأدلة أقوى ولا أظهر ولا أصح دلالة منه من وجوهٍ متعددةٍ جدًّا. كيف وقد أرشد ذوي العقول والألباب فيه إلى أدلة هي للعقل مثل ضوء الشمس للبصر، لا يلحقها إشكال، ولا يغبِّر (1) في وجه دلالتها إجمال، ولا يعارضها تجويز واحتمال، تلج الأسماع بلا استئذان، وتحل من العقول محل الماء الزُّلال من الصادي الظمآن، فضلها على أدلة أهل العقول والكلام كفضل الله على الأنام، لا يمكن أحدًا أن يقدح فيها قدحًا يوقع في اللبس إلَّا إن أمكنه أن يقدح بالظهيرة صحوًا في طلوع الشمس. ومن عجيب شأنها أنها تستلزم المدلول استلزامًا بينًا، وتُنبِّه على جواب المعترض تنبيهًا لطيفًا، ففيها إقامة الدلالة، والجواب عن المعارضة والشُّبهة. وهذا الأمر إنما هو لمن نوَّر الله بصيرته، وفتح عين قلبه لأدلة القرآن، وآتاه فهمًا في كتابه، فلا تعجب (2) من منكرٍ أو معترضٍ أو معارضٍ. _________ (1) «م»: «يغير». وهو تصحيف. (2) «ح»: «يعجب». والمثبت من «م».
(2/801)
وَقُلْ لِلْعُيُونِ الْعُمْيِ لِلشَّمْسِ أَعْيُنٌ ... سِوَاكِ تَرَاهَا فِي مَغِيبٍ وَمَطْلَعِ وَسَامِحْ نُفُوسًا أَطْفَأَ اللهُ نُورَهَا ... بِأَهْوَائِهَا لَا تَسْتَفِيقُ وَلَا تَعِي (1) فأي دليل على الله سبحانه أصح من الأدلة التي تضمنها كتابه كقوله: {أَفِي اِللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ اِلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ} [إبراهيم: 13]، وقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 27]. وقوله: {يَاأَيُّهَا اَلنَّاسُ اُعْبُدُوا رَبَّكُمُ اُلَّذِي خَلَقَكُمْ وَاَلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (20) اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اُلْأَرْضَ فِرَاشًا وَاَلسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ اَلثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ} [البقرة: 20 - 21]. وقوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ اِلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ وَاَخْتِلَافِ اِلَّيْلِ وَاَلنَّهارِ وَاَلْفُلْكِ اِلَّتِي تَجْرِي فِي اِلْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ اُلنَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اَللَّهُ مِنَ اَلسَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ اِلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ اِلرِّيَاحِ وَاَلسَّحَابِ اِلْمُسَخَّرِ بَيْنَ اَلسَّمَاءِ وَاَلْأَرْضِ لَأيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 163]. وقوله: {* قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ اَلسَّمَاءِ وَاَلْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ اُلسَّمْعَ وَاَلْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ اُلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيْتِ وَيُخْرِجُ اُلْمَيْتَ مِنَ اَلْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ اُلْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اَللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اُللَّهُ رَبُّكُمُ اُلْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ اَلْحَقِّ إِلَّا اَلضَّلَالُ فَأَنّى تُصْرَفُونَ} [يونس:31 - 32]. _________ (1) البيتان من قصيدة أنشدها لنفسه العفيف التلمساني في «شرح مواقف النفري» (ص 103).
(2/802)
[ق 91 ب] وقوله: {اَللَّهُ اُلَّذِي رَفَعَ اَلسَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اَسْتَوَى عَلَى اَلْعَرْشِ وَسَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَاَلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ اُلْأَمْرَ يُفَصِّلُ اُلْأيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهْوَ اَلَّذِي مَدَّ اَلْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ اِلثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اِثْنَيْنِ يُغْشِي اِلَّيْلَ اَلنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَأيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي اِلْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي اِلْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَأيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 2 - 4]. وقوله: {إِنَّ فِي اِلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ لَأيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ (2) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (3) وَاَخْتِلَافِ اِلَّيْلِ وَاَلنَّهارِ وَمَا أَنزَلَ اَللَّهُ مِنَ اَلسَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ اِلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ اِلرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) تِلْكَ آيَاتُ اُللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اَللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية: 2 - 5]. وقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ (19) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَأيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ اُلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ وَاَخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَأيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ (21) * وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِالَّيْلِ وَاَلنَّهارِ وَاَبْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَأيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ اُلْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنزِلُ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِ بِهِ اِلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَأيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ اَلسَّمَاءُ وَاَلْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ اَلْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم: 19 - 24].
(2/803)
وقوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ اَلْعَزِيزُ اُلْعَلِيمُ (8) اُلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اُلْأَرْضَ مِهَادًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (9) وَاَلَّذِي نَزَّلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (10) * وَاَلَّذِي خَلَقَ اَلْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ اَلْفُلْكِ وَاَلْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (11) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اَسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ اَلَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (12) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف: 8 - 13]. وقوله: {قُلِ اِلْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ اِلَّذِينَ اَصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (61) أَمَّنْ خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَالَاهٌ مَّعَ اَللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (62) أَمَّن جَعَلَ اَلْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ اَلْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَالَاهٌ مَّعَ اَللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (63) أَمَّن يُجِيبُ اُلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ اُلسُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ اَلْأَرْضِ أَالَاهٌ مَّعَ اَللَّهِ قَلِيلًا مَّا يَذَّكَّرُونَ (64) أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ اِلْبَرِّ وَاَلْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ اُلرِّيَاحَ نُشُرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَالَاهٌ مَّعَ اَللَّهِ تَعَالَى اَللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (65) أَمَّن يَبْدَأُ اُلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ اَلسَّمَاءِ وَاَلْأَرْضِ أَالَاهٌ مَّعَ اَللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 61 - 66]. وقوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اُللَّهُ اُلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اَسْتَوَى عَلَى اَلْعَرْشِ يُغْشِي اِلَّيْلَ اَلنَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَاَلشَّمْسَ وَاَلْقَمَرَ وَاَلنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ اُلْخَلْقُ وَاَلْأَمْرُ تَبَارَكَ اَللَّهُ رَبُّ اُلْعَالَمِينَ} [الأعراف: 53].
(2/804)
وقوله: {وَهْوَ اَلَّذِي يُرْسِلُ اُلرِّيَاحَ نُشُرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّت سَّحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيْتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ اِلْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ اِلثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ اُلْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 56]. وقوله: {وَآيَةٌ لَّهُمُ اُلْأَرْضُ اُلْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (32) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ اَلْعُيُونِ (33) لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (34) سُبْحَانَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ اُلْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (35) وَآيَةٌ لَّهُمُ اُلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ اُلنَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ (36) وَاَلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ اُلْعَزِيزِ اِلْعَلِيمِ (37) وَاَلْقَمَرُ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَاَلْعُرْجُونِ اِلْقَدِيمِ (38) لَا اَلشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ اَلْقَمَرَ وَلَا اَلَّيْلُ سَابِقُ اُلنَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (39) وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي اِلْفُلْكِ اِلْمَشْحُونِ (40) وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (41) وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ (42) إِلَّا رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [يس: 32 - 43]. وقوله: {فَلْيَنظُرِ اِلْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِن بَيْنِ اِلصُّلْبِ وَاَلتَّرَائِبِ} [الطارق: 5 - 7]. وقوله: {فَلْيَنظُرِ اِلْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) إِنَّا صَبَبْنَا اَلْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا اَلْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 24 - 31]. [ق 92 أ] وقوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ اِلْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَاَلْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اَلَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا اَلنَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنزَلْنَا مِنَ اَلْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} [النبأ: 6 - 16].
(2/805)
إلى أضعاف أضعاف ذلك، كما ذكر في سورة ق والذاريات والطور والرحمن والمرسلات وسورة إبراهيم والحجر والنحل، فتأمل أدلة سورة النحل من أولها إلى قوله: {فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ اَلْبَلَاغُ اُلْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اَللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ اُلْكَافِرُونَ} [النحل: 82 - 83]. وما ذكر في سورة لقمان والسجدة و {هَلْ أَتَى عَلَى اَلْإِنسَانِ} وآخر الغاشية وسورة البلد والشمس وضحاها، وما ذكر في سورة الأنعام وسورة الصافات وطه والأنبياء والحج والمؤمنون والفرقان من الأدلة التي هي للبصائر كالشمس للأبصار، فأبى المتكلمون إلَّا دليل الجواهر والأعراض والحركة والسكون والاجتماع والافتراق. ولعمر الله لم يزل إيمان الخلق صحيحًا حتى حدثت هذه الأدلة المبتدعة (1) الباطلة، فأوقعت الأمة في العناء الطويل، وفرقت الكلمة، وعارضت بين العقل والوحي، وألقت بينهم العداوة والتباغض والتلاعن، حتى استحل بعضهم من بعضٍ ما لم يستحل مثلها المحاربون للإسلام وأهله، وحتى فُتح على النصوص باب التحريف والتأويل، ورُميت بأنها أدلة لفظية لا تُفيد اليقين، وساءت ظنون أتباع هؤلاء بوحي ربِّ العالمين، وهذا كله ببركة هذه الطريق المخالفة للسمع والعقل. فالله سبحانه نَهَجَ لعباده الطريق الموصلة إلى معرفته والإقرار بأسمائه وصفاته وأفعاله، فأعرض عنها هؤلاء واشتقوا طريقًا موصلة إلى تعطيل الخالق، ونفي أسمائه وصفاته وأفعاله، وقالوا للناس: لا يتم إيمانكم _________ (1) «ح»: «المتبوعة». ولعل المثبت هو الصواب.
(2/806)
ومعرفتكم بالصانع إلَّا بهذه الطريق. فلمَّا سلكها من سلكها أدَّت به إلى ما [آخره] (1) الحيرة والشك والتأويل والتجهيل، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل (2). الوجه السابع والعشرون بعد المائة: أن هذه المعارضة بين الوحي والعقل نتيجة جهلين عظيمين: جهل بالوحي، وجهل بالعقل. أمَّا الجهل بالوحي، فإن المعارض لم يفهم مضمونه وما دلَّ عليه، بل فهم منه خلاف الحقِّ الذي دلَّ عليه وأُريد به، ثم عارض ما دلَّ عليه بالرأي والمعقول. ونحن ننزل معه درجة، ونُبيِّن أن المعقول الذي ذكره لا يصلح لمعارضة المعنى الباطل الذي فهمه من الوحي، فضلًا عن المعنى الصحيح الذي دلَّ عليه الوحي، فإنه يستحيل أن يُعارَض معارضةً صحيحة البتة، بل هو الحق الذي ليس بعده إلَّا الضلال. والله تعالى هو الحق، وكلامه حقٌّ، ورسوله حقٌّ، ودينه حقٌّ، ووحيه حقٌّ. وما خالف ذلك فهو الباطل المحض الذي لا يقوم على صحته (3) دليلٌ، بل الأدلة الصحيحة التي تنتهي مقدماتها إلى الضروريات تدل على بطلانه. وأمَّا الجهل بالعقل فإنه لا يُتصور أن يعارض العقل الصحيح الوحي أبدًا، ولكن الجاهل يظنُّ أن تلك الشُّبهة عقليةٌ، وهي جهلية خيالية من جنس شبه السوفسطائية. _________ (1) «ح»: «أسره». والمثبت أقرب شيء للرسم. (2) كتب على حاشية «ح»: «مطلب أول الجزء الثاني». (3) «ح»: «صحة». ولعل المثبت هو الصواب.
(2/807)
فالحاصل أنه إن عارض ما فهمه من النصِّ بما هو الباطل كان جاهلًا بالوحي ومدلوله، وإن عارض مدلوله وحقيقته التي دلَّ عليها فهو جاهلٌ بالعقل، فلا يُتصور أن يجتمع لهذا المعارض علمٌ بالوحي والعقل أصلًا، بل إمَّا أن يكون جاهلًا بهما ـ وهو الأغلب على هؤلاء ـ أو بأحدهما. ولسنا ندفع معرفتهم ببعض العقليات المشتركة بين المسلمين واليهود والنصارى والمجوس وعُبَّاد الأصنام، بل ولا ندفع تبريزهم فيها وحذقهم بها، وإنما نُبيِّن بالبراهين الواضحة أنهم من أجهل الناس بالعقليات المتعلقة بأسماء الربِّ وصفاته وأفعاله، كما هم جهالٌ بوحيه وبما جاءت به رسله. وقد نفى الله سبحانه السمع والعقل عمَّن أعرض عن رسله، فكيف بمن عارض ما جاؤوا به؟! وأخبر سبحانه أنه لا بد أن يظهر لهم في معادهم أنهم لم يكونوا من أهل السمع ولا من أهل العقل (1). الوجه الثامن والعشرون بعد المائة: أن هؤلاء المعارضين ـ كما تقدم ـ هم صنفان: ملاحدة دهرية، ومعطلة جهمية. والملاحدة الدَّهرية أصل معارضتهم تكذيب الرُّسل والطعن فيما جاؤوا به، فهم خصوم الرُّسل في الأصل. وهؤلاء الجهمية المعطلة قولهم مأخوذٌ من قول [ق 92 ب] أولئك بعينه، وطريقتهم مشتقة من طريقتهم. بل كلماتهم واحدة، ولكن أولئك سلكوا المعارضة بين العقل ونفس الرِّسالة، وهؤلاء سلكوا المعارضة بين العقل وبين أشرف ما جاءت به الرُّسل، وأفضله وأجلِّه. _________ (1) في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ اِلسَّعِيرِ} [الملك: 11].
(2/808)
فتأمَّل موافقة الجهمية لفرعون ـ خصم موسى وعدوه ـ فإنه أنكر الصانع، وهؤلاء وافقوه على إنكار صفاته، وأقروا بصانعٍ لا صفة له، ولا فعل. ولهذا قال بعض الأئمة: كان فرعون أعقل من هؤلاء، فإنهم اشتركوا في مخالفة صريح العقل، وتناقضت الجهمية، فقالوا: هو صانع للعالم من غير صنعٍ يقوم به، ولا وصف، ولا مباينة للعالم، ولا دخول فيه. وجحد فرعون أن يكون الله فوق سماواته على عرشه، وكذَّب موسى في ذلك، ووافقته الجهمية على هذا النفي. وبهذا احتج عليهم الأشعري في كتبه كلها (1) والقاضي أبو بكر (2) وأبو عمر بن عبد البر (3)، وجمهور أئمة السُّنَّة (4). وأنكر فرعون أن يكون الله كلَّم موسى، ووافقه الجهمية على ذلك. وأنكر أعداء الرُّسل من المشركين عُبَّاد الأصنام والكواكب والفلاسفة وغيرهم معاد الأبدان، وخراب العالم، وحقيقة الجنة والنار. ووافقهم ابن سينا وأتباعه على ذلك. وأخذ الجهمية بعض هذا الإنكار فقالوا: تفنى الجنة _________ (1) ينظر «الإبانة» (ص 106). (2) الباقلاني، لم أقف على احتجاجه بذلك فيما عندي من كتبه وهي قليلة. (3) ينظر: «التمهيد» (7/ 133) و «الاستذكار» (8/ 150). (4) ينظر: «تفسير الطبري» (20/ 327) و «التوحيد» لابن خزيمة (1/ 264) و «رسالة في إثبات الاستواء والفوقية» لأبي محمد الجويني (ص 33) و «الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار» للعمراني (2/ 610) و «إثبات صفة العلو» لابن قدامة (ص 65) و «النصيحة في صفات الرب جل وعلا» لابن شيخ الحزاميين (ص 12) و «الاعتقاد الخالص من الشك والانتقاد» لابن العطار (ص 179) و «العرش» للذهبي (2/ 378).
(2/809)
والنار. وهذا قول شيخهم جهم. وكلهم أنكروا أشرف ما في الجنة، وأجلَّ نعيمها، وأفضله على الإطلاق ـ الذي ما طابت الجنة إلَّا به ـ وهو النظر إلى وجه الربِّ تبارك وتعالى من فوقهم، وسماع كلامه، وتسليمه عليهم، وخطابه لهم، بل هذا حقيقة الجنة، ورأس نعيمها؛ فنفوه وكذبوا به، وأثبتوا أكلًا وشربًا وجماعًا، ثم قالوا بنفاده وانقطاعه. وهذا باب إذا تتبعه (1) من يعلم ما عند القوم وما جاءت به الرُّسل ويعتبر هذا بهذا يجد أقوالهم مشتقة من أقوال أعداء الرسل. فَإِلَّا يَكُنْهَا أَوْ تَكُنْهُ فَإنَّهُ ... أَخُوهَا غَذَتْهُ أُمُّهُ بِلِبَانِهَا (2) الوجه التاسع والعشرون بعد المائة: أن الكلام في الدِّين نوعان: أمرٌ وخبرٌ، فما عارض الأمر كان من باب الهوى الذي يأمر به الشيطان (3) والنفس، وما عارض الخبر كان من باب الظنِّ والخرص الذي هو أكذب الحديث. وهؤلاء لا تجدهم إلَّا وقد جمعوا بين الأمرين، فهم في الإرادات تابعون لأهوائهم، وفي الاعتقادات تابعون لظنونهم. قال الله: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا اَلظَّنَّ وَمَا تَهْوَى اَلْأَنفُسُ وَلَقَد جَّاءَهُم مِّن رَّبِّهِمِ اِلْهُدى} [النجم: 23]. وقال تعالى: {كَاَلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاَسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاَسْتَمْتَعْتُم بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اَسْتَمْتَعَ اَلَّذِينَ مِن قَبْلِكُم _________ (1) «ح»: «تتبعته». والمثبت هو الصواب. (2) البيت لأبي الأسود الدؤلي، وقد سبق تخريجه. (3) «ح»: «السلطان». والمثبت هو الصواب.
(2/810)
بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَاَلَّذِي خَاضُوا} [التوبة: 69]. فالاستمتاع بالخَلَاق (1) اتباع الهوى والشهوات، والخوض اتباع الباطل والشبهات. وقد نزَّه سبحانه رسوله عن طريقة هؤلاء، فقال تعالى: {وَاَلنَّجْمِ إِذَا هَوى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوى} [النجم: 1 - 2]. فنزَّهه عن الضلال الذي هو نقيض الهُدى، وعن الغي الذي هو نقيض الرُّشد. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في خلفائه: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي» (2). والمقصود أن ما ناقض خبر الرسل كان كذبًا وضلالًا [وقولًا] (3) على الله غير الحقِّ. وقد نهى الله سبحانه أن يقال عليه غير الحقِّ، وأخذ الميثاق على اتباع الرُّسل بذلك، فقال: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ اُلْكِتَابِ أَن لَّا يَقُولُوا عَلَى اَللَّهِ إِلَّا اَلْحَقَّ} [الأعراف: 169]. وقال: {يَاأَهْلَ اَلْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اَللَّهِ إِلَّا اَلْحَقَّ} [النساء: 170]. وأخبر سبحانه أنه لا بد _________ (1) الخَلاق: الحظ والنصيب. «النهاية في غريب الحديث» (2/ 70). (2) أخرجه الإمام أحمد (17416، 17418، 17419) وأبو داود (4607) والترمذي (2676) وابن ماجه (42) عن العرباض بن سارية - رضي الله عنه -. وقال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح». وصحَّحه ابن حبان (5) والحاكم (1/ 95 - 97). وقال أبو نعيم في «المسند المستخرج على صحيح مسلم» (1/ 36): «هذا حديث جيد صحيح من حديث الشاميين». وقال الجورقاني في «الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير» (1/ 473): «هذا حديث صحيح ثابت مشهور». وقال البغوي في «شرح السنة» (1/ 205): «هذا حديث حسن». وصححه الضياء المقدسي في «اتباع السنن واجتناب البدع» (ص 20) والذهبي في «تاريخ الإسلام» (10/ 77) وابن الملقن في «البدر المنير» (9/ 582) وابن حجر في «موافقة الخُبر الخبر» (1/ 137). (3) سقط من «ح»، وأثبته بدلالة السياق.
(2/811)
أن ينال المفترين غضبٌ من ربهم وذلةٌ في الحياة الدُّنيا (1)، وأعظَمُ الافتراء: الفريةُ عليه سبحانه في أسمائه وصفاته وأفعاله. وقد ضمن سبحانه أنه لا بد أن يخيب (2) أهل الافتراء ولا يُهدى كيدهم (3)، وأنه يسحتهم بعذابه، أي: يستأصلهم (4). قال تعالى إخبارًا عن كليمه موسى أنه قال لرؤوس المعطلة وأئمتهم: {وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اَللَّهِ كَذِبًا فَيَسْحَتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ اِفْتَرى} [طه: 60]. وهذه الأصول التي عارضوا بها الكتاب والسُّنَّة تشتمل على الكذب والفرية في مسائلها ودلائلها، كأصول الملاحدة من الفلاسفة والدهرية النافين لما أخبر الله به من أصول الإيمان الخمس، وأصول الجهمية المناقضة لما أخبر به من أسمائه وصفاته وأفعاله، وأصول القدرية المعارضة لما أخبر به من عموم قدرته ومشيئته، وأصول الملاحدة الاتحادية التي رفعت العقل والنقل والحسَّ، وأبطلت الخلق والأمر والنبوة والرسالة والثواب والعقاب. وأصول هؤلاء كلهم أصول الزندقة والاتحاد المناقضة للعقل والدِّين. الوجه الثلاثون بعد المائة: أن هؤلاء المعارضين [ق 93 أ] لا يتم لهم ما ادعوه من المعارضة إلَّا بأربعة أمور يستلزمها قولهم: لبس الحق بالباطل _________ (1) في قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ اَتَّخَذُوا اُلْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي اِلْحَيَاةِ اِلدُّنْيا وَكَذَلِكَ نَجْزِي اِلْمُفْتَرِينَ} [الأعراف: 152]. (2) «ح»: «يحسب». والمثبت بدلالة الآية التالية. (3) «ح»: «كبيرهم». (4) ينظر «التفسير البسيط» للواحدي (14/ 435).
(2/812)
[وكتمان الحقِّ، والتكذيب به، والتصديق بالباطل] (1) فهذه أربعة (2) مقامات تتضمنها أصولهم، بل هذه الأربعة هي قواعدهم التي يبنون عليها. أمَّا لبس الحق بالباطل، فأنتم تُسمُّون ما أثبته الله لنفسه من الصِّفات والكلام والعلو والاستواء «تركيبًا وتجسيمًا وتشبيهًا» وتُسمُّون عرشه «حيزًا» واستواءه عليه «تحيزًا»، وتُسمُّون صفاته «أعراضًا» وتنزهونه عنها، وأفعاله «حوادث» وتنفونها عنه، وحكمته «أغراضًا» وتُبطلونها، ووجهه الكريم ويديه «جوارح» وتُنكرونها. ويُسمُّون نفيهم وتعطيلهم تنزيهًا وتقديسًا وتوحيدًا، فيلتبس الحق بالباطل على من لم يعرف مرادهم من هذا التنزيه والتوحيد والتقديس، ولا من ذلك التجسيم والتشبيه والتمثيل. فإذا وقعوا في هذا اللبس والتلبيس ترتب عليه ضرورة كتمان الحقِّ، والتكذيب به، والتصديق بالباطل. ولهذا جعل سبحانه كل اثنين من هذه الأربعة فريقين. أمَّا الأولان فقال تعالى: {وَلَا تَلْبِسُوا اُلْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا اُلْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 41]. وقد اختُلف في قوله: {وَتَكْتُمُوا} هل هو منصوبٌ أو مجزومٌ؟ على قولين مبنيين على الواو، هل هي واو عطف، أو واو صرف (3). _________ (1) سقط من «ح»، وأثبتناها من كلام المصنِّف فيما يأتي. (2) «ح»: «أربع». (3) ينظر: «معاني القرآن» للأخفش (1/ 71) و «معاني القرآن» للفراء (1/ 33 - 34) و «تفسير الطبري» (1/ 607 - 608) و «التفسير البسيط» للواحدي (2/ 442 - 444).
(2/813)
فمن جعلها واو عطف قال: النهي تعلق بكل واحد من الأمرين على انفراده، ولو كانت واو صرف لكان المنهي عنه جمعهما لا إفرادهما. ومن جعلها (1) واو صرف قال: لبس الحق بالباطل مستلزمٌ لكتمانه، كما يكتم الحق من لبسه بما يستره ويغشيه، فهما متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، فالنهي عن أحدهما نهي عن الآخر بطريق اللزوم. ففي كون الواو واو جمع إفادة هذا المعنى، وأن كتمان الحق ملازم للبسه بالباطل لا ينفك عنه ولا يمكن إيقاع أحدهما إلَّا بالآخر، وهذا شأن كل متلازمين. وهذا القول أميز من الأول وأعرب. وأما القرينان الآخران فقال تعالى: {وَاَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ اُلْخَاسِرُونَ} [العنكبوت: 52]. وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكافِرِينَ} [العنكبوت: 68]. وقال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ (2) عَلَى اَللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذ جَّاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكافِرِينَ} [الزمر: 31]. وهذان أيضًا متلازمان، فكل من صدَّق بالباطل كذَّب بضده وهو الحق. وإذا عرف هذا فما أثبته الله لنفسه من صفاته وكلامه وتكليمه واستوائه على عرشه وعلوه على خلقه هو الحق عقلًا وسمعًا، وما خالفه هو الباطل، والله سبحانه قد فصَّل لنا هذا من هذا، ولم يدعه ملتبسًا (3) {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 43]. _________ (1) «ح»: «جعلهما». (2) «ح»: «افترى كذبا». (3) «ح»: «لمتبسًا».
(2/814)
فلبس النُّفاة المعطلة هذا بهذا، فاضطرهم اللبس إلى كتمان الحق والتكذيب به والتصديق بضده، وإذا أردت معرفة هذا فامتحنه في مسائلهم ودلائلهم وكلماتهم المجملة الألفاظ المشتبهة المعاني. وبالله التوفيق. يوضحه: الوجه الحادي والثلاثون بعد المائة: أنه ما من حقٍّ وباطلٍ إلَّا وبينهما اشتراك من بعض الوجوه، ولو في أصل الوجود، أو في أصل الإخبار، أو في مجرد المعلومية، بأن يكون هذا معلومًا مذكورًا، وهذا معلومًا مذكورًا، ولكل واحدٍ منهما خصائص يتميز بها عن الآخر. فأحظى الناس بالحقِّ وأسعدهم به الذي يقع على الخصائص المميزة الفارقة، ويلغي القدر المشترك، فيحكم بالقدر الفارق على القدر المشترك ويفصله به. وأبعدهم عن الحقِّ والهُدى من عكس هذا السير، وسلك ضدَّ هذه الطريق، فألغى الخصائص الفارقة، وأخذ القدر المشترك، وحكم به على القدر الفارق. وأضَلُّ منه مَن أخذ خصائص كل من النوعين، فأعطاها للنوع الآخر. فهذان طريقا أهل الضلالة اللتان يرجع إليهما جميع شُعب ضلالهم وباطلهم. مثال ذلك: أن أعداء الرسل المكذبين لهم الجاحدين لما جاؤوا به من الحق لمَّا أرادوا تلبيس الحق الذي جاؤوا به بالباطل، أخذوا بينه وبين الباطل قدرًا مشتركًا، ثم ألغوا القدر الفارق، وما اختص به أحد النوعين، فقالوا: هذا
(2/815)
الرسول شاعرٌ وكاهنٌ ومجنونٌ وطالب مُلكٍ ورياسةٍ وصيت في العالم. فأخذوا قدرًا مشتركًا بين الشِّعر وبين كلامه الذي جاء به من الترغيب والترهيب وحُسن التعبير عن المعاني باللفظ الذي يروق المسامع ويهز القلوب ويحرك النفوس، فقالوا: هو شاعرٌ، وهذا شعرٌ. وضربوا عن الخصائص الفارقة صفحًا. وقالوا: هو كاهنٌ. لأن الكاهن كان عندهم معروفًا بالإخبار عن الأمور [ق 93 ب] الغائبة التي لا يُخبر بها غيره، وكذلك هذا المدَّعي لذلك مثله (1). وقالوا: مجنونٌ. لأن المجنون يقول ويفعل خلاف ما اعتاده الناس. وقالوا: ساحرٌ. لأن الساحر يأخذ بالقلوب والعيون، ويُحبب تارةً، ويُنفر أخرى. ولهذا قال لهم الوليد بن المغيرة ـ وقد سألوه ماذا يقولون للناس في أمر محمد ـ ففكر وقدَّر، ورأى أن أقرب ما يقولون هو ساحرٌ؛ لأنه يُفرِّق بين المرء وزوجه، ومحمد يفعل ذلك؛ فإن المرأة إذا أسلمت دون زوجها أو أسلم زوجها دونها وقعت الفُرقة بينهما والعداوة. وكذلك قولهم عن القرآن: أساطير الأولين. أخذوا قدرًا مشتركًا بينهما وهو جنس الإخبار عمَّا أخبر عنه الأولون. وهكذا قولهم: هو طالب ملك ورياسة وصيت. والمقصود أن كل مبطلٍ فإنه يتوصل إلى باطله بهذه الطريق، ثم يلبس (2) ما يدعو إليه خصائص الحقَّ، ..................................... _________ (1) «ح»: «لك مثاله». ولعل المثبت هو الصواب. (2) «ح»: «يلبسوا».
(2/816)
وما ينفر (1) عنه خصائص الباطل. وهذا شأن الساحر بكلامه يخرج الحقَّ في صورة الباطل فيُنفر عنه، والباطل في صورة الحقِّ فيُرغب فيه. إذا عُرف هذا فهؤلاء أخذوا قدرًا مشتركًا بين ما أثبته الله لنفسه من الصِّفات والأفعال وبين ما للمخلوقين من ذلك، وحكموا بذلك القدر المشترك على خصائص الربِّ سبحانه، ثم ألغوا حكم تلك الخصائص واعتبارها، ثم جعلوا حكمها حكم خصائص المخلوقين، فأخطؤوا من أربعة أوجه. مثاله: أنهم أخذوا قدرًا مشتركًا بين اليد القديمة والحادثة، ثم حكموا بما فهموه من ذلك القدر المشترك على القديمة، ثم ألغوا القدر الفارق بين اليد واليد، ثم جعلوا خصائص إحداهما هي خصائص الأخرى، واعتبر هذا منهم في كل صفةٍ يريدون نفيها. يوضحه: الوجه الثاني والثلاثون بعد المائة: أنك إذا أخذت لوازم المشترك والمميِّز، وميزت هذا من هذا صحَّ نظرك ومناظرتك، وزال عنك اللبس والتلبيس. وذلك أن الصفة يلزمها لوازم من حيث هي هي، فهذه اللوازم يجب إثباتها، ولا يصح نفيها؛ إذ نفيها ملزومٌ لنفي (2) الصفة. مثاله: الفعل والإدراك للحياة، فإن كل حيٍّ فعالٌ مدركٌ، وإدراك المسموعات بصفة السمع، وإدراك المبصرات بصفة البصر، وكشف المعلومات بصفة العلم والتمييز لهذه الصِّفات. فهذه اللوازم يمتنع (3) رفعها _________ (1) «ح»: «نفر». (2) «ح»: «كنفي». والمثبت من «م». (3) «ح»: «ينتفع». والمثبت من «م».
(2/817)
عن الصفة فإنها ذاتية لها، ولا يرتفع إلَّا برفع الصفة، ويلزمها لوازم من حيث كونها صفة للقديم مثل كونها واجبة قديمة عامة التعلُّق، فإن صفة العلم واجبة لله قديمة غير حادثةٍ، متعلقة بكل معلومٍ على التفصيل. وهذه اللوازم منتفية عن العلم الذي هو صفة للمخلوق، ويلزمها لوازم من حيث كونها صفة له مثل كونها ممكنة حادثة بعد أن لم تكن، مخلوقة غير صالحة للعموم، مفارقة له، فهذه اللوازم يستحيل إضافتها إلى القديم. واجعل هذا التفصيل ميزانًا لك في جميع الصِّفات والأفعال، واعتصم به في نفي التشبيه والتمثيل، وفي بطلان النفي والتعطيل. واعتبره في العلو والاستواء تجد هذه الصفة يلزمها كون العالي فوق السافل في القديم والحديث، فهذا اللازم حقٌّ لا يجوز نفيه، ويلزمها كون السافل حاويًا (1) للأعلى، محيطًا به حاملًا له والأعلى مفتقر إليه، وهذا في بعض المخلوقات لا في كلها، بل بعضها لا يفتقر فيه الأعلى إلى الأسفل (2)، ولا يحويه الأسفل، ولا يحيط به، ولا يحمله كالسماء مع الأرض. فالربُّ تعالى أجل شأنًا وأعظم أن يلزم من علوه ذلك، بل لوازم علوه من خصائصه، وهي حمله للسافل، وفقر السافل إليه، وغناه سبحانه عنه، وإحاطته (3) عز وجل به. فهو فوق العرش مع حمله العرش وحملته، وغناه عن العرش، وفقر العرش إليه، وإحاطته بالعرش، وعدم إحاطة العرش به، وحصره للعرش، وعدم حصر العرش له، وهذه اللوازم منتفية عن المخلوق. _________ (1) «ح»، «م»: «حادثًا». والمثبت من حاشية «م» وعليه: «ظ». (2) «ح»: «السفل». والمثبت من «م». (3) «ح»: «وإحاطة». والمثبت من «م».
(2/818)
وأصحاب التلبيس واللبس لا يُميِّزون هذا التمييز، ولا يُفصِّلون هذا التفصيل. ولو ميَّزوا وفصَّلوا لهُدوا إلى سواء السبيل، وعلموا مطابقة العقل الصريح للتنزيل، ولسلكوا خلف الدليل، ولكن فارقوا الدليل، وضلوا عن سواء السبيل. الوجه الثالث والثلاثون بعد المائة: أن الأصل الذي قادهم إلى النفي والتعطيل واعتقاد المعارضة بين العقل والوحي أصلٌ واحدٌ، هو منشأ ضلال بني آدم، وهو الفرار من تعدد صفات الواحد وتكثر أسمائه الدالة على صفاته، وقيام الأمور المتجددة به. وهذا لا محذور فيه، وهو الحق [ق 94 أ] الذي لا يثبت كونه سبحانه ربًّا وإلهًا وخالقًا إلَّا به، ونفيه جحدٌ للصانع بالكلية وإنكارٌ له. وهذا القدر لازمٌ لجميع طوائف أهل الأرض على اختلاف مللهم ونحلهم (1)، حتى لمن جحد الصانع بالكلية وأنكره رأسًا؛ فإنه يضطر إلى الإقرار بذلك، وإن قام عنده ألف شبهةٍ أو أكثر على خلافه. أمَّا من أقر بالصانع فإنه مضطرٌّ إلى أن يُقرَّ بكونه حيًّا عالمًا قادرًا مريدًا حليمًا فعالًا، ومع إقراره بهذا فقد اضطر إلى القول بتعدد صفات الواحد وتكثر أسمائه وأفعاله، فلو تكثرت بعدُ ما تكثرت لم يلزم من تكثرها وتعددها محذورٌ بوجهٍ من الوجوه. وإن قال: أنا أنفيها جملةً، ولا أثبت تعددها بوجه. قيل (2) له: فهل تثبته موجودًا أم لا؟ _________ (1) «ح»: «ينحلهم». وفي «م»: «وعلومهم». (2) «ح»: «فقيل». والمثبت من «م».
(2/819)
فإن قال: أثبته موجودًا. قيل له: فهو هذه الموجودات أم غيرها؟ فإن قال: غيرها. قيل له: فهل هو خالقها أم لا؟ فإن قال: هو خالقها. قيل له: فهل هو قادرٌ عليها عالمٌ بها مريدٌ لها أم لا؟ فإن قال: نعم هو كذلك. اضطر إلى تكثر صفاته وتعددها. وإن نفى ذلك كان جاحدًا للصانع بالكلية، نافيًا له، فيستدل عليه بما يستدل على الزنادقة الدهرية المنكرين لربهم تعالى، ويقال له ما قالت الرسل لأممهم: {أَفِي اِللَّهِ شَكٌّ} [إبراهيم: 13]. وهل يستدل عليه بدليلٍ هو أظهر للعقول من إقرارها به وبربوبيته. وَلَيْسَ يَصِحُّ فِي الْأَذْهَانِ شَيْءٌ ... إِذَا احْتَاجَ النَّهَارُ إِلَى دَلِيلِ (1) وإن قال: أنا أثبته موجودًا، واجب الوجود، لا صفة له. قيل له: بل زعمت أنه معدومٌ (2) ممتنع الوجود، وكل موجودٍ محققٍ أو مقدرٍ (3) أكمل منه على هذا التقدير، فضُلَّال اليهود والنصارى وعُبَّاد _________ (1) البيت للمتنبي، وهو في «ديوانه» (ص 343). (2) «ح»: «معدوما». (3) «ح»: «يعدد». ولعل المثبت هو الصواب.
(2/820)
الأصنام أعرف به منك، وأقرب إلى الحق والصواب منك. وأمَّا فرارك من قيام الأمور المتجددة به ففررت من أمرٍ لا يثبت كونه إلهًا وربًّا وخالقًا إلَّا به، ولا يتقدر كونه صانعًا لهذا العالم مع نفيه أبدًا. وهو لازم لجميع طوائف (1) أهل الأرض على اختلافهم حتى للفلاسفة الذين هم أبعد الخلق من إثبات الصِّفات والأفعال، هو لازم لهم لزومًا لا انفكاك لهم عنه. ولهذا قال بعض عقلاء الفلاسفة: «إنه لا يتقرَّر كونه ربًّا للعالمين إلَّا بإثبات ذلك». ثم قال: «والإجلال من هذا الإجلال واجبٌ، والتنزيه من هذا التنزيه متعينٌ» (2). قال بعض أهل العلم: «وهذه المسألة يقوم عليها قريب (3) من ألف دليلٍ عقليٍّ وسمعيٍّ، والكتب الإلهية والنصوص النبوية ناطقةٌ بذلك، وإنكاره إنكارٌ لما عُلم بالضرورة من دين الرُّسل أنهم جاؤوا به» (4). ونحن نقول: إن كل سورةٍ من سور القرآن تتضمن إثبات هذه المسألة، وفيها أنواع من الأدلة عليها، فأدلتها تزيد على عشرة آلاف دليلٍ. فأول سورةٍ من القرآن تدل عليها من وجوهٍ كثيرةٍ، وهي سورة أم الكتاب. فإن قوله: {اِلْحَمْدُ لِلَّهِ} يدل عليها، فإنه سبحانه يُحمد على أفعاله، _________ (1) «ح»: «الطوائف». والمثبت من «م». (2) نسبه شيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (6/ 151) لابن الخطيب يعني الفخر الرازي. (3) «ح»: «رتب». والمثبت من «م». (4) لم أقف على تسمية قائل ذلك، غير أن المصنِّف قال نحوه في «بدائع الفوائد» (1/ 261).
(2/821)
كما حمد نفسه عليها في كتابه، وحمده عليها رسله وملائكته والمؤمنون من عباده، فمن لا فعل له البتة كيف يُحمد (1) على ذلك، فالأفعال هي المقتضية للحمد. ولهذا تجده مقرونًا بها كقوله: {اِلْحَمْدُ لِلَّهِ اِلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضَ} [الأنعام: 1] {اُلْحَمْدُ لِلَّهِ اِلَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف: 42] {اِلْحَمْدُ لِلَّهِ اِلَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ اِلْكِتَابَ} [الكهف: 1] {اِلْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ اِلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ} [فاطر: 1]. الثاني: قوله: {رَبِّ اِلْعَالَمِينَ} وربوبيته للعالم تتضمن تصرفه فيه، وتدبيره له، ونفاذ أمره كل وقتٍ فيه، وكونه معه كل ساعةٍ في شأنٍ، يخلق ويرزق، ويُميت ويُحيي، ويخفض ويرفع، ويُعطي ويمنع، ويُعزُّ ويُذلُّ، ويُصرف الأمور بمشيئته (2) وإرادته، وإنكار ذلك إنكار لربوبيته وإلهيته وملكه. الثالث: قوله: {اَلرَّحْمَنِ اِلرَّحِيمِ} وهو الذي يرحم بقدرته ومشيئته من لم يكن راحمًا له قبل ذلك. الرابع: قوله: {مَلِكِ يَوْمِ اِلدِّينِ} والملك هو المتصرف فيما هو مَلِكٌ عليه ومالكٌ له، و من لا له تصرف ولا يقوم به فعلٌ البتةَ لا يُعقل له ثبوت مُلكٍ ولا مِلكٍ. الخامس: قوله: {اُهْدِنَا اَلصِّرَاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ} فهذا سؤالٌ لفعلٍ يفعله بهم، لم يكن موجودًا قبل ذلك، وهو الهداية التي هي فعله، فيترتب عليها الاهتداء، الذي هو مطاوع، وهو فعلهم. _________ (1) «ح»: «الحمد». والمثبت من «م». (2) «ح»: «بمشيئة». والمثبت من «م».
(2/822)
السادس: قوله: {صِرَاطَ اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ونعمته عليهم (1) وفعله القائم به، وهو الإنعام، فلو لم يقم به فعل الإنعام لم يكن للنعمة وجود البتة. السابع: قوله: {غَيْرِ اِلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} وهم الذين غضب الله عليهم بعدما أوجدهم وقام بهم سبب الغضب؛ إذ (2) الغضب على المعدوم محالٌ. وقد ثبت (3) عن النبي [ق 94 ب] - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا قَالَ: {اِلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اِلْعَالَمِينَ}. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي. فإِذَا قَالَ {اَلرَّحْمَنِ اِلرَّحِيمِ}. يَقُولُ اللَّهُ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي. فَإِذَا قَالَ: {مَلِكِ يَوْمِ اِلدِّينِ}. قَالَ اللَّهُ: مَجَّدَنِي عَبْدِي. وَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. قَالَ اللَّهُ: هَذِهِ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، نِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي [وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ] (4). فَإِذَا قَالَ: {اُهْدِنَا اَلصِّرَاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ} إِلَى آخِرِهَا، قَالَ اللَّهُ: هَذَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ» (5). فهذه أدلة من الفاتحة وحدها. فتأمل أدلة الكتاب العزيز بعدُ على هذا الأصل تجدها فوق عدِّ العادِّين، وإحصاء المُحصين، حتى إنك تجد في الآية الواحدة على اختصار لفظها عدة أدلة، كقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 81] ففي هذه الآية عدة أدلةٍ: أحدها: قوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ} وهذا أمر التكوين الذي لا يتأخر عنه أمر المكوَّن، بل يعقبه. _________ (1) «ونعمته عليهم» ليس في «م». (2) «ح»: «أي». والمثبت من «م». (3) «ح»: «يثبت». والمثبت من «م». (4) سقط من «ح». وأثبته من «م». (5) أخرجه مسلم، وقد تقدم (ص 580) تخريجه.
(2/823)
الثاني: قوله: {إِذَا (1) أَرَادَ شَيْئًا} و «إذا» تُخلص الفعل للاستقبال. الثالث: قوله: {أَن يَقُولَ لَهُ} و «أن» تخلص المضارع للاستقبال. الرابع: {أَن يَقُولَ} فعل مضارع إمَّا للحال وإمَّا للاستقبال. الخامس: قوله: {كُن} وهما حرفان، سبق أحدهما الآخر، ويتعقبه الثاني. السادس: قوله: {فَيَكُونُ} والفاء للتعقيب، يدل على أنه يكون عَقِيب قوله له {كُن} سواء، لا يتأخر عنه. السابع: أن قوله: {كُن} تكوين قائم به سبحانه والكون قد تعقبه ولم يتراخ (2) عنه. وقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143] فهو سبحانه إنما كلَّمه ذلك الوقت. وقوله: {وَنَادَيْنَاهُ} [مريم: 51] {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ} [القصص: 62] وقوله: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا اَلشَّجَرَةِ} [الأعراف: 21] فالنداء إنما حصل ذلك الوقت. وقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اُللَّهُ} [البقرة: 208] {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 24] {ثُمَّ اَسْتَوَى عَلَى اَلْعَرْشِ} [الأعراف: 53] {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً} [الإسراء: 16] {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [البروج: 16] {يُرِيدُ اُللَّهُ بِكُمُ اُلْيُسْرَ} [البقرة: 184] {يُرِيدُ اُللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ} [النساء: 28] {وَاَللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ _________ (1) «إذا» ليس في «ح»، وأثبته من «م». (2) «ح»: «ينزاح». والمثبت هو الصواب.
(2/824)
عَلَيْكُمْ} [النساء: 27] {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اَسْتُضْعِفُوا فِي اِلْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَىمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ اُلْوَارِثِينَ (4) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي اِلْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 4 - 5] {وَاَللَّهُ يَقُولُ اُلْحَقَّ وَهْوَ يَهْدِي اِلسَّبِيلَ} [الأحزاب: 4] {قَد سَّمِعَ اَللَّهُ قَوْلَ اَلَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اَللَّهِ وَاَللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة: 1] {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرى} [طه: 45] {إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ} [الشعراء: 14] {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 27]. وهذا عند النُّفاة لا حقيقة له، بل الشؤون للمفعولات، وأمَّا هو فله شأنٌ واحدٌ قديمٌ. فهذه الأدلة السمعية وأضعاف أضعاف (1) أضعافها ممَّا يشهد بها صريح العقل ويشهد ببطلان ما خالفها. فإنكار ذلك وإنكار تكثر الصِّفات وتعدد الأسماء هو الذي أفسد العقل والنقل، وفتح باب المعارضة بينهما. وتفصيل أدلة هذه المسألة وبيان بطلان الشُّبه المعارضة لها يستدعي مجلدًا كبيرًا، ولعلنا إن ساعد القدر أن نكتبه. والله المستعان. الوجه الرابع والثلاثون بعد المائة: أن من أئمة هؤلاء المعارضين من يقول: إنه ليس في العقل ما يوجب تنزيه الربِّ سبحانه وتعالى عن النقائص، ولم يقم على ذلك دليلٌ عقليٌّ أصلًا. كما صرَّح به الرازي (2) وتلقاه عن الجويني وأمثاله، قالوا: «وإنما نفينا النقائص عنه بالإجماع» (3). _________ (1) «أضعاف» ليس في «م». (2) ينظر «نهاية العقول في دراية الأصول» (3/ 188 - 189، 231 - 232)، و «بيان تلبيس الجهمية» (2/ 295 - 296) و «مجموع الفتاوى» (6/ 73). (3) ينظر «شفاء العليل» (ص 302).
(2/825)
وقد قدح الرازي وغيره من النُّفاة في دلالة الإجماع، وبيَّنوا أنها ظنية لا قطعية، فالقوم ليسوا قاطعين بتنزيه الله عن النقائص، بل غاية ما عندهم في ذلك الظن. فيا للعقلاء ويا لأولي الألباب! كيف تقوم الأدلة القطعية على نفي صفات كماله، ونعوت جلاله، وعلوه على خلقه، واستوائه على عرشه، وتكلمه بالقرآن حقيقة، وتكليمه لموسى حقيقة بكلامه القائم به، ورؤية المؤمنين له بأبصارهم عيانًا من فوقهم في الجنة حتى يُدَّعى أن الأدلة السمعية الدالة على ذلك قد عارضها صريح العقل؛ وأما تنزيهه عن العيوب والنقائص فلم يقم عليه دليلٌ عقليٌّ، ولكن علمناه بالإجماع، وقد قلتم دلالته ظنية؟! فوالله لو قال المُشبِّه المُجسِّم ـ بزعمكم ـ ما قال ما رضي لنفسه بهذا، ولكان ربُّ العالمين وقيوم السماوات والأرض أكبر في صدره وأجلَّ في قلبه من ألَّا يكون في عقله دليلٌ يُنزِّهه عن النقائص. ولعل جاهلًا أن يقول: إنَّا قلنا عليهم ما لم يقولوا، أو استجزنا ما يستجيزونه هم من حكاية مذاهب الناس عنهم بما (1) يعتقدونه هم لازمًا (2) لأقوالهم، فيكذبون عليهم كذبًا صريحًا، يقولون (3): مذهب الحنابلة: أن الله يجوز أن يتكلم بشيءٍ ولا يعني به شيئًا، ومذهبهم أن الله لا يجوز أن يُرى، وأمثال ذلك ممَّا هو كذبٌ صريحٌ وفريةٌ، مستندهم [ق 95 أ] فيها ما فهموه من _________ (1) «ح»: «فما». ولعل المثبت هو الصواب. (2) «ح»: «لازم». (3) «ح»: «لا يقولون». والمثبت هو الصواب.
(2/826)
لازم قولهم. فنحن لا نستجيز ذلك على أحدٍ من الناس، ولكن هذه كتب القوم فراجعها، ولا تُقلِّد الحاكي عنهم. ويكفيك من فساد عقلٍ يُعارض (1) الوحي أنه لم يقم عنده دليلٌ عقليٌّ يُنزِّه ربَّه وخالقه عن العيوب والنقائص، فلقد كشف لك صاحب هذا العقل عن حقيقة معقوله، وأقر على نفسه وعقله أنه أقل وأحقر شأنًا أن يُعارض الوحي ونصوص الأنبياء ثم يتقدم عليها، وبالله التوفيق. الوجه الخامس والثلاثون بعد المائة: أن يقال لهؤلاء المعارضين للوحي بعقولهم: لا يمكنكم (2) تنزيه الربِّ سبحانه عن النقائص والعيوب إلَّا أن تتحيزوا إلى أهل السُّنَّة، وتصيروا أضيافًا لهم، وتستضيئوا بنورهم، وإلَّا فلن يمكنكم على أصولكم تنزيه الربِّ عن العيوب البتة. فإنكم نزهتموه عن صفات كماله، وزعمتم أنها تستلزم التجسيم، وهو يستلزم الحدوث، فبذلك نفيتم صفاته وأفعاله. فلمَّا قال لكم أهل الإثبات: نفيكم لهذه الصِّفات يستلزم ثبوت ضدها له وهو نقصٌ وهو محالٌ على من له الكمال كله، أجبتموه بأن هذا إنما يلزم في القابل للشيء وضدِّه، وأما الربُّ سبحانه فإنه لا يقبل هذه الصِّفات ولا أضدادها، فلا يلزم من سلبها (3) عنه ثبوت أضدادها له، كما لا يلزم من سلب الكلام والسمع والبصر والحياة عن الحجر وصفه بالخرس والطرش والعمى والموت. فقال لكم أهل الإثبات: لو جعلتموه قابلًا لصفات الكمال وسلبتموها _________ (1) «م»: «معارض». (2) «ح»: «يمكنهم». (3) «ح»: «سلها».
(2/827)
عنه لكان أكمل ممَّن لا يقبل صفات الكمال البتة، فالأعمى والأخرس والأصم والعاجز أكمل من الحجر والتراب. فنزلتم درجة أخرى وشبهتموه بأنقص الناقصات وهو ما لا يقبل الكمال بوجهٍ. فلو أثبتم له صفات الكمال كلها على وجه التشبيه والتمثيل بخلقه لكان خيرًا من تشبيهكم (1) له بأنقص الناقصات من الجمادات التي لا تقبل الكمال. فإن الحيوان الذي يقبل أن يتعاقب عليه العدم والملكة، فيكون تارةً سميعًا وتارةً أصمَّ، أكمل من الجماد الذي لا يقبل هذا ولا هذا، بل الحيوان الموصوف بهذه النقائص مع إمكان اتصافه بهذا الكمال أكمل من الجماد الذي لا يقبل ذلك. فإذا قلتم: إن الربَّ لا يقبل الاتصاف بصفات الكمال، مع أن المتصف بالنقائص يمكنه الاتصاف بها، جعلتموه أنقص من الحيوانات، وكان من وصفه بهذه النقائص خيرًا منكم، وهم يشنعون بما يحكى عن ضُلَّال اليهود والنصارى أن الله ندم على الطوفان حتى عضَّ إصبعه، وجرى الدم، وبكى على الطوفان حتى رمد وعادته الملائكة، وأمثال ذلك. وهؤلاء مع كفرهم وضلالهم أحسن قولًا فيه ممَّن يقول: إنه لا يقبل الاتصاف بصفات الكمال. بل من جعله يأكل ويشرب وينام ويألم خيرٌ ممَّن جعله بمنزلة الأحجار والجامدات التي لا تقبل هذه الصِّفات. فالمشبهة المحضة خير منكم وأحسن قولًا في ربهم وخالقهم. وأمَّا خصومكم من أهل السُّنَّة والحديث فهم لا يقولون بتشبيهكم، _________ (1) «ح»: «تشبهكم».
(2/828)
ولا بتشبيه إخوانكم، وإن كان تشبيهكم شرًّا من تشبيههم؛ وإنما يصفون الله بصفات كماله، ونعوت جلاله، ويثبتون أفعاله حقيقة لا مجازًا، كما يثبتون ذاته وصفاته، ولا يُشبِّهون الله بخلقه، ولا يمثلونه بهم. والله سبحانه أجلُّ في صدورهم، وأعظم في قلوبهم من أن يُشبِّهوه بخلقه، أو ينفوا عنه صفات كماله وأفعاله فيشبهونه بالجامدات العادمة للكمال وقبوله. يوضحه: الوجه السادس والثلاثون بعد المائة: وهو أن الله سبحانه عاب آلهة المشركين بنفس ما وصفتم الإله الحقَّ سبحانه به (1)، فعابها بأنها لا تتكلم ولا تكلم عابديها، وقلتم: إن هذا من خصائص الربوبية. وعابها بأنها لا تسمع ولا تبصر، وقلتم: إن إثبات السمع والبصر للربِّ يقتضي التشبيه والتجسيم. وعابها بأنها لا تضر ولا تنفع ولا تهدي السبيل، فنفى عنها هذه الأفعال، وقلتم: ليس للقديم فعلٌ يقوم به البتة، فإنه لو قامت به الأفعال لكان محلًا للحوادث. وعابها بأنها لا يد لها تبطش بها، ولا رجل تمشي بها، ولا عين تبصر بها، وقلتم بأن الرب سبحانه كذلك، فإنا لو وصفناه بذلك وصفناه بالجوارح والأبعاض. وجميع (2) ما عابها به إنما هو نفيٌ وسلبٌ، لم (3) يعبها بصفة ثبوتية _________ (1) «ح»: «بها». (2) «ح»: «وجمع». (3) «ح»: «لمن».
(2/829)
البتة، وعندكم أعظم التنزيه السلب والنفي الذي هو جماع ما عاب به آلهة المشركين. الوجه السابع والثلاثون بعد المائة: أن الطوائف كلها اتفقت على إثبات موجود واجب بنفسه، قديم أزلي، لا يجوز عليه العدم، [ق 95 ب] ثم تنازعوا فيما يجب له ويمتنع عليه تنازعًا لا يحصيه إلَّا رب العباد، ولم تختلف مقالات أهل الأرض في شيءٍ كاختلافهم في ربِّهم تعالى. وأحدث الأمم عهدًا هذه الأمة، وهذه مقالاتهم قد فاقت الحصر، وقد حكى منها أهل المقالات ما بلغهم، وأعظم من استوعبها الأشعري في «مقالاته». وقد حَدَثَ بعده مقالات لم يحكها، ولم يودعها كتابه. وكلٌّ يدَّعي أن العقل دلَّه على تلك المقالة وصحتها، وإذا جاء السمع بخلافها لجأ إلى طاغوت من هذه الطواغيت الأربع. ومقالة النُّفاة المعطلة شرُّ مقالات أهل الأرض على الإطلاق، وأشدها مناقضة للمعقول والمنقول، فإنهم يصفونه بصفات المعدوم الصِّرْف، بل بصفات الممتنع الوجود، يعني: بصفات المعدوم. والممتنع ما يُخبر به عنه ويحكم به عليه، وإلا فليس هناك صفة ولا موصوف. فيقولون: ليس هو فوق خلقه، ولا هو مستوٍ على عرشه، ولا هو داخل العالم ولا خارجه، ولا متصلًا به، ولا منفصلًا عنه، ولا مباينًا له، ولا محايثًا، ولا مجاورًا، ولا فوق ولا تحت، ولا يصعد إليه شيءٌ، ولا ينزل من عنده، ولا تعرج الملائكة والروح إليه، ولا رفع المسيح إليه، ولا عرج برسوله إليه ودنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى، ولا يقرب منه شيءٌ، ولا يقرب من شيءٍ، ولا ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، ولا يأتي يوم القيامة في ظُللٍ من الغمام،
(2/830)
ولا يجيء للفصل بين عباده، ولا تُرفع إليه الأيدي، ولا يُشار إليه بالأصابع، ولا يمكن رؤيته البتة، ولا قال ولا يقول، ولا يكلم ولا يتكلم، ولا نادى ولا ينادي، ولا له علم ولا قدرة ولا حياة ولا سمع ولا بصر ولا إرادة ولا وجه ولا يد ولا عين ولا إصبع. وغلاتهم يقولون: لا يُسمَّى حيًّا عالمًا قادرًا إلَّا بطريق المجاز. ويقولون: لو أثبتنا هذه الصِّفات لزم أن يكون جسمًا، والجسم مركب، والمركب ممكن، والممكن محدث؛ فإثبات هذه الصِّفات تنافي قدمه ووجوب وجوده. وأمَّا أهل الإثبات فيقولون: الموصوف بهذه الصِّفات السلبية، المنفي عنه الصِّفات الثبوتية لا يكون إلَّا ممتنعًا، والامتناع ينافي الوجود فضلًا عن وجوبه، والذين وصفوه بهذه السلوب وصفوه بما لا يتصف به إلَّا ما يمتنع وجوده، ومن وصف ما يجب وجوده بما يمتنع وجوده فقد جعله دون المعدوم الممكن الوجود. ويقولون للمعطلة النفاة: أنتم فررتم من وصفه بما يستلزم الإنكار بزعمكم، فوصفتموه بما يستلزم الامتناع من وصفه، ومن وصفه (1) بما يستلزم الحدوث على ظنكم، فوصفتموه بما يستلزم العدم. والأجسام الجامدة خير من المسلوب عنه هذه الصِّفات، فضلًا عن الأجسام الحية الناقصة، فضلًا عن الأجسام الحية الكاملة. قالوا: ومن المعلوم أنه إذا دار الأمر بين وجود حيٍّ كاملٍ وبين معدومٍ أو ممتنعٍ كان الموجود خيرًا من المعدوم. يوضحه: _________ (1) «ح»: «وصف».
(2/831)
الوجه الثامن والثلاثون بعد المائة: أن اللوازم التي تلزم المعطلة النُّفاة شرٌّ من اللوازم التي تلزم المشبهة المحضة، دع المثبتة لحقائق الأسماء والصفات المنزهين الله عن شبه المخلوقات، فإنهم يلزمهم عشرة لوازم: أحدها: جحد الصانع ونفيه. الثاني: سلب كماله عنه. الثالث: وصفه بالنقائص والعيوب. الرابع: تشبيهه بالجمادات الناقصة. الخامس: تشبيهه بالمعدومات، بل بالممتنعات. السادس: الطعن فيما أخبر به عن نفسه، وأخبرت به عنه رسله. السابع: القدح في علم الرسول أو بيانه أو نصحه، أو الجميع. الثامن: إفساد الفِطَر والعقول وتغييرها عمَّا فُطرت عليه كإفساد الشياطين لها بالشرك واتباع الغي. التاسع: إلقاء العداوة بين الوحي والعقل، ودعوى تناقضهما وتعارضهما. العاشر: القدح في شهادة العقل؛ فإنهم إذا جوَّزوا معارضته ومناقضته لكلام الله ورسوله فقد قدحوا فيه أعظم القدح، وجرحوه أبين الجرح، ويكفي في جرحه (1) والطعن (2) في شهادته إقرارهم بأنه مضادٌّ مناقضٌ لما _________ (1) «ح»: «جروحه». (2) «ح»: «الطعن». بغير واو.
(2/832)
بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه. وحينئذٍ فنقول في: الوجه التاسع والثلاثين (1) بعد المائة: إنكم أسأتم القول في العقل غاية الإساءة، وقدحتم فيه أعظم القدح، فإن الله سبحانه ركب العقول (2) في عباده ليعرفوا بها صدقه، وصدق رسله، ويعرفوه بها، ويعرفوا كماله، وصفاته وعظمته وجلاله، وربوبيته وتوحيده (3)، وأنه الإله الحق، وما سواه باطل؛ فهذا هو الذي أعطاهم العقل لأجله بالذات والقصد الأول، وهداهم به إلى مصالح معاشهم التي تكون [ق 96 أ] عونًا لهم على ما خُلقوا لأجله وأُعطوا العقول له. فأعظم ثمرة العقل معرفته (4) لخالقه وفاطره، ومعرفة صفات كماله، ونعوت جلاله وأفعاله، وصدق رسله، والخضوع والذل والتعبد له. فإذا أقررتم على العقل بأنه لا يدرك ذلك ولا يُصدِّق به بل يعارضه ويُكذِّبه ويردُّه؛ فقد نسبتموه إلى أقبح الجهل، وأعظم شهادة الزُّور؛ وما كان هكذا فلا تُقبل له شهادةٌ في شيءٍ، فضلًا عن تقديم شهادته على ما شهد الله به لنفسه، وشهدت له به رسله من أولهم إلى آخرهم. وحينئذٍ فنقول في: الوجه الأربعين بعد المائة: إن الشهادة تعتمد على الشاهد وصدقه، فإنها خبرٌ، ولا بد أن يكون المخبر به عالمًا صادقًا، وقد عُلم كذب العقل المعارض لما جاءت به الرسل قطعًا وجملةً، فإنه لا يجتمع صدقه وصدق الرُّسل، ولا صحة ما أخبر به وصحة ما أخبرت به الرُّسل؛ لاستحالة الجمع _________ (1) «ح»: «والثلاثون». (2) «ح»: «المعقول». (3) «ح»: «وتوحيدهم». (4) «ح»: «معرفة».
(2/833)
بين النقيضين، وحينئذٍ فيلزم من قبول شهادته تكذيب شهادة الرُّسل. هذا لو لم يُعلم كذبه فيما شهد به إلَّا بمجرد مخالفته لما شهدت به الرُّسل، فكيف إذا عُلم كذبه بشهادة عقلٍ آخر أصح منه وأزكى وأصدق؟! كيف وقد عُلم كذب العقل الشاهد بخلاف ما جاءت به الرُّسل بوجوهٍ كثيرةٍ من مناقضته واضطرابه وإثباته للشيء ثم نفيه للوازمه، ونفيه للوازمه ثم إثباته لملزوماتها، وتفريقه بين المتساويين، وجمعه بين المختلفين، فقد عُلم كذبه وجهله من هذه الوجوه الثلاثة؟! فلا يصلح أن يُستشهد به على مخالفة السمع بوجهٍ من الوجوه. يوضحه: الوجه الحادي والأربعون بعد المائة: وهو أن هؤلاء المعارضين ردُّوا حكم العقل الصريح المبني على المقدِّمات الضرورية الفطرية، ونسبوه إلى البطلان، وحينئذٍ فلا يمكنهم أن يُقيموا معقولًا صحيحًا على خلاف ما دلَّ عليه السمع البتة؛ لأن حكم العقل الذي ردُّوه وأبطلوه أظهرُ وأبين وأصدق من حكم العقل الذي قدَّموه على كلام الله ورسوله، بما لا نسبة بينهما، فصاروا في ذلك بمثابة حاكمٍ فاسقٍ ظالمٍ ردَّ شهادة العدول المبرِّزين في العدالة، وقَبِلَ شهادة المجهولين والمعروفين بالكذب والزُّور والفسق؛ ثم لم يكفه ذلك حتى عارض شهادة أولئك العدول الصادقين بشهادة هؤلاء الفسقة الكاذبين، ثم قدَّمها عليها، وطعن في أولئك العدول، فارتكب أنواعًا من الجهل والظُّلم، جمع فيها بين إبطال (1) الحقِّ، وتحقيق الباطل، وتزكية شهود الزُّور، والطعن في شهادة (2) العدول. _________ (1) «ح»: «أطال». والمثبت هو الصواب. (2) «ح»: «الشهادة».
(2/834)
فتوَّهوا (1) العقول الصحيحة والنصوص الصريحة وضيقوها، واستدعوا العقول الفاسدة، والأقوال الكاذبة، فولوها مكانها واستعملوها؛ كما قال أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كُلَّاب إمام الأشعري وأصحابه في كتاب «الصفات» ـ ممَّا نقله عنه أبو بكر بن فورك ـ فقال في الكتاب المذكور في باب القول في الاستواء وهذا لفظه: «ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو صفوة الله من خلقه، وخيرته من بريته، وأعلمهم جميعًا به يُجيز السؤال بـ «أين» ويقوله، ويستصوب قول القائل: «إنه في السماء». ويشهد له بالإيمان عند ذلك (2). وجهم بن صفوان وأصحابه لا يجيزون الأين ـ زعموا ـ ويُحيلون القول به. ولو كان خطأ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق بالإنكار له، وكان ينبغي أن يقول لها (3): لا تقولي ذلك، [فتوهمين] (4) أنه عز وجل محدودٌ في مكانٍ دون مكان، ولكن قولي: إنه في كل مكان؛ لأنه الصواب دون ما قلتِ. كلا، لقد أجازه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع علمه بما فيه، وأنه أصوب الأقاويل والأمر الذي يجب به الإيمان لقائله، ومن أجله شهد لها بالإيمان حين قالته، وكيف يكون الحق في خلاف ذلك والكتاب ناطقٌ به وشاهدٌ له». قال: «ولو لم يشهد بصحة (5) مذهب الجماعة في هذا الفنِّ خاصة إلَّا ما ذكرنا من هذه الأمور لكان فيه ما يكفي، كيف وقد غرس في بِنية الفطرة _________ (1) تيَّه نفسه وتوَّه بمعنى، أي: حيَّرها وطوَّحها. «الصحاح» (6/ 2229). (2) أخرجه مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي، وقد تقدم (ص 124). (3) أي: للجارية في حديث معاوية بن الحكم السلمي. (4) «ح»: «فهو قسمين». وفي «اجتماع الجيوش الإسلامية»: «فتوهمي». والمثبت من «درء التعارض». (5) «اجتماع الجيوش» و «درء التعارض»: «لصحة».
(2/835)
ومعارف الآدميين من ذلك ما لا شيء أبين منه ولا أوكد، لأنك (1) لا تسأل أحدًا (2) من الناس عنه عربيًّا ولا عجميًّا ولا مؤمنًا ولا كافرًا فتقول: أين ربك؟ إلَّا قال: «في السماء»، إن أفصح، أو أومأ بيده وأشار بطرفه إن كان لا يُفصح، لا يُشير إلى غير ذلك من أرضٍ ولا سهلٍ ولا جبلٍ. ولا رأينا أحدًا داعيًا إلَّا رافعًا يديه إلى السماء، ولا وجدنا أحدًا غير الجهمية يُسأل عن ربه فيقول: في كل مكان، كما يقولون، وهم يزعمون (3) أنهم أفضل الخلق كلهم، فتاهت العقول وسقطت الأخبار واهتدى جهم وحده [ق 96 ب] وخمسون رجلًا معه؟! نعوذ بالله من الخذلان ومضلات (4) الفتن» (5). ثم ألزمهم ابن كُلَّاب بمذهب الدهرية الملاحدة، وأن يكونوا وهم بمنزلةٍ واحدةٍ؛ فقال في هذا الكتاب: «يقال للجهمية: أليست الدهرية كفارًا ملحدين في قولهم: إن الدهر هو واحدٌ، إلَّا أنه لا ينفك عن العالم ولا ينفك العالم عنه، ولا يباين العالم ولا يباينه، ولا يماس العالم ولا يماسه، ولا يداخل شيئًا من العالم ولا يداخله؛ لأنه واحد والعالم غير مفارق له؟ فإذا قالوا: نعم. قيل لهم: صدقتم، فلِمَ أثبتم المعبود بمعنى الدهر، وأكفرتم من قال بمثل مقالتكم؟ هل تجدون بينكم وبينه فرقًا أكثر من أن سمَّيتموه بغير ما سَمَّوْه به، وقد قلتم: إنه غير مفارق للعالم، ولا العالم _________ (1) «ح»: «لا تبل». والمثبت من «اجتماع الجيوش» و «درء التعارض». (2) «ح»: «أحد». والمثبت من «اجتماع الجيوش» و «درء التعارض». (3) «اجتماع الجيوش» و «درء التعارض»: «يدعون». (4) «ح»: «ومعضلات». والمثبت من «اجتماع الجيوش» و «درء التعارض». (5) نقله ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 193 - 194) والمصنِّف في «اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص 435 - 436).
(2/836)
مفارق له، ولا هو داخل في العالم، ولا العالم داخل فيه، ولا مماس للعالم، ولا العالم مماس له؟ فأين تذهبون يا أولي الألباب إن كنتم تعقلون؟! مَن أولى أن يكون قد شبَّه الله بخلقه نحن أو أنتم؟ ولِمَ رجعتم على من خالفكم بالتكفير، وزعمتم أنهم قد كفروا لأنهم قالوا: واحدٌ منفردٌ بائنٌ. فلِمَ لا كنتم أولى بالكفر والتشبيه منهم إذْ (1) زعمتم مثل زعم الملحدين، وقلتم مثل مقالة الضالين، وخرجتم من توحيد ربِّ العالمين» (2). وقال في موضع آخر من هذا الكتاب: «وأخرج من العقل والخبر من قال: إنه سبحانه لا داخل العالم ولا خارجه. لأنه نفاه نفيًا مستويًا» (3). وألزم الجهمية في موضع آخر منه مفارقة صريح المعقول، حيث زعموا بأنه سبحانه فعل الأشياء لا بائنة عنه ولا قائمة به حالة فيه، وهذا لا يثبته عقل عاقلٍ (4). وأخذ هذا من حُجَّة الإمام أحمد وأئمة السُّنَّة على هؤلاء المعطلة الجهمية. قال الإمام أحمد في كتابه الذي خرَّجه في «الرد على الزنادقة والجهمية» (5)، وذكره الخلَّال في «الجامع» (6) والقاضي أبو يعلى (7) وسائر _________ (1) «ح»: «إذا». والمثبت من «درء التعارض». (2) نقله ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 194 - 195). (3) نقله ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 119) و «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 44). (4) نقله ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 195 - 196). (5) «الرد على الزنادقة والجهمية» (ص 155). (6) لم يُعثر إلَّا على قطعة منه، وهو من أجلِّ كتب الخلال، حتى قال في «كشف الظنون» (1/ 576): «لم يصنَّف في مذهبه مثله». (7) «إبطال التأويلات» (ص 444).
(2/837)
أصحاب أحمد. قال في باب ما أنكرت الجهمية الضُلَّال أن يكون الله على العرش: «وإذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذبٌ على الله حين زعم أنه في كل مكان، ولا يكون في مكان دون مكان؛ فقل له: أليس الله كان ولا شيء؟ فيقول: نعم. فقل له: حين خلق الخلق خلقه في نفسه أو خارجًا من نفسه؟ فإنه يصير إلى ثلاثة أقوال: إن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه فقد كفر حين زعم أنه خلق الجن والشياطين في نفسه، وإن قال: خلقهم خارجًا من نفسه ثم دخل فيهم، كان هذا أيضًا كفرًا حين زعم أنه دخل في كل مكانٍ وحُشٍّ قذر رديء. فإن قال: خلقهم خارجًا من نفسه ولم يدخل فيهم، رجع عن قوله كله أجمع». فقد بيَّن الإمام أحمد ما هو معلومٌ بصريح العقل وبديهته من أنه لا بد إذا خلق الخلق من أن يخلقه مباينًا له أو محايثًا له، ومع المحايثة إمَّا أن يكون هو في العالم وإمَّا أن يكون العالم فيه؛ لأنه سبحانه قائم بنفسه، والقائم بنفسه إذا كان محايثًا لغيره فلا بد أن يكون أحدهما حالًّا في الآخر، بخلاف ما لا يقوم بنفسه كالصفات فإنها تكون قائمةً بغيرها، فهذا القسم لم يحتج أن يذكره لظهور فساده. وكذلك قول من يقول: لا هو مباينٌ ولا محايث لما كان [معلومًا بصريح] (1) العقل بطلانه لم يدخله في التقسيم. والمقصود أن أئمة الكلام وأئمة السُّنَّة متفقون على أن قول الجهمية مخالفٌ لصريح العقل والنقل، وفطرة الله التي فطر عليها عباده، وأنه لا يمكن أحدًا أن يقول بقولهم حتى يتوّه العقل والسمع ويفارق حكمهما. _________ (1) «ح»: «صريح». والمثبت من «درء التعارض» (6/ 144).
(2/838)
الوجه الثاني والأربعون بعد المائة: أن فحول الكلام وأئمة النظر والبحث ـ الذين سبروا المقالات، وتبحروا في المعقولات ـ قد شهدوا لطريقة النُّفاة المعطلة بمناقضتها للسمع والعقل، وأن السمع والعقل إنما يقتضيان الإثبات، وعلو الربِّ على جميع المخلوقات، واستواءه على عرشه فوق سبع سماوات. قال أبو الحسن الأشعري في كتاب «الإبانة» (1) و «الموجز» (2) و «المقالات» (3) وهذا لفظه في كتاب «الموجز» إذ هو من أجلِّ كتبه المتوسطات: «إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قيل له: نقول إن الله عز وجل مستوٍ على عرشه، كما قال: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4] وقد قال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ اُلْكَلِمُ اُلطَّيِّبُ وَاَلْعَمَلُ اُلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] وقال: {بَل رَّفَعَهُ اُللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 157] وقال: {يُدَبِّرُ اُلْأَمْرَ مِنَ اَلسَّمَا إِلَى اَلْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة: 4] وقال حكاية عن فرعون: {يَاهَامَانُ اُبْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّيَ أَبْلُغُ اُلْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ اَلسَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36 - 37] كذَّب موسى في قوله: إن الله عز وجل فوق السماوات. وقال عز وجل: {آامِنتُم مَّن فِي اِلسَّمَاءِ اَن يَخْسِفَ بِكُمُ اُلْأَرْضَ} [الملك: 17] [ق 97 أ] والسماوات فوقها العرش الذي هو فوق السماوات، وكل ما علا فهو سماء، فالعرش أعلى السماوات. وليس إذا قال: {آامِنتُم مَّن فِي اِلسَّمَاءِ} يعني جميع السماء، وإنما أراد العرش الذي هو أعلى _________ (1) «الإبانة» (ص 105 - 107). (2) عزاه له ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 198 - 201). (3) «مقالات الإسلاميين» (ص 290).
(2/839)
السماوات. ألا ترى أن الله سبحانه ذكر السماوات فقال: {وَجَعَلَ اَلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} [نوح: 16] ولم يرد أن القمر ملأهن جميعًا، وأنه فيهن جميعًا؟ ورأينا المسلمين جميعًا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء؛ لأن الله عز وجل مستوٍ على العرش الذي هو فوق السماوات، فلولا أن الله عز وجل على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش، كما لا [يحطونها] (1) إذا دعوا نحو الأرض». قال (2): «وقال قائلون من الجهمية والمعتزلة والحرورية: إن معنى قوله: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4] أنه استولى وملك وقهر، وأن الله في كل مكان. وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قال أهل الحق، وذهبوا في الاستواء إلى القدرة». قال (3): «ولو كان هذا كما ذكروه كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة؛ لأن الله قادرٌ على كل شيءٍ، والأرض فالله قادر عليها، وعلى كل ما في العالم، فلو كان الله مستويًا (4) على العرش بمعنى الاستيلاء وهو سبحانه مستولٍ على الأشياء كلها؛ كان مستويًا على العرش وعلى الأرض وعلى السماء وعلى الحشوش والأقذار؛ لأنه قادرٌ على الأشياء ومستولٍ عليها. وإذا كان قادرًا على الأشياء كلها ولم يجز عند أحدٍ من المسلمين أن يقول: إن الله مستوٍ على الحشوش والأخلية؛ لم يجز أن يكون الاستواء على _________ (1) «ح»: «يحيطونها». والمثبت من «الإبانة». (2) «الإبانة» (ص 108). (3) «الإبانة» (ص 108 - 109). (4) «ح»: «مستو». والمثبت من «الإبانة».
(2/840)
العرش الاستيلاء الذي هو عامٌّ في الأشياء كلها، ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص بالعرش دون الأشياء كلها». قال (1): «وزعمت المعتزلة والحرورية والجهمية أن الله في كل مكانٍ، فلزمهم أنه في بطن مريم والحشوش والأخلية. وهذا خلاف الدِّين، تعالى الله عن قولهم». ثم قال (2): «ودليلٌ آخر وهو قوله سبحانه: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اُللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 48]. فقد خَصَّت الآية البشر دون غيرهم ممَّن ليس هو من جنس البشر، ولو كانت الآية عامَّةً للبشر وغيرهم كان أبعد من الشُّبْهة وإدخال الشك على من يسمع الآية أن يقول: وما كان لأحدٍ أن يكلمه الله إلَّا وحيًا أو من وراء حجاب، فيرتفع الشك والحيرة = من أن يقول: ما كان لجنس من الأجناس أن يكلِّمه الله إلَّا وحيًا أو من وراء حجاب، ويترك أجناسًا لم يعمهم بالآية، فدل ما ذكرنا على أنه خصَّ البشر دون غيرهم». ومقصود الأشعري بهذا الكلام أنه على قول النُّفاة لا فرق بين البشر وغيرهم، فإنه عندهم لا يحجب الله تعالى أحدًا بحجابٍ منفصلٍ عنه، بل هو محتجبٌ من جميع الخلق، بمعنى أنه لا يمكن أحدًا أن يراه، فاحتجابه عن بعضهم دون بعضٍ دليلٌ على نقيض قولهم. وذلك أن نفاة المباينة يفسرون الاحتجاب بمعنى عدم الرُّؤية، لامتناع قبول الذات لها، لا لمانعٍ منفصلٍ يمنعها من حجابٍ منفصلٍ عن المحجوب. وإذا كانت الذات غير قابلة _________ (1) «الإبانة» (ص 109). (2) «الإبانة» (ص 115 - 116).
(2/841)
للرُّؤية بل حجابها عدم قبولها لتعلق الرُّؤية بها كان هذا الحجاب بالنسبة إلى جميع المخلوقات واحدًا، ولم يختص به البشر دون غيره. فلمَّا أخبر أنه يكلم البشر من وراء حجاب دلَّ على أنه قد يكلم غيرهم مع رفع ذلك الحجاب، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لجابر بن عبد الله: «إِنَّ اللهَ مَا كَلَّمَ أَحَدًا إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَإِنَّهُ أَحْيَا أَبَاكَ فكَلَّمَهُ كِفَاحًا (1)» (2). وكما في الحديث: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِجَابٌ يَحْجُبُهُ وَلَا تُرْجُمَانُ» (3). فلا يناقض هذا ما دلَّت عليه الآية، فإن هذا في الدنيا، وما دلت عليه السُّنَّة في دار الآخرة، وتكليم عبد الله بن حرام والد جابر كان بعد الموت، لم يكن في الدنيا. قال الأشعري (4): «دليلٌ آخر: قال الله عز وجل: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اَللَّهِ مَوْلَاهُمُ اُلْحَقِّ} [الأنعام: 63] وقال تعالى: {وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 31] وقال: {وَلَوْ تَرى إِذِ اِلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ} [السجدة: 12] وقال تعالى: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا} [الكهف: 47]». _________ (1) أي: مواجهةً ليس بينهما حجاب ولا رسول. «النهاية في غريب الحديث» (4/ 185). (2) أخرجه الإمام أحمد (14881) والترمذي (3010) وابن ماجه (190، 2800) وابن خزيمة في «التوحيد» (599) وابن حبان (7022) والحاكم في «المستدرك» (3/ 203) وقال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب». وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه». (3) متفق عليه، وقد تقدم تخريجه (ص 38). (4) «الإبانة» (ص 116 - 117).
(2/842)
قال: «كل ذلك يدل على أنه ليس في خلقه، ولا خلقه فيه، وأنه مستوٍ على عرشه. سبحانه وتعالى عمَّا يقول الظالمون علوًّا كبيرًا، الذين لم يثبتوا له في وصفهم حقيقة، ولا أوجبوا له بذكرهم إيَّاه وحدانية؛ إذ كلامهم يؤول إلى التعطيل، وجميع أوصافهم [ق 97 ب] تدل على النفي، يريدون بذلك ـ زعموا ـ التنزيه، ونفي التشبيه. فنعوذ بالله من تنزيه يوجب النفي والتعطيل». ووجه استدلاله بهذه النصوص أنها صريحة في المباينة والمقابلة والوقوف بين يديه، ولو كان غير داخل في العالم ولا خارجه لم يصح شيءٌ من ذلك. فهذه النصوص صريحةٌ في مباينته (1) العالم، ومقابلته للواقف بين يديه، حتى يكون ناكس الرأس قدَّامه، فلو لم يكن فوق العرش بطلت هذه النصوص جملةً. قال الأشعري (2): «وروت العلماء عن ابن عباسٍ أنه قال: «تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله، فإن بين كرسيِّه إلى السماء ألف عام، والله عز وجل فوق ذلك». وهذا الحديث قد رواه أبو أحمد العسال في كتاب «المعرفة» (3) من _________ (1) «ح»: «مباينة». ولعل المثبت هو الصواب، وينظر «درء التعارض» (6/ 203). (2) «الإبانة» (ص 118). (3) نسبه له ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 203 - 204). والحديث أخرجه أبو الشيخ في «العظمة» (22) من طريق عبد الوهاب الوراق به. وتابعه عاصم بن علي عن أبيه به، أخرجه ابن بطة في «الإبانة الكبرى» (108) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (618، 887) وأخرجه ابن أبي شيبة في «العرش» (16). وقال الذهبي في «العرش» (2 134): «رواه البيهقي في «الصفات» وأبو الشيخ الأصبهاني في كتاب «العظمة» وغيرهما بإسنادٍ حسنٍ عنه». وقال ابن حجر في «فتح الباري» (13/ 383): «وحديث ابن عباس: «تَفكَّروا في كل شيءٍ، ولا تَفكَّرُوا في ذات الله» موقوف، وسنده جيدٌ». وقد روي مرفوعًا من طرق أخرى، وفي أسانيدها ضعف شديد، وحسَّنه الشيخ الألباني في «الصحيحة» (1788).
(2/843)
حديث عبد الوهاب الوراق، ثنا علي بن عاصم، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباسٍ: «تفكروا في خلق الله، ولا تفكروا في ذات الله، فإن ما بين كرسيه إلى السماء السابعة سبعة آلاف نور، وهو فوق ذلك». ثم قال عبد الوهاب ـ الرجل الصالح العالم، الذي سُئل الإمام أحمد من يُسأل بعدك؟ فقال: سلوا عبد الوهاب الوراق (1) ـ قال (2): «من زعم أن الله هاهنا فهو جهمي خبيث، إن الله فوق العرش، وعلمه محيط بالدنيا والآخرة». قال الأشعري (3): «وممَّا يؤكد أن الله مستوٍ على عرشه دون الأشياء كلها ما نقله أهل الرِّواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحاديث النزول كقوله: «يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ، هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ، هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأَسْتَجِيْبَ لَهُ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ» (4). قال (5): «ودليل آخر قال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] _________ (1) رواه المروذي في «الورع» (4). وينظر: «العرش» للذهبي (226) و «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 130). (2) يعني: عبد الوهاب الوراق. ينظر: «العلو» للذهبي (511) و «العرش» له (226). (3) «الإبانة» (ص 110). (4) حديث متواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد تقدم (ص 177) تخريجه. (5) «الإبانة» (ص 112 - 113).
(2/844)
وقال تعالى: {تَعْرُجُ اُلْمَلَائِكَةُ وَاَلرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] وقال: {ثُمَّ اَسْتَوَى إِلَى اَلسَّمَاءِ وَهْيَ دُخَانٌ} [فصلت: 10] وقال: {ثُمَّ اَسْتَوَى عَلَى اَلْعَرْشِ اِلرَّحْمَنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59] وقال: {ثُمَّ اَسْتَوَى عَلَى اَلْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} [السجدة: 3]. وكل ذلك يدلُّ على أنه في السماء مستوٍ على عرشه». قال (1): «ودليلٌ آخر قوله عز وجل: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَاَلْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 24] وقال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اُللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ اَلْغَمَامِ وَاَلْمَلَائِكَةُ} [البقرة: 208]. وقال تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحى (10) مَا كَذَبَ اَلْفُؤَادُ مَا رَأى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرى} [النجم: 8 - 12]. وقال تعالى لعيسى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 54]. وقال: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (156) بَل رَّفَعَهُ اُللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 156 - 157]. وأجمعت الأُمة على أن الله رفع عيسى إلى السماء». قال الأشعري (2): «ومن دعاء أهل الإسلام جميعًا إذا هم رغبوا إلى الله عز وجل في الأمر النازل بهم أن يقولوا جميعًا: يا ساكن العرش (3)، لا والذي احتجب بسبع سماوات». فقد حكى أبو الحسن الأشعري إجماع المسلمين على أن الله فوق العرش، وأن خلقه محجوبون عنه بالسماوات. وهذا مناقضٌ لقول من يقول: إنه لا داخل العالم ولا خارجه، فإن هؤلاء يقولون: ليس للعرش به _________ (1) «الإبانة» (ص 114 - 115). (2) «الإبانة» (ص 115). (3) في «الإبانة»: «السماء». وذكرت المحققة أنه في نسختين: «العرش».
(2/845)
اختصاص، وليس شيءٌ من المخلوقات يحجب عنه شيئًا. وقال لسان المتكلمين القاضي أبو بكر بن الباقلاني في كتاب «الإبانة» (1) و «التمهيد» (2) وغيرهما: «فإن قال قائل: أتقولون إنه في كل مكان؟ قيل: معاذ الله، بل هو مستوٍ على عرشه؛ كما أخبر في كتابه، فقال: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4] وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ اُلْكَلِمُ اُلطَّيِّبُ وَاَلْعَمَلُ اُلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] وقال: {آامِنتُم مَّن فِي اِلسَّمَاءِ اَن يَخْسِفَ بِكُمُ اُلْأَرْضَ} [الملك: 17]. ولو كان في كل مكانٍ لكان في بطن الإنسان، وفي المواضع التي يُرغب عن ذكرها، ولوجب أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا خلق منها ما لم يكن، وينقص بنقصانها إذا أبطل منها ما كان، ولصحَّ (3) أن يُرغب إليه إلى نحو الأرض وإلى خلفنا وعن أيماننا وشمائلنا. وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله». وقد ذكرنا في كتاب «اجتماع العساكر الإسلامية على غزو الفرقة الجهمية» (4) أضعاف أضعاف هذه النقول عن الصحابة والتابعين وتابعيهم والأئمة الأربعة نصًّا صريحًا عنهم، نقل أصحابهم وغيرهم، وأئمة التفسير، وأئمة اللغة، وأئمة النحو، وأئمة الفقه، وسادات الصوفية، وشعراء الجاهلية والإسلام، ممَّا في بعضه كفاية لمن أراد الله هدايته. ومن طبع الله على قلبه، فإن آيات الله تُتلى عليه وكلام رسوله ولا يزيده ذلك إلَّا مرضًا على مرضه. _________ (1) لم نقف عليه. (2) «التمهيد» (ص 260). (3) «ح»: «ما يصح». والمثبت من «التمهيد». (4) «اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص 162 - 510).
(2/846)
والله الموفق للصواب، لا إله غيره ولا ربَّ سواه. الوجه الثالث والأربعون بعد المائة: أن هؤلاء لم يكفهم أن سدُّوا على أنفسهم باب الردِّ على أعداء الإسلام بما وافقوهم فيه من النفي والتعطيل، حتى فتحوا لهم [ق 98 أ] الباب، وطرَّقوا لهم الطريق إلى محاربة القرآن والسُّنَّة. فلمَّا دخلوا من بابهم، وسلكوا من طريقهم، تحيزوا معهم وصاروا جميعًا حربًا للوحي، وادَّعوا أن العقل يخالفه. ولا يمكن الردُّ على أهل الباطل إلَّا مع اتباع السُّنَّة من كل وجهٍ، وإلَّا فإذا وافقها الرجل من وجهٍ وخالفها من وجهٍ طمع فيه خصومه من الوجه الذي خالفها فيه، واحتجوا عليه بما وافقهم فيه من تلك المقدمات المخالفة للسُّنة. ومن تدبَّر عامة ما يحتج به أهل الباطل على من هو أقرب إلى الحق منهم وجد حجتهم إنما تقوى على من ترك شيئًا من الحق الذي أرسل الله به رسوله وأنزل به كتابه، فيكون ما تركه من الحقِّ من أعظم حجة للمبطل عليهم؛ ويجد كثيرًا من أهل الكلام يوافقون خصومهم على الباطل تارةً، ويخالفونهم في الحقِّ تارةً، فيتسلطون عليهم بما وافقوهم فيه من الباطل، وبما خالفوه (1) من الحقِّ. وليس لمبطلٍ ـ بحمد الله ـ حجةٌ ولا سبيلٌ بوجهٍ من الوجوه على من وافق السُّنَّة ولم يخرج عنها، حتى إذا خرج عنها قدر أنملة تسلط عليه المبطل بحسب القدر الذي خرج به عن السُّنَّة. فالسُّنَّة حصن الله الحصين الذي من دخله كان من الآمنين، وصراطه المستقيم الذي من سلكه كان إليه _________ (1) «ح»: «خالفوهم». ولعل المثبت هو الصواب.
(2/847)
من الواصلين، وبرهانه المبين الذي من استضاء به كان من المهتدين. فمن وافق مبطلًا على شيءٍ من باطله جرَّه بما وافقه منه إلى بقية (1) باطله. وقد ضرب بعض أهل العلم لذلك مثلًا مطابقًا فقال: مثل الحق مثل طريق مستقيم واسع، وعلى جنبيه قُطَّاع ولصوص، وعندهم خواطئ (2) قد ألبسوهنَّ (3) الحلي والحلل وزينوهن للناظرين. فيمر الرَّجل بالطريق فيتعرَّضْن له، فإن التفت إليهن طمعن في حديثه، فألقين إليه الكلام، فإن راجعهن وأجابهن دعينه (4) إلى الذبح، فإذا دخل عرين الموت صار في قبضتهن أسيرًا أو قتيلًا! فكيف يُحارب قومًا مَن هو أسير في قبضتهم قتيل سلاحهم، بل يصير هذا عونًا من أعوانهم، قاطعًا من قطاع الطريق. ولا يعرف حقيقة هذا المثل إلَّا من عرف الطريق المستقيم وقُطَّاع الطريق ومكرهم وحيلهم. وبالله التوفيق، وهو المستعان. وقد نصب الله سبحانه الجسر الذي يمر الناس عليه (5) إلى الجنة، ونصب بجانبيه كلاليب (6) تخطف الناس بأعمالهم، فهكذا كلاليب الباطل من تشبيهات الضلال وشهوات الغي، تمنع صاحبها من الاستقامة على طريق الحق وسلوكه، والمعصوم من عصمه الله. _________ (1) «ح»: «نفيه». (2) الخاطية: المرأة الفاجرة، العاهرة. «تكملة المعاجم العربية» (4/ 129). (3) «ح»: «ألبسوهم». (4) كذا في «ح»، والصواب: «دَعَونه». (5) «عليه» ليس في «ح». (6) الكلاليب: الخطاطيف، واحدها كَلوب. «مشارق الأنوار» (1/ 340).
(2/848)
الوجه الرابع والأربعون بعد المائة: أن يقال لهذه الفرقة المعارضة بين النقل والعقل: أتدَّعون هذه المعارضة بين العقل وجميع النقل أو بعضه؟ والأول لا يقوله مسلمٌ، بل ولا عاقلٌ ولا أحد من بني آدم، فلا حاجة إلى الكلام على تقريره. وإذا ادَّعيتم أن التعارض واقعٌ بين العقل وبين بعض المنقول، قيل لكم: المنقول أنواع متعددة: نوعٌ يتعلق بالأمر والنهي والإباحة. ونوعٌ يتعلق بمبدأ الخليقة وتخليق العالم ومادته ومبدئه. ونوعٌ يتعلق بالمعاد وحشر الأجساد وطي العالم وخرابه وإنشاء الخلق نشأةً أخرى. ونوعٌ يتعلق بالإخبار عن الأمم السالفة والقرون الماضية وأحوالهم وما أصابهم من نعمة ونقمة. ونوعٌ يتعلق بالإخبار عن عجائب المخلوقات وبدائع الآيات في الأرض والسماء. ونوعٌ يتعلق بأسماء الربِّ وصفاته وأفعاله وما يجب له ويمتنع عليه. فأي هذه الأنواع تدَّعون معارضة العقل لها حتى يقع الكلام معكم فيه؟ ومعلومٌ أنه ما من نوعٍ من هذه الأنواع إلَّا وقد عارضه طائفةٌ من شياطين الإنس بآرائهم وعقولهم. وقد قدَّمنا معارضة شيخ القوم (1) للأمر بمعقوله، _________ (1) يعني: إبليس لعنه الله.
(2/849)
وأن العقل يقتضي ألَّا يسجد الفاضل للمفضول، وبيَّنا سريان تلك المعارضة في تلامذته وأتباعه، حتى إن منهم من عارض الأمر كله بعقله، وذكروا وجوهًا عقلية تدفع الأمر والنهي، والله يعلم أن الوجوه العقلية التي ذكرها المعطلة النُّفاة لدفع علو الربِّ واستوائه على عرشه وصفات كماله أوهى منها أو من جنسها. وطائفةٌ أخرى عارضت نصوص المبدأ والمعاد بمعقولات هي من جنس معقولات نُفاة الصفات، فهل يوافقون هؤلاء في صحة هذه المعارضة أم يخالفوهم (1)؟ وفي أي الأنواع تدَّعون المعارضة؟ فإن قصرتموها على نوع الأسماء والصفات، قيل لكم: فالمعارضة ثابتة بين العقل وبين سائر هذا [ق 98 ب] النوع أم بينه وبين بعضه؟ فإن قلتم: إن العقل يُعارض جميع المنقول، كان هذا من الكفر والإلحاد والزندقة ما لا مزيد عليه. وإن قلتم: بل المعارضة حاصلةٌ بين العقل وبين بعض المنقول دون بعض؛ قيل لكم: فما هو القدر الذي عارضه العقل من المنقول، وما جنسه وصفته، وفي أي باب هو؟ فإن قلتم: ما خالف صريح العقل، كان هذا تعريفًا دوريًّا غير مقيد، وكان حاصل كلامكم إذا عارض العقل لما خالف العقل وجب تقديم العقل، وهذا من جنس الهذيان. _________ (1) كذا في «ح» دون نون الرفع، وقد سبق (ص 236) مثله.
(2/850)
فإن قلتم: نحن قلنا إذا جاء النقل بخلاف العقل وجب تقديم العقل، قيل لكم: فالسؤال عائد بعينه، والمطالبة قائمة، ففي أي الأنواع جاء النقل مناقضًا للعقل (1)؟ ولا ضابط لفرقةٍ منكم في دعوى هذه المناقضة أصلًا، بل كل من نفى شيئًا ممَّا أثبته الرسول قال قد عارضه صريح العقل. فإمامكم الذي تقدمون نصوص «إشاراته» على نصوص القرآن والسُّنَّة عنده أن صريح العقل معارضٌ لنصوص المعاد وحدوث العالم وإثبات الصِّفات. والقدرية المجوسية عندهم أن صريح العقل معارضٌ للنصوص المثبتة للقدر. والجهمية المعطلة عندهم أن العقل الصريح معارضٌ لنصوص الرُّؤية، والعلو، والاستواء على العرش، وصفة التكلم والتكليم، وغير ذلك من الصِّفات. فمع من أنتم من أرباب هذه المعارضات، وأهل هذه المعقولات؟ هل تصوبون جميعهم أم بعضهم؟ ومن البعض المصيب، ومن المخطئ؟ وفي أي شيءٍ أصاب هؤلاء وأخطأ هؤلاء؟ ولقد صدق القائل: إنكم لا ترجعون في الحقيقة إلى شيءٍ، وإن منتهاكم الشك والحيرة. وبالله التوفيق. وحينئذٍ فنقول في: الوجه الخامس والأربعين بعد المائة: إن نهاية أمر هؤلاء المعارضين لنصوص الوحي بالرأي انتهاؤهم إلى الشك والتشكيك والحيرة في أمرهم، _________ (1) «ح»: «للنقل». والمثبت هو الصواب.
(2/851)
فتجدهم يشكون في أوضح الواضحات، وفيما يجزم عوام الناس به، ويتعجبون ممَّن يشك فيه، ولا تعطيك كتبهم وبحوثهم إلَّا الشك والتشكيك والحيرة والإشكالات، وكلما ازددت فيها إمعانًا ازددت حيرة وشكًّا حتى يؤول بك الأمر إلى الشك في الواضحات. واعتبر هذا بإمام الشك والتشكيك أفضل متأخريهم (1) وكتبه تجده شاكًّا في الزمان والمكان لم يعرف حقيقته وماهيته. وشاكٌّ (2) في وجود الربِّ تعالى: هل هو عين ماهيته أو زائد عليها؟ وهل الوجود مقول على الواجب والممكن بالتواطؤ أو بالاشتراك اللفظي؟ وهل الوجود الواجب وجود محضٌ لا يُقارن شيئًا من الماهيات، أم وجود مقارن لماهية غير معلومة للبشر؟ وشاكٌّ في الربِّ سبحانه: هل كان معطلًا في الأزل والفعلُ ممتنعٌ عليه، ثم انقلب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي بلا تجدد أمرٍ حصل في الفاعل كما يقوله المتكلمون، أو لم يزل فعله مقارنًا له كما يقوله الفلاسفة، وهو حائرٌ بين هذين القولين، معارضٌ أدلة كلٍّ منهما بأدلة الآخر؟ وتارةً يرجح أدلة المتكلمين في كتبه الكلامية، وتارةً يرجح أدلة الفلاسفة في كتبه الفلسفية، وتارةً يصُفُّ الجيشين ويلقي الحرب بينهما، ولا يتحيز إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء كما في كتبه الجامعة بين الطريقتين. _________ (1) يعني: الفخر الرازي. (2) «ح»: «شاكل». والمثبت موافق لما سيأتي سبع مرات، والجادة في المواضع الثمانية: «شاكًّا» لأنه معطوف على مفعول به.
(2/852)
وشاكٌّ في الجوهر الفرد، فمرةً يثبته، ويوقف الإيمان بالمبدأ والمعاد عليه، وتارةً ينفيه ويبطله. وشاكٌّ في تماثل الأجسام، فتارةً يثبته، ويحتج عليه، وتارةً ينفيه. وشاكٌّ في مسألة حلول الحوادث، فتارةً ينفيها، وتارةً يقول بها ويقوي أمرها ويلزمها جميع الطوائف. وشاكٌّ في النبوات: هل هي ثابتة على طريق الفلاسفة، أو على طريق المعتزلة، أم على طريق الأشعرية؟ وشاكٌّ في مسألة التحسين والتقبيح، فتارةً يسلك فيها مسلك النُّفاة، وتارةً مسلك المثبتين. وشاكٌّ في إثبات الصِّفات، ففي كتبه الفلسفية (1) ينفيها، وفي الكتب الكلامية يثبتها إثباتًا لا حقيقة له، بل هو لفظٌ بلا معنًى. وشاكٌّ في الإنسان: هل هو هذا البدن المشهود، أم أمر آخر وراءه، وهو الرُّوح، أم مجموع الأمرين؟ وشاكٌّ في الرُّوح وحقيقتها وماهيتها، وهل هي جسم أو جوهر مجرد لا داخل العالم ولا خارجه أو عرض من أعراض البدن؟ وشاكٌّ في مسألة الكلام والرُّؤية، فمرةً يقوي فيها قول المعتزلة، ومرةً قول الأشعرية. إلى أضعاف ما ذكرنا من المسائل، ولهذا تجد أتباعه أكثر الناس شكًّا وتشكيكًا. _________ (1) «ح»: «كبه الفلسفة». وقد سبقت على الصواب.
(2/853)
والفاضل عندهم الشاك، وكلما كان الرجل أعظم شكًّا كان عندهم أفضل، [ق 99 أ]. فهذا شكهم في الدنيا، وأمَّا عند الموت فقد قال العارف بحقيقة أمرهم (1): «أكثر الناس شكًّا عند الموت أرباب الكلام». وقد أقروا على أنفسهم بالشك وعدم اليقين في كتبهم وعند موتهم، كما تقدم (2) حكاية ذلك عن أفاضلهم ورؤوسهم حتى قال بعضهم (3) عند موته: «والله ما أدري على ماذا أموت عليه، ثم قال: اشهدوا علي أني على عقيدة أمي». وقال الآخر (4): «اشهدوا علي أني أموت وما عرفت إلَّا مسألة واحدة، وهي أن الممكن مفتقرٌ إلى الواجب». ثم قال: «الافتقار أمر عدمي، بل أموت وما عرفت شيئًا». وقال الآخر (5): «أضع الإزار (6) على وجهي، ثم أقابل بين أقوال هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر ولا يتبيَّن لي منها شيءٌ». ويقول الآخر (7): «لقد تأمَّلت الطُّرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلًا، ولا تروي غليلًا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن: _________ (1) هو أبو حامد الغزالي، كما تقدم (ص 17). (2) ينظر (ص 16 - 17، 508). (3) هو أبو المعالي الجويني، كما تقدم (ص 17). (4) هو الخونجي، كما تقدم (ص 17). (5) هو ابن واصل الحموي، كما تقدم (ص 508). (6) كذا في «ح»، وتقدم بلفظ: «الملحفة». (7) هو الفخر الرازي، كما تقدم (ص 17).
(2/854)
أقرأ في الإثبات: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4] {إِلَيْهِ يَصْعَدُ اُلْكَلِمُ اُلطَّيِّبُ} [فاطر: 10]. وأقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 9] {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110]. ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي». وقد حكينا كلامه فيما تقدم (1). وقال الآخر (2): لَعَمْرِي لَقَدْ طُفْتُ الْمَعَاهِدَ كُلَّهَا ... وَسَيَّرْتُ طَرْفِي بَيْنَ تِلْكَ الْمَعَالِمِ فَلَمْ أَرَ إِلَّا وَاضِعًا كَفَّ حَائِرٍ ... عَلَى ذَقَنٍ أَوْ قَارِعًا سِنَّ نَادِم وهذا بابٌ طويلٌ، من أراد الوقوف عليه فليطالع أخبار القوم وسيرتهم، وما أقرُّوا به على أنفسهم. وحينئذٍ فنقول في: الوجه السادس والأربعين بعد المائة: إن أئمة الإسلام وملوك السُّنَّة لمَّا عرفوا أن طرق المتكلمين إنما تنتهي (3) إلى هذا وما هو شرٌّ منه تنوَّعوا في ذمِّها، والطعن فيها، وعيب أهلها، والحكم بعقوبتهم، وإشهارهم والتحذير منهم. قال أبو القاسم بن عساكر (4): «وقد حُفظ عن غير واحدٍ من علماء الإسلام عيب المتكلمين، وذمُّ أهل الكلام. ولو لم يذمَّهم غير الشافعي _________ (1) تقدم (ص 17). (2) قيل: هو الشهرستاني، وقيل: ابن الصائغ الأندلسي، وقيل: ابن سينا، كما تقدم (ص 16). (3) «ح»: «ستي». ولعل المثبت هو الصواب. (4) «تبيين كذب المفتري فيما نسب للأشعري» (ص 333 - 337).
(2/855)
لكفى، فإنه قد بالغ في ذمِّهم، وأوضح حالهم وشفى». ثم ذكر بإسناده إلى الفريابي، حدثني بشر بن الوليد، قال: سمعت أبا يوسف يقول: «من طلب الدِّين بالكلام تزندق، ومن طلب غرائب الحديث كذب، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس». قال البيهقي: وروي هذا الكلام عن مالك بن أنسٍ. ثم ذكر ابن عساكر عن الشافعي أنه قال: «لَأن يُبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه سوى الشرك خيرٌ له من أن يُبتلى بالكلام. ولقد اطلعت من أهل الكلام على شيءٍ ما ظننت أن مسلمًا يقوله». وقال ابن أبي حاتم (1): حدثنا أحمد بن أصرم المزني، قال: قال أبو ثور: سمعت الشافعي يقول: «ما تردَّى (2) أحدٌ بالكلام فأفلح». وقال (3): حدثنا الربيع، قال: رأيت الشافعي وهو نازل من الدرجة، وقوم في المجلس يتكلمون بشيءٍ من الكلام، فصاح فقال: إمَّا أن تجاورونا بخيرٍ، وإمَّا أن تقوموا عنا. وذكر أيضًا (4) عن ابن عبد الحكم قال: سمعت الشافعي يقول: «لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفروا منه كما يفرون من الأسد». وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة: سمعت يونس بن عبد الأعلى _________ (1) «آداب الشافعي ومناقبه» (ص 142 - 143). (2) تردى وارتَدَى بمعنًى، أي: لبس الرداء. «الصحاح» (6/ 2355). (3) «آداب الشافعي ومناقبه» (ص 141). (4) يعني: ابن عساكر في «تبيين كذب المفتري» (ص 336).
(2/856)
يقول: «جئت الشافعي بعدما كلم حفصًا الفرد، فقال: غبت عنَّا يا أبا موسى، لقد اطلعت من أهل الكلام على شيءٍ ما توهمته قط، ولأن يُبتلى المرء بكل ما نهى الله عنه ما خلا الشرك (1) بالله خيرٌ له من أن يبتلى بالكلام». وقال الإمام أحمد: «علماء الكلام زنادقة» (2). قال شيخنا (3): «والكلام الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمِّه، وذمِّ أصحابه، والنهي عنه، وتجهيل أربابه، وتبديعهم وتضليلهم = هو هذه الطُّرق الباطلة التي بنوا عليها نفي الصِّفات والعلو والاستواء على العرش، وجعلوا بها القرآن مخلوقًا، ونفوا بها رؤية الله في الدار الآخرة وتكلمه بالقرآن وتكليمه لعباده، ونزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا، ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده؛ فإنهم سلكوا فيه طُرقًا غير مستقيمة، واستدلوا بقضايا متضمنة للكذب، فلزمهم بها مسائل خالفوا بها نصوص الكتاب والسُّنَّة وصريح المعقول. وكانوا جاهلين كاذبين ظالمين في كثيرٍ من مسائلهم ورسائلهم، أحكامهم (4) ودلائلهم. وكلام السلف والأئمة في ذلك مشهور. وما من أحد قد شدا طرفًا من العلم إلَّا وقد بلغه من ذلك بعضه، لكن كثيرًا من الناس لم يحيطوا علمًا بكثيرٍ من أقوال السلف والأئمة. وقد أفرد الناس في ذلك مصنَّفاتٍ، مثل _________ (1) «ح»: «بالشرك». والمثبت من «تبيين كذب المفتري». (2) ذكره الغزالي في «إحياء علوم الدين» (1/ 95) وابن الجوزي في «تلبيس إبليس» (ص 75) وذكره ابن تيمية في «درء التعارض» (7/ 157) وغيره. (3) «درء التعارض» (7/ 144 - 167) مطولًا. (4) في «درء التعارض»: «وأحكامهم». وذكر المحقق أنه في نسخة بغير واو كما هنا.
(2/857)
أبي عبد الرحمن السلمي، ومثل شيخ الإسلام أبي إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري، وسمَّى كتابه «ذم الكلام وأهله». وممَّن ذكر اتفاق السلف على ذلك: أبو حامد الغزالي في أجلِّ كتبه، الذي سماه «إحياء علوم الدِّين» [ق 99 ب] قال فيه (1): «فإن قلت: فعلم الكلام والجدل مذمومٌ كعلم النجوم، أو هو مباحٌ، أو مندوبٌ إليه؟ فاعلم أن للناس في هذا غلوًّا وإسرافًا في الطرفين. فمن قائلٍ: إنه بدعةٌ وحرامٌ، وإن العبد أن يلقى الله بكل ذنبٍ سوى الشرك خير له من أن يلقاه بالكلام. ومن قائلٍ: إنه واجبٌ فرضٌ، إما على الكفاية أو على الأعيان، وإنه أجلُّ الأعمال وأعلى القُربات، وإنه تحقيقٌ لعلم التوحيد ونضال عن دين الله». قال: «وإلى التحريم ذهب الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وسفيان وجميع أهل الحديث من السلف». ثم ذكر بعض نصوص الشافعي التي تقدمت. قال: «وقال أحمد بن حنبل: لا يُفلح صاحب الكلام أبدًا، ولا تكاد ترى أحدًا نظر في الكلام إلَّا وفي قلبه دَغَلٌ (2)». قال: «وبالغ فيه حتى [هَجَرَ] (3) الحارث المحاسبي». قال: «وقال الإمام أحمد أيضًا: علماء الكلام زنادقة». _________ (1) «إحياء علوم الدين» (1/ 94 - 98) مطولًا. (2) الدغل بالتحريك: الفساد، مثل الدخل. يقال: قد أدغل في الأمر، إذا أدخل فيه ما يخالفه ويفسده. «الصحاح» (4/ 1697). (3) أثبته من «إحياء علوم الدين» و «درء التعارض».
(2/858)
قال: «وقال مالك: أرأيت إن جاء رجلٌ أجدل من رجلٍ يدع الرجل دينه كل يومٍ لدينٍ جديدٍ». قال: «وقال مالك: لا تجوز شهادة أهل الأهواء والبدع. قال بعض أصحابه: أراد بأهل الأهواء أهل الكلام على أي مذهب كانوا». وهذا الذي [حكى] (1) عنه أبو حامد تأويلَ [قول] (2) مالك هو محمد بن خويز منداد البصري المالكي، قال: «إن أهل الأهواء عند مالك وأصحابه الذين تُرَدُّ شهادتهم هم أهل الكلام». قال: «وكل متكلمٍ هو من أهل الأهواء والبدع عند مالك وأصحابه، أشعريًّا كان أو غير أشعري». هكذا ذكره عنه أبو عمر بن عبد البر في كتاب «فضل العلم» (3). ثم ذكر أبو حامد كلام أبي يوسف: «من طلب العلم بالكلام تزندق». قال: «وقد اتفق أهل الحديث من السلف على هذا، ولا ينحصر عنهم ما نقل من التشديدات فيه، وقالوا: ما سكت عنه الصحابة - رضي الله عنهم - ـ مع أنهم أعرف بالحقائق وأفصح في ترتيب الألفاظ من غيرهم ـ إلَّا لعلمهم (4) بما يتولد عنه. ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ، هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ» (5). أي: المتعمقون في البحث والاستقصاء». _________ (1) «ح»: «حكاه». والمثبت هو الصواب. (2) «قول» سقط من «ح». (3) «جامع بيان العلم وفضله» (2/ 942). (4) «ح»: «بعلمهم». والمثبت من «إحياء علوم الدين» و «درء التعارض». (5) أخرجه مسلم (2670) عن عبد الله بن مسعود.
(2/859)
قال: «واحتجوا بأن ذلك لو كان من الدِّين لكان أهم ما يأمر به النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويُعلِّم طريقه، ويُثني على أربابه. فقد علَّمهم الاستنجاء، وندبهم إلى حفظ الفرائض، ونهاهم عن الكلام في القدر. وعلى هذا استمر الصحابة، فالزيادة على الأستاذ طغيانٌ وظلمٌ، وهم الأستاذون والقدوة، ونحن الأتباع والتلامذة ... ». إلى أن قال: «وأمَّا منفعته فقد يُظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ما هي عليه، وهيهات! فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف. وهذا إذا سمعته من محدثٍ أو حشويٍّ ربما خطر ببالك أن الناس أعداء ما جهلوا، فاسمع هذا ممَّن خبر الكلام، ثم قلاه (1) بعد حقيقة الخبرة، وبعد التغلغل فيه إلى درجة المتكلمين، وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخرى سوى نوع الكلام، وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود». قال: «ولعمري لا ينفك الكلام عن كشفٍ وتعريفٍ وإيضاحٍ لبعض الأمور، ولكن على سبيل النُّدور (2) في أمور جليلة تكاد تنال (3) قبل التعمق في صناعة الكلام». قال (4): «بل منفعته شيءٌ واحدٌ وهو حراسة العقيدة وحفظها عن تشويشات المبتدعة بأنواع الجدل، فإن العاميَّ يستفزه (5) جدل المبتدع وإن _________ (1) أي: أبغضه، تقول: قلاه يقليه قِلًى وقَلاءً. «الصحاح» (6/ 2467). (2) «ح»: «المندوب». والمثبت من «إحياء علوم الدين» و «درء التعارض». (3) «ح»: «تسأل». وفي «إحياء علوم الدين»: «تفهم». والمثبت من «درء التعارض». (4) «ح»: «قل». والمثبت من «درء التعارض». والكلام متصل بسابقه في «إحياء علوم الدين». (5) «ح»: «يستفز». والمثبت من «إحياء علوم الدين» و «درء التعارض».
(2/860)
كان فاسدًا، ومعارضة الفاسد بالفاسد نافعة». ثم قال: «وإذا وقعت الإحاطة بضرره ومنفعته، فينبغي أن يكون صاحبه كالطبيب الحاذق في استعمال الدواء الخطر؛ إذ لا يضعه إلَّا في موضعه، وعلى قدر الحاجة». وقال: «إن فيه من المضرة من إثارة الشبهات وتحريك العقائد وإزالتها عن الجزم والتصميم، وفيه مضرة في تأكيد اعتقاد المبتدعة وتثبيته في صدورهم بحيث تنبعث دواعيهم ويشتد حرصهم على الإصرار عليه، ويمكَّن هذا الإصرار بواسطة التعصب (1) الذي يثور عن الجهل». فهذا كلام أبي حامد، مع معرفته بالكلام والفلسفة وتعمقه في ذلك، يذكر اتفاق سلف أهل السُّنَّة على ذم الكلام، ويذكر أنه ليس فيه فائدة إلَّا الذَّب عن هذه العقائد الشرعية التي أخبر بها الرسول أمته. وإذا لم يكن فيه فائدة إلَّا الذَّب عن هذه العقائد امتنع أن يكون معارضًا لها، فضلًا عن أن يكون مقدَّمًا عليها، فامتنع أن يكون الكلام العقلي المقبول معارضًا للكتاب والسُّنَّة. وما كان معارضًا لهما فهو من الكلام الباطل المردود المرذول، الذي لا يُنازع (2) في ذمه أحدٌ من أهل الإسلام، لا من السلف ولا من أتباعهم من الخلف. هذا مع أن السلف والأئمة يذمُّون [ق 100 أ] ما كان من العقليات والجدل والكلام مبتدعًا وإن قُصد به نصر السُّنَّة، فكيف ذمُّهم لمن عارض السُّنَّة بالبدعة، والوحي بالرأي، وجادل في آيات الله بالباطل ليدحض به الحقَّ؟ _________ (1) «إحياء علوم الدين»: «التعب». وهو في «درء التعارض» كما في الأصل، وهو الصواب. (2) «ح»: «شارع». والمثبت من «درء التعارض».
(2/861)
وهذا الذمُّ من أبي حامد للكلام وأهله ذمٌّ متوسطٌ بحسب ما اطلع عليه من غوائله وآفاته، وبحسب ما بلغه من السلف. ولم يكن جزمه بأقوال السلف وحقيقة ما جاء به الرسول كجزمه بما سلكه من طريق الكلام والفلسفة. فلذلك لم يكن في كلامه من هذا الجانب من العلم والخبرة ما فيه من الجانب الذي هو به أخبر من غيره، فإن ما ذكره من أن مضرته في إثارة الشبهات في العلم وإثارة التعصب في الإرادة إنما يُقال إذا كان الكلام في نفسه حقًّا، بأن تكون قضاياه ومقدماته صادقة، بل معلومة (1)، فإذا كان مع ذلك قد يُورث النظر فيه شبهًا وعداوة قيل فيه ذلك. وأمَّا السلف فلم يكن ذمُّهم للكلام لمجرد (2) ذلك، ولا (3) لمجرد اشتماله على ألفاظ اصطلاحية إذا كانت معانيها صحيحة، ولا حرَّموا (4) معرفة الدليل على الخالق وصفاته وأفعاله بل كانوا أعلم الناس بذلك، ولا حرَّموا نظرًا صحيحًا في دليلٍ صحيحٍ يُفضي إلى علمٍ نافعٍ، ولا مناظرة في ذلك إمَّا لهدى مسترشدٍ، وإمَّا لقطع مبطلٍ؛ بل هم أكمل الناس نظرًا واستدلالًا واعتبارًا، وهم نظروا في أصحِّ الأدلة وأقومها، فإن القوم كان نظرهم في خير الكلام وأفضله وأصدقه، وأدله على الحقِّ، وأوصله إلى المقصود بأقرب الطُّرق، وهو كلام الله. وكانوا ينظرون في آيات الله تعالى الأفقية والنفسية، فيرون منها من الأدلة _________ (1) «ح»: «معلوماته». والمثبت من «درء التعارض». (2) «ح»: «لا المجرد». والمثبت من «درء التعارض». (3) «ح»: «لا». بغير واو، والمثبت من «درء التعارض». (4) «ح»: «صرحوا». والمثبت من «درء التعارض».
(2/862)
ما يُبيِّن أن القرآن حقٌّ، فيتطابق عندهم السمع والعقل، ويتصادق الوحي والفطرة، كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي اِلْأفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ اُلْحَقُّ} [فصلت: 52] وقال: {وَيَرَى اَلَّذِينَ أُوتُوا اُلْعِلْمَ اَلَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ اَلْحَقَّ} [سبأ: 6]. والإنسان له حالتان: إمَّا أن يكون ناظرًا، وإمَّا أن يكون مناظرًا. والناظر له حالتان: إحداهما يُحمد فيها، والثانية يُذم فيها. والمناظر له حالتان أيضًا. قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ} [سبأ: 46] فأشار بقيامهم اثنين اثنين إلى المناظرة، وفُرادى إلى النظر والتفكر. وكل منهما ينقسم إلى محمودٍ ومذمومٍ. فالنظر المحمود: النظر (1) في الطريق الصحيح ليتوصل به إلى معرفة الحقِّ. والنظر المذموم نوعان: أحدهما: النظر في الطريق الباطل، وإن قُصد به التوصل إلى الحقِّ؛ فإن الطريق الباطل لا يُفضي إلى الحقِّ. والثاني: النظر والفكر الذي يُقصد به ردُّ قول خصمه مطلقًا، حقًّا كان أو باطلًا، فهو ينظر نظرًا يردُّ به قول من يبغضه ويُعاديه بأي وجهٍ كان. وأمَّا المناظرة فتقسم إلى محمودةٍ ومذمومةٍ، والمحمودة نوعان، والمذمومة نوعان. وبيان ذلك أن المناظر إمَّا أن يكون عالمًا بالحقِّ، وإمَّا أن يكون طالبًا له، وإمَّا ألَّا يكون عالمًا به ولا طالبًا له. وهذا الثالث هو _________ (1) «ح»: «بالنظر».
(2/863)
المذموم؛ وأمَّا الأولان فمن كان عالمًا بالحق فمناظرته التي تُحمد أن يُبيِّن لغيره الحجة التي تهديه إن كان مسترشدًا طالبًا للحق، أو يقطعه أو يكسره (1) إن كان معاندًا غير طالبٍ للحق ولا متبعٍ له، أو يوقفه ويبعثه على النظر في أدلة الحقِّ إن كان يظنُّ أنه على الحقِّ وقصده الحقُّ (2). قال تعالى: {اَدْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَاَلْمَوْعِظَةِ اِلْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] فذكر سبحانه مراتب الدعوة، وجعلها ثلاثة أقسامٍ بحسب حال المدعو: فإنه إمَّا أن يكون طالبًا للحق راغبًا فيه محبًّا له مؤثرًا له على غيره إذا عرفه، فهذا يدعى بالحكمة ولا يحتاج إلى موعظةٍ ولا جدالٍ. وإمَّا أن يكون معرضًا مشتغلًا بضدِّ الحقِّ، ولكن لو عُرِّفه عرفه وآثره واتبعه، فهذا يحتاج مع الحكمة إلى الموعظة بالترغيب والترهيب. وإمَّا أن يكون معاندًا معارضًا، فهذا يُجادَل بالتي هي أحسن، فإن رجع إلى الحقِّ وإلا انتقل معه من الجدال إلى الجلاد إن أمكن. فلمناظرة المبطل فائدتان: إحداهما: أن يُرد عن باطله ويرجع إلى الحق. الثانية: أن ينكفَّ شرُّه وعداوته، ويتبين للناس أن الذي معه باطلٌ. وهذه الوجوه كلها لا يُمكن أن تُنال بأحسن من حجج القرآن ومناظرته _________ (1) في «درء التعرض»: «ويكف عدوانه». (2) هذا آخر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية بتصرف من المصنِّف.
(2/864)
للطوائف، فإنه كفيل بذلك على أتمِّ الوجوه لمن تأمَّله وتدبَّره ورُزق فهمًا فيه، وحُججه مع أنها في أعلى مراتب الحُجج ـ وهي طريقة أخرى غير طريقة المتكلمين وأرباب الجدل والمعقولات ـ فهي أقرب شيءٍ تناولًا وأوضح دلالةً، وأقوى برهانًا، وأبعد من كل شبهةٍ وتشكيك. وأمَّا طريق المتكلمين وأرباب الجدل فهي كما قال الخبير بها (1): حُجَجٌ تَهَافَتُ كَالزُّجَاجِ تَخَالُهَا ... حَقًّا وَكُلٌّ كَاسِرٌ مَكْسُورُ وأَخصُّ أوصافها أنها تعطيك مناقضة الخصوم واضطراب أقوالهم، وأمَّا أن تعطيك علمًا وهدًى فَإِذَا بَعَثْتَ إِلَى السِّبَاخِ بِرَائِدٍ ... تَبْغِي الرِّيَاضَ فَقَدْ ظَلَمْتَ الرَّائِدَا (2) وإذا كان هذا حالها وهي خيرٌ من طريق الفلاسفة وأقرب إلى الحقِّ، فكيف يُعارض الوحي بهذه الطرق وهذه، ثم تقدم عليه؟! الوجه السابع (3) والأربعون بعد المائة: أن الله سبحانه منح عباده فطرة فطرهم عليها، لا تقبل سوى الحقِّ، ولا تُؤْثر عليه غيره لو تُركت (4)، وأيَّدها _________ (1) البيت لابن الرومي في «ديوانه» (ص 303)، وروايته: لذوي الجدال إذا غدوا لجدالهم ... حجج تضلّ عن الهدى وتجور وُهُنٌ كآنية الزّجاج تصادمت ... فهوت، وكلّ كاسر مكسور (2) البيت لابن سنان الخفاجي، وهو في «ديوانه» (ص 159). (3) «ح»: «التاسع». وكتب الناسخ على حاشية «ح»: «كذا وجدتها». والمثبت هو الصواب. (4) «ح»: «تريث».
(2/865)
بعقولٍ (1) تُفرق بين الحق والباطل، وكمَّلها بشرعةٍ تُفصِّل لها (2) ما هو مستقرٌّ في الفطرة وأدركه العقل مجملًا. فالفطرة قابلة، والعقل مزكٍّ، والشرع مُبصِّر مُفصِّل لما هو مركوز في الفطرة، مشهود أصله دون تفاصيله (3) بالعقل. فاتفقت فطرة الله المستقيمة والعقل الصريح والوحي المبصِّر المكمِّل على الإقرار بموجودٍ فَطَر هذا العالم بجميع ما فيه عاليه وسافله وما بينهما، وشهدت الفِطَر والعقول والشرائع المنزلة كلها بأنه ليس من جنس العالم، ولا مماثلًا له، وأنه مباين له، غير ممتزج به، ولا متَّحدٍ به، ولا حالٍّ فيه، وأنه فوق جميع العالم عالٍ عليه، بجميع أنواع العلو ذاتًا وقهرًا وعظمة، وأنه موصوفٌ بجميع الكمال المقدَّس من لوازم ذاته، فتوهم رفعه عنه كتوهم عدم ذاته. ومن لم يكن هذا الأصل معلومًا عنده علمًا لا يَشك فيه ولا يَرتاب بل هو لقلبه كالمشاهدات لبصره، وإلا (4) اضطرب عليه باب معرفة الله ووحدانيته وتصديق رسله. فلا يجوز أن يُقدح في مقدِّمات هذا الأصل التي هي في أعلى مراتب الضروريات بمقدِّمات يدَّعي أربابها أنها نظريات، ومن خالفهم فيها يقول: إنها غير صحيحةٍ بل معلومة الفساد، إمَّا بضرورة العقل، أو بالنظر الصحيح المُفضي إلى الضرورة. _________ (1) «ح»: «بمعقول». (2) «تفصل لها» في «ح»: «يصل لها بها». (3) «ح»: «تفاصله». (4) تقدم (ص 728) التعليق على هذا التركيب.
(2/866)
ومن أبين [ما] (1) شهدت به الفطر والعقول والشرائع: علوُّه سبحانه فوق جميع العالم، فإن الله فطر على هذا الخليقة حتى الحيوان البهيم. ومن أنكر هذا فهو في جانب، والفطر السليمة والعقول المستقيمة وجميع الكتب السماوية ومن أُرسل بها في جانب. قال الشيخ عبد القادر الكيلاني المتفق على كراماته وآياته وولايته، المقبول عند جميع الفرق: «إن كون الله سبحانه فوق سماواته على عرشه في كل كتابٍ أنزل على كل نبيٍ أُرسل» (2). وصدق قُدس روحه؛ فإن الرُّسل من أولهم إلى آخرهم ليس بينهم اختلافٌ في أسماء الربِّ وصفاته وأفعاله، وإن تنوَّعت شرائعهم العملية بحسب المصلحة، فلم يختلف منهم اثنان في باب الأسماء والصفات، وإن كان في الكتابين ـ اللذين لم يُنزل من السماء كتاب أهدى منهما ـ من ذلك ما ليس في غيرهما، حتى زعمت أئمة المعطلة أنهما كتابا تشبيه، ومن جاء بهما إماما المشبهة. وقال بعض من تتبع النصوص النبوية في ذلك والآثار السلفية إنه وجدها تزيد على ألف (3)، وقال غيره: إنها تزيد على مائة ألف. ولا تنافي بينهما؛ فإن _________ (1) «ح»: «كما». والمثبت هو الصواب. (2) «الغنية لطالبي طريق الحق» (1/ 87). ونقله عنه: ابن تيمية في «الفتوى الحموية» (ص 479) والذهبي في «العرش» (2/ 369) وفي «العلو» (ص 265) والمصنِّف في «اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص 93، 425). (3) قال ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (5/ 121): «قال بعض أكابر أصحاب الشافعي: في القرآن ألف دليل أو أزيد تدل على أن الله تعالى عالٍ على الخلق، وأنه فوق عباده».
(2/867)
الأول أراد ما يدل على نصوص العلو والاستواء، والثاني أراد ما يدل على المباينة، وأن الله سبحانه بائنٌ من خلقه. وأمَّا تقرير ذلك بالأدلة العقلية الصريحة فمن طرقٍ كثيرةٍ جدًّا (1): منها (2): أنه إذا ثبت بضرورة العقل أنه سبحانه مباينٌ للمخلوقات، وثبت أن العالم كُري ـ كما اعترف به النُّفاة المعطلة، وجعلوه عمدتهم في جحد علوه سبحانه ـ لزم أن يكون الربُّ تعالى في العلو ضرورةً؛ وذلك لأن العالم إذا كان مستديرًا فله جهتان حقيقيتان: العلو والسفل فقط، فإذا كان الربُّ تعالى مباينًا للعالم امتنع أن يكون في السفل، فوجب قطعًا أن يكون في العلو، فإذا كان العالم كُريًّا وقد ثبت بالضرورة أنه إمَّا مُداخل له وإمَّا مُباين له، وليس بمُداخل قطعًا؛ ثبت أنه مباينٌ قطعًا. وإذا كان مباينًا فإمَّا أن يكون تحته أو فوقه قطعًا، وليس تحته بالضرورة، وجب أن يكون فوقه بالضرورة. ولا جواب عن هذا البتة إلَّا بنفي النقيضين، وهو أنه لا مباين ولا مداخل، وهذا حقيقة العدم المحض، ونفيهما [نظير نفي القدم] (3) والحدوث عنه، وأن يُقال ليس بقديمٍ ولا حادثٍ، فإن القدم والحدوث من مقولة «متى» وهي ممتنعة عليه، كما أن المباينة والمداخلة من مقولة «أين» وهي ممتنعة عليه. فالشُّبه والأدلة التي تنفي وجود الصانع من جنس الشُّبه التي تنفي مباينته للعالم وعلوه عليه، لا فرق بينهما البتة. _________ (1) ذكر المصنِّف ثلاثين طريقًا، ثم قال: «فهذه ثلاثون طريقًا مضافة إلى الوجه السابع والأربعين بعد المائة في بيان عدم معارضة العقل للنقل وبيان موافقتهما وتطابقهما». (2) هذا هو الوجه الثامن والأربعون بعد المائة. (3) «ح»: «بطريقي العدم». والمثبت ما يقتضيه السياق.
(2/868)
الطريق الثاني (1): أن يُقال: علوه سبحانه [ق 101 أ] على العالم، وأنه فوق السماوات كلها، وأنه فوق عرشه = أمرٌ مستقرٌّ في فِطَر العباد، معلومٌ لهم بالضرورة؛ كما اتفق عليه جميع الأمم إقرارًا بذلك وتصديقًا من غير تواطؤٍ منهم على ذلك ولا تشاعر، وهم يخبرون عن أنفسهم أنهم يجدون ذلك بالضرورة، وجميع الطوائف تنكر قول المعطلة إلَّا من تلقَّاه منهم. وأمَّا العامة من جميع الأُمم ففِطَرهم جميعهم مُقرةٌ بأن الله فوق العالم، وإذا قيل لهم: لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا مباين له ولا محايث، ولا يصعد إليه شيءٌ، ولا ينزل منه شيءٌ، ولا يقرب إليه شيءٌ، ولا يقرب هو من شيءٍ، ولا يحجب العباد عنه حجابٌ منفصلٌ، ولا تُرفع إليه الأيدي، ولا تتوجه إليه القلوب نحو العلو = أنكرت فِطَرهم ذلك غاية الإنكار، ودفعته غاية الدفع. قال أبو الحسن الأشعري في كتبه: «ورأينا المسلمين جميعًا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء؛ لأن الله عز وجل مستوٍ على العرش الذي هو فوق السماوات، فلولا أن الله عز وجل على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو السماء، كما لا يحطونها إذا دعوا نحو الأرض». هذا لفظه في أجلِّ كتبه وأكبرها، وهو «الموجز»، وفي أشهرها، وهو «الإبانة» (2) التي اعتمد عليها أنصر (3) الناس له وأعظمهم ذبًّا عنه من أهل _________ (1) هذا هو الوجه التاسع والأربعون بعد المائة. (2) «الإبانة عن أصول الديانة» (ص 107). (3) «ح»: «أبصر» بالباء الموحدة، ولعل المثبت هو الصواب، وهو الأنسب مع قوله عقبه: «وأعظمهم ذبًّا عنه». أو تكون العبارة: «أبصر الناس به». أي أعلمهم به.
(2/869)
الحديث: أبو القاسم بن عساكر؛ فإنه اعتمد على هذا الكتاب وجعله من أعظم مناقبه في كتاب «تبيين كذب المفتري» (1). ثم قال في كتابه (2): «ومن دعاء أهل الإسلام جميعًا إذا هم رغبوا إلى الله عز وجل في الأمر النازل بهم يقولون: يا ساكن العرش. ويقولون: لا والذي احتجب بسبع سماواتٍ». وقال أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كُلَّاب في كتاب «الصفات» (3) ـوقد ذكر مسألة الاستواء وقد تقدم حكاية لفظه (4) ـ قال: «ولو لم يشهد بصحة مذهب الجماعة في هذا إلَّا ما ذكرنا من هذه الأمور لكان فيه ما يكفي، كيف وقد غُرس في بنية الفطرة ومعارف الآدميين من ذلك ما لا شيء أبين منه، ولا أوكد؛ لأنك لا تسأل أحدًا عنه عربيًّا ولا عجميًّا ولا مؤمنًا ولا كافرًا فتقول: أين ربك؟ إلَّا قال: في السماء، إن أفصح، أو أومأ بيده، أو أشار بطرفه إن كان لا يُفصح، لا يُشير إلى غير ذلك من أرضٍ ولا سهلٍ ولا جبلٍ، ولا رأينا أحدًا داعيًا إلَّا رافعًا يديه إلى السماء». وقال ابن عبد البر إمام أهل السُّنَّة ببلاد الغرب في «التمهيد» (5) لمَّا تكلم _________ (1) «تبيين كذب المفتري» (ص 389). (2) «الإبانة» (ص 115). (3) لم نقف عليه، وكلامه هذا نقله ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 194) والمصنِّف في «اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص 435 - 436). (4) تقدم (ص 835 - 836). (5) «التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد» (7/ 128 - 129). ونقله المصنِّف بتمامه في «اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص 205 - 213).
(2/870)
على حديث النزول قال: «هذا حديثٌ ثابتٌ من جهة النقل، صحيح الإسناد، لا يختلف أهل الحديث في صحته. وهو منقول من طُرقٍ سوى هذه (1) من أخبار العدول عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفيه دليلٌ على أن الله في السماء على العرش، فوق سبع سماوات، كما قال (2) الجماعة. وهو من حجتهم على المعتزلة (3) في قولهم: إن الله بكل مكان». قال (4): «والدليل على صحة قول أهل الحق قوله تعالى ... » وذكر عدة آياتٍ، إلى أن قال: «وهذا أشهر وأعرف عند العامة والخاصة من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته؛ لأنه اضطرار لم يوقفهم (5) عليه أحدٌ، ولا أنكره عليهم مسلمٌ». وهذا قليلٌ من كثيرٍ من كلام من ذكر أن مسألة العلو فطرية ضرورية. وأمَّا من نقل إجماع الأنبياء والرُّسل والصحابة والتابعين وأئمة المسلمين فأكثر من أن يُذكر، ولكن نُنبِّه (6) على اليسير منه. قال الشيخ أبو نصر السِّجْزي (7) في كتاب «الإبانة» (8) له: «وأئمتنا _________ (1) في «التمهيد»: «من طرقٍ متواترةٍ ووجوهٍ كثيرةٍ». (2) في «التمهيد»: «قالت». (3) بعده في «التمهيد»: «والجهمية». (4) «التمهيد» (7/ 129 - 134). (5) في «التمهيد»: «يؤنبهم». ولعله تحريف. (6) «ح»: «نبه». (7) «ح»: «السنجري». وهو تصحيف، والسِّجْزي: بكسر السين المهملة وسكون الجيم وفي آخرها الزاي، نسبة إلى سجستان على غير قياس. «الأنساب» للسمعاني (7/ 80). (8) لم نقف عليه.
(2/871)
كسفيان الثَّوْري، ومالك بن أنس، وسفيان بن عُيينة، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وعبد الله بن المبارك، وفضيل بن عياض، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي = متفقون على أن الله سبحانه بذاته فوق العرش، وأن علمه بكل مكانٍ، وأنه يُرى يوم القيامة بالأبصار فوق العرش، وأنه ينزل إلى سماء الدنيا، وأنه يغضب ويرضى، ويتكلم بما شاء، فمن خالف شيئًا من ذلك فهو منهم بريء، وهم منه بَراءٌ» (1). وأبو نصر هذا كان مقيمًا بمكة في أثناء المائة الخامسة (2). وقال قبله الشيخ أبو عمر الطلمنكي المالكي ـ أحد أئمة وقته بالأندلس ـ في كتاب «الوصول إلى معرفة الأصول» (3) قال: «وأجمع المسلمون من أهل السُّنَّة على معنى قوله: {وَهْوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [الحديد: 4] ونحو ذلك من القرآن أن ذلك علمه، وأن الله فوق السماوات بذاته مستوٍ على عرشه كيف شاء». وقال أيضًا: «قال أهل السُّنَّة في قوله: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4]: إن الاستواء من الله على عرشه المجيد على الحقيقة لا على المجاز». _________ (1) نقله عنه: شيخ الإسلام ابن تيمية في «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 167) وفي «درء التعارض» (6/ 250) والذهبي في «العرش» (270) وفي «العلو» (569). (2) تُوفي أبو نصر بمكة في المحرم سنة أربع وأربعين وأربعمائة. كما في ترجمته في «سير أعلام النبلاء» (17/ 656 (. (3) لم نقف عليه، وقوله هذا نقله عنه: شيخ الإسلام ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 250 - 251) و «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 186، 3/ 398) وغيرهما، والمصنِّف في «اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص 204).
(2/872)
وقال الشيخ نصر المقدسي الشافعي ـ الشيخ المشهور ـ في كتابه «الحجة» (1) له: «إن قال قائل: قد ذكرت ما يجب على أهل الإسلام من اتباع كتاب الله وسُنة رسوله، وما أجمع عليه [ق 101 ب] الأئمة والعلماء، والأخذ بما عليه أهل السُّنَّة والجماعة، فاذكر مذاهبهم، وما أجمعوا عليه من اعتقادهم، وما يلزمنا من المصير إليه من إجماعهم. فالجواب: أن الذي أدركت عليه أهل العلم، ومن لقيتهم وأخذت عنهم، ومن بلغني قوله من غيرهم ... » فذكر جُلَّ اعتقاد أهل السُّنَّة، وفيه: «أن الله مستوٍ على عرشه، بائنٌ من خلقه، كما قال في كتابه: {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12] {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن: 28]». وقال قبله الحافظ أبو نعيم الأصبهاني المشهور ـ صاحب التصانيف المشهورة كـ «حلية الأولياء» وغيرها ـ في «عقيدته» (2) المشهورة عنه: «طريقتنا طريقة المتبعين للكتاب والسُّنَّة وإجماع الأُمة، فما اعتقدوه اعتقدناه. فممَّا اعتقدوه أن الأحاديث التي ثبتت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في العرش واستواء الله عليه يقولون بها، ويثبتونها من غير تكييفٍ ولا تمثيلٍ ولا تشبيهٍ، وأن الله بائنٌ من خلقه، والخلق بائنون منه، لا يحل فيهم، ولا يمتزج بهم، وهو مستوٍ على عرشه في سماواته من دون أرضه». _________ (1) لم يطبع بعد، ولم أقف على النص في المختصر المطبوع، ونقل هذا القول عن المقدسي: ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 251) و «منهاج السنة» (1/ 211، 3/ 407). (2) نقله عنه: ابن تيمية في «الفتوى الحموية الكبرى» (ص 369) و «درء التعارض» (6/ 252) و «منهاج السنة» (1/ 203، 3/ 403 - 404).
(2/873)
وقال الشيخ أبو أحمد الكرجي الإمام المشهور في أثناء المائة الرابعة، في «العقيدة» التي ذكر أنها اعتقاد أهل السُّنَّة والجماعة، وهي العقيدة التي كتبها الخليفة (1) القادر بالله، وقرأها على الناس، وجمع الناس عليها، وأقرَّ بها طوائف أهل السُّنَّة، وكان قد استتاب من خرج عن السُّنَّة من المعتزلة والرافضة ونحوهم سنة ثلاث عشرة وأربعمائة. وكان حينئذٍ قد تحرَّك ولاة الأمور لإظهار السُّنَّة؛ لمَّا كان الحاكم المصري وأمثاله من أئمة (2) الملاحدة قد انتشر أمرهم، فكان أهل ابن سينا وأمثالهم من أهل دعوتهم، وأظهر السلطان محمود بن سبكتكين لعنة أهل البدع على المنابر وأظهر السُّنَّة، وتناظر عنده ابن الهيصم (3) وابن فورك في مسألة العلو، فرأى قوة كلام ابن الهيصم فرجَّح ذلك، ويقال: إنه قال لابن فورك: فلو أردت أن تصف المعدوم كيف كنت تصفه بأكثر من هذا. وقال: فرِّق (4) لي بين هذا الربِّ الذي تصفه وبين المعدوم. وإن ابن فورك كتب إلى أبي إسحاق الإسفراييني يطلب الجواب عن ذلك، فلم يكن الجواب إلَّا أنه: لو كان فوق العرش للزم أن يكون جسمًا. ومن الناس من يقول: إن السلطان لمَّا ظهر له فساد قول ابن فورك سقاه السُّمَّ حتى قتله. وتناظر عنده فقهاء الحديث من أصحاب _________ (1) كذا في «ح» و «درء التعارض»، وغيرَّها محقق «الدرء» إلى «للخليفة». ولعل الخليفة كتبها بيده ثم قرأها على الناس. (2) «ح»: «لية». والمثبت من «درء التعارض». (3) «ح»: «الهيضم» بالضاد المعجمة، وكذا في الموضع التالي، وهو تصحيف، والمثبت من «درء التعارض». ومحمد بن الهيصم ترجمته في «تاريخ الإسلام» (9/ 171 - 172). (4) «ح»: «فوق». والمثبت من «درء التعارض».
(2/874)
الشافعي وغيرهم وفقهاء الرأي، فرأى قوة مذهب أهل الحديث فرجَّحه، وغزا المشركين بالهند. وهذه العقيدة مشهورة، وفيها: «كان ربنا وحده ولا شيء معه، ولا مكان يحويه، فخلق كل شيءٍ بقدرته، وخلق العرش لا لحاجة إليه، فاستوى عليه استواءَ استقرارٍ كيف شاء وأراد، لا استواءَ راحةٍ كما يستريح الخلق، وهو يُدبِّر السماوات والأرض، ويُدبِّر ما فيهما ومن في البر والبحر، لا مدبِّر غيره ولا حافظ سواه، يرزقهم ويمرضهم، ويعافيهم ويميتهم، والخلق كلهم عاجزون: الملائكة، والنبيون، والمرسلون، وسائر الخلق أجمعين. والقادر بقدرة، والعالم بعلم أزلي غير مستفاد، وهو السميع بسمع، والبصير ببصر، يعرف صفتهما من نفسه، ولا يبلغ كنههما أحد من خلقه، متكلم بكلام يخرج منه لا بآلة مخلوقة كآلة المخلوقين، لا يوصف إلَّا بما وصف به نفسه أو وصفه به نبيه، وكل صفة وصف بها نفسه أو وصفه بها نبيه - صلى الله عليه وسلم - فهي صفة حقيقية لا صفة مجاز» (1). وقال أبو عمر أيضًا (2): «أجمعُ علماء الصحابة والتابعين الذين حُمل عنهم التأويل قالوا في تأويل قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7]. هو على العرش، وعلمه في كل مكان. وما خالفهم في ذلك أحدٌ يحتج بقوله». وقال أيضًا (3): «أهل السُّنَّة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها _________ (1) نقله عنه ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 252 - 254). (2) «التمهيد» (7/ 139). (3) «التمهيد» (7/ 145).
(2/875)
في القرآن والسُّنَّة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلَّا أنهم لا يُكيِّفون شيئًا من ذلك، ولا يجدون فيه صفة محصورة. وأمَّا أهل البدع الجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها، ولا يحمل شيئًا على الحقيقة، ويزعم أن من أقرَّ بها مشبِّه. وهم عند من أقرَّ بها نافون للمعبود يلاشون (1) ـ أي: يقولون: لا شيء ـ والحقُّ فيها ما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسُنة رسول الله، وهم أئمة الجماعة». وقال الشيخ العارف معمر (2) بن أحمد الأصفهاني أحد شيوخ الصوفية في أواخر المائة الرابعة: «أحببت أن أوصي أصحابي بوصية من السُّنَّة وموعظة من الحكمة، وأجمع ما كان عليه أهل الحديث والأثر وأهل [ق 102 أ] المعرفة والتصوف من المتقدمين والمتأخرين». قال فيها: «وأن الله مستوٍ على عرشه بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل، والاستواء معقولٌ، والكيف مجهولٌ (3)، وأنه عز وجل مستوٍ على عرشه، بائنٌ من خلقه، والخلق منه بائنون، بلا حلول ولا ممازجة، ولا اختلاط ولا ملاصقة؛ لأنه الفرد البائن من الخلق، الواحد الغني عن الخلق، وأن الله سميعٌ بصيرٌ عليمٌ _________ (1) ليست هذه الكلمة في «التمهيد»، وهي في «درء التعارض» (6/ 256): «بلاشون» بالباء. (2) «ح»: «بكر». وهو تحريف، والمثبت من «الحجة في بيان المحجة» و «درء التعارض» و «اجتماع الجيوش الإسلامية» وغيرها. وهو أبو منصور معمر بن أحمد بن محمد بن زياد الأصفهاني الزاهد، كبير الصوفية بأصفهان، سمع أبا القاسم الطبراني، وأبا الشيخ، وطبقتهما، وتوفي سنة 418 هـ. ترجمته في «تاريخ الإسلام» (9/ 302). (3) بعده في «الحجة في بيان المحجة» (1/ 232): «والإيمان به واجب، والإنكار له كفر».
(2/876)
خبيرٌ، يتكلم ويرضى، ويسخط ويضحك ويعجب، ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكًا، وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء، فيقول: هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟ هل من تائبٍ فأتوب عليه؟ حتى يطلع الفجر. ونزول الرب إلى سماء الدنيا بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل، فمن أنكر النزول أو تأول فهو مبتدعٌ ضالٌّ» (1). وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: «سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السُّنَّة ـ يعني في أصول الدِّين ـ وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار فقالوا: [أدركنا العلماء في جميع الأمصار] (2) حجازًا وعراقًا ومصرًا وشامًا ويمنًا وكان من مذاهبهم: أن الإيمان قولٌ وعملٌ، يزيد وينقص، والقرآن كلام الله غير مخلوقٍ بجميع جهاته ... » إلى أن قالوا: «إن الله على عرشه بائنٌ من خلقه، كما وصف نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله، بلا كيف، أحاط بكل شيء علمًا» (3). وقال الشيخ الإمام المتفق على إمامته وعلمه وصلاحه وكراماته أبو محمد موفق الدِّين بن قدامة المقدسي: «إن الله وصف نفسه بالعلو في _________ (1) روى الوصية بطولها قوام السُّنَّة في «الحجة في بيان المحجة» (1/ 231 - 244). والقدر المذكور في الأصل نقله: ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 256 - 257) وفي «الاستقامة» (1/ 168 - 169) والذهبي في «العلو» (562) والمصنِّف في «اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص 423 - 424). (2) سقط من «ح»، وأثبته من «درء التعارض». (3) أخرجه اللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (321) والذهبي في «العرش» (228) وفي «العلو» (502، 503) بإسنادهما. ونقله: ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 257) والمصنف في «اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص 350 - 352).
(2/877)
السماء، ووصفه بذلك رسوله خاتم الأنبياء، وأجمع على ذلك جميع (1) العلماء من الصحابة الأتقياء والأئمة من الفقهاء، وتواترت الأخبار بذلك على وجه حصل به اليقين، وجمع الله عليه قلوب المسلمين، وجعله مغروزا في طباع الخلق أجمعين، فتراهم عند نزول الكرب يلحظون السماء بأعينهم، ويرفعون نحوها للدعاء أيديهم، وينظرون مجيء الفرج من ربهم، وينطقون بذلك بألسنتهم، ولا ينكر ذلك إلَّا مبتدع غالٍ في بدعته، أو مفتون بتقليده واتباعه على ضلالته» (2). قال: «وأنا ذاكر في هذا الجزء (3) ما بلغني في ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته والأئمة المقتدين بسنته على وجه يحصل القطع واليقين بصحة ذلك عنهم، ويُعلَم تواتر الرواية بوجوده منهم، ليزداد من وقف عليه من المؤمنين إيمانًا، ويثبته من خفي عليه ذلك حتى يصير كالمشاهد له عيانًا» (4). وقال أبو عبد الله القرطبي المالكي في «شرح الأسماء الحسنى» لما ذكر اختلاف الناس في تفسير الاستواء قال: «وأظهر الأقوال في ذلك ما تظاهرت عليه الآي والأخبار، وقاله الفضلاء الأخيار، أن الله على عرشه كما أخبر في _________ (1) «ح»: «جمع». والمثبت من «إثبات صفة العلو». (2) «إثبات صفة العلو» (ص 63). ونقله ابن تيمية في «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 215 - 216) و «درء التعارض» (7/ 258) والمصنف في «اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص 286 - 287). (3) «ح»: «الخبر». والمثبت من «إثبات صفة العلو». (4) «إثبات صفة العلو» (ص 63). ونقله ابن تيمية في «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 216) و «درء التعارض» (7/ 258).
(2/878)
كتابه وعلى لسان نبيه بلا كيفٍ، بائن من خلقه، هذا مذهب السلف الصالح فيما نقل عنهم الثقات» (1). وقال أيضًا في كتابه في «التفسير» (2) لمَّا تكلم على آية الاستواء قال: «هذه مسألة الاستواء، وللعلماء فيها كلامٌ، وقد بيَّنا أقوال العلماء في «شرح الأسماء الحسنى» وذكرنا فيها أربعة عشر قولًا». وذكر قول النُّفاة المعطلين فقال: «وإنهم يقولون: إذا وجب تنزيه الربِّ عن الحيز (3) فمن ضرورة ذلك ولواحقه تنزيه الربِّ عن الجهة. فليس بجهة _________ (1) «الأسنى» (2/ 132). ونقله ابن تيمية في «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 171 - 172، 3/ 387 - 388) وفي «درء التعارض» (7/ 258) والمصنف في «اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص 431). تنبيه: وقع في مطبوعة «الأسنى» زيادة، وهي: «وأظهر هذه الأقوال وإن كنتُ لا أقول به ولا أختاره ... » ونقلها هكذا مرعي الكرمي في «أقاويل الثقات» (ص 132) وعنه السفاريني في «لوامع الأنوار» (1/ 206) وعلَّق عليها الكرمي بقوله: «العجب من القرطبي حيث يقول: «وإن كنت لا أقول به ولا أختاره». ولعله خشي من تحريف الحسدة فدفع وهمهم بذلك». فإما أن يكون هذا ممَّا عبثت به يد التحريف، وإما أن يصح ما ذكره الكرمي. ويقرِّبُ الأول: عدم نقل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - لهذه العبارة، وأن القرطبي نفسه ذكر مقتضى هذا التحقيق في «تفسيره» كما سيأتي، ولم يتنصَّل منه، وأحال في «التفسير» إلى «الشرح الأسنى» ولم يذكر مضمون هذه العبارة، وإحسان الظن به يحمل على ألا يظن به مخالفة ما تظاهرت عليه الآيات، وقد أُثِرَ عن أهل الأهواء التطاول بالتحريف والدس، والله أعلم بحقيقة الحال. (2) «الجامع لأحكام القرآن» (7/ 219). ونقله: ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 259) و «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 172، 3/ 389) والذهبي في «العلو» (595). (3) في «الجامع لأحكام القرآن»: «الجهة والتحيز».
(2/879)
فوق عندهم؛ لأنه يلزم من ذلك عندهم متى اختص بجهة أن يكون في مكانٍ أو حيزٍ (1)، ويلزم على المكان والحيز الحركة والسكون، ويلزم من ذلك التغير والحدوث. قال: وكان السلف الأول - رضي الله عنهم - لا يقولون بنفي الجهة، ولا ينطقون بذلك، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى، كما نطق كتابه وأخبرت رسله، ولم ينكر أحدٌ من السلف الصالح أنه مستوٍ على عرشه حقيقةً، وإنما جهلوا كيفية الاستواء». وقال أبو بكر (2) النقاش: «حدثنا أبو العباس السرَّاج، قال: سمعت قتيبة بن سعيد يقول: «هذا قول الأئمة في الإسلام والسُّنَّة والجماعة: نعرف ربنا في السماء السابعة على عرشه، كما قال: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4]» (3). وقال الخلَّال في كتاب «السُّنة» (4): أخبرنا المرُّوذي، حدثنا محمد بن الصباح النيسابوري، حدثنا سليمان بن داود الخفاف، قال: قال إسحاق بن إبراهيم بن راهويه: قال الله تبارك وتعالى: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4] فهو فوق سماواته على عرشه، ويعلم كل شيءٍ في أسفل الأرض _________ (1) «ح»: «أو حين». والمثبت من «الجامع لأحكام القرآن». (2) «بكر» سقط من «ح». وأثبته من «درء التعارض» وغيره، وهو أبو بكر محمد بن الحسن بن محمد بن زياد النقاش المفسر، توفي سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة، وقيل: سنة إحدى. ترجمته في «سير أعلام النبلاء» (15/ 573). (3) نقله: ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 260) و «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 209) والذهبي في «العلو» (470). (4) لم نقف عليه في القدر المطبوع من كتاب «السنة»، ونقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في «الدرء» (6/ 260) و «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 186).
(2/880)
السابعة، وفي قعر البحار، وفي رؤوس الآكام (1) وبطون الأودية، وفي كل موضعٍ، كما يعلم علم ما في السماوات السبع وما دون العرش، أحاط بكل شيءٍ علمًا، فلا تسقط من ورقةٍ إلَّا يعلمها، ولا حبةٍ في ظُلمات [ق 102 ب] الأرض، ولا رطبٍ ولا يابسٍ إلَّا في كتابٍ، قد عرف ذلك وأحصاه، ولا يعجزه معرفة شيءٍ عن معرفة غيره». وفي كتاب «السُّنة» لعبد الله بن الإمام أحمد وكتاب «الرد على الجهمية» لعبد الرحمن بن أبي حاتم (2) عن سعيد بن عامر الضُّبَعي ـ إمام أهل البصرة علمًا ودينًا من طبقة شيوخ الشافعي وأحمد وإسحاق ـ أنه ذُكر عنده (3) الجهمية فقال: «هم شرٌّ قولًا من اليهود والنصارى، قد أجمع اليهود والنصارى وأهل الأديان مع المسلمين على أن الله فوق العرش، وقالوا هم: ليس عليه شيء». ورويا أيضًا في هذين الكتابين (4) عن عبد الرحمن بن مهدي ـ الإمام المشهور ـ قال: «أصحاب جهم يريدون أن يقولوا: إن الله لم يكلم موسى، ويريدون أن يقولوا: ليس في السماء شيءٌ، وأن الله ليس على العرش. أرى أن _________ (1) الآكام: جمع أكمة، ويقال إكام بكسر الهمزة أيضًا، قال مالك: هي الجبال الصغار. «مشارق الأنوار» (1/ 30). (2) لم نقف عليه في «السنة» لعبد الله، وكتاب ابن أبي حاتم مفقود، وقد نقله عنهما: ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 261). وقد نقله الذهبي في «العلو» (430) والمصنِّف في «اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص 327) عن ابن أبي حاتم وحده. (3) «ح»: «عنه». والمثبت من «درء التعارض» وغيره. (4) «السنة» لعبد الله (147). وعزاه ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 261) إلى الكتابين معًا.
(2/881)
يُستتابوا، فإن تابوا؛ وإلَّا قُتلوا». وروى عبد الله بن أحمد في كتاب «السنة» (1) عن عباد بن العوام الواسطي ـ من طبقة عبد الرحمن بن مهدي وذويه ـ قال: «كلمت بشرًا المريسي وأصحاب بشرٍ، فرأيت آخر كلامهم ينتهي إلى أن يقولوا: ليس في السماء شيءٌ». وقال علي بن عاصم شيخ البخاري: «ناظرت جهميًّا، فتبين من كلامه أنه لا يرى أن في السماء ربًّا». ذكره عبد الله بن أحمد (2) وابن أبي حاتم (3). وروى عبد الله بن أحمد (4) عن سليمان بن حرب، قال: سمعت حماد بن زيدٍ وذكر هؤلاء الجهمية فقال: «إنما يجادلون (5) أن يقولوا: ليس في السماء شيءٌ». وروى عن أبيه، حدثنا سُريج (6) بن النعمان، قال: سمعت عبد الله بن _________ (1) «السنة» لعبد الله (65، 199، 516). وأخرجه الخلال في «السنة» (1753، 1756) والخطيب في «تاريخ بغداد» (7/ 331). ونقله ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 261) و «بيان تلبيس الجهمية» (3/ 525) والذهبي في «العلو» (453). (2) «السنة» لعبد الله (191). (3) ينظر: «درء التعارض» (6/ 261) و «بيان تلبيس الجهمية» (3/ 525) و «العلو» (453). (4) «السنة» (41) و «زوائد المسند» (28234). ونقله ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 261) وغيره. (5) في «السنة» و «زوائد المسند» و «درء التعارض»: «يحاولون». وفي بعض نسخ «زوائد المسند» كما في المتن. (6) «ح» و «درء التعارض»: «شريح». بالشين والحاء، وهو تصحيف، والمثبت من «السنة» لعبد الله بن أحمد، وهو الصواب؛ وكذا قيده ابن ماكولا في «الإكمال» (4/ 271) وغيره. وترجمته في «تهذيب الكمال» (10/ 218).
(2/882)
نافع الصائغ، قال: سمعت مالك بن أنس يقول: «الله في السماء، وعلمه في كل مكان» (1). وروى البيهقي (2) بإسنادٍ صحيحٍ عن الأوزاعي قال: «كنا نحن ـ والتابعون متوافرون (3) ـ نقول: إن الله تعالى فوق عرشه، نؤمن بما وردت به السُّنَّة من صفاته». فقد ذكر الأوزاعي وهو أحد الأئمة في عصر تابعي التابعين، الذين كان فيهم: مالك وابن الماجشون وابن أبي ذئب ونحوهم من أئمة أهل الحجاز، والليث بن سعد ونحوه من أئمة مصر، والثوري وابن أبي ليلى وأبو حنيفة ونحوهم من أئمة أهل الكوفة، وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وابن عيينة ونحوهم من أئمة أهل البصرة، فهؤلاء وأمثالهم أئمة الإسلام شرقًا وغربًا في ذلك الزمان = وقد حكى الأوزاعي شهرة القول بأن الله فوق عرشه في زمن التابعين. وقال أبو حنيفة: «من قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض، فقد كفر؛ لأن الله يقول: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4] وعرشه فوق سبع _________ (1) «السنة» لعبد الله (11، 532). وأخرجه الآجري في «الشريعة» (652، 653) وابن بطة في «الإنابة» (110) وابن عبد البر في «التمهيد» (7/ 138) والذهبي في «العلو» (346، 546). ونقله ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 261 - 262) وصحح إسناده. (2) «الأسماء والصفات» (865). ونقله ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 262) وصحح إسناده. (3) «ح»: «متوافرين».
(2/883)
سماوات». قال أبو مطيع: قلت: فإن قال: إنه على العرش، وقال: لا أدري العرش في السماء أم في الأرض. قال: هو كافرٌ؛ لأنه أنكر أن يكون الله في السماء؛ لأنه تعالى في أعلى عليين، وهو يُدعى مِن أعلى لا مِن أسفل. وفي لفظ آخر: قال أبو مطيع: سألت أبا حنيفة عمَّن قال: لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض. قال: قد كفر؛ لأن الله يقول: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4] وعرشه فوق سبع سماواتٍ. قال: فإنه يقول: على العرش استوى، ولكنه لا يدري العرش في الأرض أم في السماء. قال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر». ذكره البيهقي (1) وغيره. وروى عبد الله بن أحمد (2) وغيره عن عبد الله بن المبارك بأسانيد صحيحةٍ بأنه سُئل: بماذا نعرف ربنا؟ قال: «بأنه فوق سماواته على عرشه، بائنٌ من خلقه، ولا نقول كما تقول الجهمية بأنه هاهنا في الأرض». وهكذا قال الإمام أحمد فيما حكاه الخلَّال عنه في «الجامع» (3) قال في _________ (1) لم نقف عليه في مظانه من كتب البيهقي المطبوعة، وقال ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 263): «وقال أبو حنيفة في كتاب «الفقه الأكبر» المعروف المشهور عند أصحابه، الذي رووه بالإسناد عن أبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي». فذكره، وينظر: «الفقه الأكبر» (ص 135) و «إثبات صفة العلو» لابن قدامة (ص 170) و «العلو» للذهبي (363). وعزاه منهم ابن تيمية في «الفتوى الحموية» (ص 323) وغير واحد لشيخ الإسلام الأنصاري في كتابه «الفاروق». وقد نقل البيهقي في «الأسماء والصفات» (2/ 337) عن أبي حنيفة أثرًا آخر في علو الله على خلقه. (2) «السنة» (22، 598). (3) ينظر «الرد على الزنادقة والجهمية» للإمام أحمد (ص 142).
(2/884)
رواية ابنه عبد الله: «باب ما أنكرت الجهمية الضُلَّال أن يكون الله على العرش. قلنا: لم أنكرتم أن الله على العرش؟ وقد قال جلَّ ثناؤه: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4] وقال: {خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اَسْتَوَى عَلَى اَلْعَرْشِ} [الحديد: 4] ثم قال: وقد أخبرنا أنه في السماء فقال: {أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي اِلسَّمَاءِ اَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الملك: 18] وقال جل ثناؤه: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ اُلْكَلِمُ اُلطَّيِّبُ وَاَلْعَمَلُ اُلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] وقال: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 54] وقال: {بَل رَّفَعَهُ اُللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 157] وقال: {وَلَهُ مَن فِي اِلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ} [الأنبياء: 19] وقال: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] وقال: {ذِي اِلْمَعَارِجِ} [المعارج: 3] وقال: {وَهْوَ اَلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 19] وقال: {وَهْوَ اَلْعَلِيُّ اُلْعَظِيمُ} [البقرة: 253]. وقد أخبر الله أنه في السماء، ووجدنا كل شيء أسفل مذمومًا، يقول جل ثناؤه: {إِنَّ اَلْمُنَافِقِينَ فِي اِلدَّرَكِ اِلْأَسْفَلِ مِنَ اَلنّارِ} [النساء: 144] ... » إلى أن قال: «ومعنى قول الله عز وجل: {وَهْوَ اَللَّهُ فِي اِلسَّمَاوَاتِ وَفِي اِلْأَرْضِ} [الأنعام: 4] يقول: هو إلهُ مَن في السماوات، وإله من في الأرض، وهو الله على العرش، وقد أحاط علمه بما دون العرش لا يخلو من علم الله مكان». ونصوص أحمد في ذلك كثيرةٌ جدًّا، مذكورة في غير هذا الموضع. وأمَّا الشافعي فقد [ق 103 أ] صرَّح في خطبة «الرسالة» (1) بأن الله سبحانه لا يوصف إلَّا بما وصف به نفسه، وصرَّح بأن خلافة الصدِّيق حقٌّ قضاها الله فوق سماواته، وجمع عليها قلوب عباده. _________ (1) «الرسالة» (ص 8).
(2/885)
وصرَّح في باب الكفارة في حديث الجارية وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لها: «أَيْنَ اللهُ؟» قال الشافعي: فلمَّا وصفت الإيمان قال: «أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ»، فجعل إقرارها بأن الله في السماء إيمانًا (1). وذكر البخاري في كتاب «خلق الأفعال» (2) عن وهب بن جريرٍ ـ أحد أئمة الإسلام ـ قال: «الجهمية الزنادقة إنما يُريدون أنه ليس على العرش استوى». وعن حماد بن زيدٍ: «القرآن كلام الله نزل به جبريل، ما يجادلون إلَّا أن (3) ليس في السماء إله» (4). وقال ابن المبارك: «لا نقول كما قالت الجهمية: إنه في الأرض هاهنا. بل على العرش استوى» (5). وقيل له: كيف نعرف ربنا؟ قال: «فوق سماواته على عرشه» (6). وقال لرجلٍ من الجهمية: «أبطنك خالٍ منه؟» فبُهت الآخر (7). وذكر البخاري في هذا الكتاب أيضًا قول سعيد بن عامر (8)، وقد تقدم (9). _________ (1) ينظر «الأم» (6/ 707). (2) «خلق أفعال العباد» (6). (3) «خلق أفعال العباد»: «أنه». (4) «خلق أفعال العباد» (10). (5) «خلق أفعال العباد» (13). (6) «خلق أفعال العباد» (14). وقال ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 264 (: «وروى عبد الله بن أحمد وغيره بأسانيد صحيحة». فذكره. (7) «خلق أفعال العباد» (15). (8) «خلق أفعال العباد» (18). (9) تقدم (ص 881).
(2/886)
وقال (1) عن شيخه علي بن عاصم: «احذر من المريسي وأصحابه، فإن كلامهم أبو جاد الزندقة (2)، وأنا كلمت أستاذهم جهمًا فلم يثبت أن في السماء إلهًا». وقال يزيد بن هارون: «من زعم أن الرحمن على العرش استوى على خلاف ما تقرَّر في قلوب العامة فهو جهميٌّ» (3). وقال صدقة: سمعت سليمان التيمي يقول: «لو سُئلت أين الله تعالى؟ لقلت: في السماء. فإن قال: فأين كان عرشه قبل السماء؟ لقلت: على الماء. فإن قال: فأين كان عرشه قبل (4) الماء؟ لقلت: لا أعلم» (5). وفي «مسائل حرب (6) لأحمد وإسحاق»: «إن الله سبحانه وصف نفسه في كتابه بصفات، استغنى الخلق أن يصفوه بغير ما (7) وصف به نفسه. من ذلك قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اُللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ اَلْغَمَامِ} [البقرة: 208] وقوله: {وَتَرَى اَلْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ اِلْعَرْشِ} [الزمر: 72] وآيات _________ (1) «خلق أفعال العباد» (22). (2) لعله يريد: مبدأ الزندقة، فإن أبا جاد هي الحروف الأبجدية وهي مبدأ الكلام. وقد يكون المعنى: باطلهم، كما يقال: وقع القوم في أبي جاد: أي في باطلٍ. «لسان العرب» (3/ 138). (3) «خلق أفعال العباد» (63). (4) «ح»: «على». والمثبت من «خلق أفعال العباد». (5) «خلق أفعال العباد» (64). (6) «ح»: «جرت». وهو تصحيف، والنقل من «مسائل حرب الكرماني» (1787) وفيه: «أملى علي إسحاق بن راهويه». فذكره. (7) «ح»: «بغيرها». والمثبت من «مسائل حرب الكرماني».
(2/887)
مثلها تصف العرش، وقد ثبتت الروايات في العرش، وأعلى شيءٍ فيه وأثبته قول الله: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4]. وذكر (1) عن خارجة بن مصعب قال: «الجهمية كفارٌ، لا تنكحوا إليهم ولا تنكحوهم، ولا تعودوا مرضاهم، ولا تشهدوا جنائزهم، وبلغوا نساءهم أنهن طوالق، وأنهن لا يبحن لأزواجهن. وقرأ {طه} إلى قوله: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 1 - 4] ثم قال: وهل يكون الاستواء إلَّا الجلوس». وقال إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خُزَيمة: «من لم يقل بأن الله فوق سماواته على عرشه بائنٌ من خلقه وجب أن يُستتاب، فإن تاب وإلَّا ضُربت عنقه، ثم أُلقي على مزبلةٍ؛ لئلا يتأذى بنَتْن ريحه أهل القبلة ولا أهل الذِّمَّة». ذكره عنه أبو عبد الله الحاكم في كتاب «علوم الحديث» (2) له، وفي كتاب «تاريخ نيسابور» (3)، وذكره أبو عثمان النيسابوري في «رسالته» (4) المشهورة. وروى الخلَّال (5) بإسنادٍ كلهم ثقات عن سفيان بن عُيينة، قال: سُئل _________ (1) «مسائل حرب الكرماني» (1788). (2) «علوم الحديث» (ص 84). (3) عزاه إلى «تاريخه» أبو عثمان الصابوني في «عقيدته» وابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 264). (4) «عقيدة السلف وأصحاب الحديث» لأبي عثمان الصابوني (ص 29). (5) لم نقف عليه في الجزء المطبوع من «السنة» للخلال، وعزاه له: ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 264) وفي «الفتوى الحموية الكبرى» (304). والأثر أخرجه اللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (665) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (868) وابن قدامة في «إثبات صفة العلو» (74) والذهبي في «العلو» (ص 129).
(2/888)
ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن قوله: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4] فقال: «الاستواء [غير] (1) مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق». وقد روي هذا الكلام عن الإمام مالكٍ من وجوهٍ متعددةٍ (2). وروى ابن أبي حاتم (3) عن هشام بن عبيد الله الرازي: أنه حبس رجلًا في التجهم، فجيء به إلى هشام ليمتحنه، فقال: «أتشهد أن الله على عرشه بائنٌ من خلقه؟ قال: لا أدري ما بائن من خلقه؟ فقال: ردوه إلى الحبس فإنه لم يتب». وروى أيضًا عن عبد الله بن أبي جعفر الرازي أنه جعل يضرب قرابة له بالنعل على رأسه يرى رأي جهم قال: «لا حتى يقول: الرحمن على العرش استوى بائنٌ من خلقه» (4). وروى أيضًا عن جرير بن عبد الحميد الرازي أنه قال: «كلام الجهمية _________ (1) «غير» سقط من «ح». وأثبته من «درء التعارض» وغيره. (2) أخرجه ابن المقري في «المعجم» (1003) واللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (664) وأبو نعيم في «الحلية» (6/ 325) والصَّابوني في «عقيدة السلف» (ص 38 - 39) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (867) والذهبي في «العلو» (352). (3) أخرجه الهروي في «ذم الكلام وأهله» (1210) والذهبي في «تاريخ الإسلام» (5/ 719) وفي «العلو» (457) من طريق ابن أبي حاتم. (4) نقله عنه: ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 256) والذهبي في «العرش» (210) وفي «العلو» (441).
(2/889)
أوله عسلٌ، وآخره سمٌّ، وإنما يجادلون (1) أن يقولوا: ليس في السماء إله» (2). وقال أبو الوليد بن رشد في كتاب «مناهج الأدلة» (3): «القول في الجهة: وأمَّا هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة في أول الأمر يثبتونها لله حتى نفتها المعتزلة، وتبعهم على ذلك متأخرو الأشعرية». وساق أدلة القرآن عليها إلى أن قال: «والشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء، وأن منها تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين، وأن من السماء نزلت الكتب، وإليها كان الإسراء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - حتى قرب من سدرة المنتهى. قال: وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء، كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك». ثم قرَّر ذلك بالدليل العقلي، وبيَّن بطلان شُبهة المعطلة (4). وهذه النقول التي حكيناها قليلٌ من كثيرٍ، وقد ذكرنا أضعاف أضعافها في كتاب «اجتماع العساكر الإسلامية على غزو الفرقة الجهمية» (5)، وهي تُبيِّن كَذِبَ مَن قال: إنه لم يقل بذلك إلَّا الكرَّامية والحنبلية، وفريتَه (6) وجهلَه. والمقصود بأن علو الخالق على المخلوقات كلها وكونه [ق 103 ب] _________ (1) في «درء التعارض»: «يحاولون». (2) نقله عنه: ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 256) والذهبي في «العرش» (210) وفي «العلو» (441) وفي «الأربعين» (41). (3) «الكشف عن مناهج الأدلة» (ص 176). (4) وقد سبق (ص 188 - 197) نقل كلام ابن رشد بتمامه. (5) «اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص 162 - 510). (6) «ح»: «قريبه». ولعل المثبت هو الصواب.
(2/890)
فوق العالم أمرٌ مستقرٌّ في فِطَر العباد، معلومٌ لهم بالضرورة، كما اتفق عليه جميع الأمم من غير تواطؤ وتشاعر، بخلاف النفي والتعطيل؛ فإنه يتلقاه بعضهم عن بعضٍ كسائر المقالات الباطلة، المخالفة لصريح العقل والنقل. فصل وممَّا ينصر (1) ذلك أن العباد كلهم مضطرون إلى دعاء الربِّ سبحانه وسؤاله وقصده والافتقار إليه، كما قال الله تعالى: {يَسْئَلُهُ مَن فِي اِلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 27] وهم مضطرون إلى توجيه قلوبهم إلى العلو، كما أنهم مضطرون إلى دعائه وقصده وسؤاله، كما أنهم يضطرون إلى الإقرار به، وأنه ربُّهم وخالقهم ومليكهم، ولا يجدون فرقًا بين هذا الاضطرار وهذا. فكما لا تتوجه قلوبهم إلى ربٍّ غيره ولا إلى إلهٍ سواه، فكذلك لا يجدون في قلوبهم توجهًا إلى جهة أخرى غير العلو، بل يجدون قلوبهم مضطرةً إلى قصد جهة العلو دون سائر الجهات، وهذا يتضمن اضطرارهم إلى قصده سبحانه في العلو، وإقرارهم وإيمانهم بذلك. فصل الطريق الثالث (2): أنه قد ثبت بصريح العقل أن الأمرين المتقابلين إذا _________ (1) «ح»: «ينصرف». ولعل المثبت هو الصواب. (2) «ح»: «الرابع». ولم يذكر الطريق الثالث، ومشى الناسخ على ذلك إلى آخر الطريق الحادي والثلاثين، وممكن يُصحح صنيعه بأن يُعدَّ الفصل السابق هو الطريق الثالث، لكن يأبى ذلك أن المصنِّف قال عقب تعداد هذه الطرق: «فهذه ثلاثون طريقًا». فلم أجد بدًّا من تصحيح كل أرقام الطرق من الثالث إلى الثلاثين. وهذا هو الوجه الخمسون بعد المائة.
(2/891)
كان أحدهما صفة كمالٍ والآخر صفة نقصٍ؛ فإن الله سبحانه يوصف بالكمال منهما دون النقص. ولهذا لمَّا تقابل الموت والحياة وُصف بالحياة دون الموت. ولمَّا تقابل العلم والجهل وُصف بالعلم دون الجهل. وكذلك العجز والقُدرة، والكلام والخرس، والبصر والعمى، والسمع والصمم، والغنى والفقر. ولمَّا تقابلت المباينة للعالم والمداخلة له وُصف بالمباينة دون المداخلة. وإذا كانت المباينة تستلزم علوه على العالم أو سفوله عنه وتَقَابلَ العلو والسفول؛ وُصف بالعلو دون السفول. وإذا كان مباينًا للعالم كان من لوازم مباينته أن يكون فوق العالم، ولمَّا كان العلو صفة كمالٍ كان ذلك من لوازم ذاته، فلا يكون مع وجود العالم إلَّا عاليًا عليه ضرورةً، ولا يكون سبحانه إلَّا فوق المخلوقات كلها، ولا تكون المخلوقات محيطةً به أصلًا. وإذا قابلت بين هذه المقدِّمات ومقدِّمات شُبه المعطلة ظهر لك الحقُّ من الباطل. فصل الطريق الرابع (1): أنه إذا كان سبحانه مباينًا للعالم فإمَّا أن يكون محيطًا به أو لا يكون محيطًا به. فإن كان محيطًا به لزم علوه عليه قطعًا ضرورة علو المحيط على المحاط به. ولهذا لمَّا كانت السماء محيطةً بالأرض كانت عاليةً عليها، ولمَّا كان الكرسي محيطًا بالسماوات كان عاليًا عليها، ولمَّا كان العرش محيطًا بالكرسي كان عاليًا. فما (2) كان محيطًا بجميع ذلك كان عاليًا عليه ضرورةً، ولا يستلزم ذلك محايثته لشيءٍ ممَّا هو محيطٌ به ولا مماثلته _________ (1) «ح»: «الخامس». وهذا هو الوجه الحادي والخمسون بعد المائة. (2) كذا في «ح»، وربما كانت: «فلما».
(2/892)
ومشابهته له. فإذا كانت السماء محيطةً بالأرض وليست مماثلةً لها فالتفاوت الذي بين العالم وربِّ العالم أعظم من التفاوت الذي بين الأرض والسماء. وإن لم يكن محيطًا بالعالم بألَّا يكون العالم كُريًّا، بل تكون السماوات كالسقف المستوي فهذا ـ وإن كان خلاف الإجماع وخلاف ما دلَّ عليه العقل والحس ـ فلو قال به قائلٌ لزم أيضًا أن يكون الربُّ تعالى عاليًا على العالم؛ لأنه إذا كان مباينًا وقُدر أنه غير محيط فالمباينة تقتضي ضرورة أن يكون في العلو أو في جهة غيره، ومن المعلوم بالضرورة أن العلو أشرف بالذات من سائر الجهات؛ فوجب ضرورة اختصاص الربِّ بأشرف الأمرين وأعلاهما. والمعطلة تقول: هذه القضية خطابية لا برهانية. ولعمر الله إنك لو سألت كل صحيح التمييز والفطرة عن ذلك لوجدت في فطرته أن الربَّ تعالى أولى وأحق بهذه القضية التي يُسمِّيها هؤلاء خطابية، وليس في المعقول أصحُّ من هذه المقدمة، وتسميتها خطابية لا تقتضي جحد العقول الصحيحة لها وإنكارها للربِّ سبحانه. فصل الطريق الخامس (1): ما احتجَّ به الإمام أحمد نفسه على الجهمية، فقال (2): «وإذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذبٌ على الله (3) فقل له: أليس _________ (1) «ح»: «السادس». وهذا هو الوجه الثاني والخمسون بعد المائة. (2) «الرد على الجهمية والزنادقة» (ص 155). (3) بعده في «الرد على الجهمية والزنادقة»: «حين زعم أنه في كل مكان، ولا يكون في مكان دون مكان».
(2/893)
الله كان ولا شيء؟ فيقول نعم. فقل له: فحين خلق الخلق خلقه في نفسه أو خارجًا من نفسه؟ فإنه يصير إلى ثلاثة أقوال [لا بد له من] (1) واحدٍ منها: إن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه، فقد كفر حين زعم أنه خلق الجن والشياطين في نفسه. وإن قال: خلقهم خارجًا من نفسه ثم دخل فيهم، كان هذا أيضًا كفرًا حين زعم أنه دخل في كل مكانٍ وحَشٍّ (2) قَذِرٍ رديءٍ. وإن قال: خلقهم خارجًا من نفسه ثم لم يدخل فيهم، رجع قوله كله أجمع، وهو قول أهل السنة». وبقي هاهنا قسمان، سكت الإمام أحمد عن التعرُّض لإبطالهما؛ لأن بطلانهما معلومٌ بالضرورة، [ق 104 أ] فإن أحدهما يتضمن إثبات النقيضين، والآخر يتضمن رفعهما. فالأول: أن يكون خلقهم خارجًا عن نفسه وداخلًا في نفسه. والثاني: أن يكون غير خارجٍ عنهم ولا داخلٍ فيهم، أو يكونوا غير خارجين عنه ولا داخلين فيه؛ فإن نفي هذا كنفي أن يكون قائمًا بنفسه وقائمًا بغيره وأن يكون قديمًا ومحدثًا، ونحو ذلك ممَّا يُنفَى فيه النقيضان. _________ (1) ليس في «ح»، وأثبته من «الرد على الجهمية والزنادقة». (2) يعني: موضع قضاء الحاجة. «النهاية في غريب الحديث» (1/ 390).
(2/894)
ولا يُغني الجهمي في هذا المقام اعتذاره بأنه غير قابل للدخول والخروج والمباينة والمحايثة، لثلاثة أوجهٍ: أحدها: أن يقال له: وهكذا قال أخوك معطل الذات سواء: إنه غير قابل للقدم والحدوث، فما كان جوابك له فهو جواب أهل الإثبات لك. الثاني: أن هذا التقسيم يتناول كل موجودٍ، ولا يخرج عنه إلَّا العدم المحض، فإنه تقسيمٌ حاصرٌ. ولا واسطة بين نفيه وإثباته البتة، بل هذا حُكْم كل موجودين بالضرورة، فإنه إمَّا أن يكون أحدهما مباينًا للآخر أو غير مباين له، كما يقال إمَّا أن يكون أحدهما قائمًا بالآخر، أو غير قائمٍ به، وإنكار (1) هذا مكابرة صريحة للعقل، وكذلك إما أن يكون متقدمًا عليه أو مقارنًا له، فقولكم: إن هذا فيما هو قابل. كلام باطل يتضمن رفع النقيضين والخلو منهما. الثالث: أن يقال: لا يتصور العقل شيئًا غير قابل لذلك إلَّا العدم المحض والنفي الصِّرْف، ودعواكم على العقل أنه يثبت قسمًا آخر غير قابل للنقيضين كذبٌ على العقل وفريةٌ. فصل يوضحه: الطريق السادس (2): أن يقال: كل موجودين فإمَّا أن يكون أحدهما قائمًا بنفسه، أو قائمًا بالآخر؛ فإن كان قائمًا بالآخر امتنع قيام الآخر به ضرورةً، وإن كان قائمًا بنفسه فحقيقته خارجة عن حقيقة الآخر ضرورةً، _________ (1) «ح»: «وأن كان». والمثبت هو الصواب. (2) «ح»: «السابع». وهذا هو الوجه الثالث والخمسون بعد المائة.
(2/895)
وإلا لزم اتحادهما، وإذا كانت حقيقته خارجةً عن حقيقة الآخر كان مباينًا له بالضرورة، وهذا برهانٌ ضروريٌّ لا يقدح فيه إلَّا ما يقدح في سائر الضروريات. فصل الطريق السابع (1): أن يقال: الربُّ سبحانه إمَّا أن يكون موجودًا خارج الأذهان، موجودًا في الأعيان أو لا يكون له وجود خارجي. فإن قلتم: ليس له وجودٌ خارجيٌّ. وهو حقيقة قولكم، كان خيالًا ذهنيًّا لا حقيقة له. وإن قلتم: بل هو موجودٌ خارج الذهن في الأعيان منفصلًا عن الأذهان مباينًا لها، فقد أقررتم بأنه قابل للخروج والانفصال والمباينة. فهلَّا جعلتم جملة العالم كالذهني، وقلتم بأنه خارجٌ عنه منفصلٌ مباينٌ له! وكيف صحَّ بل وجب أن يكون خارج الأذهان مباينًا لها منفصلًا عنها، ولم يلزم من ذلك محالٌ، وامتنع أن يكون خارج العالم مباينًا له ولزم من ذلك المحال؟ فمن هاهنا قيل: إنكم فارقتم حكم العقل والسمع، وكان أتباع الرُّسل أسعد بالمعقول والمنقول منكم. فصل الطريق الثامن (2): إذا ثبت له سبحانه وجود (3) خارج الأذهان فإمَّا أن _________ (1) «ح»: «الثامن». وهذا هو الوجه الرابع والخمسون بعد المائة. (2) «ح»: «التاسع». وهذا هو الوجه الخامس والخمسون بعد المائة. (3) «ح»: «موجود».
(2/896)
يكون هو العالم المشهود، أو صفة من صفاته، وعرضًا من أعراضه، أو غيره. فإن قلتم بالأول، فهو حقيقة قول الاتحادية الملاحدة، الذين لا يثبتون خالقًا ومخلوقًا وصانعًا ومصنوعًا، بل حقيقة الربِّ عندهم هي هذا الوجود بعينه. وإن قلتم: هو عرض من أعراض العالم وصفة من صفاته، فهو من أمحل المحال، لا يقوله أحدٌ من بني آدم. فتعيَّن أن يكون غير هذا العالم. وحينئذٍ يلزم مباينته له ضرورةً؛ إذ الغيران اللذان لا يكون أحدهما صفة للآخر ولا أحدهما قائمًا بالآخر لا بد أن يتباينا، إذ لو لم يتباينا لزم اتحاد أحدهما بالآخر أو حلوله فيه حلول الصفة في الموصوف، أو حلول الحال في المحل، ولا ينفعكم قولكم: إن هذا إنما يلزم فيما هو قابلٌ لذلك، لما تقدم بيانه (1). فصل الطريق التاسع (2): أنَّا إذا عرضنا على العقل الصريح ـ الذي لم يفسد بتلقي الآراء والمذاهب الباطلة ـ التصديق بموجودين قائمين بأنفسهما، وأحدهما مباين للآخر، مع كونه غير مماثل له ولا هو من جنسه.؛ وعرضنا عليه التصديق بموجودين قائمين بأنفسهما، ليس أحدهما مباينًا للآخر، ولا مداخلًا له ولا فوقه ولا تحته، ولا متصلًا به ولا منفصلًا عنه، ولا محايثًا له ولا مباينًا = علمنا بالضرورة تصديقه بالأول، ودفعه الثاني _________ (1) تقدم في الطريق الخامس (ص 893 - 895). (2) «ح»: «العاشر». وهذا هو الوجه السادس والخمسون بعد المائة.
(2/897)
وإنكاره. وكل شُبهةٍ تقدح في هذا فهي قادحةٌ في الضروريات، وكل شُبهةٍ تُقام على الثاني فهي من الشُّبه التي تُقام على إمكان الممتنعات. فصل الطريق العاشر (1): أنه عند المعطلة النُّفاة كون الله سبحانه فوق العالم مستويًا على عرشه بمنزلة كونه يأكل ويشرب وينام، بل هو بمنزلة إثبات الزوجة والولد له، في كون هذا منافيًا لإلهيته وربوبيته وقِدَمه، وكون علوه على خلقه واستوائه على عرشه [ق 104 ب] منافيًا لذلك. وهذا من أعظم القدح في العقول والفِطَر والشرائع والنُّبوات والكتب المنزلة؛ فإنها فرَّقت بين الأمرين تفرقةً معلومةً بالاضطرار لكل من له أدنى مُسكةٍ من عقلٍ. فمن سوَّى بين الأمرين، وجعل تنزيه الربِّ عنهما من لوازم الإقرار به، فليبكِ على عقله وإيمانه. فصل الطريق الحادي عشر (2): أن يقال للمعطلة: تنزيهكم له سبحانه عن كونه مباينًا لخلقه تنزيهٌ له عن غناه ووجوده، وتنزيهكم له عن استوائه على عرشه تنزيهٌ له عن كماله. والمثبت لو شبهه بخلقه ـ بافترائكم وكذبكم عليه تعالى الله عن ذلك ـ لكان قد أثبت موجودًا قائمًا بنفسه مباينًا لخلقه، له الكمال المطلق مع نوع تشبيهٍ (3). وهذا خيرٌ من تنزيهكم، وأقرب إلى العقول _________ (1) «ح»: «الحادي عشر». وهذا هو الوجه السابع والخمسون بعد المائة. (2) «ح»: «الثاني عشر». وهذا هو الوجه الثامن والخمسون بعد المائة. (3) «ح»: «شبيه».
(2/898)
والفطر؛ فكيف وهو مع ذلك يثبت أنه لا يماثل خلقه ولا يشابههم، وأنه لا يلزم من علوه على خلقه واستوائه على عرشه أن يكون من جنسهم مماثلًا لهم؟ يوضحه: فصل الطريق الثاني عشر (1): أن الله سبحانه جعل بعض مخلوقاته عاليًا على بعضٍ، ولم يلزم من ذلك مماثلة العالي للسافل ومشابهته له، فهذا الماء فوق الأرض، والهواء فوق الماء، والنار فوق الهواء، والأفلاك فوق ذلك؛ وليس عاليها مماثلًا لسافلها. والتفاوت الذي بين الخالق والمخلوق أعظم من التفاوت الذي بين المخلوقات، فكيف يلزم من علوه تشبيهه بخلقه؟ فإن قلتم: وإن لم يلزم التشبيه لكن يلزم التجسيم. قيل: انفصلوا أولًا عن قول معطلة الصِّفات لكم: لو كان له سمعٌ أو بصرٌ أو حياةٌ أو علمٌ أو قدرةٌ أو كلامٌ لزم التجسيم. فإذا انفصلتم عنهم، وتخلصتم من أَسْرهم لكم، عاد عليكم أهل السُّنَّة بالرأفة والرحمة، وجبروكم وخلَّصوكم من هذا الوثاق (2) الذي شدَّكم به الملاحدة المعطلة. فإن أبيتم إلَّا الجواب قيل لكم: ما تعنون بالتجسيم؟ أتعنون به العلو على العالم والاستواء على العرش؟ وهذا حاصل قولكم، وحينئذٍ فما زدتم على إبطال ذلك بمجرد الدعوى التي اتحد فيها _________ (1) «ح»: «الثالث عشر». وهذا هو الوجه التاسع والخمسون بعد المائة. (2) «ح»: «الوفاق». ولعل المثبت هو الصواب.
(2/899)
اللازم والملزوم بتغيير العبارة، وكأنكم قلتم: لو كان فوق العالم مستويًا على عرشه لكان فوق العالم. ولكنكم لبَّسْتم وأوهمتم. وإن عنيتم بالجسم المركب من الجواهر الفردة، فجمهور العقلاء ينازعونكم في إثبات الجوهر الفرد، فضلًا عن تركب الأجسام الحادثة منه، فالملازمة باطلة كاذبة. وإن عنيتم به المركب من الهيولى والصورة، فأنتم قد قررتم بطلان تركب الأجسام من ذلك، فأنتم أبطلتم هذا التركيب الذي يدَّعيه الفلاسفة، وهم أبطلوا التركيب الذي تدعونه من الجواهر الفردة، وجمهور العقلاء أبطلوا هذا وهذا. فإذا كان هذا غير لازمٍ في الأجسام المحسوسة المشاهدة بل هو باطلٌ، فكيف يُدَّعى لزومه فيمن ليس كمثله شيءٌ؟ وإن عنيتم بالتجسيم تميز شيءٍ منه عن شيءٍ، قيل لكم: انفصلوا أولًا عن قول نفاة الصِّفات: لو كان له سمعٌ وبصرٌ وحياةٌ وقدرةٌ، لزم أن (1) يتميز منه شيءٌ عن شيءٍ، وذلك عين التجسيم. فإذا انفصلتم منهم أجبناكم بما تجيبونهم به. فإن أبيتم إلَّا الجواب منَّا قلنا: إنما قام الدليل على إثبات إلهٍ قديمٍ غنيٍّ بنفسه عن كل ما سواه، وكلُّ ما سواه فقير إليه، كلُّ أحدٍ محتاج إليه، وليس محتاجًا إلى أحدٍ، ووجود كل شيءٍ مستفاد منه، ووجوده ليس مستفادًا من غيره. ولم يقم الدليل على استحالة تكثر أوصاف كماله، وتعدد أسمائه الدالة على صفاته وأفعاله؛ بل هو إلهٌ واحدٌ، وربٌّ واحدٌ، وإن تكثرت صفاته، وتعددت أسماؤه؛ فلا إله غيره، ولا ربَّ سواه. _________ (1) سقط من «ح»، وأثبته من «م».
(2/900)
فصل الطريق الثالث عشر: أن يقال: أخبرُ الناس بمقالات الفلاسفة (1) قد حكى اتفاق الحكماء على أن الله والملائكة في السماء، كما اتفقت على ذلك الشرائع، وقرَّر (2) ذلك بطريقٍ عقليٍّ من جنس تقرير ابن كُلَّاب والحارث المحاسبي وأبي العباس القلانسي وأبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر بن الباقلاني وأبي الحسن بن الزاغوني وغيرهم ممَّن يقول: إن الله فوق العرش وليس بجسمٍ. قال هؤلاء: وإثبات صفة العلو والفوقية له سبحانه لا يوجب الجسمية، بل ولا إثبات المكان. وبنى الفلاسفة ذلك على ما ذكره ابن رشد: أن المكان هو السطح الباطن من الجسم الحاوي الملاقي للسطح الظاهر من الجسم المَحْوي. فمكان (3) الإنسان عندهم هو باطن الهواء المحيط به، وكل سطحٍ باطنٍ فهو مكان للسطح الظاهر فيما يلاقيه، ومعلوم أنه ليس وراء الأجسام سطح جسمٍ باطنٍ يحوي شيئًا، فلا مكان هناك؛ إذ لو كان هناك مكانٌ حاوٍ لسطح الجسم لكان الحاوي جسمًا. ولهذا قال: فإذا قام البرهان على وجود موجود في هذه الجهة فواجب أن يكون غير جسم، فالذي يمتنع وجوده هناك هو وجود جسمٍ، لا وجود [ق 105 أ] ما ليس بجسمٍ. وقرَّر إمكان ذلك كما قرر إثباته بما ذكر من أنه لا بد من نسبة بينه وبين العالم المحسوس، فيجب أن يكون في جهة العلو. _________ (1) يعني: أبا الوليد بن رشد، وقوله في «الكشف عن مناهج الأدلة» (ص 176 - 178). (2) «ح»، «م»: «وورد». والمثبت من «درء التعارض» (6/ 242). (3) «ح»: «فكان». والمثبت من «م»، «مناهج الأدلة».
(2/901)
والذي يمكن منازعوه (1) من الفلاسفة والجهمية والمعتزلة أن يقولوا: لا يمكن أن يوجد هناك شيءٌ لا جسم ولا غير جسمٍ، أمَّا الجسم فلما ذكر، وأمَّا غير الجسم فلأن كونه مُشارًا إليه بأنه هناك يستلزم أن يكون جسمًا. وحينئذٍ فيقول هؤلاء المثبتون لمن نازعهم في ذلك: وجود موجودٍ قائمٍ بنفسه ليس وراء أجسام العالم ولا داخلًا في العالم إمَّا أن يكون ممكنًا أو لا يكون. فإن لم يكن ممكنًا بطل قولكم، وإن كان ممكنًا فوجود موجود وراء أجسام العالم وليس بجسمٍ أولى بالجواز. ويوضحه: فصل الطريق الرابع عشر (2): وهو أنا إذا عرضنا على العقل وجود موجودٍ قائمٍ بنفسه لا في العالم ولا خارجًا عنه ولا يُشار إليه، وعرضنا عليه وجود موجودٍ يُشار إليه فوق العالم ليس بجسمٍ، كان إنكارُ العقل للأول أعظم، وامتناعُه فيه أظهر من إنكاره للثاني وامتناعه فيه. فإن كان حكم العقل في الأول مقبولًا وجب قبول الثاني، وإن كان الثاني مردودًا وجب ردُّ الأول؛ ولا يمكن العقل الصريح أن يقبل الأول ويردَّ الثاني أبدًا. فصل الطريق الخامس عشر (3): أنه سبحانه لو لم يقبل الإشارة الحسية إليه _________ (1) كذا في «ح»، «م»، والصواب: «منازعيه». (2) «ح»: «الخامس عشر». وهذا هو الوجه الحادي والستون بعد المائة. (3) «ح»: «السادس عشر». وهذا هو الوجه الثاني والستون بعد المائة.
(2/902)
كما أشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حسًّا بإصبعه بمشهد الجَمْع الأعظم (1)، وقبل ممَّن شهد لها بالإيمان الإشارة الحسية إليه (2)، فإمَّا أن يقال: إنه يقبل الإشارة المعنوية فقط، أو لا (3) يقبلها أيضًا كما لا يقبل الحسية، فإن لم يقبل هذه ولا هذه فهو عدمٌ محضٌ، بل العدم المقيد المضاف يقبل الإشارة المعنوية. وإن قيل: يقبل الإشارة المعنوية دون الحسية، لزم أن يكون معنًى من المعاني، لا ذاتًا خارجية؛ وهذا ممَّا لا حيلة في دفعه. فمن أنكر جواز الإشارة الحسية إليه فلا بد له من أحد أمرين: إمَّا أن يجعله معدومًا، أو معنًى من المعاني، لا ذاتًا قائمة بنفسها. فصل الطريق السادس عشر (4): أن من أعجب العجب أن هؤلاء الذين فرُّوا _________ (1) أخرجه مسلم (1218) عن جابر - رضي الله عنه - في خطبة حجة الوداع. (2) أخرج ابن خزيمة في كتاب «التوحيد» (1/ 283 - 284) والطحاوي في «مشكل الآثار» (4991) وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (1/ 194) عن أبي هريرة «أن محمد بن الشريد جاء بخادم سوداء غتماء إلى رسول الله، فقال: يا رسول الله، إن أمي جعلت عليها عتق رقبة مؤمنة. فقال: يا رسول الله، هل يجزئ أن أعتق هذه؟ فقال رسول الله للخادم: أين ربك؟ فرفعت رأسها، فقالت: في السماء. فقال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. فقال: أعتقها؛ فإنها مؤمنة». وقال الذهبي في «العرش» (2/ 26): «هذا حديث حسن، رواه القاضي أبو أحمد العسال في كتاب «المعرفة» له». وقد روي حديث الجارية من وجوهٍ كثيرةٍ، ينظر: «التوحيد» لابن خزيمة (1/ 284 - 289). (3) «ح»: «ولا». والمثبت من «م». (4) «ح»: «السابع عشر». وهذا هو الوجه الثالث والستون بعد المائة.
(2/903)
من القول بعلو الله فوق المخلوقات واستوائه على عرشه خشية التشبيه والتجسيم قد اعترفوا بأنهم لا يمكنهم إثبات الصانع إلَّا بنوعٍ من التشبيه والتمثيل. ونحن لا نحيلك على عدمٍ، بل نحكي ألفاظهم بعينها معزوةً إلى مكانها. قال الآمدي في مسألة حدوث الأجسام لما ذكر حجة القائلين بالعدم: «الوجه العاشر: لو كان العالم محدثًا فمحدثه (1) إمَّا أن يكون مساويًا له من كل وجهٍ، أو مخالفًا له من كل وجهٍ، أو مماثلًا له من وجهٍ ومخالفًا له من وجه. فإن كان الأول فهو حادثٌ، والكلام فيه كالكلام في الأول، ويلزم التسلسل الممتنع. وإن كان الثاني فالمحدث له ليس بموجودٍ، وإلَّا لما كان مخالفًا له من كل وجهٍ، وهو خلاف الفرض. وإذا لم يكن موجودًا امتنع أن يكون مفيدًا للوجود (2). وإن كان الثالث فمن جهة ما هو مماثل للحادث يجب أن يكون حادثًا، والكلام فيه كالأول، وهو تسلسلٌ محالٌ. وهذه المحالات إنما نشأت من القول بكونه مُحْدِثًا للعالم» (3). قال: «والجواب عن هذه الشبهة أن المختار من أقسامها إنما هو القسم الأخير. ولا يلزم من كون القديم مماثلًا للحوادث من وجهٍ أن يكون مماثلًا _________ (1) في «أبكار الأفكار»: «فحدوثه». والمثبت موافق لما ورد في «م» و «درء التعارض» (4/ 167). (2) في «أبكار الأفكار» و «درء التعارض»: «موجبا للموجود». (3) «أبكار الأفكار» (3/ 346).
(2/904)
للحادث من جهة كونه حادثًا، بل لا مانع من الاختلاف بينهما في صفة القِدَم والحدوث، وإنما تماثلَا بأمرٍ آخر. وهذا كالسواد والبياض يختلفان من وجهٍ دون وجهٍ؛ لاستحالة اختلافهما من كل وجهٍ وإلَّا لما اشتركا في العرضية واللونية (1) والحدوث؛ واستحالة تماثلهما من كل وجهٍ، وإلَّا كان السواد بياضًا، ومع ذلك فما لزم من مماثلة السواد للبياض من وجهٍ أن يكون مماثلًا له في صفة البياضية» (2). فيقال: يا لله العجب، هلَّا طردتم هذا الجواب، وسلكتم هذا الطريق في إثبات علو الله على خلقه، واستوائه على عرشه، وإثبات صفات كماله كلها، وإثبات الصِّفات الخبرية كلها؛ وأجبتم بهذا الجواب لمن قال لكم من المعطلة النُّفاة: لو كان له صفات لزم مماثلته للمخلوقات! وهلَّا تقنعون من أهل السُّنَّة ـ المثبتين لصفات كماله، ونعوت جلاله، وعلوه على مخلوقاته، واستوائه على عرشه ـ بمثل هذا الجواب الذي أجبتم به من أنكر حدوث العالم! بل إذا أجابوكم به قلبتم لهم ظَهْر المِجَنِّ، وصرَّحتم بتكفيرهم وتبديعهم، وإذا أجبتم أنتم به بعينه كنتم موحِّدين، ناصرين لله ورسوله! فصل الطريق السابع عشر (3): أن يقال: هل للربِّ تعالى ماهية متميزة على سائر الماهيات يختص بها لذاته، أم تقولون: لا ماهية له؟ _________ (1) «ح»: «والكونية» والمثبت من «أبكار الأفكار». (2) «أبكار الأفكار» (3/ 361). (3) «ح»: «الثامن عشر». وهذا هو الوجه الرابع والستون بعد المائة.
(2/905)
فإن قلتم بالثاني كان هذا إنكارًا له سبحانه وجحودًا، وجعله وجودًا مطلقًا لا ماهية له. وإن قلتم: بل له ذاتٌ مخصوصةٌ وماهيةٌ متميزةٌ عن سائر الماهيات. قيل لكم: ماهيته وذاته [ق 105 ب] سبحانه غير متناهية، بل ذاهبة في الأبعاد إلى غير نهاية أم متناهية؟ فإن قلتم بالأول لزم منه محالات غير واحدة. وإن قلتم بالثاني بطل قولكم، ولزم إثبات المباينة والجهة؛ وهذا لا محيد عنه. وإن قلتم: لا نقول له ماهية ولا ليست له ماهية. قيل: لا يليق بالعقول المخالفة لما جاءت به الرسل إلَّا هذا المحال والباطل. وإن قلتم: بل له ذاتٌ مخصوصةٌ، وماهيةٌ متميزةٌ عن سائر الماهيات ولا نقول: إنها متناهية ولا غير متناهية؛ لأنها لا تقبل واحدًا من الأمرين. قلنا: التناهي وعدم التناهي يتقابلان تقابل السلب والإيجاب، فلا واسطة بينهما، كما لا واسطة بين الوجود والعدم، والقدم والحدوث، والسبق والمقارنة، والقيام بالنفس والقيام بالغير. وتقدير قسمٍ آخر لا يقبل واحدًا من الأمرين تقديرٌ ذهنيٌّ يفرضه الذهن، كما يفرض سائر المحالات، ولا يدل ذلك على وجوده في الخارج ولا إمكانه. ألا ترى أن قائلًا لو قال: التقسيم يقتضي أن (1) المعلوم إمَّا قديم (2)، _________ (1) «أن» سقط من «ح»، وأثبته من «م». (2) «ح»: «قدم». والمثبت من «م».
(2/906)
وإمَّا حادث، وإمَّا قديم حادث، وإمَّا لا قديم ولا حادث، وكذلك إمَّا أن يكون متناهيًا، أو غير متناهٍ، أو [لا] (1) متناهيًا ولا غير متناهٍ، أو قائمًا بنفسه أو بغيره، أو بنفسه وبغيره، أو لا بنفسه ولا بغيره، أو داخلًا في العالم، أو خارجًا عنه، أو داخلًا خارجًا، أو لا داخلًا ولا خارجًا = كان ذلك كله بمنزلةٍ واحدةٍ، وكان التقسيم تقسيمًا ذهنيًّا لا خارجيًّا، وإن سلب النقيضين في ذلك كله في الإحالة كإثبات النقيضين. فصل الطريق الثامن عشر (2): أن يقال: ذاته سبحانه إمَّا أن تكون قابلةً للعلو على العالم، أو لا تكون قابلةً. فإن كانت قابلةً وجب وجود المقبول؛ لأنه صفة كمالٍ وإلَّا لم تقبله؛ ولأن قبولها لذلك هو من لوازمها، كقبول (3) الذات للعلم والحياة والقدرة والسمع والبصر، فوجود هذه لازم للذات ضرورةً؛ ولأنها إذا قبلته فلو لم تتصف به لاتصفت (4) بضدِّه، وهو نقصٌ يتعالى ويتقدس عنه. وإن لم تكن قابلةً للعلو لزم أن يكون قابلُ العلو أكمل منها؛ لأن ما (5) يقبل أن يكون عاليًا ـ وإن لم يكن عاليًا ـ أكمل ممَّن لا يقبل العلو، وما قبله _________ (1) «لا»: سقط من «ح»، والصواب إثباته. (2) «ح»: «التاسع عشر». وهذا هو الوجه الخامس والستون بعد المائة. (3) «ح»: «لقبول». والمثبت من «م». (4) «ح»: «لا تتصف». والمثبت من «م». (5) بعده في «ح»: «لا». وهي زيادة تفسد المعنى ليست في «م».
(2/907)
وكان عاليًا أكمل ممَّن قبله ولم يكن عاليًا. فالمراتب ثلاثةٌ (1)، أدناها ما لا يقبل العلو، وأعلاها ما قبله واتصف به. والذي يوضح ذلك أن ما لا يقبل أن يكون فوق غيره إمَّا (2) أن يكون عرضًا من الأعراض لا يقوم بنفسه، ولا يقبل أن يكون عاليًا على غيره، وإمَّا أن يكون أمرًا عدميًّا لا يقبل ذلك، وأمَّا إثبات ذات قائمة بنفسها متصفة بالسمع والبصر والقدرة والحياة والإرادة والعلم والفعل ومع ذلك لا تقبل أن تكون عالية على غيرها؛ فهذا يطالب بإمكان تصوره قبل التصديق بوجوده، وليس مع من ادَّعى إمكانه إلَّا الكليات (3) والمجردات، وكلاهما وجوده ذهني، لا وجود له في الخارج. وإلا فما له (4) وجود خارجي وهو قائم بنفسه له ذات يختص بها عن سائر الذوات (5)، موصوفٌ بصفات الحي الفعال، لا يمكن إلحاقه بالكليات والمجردات التي هي خيالات ذهنية لا أمور خارجية. وقد اعترف المتكلمون بأن وجود الكليات والمجردات إنما هو في الأذهان لا في الأعيان. _________ (1) كذا في «ح»، «م». (2) «ح»: «وإما». والمثبت من «م». (3) الكلي: هو اللفظ الذي لا يمنع نفس تصور معناه من وقوع الشركة فيه، كالإنسان والحيوان. «الكليات» للكفوي (ص 745). (4) «ح»: «خاله». والمثبت من «م». (5) «ح»: «الدواب». والمثبت من «م».
(2/908)
فصل الطريق التاسع عشر (1): أن الجهمية المعطلة معترفون (2) بوصفه تعالى بعلو القهر وعلو (3) القدر، وأن ذلك كمالٌ لا نقصٌ، فإنه من لوازم ذاته؛ فيقال: ما أثبتم به هذين النوعين من العلو والفوقية هو بعينه حجة خصومكم عليكم في إثبات علو الذات له سبحانه، وما نفيتم به علو الذات يلزمكم أن تنفوا به ذينك الوجهين من العلو. فأحد الأمرين لازمٌ لكم ولا بد: إمَّا أن تثبتوا له سبحانه العلو المطلق من كل جهةٍ ذاتًا وقهرًا وقدرًا، وإمَّا أن تنفوا ذلك كله. فإنكم إذا نفيتم علو ذاته سبحانه بناءً على لزوم التجسيم، وهو لازم لكم فيما أثبتموه من وجهَيِ (4) العلو؛ فإن الذات القاهرة لغيرها التي هي أعلى قدرًا من غيرها إن لم يُعقل كونها غير جسمٍ لزمكم التجسيم، وإن عُقل كونها غير جسمٍ فكيف لا يُعقل أن تكون الذات العالية على سائر الذوات غير جسمٍ، وكيف لزم التجسيم من هذا العلو ولم يلزم من ذلك العلو؟! فإن قلتم: لأن هذا العلو يستلزم تميز شيءٍ عن شيءٍ منه. قيل لكم: في الذِّهن (5) أو في الخارج؟ _________ (1) «ح»: «العشرون». وهذا هو الوجه السادس والستون بعد المائة. (2) «ح»: «مقرنون». والمثبت من «م». (3) «ح»: «على». والمثبت من «م». (4) «ح»: «وجهين». والمثبت من «م». (5) «ح»، «م»: «العالِم». واستظهر ناسخ «م» فكتب على الحاشية: «الذهن». وعليها: ظ. والسياق يدل عليه.
(2/909)
فإن قلتم: في الخارج، كذبتم وافتريتم، وأضحكتم عليكم المجانين، فضلًا عن العقلاء. وإن قلتم: في الذِّهن. فهذا لازمٌ لكل من أثبت [ق 106 أ] للعالم ربًّا خالقًا، ولا خلاص من ذلك إلَّا بإنكار وجوده رأسًا. يوضحه: فصل الطريق العشرون (1): أن الفلاسفة لمَّا أوردوا عليكم هذه الحُجَّة بعينها في نفي الصِّفات أجبتم عنها بأن قلتم ـ واللفظ للرازي في «نهايته» (2) فقال: «قوله: يلزم من إثبات الصِّفات وقوع الكثرة في الحقيقة الإلهية فتكون تلك الحقيقة ممكنة. قلنا: إن عنيتم به احتياج تلك الحقيقة إلى سبب خارجي فلا يلزم، لاحتمال استناد تلك الصِّفات إلى الذات الواجبة لذاتها. وإن عنيتم به توقف الصِّفات في ثبوتها على تلك الذات المخصوصة فذلك ممَّا يلزمه فأين المحال!». قال (3): «وأيضًا فعندكم الإضافات صفات وجودية في الخارج فيلزمكم ما ألزمتمونا في الصِّفات في الصور المرتسمة في ذاته من المعقولات تلك». «وممَّا يحقق فساد قول الفلاسفة أنهم قالوا: إن الله عالم بالكليات. وقالوا: إن العلم بالشيء عبارة عن حصول صورة مساوية للمعلوم في العالم. وقالوا: إن صورة المعلومات موجودة في ذات الله تعالى. حتى ابن سينا قال: _________ (1) «ح»: «الحادي والعشرون». وهذا هو الوجه السابع والستون بعد المائة. (2) «نهاية العقول في دراية الأصول» (2/ 240). (3) «نهاية العقول» (2/ 240).
(2/910)
إن تلك الصفة إذا كانت غير داخلة في الذات كانت من لوازم الذات. ومن كان هذا مذهبًا له كيف يمكنه أن يُنكر الصِّفات» (1). قال (2): «وبالجملة فلا فرق بين الصفاتية وبين الفلاسفة، إلَّا أن الصفاتية يقولون: إن الصِّفات قائمة بالذات. والفلاسفة يقولون: هذه الصور العقلية عوارض متقومة بالذات. والذي تُسمِّيه الصفاتية صفةً يُسمِّيه الفلسفي عارضًا، والذي يُسميه الصفاتي قيامًا يُسميه الفيلسوف قوامًا ومقومًا؛ فلا فرق إلَّا بالعبارات، وإلَّا فلا فرق في المعنى». هذا لفظه. فيقول له مثبتو العلو: هلَّا قنعت منَّا بهذا الجواب بعينه حين قلت: يلزم من علوه أن يتميز منه شيءٌ عن شيءٍ، ويلزم وقوع الكثرة في الحقيقة الإلهية. وتكون قد وافقت السمع (3) ونصوص الأنبياء، وكُتب الله كلها، وأدلة العقول، والفِطَر الصحيحة، وإجماع أهل السُّنَّة قاطبةً! فصل الطريق الحادي والعشرون (4): أن هذه الحجة العقلية القطعية ـ وهي الاحتجاج بكون الربِّ قائمًا (5) بنفسه على كونه مباينًا للعالم، وذلك ملزوم لكونه فوقه عاليًا عليه بالذات ـ لما كانت حجة صحيحة لا يمكن مدافعتها وكانت ممَّا ناظر بها الكرَّامية لأبي إسحاق الإسفراييني، فرَّ (6) أبو إسحاق _________ (1) «نهاية العقول» (2/ 238 - 239). (2) «نهاية العقول» (2/ 239). (3) «ح»: «الشرح». والمثبت من «م». (4) «ح»: «الثاني والعشرون». وهذا هو الوجه الثامن والستون بعد المائة. (5) «ح»: «قلبا». والمثبت من «م». (6) «ح»: «فرا». والمثبت من «م».
(2/911)
إلى كون الرب قائمًا بنفسه بالمعنى المعقول، وقال: لا نُسلِّم أنه قائمٌ بنفسه إلَّا بمعنى أنه غنيٌّ عن المحل، فجعل قيامه بنفسه وصفًا عدميًّا لا ثبوتيًّا، وهذا لازم لسائر المعطلة النُّفاة لعلوه، ومن المعلوم أن كون الشيء قائمًا بنفسه أبلغ من كونه قائمًا بغيره. وإذا كان قيام العرض بغيره يمتنع أن يكون عدميًّا فقيام الشيء بنفسه أحق ألَّا يكون أمرًا عدميًّا بل وجوديًّا. وإذا كان قيام المخلوق بنفسه صفة كمالٍ، وهو مفتقر بالذات إلى غيره، فقيام الغني بذاته بنفسه أحق وأولى. فصل الطريق الثاني والعشرون (1): وهو أن القيام بالنفس صفة كمالٍ، فالقائم بنفسه أكمل ممَّن لا يقوم بنفسه، ومن كان غناه من لوازم ذاته فقيامه بنفسه من لوازم ذاته. وهذه حقيقة قيوميته سبحانه، وهو الحي القيوم، فالقيوم: القائم بنفسه، المقيم لغيره. فمن أنكر قيامه بنفسه بالمعنى المعقول فقد أنكر قيوميته، وأثبت له قيامًا بالنفس يشاركه فيه العدم المحض، بل جعل قيوميته أمرًا عدميًّا لا وصفًا ثبوتيًّا، وهي عدم الحاجة إلى المحل، ومعلوم أن العدم لا يحتاج إلى محل. وأيضًا فإنه يقال له: ما تعني بعدم الحاجة إلى المحل؟ أتعني به الأمر المعقول من قيام الشيء بنفسه الذي يفارق به العرض القائم بغيره، أم تعني به أمرًا آخر؟ فإن عنيت الأول فهو المعنى المعقول والدليل قائمٌ، والإلزام صحيحٌ. وإن عنيت به أمرًا آخر فإمَّا أن يكون وجوديًّا أو عدميًّا، فإن كان عدميًّا فالعدم لا شيء كاسمه، فتعود قيوميته تعالى إلى لا شيء. وإن عنيت _________ (1) «ح»: «الثالث والعشرون». وهذا هو الوجه التاسع والستون بعد المائة.
(2/912)
به أمرًا وجوديًّا غير المعنى المعقول الذي يعقله الخاصة والعامة، فلا بد من بيانه؛ لينظر فيه هل يستلزم المباينة أم لا. فصل الطريق الثالث والعشرون (1): أن كل من أقرَّ بوجود ربٍّ خالقٍ للعالم مدبِّرٍ له لزمه الإقرار بمباينته لخلقه وعلوه عليهم، وكل من أنكر مباينته وعلوه لزم إنكاره وتعطيله. فهاتان دَعْوِيان (2) في جانب النفي والإثبات. أمَّا الدعوى [ق 106 ب] الأولى فإنه إذا أقرَّ بالربِّ فإمَّا أن يُقرَّ بأن له ذاتًا وماهية مخصوصة أو لا. فإن لم يُقرَّ بذلك لم يُقرَّ بالربِّ، فإن ربًّا لا ذات له ولا ماهية سواء والعدم. وإن أقرَّ بأن له ذاتًا مخصوصة وماهية فإمَّا أن يقرَّ بتعينها أو يقول: إنها غير معينة، فإن لم يقرَّ بأنها معينة كانت خيالًا في الذهن لا موجودًا في الخارج، فإنه لا يوجد في الخارج إلَّا معين، لا سيما وتعين تلك الذات أولى من تعين كل متعين، فإنه يستحيل وقوع الشركة فيها، وأن يوجد لها نظيرٌ (3)، فتعين ذاته سبحانه واجب. وإذا أقرَّ بأنها معينة لا كلية، والعالم المشهود معين لا كلي، لزم قطعًا مباينة أحد المُعينين للآخر؛ إذ لو لم يباينه لم يعقل تميزه عنه وتعينه. فإن قيل: هو يتعين بكونه لا داخلًا فيه ولا خارجًا عنه. قيل: هذا والله حقيقة قولكم وهو عين المحال، وهو تصريح منكم بأنه لا ذات له ولا ماهية _________ (1) «ح»: «الرابع والعشرون». وهذا هو الوجه السبعون بعد المائة. (2) «ح»: «دعوتان» تصحيف، والمثبت من «م»، وهو الصواب. (3) «ح»: «نظر». والمثبت من «م».
(2/913)
تخصه، فإنه لو كان له ماهية يختص بها لكان تعينه لماهيته وذاته المخصوصة. وأنتم إنما جعلتم تعينه بأمرٍ عدميٍّ محضٍ ونفيٍ صرفٍ، وهو كونه لا داخل العالم ولا خارجًا عنه. وهذا التعيُّن لا يقتضي وجوده، فإنه يصح على العدم المحض، وأيضًا فالعدم المحض لا يُعيِّن المتعين؛ فإنه لا شيء، وإنمَّا يُعيِّنه (1) ذاته المخصوصة وصفاته، فلزم قطعًا من إثبات ذاته تعيُّنُ تلك الذات بعينها، ومن تعيُّنِها مباينتُها للمخلوقات، ومن المباينة العلوُّ عليها، لما تقدم تقريره. وصحَّ مقتضى العقل والنقل والفطرة، ولزم من صحة هذه الدعوى صحة الدعوى الثانية، وهي أن من أنكر (2) مباينته للعالم وعلوه عليه لزمه إنكار ربوبيته وكونه إلهًا للعالم. فصل الطريق الرابع والعشرون (3): أنه قد دلَّ البرهان الضروري والعقل الصريح على استغنائه سبحانه بنفسه، وأنه الغني بذاته عن كل ما سواه. فغناه من لوازم ذاته، ولا يكون غنيًّا على الإطلاق إلَّا إذا كان قائمًا بنفسه؛ إذ القيام بالغير يستلزم فقر القائم إلى ما قام به، وعدم القيام بالنفس وبالغير يستلزم العدم، فصحَّ ضرورةً وجوب قيامه بنفسه، وهذا حقيقة المباينة. ونفي المباينة والمداخلة كنفي القيام بالنفس وبالغير، ولا تتصور العقول قط قائمًا بنفسه مع قائم بنفسه إلَّا إذا كان مباينًا له أو محايثًا. والفرق بين هذا الوجه وبين الاستدلال بقيامه بنفسه أن ذاك استدلال بالقيام بالنفس، وهذا استدلال _________ (1) «ح»: «وأما تعيينه». والمثبت من «م». (2) «ح»: «افتكر». والمثبت من «م». (3) «ح»: «الخامس والعشرون». وهذا هو الوجه الحادي والسبعون بعد المائة.
(2/914)
بغناه المستلزم للأمرين. فصل الطريق الخامس والعشرون (1): أنه قد ثبت بالعقل إمكان رؤيته سبحانه، وبالشرع وقوعها في الدار الآخرة، فاتفق العقل والشرع على إمكان الرؤية ووقوعها. وقد ذكرنا في كتاب «صفة الجنة» (2) أربعين دليلًا على مسألة الرُّؤية من الكتاب والسُّنَّة. والعقل الصريح شاهدٌ بذلك، فإن الرُّؤية أمرٌ وجوديٌّ لا يتعلق إلَّا بموجود، وما كان أكمل وجودًا كان أحق بأن يُرى. فالباري سبحانه أحق بأن يُرى من كل ما سواه؛ لأن وجوده أكمل من وجود كل ما سواه. يوضحه: أن تعذر الرؤية إمَّا لخفاء المرئي، وإمَّا لآفةٍ وضعفٍ في الرائي. والربُّ سبحانه أظهر من كل موجودٍ، وإنما تعذرت رؤيته في الدنيا لضعف القوة الباصرة عن النظر إليه. فإذا كان الرائي في دار البقاء كانت قوة الباصرة في غاية القوة لأنها دائمة، فقويت على رؤيته تعالى. وإذا جاز (3) أن يُرى سبحانه فالرؤية المعقولة عند جميع بني آدم عربهم وعجمهم وتركهم وسائر طوائفهم أن يكون المرئي مقابلًا للرائي، مواجهًا له، مباينًا عنه، لا تعقل الأمم رؤية غير ذلك. وإذا كانت الرؤية مستلزمة لمواجهة الرائي ومباينته للمرئي لزم ضرورةً أن يكون مرئيًّا له من فوقه أو من تحته أو عن يمينه أو عن شماله أو خلفه أو أمامه. وقد دلَّ النقل الصريح على أنهم إنما يرونه سبحانه _________ (1) «ح»: «السادس والعشرون». وهذا هو الوجه الثاني والسبعون بعد المائة. (2) «حادي الأرواح» (2/ 605 - 714). (3) «ح»: «كان». والمثبت من «م».
(2/915)
من فوقهم لا من تحتهم، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «بَيْنَا (1) أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ إِذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ، فَرَفَعُوا رُؤُوسَهُمْ، فَإِذَا الْجَبَّارُ جَلَّ جَلَالُهُ قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ. ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ: {سَلَامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} [يس: 57] ثُمَّ يَتَوَارَى عَنْهُمْ، وَتَبْقَى رَحْمَتُهُ وَبَرَكَتُهُ عَلَيْهِمْ فِي دِيَارِهِمْ» (2). فلا يجتمع الإقرار بالرؤية وإنكار الفوقية والمباينة لهذا. ولهذا الجهمية المُغْل (3) تُنكر علوَّه على خلقه، ورُؤية المؤمنين له في الآخرة، ومخانيثُهم [ق 107 أ] يُقرُّون بالرُّؤية وينكرون العلوَّ. وقد ضحك جمهور العقلاء من القائلين بأن الرُّؤية تحصل من غير مواجهةٍ للمرئي ومباينةٍ له، وقالوا: هذا ردٌّ لما هو مركوز في أوائل العقول. قال المنكرون: الإنسان يرى صورته في المرآة، وليس صورته في جهة منه. _________ (1) «ح»: «بينات». والمثبت من «م». (2) أخرجه ابن ماجه (184) وابن أبي الدنيا في «صفة الجنة» (94) والآجري في «الشريعة» (615) والدارقطني في «الرؤية» (51) من طرق عن أبي عاصم العباداني عن الفضل الرقاشي، عن محمد بن المنكدر، عن جابر - رضي الله عنه - به، وقال البوصيري في «مصباح الزجاجة» (67): «هذا إسناد ضعيف لضعف الفضل بن عيسى بن أبان الرقاشي». وينظر «الضعفاء الكبير» للعقيلي (2/ 367) و «الكامل» لابن عدي (7/ 119 - 120) و «الموضوعات» لابن الجوزي (3/ 260 - 262). (3) استخدم المصنِّف -رحمه الله تعالى- هذا المصطلح «الجهمية المغل» هنا وفيما سيأتي (ص 970) في مقابلة «مخانيثهم» أو «الجهمية المخانيث». فهو يقصد بهم المغالين، أي: الجهمية المحضة، وقد ذهب محققو «النونية» (2/ 250) إلى أن المغل هم المغول أي التتار. وهو غير بيِّنٍ في المعنى، والله أعلم.
(2/916)
قال العقلاء: هذا تلبيسٌ، فإنه إنما يرى خيال صورته، وهو عرض منطبع في الجسم الصقيل، وهو في جهةٍ منه، ولا يرى حقيقة صورته القائمة به. والذين قالوا: يُرى من غير مقابلةٍ ولا مباينةٍ قالوا: مصحح الرؤية الوجود، وكل موجودٍ يصح أن يُرى. فالتزموا جواز رؤية الأصوات والروائح والعلوم والإرادات والمعاني كلها، وجواز أكلها وشربها وشمها ولمسها. فهذا منتهى عقلهم الذي عارضوا به الكتاب والسُّنَّة، ثم قدَّموه عليهما. وتقرير هذه المسألة له موضعٌ آخر. فصل الطريق السادس والعشرون (1): أنه قد ثبت بالعقل والنقل والفطرة أن الله سبحانه سميعٌ بصيرٌ، وهو سبحانه يرى كل المرئيات، لا يخفى عليه منها شيءٌ. ورؤيته لخلقه تستلزم مباينته لهم ضرورةً ـ كما تقدم في الوجه الذي قبله ـ فذاك استدلالٌ بكونه مرئيًّا، وهذا استدلال بكونه رائيًا، ولا يُعقل واحدٌ من الأمرين إلَّا مع (2) مباينته لخلقه. ولهذا لما علم منكرو العلو والفوقية أن هذا يلزمهم ولا بد، قالوا: لا يُرى بالأبصار، وإنما الحاصل في الآخرة مزيد علمٍ ومعرفةٍ به تُسمَّى رؤية. وطرد الجهمية هذا في رؤيته لخلقه فقالوا: بصره ورؤيته هي علمه، لا (3) أن هناك بصرًا حقيقةً ورؤية حقيقةً. وأمَّا مخانيثهم فتناقضوا فقالوا: بل _________ (1) «ح»: «السابع والعشرون». وهذا هو الوجه الثالث والسبعون بعد المائة. (2) «مع» ليس في «ح». (3) «ح»: «إلا». والمثبت هو الصواب.
(2/917)
يبصِر ويرى من غير مباينة للمرئي المُبصَر ولا مقابلة (1) له. فكانت فحولهم أقرب إلى العقل من هؤلاء وهؤلاء، وإن تناقضوا تناقضًا بيِّنًا، فهم أقرب إلى الوحي بما أثبتوه من الرؤية وأبعد عنه بما نفوه من المباينة والعلو، والطائفتان خارجتان عن حُكْم الوحي والعقل. فصل الطريق السابع والعشرون (2): أن كل من أثبت الصِّفات أو شيئًا منها لزمه إثبات المباينة، وإلَّا (3) تناقض غاية التناقض، فإن الصِّفات نوعان: أحدهما: ما له تعلقٌ بالمخلوق، كالقدرة والمشيئة والرحمة والعلم والسمع والبصر. والثاني: ما لا يتعلق به، كالصفات اللازمة كالحياة والجمال. وإثبات النوعين يستلزم المباينة. أمَّا النوع الأول فلأن تعلق تلك الصِّفات بمتعلقاتها لا تعقل إلَّا مع ثبوت المباينة بينهما وبين تلك المتعلقات، كمباينة العلم للمعلوم، والقدرة للمقدور، والسمع للمسموع. فلو قيل: صفة السمع ليست مباينة للمسموع، كان مكابرةً وردًّا لأوائل العقول وبدائهها. وإذا لزم من تحقق الصفة وإمكان تعلقها بمتعلقها مباينتها له، فهذه المباينة تابعة لمباينة الذات، فإن الصفة لا تقوم بنفسها، فإذا باين العلم والسمع والبصر والقدرة والإرادة لمتعلقاتها بمعنى انفصالها عنه، _________ (1) «ح»: «مقابلته». (2) «ح»: «الثامن والعشرون». وهذا هو الوجه الرابع والسبعون بعد المائة. (3) «ح»: «ولا».
(2/918)
فمباينة الذات أولى. وهذا لا محيص عنه، ويلزم من ثبوت هذه المباينة ثبوتها بين النوع الآخر وبين المخلوق بطريق الأولى. فصل يوضحه: الطريق الثامن والعشرون (1): أنهم إذا اعترفوا بقيام الصِّفات بالذات وأنها زائدة على الذات المجردة، ولم يكن ذلك تجسيمًا ولا تركيبًا يستلزم الحدوث، بطلت كل شُبهةٍ لهم تمنع (2) العلو والاستواء على العرش، فإن مدارها على أن ذلك يستلزم التركيب والتجسيم، وهو يستلزم الافتقار والحدوث. وقد صرَّحوا هم بالتزام هذا القدر ولم ينكروه لأجل تسمية المعطلة له تركيبًا وتجسيمًا، وقالوا لخصومهم من نفاة الصِّفات: التركيب خمسة أنواع: أحدها: تركيب الموجود من الوجود والماهية. والثاني: تركيب الحقيقة من الوجود والوجوب. والثالث: تركيب الذات الموصوفة من الذات والصفات. قالوا: وهذه الأقسام الثلاثة لا تنافي وجوب الوجود، ولا يُتحاشى من إلقائها. والدليل لا يدل على بطلانها؛ لأن الدليل إنما دلَّ على انتهاء الممكنات إلى واجبٍ بذاته لا علة له، ولم يدل على أنه لا ماهية له ولا صفة له. والرابع من التركيب: تركب الجسم من الجواهر الفردة. _________ (1) «ح»: «التاسع والعشرون». وهذا هو الوجه الخامس والسبعون بعد المائة. (2) «ح»: «يمتنع».
(2/919)
والخامس: تركبه من المادة والصورة عند من يقول بهذا وهذا. ولا ريب أنه يمتنع وجود موجودٍ قائمٍ بنفسه بدون ثبوت الأقسام الثلاثة الأولى، وتسميتهم لذلك تركيبًا خطأٌ وكذبٌ على اللغة. وإن قالوا: نحن اصطلحنا على تسميته تركيبًا. قيل: فلا ترتفع بسبب اصطلاحكم ـ المتضمن للتلبيس [ق 107 ب] والإيهام ـ الحقائق الموجودة والمعاني العقلية. ولا يُنكر بسببه (1) علمُ الربِّ وحياته وقوته وسمعه وبصره وكلامه وعلوه على خلقه واستوائه على عرشه، فإنه ليس في العقل ما ينفي ذلك، بل العقل الصريح يصدق السمع الدال على إثبات صفات الربِّ سبحانه ومباينته لمخلوقاته، والعقل أثبت موجودًا واجبًا بنفسه غنيًّا عمَّا سواه، وأمَّا كون ذلك الموجود مجردًا عن الصِّفات الثبوتية لا يوصف إلَّا بالسلوب والإضافات العدمية، فالعقل لا يدل على ذلك، بل يدل على خلافه كما يدل السمع (2). فصل الطريق التاسع والعشرون (3): أن يقال: ما أثبته هؤلاء المعطلة من المباينة لا يبطل الحلول والاتحاد، فإنهم أثبتوا مباينة في المفهوم كمباينة طعم التفاحة للونها وريحها وشكلها. ومعلومٌ أن هذه المباينة لا تقتضي انفصال كل من المتباينين من الآخر، بل هي ثابتة مع قيام هذه الصِّفات كلها _________ (1) «ح»: «بتشبيه». تصحيف. (2) «ح»: «المسمع». والمثبت هو الصواب. (3) «ح»: «الثلاثون». وهذا هو الوجه السادس والسبعون بعد المائة.
(2/920)
بمحلٍّ واحدٍ، وهذه المباينة معناها أن هذا غير هذا. وهذا القدر الذي أثبته النفاة من المباينة لا ينافي كونه حالًّا في غيره ولا حلول غيره فيه، ولا تقتضي قيامه بنفسه ولا انفصال ذاته عن ذات خلقه، بل ولا يقتضي تنزيهه عن التشبيه والتمثيل. وأمَّا المباينة التي دلَّ عليها العقل والنقل والفطرة فأعظم من ذلك، فإنها مباينة تستلزم تفرده بصفات كماله ونعوت جلاله، وكونه أعظم من كل شيءٍ، وفوق كل شيءٍ، وعاليًا على كل شيءٍ، وأن يكون هو الأول الذي ليس قبله شيءٌ، والآخر الذي ليس بعده شيءٌ، والظاهر الذي ليس فوقه شيءٌ، والباطن الذي ليس دونه شيءٌ؛ فباين خلقه بذاته وصفاته وأفعاله وأوليته وآخريته ووجوب وجوده وامتناع عدمه وكثرة أوصافه التي ليس كمثله فيها شيءٌ. فهو العليم الذي ليس كمثله شيءٌ في علمه، البصير الذي ليس كمثله شيءٌ في بصره، القدير الذي ليس كمثله شيءٌ في قدرته، الحي القيوم الذي ليس كمثله شيءٌ في حياته وقيوميته، العلي الذي ليس كمثله شيءٌ (1) في علوه؛ بل هو منفرد بذاته وصفاته عن مماثلة مخلوقاته، فله أعظم المباينة وأجلُّها وأكملها، كما له من كل صفة كمالٍ أعظمها وأكملها. فهذه هي المباينة التي لا يليق به غيرها. فأثبت له النُّفاة المعطلة مباينة لا حقيقة لها، ولا ترجع إلى أمرٍ وجوديٍّ، بل المباينةُ التي أثبتوها من جنس مباينة العدم للوجود، والمباينةُ التي أثبتها لنفسه مباينة (2) فوق كل مباينة. _________ (1) «شيء» سقط من «ح». (2) «ح»: «مباينته». والمثبت هو الصواب.
(2/921)
فصل الطريق الثلاثون (1): أنه لو لم يكن مباينًا للعالم لزم أحد أمور ثلاثةٍ، قد قال بكلٍّ منها قائلٌ: أحدها: أن يكون هو هذا العالم، كما قال أهل وحدة الوجود. والذي قادهم إلى هذا القول هو نفي المباينة، كأن قلوبهم وفِطَرهم طلبت معبودًا، فلمَّا اعتقدوا أنه غير مباين للعالم وتيقنوا أنه موجودٌ قائمٌ بنفسه قالوا: فهو هذا العالم بعينه. الثاني: قول من يقول: بل هو حالٌّ في العالم. وهو قول الحلولية. الثالث: قول من يقول: لا هو العالم ولا هو حالٌّ فيه ولا بائن عنه ولا متصل به ولا منفصل عنه. وهو قول الجهمية. ومعلومٌ أنه إذا عُرض على العقول الصحيحة هذه الأقوال الأربعة (2) علمت أن الصواب منها القول بأنه سبحانه بائنٌ من خلقه. وإذا كان (3) القولان الآخران مخالفين لصريح العقل، فالقول الرابع (4) أشد مخالفة لصريح العقل منهما؛ لأنه يتضمن نفي النقيضين. وإن كان ممكنًا في العقل فالقولان أقرب إلى الإمكان منه. فأمَّا أن يكون واجبًا والقولان مخالفان [للعقل] (5)، فهذا تحكمٌ باطلٌ. _________ (1) «ح»: «الحادي والثلاثون». وهذا هو الوجه السابع والسبعون بعد المائة. (2) يعني: القول بأنه سبحانه مباين للعالم إضافة إلى الأقوال الثلاثة المذكورة. (3) «ح»: «كانت». والمثبت هو الصواب. (4) يعني: قول الجهمية. (5) قوله «للعقل» سقط من «ح».
(2/922)
فهذه ثلاثون طريقًا مضافة إلى الوجه السابع والأربعين بعد المائة في بيان عدم معارضة العقل للنقل وبيان موافقتهما وتطابقهما. وحينئذٍ فنقول في: الوجه الثامن (1) والسبعين بعد المائة: إن هؤلاء المعارضين للوحي بآرائهم وعقولهم تتضمن معارضتهم الفرية على الوحي والعقل واللغة والفطرة وإفسادها. أمَّا فريتهم على الوحي فإنهم متى اعتقدوا معارضة العقل له لزمهم أحد أمرين باطلين: إمَّا أن يقولوا: إن الرُّسل أرادوا من الناس اعتقاد الباطل وخلاف الصواب، أو أنهم أتعبوهم غاية التعب وكلَّفوهم أعظم الحرج، وهو اعتقادُ خلاف ما دلت عليه النصوص، ومعرفة الحق بعقولهم وفطرهم، والاجتهادُ في صرف (2) ألفاظ الوحي عن حقائقها وظواهرها المفهومة منها. وبيان ذلك أنهم إمَّا (3) أن يريدوا منهم اعتقاد الظاهر أو يريدوا منهم خلافه. فإن أرادوا الأول ـ وهو [ق 108 أ] باطلٌ عند النُّفاة ـ فقد أرادوا منهم اعتقاد الباطل. وإن أرادوا الثاني لزمت تلك المفاسد العظيمة. وعلى التقديرين فلا يكونون قد بينوا الحق ولا هدوا الخلق. وأمَّا فريتهم على العقل فإنهم جاؤوا إلى المقدِّمات الفطرية التي فطر الله عليها عباده، فجعلوها من حكم الوهم والخيال، وجاؤوا إلى المقدِّمات الباطلة فجعلوها من أحكام العقل؛ فافتروا على العقل في النفي والإثبات. _________ (1) بحاشية «ح»: «هكذا وجدناه». كأنه لم يتنبه لقول المصنِّف قبله. (2) «ح»: «طرق». والمثبت هو الصواب. (3) «ح»: «إنما».
(2/923)
وأمَّا فريتهم على الفطرة فإن الله فطر عباده على الإقرار بعلوه كما فطرهم على الإقرار بأنه ربهم وخالقهم، فغيَّروا الفطرة وأفسدوها بإنكار ذلك. وأمَّا فريتهم على اللغة فإنهم أزالوا دلالة الألفاظ الدالة على ذلك دلالة صريحة لا يحتمل غير معناها عن مواضعها، وأنشؤوا لها معاني أُخر حملوها عليها، يقطع من له إلفٌ بتلك اللغة أن المتكلم لم (1) يُرد بتلك الألفاظ ما ذكروه من المعاني؛ كما حملوا قوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] على معنى قول القائل: الذهب فوق الفضة، والمسك فوق العنبر، أي في القيمة والقدر، ومعلومٌ أن هذا التركيب الخاص لا يحتمل هذا المعنى في لغة أُمةٍ من الأمم، ولا يجوز أن يُراد باللفظ. وكذلك قوله: «إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ، وَكَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ فِي الظَّهِيرَةِ صَحْوًا لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ» (2). فمثل هذا اللفظ إذا حُمل على غير معناه الظاهر لكل أحدٍ كان فريةً على اللغة، كما هو فريةٌ على المتكلم به. وعامة تأويلات النُّفاة المعطلة من هذا الباب لمن تدبَّرها ورُزق هداية وإنصافًا. وأمَّا الأعمى المتبع هواه فكما قال الله عز وجل: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اِللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} [النور: 39]. الوجه التاسع والسبعون بعد المائة: أن المعارضين للوحي بعقولهم في الأصل هم أعداء الرُّسل المكذبون لهم ـ كما تقدم (3) ـ ودونهم طوائف _________ (1) «ح»: «لمن». والمثبت هو الصواب. (2) متفق عليه، وقد تقدم (ص 32) تخريجه. (3) تقدم (ص 492).
(2/924)
الجهمية المعطلة، وملاحدة الصوفية، وزنادقة الباطنية، وخونة الولاة وظلمتهم. فالجهمي يقول: قال لي عقلي. وملاحدة المتصوفة يقول قائلهم: قال لي قلبي. وزنادقة الباطنية يقولون: لكل شيء تأويلٌ وباطنٌ يعلمه أهل الباطن وينكره أهل الظاهر. وخونة الولاة يقولون: لا تستقيم أمور الرعية إلَّا بهذه السياسة، ولو وكلناهم إلى الشريعة لفسدت أمورهم. ولقد وقعتُ على فصلٍ من كلام أبي الوفاء بن عقيل (1) في ذلك، قال: «المتكلمون دققوا (2) النظر بأدلة العقول فتفلسفوا، والصوفية اهتموا بالمتوهمات على واقعهم فتكهنوا؛ لأن الفلاسفة اعتمدوا على كشف حقائق الأشياء بزعمهم، والكهان اعتمدوا على ما يُلقى إليهم من الاطلاع (3)، وهم جميعًا خوارج على الشرائع. هذا يتجاسر أن يتكلم في المسائل التي فيها صريح نقلٍ بما يُخالف ذلك المنقول، بمقتضى ما يزعم أنه حكم العقل، وهذا يقول: قال لي قلبي عن ربي. فلا على هؤلاء أصبحتُ، ولا على هؤلاء أمسيتُ. لا كان مذهبٌ جار (4) على غير طريق السُّفراء والرُّسل، _________ (1) في كتابه «الفنون»، وعنه نقل ابن تيمية في «درء التعارض» (8/ 61 - 68) وقال: «ومن خطه نقلت». والمصنِّف نقله بتصرف. (2) في «درء التعارض»: «وقفوا». (3) أخرج البخاري (5762) ومسلم (2229) عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - قالت: سأل أناسٌ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الكهان؟ فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليسوا بشيءٍ». قالوا: يا رسول الله فإنهم يحدثون أحيانًا الشيء يكون حقًّا. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تلك الكلمة من الجن، يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة، فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة». (4) في «درء التعارض»: «جاء».
(2/925)
ولا نفق نقدٌ طُبع على غير السِّكة (1) النبوية! هل يُعلم للصوفية عمل في إباحة دمٍ أو فرجٍ، أو تحريم معاملةٍ، أو فتوى معمول بها في عبادةٍ أو معاقدةٍ؟ أو للمتكلمين بحكم الكلام حاكم ينفذ حكمه في بلدٍ أو رستاق (2)؟ أو تُصيب للمتوهمة فتاوى وأحكامًا؟ إنما أهل الدولة الإسلامية والشريعة المحمدية: المُحدِّثون والفقهاء، هؤلاء يروون أحاديث الشرع، وينفون الكذب عن النقل، ويحمون النقل عن الاختلاف والغلط. وهؤلاء ينفون عن الأخبار تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، وهؤلاء هم الذين عدَّلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ» (3). فهم العدول على سائر الطوائف؛ يُقبل _________ (1) السِّكَّة: الحديدة التي تُضرب عليها الدنانير والدراهم، وتطلق على الدنانير والدراهم أيضًا. ينظر «النهاية في غريب الحديث» (2/ 384). (2) الرستاق: معرب، ويستعمل في الناحية التي هي طرف الإقليم. «المصباح المنير» (1/ 226). (3) رواه ابن وضاح في «البدع والنهي عنها» (1، 2) والطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (3884) والعقيلي في «الضعفاء الكبير» (6/ 132) وابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (2/ 17) والآجري في «الشريعة» (1، 2) والبيهقي في «السنن الكبرى» (10/ 109) والخطيب في «شرف أصحاب الحديث» (55) وابن عبد البر في «التمهيد» (1/ 58 - 59) عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري مرسلًا. والحديث روي موصولًا عن عدة من الصحابة - رضي الله عنهم -. وقد ذكر المصنِّف كثيرًا من طرقه في «مفتاح دار السعادة» (1/ 463 - 467). وقال العقيلي: «وقد رواه قومٌ مرفوعًا من جهةٍ لا تثبت». وقال عبد الحق الإشبيلي في «الأحكام الوسطى» (1/ 121): «وأحسن ما في هذا ـ فيما أعلم ـ مرسل إبراهيم بن عبد الرحمن العذري». وقال العراقي في «التقييد والإيضاح» (ص 116): «قد روي هذا الحديث متصلًا من رواية جماعة من الصحابة ـ علي بن أبي طالب، وابن عمر، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمرو، وجابر بن سمرة، وأبي أمامة ـ وكلها ضعيفة لا يثبت منها شيءٌ، وليس فيها شيءٌ يقوي المرسل المذكور» .. وقال ابن حجر في «الإصابة» (1/ 429): «وقد أورد ابن عدي هذا الحديث من طرقٍ كثيرةٍ كلها ضعيفة». وقال السخاوي في «الغاية في شرح الهداية» (ص 64): «وهو من جميع طرقه ضعيفٌ، كما صرَّح به الدارقطني وأبو نعيم وابن عبد البر، لكن يمكن أن يتقوى بتعددها، ويكون حسنًا، كما جزم به العلائي».
(2/926)
قولهم على الناس، ولا يُقبل قول الناس عليهم. والخارج عن هؤلاء ـ وإن خفقت بنوده (1)، وكثرت جموعه، وسعى حتى ضُرب له الدرهم والدينار، وخُطب باسمه على رؤوس المنابر ـ لا تكون أموره إلَّا على المغالطة والمخالسة (2)؛ لأنه كالخارج على الملك الذي دانت له الرعايا، ونفذ حكمه في البلاد. فالخارج (3) عليه لا يزال خائفًا مستوحشًا يتخشَّى (4) من أن يقابله الملك بقتالٍ أو يصافَّه (5) بحربٍ، لأن في نفس الخارجي بقية من انخناس (6) الباطل، والمَلِكُ ـ وإن قلَّت _________ (1) أي: أعلامه، جمع بَنْد، وهو العَلَم الكبير، فارسيٌّ مُعرَّب. «الصحاح» (2/ 450). (2) «ح»: «المجالسة» بالجيم، والمثبت من «درء التعارض». وهو الصواب، والمخالسة: استغفال الرقيب وانتهاز الفرصة للتغلب على الخصم. (3) «ح»: «فالخراج». والمثبت هو الصواب. (4) «ح»: «يتحش». والمثبت من «درء التعارض». (5) أي: يقابله، يقال: صفَّ الجيش يصفُّه صفًّا، وصافَّه فهو مُصافٌّ: إذا رتَّب صفوفه في مقابل صفوف العدو. «النهاية في غريب الحديث» (3/ 38). (6) «ح»: «الخناس». وفي «درء التعارض»: «انخساس». والانخناس: التأخر والتخلف، يريد الجبن وعدم الإقدام على القتال.
(2/927)
جموعه ـ فعنده صولة الحق، وهيبة المُلْك. وكذلك الغريب المداوي للناس ـ بزعمه ـ مع الطبيب المقيم. هذا مجتازٌ يطلب من الأدوية ما يُسكِّن الألم في الحال، ويضع على الأمراض الأدوية الحادة (1) العاملة بسرعةٍ، فيأخذ الخِلْعة (2) والعطية لسكون الألم وإزالة [ق 108 ب] المرض، ويُصبح على أرض أخرى ومنزلٍ بعيدٍ. فطبُّه مجازفة؛ لأنه يأمن المعاتبة والمواقفة (3)، والأطباء المقيمون يُلامون على تطويل العلاج، وإنما سلكوا الملاطفة بالأدوية المركبة دون الحارة؛ لأن الحارة من الأدوية وإن عجلت سكون الآلام فإنها غير مأمونة الغوائل ولا سليمة العواقب؛ لأن ما يعطي الأدوية الحارة من السكون إنما هو لغلبة المرض، وحيثما غلبت الأمراض أوهنت (4) قوى المحل الذي حلت به، فهو كما قيل: الدواء للبدن كالصابون للثوب يُنقيه ويُبليه، كذلك كلما احتد الصابون وجاد أخلق الثوب. فكذلك الفقهاء والمُحدِّثون يقصرون عن الاستقصاء في إزالة الشبهة لأنهم عن النقل يتكلمون، وللخوف على قلوب العوام من الشكوك يقصرون القول ويحففون (5)، فهم حال الأجوبة ينظرون في العواقب، والمبتدعة والمتوهمة يهجمون، فعلومهم فرح ساعةٍ، ليس لها ثباتٌ. _________ (1) «ح» هنا وفي المواضع التالية: «الحارة». والمثبت من «درء التعارض». (2) الخِلْعة: ما يعطيه الإنسان غيره من الثياب منحة. «المصباح المنير» (1/ 178 (. (3) «ح»، «درء التعارض»: «الموافقة». ولعل المثبت هو الصواب. (4) «ح»: «أوهشت». وفي «درء التعارض»: «أوهت». والمثبت بمعناه. (5) «ح»: «يحققون». وفي «درء التعارض»: «ويقللون». والمثبت بمعناه.
(2/928)
فإن اشتبه على قومٍ ما دلَّسه (1) جُهَّال الصوفية عليهم من الأخذ بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «فِي أُمَّتِي مُحَدَّثُونَ وَمُلْهَمُونَ، وَعُمَرُ مِنْهُمْ» (2). قيل: لو نطق عمر برأيه ما نطق، ولم يصدقه الوحيُ، لم يُلتفت إلى واقعاته وما يُحدِّث به، ولا يبتنى (3) الشرع والأحكام على فراسته. ألا ترى إلى قول من هو خيرٌ منه: «أي سماء تُظلُّني وأي أرض تُقلُّني إذا قلت في كتاب الله برأيي» (4)؟ سبحان الله العظيم! يقول الصدِّيق هذا، وأُسَلِّم اليوم لشيخ رباطٍ يخلو بأمرد على شمعة، ويأكل من الحرام شَبْعَه. ويسمع الغناء في مجالس المردان من النساء الأجانب والصبيان. تهزه الأشعار الخماريات، وتثقل عليه الآيات البينات. يرقص على ذكر المليح والمليحة طلبًا ورغبًا، ويتواجد على المواصيل (5) والألحان طربًا، قد اتخذ دينه لهوًا ولعبًا. تقرب أولياء الله إليه بالقرآن، وتقرب هو باستماع المعازف والألحان. مفتون في نفسه، فاتن لأشباهه وبني جنسه. فإذا لُمتَ أحدهم قال: أنا خيرٌ أم الشيخ فلان! وذاك ـ لعَمْرُ الله ـ من أولياء الشيطان، قد نصبه شبكة يصطاد به جهلة _________ (1) «ح»: «دله». والمثبت من «درء التعارض». (2) أخرج البخاري (3469) ومسلم (2398) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَقَدْ كَانَ فِيمَا قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ، فَإِنْ يَكُ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَإِنَّهُ عُمَرُ». (3) غير منقوطة في «ح»، والمثبت من «درء التعارض». (4) أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص 375) وسعيد بن منصور في «التفسير» (39) وابن أبي شيبة في «المصنف» (30731) وابن جرير في «التفسير» (1/ 72) والبيهقي في «شعب الإيمان» (2082) عن أبي بكر الصدِّيق - رضي الله عنه -. وإسناده منقطع، ينظر «علل الدارقطني» (58). (5) لعله يعني: الأغاني. وينظر «تكملة المعاجم العربية» (10/ 76)
(2/929)
العوام، ويحتج به على أشباه الأنعام. فما أعظم على الناس فتنته! وما أشدَّ على الدِّين محنته! يقول أتباعه المفتونون وحزبه المغرورون: نُسلِّم إلى الشيخ طريقته. وأيُّ طريقة مع الشرع؟ هل أبقت الشريعة لقائلٍ مقالًا، أو لمتصرفٍ بعدها مجالًا؟ وهل جاءت إلَّا بهدم العوائد ونقض الطرائق؟ ما على الشريعة أضرُّ من مبتدعة المتكلمين وجهلة المتصوفين. هؤلاء يُفسدون العقول بتوهمات وشُبهات تُشبه المعقول، وهؤلاء يُفسدون الأعمال ويهدمون قوانين الأديان (1). يحبون البطالات، والاجتماعات على اللذات، وسماع الأصوات المشوِّشات للمعايش والطاعات. وأولئك (2) يُجرِّئون الشباب والأحداث على البحث وكثرة (3) السؤال والاعتراضات، وتتبع الشرع بالمعارضات والمناقضات. وما عرفنا للسلف الصالح أحوال أولئك البطالين أصحاب الشهوات، ولا أقوال (4) هؤلاء المتكلمين أرباب الشُّبهات، بل كانوا عبيد إيمانٍ وتسليمٍ، عن معرفةٍ تامةٍ، وبصيرةٍ نافذةٍ، وجدٍّ وتشميرٍ في الطاعات. فنصيحتي لإخواني من المؤمنين الموحِّدين ألَّا يقرع أبكار (5) قلوبهم كلام المتكلمين، ولا تصغي مسامعهم إلى خرافات المتصوفين، بل الشغل _________ (1) «ح»: «الأزمان». والمثبت من «درء التعارض». (2) «ح»: «أولئك». والمثبت من «درء التعارض». (3) «ح»: «والتنزه». والمثبت من «درء التعارض». (4) في «درء التعارض». (5) «ح»: «أبصار». والمثبت من «درء التعارض».
(2/930)
بالمعايش أولى من بطالة المتصوفة، والوقوف على النصوص أولى من شُبهات المتخيلة المتوهمة. وقد خبرت طريق الفريقين، غاية هؤلاء الشك، وغاية هؤلاء الشطح». قال: «والمتكلمون عندي خيرٌ من المتصوفة؛ لأن المتكلمين مؤداهم مع التحقيق مزيد الشكوك في حق بعض الأشخاص، ومؤدى المتصوفة إلى توهم الأشكال والتشبيه، وهو الغاية في الإبطال، بل هو حقيقة المحال. ما يُسقط المشايخ من عيني (1) ـ وإن نبلوا عند الناس أقدارًا وأنسابًا وعلومًا وأخطارًا ـ إلَّا قول العاقل منهم إذا خُوطب بمقتضى الشرع: عادتنا كذا. يشير إلى طريقة قد قننوها لأنفسهم تخرج عن سَمْتِ (2) الشرع. قد اختلقوا طريقةً، واستحدثوا رسومًا، وكل مُختلَقٍ مُستحدَثٍ فبدعةٌ، و (3) الاستمرار على ترك السُّنن خذلان، قال أحمد - رضي الله عنه - وقد سُئل عن رجلٍ استمر على ترك الوتر: «هذا رجلُ سَوءٍ» (4). إياك أن تتبع شيخًا يقتدي بنفسه ولا يكون له إمامٌ يُعزى إليه ما يدعوك إليه، ويتصل ذلك [ق 109 أ] بشيخٍ إلى شيخٍ إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -. الله الله! الثقة بالأشخاص ضلال، والركون إلى الآراء ابتداع، اللين والانطباع في الطريقة مع السُّنَّة أحب إليَّ من الخشونة والانقباض مع البدعة. لا يُتقَرَّب إلى الله تعالى بالامتناع ممَّا لم يمنع منه، كما لا يُتقَرَّب إليه بعمل ما لم يأذن فيه. _________ (1) «ح»: «عين». والمثبت من «درء التعارض». (2) «ح»: «سمعت». والمثبت من «درء التعارض». (3) بعده في «درء التعارض»: «لو كان في ترك النوافل لأن». (4) «مسائل الإمام أحمد» رواية ابنه صالح (206، 284).
(2/931)
أصحاب الحديث رُسل السفير إلينا، والفقهاء تَراجِم (1) لمعاني كلامه. ولا يتم اتباع إلَّا بمنقول، ولا فهمُ منقولٍ إلَّا بترجمان، وما عداهما تكلفٌ لا يُفيد إلَّا التعب والعناء. وإلى هذين القسمين انقسم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نقلة وفقهاء، ولا نعرف فيهم ثالثًا إلَّا أصحاب المعاش والتجارات، لا مشايخ رُبُط (2) ولا مُناخات (3) البطالات، ولا أصحاب زوايا ينتظرون الفتوحات، ولا رقاصون على الغناء والأصوات المطربات، ولا متكلمون بالتخيلات والشبُّهات، ولا بالشطحات والتوهمات، ولا بالكلمات (4) الخمس، والمقولات العشر، والمُوجهات والمُختلطات، بل كانوا بحبل الوحي معتصمين، وبكتاب ربهم وسُنَّة نبيهم متمسكين، وهو في قلوبهم أجلُّ من أن تُضرب له الأمثال، أو تتقدم إليه آراء الرجال. يا أصحاب المُخالطات والمعاملات، عليكم بالورع، ويا أصحاب الزوايا والانقطاع عليكم بحسم مواد الطمع. ويا أرباب العلم والنظر، إياكم واستحسانَ طرائق أهل التوهم (5) والخدع. ليست السُّنَّة بحبِّ معاوية ويزيد، ولا بمجرد حبِّ أبي بكر وعمر، ولا بإزعاج أعضائك بالصلاة على السفير (6)، ولا بالاكتحال يوم عاشوراء _________ (1) جمع «ترجمان»، وفي «درء التعارض»: «المترجمون». (2) جمع الرباط الذي يُبنى للفقراء مولد. «المصباح المنير» (1/ 215). (3) جمع مُناخ: أي منزل. «تاج العروس» (7/ 362). (4) كذا في «ح»، والصواب «الكليات»، وتقدم بيان الكليات الخمس (ص 544). (5) «ح»: «العلم». والمثبت من «درء التعارض». (6) «ح»: «السفر». والمثبت هو الصواب، وأراد ابن عقيل بالسفير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(2/932)
والتوسعة على العيال! السُّنَّة تتبع طريق الرسول، واقتفاء آثاره، والوقوف عند مراسمه وحدوده من غير تقصيرٍ ولا غلوٍّ، وألَّا يتقدم بين يديه، ولا تختار لنفسك قولًا لم يتبيَّن لك أنه جاء به. فالسُّنَّة مقابلة أوامره بالامتثال، ونواهيه بالانكفاف، وأخباره بالتصديق، ومجانبة الشُّبه والآراء وكل ما خالف النقل، وإن كانت له حلاوةٌ في السمع وقبولٌ في القلب، ليست القلوب والعقول والآراء معيارًا على الشرع. ليس لله طائفةٌ أجلُّ من قومٍ حدَّثوا عنه وعن رسوله وما أَحْدَثوا، وعوَّلوا على ما رووا، لا على ما رأوا. الوقوف مع النقل مقام الصدِّيقين، وورثة النبيين والمرسلين، هذه نصيحتي لنفسي ولإخواني من المؤمنين». فهذا كلام من دخل مع المتكلمين إلى غايتهم، ووقف على نهايتهم، وخبَرَ الكلام وقلاه، وعرف مداه ومنتهاه. وقد تقدَّم حكاية كلام معاصره ومُناظره أبي حامد الغزالي (1) في ذمِّ الكلام. وهما من أعلم أهل عصرهما بمذاهب المتكلمين. الوجه الثمانون بعد المائة: أنه من المعلوم عند جميع العقلاء أن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم هم أعقل الخلق، وعقولهم أكمل العقول. ولهذا كان ما جاؤوا به فوق عقول البشر، ولهذا حصل على أيديهم من الخير ما لم يحصل على أيدي سواهم، وصلح من أحوال النفوس والقلوب وعمارتها بالخير وتزكيتها بالعلم والعمل ما لم يحصل لأحدٍ غيرهم؛ فعمارة القلوب والدنيا والآخرة على أيديهم. _________ (1) تقدم (ص 858).
(2/933)
وكل فسادٍ في العالم عامًّا وخاصًّا فإنما سببه العدول عمَّا جاؤوا به ومخالفتهم. فإذا استقريت جميع الشرور التي في العالم جزئياتها وكلياتها وكل فتنةٍ وبليةٍ ورزيةٍ رأيت سببها معصيتهم. وكل خيرٍ ونعمةٍ في الدنيا والآخرة فسببه طاعتهم. واستقر هذا من زمن نوح إلى ساعتك التي أنت فيها. وما عُذبت به الأُمم من أنواع العذاب، وما جرى على هذه الأمة حتى ما أُصيب به المسلمون مع نبيهم يوم أُحدٍ، كان سببه معصية أمره. وللعاقل البصير عبرة في نفسه وأحواله خاصة. فهذا شأن هذه العقول الزاكية الكاملة وشأن من خلقهم بمعقوله، وإذا كان هذا التفاوت بين عقولهم وعقول الناس في الأمور المتعلقة (1) بالإرادات والأعمال والحب والبغض، فما الظنُّ بالتفاوت الذي بين عقولهم وعقول الناس في العلوم والمعارف؟! فما الظنُّ بما يتعلق بمعرفة الربِّ تعالى وأسمائه وصفاته وشأنه؟! ويا لله العجب! كيف يُقدَّم قول من يقول: قال لي عقلي عن ابن سينا والفارابي وأرسطاطاليس وأشباههم، أو عن أبي الهذيل العلَّاف والشحَّام والنظَّام وأضرابهم، أو عمَّن تلقى عن هؤلاء = على قول من يقول: قال لي جبريل عن ربِّ العالمين؟! فالرسول يقول: قال لي ربي، وهذا المعارض يقول: قال لي عقلي، أو قال أرسطاطاليس ونحوه! الوجه الحادي والثمانون بعد المائة: لو عُورض ما جاء به [ق 109 ب] خاتم الرُّسل صلوات الله وسلامه عليه بموسى وعيسى كانت هذه المعارضة _________ (1) «ح»: «المعلقة».
(2/934)
ضلالًا وانسلاخًا من الدِّين بالكلية، كما صرَّح به - صلى الله عليه وسلم - ـ وقد رأى بيد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ورقةً من التوراة ـ فقال: «أَمُتَهَوِّكُونَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً. وَلَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا ثُمَّ اتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ» (1). فإذا كان اتِّباع موسى مع وجود محمد صلوات الله وسلامه عليه ضلالًا، فكيف باتِّباع أرسطو وابن سينا ورؤوس الجهمية والمعطلة؟! وفي بعض ألفاظ هذا الحديث: «كَفَى بِقَوْمٍ ضَلَالَةً أَنْ يَتَّبِعُوا كِتَابًا غَيْرَ كِتَابِهِمْ أُنْزِلَ عَلَى غَيْرِ نَبِيِّهِمْ. فأنزل الله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ} [العنكبوت: 51]» (2). فكيف بضلالة قومٍ اتبعوا كتابًا أوحاه الشيطان إلى رؤوس المشركين وأهل الضلال، لم ينزله الله على نبيٍّ من أنبيائه، فلا نزل به وحيٌ، ولا نطق به نبيٌّ، كما قال تعالى عن هؤلاء المعارضين للوحي: {وَإِنَّ اَلشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 122]. وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ اَلْإِنسِ وَاَلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ اَلْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا _________ (1) أخرجه الإمام أحمد في «المسند» (15388) وابن أبي شيبة في «المصنف» (26949) والدارمي في «السنن» (435) وابن أبي عاصم في «السنة» (50) عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -، وقال الهيثمي في «المجمع» (1/ 174): «رواه أحمد وأبو يعلى والبزار، وفيه مجالد بن سعيد، ضعفه أحمد ويحيى بن سعيد وغيرهما». وقد تقدم (ص 498) بنحوه مرسلًا، وللحديث شواهد حسَّنه بها الشيخ الألباني في «إرواء الغليل» (1589). (2) أخرجه أبو داود في «المراسيل» (454) والدارمي في «السنن» (495) عن يحيى بن جعدة مرسلًا.
(2/935)
يَفْتَرُونَ (113) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ اُلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 113 - 114]. ويوضحه: الوجه الثاني والثمانون بعد المائة: وهو أن الله سبحانه أنكر على من لم يكتفِ بكتابه، فقال: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51]. ومن المحال أن يكون الكتاب الذي يخالفه صريح العقل كافيًا، وإنما يكون كافيًا لمن قدَّمه على كل معقولٍ ورأيٍ وقياسٍ وذوقٍ وحقيقةٍ وسياسةٍ، فهذا الكتاب في حقِّه كافٍ له، كما أنه إنما يكون رحمةً وذكرى له دون غيره. وأمَّا مَن أعرض عنه أو عارضه بآراء الرجال فليس بكافٍ له، ولا هو في حقِّه هدًى ولا رحمةٌ، بل هو من الذين آمنو بالباطل وكفروا بالله. ويوضحه: الوجه الثالث والثمانون بعد المائة: أن هؤلاء الذين لم يكتفوا بكتابه حتى سلكوا ـ بزعمهم ـ طريقة العقل وعارضوه به وقدَّموه عليه من جنس الذين لم يكتفوا به سبحانه إلهًا حتى جعلوا له أندادًا يعبدونهم كما يعبدون الله، بل أولئك لم يقدِّموا أندادهم على الله. فهؤلاء جعلوا لله ندًّا يطيعونه ويعظِّمونه ويعبدونه كما يعظمون الله ويعبدونه، وهؤلاء جعلوا لكتابه ندًّا يتحاكمون إليه ويقبلون حكمه ويقدِّمونه على حُكم كتابه. بل الأمران متلازمان، فمن لم يكتف بكتابه لم يكتف به، فمتى (1) جعل لكتابه ندًّا فقد جعل له ندًّا، لا يكون غير ذلك البتة. فلا ترى من عارض الوحي برأيه وجعله ندًّا له إلَّا مشركًا بالله قد اتخذ من دون الله أندادًا. ولهذا كان مرض التعطيل ومرض الشرك أخوين متصاحبين، لا ينفك أحدهما عن صاحبه، _________ (1) «ح»: «حتى». ولعل المثبت هو الصواب.
(2/936)
فإن المعطل قد جعل آراء الرجال وعقولهم ندًّا لكتاب الله، والمشرك قد جعل ما يعبده من الأوثان ندًّا له. وممَّا يُبيِّن تلازم التعطيل والشرك أن القلوب خُلقت متحركة طالبة للتألُّه والمحبة، فهي لا تسكن إلَّا لمحبوبٍ تطمئن إليه وتسكن عنده، يكون هو غاية محبوبها ومطلوبها. ولا قرار لها ولا طمأنينة ولا سكون بدون هذا المطلوب والظفر به والوصول إليه، ولو ظفرت بما ظفرت به سواه لم يزدها ذلك إلَّا فاقةً وفقرًا وحاجةً وقلقًا واضطرابًا. فطلب هذا المراد المطلوب كامنٌ مستقرٌّ فيها، وإن أعرضت عنه واشتغلت بغيره ولم تشعر به. فوجود الشيء لا يستلزم الشعور به، بل وجوده شيءٌ والشعور به شيءٌ. وهذا الطلب والإرادة هو بحسب الشعور والمعرفة بالمطلوب المراد وصفات كماله ونعوت جلاله وجماله، فكيف إذا انضاف إلى ذلك معرفته بشدة الحاجة إليه والفاقة والضرورة، وأنه لا حياة له في الحقيقة ولا فلاح ولا لذة ولا سرور ولا نعيم إلَّا بقُربه والأُنس به والتنعم بذكره، وأن منزلة ذلك من الروح منزلة الروح من البدن، فإذا فقدته الروح كانت كالبدن الفاقد لروحه، بل القلب مضطرٌّ إليه، فقيرٌ إليه أعظم من ضرورة البدن إلى روحه. إذ غاية ما يقدر بفوات الروح موت البدن، وقد يعقبه راحة العبد، وأمَّا إذا فات الروح والقلب هذا المطلوب المحبوب ماتت [ق 110 أ] موتًا يتضمن كل ألمٍ وهمٍّ وغمٍّ وحزنٍ وخوفٍ واضطرابٍ. فلو أن ما يحصل للقلب من الموت مثل موت البدن لكان في الموت راحة، ولكنه موت يتجرع صاحبه كأسات الآلام من الهموم والغموم
(2/937)
والحسرات، ولا يكاد يسيغها، ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميتٍ! وهذا أمرٌ لا يُصدِّق به إلَّا من باشر قلبه هذا وهذا. وإذا كانت الروح مفطورة على تأله فاطرها وخالقها، وهي فقيرة إليه أعظم الافتقار من جهة كونه ربها وخالقها وممسكها وحافظها ومغذيها وطبيبها ومداويها، ومن جهة كونه إلهها ومحبوبها ومطلوبها وغاية مناها، فهي إلى معرفة هذا المطلوب ومعرفة كماله وجماله وأوصاف جلاله أشد شيءٍ ضرورة، وكلما كانت معرفتها بذلك أوفر (1) كانت محبتها له أقوى، ما لم (2) يَعُقْها عائقٌ ويمنعها مانعٌ من مرضٍ تتعطل به، أو تضعف عن نهوضها بالجدِّ في طلب هذا المحبوب. وهذا العائق شيئان: إمَّا جهلٌ بهذا المطلوب وكونه لم تَقْدُره (3) حقَّ قدره، ولم تهتد من معرفة كماله وجماله وجلاله إلى ما يدعوها إلى طلبه وإيثاره على غيره. وإمَّا فسادٌ في إرادتها لمَّا تعلقت بغيره وآثرته عليه، ففسدت فطرتها التي فُطرت عليها، فانتقلت بفسادها عنه إلى غيره. وهذه مقدِّماتٌ فطريةٌ ضروريةٌ لا ينازع فيها سليم العقل والفطرة. وإذا عرف هذا فالرُّسل جاؤوا بكمال الأمرين على أتم الوجوه، فإنهم ذكروا من صفات هذا الربِّ الذي تألهه القلوب وتطمئن إليه الأرواح ما يكون داعيًا _________ (1) «ح»: «معرفته بذلك أمر». ولعل المثبت هو الصواب. (2) «ح»: «مما». (3) «ح»: «يقدره».
(2/938)
إلى محبته، وأمروا الناس من توحيده وعبادته وحده لا شريك له بما إذا فعلوه أحبهم عليه. فجاءت النُّفاة المعارضون للوحي بعقولهم وآرائهم، فوقفوا في طريق الرُّسل، وأتوا بما يضاد دعوتهم، فنفوا صفاته التي تعرَّف بها إلى عباده، وجعلوا إثباتها تجسيمًا وتشبيهًا، ووصفوه من السلوب والنفي بما حال بين القلوب وبين معرفته، وأكدوا ذلك بأنه لا يُحِبُّ ولا يُحّبُّ، ولا له وجه يراه العابدون المحبون له يوم القيامة، فضلًا عن أن يحصل لهم لذة هناك بالنظر إليه، ولا يكلمهم ولا يخاطبهم، ولا يُسَلِّم عليهم من فوقهم. فلما استقر هذا النفي في قلوبهم تعلقت بغيره من أصناف المحبوبات؛ فأشركت به في المحبة ولا بد، وكان أعظم الأسباب الحاملة لها على الشرك هو التعطيل. فانظر إلى تلازم الشرك والتعطيل وتصادقهما، وكونهما رَضِيعَيْ لِبَانٍ ثَدْيَ أُمٍّ تَقَاسَمَا ... بِأَسْحَمَ دَاجٍ عَوْضُ لَا نَتَفَرَّقُ (1) الوجه الرابع والثمانون بعد المائة: أن هؤلاء المعطلة النُّفاة المعارضين (2) للوحي بآرائهم ومعقولاتهم من الظانِّين بالله وكتابه ورسوله ظنَّ السوء، ولم يجئ في القرآن وعيدٌ أعظم من (3) وعيد من ظنَّ به ظنَّ السوء. قال تعالى: {لِّيُدْخِلَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَاَلْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّآتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اَللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ اَلْمُنَافِقِينَ وَاَلْمُنَافِقَاتِ وَاَلْمُشْرِكِينَ وَاَلْمُشْرِكَاتِ اِلظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ اَلسَّوْءِ _________ (1) البيت للأعشى في «ديوانه»، وقد تقدم (ص 159). (2) «ح»: «المعارضون». (3) «من» ليس في «ح».
(2/939)
عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ اُلسُّوءِ وَغَضِبَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح: 5 - 6]. وقال تعالى: {وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اَللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ (21) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ اُلَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ اَلْخَاسِرِينَ} [فصلت: 21 - 22] فهؤلاء ظنُّوا أنه لا يعلم بعض الجزئيات، فكيف بمن ظنَّ أنه لا علم له، ولا سمع، ولا بصر، ولا تكلم ولا يتكلم، ولا استوى على عرشه، ولا له فعلٌ حقيقةً يدبر به الأمر، ولا له حكمةٌ يفعل ما يفعل لأجلها. وأولئك جوَّزوا عليه ألَّا ينصر رسوله، وأن يجعل (1) الدائرة عليه وعلى المؤمنين، ومنكرو الحكمة والتعليل يُجوِّزون عليه أن يُعذب أنبياءه ورسله. قالوا: ولا نعلم تنزيهه عن ذلك بالعقل، وإنما نعلمه بالخبر. ومن أعظم ظنِّ السوء به وبكتابه أن يُظنَّ أن العقل الصريح مخالفٌ له، وأي نقصٍ وعيبٍ أبلغ من نقص كلامٍ مخالفٍ لصريح المعقول؟ وأي إساءة ظنٍّ أعظم من هذه الإساءة؟ يوضحه: الوجه الخامس والثمانون بعد المائة: أن هذا نسبة له إلى كونه كذبًا في نفسه، فإنه إذا خالف صريح العقل لم يكن مطابقًا لمُخْبَره، فيكون المتكلم به قد أخبر بخبرٍ لم يطابق مُخْبَره، وهذا حقيقة الكذب، بل هو من أقبح الكذب؛ فإن الكذب نوعان: أحدهما: كذبٌ يجوز أن يكون متعلقه واقعًا [ق 110 ب] كمن يقول: مات فلان، أو تزوج، أو وُلد له؛ ولم يكن ذلك. _________ (1) «ح»: «جعل».
(2/940)
والثاني: كذبٌ لا يجوز أن يقع متعلقه، وهو ما يحيله العقل، وهذا أقبح نوعي الكذب، فكيف يجوز على أصدق الكلام وأهداه وأفضله أن يكون فيه أقبح نوعي الكذب. الوجه السادس والثمانون بعد المائة: أن من ادَّعى معارضة العقل لما جاءت به الرُّسل من صفاته وأفعاله وحقائق أسمائه لم (1) يَقْدُره حقَّ قدره، وقد ذمَّ الله تعالى من لم يقدره حقَّ قدره في ثلاثة (2) مواضع من كتابه: أحدها: قوله: {وَمَا قَدَرُوا اُللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اَللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} [الأنعام: 92]. الثاني: قوله: {يَاأَيُّهَا اَلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاَسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اِللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اِجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ اُلذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ اَلطَّالِبُ وَاَلْمَطْلُوبُ (71) مَا قَدَرُوا اُللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اَللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 71 - 72]. الثالث: قوله: {وَمَا قَدَرُوا اُللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَاَلْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَاَلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 64]. فأخبر أنه لم يقدره حقَّ قدره مَن أنكر إرساله للرسل وإنزال كتبه عليهم. وهذا حقيقة قول من قال: إنه لا يتكلم، ولم ينزل له إلى الأرض كلامٌ، ولا كلَّم موسى تكليمًا. ومعلوم أن هذا إنكارٌ لكمال ربوبيته، وحقيقة إلهيته، ولحكمته ورحمته. ولم يقدره حقَّ قدره من عبد من دونه إلهًا غيره، ولم يقدره حق قدره _________ (1) «ح»: «فلم». (2) «ح»: «ثلاث». والمثبت من «م».
(2/941)
من جحد صفات كماله ونعوت جلاله. وقد وصف سبحانه نفسه بأنه العلي العظيم، وحقيقة قول المعطلة النُّفاة أنه ليس بعليٍّ ولا عظيمٍ؛ فإنهم يردُّون علوه وعظمته إلى مجرد أمرٍ معنويٍّ، كما يقال: الذهب أعلى وأعظم من الفضة، والبُرُّ أعلى وأعظم من الشعير. وقد صرَّحوا بذلك فقالوا: معناه عليُّ القدر، وعظيم القدر. قال شيخنا (1): «فيقال لهم: أتريدون أنه في نفسه عليُّ الذات عظيم القدر، وأن له في نفسه قدرًا عظيمًا، أم تريدون أن عظمته وقدره في النفوس فقط؟ فإن أردتم الأول فهو الحقُّ الذي دلَّ عليه الكتاب والسُّنَّة والعقل. فإذا كان في نفسه عظيم القدر فهو في قلوب الخلق كذلك، ومع ذلك فلا يُحصي أحد (2) ثناءً عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، ولا يقدر أحدٌ قدره، ولا يعلم عظم قدره إلَّا هو. وتلك صفة يمتاز بها ويختص بها عن خلقه؛ إذ هي (3) من لوازم ماهيته وذاته التي اختص بها عن خلقه، كما قال الإمام أحمد لما قالت الجهمية إنه في المخلوقات: «نحن نعلم مخلوقاتٍ كثيرةً ليس فيها من عظم الربِّ شيء» (4). وإن أعدتم (5) ذلك إلى مجرد تعظيم القلوب له من غير أن يكون هناك _________ (1) لم أقف على نص هذا الكلام في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية. (2) «ح»: «أحدا». والمثبت من «م». (3) «ح»: «هو». (4) «الرد على الجهمية والزنادقة» (ص 144). (5) «م»: «أضفتم».
(2/942)
صفات ثبوتية وقدر عظيم يختص به، فذاك اعتقادٌ لا حقيقة له، وصاحبه قد عظَّمه بأن اعتقد فيه عظمة (1) لا حقيقة لها، وذلك يضاهي اعتقاد المشركين في آلهتهم. وإن قالوا: بل نريد (2) معنًى ثالثًا لا هذا ولا هذا، وهو أن له في نفسه قدرًا يستحقه لكنه قدرٌ معنوي. قيل لهم: أتريدون أن له حقيقةً عظيمةً يختص بها عن غيره، وصفات عظيمة يتميز بها، وذاتًا عظيمة تمتاز عن الذوات، وماهية عظيمة أعظم من كل ماهية، ونحو ذلك من المعاني المعقولة؛ فذلك أمرٌ وجوديٌّ محقَّقٌ. وإذا أُضيف ذلك إلى الربِّ كان بحسب ما يليق به، ولا يشركه فيه المخلوق، كما أنه إذا أُضيف إلى المخلوق كان بحسب ما يليق به، ولا يشركه فيه الخالق. فهو في حقِّ الخالق تعالى قدرٌ يليق بعظمته وجلاله، وفي حقِّ المخلوق قدر يناسبه، كما قال تعالى: {قَد جَّعَلَ اَللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3] فما من مخلوقٍ إلَّا وقد جعل الله له قدرًا يخصُّه. والقدر يكون علميًّا ويكون عينيًّا، فالأول هو التقدير العلمي، وهو تقدير الشيء في العلم واللفظ والكتاب (3)، كما يقدر العبد في نفسه ما يريد أن يقوله ويكتبه ويفعله، فيجعل له قدرًا. ومن هذا تقدير الله سبحانه لمقادير الخلائق في علمه وكتابه قبل تكوينها، ثم كوَّنها على ذلك القدر الذي علمه وكتبه. _________ (1) «ح»: «عظيمة». والمثبت من «م». (2) «ح»: «يزيد». تصحيف، والمثبت من «م». (3) «ح»: «وللكتاب». والمثبت من «م».
(2/943)
فالقدر الإلهي نوعان: أحدهما: في العلم والكتابة. والثاني: خَلْقها وبرؤها وتصويرها بقدرته التي بها يخلق الأشياء، والخلق يتضمن الإبداع والتقدير جميعًا. والمقصود أن كل موجودٍ فله قدرٌ، والعباد لا تقدر (1) الخالق قدره، والكفار منهم لا يقدرونه حقَّ قدره. ولهذا لم يذكر ذلك سبحانه إلَّا في حقهم، قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اُللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اَللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} [الأنعام: 92] وهذا إنما وصف به الذين لا يؤمنون بجميع كتبه المنزلة، من المشركين [ق 111 أ] واليهود وغيرهم. وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اُللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 92] ولم يقل: وما قدروا الله قَدْرَه. فإن حقَّ قدره هو الحق الذي لقدره، فهو حقٌّ عليهم لقدره سبحانه، فجحدوا ذلك الحق وأنكروه، وما قاموا بذلك الحقِّ معرفةً ولا إقرارًا ولا عبوديةً، وذلك جحودٌ وإنكارٌ لبعض قدره من صفات كماله وأفعاله، لجحودهم أن يتكلم أو يعلم الجزئيات أو يقدر على إحداث فعل، فشُبهات منكري الرسالة ترجع إلى ذلك: إمَّا إنكار علمه تعالى، أو إنكار قدرته، أو إنكار كلامه. فمن أقرَّ بما أرسل به رسله، وأنه عالمٌ به، متكلمٌ بكتبه التي أنزلها عليهم، قادرٌ على الإرسال، لا يليق بحكمته تركه؛ فقد قدره حقَّ قدره من هذا الوجه، وإن (2) لم يقدره حقَّ قدره مطلقًا. _________ (1) «ح»: «يقدر». والمثبت من «م». (2) «ح»: «إن». والمثبت من «م».
(2/944)
وكذلك ذكر الآية الأخرى في سياق خطابه للمشركين ولمنكري آياته كقوله: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ اُلْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ} [الزمر: 51] إلى قوله: {بَلَى قَد جَّاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاَسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ اَلْكَافِرِينَ} [الزمر: 56] إلى قوله: {وَمَا قَدَرُوا اُللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَاَلْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ} [الزمر: 64] فكان هذا ردًّا على المشركين والمعطلين الجاحدين لتوحيده ولصفاته، كما كان ذلك ردًّا على منكري كتبه ورسله، وهذان أصلَا الإسلام: شهادة أن لا إله إلَّا الله، وأن محمدًا رسول الله. وهذا الذي وصف به نفسه هاهنا يتضمن من اقتداره على تغيير (1) العالم وتبديله ما يبطل قول أعدائه الملاحدة المكذبين بالمبدأ والمعاد، أئمةِ هؤلاء المعارضين للوحي بالعقل والرأي. وقال تعالى في آية الحج: {إِنَّ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اِللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اِجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ اُلذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ اَلطَّالِبُ وَاَلْمَطْلُوبُ (71) مَا قَدَرُوا اُللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اَللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (72) اِللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ اَلْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ اَلنَّاسِ} [الحج: 71 - 73] فما قدره حقَّ قدره من عبد من دونه من لا يخلق ذبابًا واحدًا، وإن سلبه الذباب شيئًا ممَّا عليه من خَلوقٍ وغيره لم يقدر على استنقاذه منه، ولا يكون أضعف من هذا الإله وعابده، فكيف يُعبد من دون من له القوة كلها والعزة كلها؟ ولمَّا كان هذا من جهلهم بالله وترك تعظيمه الذي ينبغي له، قال كثيرٌ من المفسرين في معنى ذلك: ما عظَّموه حقَّ عظمته. وقال بعضهم: ما عرفوه حقَّ معرفته. وقال بعضهم: ما _________ (1) «ح»: «نصير».
(2/945)
عبدوه حقَّ عبادته. وقال آخرون: ما وصفوه حقَّ صفته (1). ولمَّا كان أهل العلم والإيمان قد قاموا من ذلك بحسب قدرتهم وطاقتهم التي أعانهم بها ووفقهم بها لمعرفته وعبادته وتعظيمه لم يتناولهم هذا الوصف، فإن التعظيم له سبحانه والمعرفة والعبادة ووصفه بما وصف به نفسه قد أمر به عباده وأعانهم عليه ورضي منهم بمقدورهم من ذلك، وإن كانوا لا يقدرونه قدره، ولا يَقدُر أحدٌ (2) من العباد قدره، فإنه إذا كانت السماوات السبع في يده كالخردلة في يد أحدنا، والأرضون السبع في يده الأخرى كذلك، فكيف يقدره حق قدره من أنكر أن يكون له يدان، فضلًا عن أن يقبض بهما شيئًا، فلا يد عند المعطلة ولا قبض في الحقيقة، وإنما ذلك مجازٌ لا حقيقة له. وللجهمية والمعطلة نُفاة الصِّفات من هذا الذمِّ أوفر نصيبٍ، وللمتفلسفة وأفراخهم وأتباعهم ذَنُوبًا (3) مثل ذَنُوب أصحابهم وأكثر. وقد شرع الله سبحانه لعباده ذكر هذين الاسمين: العلي العظيم في الركوع والسجود، كما ثبت في الصحيح أنه لمَّا نزلت: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ اَلْعَظِيمِ} [الواقعة: 77] قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ». فلمَّا نزلت: {سَبِّحِ اِسْمَ رَبِّكَ اَلْأَعْلَى} [الأعلى: 1] قال: «اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ» (4). _________ (1) ينظر «التفسير البسيط» للواحدي (8/ 273). (2) «ح»: «أحدا». والمثبت من «م». (3) كذا وقع في «ح» منصوبًا، والذنوب: النصيب. «الصحاح» (1/ 128). (4) أخرجه الإمام أحمد (17686) وأبو داود (869) وابن ماجه (887) وابن خزيمة (600) وابن حبان (1898) والحاكم (1/ 225، 2/ 477) عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه -. وقال الحاكم: «حديث حجازي صحيح الإسناد، وقد اتفقا على الاحتجاج برواته غير إياس بن عامر، وهو عم موسى بن أيوب القاضي، ومستقيم الإسناد». فتعقبه الذهبي بقوله: «إياس ليس بالمعروف». وحسَّن إسناده النووي في «خلاصة الأحكام» (1255) وينظر «تنقيح التحقيق» لابن عبد الهادي (2/ 248) و «الإرواء» للألباني (334).
(2/946)
وهو سبحانه كثيرًا ما يقرن في وصفه بين هذين الاسمين، كقوله: {وَهْوَ اَلْعَلِيُّ اُلْعَظِيمُ} [البقرة: 253] وقوله: {هُوَ اَلْعَلِيُّ اُلْكَبِيرُ} [الحج: 60] وقوله: {عَالِمُ اُلْغَيْبِ وَاَلشَّهَادَةِ اِلْكَبِيرُ اُلْمُتَعَالِ} [الرعد: 10] يُثبت بذلك علوه على المخلوقات وعظمته. فالعلو رفعته، والعظمة عظمة قدره ذاتًا ووصفًا. وعند الجهمية ليس له علوٌّ ولا عظمة إلَّا ما في النفوس من اعتقاد كونه أفضل من غيره. فصل الوجه السابع والثمانون بعد المائة: أن هؤلاء المعارضين بين الوحي والعقل من الجهمية المعطلة والفلاسفة الملاحدة ومن اتبع سبلهم هم دائمًا يُدِلُّون بنفي (1) التشبيه والتمثيل، ويجعلونه جُنَّةً لتعطيلهم ونفيهم، فجحدوا علوَّهُ على خَلقه ومباينتَه لهم، وتكلُّمَه بالقرآن والتوراة والإنجيل وسائرِ كتبه، وتكليمَه لموسى، واستواءَه على عرشه، ورؤيةَ المؤمنين [ق 111 ب] له بأبصارهم من فوقهم في الجنة، وسلامَه عليهم، وتجلِّيَه لهم ضاحكًا، وغيرَ ذلك ممَّا أخبر به عن نفسه، وأخبر به عنه رسوله، وتترَّسوا بنفي التشبيه، واتخذوه جُنَّةً يصدُّون (2) به القلوبَ عن الإيمان بالله وبأسمائه وصفاته. _________ (1) «ح»: «نفي». والمثبت من «م». (2) «ح»: «يصيدون». والمثبت هو الصواب.
(2/947)
وكل مَن نفى شيئًا ممَّا وصف به نفسه جعل نفيَ التشبيه له كالوقاية في الفعل، حتى آل ذلك ببعضهم إلى أن نفى ذاتَه وماهيته خشيةَ التشبيه، فقال: هو وجود محضٌ لا ماهيةَ له. ونفى آخرون وجوده بالكلية خشيةَ التشبيه، وقالوا: يلزمنا في الوجود ما لزم مثبتي الصِّفات والكلام والعلو في ذلك، فنحن نسدُّ الباب بالكلية. ولا ريب أن المشبِّهة المحضة خيرٌ من هؤلاء، وأحسنُ قولًا في ربهم، وأحسنُ ثناءً عليه منهم. والطائفة المعطِّلة بمنزلة مَن قدح في مُلك المَلِك وسلطانه، ونفى قدرته وعلمه وتدبيره لمملكته وسائر صفات الملك. والطائفة الثانية بمنزلة مَن شبَّهه بملك غيرُه موصوف بأكمل الصِّفات وأحسنِ النعوت. فينبغي أن تعلم في هذا قاعدةً نافعة جدًّا؛ وهي أن نفي الشِّبْهِ والمِثل والنَّظير ليس في نفسه صفة مدحٍ ولا كمالٍ، ولا يُحمد به المنفي عنه ذلك بمجرده، فإن العدم المحض ـ الذي هو أخسُّ المعلومات وأنقصها ـ يُنْفَى عنه الشبهُ والمثل والنظير، ولا يكون ذلك كمالًا ومدحًا إلَّا إذا تضمن كون مَن نُفي عنه ذلك قد اختصَّ من صفات الكمال ونعوت الجلال بأوصاف باينَ بها غيره، وخرج بها عن أن يكون له نظيرٌ أو شبهٌ، فهو لتفرده بها عن غيره صحَّ أن يُنفى عنه الشبه والمثل والنظير والكفؤ. ولا (1) يقال لمن لا سمع له، ولا بصر (2)، ولا حياة، ولا علم، ولا كلام، ولا فعل: ليس له شبهٌ، _________ (1) «ح»: «أفلا». والمثبت من «م». (2) «ح»: «لا يسمع ولا بصير». والمثبت من «م».
(2/948)
ولا مثل، ولا نظير. اللهم إلَّا في باب الذمِّ والعيب، أي: قد سُلب صفات الكمال كلها؛ بحيث صار لا شبهَ له في النقص. هذا الذي عليه فِطَرُ الناس وعقولُهم واستعمالهم في المدح والذم، كما قال شاعر القوم (1): لَيْسَ كَمِثْلِ الْفَتَى زُهَيْرٍ ... خَلْقٌ يُسَاوِيهِ فِي الْفَضَائِلْ وقال الآخر (2): مَا إِنْ كَمِثْلِهِمُ فِي النَّاسِ مِنْ أَحَد وقال الفرزدق (3): فَمَا مِثْلُهُ فِي النَّاسِ إِلَّا مُمَلَّكًا ... أَبُو أُمِّهِ حَيٌّ أَبُوهُ يُقَارِبُهْ أي: ما مثله في الناس حي يقاربه إلَّا مملك هو أخوه (4). وقال الآخر (5): فَمَا مِثْلُهُ فِيهِمْ وَلَا هُوَ كَائِنٌ ... وَلَيْسَ يَكُونُ الدَّهْرَ مَا دَامَ يَذْبُلُ _________ (1) البيت بلا نسبة في «تفسير الثعلبي» (23/ 336) ومنسوب لأوس بن حجر في «البحر المحيط» (9/ 326) و «الدر المصون» (9/ 545). (2) عجز بيتٍ، وصدره: سَعْدَ بْنَ زَيْدٍ إِذَا أَبْصَرْتَ فَضْلَهُمْ بلا نسبة في «تفسير الطبري» (21/ 509) وغيره. (3) البيت سبق تخريجه (ص 414). (4) كذا في «ح»، «م»: «أخوه». والصواب: «خاله» كما تقدم. (5) البيت لحسان بن ثابت - رضي الله عنه -، وهو في «ديوانه» (1/ 433) وروايته: «ولا كان قبله».
(2/949)
نفى أن يكون له مثلٌ في الحال والماضي والمستقبل. وقال الآخر (1): وَلَمْ أَقُلْ مِثْلُكَ أَعْنِي بِهِ ... سِوَاكَ يَا فَرْدًا بَلَا مُشْبِه ومنه قولهم: فلان نسيجُ وحدِه. شبهه بثوبٍ لم يُنسَج له نظيرٌ في حُسنه وصفاته (2). فعكسَ المعطلةُ المعنى، وقلبوا الحقائقَ، وأزالوا دلالة اللفظ عن موضعها، وجعلوا {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 9] جُنَّةً وتُرسًا لنفي علوِّه سبحانه على عرشه وتكليمه لرسله وإثبات صفات كماله. وممَّا ينبغي أن يُعلم أن كل سلبٍ (3) ونفيٍ لا يتضمن إثباتًا فإن الله لا يُوصف به؛ لأنه عدمٌ محضٌ، ونفيٌ صرفٌ، لا يقتضي مدحًا ولا كمالًا ولا تعظيمًا. ولهذا كان تسبيحُه وتقديسه سبحانه متضمِّنًا لعظمته ومستلزِمًا لصفات كماله ونعوت جلاله، وإلَّا فالمدح بالعدم المحض كلا مدحٍ. والعدم في نفسه ليس بشيءٍ يُمدح به ويُحمد عليه، ولا يكسب القلب عِلمًا بالمذكور ولا محبةً وقصدًا له. ولهذا كان عدم السِّنَة والنوم مدحًا وكمالًا في حقِّه سبحانه؛ لتضمنه (4) _________ (1) البيت للمتنبي، وهو في «ديوانه» (ص 576). (2) ينظر: «الزاهر في معاني كلمات الناس» لابن الأنباري (1/ 231) و «الصحاح» (1/ 344). (3) «ح»: «شاب». والمثبت من «م». (4) «ح»: «المتضمنة». والمثبت من «م».
(2/950)
أو استلزامه كمالَ حياته وقيوميته. ونفي اللُّغوب عنه كمالٌ؛ لاستلزامه كمالَ قدرته وقوته. ونفي النسيان عنه كمالٌ، لتضمنه كمالَ عِلمه، وكذلك نفي عزوب شيءٍ عنه. ونفي الصاحبة والولد كمالٌ؛ لتضمنه كمالَ غناه وتفرُّده بالربوبية، وأن من في السماوات والأرض عبيدٌ له. وكذلك نفي الكفؤ والسَّمِيّ والمثل عنه كمالٌ؛ لأنه يستلزم ثبوتَ جميع صفات الكمال له على أكمل الوجوه، واستحالة وجود مشاركٍ له فيها. فالذين يصفونه بالسُّلُوب فقط من الجهمية والفلاسفة لم يعرفوه من الوجه الذي عرفته به الرُّسل، وعرَّفوه به إلى الخلق، وهو الوجه الذي يُحمد (1) به ويُثنَى عليه ويُمجَّد وتُعرف به عظمتُه وجلاله. وإنما عرفوه (2) من الوجه الذي يقودهم إلى تعطيل العلم والمعرفة والإيمان به، بعدم (3) اعتقادهم الحقَّ. واعتقادهم خلافَ الحقِّ، وحقيقة أمرهم أنهم (4) لم يثبتوا لله عظمةً إلَّا ما تخيلوه في نفوسهم من السُّلوب والنفي الذي لا عظمةَ فيه ولا مدح، فضلًا عن أن يكون كمالًا، بل ما أثبتوه مستلزمٌ لنفي ذاته رأسًا. وأمَّا الصِّفَاتية (5)، الذين يؤمنون ببعضٍ ويجحدون بعضًا، فإذا أثبتوا _________ (1) «ح»: «يحمده». والمثبت من «م». (2) «ح»: «عرفوا». والمثبت من «م». (3) «م»: «لعدم». (4) «ح»: «أنه». والمثبت من «م». (5) «ح»: «للصفاتية». والمثبت من «م».
(2/951)
عِلمًا وقدرة وإرادة وغيرها تضمن ذلك [ق 112 أ] إثباتَ ذات تقوم بها هذه الصِّفات وتتميز بحقيقتها وماهيتها، سواء سمَّوه قدرًا أو لم يُسموه. فإن لم يثبتوا ذاتًا متميزةً بحقيقتها وماهيتها كانوا قد أثبتوا صفاتٍ بلا ذات، كما أثبت إخوانهم ذاتًا بلا صفات، وأثبتوا أسماء بلا معانٍ ولا حقائقَ، وذلك كله مخالفةٌ لصريح المعقول، وهم يدَّعون أنهم أرباب عقليات! فلا بد من إثبات ذات محقَّقة لها الأسماء الحسنى التي لا تكون حسنى إلَّا إذا كانت دالةً على صفات كمال، وإلَّا فأسماء (1) فارغة لا معنى لها، لا توصف بحُسنٍ فضلًا عن كونها أحسنَ من غيرها. يوضح ذلك: الوجه الثامن والثمانون بعد المائة: أنه سبحانه فرَّقَ بين هذين الاسمين الدالين على علوِّه وعظمته في آخر آية الكرسي (2) وفي سورة الشورى (3) وفي سورة الرعد (4)، وفي سورة سبأ في قوله: {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا اُلْحَقَّ وَهْوَ اَلْعَلِيُّ اُلْكَبِيرُ} [سبأ: 23]. ففي آية الكرسي ذَكَر الحياة التي هي أصلُ جميع الصِّفات، وذكَرَ معها قيوميته المقتضية لذاته وبقائه وانتفاء الآفات جميعها (5) عنه من النوم والسِّنة والعجز وغيرها. ثم ذَكَر كمال مُلكه، ثم عقبه بذكر وحدانيته في مُلكه، وأنه _________ (1) «ح»: «فالأسماء». والمثبت من «م». (2) قال تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ اُلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهْوَ اَلْعَلِيُّ اُلْعَظِيمُ} [البقرة: 253]. (3) قال تعالى: {لَهُ مَا فِي اِلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي اِلْأَرْضِ وَهْوَ اَلْعَلِيُّ اُلْعَظِيمُ} [الشورى: 2]. (4) قال تعالى: {عَالِمُ اُلْغَيْبِ وَاَلشَّهَادَةِ اِلْكَبِيرُ اُلْمُتَعَالِ} [الرعد: 10]. (5) «ح»: «جمعها». والمثبت من «م».
(2/952)
لا يشفع عنده أحدٌ إلَّا بإذنه. ثم ذكر سعة عِلمه وإحاطته، ثم عقبه بأنه لا سبيلَ للخلق إلى علم شيءٍ من الأشياء إلَّا بعد مشيئته لهم أن يعلموه. ثم ذَكر سعة كرسيِّه، منبِّهًا به على سعته سبحانه وعظمته وعلوِّه، وذلك توطئة بين يدي ذكر علوه وعظمته. ثم أخبر عن كمال اقتداره وحِفظه للعالم العلوي والسفلي من غير اكتراثٍ ولا مشقةٍ ولا تعبٍ. ثم ختم الآيةَ بهذين الاسمين الجليلين الدالين على علو ذاته وعظمته في نفسه. وقال في سورة طه: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 107] وقد اختُلف في تفسير الضمير في {بِهِ} فقيل: هو الله سبحانه. أي: ولا يحيطون بالله علمًا. وقيل: هو ما بين أيديهم وما خلفهم (1). فعلى الأول يرجع إلى العالم، وعلى الثاني يرجع إلى المعلوم. وهذا القول يستلزم الأول من غير عكسٍ؛ لأنهم إذا لم يحيطوا ببعض معلوماته المتعلقة بهم، فألَّا يحيطوا علمًا به سبحانه أولى. وكذلك الضمير في قوله: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ} [البقرة: 253] يجوز أن يرجع إلى الله، ويجوز أن يرجع إلى {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أي: ولا يحيطون بشيءٍ من عِلم ذلك إلَّا بما شاء. فعلى الأول يكون المصدر مضافًا إلى الفاعل، وعلى الثاني يكون مضافًا إلى المفعول (2). _________ (1) ينظر: «تفسير الطبري» (16/ 171) و «التفسير البسيط» للواحدي (14/ 523) و «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي (11/ 248). (2) ذكر القولين الراغب في «تفسيره» (1/ 537). والمشهور في التفاسير القول الأول، ينظر: تفسير الطبري» (4/ 536) و «التفسير البسيط» (4/ 351) و «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي (3/ 276). واقتصر السمعاني في «تفسيره» (1/ 258) على الثاني.
(2/953)
والمقصود أنه لو كان {اَلْعَلِيُّ اُلْعَظِيمُ} إنما يُراد به اتصافه بالعلم والقدرة والملك وتوابع ذلك كان تكريرًا، بل دون التكرير، فإنَّ ذِكر ذلك مفصَّلًا أبلغُ من الدلالة عليه بما لا يُفهم إلَّا بكلفةٍ. وكذلك إذا قيل: إن علوه وعظمته مجردُ كونِه أعظمَ من مخلوقاته وأفضل منها، فهذا هضمٌ عظيمٌ لهاتين الصفتين العظيمتين، وهذا لا يليق ولا يحسن أن يُذكَر ويُخبَر به عنه إلَّا في معرض الرد لمن سوَّى بينه وبين غيره في العبادة والتألُّه، كقوله: {قُلِ اِلْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ اِلَّذِينَ اَصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 61]، وقول يوسف الصدِّيق: {آارْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اِللَّهُ اُلْوَاحِدُ اُلْقَهَّارُ} [يوسف: 39]، وقوله تعالى عن السحرة إنهم قالوا لفرعون: {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ اَلسِّحْرِ وَاَللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى} [طه: 72]. فهذا السياق يُقال في مثله: إن الله خيرٌ ممَّا سواه من الآلهة الباطلة. وأمَّا بعد أن يذكر أنه مالك الكائنات، ويقال مع ذلك: هو أفضل من مخلوقاته وأعظم من مصنوعاته؛ فهذا يُنزَّه عنه كلام الله. وإنما يليق هذا بهؤلاء الذين يجعلون له مَثَل السَّوْء في كلامه، ويجعلون ظاهره كفرًا تارةً، وضلالةً تارةً، وتشبيهًا وتجسيمًا تارةً، ومخالفًا لصريح العقل تارةً، ويحرفونه بالتحريفات الباطلة، ويقولون فيه ما لا يرضى أحدُهم أن يُقال مِثله في كلامه، فيجعلون لكلامه مثل السوء، كما جعلوا له سبحانه مثل السوء، بإنكارهم صفات كماله وحقائق أسمائه الحسنى. ولو تأوَّل أحدٌ كلامهم أو كلام مَن يُعظِّمونه على ما يتأولون عليه كلام الله ورسوله لقامت قيامة أحدهم، وإذا حُقق الأمر عليهم تبيَّن أن ما يتأولون
(2/954)
عليه كلام الله ورسوله من التأويلات الفاسدة لا يليق حملُ كلام (1) آحاد فضلاء بني آدم عليها. ولهذا سقطت حُرمة الإيمان والقرآن والرسول من قلوبهم، ولهذا يُصرِّحون بأن القرآن والسُّنَّة لا تفيدان علمًا ولا يقينًا في هذا الباب [ق 112 ب] ويقولون: إن الطريقة البرهانية ليست في القرآن، وإنها في منطق اليونان. الوجه التاسع والثمانون بعد المائة: أن العظيم يُوصف به الأعيانُ والكلام والصفات والمعاني، أمَّا الأعيان فكقوله تعالى: {وَرَبُّ اُلْعَرْشِ اِلْعَظِيمِ} [المؤمنون: 87]، وقوله: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23]. وأمَّا المعاني فكقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، وقوله: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16]. فيُوصَف بالذوات (2) وصفاتها وأفعالها، وكل موصوفٍ فصفته بحسبه، فعِظَم الذات شيءٌ وعِظَم صفاتها شيءٌ، وعِظَم القول شيءٌ، وعِظم الفعل شيءٌ. والرب تعالى له العظمة بكل اعتبارٍ وكل وجهٍ بذاته، والمعطِّلة تُنكر عظمة ذاته، ولا يثبتون إلَّا عظمةً معنويةً، لا يثبتون عظمة الذات. كما يقولون مثل ذلك في العلوِّ أنه علوٌّ (3) معنويٌّ، لا أن ذاته عالية على كل المخلوقات، فليس عندهم عليًّا ولا عظيمًا إلَّا باعتبارٍ معنويٍّ فقط، كعلو قيمة الجوهر على قيمة الخزف، وأهل السُّنَّة أثبتوا له العلوَّ والعظمة بكل اعتبارٍ. _________ (1) «ح»: «كلامهم». (2) كذا في «ح»، ولعله «فيُوصف به الذات». (3) «ح»: «علي».
(2/955)
ومثل هذا وصفه سبحانه بأنه الكبير المتعال (1)، فالكبير يُوصف به الذات وصفاتها القائمة بها، فيقال: هذا أكبر من هذا حِسًّا ومعنًى وسنًّا. وكذلك الطول يقال: هو أطول يدًا منه صورةً ومعنى. كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لنسائه: «أَسْرَعُكُنَّ لَحَاقًا بِي أَطْوَلُكُنَّ يَدًا» (2). فكلهن يمددن أيديهن أيهن أطول، وكانت (3) زينب أولهن موتًا، وكانت أطولهن يدًا بالخير والصدقة. وكذلك السعة والبسطة تكون في الذوات والمعاني، كما قال تعالى: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي اِلْعِلْمِ وَاَلْجِسْمِ} [البقرة: 245]، فكبر قدرُه في باطنه بالعلم وفي ظاهره باشتداد الجسم، فكمل ظاهره وباطنه ومعناه وصورته. وهذا أكمل من أن يكمل معناه وفِكره (4) دون ذاته وصورته. وهذا شأنه سبحانه فيما يريد تكميله مِن خَلْقه، فإنه يكمله ذاتًا ومعنى ظاهرًا وباطنًا، كما قال تعالى في أهل الجنة: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان: 11] فكمَّل ظواهرهم بالنضرة، وبواطنهم بالمسرَّة. وقال تعالى: {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21] فهذا زينة ظواهرهم، وهذا زينة بواطنهم. وقال (5): {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (21) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌٌ} [القيامة: 21 - 22] فكمل ظواهرهم بالنضرة (6)، وبواطنهم بالنظر إليه. _________ (1) قال تعالى: {عَالِمُ اُلْغَيْبِ وَاَلشَّهَادَةِ اِلْكَبِيرُ اُلْمُتَعَالِ} [الرعد: 10]. (2) أخرجه البخاري (3624) ومسلم (2452) عن عائشة - رضي الله عنها -. (3) «ح»: «وكان». (4) «ح»: «ويكره». ولعل المثبت هو الصواب. (5) «ح»: «وقالوا». (6) «ح»: «بالنظرة».
(2/956)
وقال تعالى: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ اُلتَّقْوى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 25] وأنعم على عباده بزينتين ولباسين: زينةٍ تجمل ظواهرهم، وزينةٍ من التقوى تجمل بواطنهم. وقال تعالى: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن: 69] قال المفسرون: خيرات (1) الأخلاق، حسان الوجوه (2). وقد رُوِيَ هذا التفسير مسندًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أم سلمة، وهو في «معجم الطبراني» (3) وغيره. وقال تعالى: {وَلَقَد زَّيَّنَّا اَلسَّمَاءَ اَلدُّنْيا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ} (4) [الملك: 5]، فجعل المصابيح زينة لظاهرها ولباطنها بالحراسة _________ (1) «ح»: «خراب». (2) ينظر: «تفسير الطبري» (22/ 262) و «التفسير البسيط» (21/ 199) و «الجامع لأحكام القرآن» (17/ 187). (3) «المعجم الكبير» (23/ 367) و «المعجم الأوسط» (3141). من طريق سليمان بن أبي كريمة عن هشام بن حسان عن الحسن عن أم سلمة - رضي الله عنها -. والحديث أخرجه الطبري في «تفسيره» (22/ 263) والثعلبي في «الكشف والبيان» (25/ 378) من هذا الوجه. وقال الهيثمي في «المجمع» (11396): «رواه الطبراني، وفيه سليمان بن أبي كريمة ضعفه أبو حاتم وابن عدي». وقال العقيلي في «الضعفاء الكبير» (2/ 530): «سليمان بن أبي كريمة عن هشام بن حسان، يحدث بمناكير، ولا يتابع عليه، ولا يتابع على كثير من حديثه». ثم روى من طريقه قطعة من الحديث، وقال: «لا يتابع عليه، ولا يعرف إلا به». وروى في «الكامل» (5/ 223) قطعة من الحديث من هذا الطريق، وقال: «وهذا الحديث منكر». (4) «ح»: «ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظًا من كل شيطان مارد». فأدخل آية سورة الملك في آية سورة الصافات: {إِنَّا زَيَّنَّا اَلسَّمَاءَ اَلدُّنْيا بِزِينَةِ اِلْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ} [الصافات: 6 - 7]. ويمكن أن يكون المصنِّف ذكر الآيتين في الأصل، لكن كلامه عقب الآية، يرجح إرادته لآية سورة الملك.
(2/957)
من الشياطين، فهي زينة الظاهر والباطن. وقال تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ اُلْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ} [النجم: 5 - 6] وهو جبريل عليه الصلاة والسلام. والِمرِّة: المنظر البهي الجميل (1)، فأعطاه كمال القوة في باطنه، وجمال المنظر في ظاهره. وهذان الكمالان هما اللذان أرتهما امرأةُ العزيز النسوةَ اللاتي لُمْنَها في محبة يوسف، فإنها أجلستهن في البيت {وَقَالَتِ اِخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَا لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31] فأخبرتهن أن باطنه أحسن وأجمل فقالت: {فَذَلِكُنَّ اَلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاَسْتَعْصَمَ} [يوسف: 32] فأرتهن جماله الظاهر، وأخبرتهن بجماله الباطن. والمقصود أن أهل السُّنَّة يثبتون لله سبحانه العلو الذاتي والمعنوي، والعظمة الذاتية والمعنوية، والجمال والجلال الذاتي والمعنوي. ومن هذا قول المسلمين: «الله أكبر»، فإنه أفعل تفضيل يقتضي كونه أكبرَ من كل شيءٍ بجميع الاعتبارات. وبهذا فسَّره النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه أحمد (2) والترمذي (3) وابن حِبَّان في «صحيحه» (4) من حديث عديِّ بن حاتم في قصة _________ (1) روي عن ابن عباس: {ذُو مِرَّةٍ} أي: ذو منظرٍ حسنٍ. وقال قتادة: ذو خَلْقٍ طويلٍ حسنٍ. والمشهور عند المفسرين أن المرة: القوة. ينظر: «تفسير الطبري» (22/ 11) و «الكشف والبيان» للثعلبي (25/ 77 - 79) و «التفسير البسيط» للواحدي (21/ 199). (2) «المسند» (19691). (3) «الجامع» (3095) وقال الترمذي: حديث حسن غريب. (4) «الإحسان» (6679). والحديث أخرجه الحاكم في «المستدرك» (4/ 564). وأصل الحديث في البخاري (3595) دون موضع الشاهد منه.
(2/958)
إسلامه حين قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يَا عَدِيُّ مَا يُفِرُّكَ (1)؟ أَيُفِرُّكَ أَنْ يُقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟ فَهَلْ تَعْلَمُ مِنْ إِلَهٍ سِوَى (2) اللهِ؟» ثم قال: «يَا عَدِيُّ مَا يُفِرُّكَ؟ أَيُفِرُّكَ أَنْ يُقَالَ: اللهُ أَكْبَرُ؟ فَهَلْ تَعْلَمُ شَيْئًا أَكْبَرَ مِنَ اللهِ؟». فالله سبحانه أكبرُ من كل شيءٍ ذاتًا وقدرًا ومعنى وعزةً وجلالةً، فهو أكبر من كل شيءٍ في ذاته وصفاته وأفعاله، كما هو فوق كل شيءٍ، وعالٍ على كل شيءٍ، وأعظم من كل شيءٍ، وأجلُّ من كل شيءٍ في ذاته وصفاته وأفعاله. يوضحه: الوجه التسعون بعد المائة: أن تعطيل ذاته المقدسة عن وصفها بذلك وجعل ذلك مجردَ أمرٍ (3) معنويٍّ يقتضي سلبَ ذلك عنه بالكلية، ولا سيما عند الجهمية النُّفاة لصفاته وأفعاله، فإنه عندهم لا تقوم به صفةٌ ثبوتيةٌ يستحق بها أن يكون أعظمَ من غيره وأكبرَ منه وفوقه وأعلى منه؛ فإنهم لا يجعلون ذلك عائدًا إلى ذاته، لأنه يلزم منه عندهم التجسيم. فليست ذاته عندهم موصوفةً بكبرٍ ولا عظمةٍ ولا علوٍّ ولا فوقية، وليس له عندهم صفةٌ ثبوتيةٌ تكون عظمته وفوقيته وعلوه لأجلها، فإن إثبات الصِّفات عندهم يستلزم التركيب. ولا له فعل يقوم به يكون به أعظم وأكبر من غيره، فإن ذلك يستلزم عندهم حلول الحوادث وقيامها به. فلا حقيقة عندهم لكونه أكبر وأعظم وأجل من غيره إلَّا ما يرجع إلى مجرد السلب والنفي والعدم، مثل كونه لا داخلَ العالم، ولا خارجَه، ولا تَحُلُّه _________ (1) «ح»: «يضرك». في المواضع الأربعة. (2) «ح»: «سواي». (3) «ح»: «مجردا من».
(2/959)
الحوادث، ولا يفعل (1) لحِكْمةٍ ولا مصلحةٍ، ولا له وجهٌ ولا يدان، ولا ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، ولا هو مستوٍ على عرشه، ولا يأتي يوم القيامة لفصل القضاء، ولا يراه المؤمنون في الجنة ولا يكلمهم، ولا كلَّم موسى في الدنيا ولا أحدًا من الخلق، ولا يشار إليه بالأصابع، ولا يُرفع إليه الكلم الطيب، ولا تعرُج الملائكة والروح إليه، ولا عرجَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه، ولا دنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى، ونحو ذلك من النفي والسلب الذي يفرون عنه بنفي التشبيه والتجسيم والتركيب، فيوهمون السامع أن إثبات ذلك تشبيهٌ وتجسيمٌ، ثم ينفونه عنه، وحقيقة ذلك نفي ذاته وصفاته وأفعاله. فهذا حقيقة كونه أكبرَ من كل شيءٍ وأعظمَ منه وفوقه وعاليًا عليه عندهم. وحقيقة ذلك نفيُ هذا عنه، وجعلُ كل شيءٍ أكبرَ منه. لأن ما لا ذاتَ له ولا صفةَ ولا فعلَ فكل ذات لها صفة أكبرُ منه، فالقوم كبَّروه وعظَّموه ونزَّهوه في الحقيقة عن وجوده فضلًا عن صفات كماله وأفعاله! يوضحه: الوجه الحادي والتسعون بعد المائة: وهو أنه قد عُلم بالاضطرار أن الله سبحانه له ذات مخصوصة، يقال: ذات الله، كما قال خُبَيْب (2): وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ ... يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّع ولفظ «ذات» في الأصل تأنيث «ذو» أي (3): ذات كذا وذو كذا. والذي _________ (1) «ح»: «يفعله». (2) هو خبيب بن عدي - رضي الله عنه -، قاله لما خرجوا به من الحرم ليقتلوه، أخرجه البخاري (3045) في قصة طويلة. (3) «ح»: «رأي».
(2/960)
يضاف إليه «ذو» نوعان: وصفٌ، ويضاف إليه إضافة الموصوف إلى صفته، كقوله تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلرَّزَّاقُ ذُو اُلْقُوَّةِ اِلْمَتِينُ} [الذاريات: 58] وقوله: {إِنَّ اَللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى اَلنَّاسِ} [يونس: 60]، فالفضل وصفُه وفِعله. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في ركوعه وسجوده: «سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ» (1). والثاني: إضافته إلى مخلوقٍ منفصلٍ، كقوله تعالى: {وَهْوَ اَلْغَفُورُ اُلْوَدُودُ (14) ذُو اُلْعَرْشِ اِلْمَجِيدُ} [البروج: 14 - 15]. فإذا أطلقوا لفظ الذات من غير تقييدها (2) بإضافةٍ إلى معين دلت على ماهية لها صفات تقوم بها، فكأنهم قالوا: صاحبة الصِّفات المخصوصة القائمة بتلك الماهية، فدلوا بلفظ الذات على الحقيقة وصفاتها القائمة بها؛ ومحالٌ أن يصح وجود ذات لا صفات لها ولا قدرَ، وإنْ فرَضَها الذهن فرضًا لا وجود لمتعلِّقه في الخارج إلَّا كما يفرض سائر الممتنعات. فالذات هي قابلة للصفات والموصوفة بالصفات القائمة بها. ومنه: «ذات الصدور» أي: ما فيها من خيرٍ وشرٍّ. وقال ابن الأنباري (3): «معناه عليمٌ بحقيقة القلوب من المضمرات. فتأنيث «ذات» لهذا المعنى، _________ (1) أخرجه أحمد (24613) وأبو داود (873) والنسائي (1049) عن عوف بن مالك - رضي الله عنه -. وصحَّح إسناده النووي في «الخلاصة» (1254) وابن حجر في «نتائج الأفكار» (2/ 72). (2) «ح»: «تقيدها». (3) نقله عنه الأزهري في «تهذيب اللغة» (15/ 34) والواحدي في «التفسير البسيط» (5/ 552 - 553).
(2/961)
كما قال: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ اِلشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال: 7] فأنَّث لمعنى الطائفة، كما يقال: لقيتُه ذات [يوم] (1)، فيؤنّث؛ لأن قصدهم: لقيتُه مرةً في يوم». وقال الواحدي (2): ««ذات الصدور» يحتمل معنيين: أحدهما: أن يكون نفس الصدور؛ لأن ذات الشيء نفسه وعينه. يقال: فهمتُ ذات كلامك، كما يقال: فهمتُ [نفس] (3) كلامك. قال [الشاعر] (4): نَطُوفُ بِذَاتِ الْبَيْتِ وَالْخَيْرُ ظَاهِرُ (5) وقال: «وفيه معنى التأكيد، فيكون المعنى: والله عليمٌ بالصدور. والثاني: أن «ذات الصدور» الأشياءُ التي في الصدور، وهي الأسرار والضمائر، وهي ذات الصدور؛ لأنها فيها، تحلُّها وتصاحبها، وصاحب الشيء: ذُوه، وصاحبته: ذاته». قلت: أكثر استعمالهم ذات الشيء بمعنى السبيل والطريق المُوصِلة _________ (1) سقط من «ح». وأثبته من «التفسير البسيط». (2) «التفسير البسيط» (6/ 99 - 100). (3) من «التفسير البسيط». (4) من «التفسير البسيط». وهو عمرو بن الحارث بن مضاض، والمذكور عجز البيت، وصدره في «سيرة ابن هشام» (1/ 115): وكنَّا ولاةَ البيتِ من بعد نابت والرواية فيها: «بذاك البيت». وكذا في «شرح القصائد السبع» لابن الأنباري (ص 254). وينظر «الأغاني» (15/ 17). (5) «ح»: «والحر طاهر». والمثبت من «التفسير البسيط».
(2/962)
إليه، كقول خُبَيب: «وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ». وكذلك الجَنْب، كقوله [ق 113 أ]: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اِللَّهِ} [الزمر: 53]، فليست الذات والجنب هنا هي نفس الحقيقة. ومنه قوله: {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اِللَّهِ} [العنكبوت: 9] وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ، وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ» (1). وأمَّا استعمالهم ذات الشيء بمعنى عينه ونفسه فلا يكاد يُظفَر به. وكذلك قوله: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ اِلصُّدُورِ} [الأنفال: 44]، ليس المراد به عليم بمجرد الصدور، فإن هذا ليس فيه (2) كبيرُ أمرٍ، وهو بمنزلة أن يقال: عليمٌ بالرؤوس والظهور والأيدي والأرجل. وإنما المراد به: عليمٌ بما تُضمِره الصدور من خيرٍ وشرٍّ، أي: بالأسرار التي في الصدور وصاحبة الصدور، فأضافها إليها بلفظ يعمُّ جميع ما في الصدور من خيرٍ وشرٍّ. وأمَّا استعمال لفظ «ذات» في حقيقة الشيء الخارجية فأظنه استعمالًا مولَّدًا، وهو من العربية المولَّدة لا العربية العَرْباء. ولما ولَّدوا هذا الاستعمال أدخلوا عليها الألف واللام ـ وهو من العربية المولدة أيضًا ـ فقالوا: الذات، والعرب لا تستعملها (3) إلَّا مضافةً. وقد تنازع فيها أهل العربية، فكثيرٌ منهم يُغلِّط أصحابَ هذا الاستعمال، ويقول: هو خلاف لغة _________ (1) أخرجه الإمام أحمد (12395) والترمذي (2472) وابن ماجه (151) وابن حبان (6560) والضياء في «المختارة» (5/ 30) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (2) «ح»: «بمجرد». (3) «ح»: «لاستعمالها».
(2/963)
العرب. وبعضهم يجعله قياس اللغة، وإن لم ينطقوا به. والصواب أنه من العربية المولدة، كما قالوا: الكل والبعض والكافة. والعرب لا تستعملها إلَّا مضافة. وقريبٌ من هذا لفظ الماهية والكمية والكيفية والأينية (1) ونحوها، فإن العرب لم تنطق بها، فهي عربية مولَّدة (2). ويُشبه هذا قولهم: الدمعزة والطلبقة، لقولهم: دام عزُّك، وطال بقاؤك. وهذا لم ينطق به العرب، وإن نطقت بنظيره كالبسملة والحوقلة والحيعلة. ولمَّا استعملوا الذات بمعنى النفس، قالوا: جاء بذاته. ومنه قول أهل السُّنَّة: استوى على عرشه بذاته، أي ذاته فوق العرش عالية عليه. وقد غلَّط بعضهم مَن قال: جاء بذاته وجاء بنفسه، وقال: الصواب جاء زيد ذاته ونفسه. ونازعهم في ذلك آخرون، وجوَّزوا هذا الاستعمال. والمقصود أن إثبات الذات ونفيَ قدْرها وصفاتها جمعٌ بين النقيضين، فإنه إثبات للشيء ونفيٌ لما يستلزم نفيه، فإن أَبْيَنَ لوازم الذات تمييزُها بحقيقتها وماهيتها عن غيرها ومباينتها له، ولو بالتعيين. فمن أنكر مباينة الربِّ لخلقه وصفاته التي وصف بها نفسه فقد جحد ذاته وأنكرها، وإن أقرَّ بها لفظًا. الوجه الثاني والتسعون بعد المائة: أن كل مَن عارض الوحيَ بالرأي والعقل فهو مِن خصماء الله؛ لأنه قد خاصم الله في الوحي الذي أنزله على _________ (1) «ح»: «الآنية». (2) «ح»: «متولدة».
(2/964)
رسوله، واحتجَّ على بطلانه. ويكفي العبد خذلانًا وجهلًا وعمًى أن يكون خصمَ ربِّه تبارك وتعالى، ولهذا أخبر تعالى عن هؤلاء المعارضين للكتاب بعقولهم بذلك، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ اَلْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} [يس: 76]. ثم ذكَرَ سبحانه مخاصمته لربه فيما ضربه من المثل، قال: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِ اِلْعِظَامَ وَهْيَ رَمِيمٌ} [يس: 77]. وفي «الصحيح» (1) قال: كان المشركون يُخاصِمون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القدَر، فنزلت: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي اِلنّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 48 - 49]. فهؤلاء إنما كانت خصومتهم خصومةَ معارضةٍ للوحي بعقولهم وآرائهم، كخصومة مَن خاصم في المعاد، وكذلك مجادلتهم في الله وآياته كذا كانت جدالَ معارضةٍ للوحي بالرأي والعقل، فهؤلاء خُصماء الله حقيقة. وفي الأثر: «يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَلَا لِيَقُمْ خُصَمَاءُ اللهِ. فَيُذْهَبُ بِهِمْ إِلَى النَّارِ» (2). _________ (1) (2656) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (2) أخرج إسحاق بن راهويه وأبو يعلى في «مسنديهما» ـ كما في «إتحاف الخيرة» (214) و «المطالب العالية» (2979) ـ وابن أبي عاصم في «السنة» (336) والطبراني في «الأوسط» (6510) عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا كان يومُ القيامة نادى منادٍ: ألَا لِيقُمْ خصماءُ الله. وهم القَدَرية». وقال أبو حاتم الرازي: «هذا حديث منكر، وحبيب بن عمر ضعيف الحديث مجهول، لم يرو عنه غير بقية». كما في «العلل» لابنه (2810) وقال الدارقطني في «العلل» (115): «هو حديث مضطرب الإسناد». ثم قال: «والحديث غير ثابت». وقال الهيثمي في «المجمع» (7/ 206): «رواه الطبراني في «الأوسط» وفيه محمد بن الفضل بن عطية وهو متروك، ورواه أبو يعلى في «الكبير» باختصار من رواية بقية بن الوليد عن حبيب بن عمرو ـ كذا ـ وبقية مدلس، وحبيب مجهول».
(2/965)
فخُصماء الله حقيقةً هم المعارضون لكِتابه، وما بعث به رسلَه، بعقولهم وآرائهم. وإن لم يكن هؤلاء خصماءَ الله فمن هم خصماؤه غيرهم؟! وقد حكم اللهُ سبحانه بين خصمائه وبين مَن خاصمهم فيه أحسن الحكومة وأعدلها، وهي حكومة يحمده عليها الفريقان، كما يحمده عليها أهل السموات والأرض، فقال تعالى: {* هَذَانِ خَصْمَانِ اِخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَاَلَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمِ اِلْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَاَلْجُلُودُ وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (19) كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ اَلْحَرِيقِ} [الحج: 19 - 20] [ق 114 أ]، ثم حَكَم لخصومهم الذين خاصموا به وله، فقال: {إِنَّ اَللَّهَ يُدْخِلُ اُلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا اُلصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤِا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (21) وَهُدُوا إِلَى اَلطَّيِّبِ مِنَ اَلْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ اِلْحَمِيدِ} [الحج: 21 - 22]. ولا يستوي مَن خاصم بكتاب الله وحاكم إليه وعوَّل فيما يُثبِته لله وينفيه عليه، ومَن (1) خاصم كتابَ الله، وحاكم إلى منطق يونان، وكلام أرسطو وابن سينا والجهم بن صفوان وشيعتِهم، وعوَّل فيما يُثبِته وينفيه على أقوالهم وآرائهم. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في استفتاح صلاة الليل: «اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ». _________ (1) «ح»: «كمن».
(2/966)
فالرُّسل إنما خاصموا قومهم بالوحي، وإليه حاكموهم، به كانت لهم عليهم الحُجة البالغة. وكيف يُعارض مَن يقول: قال لي ربي كذا وكذا، بقول مَن يقول: قال لي عقلي أو قلبي أو قال فلان؟ فهذا هو المخصوم، الداحضة حُجته في الدنيا والآخرة، الذي لا يمكنه تنفيذ ضلاله وباطله إلَّا بالعقوبة والتهديد والوعيد، أو بالرغبة العاجلة في الدنيا وزخرفها،؛ كما فعل المنافقون بنو عبيدٍ (1)، حين أظهروا دعوتهم، فإنهم استولوا على النفوس الصغيرة الجاهلة المُبطِلة بالرغبة والرهبة العاجلة مع نوع شُبهةٍ، وإذا انضاف الهوى إلى الشُّبهة ترحَّلَ العقلُ والإيمان، وتمكن الهوى والشيطان، و «النفس مُوكَلة بحب العاجل» (2) بدون شبهة تدعوها إليه، فكيف إذا قويت الشبهة وأظلم ليلها، وغابت شمس الهُدى والإيمان، وحِيلَ بين القلوب وبين حقائق القرآن بتلك الطواغيت التي عزلوه بها عن إفادة الإيقان. يوضحه: الوجه الثالث والتسعون بعد المائة: أن هؤلاء النُّفاةَ المعطِّلة إذا غُلبوا مع _________ (1) قال شيخ الإسلام: «كانوا يقولون إنهم فاطميون، وبنوا القاهرة، وبقوا ملوكًا يدَّعون أنهم علويون نحو مائتي سنة، وغلبوا على نصف مملكة الإسلام حتى غلبوا في بعض الأوقات على بغداد، وكانوا كما قال فيهم أبو حامد الغزالي: «ظاهر مذهبهم الرفض، وباطنه الكفر المحض». وقد صنَّف القاضي أبو بكر بن الطيب كتابه الذي سمَّاه «كشف الأسرار وهتك الأستار» في كشف أحوالهم، وكذلك ما شاء الله من علماء المسلمين». «مجموع الفتاوى» (27/ 174). (2) من الأمثال: «النفس مولعة بحب العاجل». وهو عجز بيت لجرير. ينظر «فصل المقال» للبكري (ص 346) و «مجمع الأمثال» للميداني (2/ 333) و «ديوان جرير» (2/ 737).
(2/967)
أهل الإثبات، وقامت حُجتهم عليهم؛ عدلوا إلى عقوبتهم وإلزامهم بالأخذ بأقوالهم ومذاهبهم بالضرب والحبس والقتل، وتارةً يأخذونهم بالرغبة في الدنيا ومناصبها وزينتها، فلا تُقبَل أقوالهم إلَّا برغبةٍ أو رهبةٍ، والناس إلَّا القليل منهم عبيد رغبةٍ ورهبةٍ. وبهذه الطريقة أخذ إمامُ المعطِّلة فرعونُ قومه حين قال للسحرة لمَّا ظهرت حُجة موسى عليه، وصحَّت دعوته، وصحَّت نبوته، وأُلقِيَ السحرة ساجدين إيمانًا بالله وتصديقًا برسوله: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ اِلنَّخْلِ} [طه: 70]. ولمَّا تمكن الإيمانُ من قلوبهم علموا أن عقوبة الدنيا أسهل من عقوبة الآخرة وأقل بقاءً، وأن ما يحصل لهم في الآخرة من ثواب الإيمان أعظمُ وأنفع وأكثر بقاءً. فهذه العقول التي قدَّموا بها خيرَ الآخرة على خير الدنيا، وعقوبةَ الدنيا وألمَها المنقضي على عقوبة الآخرة وألمِها الدائم، هي العقول التي أثبتوا بها صانع العالم وصفاته وعلوه على عرشه، وتكليمه لموسى، وغضبه ورضاه ومحبته ورحمته وسمعه وبصره ومجيئه وإتيانه وأفعاله. وأمَّا إمام المعطِّلة النُّفاة وقومه فإنهم بالعقول ـ التي قدَّموا بها عاجلَ الدنيا وزينتَها وزُخرفَها على آجل الآخرة، وباعوا بها الذهب الباقي بالخزف الفاني، وآثروا بها خُسران الدنيا والآخرة على العبودية والانقياد لموسى والإيمان بالله وحده ـ هي العقول التي (1) نفوا بها مباينةَ الله لخَلقه، واستواءَه على عرشه، وتكليمَه لموسى، ونفوا بها صفاتِ كماله من السمع والبصر والقدرة والحياة والإرادة، بل نفى بها شيخُهم وإمامُهم نفس الذات، فقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]. فهذه العقول التي دلتهم في _________ (1) كذا والسياق غير مترابط، ولعل ذلك نشأ من طول الجملة الاعتراضية.
(2/968)
النفي والتعطيل هي تلك العقول التي آثَروا بها الدنيا على الآخرة، ففاتتهم الدنيا والآخرة، بل آثروا بها العقوبة العاجلة وأسبابها على العافية والنعمة، فمَن الذي يتخير بعد ذلك تقديم ما حكمت به هذه العقولُ السخيفة [ق 114 ب] من التعطيل والنفي على ما جاءت به الرسل من الإثبات المفصل؟! والمقصود أن هؤلاء إنما يأخذون الناس بالرغبة والرهبة، لا بالحُجة والبيان. ولهذا لمَّا علم إمامهم فرعون أنه لا يقاوم بها موسى عدل معه إلى التوعد بالسجن، فقال: {لَئِنِ اِتَّخَذتَّ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ اَلْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 28]. وكذلك فَعَل أصحاب الأخدود مع المؤمنين (1)، وكان ذنبهم عند ربهم أن آمنوا بالله وصفاته ورسله وكُتبه ولقائه. وكذلك فعلت الجهمية بأولياء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه في أُمته أهل السُّنَّة والحديث من [القتل] (2) والضرب والحبس، ما فعلوه بأحمد بن حنبل وأمثاله. وكان ذنبهم عند ربهم أن أثبتوا لله صفاتِ كماله ونعوتَ جلاله، ووصفوه بما وصف به نفسه وبما وصفه رسولُه من غير تجاوز ولا تقصير. ولمَّا لم يقم لهم عليهم حُجة نقلية ولا عقلية ـ إذ من (3) المحال أن تقوم حُجةٌ صحيحةٌ على نقيض ما أخبرت به الرسل عن الله ـ عدَلوا معهم إلى العقوبة، وتوصلوا بالتدليس والتلبيس على أولياء الأمر والجُهَّال (4)، فأوقعوا في نفوسهم أن هؤلاء مُشبِّهةٌ مُجسِّمةٌ. _________ (1) أخرج مسلم (3005) عن صهيب الرومي - رضي الله عنه - قصتهم مطولة. (2) «ح»: «الثقل». تحريف. (3) «ح»: «أدنى». ولعل المثبت هو الصواب. (4) كذا في «ح»، ولعل الصواب «الجهال» بغير واو.
(2/969)
و {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اَللَّهُ} [المائدة: 66] {وَيَأْبَى اَللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ اَلْكَافِرُونَ} [التوبة: 32]. الوجه الرابع والتسعون بعد المائة: أن هؤلاء المعارضين للوحي بآرائهم وعقولهم في الأصل صِنفان: صِنفٌ مباينون للرسل، محادُّون لهم، مكذِّبون لهم في أصل الرسالة، كالفلاسفة الصابئين والمجوس وعباد الأوثان والسحرة وأتباعهم. وصِنفٌ منتسبون إلى الرُّسل في الأصل غير مكذِّبين لهم في أصل الرسالة، وهم الجهمية والمعطلة ومَن سلك سبيلهم ووافقهم على بعض باطلهم وخالَفهم في بعضه. وقد تقدَّم أن الصنف الأول يستطيلون على الصنف الثاني بما وافقوهم فيه من التعطيل، ويجرُّونهم به إلى موافقتهم في القدر الذي خالفوهم فيه. والجهمية المُغْل يستطيلون على الجهمية المخانيث (1) بما وافقوهم فيه من النفي، ويجرُّونهم به إلى موافقتهم في القدر الذي خالفوهم فيه. وهؤلاء المخانيث يستطيلون على أهل السُّنَّة والحديث (2) أيضًا بالقدر الذي وافقوهم فيه، ويدعونهم به إلى موافقتهم في الباقي. فلم يستطل المبطِل على المُحِقِّ من حيث خالفه، وإنما استطال عليه من حيث وافقه، فما أُصيبَ المُحقُّ إلَّا بطاعته للمبطِل في بعض أمره. وأصول هؤلاء يكرهون ما أنزل الله، ممَّا هو بخلاف عقولهم وآرائهم _________ (1) أي: المعتزلة. ينظر: «مجموع الفتاوى» (8/ 227، 14/ 348) (2) بعده في «ح»: «في». وهي زائدة.
(2/970)
وقواعدهم، فمن أطاعهم في بعض أمرهم كان من الذين قال الله عز وجل فيهم: {إِنَّ اَلَّذِينَ اَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ اُلْهُدَى اَلشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأُمْلِيَ لَهُمْ (26) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اَللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ اِلْأَمْرِ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ أَسْرَارَهُمْ} [محمد: 26 - 27]. ولهذا تجد هؤلاء المبطِلين إنما يصولون على مَن وافقهم في بعض باطلهم، فيعلِّقون له برهانًا يطالبونه. وأمَّا أتباع الرسل المصدِّقون لهم في كل ما جاؤوا به المُثبِتون لحقائقه ـ لست أعني المُقرِّين بمجرد ألفاظه مع اعتقادهم فيها التخييل أوالتحريف والتأويل أو التجهيل ـ فليس للمبطِلين عليهم سبيلٌ البتةَ، لكن بالافتراء (1) والتلبيس والكذب والألقاب الذين هم أحقُّ بها وأهلها دونهم، وما رتبوا على ذلك من الأذى الذي يبلغونه منهم، وذلك ممَّا يحقق ميراثهم من إمامهم ومتبوعهم الذي أُوذِيَ في الله هو وأصحابه، وقال له وَرَقَةُ بنُ نَوْفَل: «لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ» (2). فكل مَن دعا إلى نفس ما جاء به الرسولُ فهو من أتباعه، فلا بد أن يناله من الأذى من أتباع الشيطان بحسَب حاله وحالهم، والله المستعان. والمقصود أن المبطِلين لا سبيلَ لهم على أتباع الرسول البتةَ. قال تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اَللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 140]. قيل: بالحُجة والبرهان، فإن حُجتهم داحضة عند ربهم. وقيل: هذا في الآخرة، وأمَّا في الدنيا فقد يتسلطون عليهم بالضرر لهم والأذى. _________ (1) «ح»: «بالإقراء». ولعل المثبت هو الصواب. (2) أخرجه البخاري (3) ومسلم (160) عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -.
(2/971)
وقيل: لا يجعل لهم عليهم سبيلًا مستقرةً، بل وإن نُصروا عليهم في وقتٍ فإن الدائرة تكون عليهم، ويستقر النصر لأتباع الرسول. وقيل: بل الآية على ظاهرها وعمومها، ولا إشكال فيها بحمد الله، فإن الله سبحانه ضَمِنَ ألَّا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلًا، فحيث كانت لهم [ق 115 أ] سبيلٌ ما عليهم فهم الذين جعلوها بتسببهم ترْكَ بعض ما أقرُّوا به، أو ارتكاب بعض ما نُهوا عنه. فهم جعلوا لهم السبيل عليهم بخروجهم عن طاعة الله ورسوله فيما أوجب تسلُّط عدوهم عليهم من هذه الثغرة التي أخلوها (1). كما أخلى الصحابةُ يوم أُحدٍ الثغرة التي أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلزومها وحفظها، فوجد العدوُّ منها طريقًا إليهم، فدخلوا منها. قال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اَللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165]. فذَكَر السبب الذي أُصيبوا به، وذَكَر القدرة التي هي مناط الجزاء، فذَكَر عدله فيهم بما ارتكبوه من السبب، وقدرته عليهم بما نالهم به من المكروه. وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 28]. وفي الحديث الصحيح الإلهي: «يَا عِبَادِي، إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا؛ فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ» (2). _________ (1) وهو الذي رجحه المصنف في «إغاثة اللهفان» (1/ 174، 2/ 927). (2) أخرجه مسلم (2577) عن أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه -.
(2/972)
الوجه الخامس والتسعون بعد المائة: أنه كيف يكون النفاة المعطلة من الجهمية ومَن تبعهم أولى بالصواب والحقِّ في معرفة الله وأسمائه وصفاته وما يجب له ويمتنع عليه، وشهداءُ الله في أرضه من جميع أقطار الأرض يشهدون عليهم بالضلالة والحيرة والكذب على الله ورسوله وكتابه، ويرمونهم بالعظائم، ويشهدون عليهم بالكفر والإلحاد في أسماء الله وصفاته، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، فَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ بخَيْرٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ بِشَرٍّ وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ» (1). فكيف إذا كان الشهداء على هؤلاء قد شَهِدَ لهم بأنهم أولو العلم وعدَّلهم مَن جعل الله شهيدًا عليهم، وهو رسوله صلوات الله وسلامه عليه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - مُعدِّلًا لهؤلاء الشهود: «يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ» (2). فاسمع الآن بعض شهادات هؤلاء العدول على أهل النفي والتعطيل: قال إمام أهل السُّنَّة والحديث محمدُ بن إسماعيل البخاري في كتاب «خلق الأفعال» (3): [وقال أحمد بن الحسن: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سليم القاري] (4) سمعت سفيان الثوري قال: قال لي حماد بن أبي سليمان: _________ (1) أخرجه البخاري (1367) ومسلم (949) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -. (2) تقدم (ص 926 - 927) تخريجه. (3) (برقم 2). (4) «ح»: «حدثنا أبو نعيم سليمان الفارسي». وفيه سقط وتحريف، والمثبت من «م» (ق 212 أ) و «خلق أفعال العباد».
(2/973)
«أَبلِغْ أبا فلان المشركَ أني بريءٌ مِن دِينِه». وكان يقول: «إن القرآنَ مَخلوقٌ». وذكَرَ عن خالد بن عبد الله القسري أنه خطبهم بواسطَ في يوم أضحى، وقال: ارجعوا فضَحُّوا، تقبل اللهُ ضحاياكم، فإني مضحٍّ بالجعد بن درهم، فإنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليمًا، ولم يتخذ إبراهيم خليلًا، تعالى الله عمَّا يقول الجعد علوًّا كبيرًا. ثم نزل فذبحه (1). أخبرنا محمد بن عبد الله أبو جعفر البغدادي، قال: سمعت أبا زكريا يحيى بن يوسف، قال: كنت عند عبد الله بن إدريس، فجاء رجل فقال: يا أبا محمد، ما تقول في قوم يقولون: القرآن مخلوق؟ قال: أمِن اليهودِ؟ قال: لا. قال: أفمِن النصارى؟ قال: لا. قال: أفمِن المجوس؟ قال: لا. قال: فمِمَّن؟ قال: من أهل التوحيد. قال: ليس هؤلاء من أهل التوحيد، هؤلاء الزنادقة، مَن زعم أن القرآن مخلوقٌ فقد زعم أن الله مخلوق. يقول الله عز وجل: {بِسْمِ اِللَّهِ اِلرَّحْمَنِ اِلرَّحِيمِ} فالله لا يكون مخلوقًا، والرحمن لا يكون مخلوقًا، والرحيم لا يكون مخلوقًا، فهذا أصل الزندقة؛ مَن قال هذا فعليه لعنةُ الله، لا تجالسوهم ولا تناكحوهم (2). قال البخاري (3): «وقال وهب بن جرير: «الجهمية زنادقةٌ، إنما يريدون أنه ليس على العرش استوى». قال البخاري (4): «وحلفَ يزيدُ بن هارون بالله الذي لا إله إلَّا هو مَن _________ (1) «خلق أفعال العباد» (3). وقد سبق (ص 693) تخريج هذا الأثر. (2) «خلق أفعال العباد» (5). (3) «خلق أفعال العباد» (6). (4) «خلق أفعال العباد» (7).
(2/974)
قال «القرآن مخلوق» زنديقٌ يُستتاب، فإن تاب وإلَّا قُتل». قال (1): «وقيل لأبي بكر بن عياش: إن قومًا ببغداد يقولون: إنه مخلوق. فقال: ويلك، مَن قال هذا؟ على مَن قال: «إن القرآن مخلوق» لعنةُ الله، وهو كافر زنديق، لا تجالسوهم». قال (2): وقال الثوري: «مَن قال: القرآن مخلوق، فهو كافر». وقال حماد بن زيد: القرآن كلام الله، نزل به جبريلُ، ما يحاولون إلَّا أنْ ليس في السماء إلهٌ» (3). قال (4): «وقال ابن مقاتل: سمعت ابن المبارك يقول: مَن قال: {إِنَّنِيَ أَنَا اَللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاَعْبُدْنِي} [طه: 13] مخلوقٌ فقد كفر، ولا ينبغي لمخلوقٍ أن يقول ذلك. وقال ابنُ المبارك (5): وَلَا أَقُولُ بِقَوْلِ الْجَهْمِ إِنَّ لَهُ ... قَوْلًا يُضَارِعُ أَهْلَ الشِّرْكِ أَحْيَانَا وَلَا أَقُولُ تَخَلَّى عَنْ بَرِيَّتِهِ (6) ... رَبُّ الْعِبَادِ وَوَلَّى الْأَمْرَ شَيْطَانَا مَا قَالَ فِرْعَوْنُ هَذَا فِي تَجَبُّرِهِ ... فِرْعَوْنُ مُوسَى وَلَا فِرْعَوْنُ هَامَانَا _________ (1) «خلق أفعال العباد» (8). (2) «خلق أفعال العباد» (9). (3) «خلق أفعال العباد» (10). (4) «خلق أفعال العباد» (11). (5) الأبيات في «خلق أفعال العباد» للبخاري (12). (6) «ح»: «ربقه». والمثبت من «خلق أفعال العباد».
(2/975)
[ق 115 ب] ومِن شِعره أيضًا فيه، ولم يذكره البخاري: عَجِبْتُ لِشَيْطَانٍ دَعَا النَّاسَ جَهْرَةً ... إِلَى النَّارِ وَاشْتُقَّ اسْمُهُ مِنْ جَهَنَّمِ (1) قال البخاري (2): «قال ابن المبارك: لا نقول كما قالت الجهمية: إنه في الأرض هاهنا. بل على العرش استوى. وقيل له: كيف نعرف ربَّنا؟ قال: فوق سمواته على عرشه. وقال (3) لرجلٍ منهم: أبَطْنُك خالٍ منه؟ فبُهت الآخرُ (4). وقال: مَن قال: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} مخلوق. فهو كافر. وإنَّا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية» (5). قال (6): «وقال سعيد بن عامر: لَلْجهميةُ شرٌّ قولًا من اليهود والنصارى. قد أجمعت اليهودُ والنصارى وأهلُ الأديان أن الله تبارك وتعالى على العرش، وقالوا هم (7): ليس على العرش». قال (8): وقال ضمرة [عن] (9) ابن شَوْذَبٍ: «ترك جهمٌ الصلاةَ أربعين _________ (1) البيت منسوب إلى ابن المبارك في «شرح أصول الاعتقاد» للالكائي (639). (2) «خلق أفعال العباد» (13). (3) بعده في «ح»: «رجل». وهي زيادة مفسدة للمعنى، فالقائل هو الإمام عبد الله بن المبارك، كما في «خلق أفعال العباد». (4) «خلق أفعال العباد» (15). (5) «خلق أفعال العباد» (16). (6) «خلق أفعال العباد» (18). (7) «ح»: «لهم». والمثبت من «خلق أفعال العباد». (8) «خلق أفعال العباد» (19). (9) سقط من «ح»، وأثبته من «خلق أفعال العباد». وضمرة هو ابن ربيعة الفلسطيني، وابن شوذب هو عبد الله بن شوذب الخراساني.
(2/976)
يومًا على وجه الشك، خاصمَه بعض السُّمَنية (1) فأقام أربعين يومًا لا يصلي». قال ضمرة: وقد رآه (2) ابنُ شَوْذَب. قال البخاري (3): «وقال عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشونُ: كلام جهم صفةٌ بلا معنى، بناءٌ بلا أساسٍ، ولم يُعَدَّ قط من أهل العلم». قال: «ولقد سُئل جهمٌ عن رجلٍ طلَّق امرأته قبل الدخول، فقال: عليها العِدَّة» (4). قال (5): وقال علي بن عاصم: «ما الذين قالوا: إن لله ولدًا، بأكفرَ مِن الذين قالوا: إن الله لا يتكلم. وقال: احذر من المَرِيسي وأصحابه، فإن كلامهم أبوجاد (6) الزنادقة، وأنا كلمتُ أستاذَهم جهمًا، فلم يُثبِت أن في السماء إلهًا». قال البخاري (7): «وكان إسماعيل بن أبي أُويس يُسميهم زنادقة _________ (1) السُّمَنية بضم السين وفتح الميم: فرقة من عبدة الأصنام تقول بالتناسخ، وتنكر وقوع العلم بالأخبار، ويُنكرون ما لا يُحَسُّ. «الصحاح» (5/ 2138) و «الفرق بين الفرق» (ص 270). وقد ذكر الإمام أحمد في «الرد على الجهمية» (ص 93 - 95) تفاصيل المناظرة بين جهم بن صفوان والسمنية. (2) يعني: رأى الجهم بن صفوان. وفي «ح»: «رواه». خطأ. (3) «خلق أفعال العباد» (20). (4) بعده في «خلق أفعال العباد»: «فخالف كتاب الله بجهله، وقال الله سبحانه: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49]». (5) «خلق أفعال العباد» (21 - 22). (6) تقدم (ص 887) التعليق عليه. (7) «خلق أفعال العباد» (23 - 24).
(2/977)
العراق. وقيل له: سمعت أحدًا يقول: القرآن مخلوق. فقال: هؤلاء الزنادقة، والله لقد فررتُ إلى اليمن حين تكلم أبو العباس (1) ببغداد بنحو هذا فرارًا من هذا الكلام». قال (2): «وقال علي بن الحسن: سمعت أبا مصعب يقول: كفرتِ الجهميةُ في غير موضع من كتاب الله (3). وقال: أبلغوا الجهمية أنهم كفارٌ، وأن نساءهم طَوالِقُ». قال (4): «وقال عفان: مَن قال: {قُلْ هُوَ اَللَّهُ أَحَدٌ} مخلوقٌ، فهو كافرٌ». قال (5): «وقال علي بن عبد الله: القرآن كلام الله، مَن قال: إنه مخلوق، فهو كافرٌ لا يُصلَّى خلفه». قال (6): «وقال وكيعٌ: مَن كذَّب بحديث إسماعيل عن قيسٍ عن جريرٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو جهميٌّ؛ فاحذروه». قلت: يريد حديث الرؤية. قال (7): «وقال أبو الوليد ـ هو الطيالسي ـ: من قَال: القرآن مخلوق، فهو كافرٌ. ومَن لم يعقد قلبه على أن القرآن ليس بمخلوقٍ فهو كافرٌ خارج عن الإسلام». _________ (1) في «خلق أفعال العباد»: «العباسي». وذكر محققه أن ما هنا في نسخة. (2) «خلق أفعال العباد» (25، 26). (3) ذكر في «خلق أفعال العباد» بعض هذه الآيات. (4) «خلق أفعال العباد» (30). (5) «خلق أفعال العباد» (31). (6) «خلق أفعال العباد» (32). (7) «خلق أفعال العباد» (33).
(2/978)
وقال أبو عبيد (1): «نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس، فما رأيت قومًا أضلَّ في كفرهم من الجهمية. وإني لأستجهل مَن لا يكفرهم إلَّا مَن لا يعرف كُفرَهم». قال (2): «وقال عبد الرحمن بن عفان: سمعت سفيان بن عُيينة يقول: وَيْحَكم! القرآن كلام الله. قد صحبت الناسَ وأدركتهم، هذا عمرو بن دينار وهذا ابن المنكدر حتى ذكر منصورًا والأعمش ومِسْعر بن كِدَام، فما نعرف (3) القرآن إلَّا كلام الله، فمن قال غير ذلك فعليه لعنة الله. ما أشبه هذا القول بقول النصارى! لا تجالسوهم ولا تسمعوا منهم». قال البخاري (4): وحدثني الحكم بن محمد الطبري ـ كتبتُ عنه بمكة ـ حدثنا سفيان بن عُيينة قال: أدركتُ مشيختنا منذ سبعين سنة ـ منهم عمرو بن دينار ـ يقولون: القرآن كلام الله ليس بمخلوق». قال (5): وقال الحُميدي: حدثنا سفيان، ثنا حُصَين، عن مسلم بن صبيح، عن شُتَيْر (6) بن شَكَل، عن عبد الله قال: «ما خلق اللهُ من أرضٍ _________ (1) في «خلق أفعال العباد»: «أبو عبد الله». (2) «خلق أفعال العباد» (35). (3) «ح»: «يعرف». والمثبت من «خلق أفعال العباد». (4) «خلق أفعال العباد» (1). (5) «خلق أفعال العباد» (38). (6) «ح»: «بشر». وهو تحريف، والمثبت من «خلق أفعال العباد». وشُتَير بضم الشين المعجمة بعدها تاء مفتوحة معجمة باثنتين من فوقها ثم ياء معجمة باثنتين من تحتها وآخره راء، كذا قيَّده الدارقطني في «المؤتلف والمختلف» (3/ 1261) وعبد الغني الأزدي في «المؤتلف والمختلف» (2/ 461) وابن ماكولا في «الإكمال» (4/ 378) وغيرهم.
(2/979)
ولا سماءٍ ولا جنةٍ ولا نارٍ أعظم من {اَللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ اَلْحَيُّ اُلْقَيُّومُ} [البقرة: 253]. قال سفيان: تفسيره أن كل شيءٍ مخلوقٌ، والقرآن ليس بمخلوقٍ، وكلامه أعظم مِن خلقه، لأنه إنما يقول للشيء: كن، فيكون. فلا يكون شيءٌ أعظمَ ممَّا يكون به الخلق، والقرآن كلام الله». قال (1): «وقال زهير السجستاني: سمعت سلَّام بن أبي مطيع يقول: الجهمية كفار». وقال جرير بن عبد الحميد (2): «جهمٌ كافر بالله العظيم» (3). قال (4): وقال وكيع: «[احذروا] (5) هؤلاء المرجئةَ، هؤلاء الجهميةَ، والجهميةُ كفارٌ، والمَرِيسي جهميٌّ، وعلَّمهم (6) كيف كفروا. قالوا (7): يكفيك المعرفة؛ وهذا كفرٌ. والمرجئة يقولون: الإيمان قولٌ بلا عملٍ؛ وهذا _________ (1) «خلق أفعال العباد» (39). (2) في «خلق أفعال العباد»: «وقال عبد الحميد». وقد روى هذا القول أبو داود في «مسائل الإمام أحمد» (1738) والخلال في «السنة» (1680) وغيرهما عن عبد الحميد الحماني. (3) «خلق أفعال العباد» (40). (4) «خلق أفعال العباد» (41). (5) سقط من «ح». وفي «خلق أفعال العباد»: «أحدثوا». والمثبت من «مجموع الفتاوى» (6/ 403). (6) في «خلق أفعال العباد»: «وعلمتم». وذكر محققه أن في نسخة كما هنا. (7) «ح»: «قال». والمثبت من «خلق أفعال العباد».
(2/980)
بدعةٌ. ومَن قال: القرآن مخلوقٌ، فهو كافرٌ بما أُنزل على محمدٍ، يُستتاب فإن تاب وإلَّا ضُربت عنقه». [ق 116 أ] وقال وكيعٌ: «على المَرِيسي لعنة الله، يهودي [هو] (1) أو نصراني؟ فقال له رجلٌ: كان أبوه أو جَدُّه يهوديًّا أو نصرانيًّا» (2). قال وكيعٌ: «وعلى أصحابه لعنة الله، القرآنُ كلام الله. وضرب وكيعٌ إحدى يديه على الأخرى، فقال: هو (3) ببغدادَ، يقال له المَرِيسي، يُستتاب، فإن تاب وإلَّا ضُربت عنقُه» (4). قال البخاري (5): وقال يزيد بن هارون: «لقد حرَّضتُ أهل بغداد على قتله جَهْدِي، ولقد أُخبرت من كلامه بشيءٍ وجدتُ وجعَه في صُلبي بعد ثلاثٍ». وقال علي بن عبد الله: «إنما كان غايته أن يُدخِل الناسَ في كفره» (6). وقال عُبيد الله بن عائشة: «لا يُصلَّى خلف مَن قال: القرآن مخلوق. ولا كرامة له» (7). وقال سليمان بن داود الهاشمي وسهل بن مزاحم: «مَن صلى خلف مَن _________ (1) من «خلق أفعال العباد». (2) «خلق أفعال العباد» (42). (3) في «خلق أفعال العباد»: «شيء». (4) «خلق أفعال العباد» (43). (5) «خلق أفعال العباد» (44). (6) «خلق أفعال العباد» (45). (7) «خلق أفعال العباد» (46).
(2/981)
يقول: القرآن مخلوق، أعاد الصلاة» (1). وقال ابن أبي الأسود: سمعتُ ابنَ مهدي يقول ليحيى بن سعيد: «لو أن جهميًّا بيني وبينه قرابة ما استحللت من ميراثه شيئًا» (2). وقال ابن مهدي: «لو رأيتُ رجلًا على الجسر، وبيدي سيفٌ، يقول: القرآن مخلوق، لَضربتُ عنقه» (3). وقال يزيد بن هارون: «المَرِيسي أضرُّ من ماني (4)». قال أبو عبد الله البخاري (5): «ما أبالي أصليتُ خلف الجهميِّ أو الرافضيِّ، أم صليتُ خلف اليهودي والنصراني، ولا يُسلَّم عليهم ولا يُعادون ولا يُناكَحون ولا يُشْهَدون (6) ولا تُؤكل ذبائحُهم». وقال عبد الرحمن بن مهدي: «هما ملتان: الجهمية والرافضة» (7). _________ (1) «خلق أفعال العباد» (47). (2) «خلق أفعال العباد» (48). (3) «خلق أفعال العباد» (49). (4) «ح»: «سمالي». والمثبت من «خلق أفعال العباد». والمراد ماني بن فاتك الذي ظهر بعد عيسى ابن مريم عليه السلام، وأحدث دِينًا بين المجوسية والنصرانية، وكان يقول بنبوة المسيح عليه السلام ولا يقول بنبوة موسى عليه السلام، وأتباعه يسمون المانوية. «الملل والنحل» للشهرستاني (1/ 290) «الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح» (2/ 350) «جامع المسائل» لابن تيمية (5/ 187). (5) «خلق أفعال العباد» (51). (6) أي: لا تُشهد جنائزهم. (7) «خلق أفعال العباد» (52).
(2/982)
قال شيخ الإسلام (1): «وهذا الكلام الذي قاله الإمام عبد الرحمن بن مهدي قد قاله غيره، وهو كلامٌ عظيمٌ، فإن هاتين الفرقتين هما أعظم الفرق فسادًا في الدين، وأصلهما من الزنادقة المنافقين، ليستا من ابتداع المتأولين مثل قول الخوارج والمرجئة والقدرية، فإن هذه الآراء ابتدعها قومٌ مسلمون بجهلهم، قصدوا بها طاعة الله، فوقعوا في معصيته، ولم يقصدوا بها مخالفة الرسولِ ولا محادته؛ بخلاف الرفض والتجهم فإن مبدأهما من قوم منافقين مكذِّبين لِمَا جاء به الرسول مبغضين له، لكن التبس أمر [كثيرٍ] (2) من ذلك على كثيرٍ من المسلمين ـ الذين ليسوا بمنافقين ولا زنادقة ـ فدخلوا في أشياء من الأقوال والأفعال التي ابتدعها الزنادقة والمنافقون، ولبَّسوا الحق بالباطل. وفي المسلمين سماعون للمنافقين كما قال الله تعالى: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47] أي: قابلون مستجيبون لهم. فإذا كان جِيلُ القرآن كان بينهم منافقون وفيهم سمَّاعون لهم، فما الظن بمن بعدهم؟! فلا يزال المنافقون في الأرض، ولا يزال في المؤمنين سمَّاعون لهم لجهلهم بحقيقة أمرهم وعدم معرفتهم بغَوْر كلامهم. وأمَّا الرفض فإن الذي ابتدعه زنديقٌ منافقٌ، وهو عبد الله بن سبأ الذي أظهر الإسلامَ وكان يُبطِن الكفر، وقصدُه فساد الإسلام. والتجهم مأخوذ في الأصل عن الصابئين والمشركين، [وهو] (3) أعظم من الرفض، ولهذا تأخر دخوله في الأُمة. _________ (1) لم أقف على هذا الكلام فيما عندي من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية. (2) «ح»: «كبيرهم». ولعل المثبت هو الصواب. (3) «ح»: «وهم».
(2/983)
فهاتان الملتان يُناقضان (1) أصلَيِ الإسلام، وهما شهادة أن لا إله إلَّا الله وشهادة أن محمدًا رسول الله. أمَّا التجهم فإنه نقضُ التوحيد، وإن سمَّى أصحابه أنفسهم موحدين. ولهذا كان السلف يُترجمون الردَّ على الجهمية بالتوحيد والرد على الزنادقة والجهمية، كما ترجم البخاري آخر كتاب «الجامع» بـ «كتاب التوحيد والرد على الجهمية والزنادقة» (2). وكذلك ابن خزيمة سمَّى كتابه «التوحيد» وهو في الرد على الجهمية. وأمَّا الرافضة فقدحُهم وطعنُهم في الأصل الثاني، وهو شهادة أن محمدًا رسول الله، وإن كانوا يُظهِرون موالاة أهل بيت الرسول ومحبتهم. قال طائفة من أهل العلم، منهم مالك بن أنس وغيرُه: هؤلاء قوم أرادوا الطعن في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يمكنهم ذلك، فطعنوا في الصحابة، ليقول القائل: رجلُ سَوْءٍ، كان له أصحاب سَوْءٍ، ولو كان رجلًا صالحًا لكان أصحابه صالحين. والرافضة المتقدمون لم يكونوا جهمية معطلة، وأمَّا المتأخرون منهم من حدود أواخر المائة الثالثة فضموا إلى بدعة الرفض التجهُّمَ والقدَر، فتغلَّظ أمرهم، وظهر منهم حينئذٍ القرامطة والباطنية. واشتهرت الزندقة الغليظة والنفاق الأعظم في أمرائهم وعلمائهم وعامتهم، وأخذوا مِن دِين المجوس والصابئة والمشركين ما خلطوه في الإسلام. وهم أعظم الطوائف نفورًا عن [ق 116 ب] سُنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحديثه وآثار أصحابه لمضادة ذلك لبدعتهم، كنفور الجهمية عن آيات الصِّفات وأخبارها». _________ (1) كذا في «ح»، والجادة «تناقضان». (2) في «صحيح البخاري» (9/ 114): «كتاب التوحيد». وزيادة: «والرد على الجهمية» في نسخة المستملي، وينظر «فتح الباري» لابن حجر (13/ 344).
(2/984)
قال البخاري (1): وقيل لأبي عُبيدٍ القاسم بن سلَّام: إن المَرِيسي سُئل عن ابتداء خَلْق الأشياء، وقولِ الله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [النحل: 40]، فقال: هذا كلامُ صِلةٍ. أي: هو مثل قوله: قالت السماء، وقال الجدار. يعني: أن الله لم يتكلم. قال أبو عبيد: أمَّا تشبيهه قول الله: {إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} بـ قالت السماء وقال الجدار ... وبيَّنَ بطلان قوله، ثم قال: ومَن قال هذا فليس شيءٌ من الكفر إلَّا وهو دونه، ومَن قال هذا قال على الله ما لم يقله اليهودُ والنصارى، ومذهبه التعطيل للخالق». قال البخاري (2): قال علي: وسمعت بشر بن المفضل وذكَر بعض الجهمية بالبصرة فقال: «هو كافر». وسُئل وكيع عن مثنى الأنماطي، فقال: «هو كافرٌ» (3). وقال عبد الله بن داود: «لو كان لي على مثنى الأنماطي سبيلٌ لنزعت لسانَه من قفاه. وكان جهميًّا» (4). وقال سليمان بن داود الهاشمي: «مَن قال: القرآن مخلوق، فهو كافرٌ» (5). قال (6): وقال الفضيل بن عياض: «إذا قال لك الجهمي: أنا أكفر بربٍّ _________ (1) «خلق أفعال العباد» (53 - 54). (2) «خلق أفعال العباد» (55). (3) «خلق أفعال العباد» (56). (4) «خلق أفعال العباد» (57). (5) «خلق أفعال العباد» (58). (6) «خلق أفعال العباد» (61).
(2/985)
يزول من مكانه، فقل: أنا أؤمن بربٍّ يفعل ما يشاء». قال (1): وقال ابن عُيينة ومعاذ بن معاذ وحجاج بن محمد ويزيد بن هارون وهاشم بن القاسم والربيع بن نافع الحلبي ومحمد بن يوسف وعاصم بن علي ويحيى بن يحيى وأهل العلم: «مَن قال: القرآن مخلوق، فهو كافر، ومَن زعم أن الله لم يكلم موسى فهو كافر». وقال محمد بن يوسف: «مَن قال: إن الله ليس على عرشه، فهو كافر» (2). قال (3): «وقيل لأحمد بن يونس: أدركتَ الناسَ، فهل سمعت أحدًا يقول: القرآن مخلوق؟ فقال: الشيطان تكلم بهذا، فمَن تكلم بهذا فهو جهميٌّ، والجهمي كافر». وذكر (4) عن وكيع قال: «لا تستخفوا بقولهم: القرآن مخلوقٌ، فإنه من شرِّ قولهم، إنما يذهبون إلى التعطيل». قال (5): وحدثني أبو جعفر، سمعت الحسن بن موسى (6) الأَشْيَب وذكَر الجهمية، فنال (7) منهم، ثم قال: «أُدخِلَ رأسٌ من رؤساء الزنادقة يقال _________ (1) «خلق أفعال العباد» (66). (2) «خلق أفعال العباد» (67). (3) «خلق أفعال العباد» (68). (4) «خلق أفعال العباد» (69). (5) «خلق أفعال العباد» (70). (6) «ح»: «يونس». والمثبت من «خلق أفعال العباد». والحسن بن موسى الأشيب ترجمته في «تهذيب الكمال» (7) «ح»: «فقال». والمثبت من «خلق أفعال العباد».
(2/986)
له شمعلةُ على المهدي، فقال: دُلَّني على أصحابك. فقال: أصحابي أكثر من ذلك. فقال دلني عليهم. فقال: صِنفان ممَّن ينتحل القبلة: الجهمية والقدرية، الجهمي إذا غلا قال: ليس ثَمَّ شيءٌ، وأشار الأشيب إلى السماء؛ والقَدَري إذا غلا قال: هما اثنان: خالقُ خيرٍ وخالقُ شرٍّ. فضرب عنقه وصَلَبه». قال (1): وحدثني أبو جعفر، حدثني يحيى بن أيوب، قال: سمعت أبا نعيم شجاعًا البلخي يقول: «كان رجلٌ من أهل مرو صديقًا لجهم، ثم قطَعَه وجفاه، فقيل له: لِمَ جفوتَه؟ قال: جاء منه ما لا يُحتمَل، قرأتُ يومًا آية كذا وكذا ـ نسيها يحيى ـ فقال: ما كان أظرفَ محمدًا حين قالها. واحتملتها، ثم قرأ سورة طه، فلما بلغ {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4] قال: أما والله لو وجدت سبيلًا إلى حَكِّها لحككتُها من المصحف. فاحتملتها، ثم قرأ سورة القصص فلما انتهى إلى ذكر موسى قال: ما هذا؟ ذكَرَ قصة في موضع فلم يُتمَّها، ثم ذكرها هنا فلم يتمها. ثم رمى المصحف مِن حَجْره برجليه، فوثبتُ عليه». حدثني أبو جعفر، سمعت يحيى بن أيوب قال: «كنا ذات يوم عند مروان بن معاوية الفزاري، فسأله رجل عن حديث الرؤية، فلم يحدثه، فقال: إن لم تحدثني به فأنت جهمي. فقال مروان: يقول لي: جهمي، وجهمٌ مكثَ أربعين ليلة لا يعرف ربه (2). حدثني أبو جعفر، حدثني هارون بن معروف ويحيى بن أيوب قالا: قال ابن المبارك: «كل قوم يعرفون مَن يعبدون إلَّا الجهمية» (3). _________ (1) «خلق أفعال العباد» (70). (2) «خلق أفعال العباد» (72). (3) «خلق أفعال العباد» (73).
(2/987)
حدثنا أبو جعفر، سمعت يزيد بن هارون، حدثنا حديث إسماعيل، عن قيس، عن جرير، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ» (1). قال يزيد: «مَن كذَّب بهذا فقد برئ من الله ورسولِه» (2). حدثنا أبو جعفر، حدثنا أحمد بن خلاد سمعت يزيد بن هارون ذكر أبا بكر الأصم والمريسي، فقال: «هما والله زنديقان كافران بالرحمن حلالَا الدم» (3). وقال عبد الرحمن بن مهدي: «مَن زعم أن الله لم يكلم موسى فإنه يُستتاب، فإن تاب وإلَّا قُتل» (4). وقال يزيد بن هارون: «والله الذي لا إله إلَّا هو، ما هم إلَّا زنادقةٌ. أو قال: مشركون» (5). وسُئل (6) عبد الله بن إدريس عن الصلاة خلف أهل البدع، فقال: «لم يزل في الناس إذا كان فيهم مَرْضيٌّ أو عَدْلٌ فصَلِّ خلفه. قلت: فالجهمية؟ قال: لا، هذه من المَقَاتِل، هؤلاء لا يُصلَّى خلفهم [ق 117 أ]، ولا يُناكحون، وعليهم التوبة» (7). _________ (1) تقدم تخريجه. (2) «خلق أفعال العباد» (74). (3) «خلق أفعال العباد» (75). (4) «خلق أفعال العباد» (76). (5) «خلق أفعال العباد» (78). (6) «ح»: «وقبل». والمثبت من «خلق أفعال العباد». (7) «خلق أفعال العباد» (79).
(2/988)
وسُئل حفص بن غِياث فقال فيهم ما قال ابن إدريس. قيل: فالجهمية؟ قال: «لا أعرفهم. قيل له: قوم يقولون القرآن مخلوق. قال: لا جزاك الله خيرًا، أوردتَ على قلبي ما لم يَسمع به قط. قلت: فإنهم يقولونه. قال: هؤلاء لا يُناكحون، ولا تجوز شهادتُهم» (1). وسُئل ابن عيينة فقال نحو ذلك. قال: فأتيت وكيعًا فوجدتُه مِن أعلمهم بهم، فقال: يكفرون مِن وجه كذا، ويكفرون مِن وجه كذا، حتى أكفرَهم مِن كذا وكذا وجهًا» (2). وقال وكيعٌ: «الرافضة شرٌّ من القدرية، والحرورية شرٌّ منهما، والجهمية شر هذه الأصناف، قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اَللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 163] ويقولون: لم يكلمه، ويقولون: الإيمان بالقلب» (3). قال البخاري (4): «يقال: سَلْم بن أَحْوز الذي قتل جهمًا». فصل قال البخاري (5): حدثنا محمد بن كثيرٍ، حدثنا إسرائيل، ثنا عثمان بن _________ (1) «خلق أفعال العباد» (80). (2) «خلق أفعال العباد» (81 - 82). (3) «خلق أفعال العباد» (83). (4) «خلق أفعال العباد» (86). (5) «خلق أفعال العباد» (ص 60،40). والحديث أخرجه الإمام أحمد (15424) وأبو داود (4734) والترمذي (2925) والنسائي في «السنن الكبرى» (7680) وابن ماجه (201) والحاكم (2/ 612) من طريق إسرائيل به. وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح». وقال الحاكم: «حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه». وقال الذهبي في «تاريخ الإسلام» (1/ 644): «هو على شرط البخاري».
(2/989)
المغيرة، عن سالم، عن جابرٍ قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعرض نفسَه بالموقف، فقال: «أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إِلَى قَوْمِهِ! فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي». وقال أنس بن مالكٍ: «لمَّا أُسري بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من مسجد الكعبة، فإذا موسى في السماء السابعة بتفضيل كلامِ الله عز وجل» (1). وقال أبو ذَرٍّ: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: عَطَائِي كَلَامٌ، وَعَذَابِي كَلَامٌ، إِذَا أَرَدْتُ شَيْئًا فَإِنَّمَا أَقُولُ لَهُ: كُنْ، فَيَكُونُ» (2). قال (3): وقال عبد الله بن أُنيس: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إِنَّ اللَّهَ يَحْشُرُ الْعِبَادَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الدَّيَّانُ، لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَأَحَدٌ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَطْلُبُهُ بِمَظْلَمَةٍ». وقال أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ، كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: الحَقَّ، وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ» (4). _________ (1) «خلق أفعال العباد» (89). والحديث أخرجه البخاري في «الصحيح» (7517) ومسلم (162) من طريق شريك بن أبي نمر عن أنس به، وخطَّأ بعض النقاد شريكًا فيه؛ لأن المشهور أن الذي في السماء السابعة هو إبراهيم عليه السلام، وينظر «فتح الباري» (13/ 482). (2) أخرجه الإمام أحمد (21764) والترمذي (2495) وابن ماجه (4257) وقال الترمذي: «هذا حديث حسن». (3) «خلق أفعال العباد» (90). والحديث علقه البخاري في «صحيحه» (7517). وتقدم (ص 760 - 761) تخريجه. (4) «خلق أفعال العباد» (91). والحديث أخرجه البخاري في «الصحيح» (4701).
(2/990)
وقال خَبَّاب بن الأَرَت: «تَقرَّبْ إلى الله ما استطعتَ، فإنك لن تتقربَ إلى الله بشيءٍ أحبَّ إليه مِن كلامه» (1). وقال نِيَار بن مُكْرم (2) الأسلمي: «لما نزلت {الم غُلِبَتِ اِلرُّومُ (1) فِي أَدْنَى اَلْأَرْضِ} [الروم: 1 - 2] خرج أبو بكر يصيح: كلامُ ربي، كلامُ ربي» (3). وكانت أسماء بنت أبي بكرٍ إذا سمعت القراءةَ قالت: «كلامُ ربي» (4). وقال أبو عبد الرحمن السُّلَمي: «فضلُ القرآن على سائر الكلام كفضل الربِّ على خلقه» (5). وقال أبو ذر: قلت: يا رسول الله، من أول الأنبياء؟ قال: «آدَمُ». قلت: إنه لَنبيٌّ؟ قال: «نَعَمْ، مُكَلَّمٌ» (6). _________ (1) «خلق أفعال العباد» (93). والأثر أخرجه الآجري في «الشريعة» (157) وابن بطة في «الإبانة الكبرى» (5/ 244) والحاكم (2/ 479) وعنه البيهقي في «شعب الإيمان» (3/ 394) واللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (558). (2) «ح»: «مسلم أم». والمثبت من «خلق أفعال العباد». ونيار بن مكرم الأسلمي - رضي الله عنه - ترجمته في «تهذيب الكمال» (30/ 72). (3) «خلق أفعال العباد» (94). والحديث أخرجه عبد الله بن أحمد في «السنة» (116، 1210) وابن خزيمة في «التوحيد» (1/ 404) وابن بطة في «الإبانة الكبرى» (5/ 271) وأصل الحديث في الترمذي (3194) دون موضع الشاهد منه. (4) «خلق أفعال العباد» (95). والأثر أخرجه حرب الكرماني في «المسائل» (3/ 1138) والخلال في «السنة» (1995، 2078). (5) «خلق أفعال العباد» (96). والأثر أخرجه الدارمي في «الرد على الجهمية» (341) واللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (556) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (1/ 578). (6) «خلق أفعال العباد» (97). والحديث أخرجه الإمام أحمد (21947، 21953) وأبو داود الطيالسي في «مسنده» (480) والدارمي في «الرد على الجهمية» (317) والبزار في «مسنده» (4034) والبيهقي في «شعب الإيمان» (129). وله عن أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - طرق كثيرة، أشرت إلى بعضها في تخريجي لأحاديث «تفسير القرآن العزيز» لابن أبي زمنين (1/ 375 - 377). وذكرت له شاهدينِ، أشهرهما عن أبي أمامة - رضي الله عنه -، أخرجه الإمام أحمد (22719) والدارمي في «الرد على الجهمية» (317) وابن حبان (6190) والحاكم (2/ 262) وقال الحاكم: «حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه».
(2/991)
وقال ابن عباس: «لمَّا كَلَّم اللهُ موسى كان النداءُ في السماء، وكان الله في السماء» (1). ثم ذكر (2) حديث عبد الله (3) قال ابن مسعود: «أصدقُ الحديث كلامُ الله» (4). قال (5): «وقال أبو بكر الصديق، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكر الشفاعة، قال: «يَقُولُ نُوحٌ: انْطَلِقُوا إِلَى [إِبْرَاهِيمَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَهُ خَلِيلًا. فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُ: انْطَلِقُوا إِلَى] (6) مُوسَى؛ فَإِنَّ اللَّهَ كَلَّمَهُ تَكْلِيمًا» (7). _________ (1) «خلق أفعال العباد» (98). (2) «خلق أفعال العباد» (99). (3) كذا في «ح». والذي في «خلق أفعال العباد»: عن عبد الرحمن بن عابس، قال: حدثني ناسٌ من أصحاب عبد الله، عن عبد الله ـ يعني: ابن مسعود ـ به. (4) أخرجه البخاري في «صحيحه» (7277) بلفظ: «إن أحسن الحديث كتاب الله». (5) «خلق أفعال العباد» (100). (6) سقط من «ح». وأثبته من «خلق أفعال العباد». (7) الحديث أخرجه الإمام أحمد (16) والبزار في «مسنده» (76) وأبو عوانة في «المستخرج» (511) وابن خزيمة في «التوحيد» (468) وابن حبان (6476) وغيرهم من طريق أبي هنيدة البراء بن نوفل، عن والان العدوي، عن حذيفة، عن أبي بكر الصدِّيق - رضي الله عنه -. وقال البزار: «وهذا الحديث حديث فيه رجلان لا نعلمهما رويا إلا هذا الحديث، أبو هنيدة البراء بن نوفل، فإنا لا نعلم روى حديثًا غير هذا، وكذلك والان لا نعلم روى إلا هذا الحديث، على أن هذا الإسناد ـ مع ما فيه من الإسناد الذي ذكرنا ـ فقد رواه جماعة من جلة أهل العلم بالنقل واحتملوه».
(2/992)
وقال أبو هريرة (1) وابن عمر (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ اصْطَفَى مُوسَى بِكَلَامِهِ وَبِرِسَالَاتِهِ» (3). وقال عَدِيُّ بن حاتم: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ عَنْ يَمِينِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ، وَيَنْظُرُ عَنْ يَسَارِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، وَلَوْ بِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ» (4). وقال جابر بن عبد الله: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللهُ بِهِ أَبَاكَ؟ إِنَّ اللَّهَ كَلَّمَ أَبَاكَ مِنْ غَيْرِ حِجَابٍ، فَقَالَ لَهُ: عَبْدِي سَلْنِي. قَالَ: يَا رَبِّ، رُدَّنِي _________ (1) أخرجه البخاري (4712) ومسلم (194). (2) لعله يريد حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - في احتجاج آدم وموسى، فقد ورد فيه: «اصطفاك اللهُ برسالاتِه وكلامه». فقد رواه عبد الله بن عمر عن أبيه - رضي الله عنهما -، أخرجه المروزي في «تعظيم قدر الصلاة» (366) وابن منده في «الإيمان» (1/ 145). وروي أيضًا من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أخرجه ابن النجار في «الذيل» (1/ 203) من طريق أبي بكر النجاد، لكنه في «مسند عمر» للنجاد (17) عن عمر لا ابن عمر، وقال مرعي الكرمي في «رفع الشبهة والغرر» (ص 29): «روي أيضًا بإسنادٍ جيدٍ عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -». (3) «خلق أفعال العباد» (101). (4) «خلق أفعال العباد» (102). والحديث أخرجه البخاري (6539) ومسلم (1016).
(2/993)
إِلَى الدُّنْيَا حَتَّى أُقْتَلَ فِيكَ. قَالَ: إِنِّي قَدْ قَضَيْتُ عَلَيْهِمْ أَلَّا يَرجِعُونَ. قَالَ: فأَبْلِغْهُمْ عَنَّا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَلَا تَحْسِبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اِللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] (1). قال أبو عبد الله (2): «وهو عبد الله بن عمرو بن حرام قُتِل يوم أُحد شهيدًا». وقال جُبَير بن مُطْعِمٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَرْشُهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ [وَسَمَاوَاتُهُ فَوْقَ أَرَاضِيهِ] (3) مِثْلُ الْقُبَّةِ» (4). _________ (1) «خلق أفعال العباد» (103). والحديث تقدم (ص 482) تخريجه. (2) «خلق أفعال العباد» (104). (3) سقط من «ح». وأثبته من «خلق أفعال العباد». (4) «خلق أفعال العباد» (105). والحديث أخرجه أبو داود في «السنن» (4726) والبزار في «المسند» (3432) وأبو عوانة في «المستخرج» (2570) وابن أبي عاصم في «السنة» (576) والدارمي في «الرد على الجهمية» (71) وفي «النقض» (1/ 468 - 469، 518) وابن خزيمة في «التوحيد» (1/ 239) وابن أبي حاتم في «التفسير» (1/ 61) والآجري في «الشريعة» (710) وأبو الشيخ في «العظمة» (198) واللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (656) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (884) وغيرهم من طريق محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة، عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن جده به. وهذا الحديث هو المشهور بحديث الأطيط، والكلام عليه منتشرٌ جدًّا، من ذلك: قال البزار: «وهذا الحديث لا نعلمه يُروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجه من الوجوه إلا من هذا الوجه، ولم يقل فيه محمد بن إسحاق حدثني يعقوب بن عتبة». وقال ابن كثير في «البداية والنهاية» (1/ 18): «وقد صنَّف الحافظ أبو القاسم ابن عساكر الدمشقي جزءًا في الرد على هذا الحديث سماه بـ «بيان الوهم والتخليط الواقع في حديث الأطيط» واستفرغ وسعه في الطعن على محمد بن إسحاق بن يسار راويه، وذكر كلام الناس فيه». وقال الذهبي في «العلو» (ص 44 - 45): «هذا حديث غريبٌ جدًّا فردٌ، وابن إسحاق حجة في المغازي إذا أسند، وله مناكير وعجائب». وقد صحَّحه المصنِّف في «تهذيب السنن» (7/ 95 - 117) وردَّ على من أعله.
(2/994)
وقال ابن مسعودٍ في قوله: {ثُمَّ اَسْتَوَى عَلَى اَلْعَرْشِ} [الأعراف: 53] قال: «العرش على الماء، والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه» (1). وقال قتادة في قوله: {وَهْوَ اَلَّذِي فِي اِلسَّمَا إِلَهٌ وَفِي اِلْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 83] قال: «يُعبَد في السماء، ويُعبَد في الأرض» (2). وقال ابن عباس في قوله: {يُدَبِّرُ اُلْأَمْرَ مِنَ اَلسَّمَا إِلَى اَلْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ ممَّا تَعُدُّونَ} [السجدة: 4] قال: «من (3) الأيام الستة» (4). _________ (1) «خلق أفعال العباد» (106). والأثر أخرجه الدارمي في «الرد على الجهمية» (81) وفي «النقض» (1/ 422، 471، 519) وابن خزيمة في «التوحيد» (149، 150) والطبراني في «المعجم الكبير» (9/ 202) وأبو الشيخ في «العظمة» (279) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (851) وابن عبد البر في «التمهيد» (7/ 139). وقال الذهبي في «العلو» (ص 79): «رواه عبد الله بن الإمام أحمد في «السنة» له وأبو بكر بن المنذر وأبو أحمد العسال وأبو القاسم الطبراني وأبو الشيخ وأبو القاسم اللالكائي وأبو عمر الطلمنكي وأبو بكر البيهقي وأبو عمر بن عبد البر في تواليفهم، وإسناده صحيحٌ». وصحح إسناده المصنِّف في «اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص 390). (2) «خلق أفعال العباد» (107). والأثر أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» (2795) وابن جرير في «تفسيره» (20/ 660). (3) «ح»: «ومن». والمثبت من «خلق أفعال العباد». (4) «خلق أفعال العباد» (108). والأثر أخرجه الطبري في «التفسير» (18/ 594).
(2/995)
وقال تعالى [ق 117 ب]: {أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي اِلسَّمَاءِ اَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك: 18]. وقال عمران بن حصين: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي: «كَمْ تَعْبُدُ الْيَوْمَ؟» قال: سبعةُ آلهةٍ: ستةٌ في الأرض، وواحد في السماء. قال: «فأَيُّهُمْ تَعُدُّ لِرَغْبَتِكَ وَرَهْبَتِكَ؟» قال: الذي في السماء. قال: «أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَسْلَمْتَ عَلَّمْتُكَ كَلِمَتَيْنِ يَنْفَعَانِكَ (1)». فلمَّا أسلم الحصين قال: يا رسول الله، علِّمْني الكلمتين اللتين وعدتَني. قال: «قُلِ: اللَّهُمَّ أَلْهِمْنِي رُشْدِي، وَأَعِذْنِي مِنْ شَرِّ نَفْسِي» (2). قال البخاري (3): «وقال بعض أهل العلم: إن الجهمية هم المُشبِّهة؛ لأنهم شبهوا ربَهم بالصنم والأصم والأبكم الذي لا يسمع ولا يبصر _________ (1) كذا في «ح»، «خلق أفعال العباد»، بتأويل «لفظين»، وفي «جامع الترمذي» وغيره: «تنفعانك» على الجادة. (2) «خلق أفعال العباد» (110). أخرجه الترمذي (3483) والبزار (3579، 3580) والطبراني في «المعجم الكبير» (18/ 174 رقم 396) وفي «المعجم الأوسط» (1985) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (894) من طريق أبي معاوية، عن شبيب بن شيبة، عن الحسن البصري، عن عمران بن حصين - رضي الله عنهما -. وقال الترمذي: هذا حديث غريب. وقال في «العلل» (677): «سألت محمدًا عن هذا الحديث فلم يعرفه إلا من حديث أبي معاوية، قال محمد: وروى موسى بن إسماعيل هذا الحديث عن جويرية بن بشير، عن الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا. قال أبو عيسى: وحديث الحسن عن عمران بن حصين في هذا أشبه عندي وأصح». والحسن عن عمران مرسل، ينظر «المراسيل» لابن أبي حاتم (ص 38). وللحديث طريق آخر ضعيف أخرجه ابن خزيمة في «التوحيد» (1/ 277 - 278). وينظر «العلو» للذهبي (43 - 44). وقد صحح المصنِّف الحديث في «الوابل الصيب» (ص 411). (3) «خلق أفعال العباد» (111، 113).
(2/996)
ولا يتكلم ولا يَخلُق، وقالت الجهمية كذلك: لا يتكلم ولا يبصر. وقالوا: إن اسم الله مخلوق. ولقد اختصم يهوديٌّ ومسلمٌ إلى بعض معطِّلتهم، فقضى باليمين على المسلم، فقال اليهودي: حَلِّفْه. فقال المخاصَم له: أحلفُ بالله الذي لا إله إلَّا هو. فقال اليهودي: حَلِّفْه بالخالق لا بالمخلوق؛ فإن هذا من القرآن، وزعمتَ أن القرآن مخلوقٌ، فحلِّفْه بالخالق. فبُهت الآخر وقال: قُومَا حتى أنظر في أمركما. وخسر هنالك المبطلون». وفي «تاريخ الخطيب» (1) في ترجمة بشر المريسي عن إسحاق ابن عمِّ أحمد بن منيع (2) قال: «كان بشرٌ المريسي يقول [بقول] (3) صِنف من الزنادقة ـ سمَّاهم صنف كذا وكذا ـ يقولون: ليس بشيء». وذكَر فيه (4) عن [يحيى بن] (5) علي بن عاصم قال: «كنت عند أبي، فاستأذن عليه بشر المريسي، فقلت: يا أبتِ يدخل عليك مثل هذا! فقال: يا بني، فما قال؟ قلت: إنه يقول: إن القرآن مخلوق، وإن الله عز وجل معه في الأرض، وإن الجنة والنار لم يُخلقا، وإن منكرًا ونكيرًا باطلٌ، وإن الصراط باطلٌ، وإن الميزان باطلٌ، وإن الشفاعة (6) باطلٌ، مع كلامٍ كثيرٍ. قال: فأَدخِلْه _________ (1) (7/ 533 - 534). (2) في «تاريخ بغداد»: «إسحاق بن إبراهيم بن عمر بن منيع». وما في المتن هو الصواب، فهو إسحاق بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن منيع البغوي، ابن عم أحمد بن منيع، ترجمته في «تهذيب الكمال» (2/ 366). (3) سقط من «ح». وأثبته من «تاريخ بغداد». (4) «تاريخ بغداد» (7/ 534 - 535). (5) من «تاريخ بغداد»، «اجتماع الجيوش الإسلامية» للمصنِّف (ص 328). (6) في «تاريخ بغداد»: «الساعة».
(2/997)
عليَّ. قال: فأدخلتُه عليه. قال: فقال: يا بشرُ، ادْنُهْ، ويلك يا بشر ادنه. مرتين أو ثلاثًا، فلم يزل يُدنيه حتى قرب منه. قال: ويلك يا بشر، مَن تعبد؟ وأين ربك؟ قال: فقال: وما ذاك يا أبا الحسن؟ قال: أُخبرت عنك أنك تقول: إن القرآن مخلوق، وإن الله معك في الأرض، مع كلامٍ كثيرٍ ـ ولم أر شيئًا أشد على أبي مِن قول القرآن مخلوق، وإن الله معه في الأرض ـ فقال: يا أبا الحسن، لم أجئ لهذا، وإنما جئتُ في كتاب خالد لتقرأه عليَّ. فقال له: ولا كرامةَ، حتى أعلم ما أنت عليه، أين ربك؟ ويلك! قال: أو تعفيني؟ قال: ما كنت لأُعفيك. قال: أما إذا أبيتَ فإن ربي نورٌ في نورٍ. قال: فجعل يزحف إليه ويقول: ويحكم اقتلوه؛ فإنه واللهِ زنديقٌ، وقد كلمتُ هذا الصنف بخراسان (1)». وذكر فيه أيضًا (2) عن أبي يوسف القاضي أنه قال لبشر المريسي: «طلبُ العلم بالكلام هو الجهل، والجهلُ بالكلام هو العلم، وإذا صار رأسًا في الكلام قيل: زنديق، أو يُرمى بالزندقة. يا بشر، بلَغَني أنك تتكلم في القرآن، إنْ أقررت أن لله عِلمًا خُصمت، وإن جحدتَ العلم كفرتَ». وذكر عبد الله بن أحمد (3) وابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال: «ليس في أصحاب الأهواء أشر من أصحاب جهم، يريدون أن _________ (1) قال ابن تيمية في «بيان تلبيس الجهمية» (5/ 496): «والصنف الذي أشار إليهم علي بن عاصم محتمل أنهم من أتباع المجوس القائلين بالأصلين النور والظلمة وأنهما امتزجا واختلطا؛ فإنهم لا يثبتون فوق العالم شيئًا كما تقول الجهمية». (2) «تاريخ بغداد» (7/ 538). (3) كتاب «السنة» (147).
(2/998)
يقولوا: إن الله لم يكلم موسى. ويريدون أن يقولوا: ليس في السماء شيءٌ، وإن الله ليس على العرش. أرى أن يُستتابوا، فإن تابوا وإلَّا قُتلوا» (1). وذكر أيضًا عن سعيد بن عامر الضبعي أنه ذُكِر عنده الجهمية، فقال: «هم شرٌّ قولًا من اليهود والنصارى، قد أجمع اليهود والنصارى وأهل الأديان مع المسلمين على أن الله على العرش، وهم قالوا: ليس عليه شيءٌ» (2). فهذا وأضعافه قليلٌ من كثيرٍ من شهادة شهداءِ الله في أرضه، الذين استشهدهم على توحيده وقرَنَ شهادتهم (3) بشهادته وشهادة ملائكته (4)، وعدَّلهم رسوله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ» (5). وهؤلاء شهداء الله على الناس يوم القيامة، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى اَلنَّاسِ وَيَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 142] فإنهم قاموا بشروط الشهادة، وهي العلم والعدل، فإن الشاهد لا يكون مقبولًا حتى يكون عالمًا بما يشهد له عدلًا في نفسه. ولم يكن الله سبحانه ليجمع شهادة هؤلاء ـ الذين هم ورثة رسوله وأنصار دِينه ولهم لسان الصدق في الأمة ـ على باطلٍ وزورٍ، وتكون شهادة أتباع أهل _________ (1) تقدم (ص 988) تخريجه. (2) تقدم (ص 881) تخريجه. (3) «ح»: «شهادهم». (4) قال الله تعالى: {شَهِدَ اَللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَاَلْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا اُلْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ اَلْعَزِيزُ اُلْحَكِيمُ} [آل عمران: 18]. (5) تقدم (ص 926) تخريجه.
(2/999)
الفلسفة الصابئين والمشركين، وشهادة الجهمية الجاحدين لصفات ربِّ العالمين وكلامِه وعلوِّه على خلقه، وأوقاح المعتزلة وأفراخ المجوس وأمثالهم؛ هي المقبولةَ عند الله، وهي شهادة الحقِّ. بل هؤلاء هم المشهود عليهم [ق 118 أ] بين يدي الله، فإنهم خصماؤه، وخصماءُ وحيه ورسوله، حيث نسبوا كلامه وكلام رسوله إلى ما لا يليق به، وظنوا به أسوأ الظنِّ، واعتقدوا أن ظاهره باطلٌ ومحالٌ وتشبيهٌ وضلالٌ. فكيف يقبل أحكمُ الحاكمين وأعدل العادلين شهادة هؤلاء المتهوِّكين المتجبرين على حزبه وأنصارِه وأنصار كِتابه وسُنة رسوله، الذين قدَّموا كتابه وسُنة رسوله على كل ما خالفهما، ولم يقدِّموا ما خالفهما [عليها] (1)، وتركوا الآراء الباطلة والمعقولات السخيفة لهما، ولم يتركوهما لأجلها؛ وقرروا بالعقل الصريح صحةَ ما جاء به الرسول، ولم يُقرِّوا بالعقل الفاسد بطلانَ ما جاء به وأنه مخالفٌ للعقل الصحيح؛ ورأوا أن اليقين كلَّ اليقين مستفادٌ من كلام الله ورسوله، ولم يقولوا إنه لا يُستفاد منه علمٌ ولا يقينٌ؛ ورأوا أن ما أخبر به عن أسمائه وصفاته وأفعاله حقيقةٌ، ولم يقولوا إنه مجازٌ لا حقيقةَ له. فأي الفريقين أحق بالعلم والعدالة، وقبول الشهادة عند الله وعند ملائكته وعند جميع (2) المؤمنين؟ وأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون؟! الوجه السادس والتسعون بعد المائة: أن هؤلاء أصَّلوا أصولًا جعلوها أساسًا لبنائهم، وسمَّوها قواطع عقلية، وسمَّوا أدلتها براهين يقينية، فجاءت _________ (1) «ح»: «عليه». والظاهر ما أثبت. (2) «ح»: «جمع».
(2/1000)
فروع تلك الأصول ولوازمها والبناء الذي ارتفع عليها من أبطل الفروع وأفسد اللوازم وأضعف البناء وأوهاه. وذلك بيِّنٌ لكل ذي عقلٍ سليمٍ وفطرةٍ صحيحةٍ لم تفسد بالتقليد، ولم تَعْمَ بالهوى والتعصب [عن] (1) فساد تلك الأصول ومناقضتها للمعقول والمنقول. وهذا موضع يستدعي عدة أسفار، لكن نذكر منه أدنى تنبيهٍ على طريق الاختصار يكون مُنبِّهًا على ما وراءه (2). مثال ذلك: أن المتفلسفة لمَّا أصَّلوا أن الواحد لا يصدر عنه إلَّا واحد، انبنى على ذلك من اللوازم الباطلة في المصدر والصادر ما هو متضمن لأعظم أنواع الباطل. أمَّا المصدر فإنهم التزموا ألَّا يكون فيه معنيانِ متغايران أصلًا، فنفوا عنه جميع الصِّفات، إذ لو ثبت له صفةٌ وجوديةٌ لم يكن عندهم واحدًا، وقد فرضوه واحدًا من كل وجهٍ، فنفوا علمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره وكلامه واختياره ومشيئته، وأن يكون فاعلًا باختياره لشيءٍ من العالم. ونفوا علوَّه على خَلْقه، ومباينته للعالم، واستواءه على عرشه. ولو ثبت له ذلك لكان جسمًا والأجسام مركبة، فلم يكن واحدًا من كل جهة. ولزمهم من ذلك نفيُ ماهيته وذاته، وأن يقولوا إنه لا ماهيةَ له سوى الوجود المطلق، إمَّا بغير شرطٍ أو بشرط الإطلاق. ومن المعلوم أن المطلق لا وجودَ له في الخارج، ولا سيما إذا أخذ بشرط الإطلاق، فلزمهم من هذا الأصل نفيُ وجود الخالق سبحانه في الخارج، وأن يكون وجوده ذهنيًّا لا خارجيًّا. _________ (1) سقط من «ح». (2) «ح»: «رواه». والمثبت هو الصواب.
(2/1001)
ولزمهم عنه لو صحَّ لهم إثباتُه: أنه لا يَخلُق، ولا يرزق، ولا يميت، ولا يحيي، ولا يعلم شيئًا. ولا يُرسل رسولًا، ولا يأمر ولا ينهى، ولا يبعث مَن في القبور. ولزمهم عنه أن يكون هذا العالَم قد وُجد مِن غير خالقٍ، أو أنه لم يزل موجودًا قديمًا أزليًّا، ولمَّا كان اللازمُ الأول أشنعَ وأظهر فسادًا لكل عاقلٍ؛ التزموا الثاني. وأمَّا الباطل الذي لزمهم في جانب الصادر فهو أن يكون واحدًا من كل وجهٍ، ولا يكون فيه كثرةٌ بوجهٍ ما [لأن] (1) مصدره واحد كذلك، فالصادر عنه أيضًا يجب أن يكون كذلك، وهلم جرًّا. والحِسُّ يكذبه. ولا ينفعهم الجواب بأن الصادر له وجوهٌ واعتبارات لأجلها تعدَّد الصادر عنه. فإن تلك الوجوه إن كانت وجودية لزم صدورُ الكثرة عن الوحدة، وبطل أصلهم، وإن كانت عدمية لم يكن مصدرًا للموجود، وهذا قاطعٌ. فصل ولمَّا أصَّلوا هم وأتباعهم من الجهمية أن المختص بصفةٍ أو حقيقةٍ أو قدَرٍ لا بد له من تخصيص منفصل، لزمهم من هذا الأصل إنكارُ حقيقته وذاته وصفاته، إذ لو أثبتوا له ذلك بزعمهم لزم أن يكون له مخصصٌ غيره خصَّصه بتلك الماهية والصفات والقدر، فلزم أيضًا من هذا الأصل الباطل ما لزم من الأصل الذي قبله. _________ (1) «ح»: «ليس». والسياق يقتضي ما أثبت.
(2/1002)
وهم طردوا هذا الأصل، وجحدوا حقيقة الربِّ وصفاته. وإخوانهم من الجهمية لمَّا لم يمكنهم أن يصرِّحوا (1) به بين أَظهُر المسلمين صرَّحوا بالأصل وبما أمكنهم أن يصرِّحوا به من اللوازم، كنفي الصِّفات ونفي العلو والمباينة والكلام والوجه واليدين والاستواء والنزول. ولمَّا أصَّلوا ذلك لزمهم [ق 118 ب] القول بأنه (2) في كل مكانٍ بذاته وأنه تعالى في الأجواف والأمكنة التي يتعالى عنها. فلمَّا صاح عليهم أهلُ العلم والإيمان من كل قُطرٍ من أقطار الأرض، قالوا: نقول إنه لا داخلَ العالم ولا خارجَه، ولا فوق العرش ولا تحته. فلمَّا رأى عُبَّادهم ومتصوِّفوهم (3) أن الإرادة والعبادة والطلب لا تُعلق بمعبود هذا شأنه، وأن القلوب لا تعرفه والألسنة لا تعرفه؛ فرُّوا إلى أن قالوا: فهو عين هذا العالم لا غيره. وكل هذه اللوازم أُسست (4) على ذلك الأصل الفاسد. ولمَّا أصَّلوا أن الصِّفات أعراضٌ لا تقوم إلَّا بالأجسام لزمهم إنكارها رأسًا. ومَن أثبت منهم صفة ونفى غيرها أضحك أهلَ العقل والنقل على عقله. ولمَّا أصَّلوا هذا الأصل لزمهم عنه أن الله لم يتكلم ولا يكلم أحدًا مِن خلقه، ولم ينزل له إلى الأرض كلام تكلم به، وإنما خلق أصواتًا وحروفًا في الريح سُميت كلامه مجازًا لا حقيقة. فلمَّا فهم سفهاؤهم هذا، وأنه ليس لله في الأرض كلام، وأنه ليس في _________ (1) «ح»: «يصرحون». (2) «ح»: «بأن». (3) «ح»: «ومتصوفيهم». (4) «ح»: «أست».
(2/1003)
المصحف إلَّا صنعة المخلوقين ومِدادهم وما عملت أيديهم صار فيهم مَن يكتب {قُلْ هُوَ اَللَّهُ أَحَدٌ} بما يُستحى مِن ذِكره، ومنهم مَن يلقي المصحف في المكان الذي يُرغب عن ذكره، ويقول: إنما ألقيت كاغَدًا ومِدادًا (1). ومنهم مَن يجعله كرسيًّا له يضعه تحت رجليه ويرقى عليه ويتناول به حاجته، ومنهم (2) من يكون له وعاء يضع فيه المصحف ونعله وغيره، وفيهم من يتوسَّده، إلى غير ذلك من الأنواع التي فيها من الاستخفاف بالمصحف والإهانة له ما يدل على براءة فاعله من الله ورسوله وكتابه ودينه. وأمَّا إطلاقهم العبارات القبيحة الدالة على الاستهانة، فهم لا يتحاشون منها، بل يُصرِّحون بقولهم: أي شيءٍ في المصحف سوى المِداد والورق! ويقولون: ليس في المصحف كلام الله، ولم ينزل إلى الأرض لله كلام، وهذا الذي يقرؤُه المسلمون ليس بكلام الله حقيقةً! وقد رأينا نحن وغيرنا هؤلاء مشاهدةً، وسمعنا بعض أقوالهم التي حكيناها. وهذه الفروع واللوازم فروع ذلك الأصل الباطل. كما أنهم لما أصَّلوا تعطيل الربِّ من صفة العلو وتعطيل العرش من استواء ربه عليه؛ لزمهم التكذيب بما لا يُحصى من الآيات والأحاديث، وإن أقروا بألفاظها. ولزمهم الطعن في خيار الأُمة وساداتها وأئمة الإسلام وأهل السُّنَّة والحديث، ولزمهم إنكار نزوله إلى سماء الدنيا كل ليلةٍ، وإنكار مجيئه وإتيانه يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده، وإن أقروا بذلك أقروا به مجازًا لا حقيقة. ولزمهم من ذلك التكذيب بمعراج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ربه، ودنوِّه _________ (1) الكاغد: القرطاس، والمداد: الحبر. (2) «ح»: «منهم». بغير واو.
(2/1004)
منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى، وتردُّدِه (1) بين موسى وبين ربه مرارًا، كلُّ ذلك لا حقيقةَ له عندهم، كما صرَّح به أفضل متأخريهم ومَلِك مناظريهم (2) في كلامه على المعراج، وجعله خيالًا لا حقيقة له. ولمَّا أصَّلوا أنه سبحانه لا تقوم به الأفعال الاختيارية، وسمَّوْا ذلك حلولَ الحوادث؛ لزمهم عنه أنه لا يفعل شيئًا البتةَ، فإنه لا يتكلم بمشيئته، وأن يكون بمنزلة الجمادات التي لا تفعل شيئًا؛ فإنهم جعلوا المفعول عين الفعل، ومن المعلوم أن مفعولًا بلا فعلٍ أبلغ في الاستحالة والبطلان من مفعولٍ بلا فاعلٍ، أو هما سواء، فلزمهم من هذا الأصل مخالفة صريح المعقول والمنقول والفطرة والتكذيب بما لا يُحصى من النصوص. ولمَّا أصَّلت القدرية أن الله سبحانه لو شاء أفعالَ عباده وقدَرَ عليها وخلقها، ثم كلفهم بها وعاقبهم عليها، لَكان ذلك ظلمًا ينافي العدل؛ لزمهم عن هذا الأصل لوازمُ مخالِفةٌ للعقل والشرع، منها التكذيب بقدَر الله، وتكذيب غُلاتهم بعلمه السابق، وإنكار كمال قدرته، ونسبته إلى أن يكون في مُلكه ما لا يشاء، ويشاء ما لا يكون، وإخراج أشرف ما في مُلكه عن أن يكون قادرًا عليه أو خالِقًا له، وهو طاعاتُ أنبيائه ورسله وملائكته وأوليائه، وأن تكون أفعالهم حدثت من غير خالقٍ (3) مُحْدِثٍ أو يكونوا هم الخالقين _________ (1) «ح»: «تراده». (2) يعني: الفخر الرازي، وذلك في كتابه «السر المكتوم في مخاطبة النجوم» وهو كتاب مختلف في نسبته إليه، وينظر «الرد على المنطقيين» لابن تيمية (ص 588) و «كشف الظنون» (2/ 989). (3) «ح»: «خالي».
(2/1005)
المُحْدِثين لها، وأن تكون إراداتهم مشيئاتهم حادثة بلا مُحْدِث، ولزمهم تكذيبهم بنصوص القدَر كلها، والطعن في نَقَلة أخبارها، وتحريفها عن مواضعها بالتأويلات التي هي كذبٌ على اللغة وعلى الله وعلى رسوله. إلى أضعاف ذلك من اللوازم الباطلة. ولزم هؤلاء كلهم أن الكتاب والسُّنَّة جاءا بما يخالف العقل الصريح، وأنه إذا تعارض العقل والنقل قُدِّم العقل وأُطرح النقل. فهذه الأصول الرديئة الخبيثة تولدت عنها هذه الأولادُ المناسبة لها، ومَن أشبه أباه فما ظلم. فإذا قابلتَ [ق 119 أ] بين أصول أهل الإثبات وما تولَّد عنها وبين أصول المعطلة النُّفاة وما تولَّد عنها تبيَّن لك الفرق بين هذه الأصول وفروعها، وهذه الأصول وفروعها، والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ. الوجه السابع والتسعون بعد المائة: أن مَن تأمَّل أقوال هؤلاء المعارضين للوحي بمعقولهم وآرائهم وجدها قد جمعت أمرين، كلٌّ منهما يدل على بطلانها: أحدهما: اختلافها في نفسها واضطرابها وتهافتها. وهذا يدل على أنها ليست من عند الله. كما قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اِللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 81] فيكفيك مِن فساد القول اختلافُه واضطرابه وتناقضه. الثاني: أنما مصدرُها الخرصُ والظن والتخمين ليست صادرةً عن وحيٍ عُلمت عِصمته، ولا عن فطرةٍ وعقلٍ اشترك العقلاء فيما أثبته ونفاه.
(2/1006)
وقد أخبر سبحانه عن حقيقة أقوال المخالفين لكتابه وسُنة رسوله بهذين الأمرين في قوله: {وَاَلذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَاَلْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَاَلْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَاَلْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ اَلدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَاَلسَّمَاءِ ذَاتِ اِلْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ اَلْخَرَّاصُونَ (10) اَلَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} (1) [الذاريات: 1 - 11]. فأقسم سبحانه بمخلوقاته طَبقًا بعد طَبَق، فأقسم أولًا بالرياح والذاريات، ثم بما فوقها، وهي السحاب الحاملات وقرًا، ثم بما فوقها، وهي النجوم الجاريات يُسرًا، ثم بما فوقها، وهي الملائكة المقسمات أمرًا. ثم أقسم بالسماء ذات الحُبك، وهي الطرائق التي هي كطرائق الماء حين تحركه الرياح. ومنه في وصف الدجَّال: «شَعَرُهُ حُبُكٌ» (2) أي: فيه تجعدٌ وتثنٍّ (3). ومنه قوله: «فِي السَّمَاءِ مَوْجٌ مَكْفُوفٌ» (4). _________ (1) تكلم المصنِّف في «التبيان في أيمان القرآن» (ص 428 - 438) على تفسير هذه الآيات كلامًا مفصلًا. (2) أخرج عبد الرزاق في «المصنف» (20828) وأحمد في «المسند» (16518) والطبراني في «الكبير» (22/ 175) والحاكم في «المستدرك» (4/ 508) من طريق معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة عن هشام بن عامر - رضي الله عنه -، ولفظه: «إن رأس الدجال من ورائه حُبك حُبك». وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه». وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (7/ 343): «رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح، ورواه الطبراني». وقال ابن حجر في «إتحاف المهرة» (13/ 630): «أظن فيه انقطاعًا». وأخرجه الإمام أحمد (23629، 23970) من طريق حماد بن زيد وابن علية، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن رجلٍ من أصحاب النبي به .. وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (7/ 343): «رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح». (3) «ح»: «نتن». وهو تصحيف. (4) أخرجه الإمام أحمد (8950) والترمذي (3298) والبزار (9559) والجورقاني في «الأباطيل» (65) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (849) من طريق قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وقال الترمذي: «هذا حديث غريب من هذا الوجه، ويروى عن أيوب، ويونس بن عبيد، وعلي بن زيد، قالوا: لم يسمع الحسن من أبي هريرة». وقال الجورقاني: هذا حديث باطل، وله علة تخفى على من لم يتبحر، فمن تأمل هذا الحديث، واعتبر أقوال رواته، يحكم عليه بالصحة لأمانتهم وعدالتهم، والعلة فيه إرسال الحسن، عن أبي هريرة؛ فإنه لم يسمع من أبي هريرة شيئًا». وأخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» (2/ 299) والطبري في «تفسيره» (23/ 80) عن معمر عن قتادة مرسلًا. قال ابن كثير في «تفسيره» (7/ 8): «ولعل هذا هو المحفوظ، والله أعلم».
(2/1007)
وهذا يتضمَّن حُسنها وبهجتها وكمال (1) خَلقها. فأقسم بذلك على أن الرادِّين لما بَعَث به رسوله المعارضين له بعقولهم في قولٍ مختلفٍ. ولهذا تجدهم دائمًا في قول مختلف، لا يثبت لهم قدم على شيءٍ يعوِّلون عليه. فتأمَّل أي مسألةٍ أردت من مسائلهم ودلائلهم تجدهم مختلفين فيها غاية الاختلاف، يقول هذا قولًا وينقضه الآخر، فيجيء الثالث فيقول قولًا غير ذَيْنك القولين، وينقضهما ويُبطِل أدلتهما. ولا تجد لهم مسألةً واحدةً إلَّا وقد اضطربوا (2) فيها حُكمًا ودليلًا، فهم أعظم الناس اختلافًا، حتى تجد الواحد منهم يقول القول ويدَّعي أنه قطعيٌّ، ثم يقول خلافه ويُبطِله، ويدَّعي أنه قطعيٌّ! ثم أخبر سبحانه أن ذلك القول المختلف {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات: 9]. أي يُصرف بشبه عن الحق من صُرف، فلما كان انصرافه عن _________ (1) «ح»: «وكما». (2) «ح»: «اضطروا».
(2/1008)
الحق بشبه صار كأنه منفصلٌ عنه، وإفكُه صادر عنه. ثم قال تعالى: {قُتِلَ اَلْخَرَّاصُونَ} [الذاريات: 10]. وأصل الخرص القول بلا علمٍ، بل بالظنِّ والتخمين والقذف بالكلام من غير برهانٍ على صحته، ومنه سُمِّي الكاذِبُ خارصًا، والحازرُ خارصًا، وصاحب الظنِّ والتخمين خارصًا. وهذا الوصف منطبقٌ على هؤلاء أتمَّ انطباق، فليس معهم إلَّا الخرص واتباع الظنِّ، كما قال تعالى في وصف سَلَفهم المعارضين لشرعه بالقدَر: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا اَلظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 117]. وهذا بخلاف متَّبِع الوحي، فإنه يتبع قولًا يصدق بعضُه بعضًا ويشهد بعضُه لبعض، لا اختلاف فيه ولا اضطراب، متصلًا برب العالمين قوله ووحيه الذي نزله على رسوله، فمصدره منه سبحانه، ومظهره على لسان رسوله، فعليه سبحانه البيان وعلى رسوله البلاغ وعلينا التسليم، وقد فعل سبحانه ما عليه، وفَعل رسوله ما عليه، فماذا يشنا (1) بعد ذلك إلَّا أن نأتي بما علينا، وبالله التوفيق. الوجه الثامن والتسعون بعد المائة: أن هؤلاء النُّفاة المعطِّلة لا بد لهم من أصلٍ يقرِّرون به قولَهم الذي ابتدعوه، وأصلٍ ينفون به ما أخبرت به الرُّسل. وهذا حال كل مَن وضع رأيًا أو نصب مذهبًا لا بد له من أصلٍ يُقرِّر به رأيه، وأصلٍ يُبطل به قول مخالفه. وعلى هذين الأصلين بنوا مذاهبهم الفاسدة، فكلامهم كله يدور على هاتين القاعدتين. فإذا تكلموا في توحيدهم الذي هو غاية الإلحاد والتعطيل، والتشبيه بالأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تتكلم، كما قال حافظ الإسلام محمد بن إسماعيل البخاري في كتاب «خلق الأفعال» ـ وهو من _________ (1) كذا في «ح».
(2/1009)
أجلِّ كُتبه الصغار ـ وهذا لفظه: «وقال بعض أهل العلم: إن الجهمية [ق 119 ب] هم المُشبِّهة؛ لأنهم شبهوا ربَّهم بالصنم والأصم والأبكم الذي لا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم ولا يَخلُق، وقالت الجهمية كذلك لا يتكلم ولا يبصر نفسه» (1). والمقصود أن توحيدهم غاية التعطيل والتشبيه = فإذا تكلموا فيه قرروه بالأصل الأول. فإذا جاؤوا إلى الكتاب والسُّنَّة قرروا نفيَ دلالتهما بوجوهٍ (2): أحدها: أن النصوص أدلةٌ لفظيةٌ لا تُفيد علمًا ولا يقينًا. الثاني: أن الأخبار أخبار آحاد لا تُفيد العلم، وهذه المسائل علمية. الثالث: أن العقل إذا عارض النقل وجب تقديمُ العقل عليه. الرابع: استعمال التأويلات وأنواع الاستعارات والمجازات في نصوص الصِّفات. وقد أوصاهم سلفُهم بكلمتين يتداولهما (3) منهم آخر عن أول، قالوا: إذا احتجَّ عليكم أهل الحديث بالقرآن فغالطوهم بالتأويل، وإذا احتجوا بالأخبار فقابلوها بالتكذيب. وإذا مهَّدوا هذين الأصلين انبنى لهم عليهما أصلان آخران أدهى منهما وأمرُّ: التكذيب بالحق الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب وإساءة الظن به، وتسليط التحريف عليه، والتصديق بالباطل الذي يسمونه قواطع عقلية. وصدَقوا وكذَبوا! فهي قواطع، ولكن _________ (1) «خلق أفعال العباد» (111). (2) «ح»: «بوجود». (3) «ح»: «يتداولها».
(2/1010)
عن الإيمان بالله ورسوله وأسماء الرب وصفاته، وهي خيالات جَهْلية شُبِّهت عليهم، فظنوها قواطع عقلية. وترتب لهم على هذين الأصلين أصلان آخران: تلقيبُ الحق المنزَل وأصحابه بالألقاب الشنيعة المنفِّرة، كتلقيبه بالتجسيم والتشبيه والتمثيل والتركيب، وتلقيب الآخِذين به بالمشبهة والمجسمة والحشوية، وتلقيب الكفر والضلال والإلحاد بالألقاب المستحسنة كالتوحيد والتنزيه والعدل، وتلقيب أصحابه بالموحدين أهل العدل والتوحيد والتنزيه. فترتب (1) لهم على ذلك أصلان آخران: الإعراضُ عن القرآن والسُّنَّة جملةً، ومعارضتهما بآراء الرجال وعقولهم الفاسدة المتهافتة المتناقضة. ثم ترتب لهم على ذلك أصلان آخران: معاداةُ أهل الحق، وموالاة أهل الباطل. وبَقِيَ أمران آخران، إنما يظهران إذا بُعثر ما في القبور، وحُصل ما في الصدور، {هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اَللَّهِ مَوْلَاهُمُ اُلْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [يونس: 30]. يوضحه: الوجه التاسع والتسعون بعد المائة: أن هؤلاء المعطلة النُّفاة من الجهمية ومَن اتبعهم لا يمكن على أصولهم التي أصَّلوها وقواعدهم التي أسَّسوها محبةُ الله، ولا مدحُه، ولا حمده وتمجيده والثناء عليه، ولا الرضى به، ولا الابتهاجُ بقربه ولا الفرحُ به، ولا اللذة العظمى برؤية وجهه، ولا لذةُ الآذان والأرواح بسماع كلامه، بل ولا الشوق إليه، _________ (1) «ح»: «فرتب».
(2/1011)
ولا الإنابة (1) ولا الطمأنينة به وإليه، ولا الأمنُ من عذابه لهم بغير جُرْمٍ (2) أصلًا، ومن إبطاله أعمالهم الصالحة بغير سببٍ. بل أعظم من ذلك أنهم سدُّوا على أنفسهم طريقَ العلم بإثباته وإثبات ربوبيته إلَّا بما يُنافي صفاته وأفعاله، فليس لهم طريقٌ إلى إثبات ذاته إلَّا بما يستلزم نفي ذاته وصفاته وأفعاله. وسدُّوا على أنفسهم طريق العلم بصدق رسله بتجويزهم عليه كل (3) شيءٍ، حتى إنه يجوز عليه تأييد (4) الكاذب المفتري عليه بأعظم المعجزات، وليس في العقل ما يُحيل ذلك عندهم. وسدُّوا على أنفسهم طريق العلم بالمعاد؛ لأنهم بنوه على إثبات الجوهر الفرد، ولا حقيقة له. وهذه جملةٌ إنما يظهر تفصيلها عند الكلام على مسائلهم ودلائلهم. أمَّا محبة الربِّ سبحانه فإنهم صرحوا بأنه لا يُحِبُّ ولا يُحَبُّ، واستدلوا على ذلك بما هو مناقِض للفطرة والعقل والشرائع، كما سنذكره (5) إن شاء الله. وأصل الدِّين هو كونُه سبحانه يُحِبُّ ويُحَبُّ (6)؛ فإن الشرائع مبناها على شهادة أن لا إله إلَّا الله، والإله هو المستحقُّ لكمال الحب بكمال التعظيم والإجلال والذُّل له والخضوع له. فإنكار المحبة إنكار لنفس الإلهية. وأمَّا _________ (1) «ح»: «الأمانة». وستأتي على الصواب. (2) الجُرْم: الذنب. «الصحاح» (5/ 1885). (3) «ح»: «بكل». (4) «ح»: «تأبيد». (5) سيأتي في الوجه التالي. (6) «ح»: «ولا يحب». وزيادة «لا» خطأ يفسد المعنى.
(2/1012)
فروعها فمبناها على كونه سبحانه يُحب أقوالًا وأعمالًا، ويمدح [فاعليها] (1)، ويُثني عليهم ويُقرِّبهم منه، ويبغض أقوالًا وأعمالًا، ويذم فاعليها ويبغضهم ويبعدهم منه. [وعندهم] (2) أنه لا يُحِب ولا يبغض، بل كل ما شاءه فهو محبوبٌ له، وما لم يَشَأْه فهو مبغوضٌ، فإن محبته عندهم هي إرادته. ولهذا قالوا: لا يحبه أحدٌ؛ لأن المحبة نوعٌ من الإرادة، والقديم لا يمكن أن يُراد. وأمَّا أنه لا يُمدح ولا يُحمد، فلِمَا قرَّروا أن المدح هو مجرد الإخبار عن استحقاق الممدوح ما يلتذُّ به ويفرح به، واللذة والألم عليه محالٌ، كما سنذكر ألفاظهم [ق 120 أ] بعد هذا الوجه والكلام عليها. وأمَّا الرضا به والابتهاج والسرور بقُربه فذلك من توابع المحبة، وعندهم أنه لا يمكن تعلق المحبة به بوجهٍ. وأمَّا اللذة برُؤية وجهه وسماع كلامه، فليس له عندهم وجهٌ، ولا يُرى بحال، ولا يكَّلم ولا يمكن أن يتكلم. وأمَّا الإنابة إليه، فأصل الإنابة محبة القلب وخضوعه وذله للمحبوب المراد، فمن لا يُحَبُّ لا يمكن الإنابة إليه. وكذلك الفرح والسرور بقُربه عندهم أنه أمرٌ محالٌ. وأمَّا الطمأنينة به والأمن من عذابه بغير جُرمٍ فلا طريقَ لهم إلى ذلك؛ لأنهم يُجوِّزون عليه أن يُعذِّب أعظم أهل طاعته، ويُنَعِّم أكفرَ الخلق به، _________ (1) «ح»: «فاعلها». والمثبت ما يقتضيه السياق. (2) «ح»: «وعنده».
(2/1013)
وكلاهما بالنسبة إليه سواء عندهم، وإنما يُعلم ضدُّ ذلك بخبر صادق. والأدلة اللفظية عندهم لا تفيد اليقين، وكثيرٌ منهم يشك في العموم أو ينكره، والقدرة صالحة، ولا حُسن ولا قُبح هناك البتةَ. وأمَّا طريق العلم بإثباته فإنهم إنما أثبتوه بطريق الجواهر والأعراض والحركة والسكون، وأن ما قامت به الأعراضُ والحوادث يجب أن يكون حادثًا. فلزمهم نفيُ جميع صفاته وأفعاله، إذ لو أثبتوها بزعمهم لَأفسدَ عليهم طريق إثباته والعلم به، ولزمهم إنكارُ علوه على خلقه، واستوائه على عرشه، وتكلُّمِه، وأن يكون له كلام يُسمَع منه، فضلًا أن ينزل إلى الأرض. ومَن استجاز (1) منهم هذا ارتكب التناقض، وأثبت بعضها ونفى بعضًا، ولم يُوفِ ما أثبته حقَّه، بل نفى حقيقته وأثبت لفظه، أو أثبته من وجهٍ ونفاه من غيره، أو أثبت منه ما لا يُعقل. فهم سلكوا في طريق إثبات وجوده أعظم الطُّرق المنافية لوجوده، فضلًا عن ثبوت صفات كماله وأفعاله. وأمَّا طريق العلم بالنبوة فإنهم أصَّلوا أنه سبحانه يجوز عليه كل ممكنٍ، وأنه يجوز عليه تأييد الكذابين بأنواع المعجزات، وأنه لا فرق بالنسبة إليه سبحانه بين ذلك وبين تأييد الصادقين بها، فإن العقل لا [يُقبِّح] (2) ذلك ولا يُحسِّن هذا، وليس إلَّا مجرد القدرة والمشيئة. فلمَّا أورد عليهم العقلاء أن هذا يَسُدُّ طريق العلم بالنبوة عدلوا إلى نوع من المعارضة لخصومهم من المعتزلة، وقالوا: هذا يلزمنا ويلزمكم، فإن وجوب النظر في المعجزة عندكم وإن وجب بالعقل لكن وجوبه نظريٌّ، _________ (1) «ح»: «استجهز». ولعل المثبت هو الصواب. (2) «ح»: «يقبل». والمثبت هو الصواب.
(2/1014)
فالمكلف يقول: لا أنظر حتى يجب عليَّ، ولا يجب عليَّ حتى أنظر. فسددتم على أنفسكم طريقَ إثبات النبوة. فانظر كيف آلَ أمرُ الفريقين إلى الاعتراف بأن العلم بإثبات النبوة طريقه مسدودة عليهم، وماذا يفيدكم مشاركة خصومكم لكم في هذا الضلال المبين والكفر المستبين؟! فأبعد الله أصولًا وقواعدَ هذا حاصلُها ورأسُ مال أصحابها! أفلا يستحي مَن هذا حاصلُ معقوله وعِلمه ومنتهى معرفته أن يذكر أنصارَ الله ورسوله وحزبه بما لا يليق، أو ينسبهم إلى ما هو أولى به منهم من الجهل ومخالفة المعقول والمنقول؟! وهذا موضع المثل السائر: «[رمتني بدَائها] (1) وانسلَّتْ»! وقد تقدَّم ما ذَكره إمام أهل السُّنَّة محمد بن إسماعيل البخاري (2) عن بعض أهل العلم: «إن الجهمية هم المشبهة؛ لأنهم شبَّهوا الله سبحانه بالأصنام والمَوَات». وممَّا يوضح الأمر: الوجه الموفي [مائتي وجه] (3): وهو أن هؤلاء كما وضعوا قانونًا أصَّلوه لنفي كلامه وسمعه وبصره، ومباينته لخلقه واستوائه على عرشه ومجيئه لفصل القضاء بين عباده ورؤية أنبيائه وأوليائه له في دار الكرامة؛ بأن ذلك يستلزم التجسيم والتشبيه والتمثيل والتركيب وحلول الحوادث = وضعوا قانونًا آخر يتضمن نفي ما وصف به نفسه من الرأفة والرحمة والمحبة والمودة والحنان والغضب والرضى والفرح والضحك والتعجب. قالوا: لأن هذه الأمور متضمِّنةٌ للألم واللذة، والله سبحانه منزَّهٌ عن ذلك. قالوا: _________ (1) «ح»: «ومنتهى بدايتها». وقد سبق المثل (ص 372) على الصواب. (2) تقدم (ص 996). (3) «ح»: «مائتين وجهًا».
(2/1015)
ولأنها تستلزم الشهوة والنُّفرة وهو سبحانه منزهٌ عنهما. فانظر كيف توصلوا إلى نفي ما أثبته الله لنفسه، وأثبته له رسوله من هذه الأمور بهذه الألفاظ المجمَلة المتشابهة المتضمنة للحق والباطل، فهي ذات وجهين حقٍّ وباطلٍ، فتُقبل من الوجه الحقِّ، وتُردُّ من الوجه الباطل. فلفظ الشهوة واللذة والألم والنُّفرة من (1) الألفاظ التي فيها إجمالٌ وإبهامٌ، فكثير من الناس إنما يُطلِقها بإزاء شهوة الحيوان من الأكل والشرب والنكاح (والله تعالى قد جعل الباعث على إتيان الذكور الشهوة المجردة، لا الحاجة إلى ذلك، فإن الله لم يُحرِّم على عباده ما يحتاج العباد [ق 120 ب] إليه) (2) وتطلق (3) الشهوة بإزاء ما هو أعمُّ من ذلك، كشهوة الجاه والمال والعزِّ والنصر والعلم. قال الإمام أحمد (4): «محمد بن إسحاق صاحب حديث، يُشتهى حديثُه». وقد قال تعالى في الجنة: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِي اِلْأَنفُسُ وَتَلَذُّ اُلْأَعْيُنُ} [الزخرف: 71]. وهذا يعمُّ كل ما تشتهيه الأنفس من مأكولٍ ومشروبٍ _________ (1) «ح»: «ممن». (2) كذا وقعت هذه الجملة في «ح»، ويقصد بها قول الله تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ اَلْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ اَلْعَالَمِينَ (79) أَانَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ اِلنِّسَاءِ} [الأعراف: 79 - 80]. (3) «ح»: «ويطلق». (4) الذي وقفنا عليه في «سؤالات أبي داود للإمام أحمد» (177): «سمعت أحمد ذكر محمد بن إسحاق، فقال: كان رجلًا يشتهي الحديث فيأخذ كتب الناس فيضعها في كتبه». ونقلها كذلك: العقيلي في «الضعفاء» (5/ 201) والخطيب في «تاريخ بغداد» (2/ 28) وابن سيد الناس في «عيون الأثر» (1/ 20) والمزي في «تهذيب الكمال» (24/ 421) وغيرهم.
(2/1016)
ومسموعٍ ومرئيٍّ وغيره. وتُطلق الشهوة على الإرادة نفسها، فيقال لمَن له إرادة في الشيء ومحبة له: هو يشتهيه. كما يقال: فلان يشتهي لقاء فلان، ويشتهي قُربه، ويشتهي الحج. بل يقال لمن يريد ما تكره نفسه لمصلحةٍ أنه يشتهيه كما يقال: فلان يشتهي الشهادة في سبيل الله، ويشتهي شُرْب الدواء. فنقول: أتعنون بالشهوة التي نفيتموها عن الله الشهوةَ الحيوانية، أم الشهوة التي هي أعمُّ، أم الإرادة والمحبة؟ فإن أردتم الأول فنفيُه حقٌّ (1)، ودعواكم لزومه ممَّا أثبته لنفسه من الفرح والرضى والضحك ونحوها؛ باطلةٌ، تتضمن الكذب والتلبيس. وإن أردتم الثالث فنفيُه باطلٌ، وتوسُّلُكم إلى نفيه بتسميته شهوةً تلبيسٌ وتدليسٌ، ونفيٌ للمعنى الحق الثابت بتسميته بالاسم المستهجن في حقِّ مَن وُصف به. وإن أردتم الثاني استفصلناكم عن مرادكم، فإن فسرتموه بما يمتنع وصفه به قبلناه، وإن فسرتموه بما وصف به نفسه قابلناه بالإنكار والردِّ، وإن فسرتموه بأمرٍ مجملٍ محتملٍ استفصلناه، فقبلنا حقَّه، ورددنا باطلَه. وهؤلاء النُّفاة تجدهم دائمًا يعتمدون هذه الطريقة المتضمنة للتلبيس والتدليس، وينفون بها حقائق ما أخبر الله به عن نفسه. فيأتون إلى ألفاظٍ معناها في اللغة العربية أخصُّ من معناها في اصطلاحهم، فينفون معناها العام الذي اصطلحوا عليه، ويُوهمون الناس أنهم إنما نفوا معناها المعروف في _________ (1) «ح»: «حتى». والمثبت هو الصواب.
(2/1017)
اللغة. والناس أول ما يسمعون تلك الألفاظ إنما يفهمون منها (1) معناها اللغوي، فيوافقونهم على النفي تعظيمًا لله وتنزيهًا له؛ ومرادهم نفي المعنى العام الذي اصطلحوا عليه، وقد جمعوا في ذلك تحريف لغة العرب عن مواضعها وتحريف كلام الله ورسوله عن مواضعه، ولبس الحق بالباطل في النفي والإثبات. فمعرفة (2) مراد هؤلاء وكلامهم من تمام مقاصد الدِّين، ليتمكن أهل السُّنَّة والحديث مِن ردِّ باطلهم وتبيين إفكهم. وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب اليهود؛ فكان يكتب له كتبهم، ويقرأ له كتبهم (3). وسأل رجلٌ عبدَ الله بن عمر عن الأنبذة، وقال: أخبِرْني عنها بِلُغتكم وفسِّرْها لي بلغتنا، فإن لكم لغةً ولنا لغةً. فذكرها ابن عمر باللفظ الذي قاله النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم فسَّرها بلغة السائل (4). فنقول: أنتم في هذا المقام، إنما نظركم في المعاني العقلية، لا في إطلاق الألفاظ، فإن أهل السُّنَّة والحديث أعلمُ بذلك منكم، وأولى بمراعاة الألفاظ الشرعية، وهم أبعدُ عن أن يصفوا الله إلَّا بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله منكم، فما مقصودكم [مِن] (5) نفي الشهوة والنفرة واللذة والألم _________ (1) «ح»: «منهما». (2) «ح»: «فمعروف». والمثبت هو الصواب. (3) علَّقه البخاري في «صحيحه» (7195)، ووصله الإمام أحمد (22019) وأبو داود (3645) والترمذي (2715) عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه -. وقال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح، وقد رُوي من غير هذا الوجه عن زيد بن ثابت». (4) أخرجه مسلم (1997). (5) سقط من «ح».
(2/1018)
عنه؟ إن عنيتم به ما هو من خصائص المخلوقين فلا ريب في انتفائه عنه سبحانه؛ لأن كماله المقدَّس ينفيه، فإثباته نقصٌ وعيبٌ. وأنتم قد اعترفتم أنه لم يقم دليلٌ عقليٌّ على تنزيهه عن العيوب والنقائص، وإنما استندتم فيه إلى الإجماع، واعترفتم بأن دلالته ظنيةٌ، وهذا موجود في «إرشادكم» (1) و «نهايتكم» (2) وغيرها. ونحن نُقرِّر نفي ذلك بالأدلة القطعية والبراهين اليقينية؛ فإنه سبحانه لا يجوز أن يُماثل خلقه في شيءٍ من صفاتهم وأفعالهم، فهو منزهٌ عن أن يطلب ما يَقْبُح طلبه، أو يريد ما لا يَحْسُن إرادته، أو يطلب ويكره ويحب ما لا يصلح طلبه وكراهته ومحبته إلَّا للمخلوق. وكل ما يُنزَّه سبحانه عنه من العيوب والنقائص، فهو داخلٌ فيما نزَّه نفسه عنه، وفيما يُسبَّح به ويُقدَّس ويُحمد ويُمجَّد، وداخل في معاني أسمائه الحُسنى، وبذلك كانت حُسنى، أي أحسن من غيرها، فهي أفعل تفضيل معرَّفة باللام، أي: لا أحسن منها بوجهٍ من الوجوه، بل لها الحُسن الكامل التام المطلق، وأسماؤه الحسنى وآياته البينات متضمنةٌ لذلك ناطقةٌ به صريحةٌ فيه، وإن أَلْحَد فيها الملحدون، وزاغ عنها الزائغون. وقد بيَّنا فيما تقدَّم (3) أن كل ما يُنزَّه الربُّ عنه إن لم يكن متضمنًا لإثبات _________ (1) يعني: «الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد» لأبي المعالي الجويني، وينظر (ص 74 - 76) منه. (2) يعني: «نهاية العقول في دراية الأصول» للفخر الرازي، وينظر (3/ 188 - 189، 231 - 232) منه. (3) تقدم (ص 653 - 661).
(2/1019)
كماله ومستلزمًا لأمرٍ ثبوتيٍّ يُوصف به لم يكن في تنزيهه عنه مدحٌ ولا حمدٌ ولا تمجيدٌ ولا تسبيحٌ، إذ العدم المحض ـ كاسمه ـ لا حمد فيه ولا مدح، وإنما يُمدح سبحانه بنفي أمور تستلزم أمورًا هي حقٌّ ثابتٌ [ق 121 أ] موجودٌ يستحق الحمد عليها، وذلك الحق الموجود ينافي ذلك الباطلَ المنفي؛ فيُستدل برفع أحدهما على ثبوت الآخر. فتارةً يستدل بثبوت تلك المحامد والكمالات على نفي النقائص التي تنافيها، وتارةً يُستدل بنفي تلك النقائص على ثبوت الكمالات التي تنافيها. فهو سبحانه القدوس السلام، كما قال: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 253] لكمال حياته وقيوميته، و {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} [سبأ: 3] لكمال علمه، {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} [ق: 38] لكمال قدرته، {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 48] لكمال عدله وغناه ورحمته، و {لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى} [طه: 51] لكمال علمه وحفظه، {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 253] لكمال قدرته وقوته، {وَهْوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} [الأنعام: 15]، و {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص: 3] لكمال صمديته، {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُؤًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] لتفرده (1) بالكمال المطلق الذي لا يُشاركه فيه غيره، {وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ اَلذُّلِّ} [الإسراء: 110] لكمال عزِّته وسلطانه. {وَلَا يَخَافُ عُقْباهَا} [الشمس: 16] فنفى عن نفسه خوف عاقبة ما فعله من إهلاك أعدائه، بخلاف المخلوق؛ فإنه إذا انتقم من عدوه يخاف عاقبة ذلك، إمَّا من الله وإمَّا من المنتصرين لعدوه، وذلك على الله (2) محال. والخوف _________ (1) «ح»: «كفرده». والمثبت هو الصواب. (2) «ح»: «أنه». والمثبت هو الصواب.
(2/1020)
يتضمن نقصانَ العلم والقدرة والإرادة؛ فإن العالم بأن الشيء لا يكون لا يخافه، والعالم بأنه يكون ولا بد قد يَئِسَ من النجاة منه فلا يخاف، وإن خاف فخوفُه دون خوف الراجي. وأمَّا نقص القدرة فلأن الخائف من الشيء هو الذي لا يمكنه دفعه عن نفسه؛ فإذا تيقَّن أنه قادرٌ على دفعه لم يخفه. وأمَّا نقص الإرادة فلأن الخائف يحصل له الخوفُ بدون مشيئته واختياره، وذلك محالٌ في حقِّ من هو بكل شيءٍ عليمٌ، وعلى كل شيءٍ قديرٌ، ومَن لا يكون شيءٌ إلَّا بمشيئته وإرادته، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. وهذا لا ينافي كراهته سبحانه وبغضه وغضبه؛ فإن هذه الصِّفات لا تستلزم نقصًا لا في علمه ولا في قدرته ولا في إرادته، بل هي كمالٌ؛ لأن سببها العلم بقبح المكروه المبغوض المغضوب عليه، وكلما كان العلم بحاله [أتم] (1) كانت كراهته وبغضه أقوى، ولهذا يشتد غضبه سبحانه على مَن قتل نبيَّه أو قتله نبيُّه (2). فصل وإن قال: أعني بذلك ما هو أعمُّ من شهوة الحيوان وألمه ولذته ونُفْرته. قيل له: الشهوة والنفرة جنسهما الحبُّ والبغض، فكل مشتهٍ لشيءٍ فهو _________ (1) «ح»: «أهم». والمثبت هو الصواب. (2) أخرج البخاري (4073) ومسلم (1793) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اشتدَّ غضبُ الله على رجلٍ يقتله رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في سبيل اللهِ عز وجل». وأخرج الإمام أحمد في «مسنده» (3945) والبزار في «مسنده» (1728) والطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (6) عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أشدُّ الناسِ عذابًا يوم القيامة رجلٌ قتله نبيٌّ أو قتلَ نبيًّا ... ». وقال المنذري في «الترغيب والترهيب» (3/ 168): «رواه البزار بإسنادٍ جيدٍ».
(2/1021)
محبٌّ له، وكل نافرٍ عن شيءٍ فهو مبغضٌ له، وإن كان من المحبة والبغض ما لا يُسمَّى في لغة القوم شهوةً ونفرةً، كمحبتنا لله ورسوله. وإذا كان كذلك فمعلومٌ أن الله سبحانه قد وصف نفسه بالمحبة والبغض في غير موضعٍ من كتابه وسُنة رسوله، وهو موصوفٌ بالإرادة والكراهة المتضمنة للحب والبغض والشهوة. والنفرة أيضًا تتضمن معنى الإرادة والكراهة، فإن المشتهي فيه نوع إرادةٍ والنافر فيه نوع كراهةٍ، والإرادة والكراهة من لوازم الحياة؛ فكل حيٍّ مريدٌ كارهٌ، والشهوة والنفرة من لوازم الحيوان (1)؛ فإنه يشتهي ما يتضمن بقاء ذاته ويلائمه، وينفر من ضدِّ ذلك. وهذه الأسماء قد تتنوع إمَّا بحسب صفاتها في أنفسها، وإمَّا بحسب متعلقها، وهو المحبوب المكروه، لما في لغة العرب من التفريق بين اللفظين لأدنى فرق بين المعنيين لقوة التمييز في عقولهم وألسنتهم، بخلاف الأُمم الذين يضعف فيهم التمييز، فإنهم يغلب عليهم الاقتصار على القدر المشترك في العقل واللسان. وثبوت تلك الفروق اللفظية في المعاني والألفاظ لا يمنع (2) ثبوت القدر المشترك بينها الذي تدركه سائر الأُمم، فيجب إثبات القدر المشترك والقدر المميز. وإذا كان بين الشهوة والمحبة والإرادة والرضى والفرح قدرٌ مشتركٌ، وبين النُّفرة والبغض والكراهة والسخط ونحوها قدرٌ مشتركٌ، فمن نفى مُسمَّى أحد هذه الألفاظ فإن عنى به نفي جميع مُسمَّاه لزم نفي القدر المشترك الثابت في البواقي، وإن نفى ما يختص به ممَّا هو من خصائص _________ (1) «ح»: «الخوان». والمثبت هو الصواب. (2) «ح»: «يمتنع». والمثبت هو الصواب.
(2/1022)
المخلوقين فقد أصاب. والله سبحانه منزهٌ في جميع ذلك أن يثبت له، وإن نفى عنه شيئًا من ذلك ممَّا هو مختصٌّ به لأجل ما يُظَنُّ مستلزمًا لنقصٍ فذلك لازم له في جميع ما يُوصف به، فإنه سبحانه إنما يُوصف من كل نوعٍ بأكمل (1) ذلك النوع على وجهٍ لا يستلزم نقصًا ولا تمثيلًا. فصل يُبيِّن ذلك أن الحبَّ والبغض من لوازم الحياة، فلا يكون حيٌّ إلَّا محبًّا مبغضًا، كما لا يكون حيٌّ إلَّا وله علمٌ وإرادةٌ وفعلٌ، بل حبُّ الله سبحانه لما يحبه، وبغضه لما يبغضه، وإرادته لما يريده، وكراهته = لما يكرهه أكمل الحبِّ والبغض والإرادة والكراهة [ق 121 ب]، كما قال تعالى: {لَمَقْتُ اُللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} [غافر: 9]، وقال تعالى: {وَاَللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا} [النساء: 83]، وهذا تابعٌ لشدة غضبه ومَقْته. وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اَللَّهَ اَلَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 14]، وكذلك هو أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين، وأعلم العالمين. فهو أكبر في كل صفةٍ من صفاته، كما هو أكبر في جميع صفاته وذاته وأفعاله. فصل وقد ذكر أفضلُ متأخِّريهم أدلتهم على امتناع هذه الأمور على الله، وأبطَلَها كلها، فكفانا مؤنتَها؛ ثم اختار لنفسه مَسلكًا هو أبطلُ منها، فقال (2): «والمعتمد أن نقول: لو صحَّت اللذةُ على الله تعالى لكان خلقه للملتذِّ _________ (1) «ح»: «بما كمل». والمثبت هو الصواب. (2) الفخر الرازي في «نهاية العقول» (3/ 226 - 227).
(2/1023)
به إمَّا أن يكون في الأزل أو لا يكون، والقسمان باطلان (1)، فالقول بصحة اللذة على الله محالٌ. وإنما قلنا إنه لا يصح (2) خلقُه للملتذِّ به في الأزل؛ لأن الفعل الأزلي محالٌ، وإنما قلنا يستحيل أن يكون حادثًا؛ لأنه إذا كان حادثًا كان ممكنًا قبل كونه، وإلَّا كان ممتنعًا ثم انقلب إلى الإمكان وهو محالٌ. وإذا كان ممكنًا فالله قادرٌ على إيجاده قبل ذلك، وإلا كان منتقلًا من [العجز إلى القدرة] (3) وهو محالٌ. وإذا ثبت ذلك فنقول: كل مَن صحَّت عليه اللذة إذا كان عالمًا بقدرته على تحصيل الملتذِّ به، وكان الملتذُّ به في نفسه ممكنًا فإنه يكون كالملجأ إلى إيجاد الملتذ به، وإذا كان كذلك لزم كونُه تعالى فاعلًا للملتذِّ به قبل فِعله، وذلك محالٌ. فثبت أن القول بصحة اللذة على الله محالٌ؛ لأنه يُفضي إلى المحال، وما أفضى إلى المحال محالٌ». ومضمون هذه الحجة بعد تطويل مقدماتها أن جواز ذلك عليه مستلزمٌ لكون الملتذِّ به حادثًا، وكونه متقدمًا على حدوثه، وكون الشيء متقدمًا على وجوده محالٌ. وفسادها بيِّنٌ من وجوهٍ: أحدها: النقض والمعارضة بالإرادة والمحبة والرحمة والرضى، بأن يقال: لو صحت على الله الإرادة والمحبة والرِّضى لكان فِعله للمراد المحبوب المرضي إمَّا في الأزل وهو محالٌ، وإمَّا فيما لم يزل وهو محال؛ لما ذكره بعينه من مقدمات دليله. الوجه الثاني: أن لفظ اللذة والألم من الألفاظ التي فيها إجمالٌ واشتباهٌ، _________ (1) «نهاية العقول»: «محالان». وذكر محققه أن ما هاهنا في نسخة. (2) «لا يصح» في «نهاية العقول»: «يستحيل». وذكر محققه أن ما هاهنا في نسخة. (3) «ح»: «من القدرة إلى العجز». والمثبت من «نهاية العقول».
(2/1024)
كلفظ الجسم (1) والحيز والتركيب وغيرها، وليس لها ذكرٌ في الكتاب والسُّنَّة بنفيٍ ولا إثباتٍ، بل جاء في القرآن والسُّنَّة وصفُه بالمحبة والرِّضى والفرح والضحك، ووصفه بأنه يصبر على ما يُؤذيه، وإن كان العباد لا يبلغون نفعه فينفعونه ولا ضره فيضرونه (2). والذي نفاه هؤلاء يُدرجون تحته ما وصف به نفسه، وهو إبطالٌ لِمَا جاءت به الرسلُ، ونزلت به الكتبُ، ولِمَا خُلق الخلق لأجله؛ فإن الله سبحانه أرسل رسله، وأنزل كُتبه، ليدعو الخلق إلى ما يُحبُّه ويرضاه، وينهاهم عمَّا يبغضه ويسخطه. وقد أخبر رسوله عنه من محبته ورضاه وفرحه وضحكه وتَبَشْبُشِه (3) بأوليائه وأحبائه وأهل طاعته، وعن غضبه وسَخَطه وبغضه ومقته وكراهته لأعدائه وأهل مخالفته، ممَّا يضيق هذا المكان عن استقصائه. وعلى هذا الأصل تنشأ مسألة التحسين والتقبيح، وقد ذكرناها مستوفاةً _________ (1) «ح»: «الجسيم». والمثبت هو الصواب. (2) أخرج مسلم في «صحيحه» (2577) عن أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه -، عن النبي الله - صلى الله عليه وسلم -، فيما روى عن الله تبارك وتعالى قال: «يا عبادي، إنكم لن تَبلُغُوا ضَرِّي فتَضُرُّوني، ولن تبلغوا نَفْعي فتنفعوني». (3) «ح»: «وتسيسه». وهو تصحيف. يشير المصنِّف إلى ما أخرجه الإمام أحمد في «مسنده» (8180، 8465، 8603، 9976) وابن ماجه في «سننه» (800) وابن خزيمة في «صحيحه» (359، 1491، 1503) وابن حبان في «صحيحه» (1607) والحاكم في «المستدرك» (1/ 213) عن أبي هريرة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يتوضأ أحدٌ فيُحسِن وضوءه ويُسبِغه، ثم يأتي المسجدَ لا يريدُ إلا الصلاةَ فيه، إلَّا تبشبش اللهُ به كما يتبشبشُ أهلُ الغائب بطَلْعته». وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه». والبشاشة: طلاقة الوجه، يقال: لقيته فتبشبش بي. «الصحاح» (3/ 996).
(2/1025)
في كتاب «المفتاح» (1) وذكرنا على صحتها فوق الخمسين دليلًا. وقد قال - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه تعالى: «يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ» (2). وقال: «لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللَّهِ، يَجْعَلُونَ لَهُ الْوَلَدَ وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ» (3). وقال حاكيًا عن ربِّه: «شَتَمَنِي ابنُ آدَمَ؛ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ، وَكَذَّبَني ابنُ آدَمَ؛ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ» (4). وقد فرَّق الله بين أذاه وأذى رسوله وأذى المؤمنين والمؤمنات، فقال: {إِنَّ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اُللَّهُ فِي اِلدُّنْيا وَاَلْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا (57) وَاَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَاَلْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اَكْتَسَبُوا فَقَدِ اِحْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 57 - 58]. وليس أذاه سبحانه من جِنس الأذى الحاصل للمخلوقين، كما أن سَخَطه وغضبه وكراهته ليست من جنس ما للمخلوقين. الوجه الثالث: أن ما وصف اللهُ سبحانه به نفسَه من المحبة والرضى والفرح والغضب والبُغْض والسَّخَط من أعظم صفات الكمال، إذ في العقول (5) أنَّا إذا فرضنا ذاتين: إحداهما لا تحب شيئًا ولا تبغضه ولا ترضاه ولا تفرح به، ولا تُبغِض شيئًا، ولا تغضب منه، ولا تكرهه وتَمقُته. _________ (1) «مفتاح دار السعادة» (2/ 875 - 891). (2) أخرجه البخاري (4826) ومسلم (2246) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (3) أخرجه البخاري (6099) ومسلم (2804) واللفظ له، عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -. (4) أخرجه البخاري (3193) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (5) «ح»: «القول». والمثبت هو الصواب.
(2/1026)
والذات الأخرى تحب كلَّ جميلٍ من الأقوال والأفعال والأخلاق والشِّيم، وتفرح به، وترضى به، وتبغض كل قبيحٍ يُسمى، وتكرهه وتمقته، وتَمقُت أهله، وتصبر على الأذى، ولا تجزع منه ولا تتضرَّر به [ق 122 أ]. = كانت هذه الذات أكمل من تلك الموصوفة بصفات العدم والموات والجهل الفاقدة للحسِّ، فإن هذه الصِّفات لا تُسلب إلَّا عن الموات، أو عمَّن فقد حسَّه، أو بلغ في النهاية والضعف والعجز والجهل إلى الغاية التي لم تدَعْ له حبًّا ولا بُغضًا ولا غضبًا ولا رضًى. بل اليهود الذين وصفوه بالغمِّ والحزن والبكاء والندم أحسن حالًا من الذين سلبوه هذا الكمال، كما أن المُشبِّهة المحضة خيرٌ من المعطلة النُّفاة لصفات كماله وحقائق أسمائه الحسنى. وأهل الحقِّ أنصار الله ورسوله وكتبه والسُّنَّة (1) براء من الفريقين. الوجه الرابع: أنه لا كمالَ في مجرد سلب ذلك عنه، كما قدمنا (2) أن السلب إن لم يتضمن إثباتًا، وإلَّا (3) لم يكن مدحًا ولا كمالًا. فليس له من مجرد كونِه لا يحب ولا يرضى ولا يفرح ولا يضحك ولا يغضب، حمدٌ ولا كمالٌ؛ فإنه نفيٌ صرفٌ وعدمٌ محضٌ، فلا يُحمد به. وهذا بخلاف نفي الغمِّ والهمِّ والحزن والندم عنه؛ فإنه يتضمن ثبوتًا، وهو كمال قدرته وعلمه، فإن أسباب هذه الأمور إمَّا عجزٌ منافٍ للقدرة، وإمَّا جهلٌ منافٍ للعلم؛ وكمال قدرته وعلمه يناقض وصفه بذلك. وهذا وغيره ممَّا يُبيِّن أن النُّفاة المعطلة أقل الناس تحميدًا وتمجيدًا وتسبيحًا وثناءً على الله، وأن أهل _________ (1) الواو ليست في «ح». (2) تقدم (ص 653 - 661). (3) كذا والسياق يستقيم دون «وإلا».
(2/1027)
الإثبات أعظم تسبيحًا وتحميدًا وثناءً على الله، كما سنقرره فيما بعد إن شاء الله. الوجه الخامس: أن يقال: ما المانع من أن يكون رضاه ومحبته وفرحه من كماله في نفسه وما هو عليه من الجلال (1) والجمال، ولا يحتاج في ذلك إلى شيءٍ مخلوق، بل يكفي في حصوله (2) حصول جماله وجلاله؟ وحينئذٍ فيقال: قولُك لو صحَّ الرضى والفرح ـ الذي تسميه أنت لذةً ـ عليه لكان خلقُ المفروح المرضيِّ به إمَّا في الأزل أو بعده، إنما يجب ذلك إذا امتنع أن تكون محبته لنفسه ورضاه بنفسه وفرحه بنفسه سبحانه، وحينئذٍ فلا ينتفي المعنى الذي سميته لذةً إلَّا إذا امتنع هذا، وأنت لم تُقِم دليلًا على امتناعه، بل أنت في نفي هذا أضعف حجةً ممَّن نفى التذاذ أوليائه بالنظر إلى وجهه، فإن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين كلهم وأهلَ السُّنَّة كلهم متفقون على إثبات رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة. ولكن زعم بعض أهل الكلام أنه لا يحصل لهم بذلك لذةٌ، كما زعم أبو المعالي الجويني في «رسالته النظامية» (3) أن نفس النظر إليه سبحانه لا لذةَ فيه، إذ اللذة إنما تكون بالمناسِب، ولا مناسبة بين القديم والمُحْدَث، وزعم أن هذا من أسرار التوحيد، وكذلك أبو الوفاء بن عقيل (4) سمع قائلًا _________ (1) «ح»: «الحال». والمثبت هو الصواب. (2) «ح»: «حصول». والمثبت هو الصواب. (3) ينظر (ص 59) منها. (4) نقله عنه ابن تيمية في «الاستقامة» (2/ 98) وفي «النبوات» (1/ 342) وفي «مجموع الفتاوى» (10/ 695).
(2/1028)
يقول: أسألك لذة النظر إلى وجهك، فقال: «يا هذا، هب أن له وجهًا، أفتلتذُّ بالنظر إليه؟» (1). وهذه نزعةٌ اعتزاليةٌ، وإلَّا فأهل المعرفة بالله وخاصة أولياء الله ليس عندهم شيءٌ ألذُّ من النظر إلى وجهه الكريم، وليس بين هذه اللذة ولذة الأكل والشرب والنعيم المنفصل نسبةٌ أصلًا، كما لا نسبة بين الربِّ جل جلاله وبين شيءٍ من مخلوقاته، فالنسبة بين اللَّذَّتين لا تُدرك أصلًا. قال شيخنا (2): «وعلى ذلك جميع أهل السُّنَّة وسلف الأمة وأئمة الإسلام». قال الحسن البصري شيخ الإسلام في زمن التابعين: «لو علم العابدون أنهم لا يرون ربهم في الآخرة لذابت نفوسهم في الدنيا شوقًا إليه» (3). وقال الشافعي - رحمه الله -: «لو علم محمد بن إدريس أنه لا يرى ربه في الآخرة لَمَا عبده في الدنيا» (4). وقال: «أنا أخالف ابن عُلَية (5) في كل شيءٍ حتى في قول لا إله إلَّا الله، _________ (1) قال ابن تيمية في «منهاج السنة» (5/ 392 (: «وهذا ونحوه ممَّا أُنكر على ابن عقيل، فإنه كان فاضلًا ذكيًّا، وكان تتلون آراؤه في هذه المواضع، ولهذا يوجد في كلامه كثير مما يوافق فيه قول المعتزلة والجهمية، وهذا من ذاك.». (2) «مجموع الفتاوى» (10/ 696). (3) أخرجه عبد الله بن أحمد في «السنة» (486) والدارمي في «الرد على الجهمية» (202) والآجري في «الشريعة» (571) واللالكائي في «أصول الاعتقاد» (869) وأبو نعيم في «الحلية» (5/ 278). (4) أخرجه الحاكم ـ كما في «حادي الأرواح» (2/ 616) ـ واللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (883) والبيهقي في «مناقب الشافعي» (1/ 419). (5) هو إبراهيم بن إسماعيل ابن عُلية، قال ابن تيمية في «الاستقامة» (1/ 337): «كان متكلمًا تلميذًا لعبد الرحمن بن كيسان الأصم ـ أحد شيوخ المعتزلة ـ وكان قد ذهب إلى مصر، وكان بينه وبين الشافعي مناوأة».
(2/1029)
فإني أقول: لا إله إلَّا الله الذي يُرى في الآخرة. وهو يقول: لا إله إلَّا الله الذي لا يُرى في الآخرة» (1). وكذلك جاءت السُّنن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما روى مسلم في «صحيحه» (2) عن صُهَيبٍ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، نَادَى مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ يُنْجِزَكُمُوهُ. فَيَقُولُونَ: وَمَا هُوَ؟ أَلَمْ يُبَيِّضْ وُجُوهَنَا، وَيُثَقِّلْ مَوَازِينَنَا، وَيُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ، وَيُنْجِنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَمَا أَعَطَاهُمُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ، وَهِيَ الزِّيَادَةُ». فأخبر الصادق المصدَّق أن نظرهم إليه أحبُّ إليهم من كل ما أعطاهموه. وكذلك ما رواه الإمام أحمد (3) وأهل السُّنن (4) وابن حِبَّان (5) في _________ (1) أخرجه البيهقي في «مناقب الشافعي» (1/ 409) وابن عبد البر في «الانتقاء» (ص 78). (2) (181) من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب - رضي الله عنه -. وقد تفرد به حماد بن سلمة هكذا، وخالفه غيره. قال الترمذي في «الجامع» (2552): «هذا حديث إنما أسنده حماد بن سلمة ورفعه. وروى سليمان بن المغيرة وحماد بن زيد هذا الحديث عن ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قوله». وقال البزار في «مسنده» (2087): «والحديث إذا رواه الثقة كان الحديث له إذا زاد، وكان حماد بن سلمة - رضي الله عنه - من خيار الناس وأمنائهم». وقال المصنِّف في «حادي الأرواح» (2/ 638): «هذا حديثٌ رواه الأئمة عن حمادٍ، وتلقوه عن نبيهم بالقبول والتصديق». (3) (18615). (4) النسائي (1305، 1306). (5) (1971). والحديث أخرجه الحاكم في «المستدرك» (1/ 524) وقال: «هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه».
(2/1030)
«صحيحه» من حديث عمار بن ياسرٍ، أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو: «اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ، أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ [فِي] (1) الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَكَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، وَالْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى. وَأَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَبَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَأَسْأَلُكَ نَعِيماً لَا يَنْفَدُ، وَقُرَّةَ عَيْنٍ [ق 122 ب] لَا تَنْقَطِعُ. وَأَسْأْلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ. اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ». يوضحه: الوجه السادس: وهو أن اللذة والفرح تابعةٌ للمحبة في الكمال والقوة، والمحبة تابعة لمعرفة المحب بصفات المحبوب وجماله. فكلما كان العلم به أكملَ كانت محبته أقوى، وكلما كانت المحبةُ أقوى كانت اللذة والفرح به أكملَ وأتم. وإذا ثبت هذا فإذا كان العبادُ يحصل لهم بمعرفته وذِكره ورؤيته واستماعِ كلامه منه ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشرٍ، وهو سبحانه أعلمُ بنفسه من غيره، وكذلك كان حمدُه لنفسه وثناؤه على نفسه أعظمَ مِن حمد الحامدين له وثناء المُثْنِين عليه؛ فإن الحمد والثناء تابعٌ للمعرفة والعلم بصفات المحمود، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أعظمَ الناس حمدًا لربه وثناءً عليه؛ لما كان أعلمَ الخلق به. فثناءُ الربِّ سبحانه على نفسه وحمده لنفسه وتمجيده لنفسه ومحبته لنفسه ورضاه عن نفسه فوق ما يخطر ببال الخلق، أو يدور في قلوبهم، أو تجري به ألسنتُهم؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَا أُحْصِي ثَنَاءً _________ (1) سقط من «ح».
(2/1031)
عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» (1). يوضحه: الوجه السابع: أنه سبحانه إذا كان يحب بعضَ ما خَلَقه، ويرضى عنه ويفرح به لما أعطاه من صفات الكمال؛ فمحبته لنفسه ورضاه عن نفسه أولى وأحرى وأعظمُ من محبته لمخلوقه. وأنه إذا أحب أهل العلم وأهل الرحمة، ويحب المحسنين، ويحب الصابرين، ويحب الشاكرين، ويُثنِي عليهم، وهو الذي أعطاهم هذه الصِّفات وأحبَّهم لأجلها؛ فما الظن بمحبته لنفسه وثنائه عليها؟ ومن المعلوم أن محبته لهم وثناءه عليهم تبعٌ لمحبته لنفسه وثنائه على نفسه. الوجه الثامن: أن الجهمي أَبطلَ هذا بقوله: إن اللذة إدراك الملائم، فيلزم أن يقال: ذات الله ملائمة لذاته، وذلك غير معقول؛ لأن الملاءمة لا تتقرر إلَّا بين شيئين. وهذا الذي قرَّره باطلٌ من وجوهٍ: أحدها: أن اللذة ليست نفس إدراك الملائم كما زعم، بل هي حالة تنشأ عن الإدراك، فالإدراك سببُها لا نفسها. فهاهنا ثلاثة أشياء: ملائم، وإدراكه، وما ينشأ عن الإدراك من الالتذاذ والفرح والسرور. وكذلك الألم، ليس هو نفس إدراك المنافي، بل حالة تنشأ عن إدراكه. وعلى هذا فإدراك الذات: ملائمٌ. والفرح والرضى ـ الذي سميته لذةً ـ مترتب على إدراك الذات، وهذا أمر معقولٌ لكل عاقلٍ. فإن المخلوق يدرك من ذاته كمالًا يلتذُّ بإدراكه ويُسرُّ ويفرح به، مع كون ذلك الكمال ناقصًا بين عدمين، وهو من غيره ليس منه، _________ (1) أخرجه مسلم في «صحيحه»، وقد تقدم (ص 620) تخريجه.
(2/1032)
فكيف بمن له الكمال المطلق الواجب السرمد، وهو لم يستفدْه من غيره، وهو أعلم بكماله وكل ما سواه. الثاني: قولك: الملاءمة لا تتقرَّر إلَّا بين اثنين. جوابه: أن مثل هذا يكون في الذات الواحدة باعتبارين، كما قال تعالى: {وَنَهَى اَلنَّفْسَ عَنِ اِلْهَوى} [النازعات:39]، وقال: {إِنَّ اَلنَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّو} [يوسف: 53] وقال آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} [الأعراف: 22]. فالنفس واحدةٌ، وهي الناهية المنهية، والأمارة المأمورة، والظالمة المظلومة، كما تكون هي العاقلة المعقولة. والإنسان يحب نفسه، فيكون هو المحِبَّ المحبوبَ، فإذا كان هذا أمرًا معقولًا في المخلوق غير ممتنعٍ؛ فكيف يمتنع في حقِّ الخالق؟ الثالث: أنه سبحانه يحب صفاته، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ» (1). وقال: «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ» (2). و «إِنَّ اللهَ نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ» (3) ........................................................... _________ (1) أخرجه الإمام أحمد (26021) والترمذي (3513) والنسائي في «السنن الكبرى» (7665، 10642، 10643) وابن ماجه (3850) والحاكم (1/ 530) عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -. وقال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح». وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه». وصحح إسناده ابن حجر في «نتائج الأفكار» (5/ 188). (2) أخرجه مسلم (91) عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. (3) أخرجه الترمذي (2799) والبزار (1114) وأبو يعلى (790، 791) وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1186) عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -. وقال الترمذي: «هذا حديثٌ غريبٌ، وخالد بن إلياس يُضعَّف». وقال البزار: «وهذا الحديث لا نعلم يروى عن سعد إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد». وقال ابن الجوزي: «هذا حديث لا يصح». وقال ابن رجب في «جامع العلوم والحكم» (1/ 258): «وفي إسناده مقال».
(2/1033)
و «إِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ» (1). و «إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا» (2). ورُوِيَ «إِنِّي عَلِيمٌ أُحِبُّ كَلَّ عَلِيمٍ» (3). وإذا كان يحب صفاته وهي قائمة بذاته فكيف بمحبته لذاته؟! الوجه التاسع: أن يقال: ما المانع أن (4) يحب ويرضى ويفرح ويضحك بما يكون من الأمور الحادثة الموافقة لمحبته ورضاه، كما في الأحاديث المستفيضة المتواترة، مثل ما في «صحيح البخاري» (5) وغيره عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حَيْثُ يَذْكُرُنِي. وَاللَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ يَجِدُ ضَالَّتَهُ فِي الْفَلَاةِ. وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِذَا أَقْبَلَ يَمْشِي أَقْبَلْتُ إِلَيْهِ أُهَرْوِلُ». _________ (1) أخرجه البخاري (6410) ومسلم (2677) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (2) أخرجه مسلم (1015) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (3) علَّقه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» (236) بصيغة التمريض، وقال العراقي في «تخريج الإحياء» (18): «لم أظفر له بإسناد». وأورده تاج الدين السبكي في «طبقات الشافعية الكبرى» (6/ 88) ضمن أحاديث «الإحياء» التي لم يجد لها إسنادًا. (4) «المانع أن» ألحقه الناسخ على حاشية «ح» لكن خرَّج اللحق قبل «يقال» فاختل السياق، ولعل المثبت هو الصواب. (5) (7405) دون قوله: «وَاللَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ يَجِدُ ضَالَّتَهُ فِي الْفَلَاةِ». وأخرجه مسلم (2675) بتمامه.
(2/1034)
وفي «الصحيح» (1) عن البراء بن عازبٍ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كَيْفَ تَقُولُ بِفَرَحِ عَبْدٍ إِذَا انْفَلَتَتْ مِنْهُ رَاحِلَتُهُ، تَجُرُّ زِمَامَهَا بِأَرْضٍ قَفْرٍ لَيْسَ فِيهَا طَعَامٌ وَلَا شَرَابٌ، وَعَلَيْهَا لَهُ طَعَامٌ وَشَرَابٌ، فَطَلَبَهَا حَتَّى شَقَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ مَرَّتْ بِجِذْلِ شَجَرَةٍ فَتَعَلَّقَ زِمَامُهَا، فَوَجَدَهَا مُتَعَلِّقَةً بِهِ؟» قلنا: شديدًا، يا رسول اللَّه. فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «أَمَا وَاللَّهِ، لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنَ الرَّجُلِ بِرَاحِلَتِهِ». وفي «الصحيح» (2) عن أنسٍ أن رسول الله [ق 123 أ] - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ إِذَا سَقَطَ عَلَى بَعِيرِهِ قَدْ أَضلَّهُ بِأَرْضِ فَلاةٍ». وفي كتاب «العلل» للدارقطني (3): «لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنَ الْعَقِيمِ الْوَالِدِ وَالمُضِّلِّ (4) الوَاجِدِ وَالظَّمْآنِ الْوَارِدِ (5)» هذا أو نحوه. _________ (1) «صحيح مسلم» (2746). (2) أخرجه البخاري (6309) ومسلم (2747). (3) (7/ 269 - 270) معلقًا عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، وفيه: «من الضال الواجد». والحديث أخرجه أبو عوانة في «مستخرجه» ـ كما في «إتحاف المهرة» (18722) ـ والحسن الخلال في «المجالس العشرة» (86) وابن عساكر في «التوبة» (5) وأبو طاهر السِّلفي في «مشيخة أبي عبد الله الرازي» (24) من طريق عطية بن بقية بن الوليد، عن أبيه، عن محمد بن الوليد الزبيدي، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وقال الدارقطني: «تفرد به عنه ابنه عطية بن بقية». (4) في «علل الدارقطني»: «الضال». (5) «من العقيم الوالد» أي: من المرأة التي لا تلد إذا ولدت، «ومن الضال الواجد» أي: الذي ضل راحلته ثم وجدها، «ومن الظمآن الوارد» أي: ومن العطشان إلى ورود الماء». «فيض القدير» (5/ 252).
(2/1035)
ولو كان في المفروح به أعلى من هذا المثال لذكره. فتأمَّل سائرًا وحدَه بأرض مفازةٍ معطشةٍ لا ماء بها ولا زاد، ضلت راحلته فيها فاشتد جوعه وظمؤه، فأيس من الحياة، فاضطجع في أصل شجرةٍ ينتظر الموت، ثم استيقظ فإذا الراحلة قائمة على رأسه وعليها طعامه وشرابه، كما جاء ذلك مصرحًا به في بعض طرق هذا الحديث (1). فهل في الفرح قط أعظم من هذا. ولهذا الفرحِ بتوبة العبد سرٌّ أكثر الخلق محجوبون عنه، لا تبلغه عقولهم. وبه يُعرف سرُّ تقدير ما يُتاب منه على العبد؛ لأنه يترتب عليه ما هو أحب إلى الربِّ سبحانه من عدمه. فلو لم يكن في تقدير الذنب من الحِكَم إلَّا هذه وحدها لكانت كافيةً، فكيف وفيه من الحِكَم ما لا يحصيه إلَّا الله، ممَّا ليس هذا موضعه (2). الوجه العاشر: أن الجهمي احتجَّ على امتناع ذلك عليه بأن هذا انفعال وتأثير عن العبد، والمخلوق لا يؤثر في الخالق، فلو أغضبه أو فعل ما يفرح به لكان المُحْدَث قد أثَّر في القديم تلك الكيفيات، وهذا محالٌ. وهذه الشُّبهة من جنس شُبَههم التي تُدهش السامع أول ما تطرق سمعه وتأخذ منه وتروعه، كالسِّحر الذي يُدهش الناظر أول ما يراه ويأخذ ببصره، وكصولة المبطل الجبان الذي يحمل أول أمره على خصمه. وهكذا شُبه _________ (1) أخرجه البخاري (6308) ومسلم (2744) عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. (2) توسع المصنِّف في ذكر هذه الحِكَم في «مفتاح دار السعادة» (2/ 811 - 847) وفي «طريق الهجرتين» (362 - 372). وقد ابتدأه المصنِّف في «المفتاح» بقوله: «وهذا باب عظيم من أبواب المعرفة، قل من استفتحه من الناس، وهو شهود الحكمة البالغة في قضاء السيئات وتقدير المعاصي ... فقل أن ترى لأحدهم فيه ما يشفي أو يُلم».
(2/1036)
القوم كلها، هي كحبال السحرة وعِصِيِّهم التي خُيِّل إلى موسى أنها تسعى {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسى (66) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ اَلْأَعْلى (67) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلَقَّفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ اُلسَّاحِرُ حَيْثُ أَتى} [طه: 66 - 68]. فهكذا الحجة الحق تبطل جميع الشُّبه الباطلة التي هي للعقول كحبال السحرة وعصيِّهم للأبصار. وجواب هذه الشبهة من وجوه: أحدها: أن الله سبحانه خالق كل شيءٍ وربُّه ومليكه (1)، وكل ما في الكون من أعيان وأفعال وحوادث فهو بمشيئته وتكوينه، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، قضيتان لا تخصيص فيهما (2) بوجهٍ من الوجوه. وكل ما يشاؤه فإنما يشاؤه بحكمةٍ اقتضاها حمدُه ومجدُه، فحكمته البالغة أوجبت كل ما في الكون من الأسباب والمسببات (3)، فهو سبحانه خالق الأسباب التي ترضيه وتغضبه، وتسخطه ويفرح بها، والأشياء التي يحبها ويكرهها، هو سبحانه خالق ذلك كله، فالمخلوق أعجز وأضعف أن يُؤثر فيه سبحانه، بل هو الذي خلق ذلك كله على علمه بأنه يحب هذا ويرضى به، ويبغض هذا ويسخطه، ويفرح بهذا، فما أثَّر غيره فيه بوجهٍ. الثاني: أن التأثير لفظ فيه اشتباه وإجمال، أتريد به (4) أن غيره لا يُعطيه كمالًا لم يكن له ولا يُوجد (5) فيه صفة كان فاقدها؟ فهذا معلومٌ بالضرورة. _________ (1) «ح»: «ملائكته». وهو تحريف، والمثبت من «م». (2) «ح»: «فيها». والمثبت من «م». (3) «ح»: «والمشيات». وهو تصحيف، والمثبت من «م». (4) من «م». (5) «ح»: «وجد». والمثبت من «م».
(2/1037)
أم تريد (1) به أن غيره لا يُسخطه ولا يُغضبه ولا يفعل ما يفرح به أو يحبه أو يكرهه أو نحو ذلك؟ فهذا غير ممتنعٍ. وهو أول المسألة، وليس معك في نفيه إلَّا نفس الدعوى بتسمية ذلك تأثيرًا في الخالق، وليس الشأن في الأسماء، إنما الشأن في المعاني والحقائق. وقد قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اُتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اَللَّهَ} [محمد: 29]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر في أهل الصُّفَّة: «إِنْ كُنْتَ أَغْضَبْتَهُمْ لَقَدْ أَغْضَبْتَ رَبَّكَ». فما الدليل العقلي أو النقلي على استحالة هذا؟! الثالث: أن هذا يبطل محبته لطاعات المؤمنين، وبغضه لمعاصي المخالفين، وكراهته لظلم الظالمين إذا فعلوا ذلك. وهذا معلوم البطلان بالضرورة والعقل والفطرة الإنسانية واتفاق أهل الأديان كلهم وإطباق الرُّسل، بل هذا حقيقة دعوة الرُّسل بعد التوحيد (2). الرابع: أن هذا ينتقض بإجابة دعواتهم، وإغاثة لهفاتهم، وسماع أصواتهم، ورؤية حركاتهم وأفعالهم، فإن هذه كلها أمور متعلقة بأفعالهم. فما كان جوابك عنها في محل الإلزام. فهو جواب منازعيك لك في هذا المقام. فصل الوجه الحادي عشر: أن قولك: «يستحيل أن يخلق الملتذ به في الأزل وألَّا يخلقه في الأزل ... » إلى آخره، مبنى الحجة على مقدمتين: _________ (1) «ح»: «أنه يريد». والمثبت من «م». (2) يريد أن حقيقة دعوة الرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ بعد التوحيد محبة الله لطاعات المؤمنين، وبغضه لمعاصي المخالفين، وكراهته لظلم الظالمين.
(2/1038)
إحداهما: إنكار وجود الملتذ به قبل وجوده. والثانية: وجوب حصوله إذا كان كذلك. ونحن نتكلم على المقدمتين فنقول: لا نسلم وجوب وجود الملتذ به والحالة هذه، ولا أنه يكون كالمُلجأ إليه. فإن قلت: داعية اللذة إذا تحققت خالية عن الموانع وكان الملتذ به ممكن الحصول، فالعلم الضروري حاصل بوجوب حصوله. فالجواب: أن الداعي [ق 123 ب] الجازم مع القدرة التامة يوجب وجود المقدور بلا ريب. والداعي هو إمَّا الإرادة الحادثة، أو العلم المقتضي للإرادة، أو مجموعهما. وأمَّا مجرد كون الشيء سببًا للذة، فهذا لا يوجب الإرادة الحادثة، بل العلم الضروري حاصلٌ بضدِّ ذلك، فقد يحصل للإنسان نوعٌ ما من أنواع الالتذاذ بالشيء مع قدرته عليه ولا يفعله. وذلك أن اللذة تَتْبع المحبة، وقد لا تتم محبة الملتذ به وإرادته فلا يوجد؛ لضعف المحبة والإرادة المتعلقة به، أو لاستلزامه (1) فوات ما هو أحب إليه منه، أو لحصول ما هو أكره إليه. والمعهود في بني آدم أن الإرادة [الجازمة] (2) لا يجب حصولها منهم إلَّا للذة التي يُوجب فقدها ألمًا، فمتى استلزم عدم اللذة وجود الألم قصدوا دفع الألم بالذات وحصول اللذة بالعرض. وقد يتعلق القصد الذاتي بالأمرين، وقد يغيب بشعوره بأحدهما عن (3) الآخر لاستيلاء سلطانه على الآخر. أمَّا إذا لم يكن أحدهم متألمًا بعدم اللذة، ولكن في وجود _________ (1) «ح»: «لا يستلزمه». والمثبت هو الصواب. (2) «ح»: «الجارية». (3) «ح»: «على».
(2/1039)
الملتذ به زيادة لذة فقط، وليس في فقده ألمٌ، فهذا ليس الواقع وجوب (1) تعلق الإرادة به، بل قد يريد ذلك وقد لا يريده استغناءً بما عنده من اللذة عن تلك الزيادة، فلا يجب فيه حصول الداعي التام، وهذا أمرٌ محسوسٌ. الوجه الثاني عشر: أنا لو فرضنا في حقنا أنه يجب تحصيل المفروح به مع القدرة عليه، فلِمَ قلت: إنه في حقِّ الربِّ تعالى كذلك؟ وليس معك إلَّا مجرد القياس التمثيلي الذي يتضمن تمثيل الله بخلقه. والقضية الكلية التي ادعيتها ممنوعةٌ، والعلم الضروري إذا سُلِّم فإنما هو في حقِّ المخلوق، فأمَّا في حقِّ الخالق فليس هناك إلَّا مجرد القياس، وهو منتقض (2) بسائر الأمور الفارقة بين الله وبين خلقه، ومن جملتها الإرادة والمحبة والرضا؛ فإن الإنسان إذا أراد الفعل وهو قادر عليه وجب وجوده منه، والله تعالى مريد لجميع الكائنات وهو قادر عليها، ومع هذا فلا توجد إلَّا في مواقيتها، لا توجد قبل ذلك. والعبد يقع مراده حين (3) قدرته عليه والله تعالى متأخر (4) مراده مع دوام قدرته عليه. الوجه الثالث عشر: أن العبد إنما يجب مع قدرته وداعيته حصول مراده ولذته؛ لأنه يتضرر بعدم حصوله، فإن كماله وصلاحه بحصول ما يحبه ويريده ويلتذ به، وبعدمه يكون متضررًا ناقصًا! والله سبحانه لا يلحقه الضرر بوجهٍ ما. _________ (1) كذا في «ح»، والعبارة فيها خلل، والمعنى: ليس بمقتضٍ وجوبَ. (2) «ح»: «مشقص». والمثبت هو الصواب. (3) «ح»: «فيرين». ولعل المثبت هو الصواب. (4) كذا في «ح»، والعبارة غير بينةٍ.
(2/1040)
الوجه الرابع عشر: لِمَ قلتَ بأن كل ما يحبه الربُّ سبحانه ويرضاه ويفرح به يمكن وجوده في وقتٍ واحدٍ? فإن ذلك قد يستلزم الجمع بين النقيضين، فإن الحوادث المتعاقبة يستحيل اجتماعها في آنٍ واحدٍ، فإذا كان يحب ما يمتنع حصوله كله في آنٍ واحدٍ كانت محبته ورضاه وفرحه به متعلقًا به وقت وجوده، وحصوله ووجوده قبل ذلك محالٌ، والمحال لا تتعلق به المحبة والفرح. يوضحه: الوجه الخامس عشر: أنه سبحانه إذا كان يحب أمورًا، وتلك الأمور المحبوبة لها لوازم يمتنع وجودها بدونها كان وجود تلك الأمور مستلزمًا للوازمها التي لا تُوجد بدونها. مثاله: محبته للعفو والمغفرة والتوبة، وهذه المحبوبات تستلزم وجود ما يعفو عنه ويغفره ويتوب إليه العبد منه، ووجود الملزوم بدون لازمه محالٌ، فلا يمكن حصول محبوباته سبحانه من التوبة والمغفرة والعفو بدون الذي يُتاب منه ويغفره ويعفو عن صاحبه. ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ» (1). وهذا هو الذي وردت الأحاديث الصحيحة بالفرح به، وهذا المفروح به يمتنع وجوده قبل الذنب، فضلًا عن أن يكون قديمًا، فهذا المفروح به يجب تأخُّره قطعًا. ومثل هذا ما رُوي أن آدم لمَّا رأى بنيه ورأى تفاوتهم قال: «يا ربِّ هلَّا سويت بين عبادك؟ قال: إني أحببتُ أن أُشكَر» (2). ومعلومٌ أن محبته للشكر على ما فضَّل به _________ (1) أخرجه مسلم (2749) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (2) أخرجه عبد الله بن أحمد في «زيادات المسند» (21633) والفريابي في «القدر» (52) والآجري في «الشريعة» (435) والحاكم في «المستدرك» (2/ 353) والبيهقي في «القضاء والقدر» (66) والضياء في «المختارة» (3/ 324) عن أُبي بن كعب - رضي الله عنه - موقوفًا. وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه». وقال الهيثمي في «المجمع» (7/ 25): «رواه عبد الله بن أحمد عن شيخه محمد بن يعقوب الربالي وهو مستور، وبقية رجاله رجال الصحيح».
(2/1041)
بعضهم على بعضٍ يوجب تفضيل بعضهم على بعضٍ، ولا يحصل ذلك مع التسوية بينهم، فإن الجمع بين التسوية والتفضيل جمع بين النقيضين، وذلك محالٌ. الوجه السادس عشر: أن يقال: اللذة ـ التي هي الفرح والرضا والسرور ونحوها ـ يجب وجودها من القادر إذا كان مستغنيًا عنها بلذةٍ أخرى أكمل منها أم مطلقًا؟ إن قلتم بالثاني فهو ممنوعٌ، وإن قلتم بالأول قيل: فالله سبحانه مستغنٍ عن أن يُحْدِث كل ما يقدر [ق 124 أ] عليه من هذه الأمور في وقتٍ واحدٍ. بل إذا كان العبد مستغنيًا عن فعل ما هو من جنس اللذات مع قدرته على ذلك فالله أجلُّ وأعظم. فإن قال: إذا كان غنيًّا عنها لم تكن لذة. قيل: إن صحَّ هذا فهو حجة عليكم ومبطلٌ لحجتكم. الوجه السابع عشر: أن يقال: هو لا يحدثها إلَّا إذا أحبها ورضيها وتضمنت فرحه بها، وحيث لا يكون ذلك لا تكون محبوبة ولا مرضية له ولا مفروحًا بها. فالأمور التي يحبها الله ويرضاها ويفرح بها لها صفاتٌ ومقادير تقتضي أن تكون محبوبةً مرضيةً مفروحًا بها في وقتٍ دون وقتٍ، كما تقتضي أن تكون مراده في وقتٍ دون وقتٍ.
(2/1042)
فإن قلت: هذا يقتضي حلول الحوادث به. قيل: هذا لا يمتنع على أصول الطائفتين، فمن قال بهذه المسألة من المتكلمين والصوفية والفقهاء وجمهور أهل الحديث وأكثر الفلاسفة لم يرد هذا عليه. ومن منع ذلك فإنه يقول فيه ما يقوله في محبته ورضاه: أنه قديمٌ أزليٌّ لم يزل محبًّا راضيًا مواليًا لمن أحبه ورضيه ووالاه، ولم يزل غضبان مبغضًا لمن غضب عليه وأبغضه وعاداه. ويقول: إن المتجدد هو التعلق فقط. وهذا قول ابن كُلَّاب والأشعري ومن وافقه من الفقهاء والمُحَدِّثين والمتكلمين. الوجه الثامن عشر: أن يقال: لو صحَّ ما ذكرته كان مستلزمًا ألَّا يخلق الربُّ تعالى شيئًا، أو يخلق كل شيءٍ قبل خلقه إياه. وهو من جنس شُبه الدهرية الفلاسفة في قدم العالم، قالوا: المقتضي لوجود العالم إن كان تامًّا في الأزل وجب وجوده، وإن لم يكن تامًّا لزم ألَّا يوجد. وهذا منقوضٌ بما (1) يوجد من الحوادث اليومية. ووجه الإلزام أن يقال: لو صحَّ عليه الخلق والإبداع والإرادة لكان إمَّا خالقًا لمراده في الأزل وهو محالٌ، وإمَّا ألَّا يخلقه في الأزل وهو محالٌ؛ لأنه ممكنٌ مقدورٌ، وكل من صحَّت عليه الإرادة والخلق والإبداع إذا كان عالمًا بقدرته على تحصيل مراده وهو ممكنٌ مقدورٌ فإنه يكون كالمُلجأ إلى إيجاد مراده. فإن قلت: الإرادة من شأنها أن تخصص (2) وتميز، والله سبحانه أراد _________ (1) «ح»: «ما». والمثبت هو الصواب. (2) «ح»: «تخصيص». والمثبت هو الصواب.
(2/1043)
وجود كل شيءٍ في وقته على صفةٍ ومقدارٍ وجعل لكل شيءٍ قدرًا. قلت: هذا حقٌّ في نفسه، ولكن هو حجة عليك لا لك، فإنه سبحانه كما أراد وجود كل شيءٍ في وقته على صفةٍ ومقدارٍ يختص به، فهكذا محبته ورضاه لما يرضى به وفرحه بما يفرح به سواء. الوجه التاسع عشر: أنَّا متى رجعنا إلى الموجود، فمتى علمنا أن أحدنا إذا كانت إرادته جازمةً وقدرته تامةً وجب وجود الفعل منه مقترنًا بإرادته وقدرته، ولا يتأخر الفعل إلَّا لعدم كمال القدرة أو لعدم كمال الإرادة. وهذا أمرٌ يجده الإنسان من نفسه، وهذا النافي لا يُنازع في ذلك ويُقرُّ به ويُقرِّره، فإذا كان هذا حالنا فيما نريده ونقدر عليه، فإذا كان الله عندك قادرًا مريدًا إرادةً جازمةً وجب وجود جميع مراده في الأزل، وذلك محالٌ، ووجب ألَّا يكون في الأزل لأنه متعاقب وهو محالٌ؛ لوجود القدرة التامة والإرادة الجازمة، وما أفضى إلى المحال فهو محالٌ، فيلزم انتفاء القدرة والإرادة كما ذكرتَ في انتفاء المحبة والفرح والرضا الذي أدخلته في قسم اللذة سواءً بسواءٍ. ومهما أجبت (1) به عن هذا فهو بعينه جوابنا لك. إن قلتَ: إن إرادة الله لا تقاس بإرادة خلقه. قيل لك: وفرحه ورضاه لا يقاس بفرحهم ورضاهم. وإن قلت: إرادة الله تخصيص الأشياء بخواصها. قيل لك: هذا بعينه موجودٌ في محبته ورضاه؛ فإنه مستلزم للإرادة أو نوعٍ منها، وذلك مستلزم لما نفيته من لوازمه. وهو للفلاسفة ألزم، فإن كل كائن _________ (1) «ح»: «أجيب».
(2/1044)
له [ما] (1) يختص به صفةً وقدرًا، وللحوادث أوقات يختص بها، فذاته سبحانه إن كانت مقتضية لوجود كل موجودٍ وجب وجود كل ممكنٍ مقارنًا لوجوده، وإن لم تكن مقتضية للوجود لزم ألَّا يوجد عنه شيءٌ. فإذا قالوا: لا يمكن للأمر إلَّا كذا، كان هذا جوابنا بعينه في هذا المقام. الوجه العشرون: أنهم فسَّروا في مسألة التحسين والتقبيح الحمد والذمَّ بما يستلزم اللذة والألم، كما فعل ابن الخطيب وغيره لما ناظروا القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين. قال (2) بعد مطالبته لهم بحقيقة المدح والذم: «فإن قيل: فما حقيقة المدح والذمِّ عندكم? قلنا: المدح هو الإخبار عن كون الممدوح مستحقًّا لأن يفعل به ما يفرح به أو يلتذ به، والذمُّ هو الإخبار عن كونه مستحقًّا [ق 124 ب] لأن يفعل به ما يحزن به». قال: «ولكن إذا فسَّرنا المدح والذمَّ بذلك استحال تصوره في حقِّ الله؛ لاستحالة الفرح والغمِّ عليه». قال: «وقد [يمكننا أن نوجه] (3) هذا السؤال ابتداء على سبيل المطالبة من غير التزام لتقسيمٍ [حاصر] (4)، فنقول: معنى الاتضاع والارتفاع الأمر الذي يسوءه ويحزن به، والذي يسرُّه ويفرح به، أو أمر آخر وراء ذلك. فإن كان الأول لم يتقرَّر معناه في حقِّ الله تعالى لاستحالة الفرح والحزن عليه، _________ (1) سقط من «ح». (2) «نهاية العقول» (3/ 241 - 242). (3) «ح»: «حكينا أن توجُّه». والمثبت من «نهاية العقول». (4) «ح»: «خاص». والمثبت من «نهاية العقول».
(2/1045)
وإن كان الثاني فبيِّنوه، فإنا بعد الإنصاف (1) جرَّبنا أنفسنا فلم نجد للمدح والذمِّ حاصلًا وراء الفعل المؤدي إلى الفرح والحزن». فليتدبَّر العاقل هذا الكلام حقَّ التدبُّر وما يلزم منه، فإنه إذا كان حقيقة المدح هو الخبر الذي يتضمن فرح الممدوح ولذته، والذمُّ خبرٌ يتضمن ألم المذموم فلا يتصور مدحٌ ولا ذمٌّ عنده إلَّا مع اللذة والألم. وقد عُلم بالاضطرار من دين المسلمين كلهم، بل ومن دين جميع الرسل أن الله سبحانه يُحمد ويُمدح ويُثنى عليه، وأنه يحب ذلك ويرضاه ويأمر به، بل حمده والثناء عليه من أعظم الطاعات وأجلِّ القربات. وفي «المسند» (2) من حديث الأَسْود بن سَرِيع قال: أَتَيْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: يا رسول الله، إنِّي قد حَمِدتُ ربي تبارك وتعالى بِمحامِدَ ومِدَحٍ، وإيَّاكَ. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أَمَا إِنَّ رَبَّكَ تَعَالَى يُحِبُّ الْمَدْحَ، هَاتِ مَا امْتَدَحْتَ بِهِ رَبَّكَ». فقال: فجَعَلتُ أُنْشِدُه. وفي «الصحيحين» (3) من حديث عبد الله بن مسعودٍ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ، وَلِذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلَا أَحَدَ _________ (1) «نهاية العقول»: «الاتصاف». (2) (15830). والحديث أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (868) والنسائي في «السنن الكبرى» (7698) والطبراني في «المعجم الكبير» (1/ 282) والحاكم في «المستدرك» (3/ 614) والضياء في «الأحاديث المختارة» (4/ 250 - 252) وغيرهم. وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه». وقال الهيثمي في «المجمع» (8/ 118): «رواه أحمد والطبراني بنحوه بأسانيد، ورجال أحدها عند أحمد رجال الصحيح». وصححه الألباني في «الصحيحة» (3179). (3) البخاري (4634) ومسلم (2760).
(2/1046)
أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللهِ، وَلِذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ». ولمسلم (1): «وَلَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللهِ، وَلِذَلِكَ أَرْسَلَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ». ومن محبته سبحانه الثناء عليه يصدِّق المثنيَ عليه بأوصاف كماله، كما في «النسائي» (2) و «الترمذي» (3) و «ابن ماجه» (4) من حديث الأغر أبي مسلم أنه شهد على أبي هريرة وأبي سعيد أنهما شهدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا قَالَ الْعَبْدُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ. قَالَ: يَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: [صَدَقَ عَبْدِي] (5) لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا وَأَنَا اللهُ أَكْبَرُ. وَإِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، قَالَ: صَدَقَ عَبْدِي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا وَحْدِي. وَإِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. قَالَ: صَدَقَ عَبْدِي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا وَلَا شَرِيكَ لِي. وَإِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، قَالَ: صَدَقَ عَبْدِي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا لِيَ الْمُلْكُ وَلِيَ الْحَمْدُ. وَإِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، قَالَ: صَدَقَ عَبْدِي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِي». فمن محبته للثناء عليه صدَّق المثني عليه ووافقه في ثنائه عليه. _________ (1) (2760). (2) «السنن الكبرى» (9774)، و «عمل اليوم والليلة» (30). (3) (3430) وقال الترمذي: «هذا حديث حسن، وقد رواه شعبة، عن أبي إسحاق، عن الأغر أبي مسلم، عن أبي هريرة، وأبي سعيد، بنحو هذا الحديث بمعناه، ولم يرفعه شعبة». (4) (3794). والحديث أخرجه ابن حبان (851) والحاكم (1/ 46) وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح لم يخرج في الصحيحين». وقال ابن حجر في «نتائج الأفكار» (4/ 193): «هذا حديث صحيح». (5) سقط من «ح».
(2/1047)
ونظير هذا ما في «الصحيح» (1) من حديث أبي هريرة عنه - صلى الله عليه وسلم -: «يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، نِصْفُهَا لِي، وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {اِلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اِلْعَالَمِينَ} قَالَ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي. فَإِذَا قَالَ: {اَلرَّحْمَنِ اِلرَّحِيمِ} قَالَ اللَّهُ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي. فَإِذَا قَالَ: {مَلِكِ يَوْمِ اِلدِّينِ} قَالَ اللَّهُ: مَجَّدَنِي عَبْدِي. فَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قَالَ: هَذِهِ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي. فَإِذَا قَالَ: {اُهْدِنَا اَلصِّرَاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اِلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا اَلضَّالِّينَ} قَالَ: هَؤُلَاءِ لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ». ولمَّا كان حمده والثناء عليه وتمجيده هو مقصود الصلاة ـ التي هي عماد الإسلام، ورأس الطاعات ـ شُرع في أولها ووسطها وآخرها وجميع أركانها، ففي دعاء الاستفتاح يُحمد ويُثنى عليه ويمجَّد، وفي ركن القراءة يحمد ويُثنى عليه ويُمجد، وفي الركوع يُثنى عليه بالتسبيح والتعظيم، وبعد رفع الرأس منه يحمد ويُثنى عليه ويُمجد، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ، مِلْءَ السَّمَاوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ، ومِلْءَ مَا شِئْتَ [مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ] (2)، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ، وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ، لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ» (3). وفي السجود يُثني عليه بالتسبيح المتضمن لكماله المقدَّس والعلوِّ المتضمن لمباينته لخلقه، وفي التشهد يُثني عليه بأطيب الثناء من التحيات، ويختم ذلك بذكر حمده ومجده. _________ (1) «صحيح مسلم» (395). (2) من «صحيح مسلم». (3) أخرجه مسلم (471) عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -.
(2/1048)
فصل ومن محبته للثناء عليه شرعه للداعي قبل سؤاله ودعائه؛ ليكون وسيلة له بين يدي حاجته، كالمتقرب إلى المسؤول بما يحبه ويسأله بين يدي مطلوبه، كما في «السنن» (1) و «المسند» (2) من حديث فضالة بن عبيد قال: جاء رجل فصلى فقال: اللهم اغفر لي وارحمني. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «عَجِلْتَ أَيُّهَا الْمُصَلِّي، إِذَا صَلَّيْتَ فَفَرَغْتَ فَاحْمَدِ اللَّهَ [ق 125 أ] بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ صَلِّ عَلَى النَّبِيِّ ثُمَّ ادْعُهُ». قال: ثم صَلَّى رجلٌ آخرُ بعد ذلك، فحَمِدَ اللَّه وصلَّى على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَيُّهَا الْمُصَلِّي ادْعُ تُجَبْ». وفي «السنن» (3) عن ابن مسعودٍ قال: كنت أصلي فلمَّا جلست بدأت بالثناء على الله، ثم الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم دعوت لنفسي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «سَلْ تُعْطَهْ، سَلْ تُعْطَهْ». وهكذا في أحاديث الشفاعة الثابتة في الصحاح: لمَّا يأتوا (4) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليشفع لهم، فقال: «فَأَقُولُ: أَنَا لَهَا. فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فَيُؤْذَنُ لِي، فَيُلْهِمُنِي مَحَامِدَ فَأَحْمَدُهُ بِهَا لَا تَحْضُرُنِي الْآنَ، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، وَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ _________ (1) أبو داود (1481) والترمذي (3476، 3477) والنسائي (1284) وقال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح». (2) (24568). والحديث أخرجه ابن خزيمة (709) وابن حبان (1960) والحاكم (1/ 230) وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه». (3) أخرجه الترمذي (593) وقال: «حديث حسن صحيح».وقد تقدم (ص 561) تخريجه. (4) كذا! والمقصود: إذا أتوا.
(2/1049)
تُشَفَّعْ» (1). وفي لفظٍ (2): «فَأُثْنِي عَلَى رَبِّي بِثَنَاءٍ وَتَمْجِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ». فمن محبته سبحانه للثناء عليه ألهمَ رسوله منه في ذلك المقام ما يكون وسيلةً بين يدي شفاعته. وفي «الصحيح» (3) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول في سجوده: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ». وفي «الصحيحين» (4) عن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيهِ الْمَدْحُ مِنَ اللهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَعَدَ الْجَنَّةَ». وقد تقدم ذلك من حديث ابن مسعودٍ. وفي الدعاء المأثور: «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ حَمْدًا يُشْرِقُ لَهُ وَجْهُكَ» (5). وفي الأثر الآخر: «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ حَتَّى تَرْضَى» (6). وفي _________ (1) البخاري (7510) ومسلم (193) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -. (2) أخرجه البخاري (7440). (3) رواه مسلم، وقد تقدم تخريجه. (4) البخاري (7416) ومسلم (1449). (5) لم نقف عليه بهذا اللفظ، ثم وجدت في «العلل ومعرفة الرجال» للإمام أحمد رواية ابنه عبد الله (3638) قال عبد الله: قلت لأبي: ترى المسيب بن شريك كان يكذب؟ قال: معاذ الله، ولكنه كان يخطئ. قال أبي: سمعته يدعو دعاءً حسنًا، وكان في دعائه بعض ما ينكره الجهمية؛ سمعته يقول: نور أشرق له وجهك». (6) أخرجه الطبراني في «الدعاء» (1725) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعائه لأهل قباء، ونسبه السيوطي ـ كما في «كنز العمال» (5100) ـ للديلمي أيضًا، وقال: «وفيه نافع أبو هرمز متروك». وأخرجه ابن أبي الدنيا في «الشكر» (11) والبيهقي في «شعب الإيمان» (4266) عن الحسن البصري قوله.
(2/1050)
الحديث الآخر: «سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ» (1) أي: تسبيحًا يبلغ رضا نفسه. فصل ومن محبته لحمده والثناء عليه أنه جعل حمده مفتاح كل كلامٍ ذي بالٍ وخاتمة كل أمرٍ، وافتتح كتابه بحمده وختم آخره بحمده، وافتتح خلقه بحمده، وجعل حمده خاتمة الفصل بينهم، فقال تعالى: {اِلْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ اِلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ} [فاطر: 1] وقال: {اِلْحَمْدُ لِلَّهِ اِلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضَ وَجَعَلَ اَلظُّلُمَاتِ وَاَلنُّورَ} [الأنعام: 1] وقال: {وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اِلْعَالَمِينَ} [الزمر: 72] فافتتح خلقه وأمره بحمده، وختمهما بحمده. وفي «المسند» (2) و «السُّنن» (3) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: _________ (1) أخرجه مسلم (2726) عن أم المؤمنين جويرية - رضي الله عنها -. (2) (8833). (3) أبو داود (4840) والنسائي في «السنن الكبرى» (10255) وابن ماجه (1894). والحديث أخرجه أبو عوانة في «المسند المستخرج» (1) وابن حبان (1، 2) والدارقطني في «السنن» (1/ 427) والبيهقي في «السنن الكبرى» (3/ 208) كلهم من طريق قرة بن عبد الرحمن، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وقال أبو داود: «رواه يونس وعقيل وشعيب وسعيد بن عبد العزيز عن الزهري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا». وقال الدارقطني: «تفرد به قرة عن الزهري عن أبي سلمة، وأرسله غيره عن الزهري عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقرة ليس بقوي في الحديث». وقال: «والمرسل هو الصواب». وكذا أعله الدارقطني في «العلل» (1391). والحديث صححه ابن الملقن في «خلاصة الإبريز» (2) ونقل عن ابن الصلاح تحسينه، وحسنه النووي في «الأذكار» (ص 159) وابن حجر في «نتائج الأفكار» (3/ 277). وينظر «البدر المنير» لابن الملقن (7/ 528) و «الأجوبة المرضية» للسخاوي (48).
(2/1051)
«كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ فَهُوَ أَجْذَمُ (1)». ولهذا كان سُنة المسلمين في صلاتهم وخطبهم كلها افتتاحها بالحمد حتى خطبة الحاجة (2). ولهذا كان أول من يُدعى إلى الجنة الحامدون (3). والنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة _________ (1) قوله: «أجذم» معناه المنقطع الأبتر الذي لا نظام له، وفسَّره أبوعبيد فقال: الأجذم المقطوع اليد. «معالم السنن» (4/ 116). (2) قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: «علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبة الحاجة: إن الحمد لله نستعينه ونستغفره ... ». أخرجه الإمام أحمد (3797، 3798، 4197، 4198) وأبو داود (2118) والترمذي (1105) والنسائي (1403) وابن ماجه (1892) والحاكم في «المستدرك» (2/ 182) وقال الترمذي: «حديث حسن». وجمع الشيخ الألباني طرق هذا الحديث في جزء مفرد مطبوع. (3) كذا في «ح»، ولعلها: «الحمَّادون». فقد أخرج البزار (5028) والطبراني في «المعجم الصغير» (288) و «المعجم الأوسط» (3033) و «المعجم الكبير» (12/ 19) والحاكم في «المستدرك» (1/ 502) وأبو نعيم في «صفة الجنة» (82) و «حلية الأولياء» (5/ 69) والبيهقي في «الدعوات الكبير» (1/ 206) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أول من يدعى إلى الجنة الحمَّادون الذين يحمدون الله في السراء والضراء». وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه». وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 95): «رواه الطبراني في الثلاثة بأسانيد، وفي أحدها قيس بن الربيع، وثقه شعبة والثوري وغيرهما، وضعفه يحيى القطان وغيره، وبقية رجاله رجال الصحيح، ورواه البزار بنحوه، وإسناده حسن». وأخرجه أسد بن موسى في «الزهد» (78) والحارث بن أبي أسامة في «مسنده» ـ كما في «بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث» (1122) ـ وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (6/ 62) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - موقوفًا، قال ابن حجر في «المطالب العالية» (4557): «هذا موقوف، إسناده حسن». وينظر: «الأمالي المطلقة» لابن حجر (ص 23 - 24) و «السلسلة الضعيفة» للألباني (632). وفي الباب عن أسماء بنت يزيد - رضي الله عنها - أخرجه إسحاق بن راهويه في «مسنده» (2305) وعبد بن حميد في «المنتخب» (1581). وعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - أخرجه الحاكم في «المستدرك» (2/ 399) وأبو نعيم في «الحلية» (2/ 9).
(2/1052)
بيده لواء الحمد (1)، وآدم ومن دونه تحت ذلك اللواء. فخصَّ اللواء بالحمد لأنه أحب شيءٍ إلى الله، واشتق لأحب خلقه إليه وأكرمهم (2) عليه من الحمد اسمين يتضمنان كثرة حمده وفضله، وهما محمد وأحمد، وسمَّى أمته الحامدين (3)، ......................................................... _________ (1) ورد من حديث جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم -، منهم: ابن عباس وأنس بن مالك وأبو سعيد وعبد الله بن سلام وعبادة بن الصامت - رضي الله عنهم -: فأما حديث ابن عباس فأخرجه الإمام أحمد (2546) والترمذي (3616) وقال الترمذي: «هذا حديث غريب». وأما حديث أنس فأخرجه الإمام أحمد (12469) والترمذي (3610) وقال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب». وأما حديث أبي سعيد فأخرجه الترمذي (3148، 3615) وابن ماجه (4308) وقال الترمذي: «هذا حديث حسن». وأما حديث عبد الله بن سلام فأخرجه أبو يعلى (7493) وابن حبان (6478) والطبراني في «المعجم الكبير» (14/ 351) واللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (1456) والضياء في «المختارة» (9/ 455). وأما حديث عبادة فأخرجه الحاكم (1/ 83) وقال الحاكم: «هذا حديث كبير في الصفات والرؤية صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه». (2) «ح»: «وألزمهم». وهو تحريف. (3) «ح»: «الحامدون». والأصوب: «الحمادين». فقد أخرج الطبراني في «المعجم الكبير» (10/ 89) عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «صفتي أحمد المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، يجزي بالحسنة الحسنة، ولا يكافئ السيئة، مولده بمكة، ومهاجره طيبة، وأمته الحمادون ... ». قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (8/ 271): «رواه الطبراني، وفيه من لم أعرفهم». وهذا إنما يُعرف من قول كعب الأحبار؛ أخرجه الدارمي في «مسنده» (5، 7، 8) وغيره.
(2/1053)
وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أفضل الدعاء الحمد (1). فصل ومن محبته للثناء عليه بأوصاف كماله ونعوت جلاله أنه أمر من ذكره بما لم يأمر به في غيره (2)، فقال تعالى: {وَاَذْكُرُوا اُللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10] فعلَّق الفلاح بكثرة ذكره. وقال: {اِلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اَللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191] فعمَّ بذكره أحوال العباد كلها؛ لأن العبد إمَّا أن يكون قائمًا أو قاعدًا أو مضطجعًا، فأراد منه ذكره في هذه الأحوال كلها. وأخبر أنه من ألهاه ماله وولده عن ذكره فهو خاسر؛ فقال: {* يَاأَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اِللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ اُلْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9]. _________ (1) أخرجه الترمذي (3383) والنسائي في «السنن الكبرى» (10599) وابن ماجه (3800) وابن حبان (846) والحاكم (1/ 498) عن جابر - رضي الله عنه -. وقال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب». وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه». وقال ابن حجر في «نتائج الأفكار» (1/ 64): «هذا حديث حسن». (2) «ح»: «غير».
(2/1054)
وأمر بذكره في أعظم المواطن التي يذهل الإنسان فيها عن نفسه ـ وهي حاله عند ملاقاة عدوه ـ فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاَثْبُتُوا وَاَذْكُرُوا اُللَّهَ كَثِيرًا} [الأنفال: 46]. وفي «الترمذي» (1) وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إِنَّ عَبْدِي كُلَّ عَبْدِي الَّذِي يَذْكُرُنِي وَهُوَ مُلَاقٍ قِرْنَهُ (2)». وجعل سبحانه ذِكْره سببًا لصلاته على عبده وذكره له؛ فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا اُللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ اَلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ وَكَانَ _________ (1) (3580) عن عُمارة بن زَعْكَرة - رضي الله عنه -. وقال الترمذي: «هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده بالقوي، ولا نعرف لعمارة بن زعكرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا هذا الحديث الواحد». والحديث أخرجه ابن سعد في «الطبقات الكبير» (9/ 436) وابن أبي عاصم في «الجهاد» (130) والدولابي في «الكنى» (1241) وابن عدي في «الكامل» (8/ 548) والبيهقي في «شعب الإيمان» (553) وفيه عفير بن معدان، وقال ابن عدي: «ولعفير بن معدان غير ما ذكرت من الحديث، وعامة رواياته غير محفوظة». وقال البخاري في «التاريخ الكبير» (6/ 494 (: «لم يصح إسناده». وله شاهدان مرسلان، الأول: أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (957) عن شريح بن عبيد وعبد الرحمن بن جبير بن نفير عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والثاني: أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (2878) عن محمد بن زياد الألهاني عن أشياخه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن حجر: «وهو حسن غريب، وقول الترمذي: ليس إسناده بقوي. يريد ضعف عفير، لكن وجدت له شاهدًا قويًّا مع إرساله أخرجه البغوي فلذلك حسنته، وقول الترمذي: غريب. أراد غرابته من جهة تفرد عفير بوصله، وإلا فقد وُجد من وجه آخر». نقله عنه المناوي في «فيض القدير» (2/ 310) وابن علان في «الفتوحات الربانية» (5/ 62 - 63) .. (2) قرنه بكسر القاف وسكون الراء: أي عدوه المقارن له المكافئ له في القتال. «فيض القدير» (2/ 310).
(2/1055)
بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 41 - 43] وقال تعالى: {فَاَذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 151]. وجعل تِرْكان (1) ذكره والثناء عليه سببًا لنسيانه لعبده وإنسائه نفسه، فلا يلهمه مصالحه ولا يوفقه لإرادتها وطلبها؛ فقال تعالى: {نَسُوا اُللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] وقال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَاَلَّذِينَ نَسُوا اُللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} [الحشر: 19] فلمَّا نسوا ذكره والثناء عليه وتحميده وتمجيده نسيهم من رحمته وأنساهم مصالح نفوسهم، فلم يعرفوها ولم يطلبوها، بل تركوها مهملة معطلة مع نقصها وعيوبها. فصل ومن محبته للثناء عليه وتحميده وتمجيده أنه وعد عليه بما لم يعد به على غيره كما في «الصحيح» من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ [ق 125 ب] مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» (2). وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن مجالس الذِّكر رياض الجنة، كما في «السنن» (3) و «المسند» (4) من حديث جابرٍ قال: خرج علينا _________ (1) «ح»: «برهان». والمثبت أقرب للرسم، يقال: تركه يتركه تركًا وتِركانًا بالكسر: أي خلاه. «تاج العروس» (27/ 91). (2) أخرجه البخاري (6405) ومسلم (2692). (3) لم نقف عليه في «السنن» من حديث جابر، ووجدناه في الترمذي (3509) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مختصرًا، وقال الترمذي: «هذا حديث غريب». وعنده (3510) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - وقال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب». وينظر «السلسلة الصحيحة» (2562). (4) لم نقف عليه في «المسند» من حديث جابر، ووجدناه عند عبد بن حميد في «المنتخب» (1105) ومسدد وأحمد بن منيع ـ كما في «إتحاف الخيرة» (6057) ـ وأبي يعلى (1865، 1866، 2138) والطبراني في «المعجم الأوسط» (2501) والحاكم (1/ 494). وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد». وتعقبه الذهبي في «تلخيص المستدرك» وابن حجر في «نتائج الأفكار» (1/ 23) قال ابن حجر: «مداره على عمر بن عبد الله مولى غفرة ـ بضم المعجمة وسكون الفاء ـ وهو ضعيف». وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (16768): «رواه أبو يعلى والبزار والطبراني في «الأوسط»، وفيه عمر بن عبد الله مولى غفرة، وقد وثقه غير واحد وضعفه جماعة، وبقية رجالهم رجال الصحيح».
(2/1056)
النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ لِلَّهِ سَرَايَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ تَحِلُّ وَتَقِفُ عَلَى مَجَالِسِ الذِّكْرِ فِي الْأَرْضِ، فَارْتَعُوا فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ». قالوا: وأين رياض الجنة؟ قال: «مَجَالِسُ الذِّكْرِ، فَاغْدُوا وَرُوحُوا فِي ذِكْرِ اللَّهِ، وَذَكِّرُوهُ أَنْفُسَكُمْ، مَنْ كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَعْلَمَ مَنْزِلَتَهُ عِنْدَ اللَّهِ فَلْيَنْظُرْ كَيْفَ مَنْزِلَةُ اللَّهِ عِنْدَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يُنْزِلُ الْعَبْدَ مِنْهُ حَيْثُ أَنْزَلَهُ مِنْ نَفْسِهِ». وفي «الترمذي» (1) و «صحيح الحاكم» (2) عن عبد الله بن بُسْرٍ أن أعرابيًّا قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن شرائع الإسلام قد كثُرت عليَّ، فأنبئني بشيءٍ أتشبث به. فقال: «لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ». وفي «السنن» (3) و «صحيح الحاكم» (4) عن أبي هريرة قال: قال _________ (1) «الجامع» (3375) وقال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب». (2) «المستدرك» (1/ 495) وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه». والحديث أخرجه الإمام أحمد (17956) وابن ماجه (3793) وابن حبان (814) والضياء في «المختارة» (9/ 60). (3) أخرجه الترمذي (3596) باللفظ الذي سيذكره المصنف بعدُ، وسيأتي الكلام عليه. (4) «المستدرك» (1/ 673) وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه». والحديث أخرجه الإمام أحمد (8406) والبيهقي في «شعب الإيمان» (503). وأخرجه مسلم في «صحيحه» (2676) بنحوه.
(2/1057)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ». قالوا: يا رسول الله وما المُفرِّدون؟ قال: «الَّذِينَ يُهْتَرُونَ (1) فِي ذِكْرِ اللهِ». وفي لفظ (2): «وَضَعَ الذِّكْرُ عَنْهُمْ أَثْقَالَهُمْ فَوَرَدُوا الْقِيَامَةَ خِفَافًا». وفيهما (3) عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أَنَا مَعَ عَبْدِي إِذَا هُوَ ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ». _________ (1) أي: يُولعون به. يقال: أُهْتِرَ فلان بكذا واستُهْتِر فهو مُهْتَرٌ به ومُستَهْتَرٌ: أي مولَعٌ به لا يتحدث بغيره، ولا يفعل غيره. «النهاية في غريب الحديث» (5/ 242). (2) أخرج هذا اللفظ: الترمذي (3596) وأبو عوانة في «المستخرج» (11773). وقال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب». (3) «المستدرك» (1/ 496) من طريق الأوزاعي، عن إسماعيل بن عبيد الله، عن أم الدراداء، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه -. وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه». والحديث ليس في شيء من الكتب الستة بهذا الإسناد، إنما علقه البخاري في «صحيحه» (9/ 153) ووصله الإمام أحمد (11124، 11131، 11132) والبخاري في «خلق أفعال العباد» (451) وابن ماجه (3792) وابن حبان (815) من طريق إسماعيل بن عبيد الله عن كريمة بنت الحسحاس أن أبا هريرة حدثهم في بيت أم الدرداء به. وهو المحفوظ، ومن رواه عن أبي الدرداء فقد وهم، «وسبب الاشتباه على من رواه عن إسماعيل عن أم الدرداء كون أبي هريرة حدَّث به كريمة وهو في بيت أم الدرداء، ويحتمل مع ذلك أن تكون أم الدرداء حدثت به إسماعيل أيضًا كما حدثت به كريمة؛ فلا يكون هناك وهمٌ، والأول أقعد بطريقة المحدثين، والله أعلم» قاله ابن حجر في «تغليق التعليق» (5/ 363). وينظر «علل الدارقطني» (1635).
(2/1058)
وفيهما (1) عنه أيضًا: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٍ (2) لَكُمْ مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَأَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ!» قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: «ذِكْرُ اللهِ». وقال معاذ بن جبل: «مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ عَمَلًا أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» (3). وفيهما (4) أيضًا من حديث النعمان بن بشير قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: _________ (1) الترمذي (3377) وابن ماجه (3790) والحاكم (1/ 496). وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه». والحديث أخرجه الإمام أحمد (28172) والبيهقي في «شعب الإيمان» (515، 516) والبغوي في «شرح السنة» (1244). وقال البغوي: «حديث حسن». وقال ابن عبد البر في «التمهيد» (6/ 57): «وهذا يروى مسندًا من طرقٍ جيدةٍ عن أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -». وقال المنذري في «الترغيب والترهيب» (2/ 395) والهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 73): «رواه أحمد بإسناد حسن». وقال ابن حجر في «نتائج الأفكار» (1/ 98): «هذا حديث مختلف في رفعه ووقفه، وفي إرساله ووصله». (2) «ح»: «وخيرا». (3) قول معاذ - رضي الله عنه - أخرجه مالك في «الموطأ» (525) وأبو نعيم في «الحلية» (1/ 234 - 235) موقوفًا، وأخرجه الإمام أحمد (22504) والطبراني في «المعجم الكبير» (20/ 166) وفي «الدعاء» (1856) وأبو نعيم في «الحلية» (1/ 235) والبيهقي في «شعب الإيمان» (517، 518) وابن عبد البر في «التمهيد» (6/ 57) مرفوعًا، فاختلف في رفعه ووقفه، والموقوف أصح كما قال الدارقطني في «العلل» (982). وينظر «نتائج الأفكار» (1/ 99). (4) ابن ماجه (3809) و «المستدرك» (1/ 500، 503). وقال الحاكم في الموضع الأول: «هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه». وقال في الموضع الثاني: «هذا حديث على شرط مسلم». وتعقبه الذهبي في الموضع الأول بأن فيه راويًا قال أبو حاتم عنه: منكر الحديث. والحديث أخرجه الإمام أحمد (18653، 18679) والبزار في «مسنده» (3236) والحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» (63) والطبراني في «الدعاء» (1693). وقال البزار: «وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا اللفظ إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد».
(2/1059)
«الَّذِينَ يَذْكُرُونَ مِنْ جَلَالِ اللهِ التَّحْمِيدَ وَالتَّسْبِيحَ وَالتَّكْبِيرَ وَالتَّهْلِيلَ، يَتَعَاطَفْنَ حَوْلَ عَرْشِ الرَّحْمَنِ، لَهُنَّ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، يُذَكِّرُونَ بِصَاحِبِهِنَّ، أَفَلَا (1) يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ لَهُ عِنْدَ الرَّحْمَنِ شَيْءٌ يُذَكِّرُ بِهِ؟». وفي «صحيح الحاكم» (2) من حديث عَمْرو بن شُعيبٍ عن أبيه عن جدِّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قَالَ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؛ لَمْ يَسْبِقْهُ أَحَدٌ كَانَ قَبْلَهُ، وَلَا يُدْرِكْهُ أَحَدٌ كَانَ بَعْدَهُ، إِلَّا مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَفْضَلَ مِنْ عَمَلِهِ (3)». _________ (1) «ح»: «أنه لا». (2) «المستدرك» (1/ 500). وقال الحاكم: «سمعت الأستاذ أبا الوليد القرشي يقول: سمعت إبراهيم بن أبي طالب يقول: سمعت إسحاق بن إبراهيم يقول: إذا كان الراوي عن عمرو بن شعيب ثقة، فهو كأيوب عن نافع عن ابن عمر. قال الحاكم: لم أخرج من أول الكتاب إلى هذا الموضع حديثًا لعمرو بن شعيب، وقد ذكرت في أول كتاب الدعاء والتسبيح مذهب الإمام أبي سعيد عبد الرحمن بن مهدي في المسامحة في أسانيد فضائل الأعمال». والحديث أخرجه الإمام أحمد (6740) والنسائي في «السنن الكبرى» (10337) وابن السني في «عمل اليوم والليلة» (577) والطبراني في «الدعاء» (334). قال المنذري في «الترغيب» (2/ 295) والعراقي في «المغني» (ص 353): «إسناده جيد». (3) «ح»: «عمل».
(2/1060)
وفيه (1) أيضًا عن [جابر] (2) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ؛ غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ فِي الْجَنَّةِ». وفي «الترمذي» (3) و «صحيح الحاكم» (4) أيضًا عن عبد الله بن عَمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا عَلَى الْأَرْضِ رَجُلٌ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، وَسُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ للهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ؛ إِلَّا كُفِّرَتْ عَنْهُ ذُنُوبُهُ وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ زَبَدِ الْبَحْرِ». وفي «صحيح الحاكم» (5) أيضًا عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قَالَ _________ (1) «المستدرك» (1/ 501، 512). وقال الحاكم في الموضع الأول: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه». والحديث أخرجه الترمذي (3464، 3465) وأبو يعلى في «مسنده» (2233) وابن حبان (826) وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي الزبير عن جابر». (2) «ح»: «خالد». وهو تحريف، إنما هو جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -، كما في «المستدرك» وغيره. (3) (3460) من طريق حاتم بن أبي صغيرة، عن أبي بلج، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله، وقال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب، وروى شعبة هذا الحديث عن أبي بلج بهذا الإسناد، نحوه، ولم يرفعه». والحديث أخرجه الإمام أحمد (6590، 7093) والبزار في «مسنده» (2448) والنسائي في «السنن الكبرى» (10589) من طريق حاتم مرفوعًا. وقال البزار: «وهذا الحديث لا نعلم أحدًا رواه إلا أبو يونس ـ يعني: حاتم بن أبي صغيرة ـ وهو ثقة». وأخرجه الترمذي (3460) والبزار (2447) والحاكم (1/ 501) من طريق شعبة موقوفًا. (4) «المستدرك» (1/ 501). وقال الحاكم: «حديث حاتم بن أبي صغيرة صحيح على شرط مسلم؛ فإن الزيادة من مثله مقبولة». (5) «المستدرك» (1/ 497) وقال الحاكم: «ذكر الظن مخرَّج في «الصحيح» وذكر الدعاء غريب صحيح». يعني: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - الذي أخرجه البخاري (7405) ومسلم (2675).
(2/1061)
اللهُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي (1)، وَأَنَا مَعَكَ (2) إِذَا ذَكَرْتَنِي». وفي صحيحي الحاكم (3) وابن حِبَّان (4) عن أنسٍ قال: «كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حلقة ورجل قائمٌ يُصلي، فلمَّا ركع وسجد تشهَّد ودعا فقال: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلَّا أنت المنان بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْأَعَظَمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى». وفيهما (5) أيضًا عن بُريدة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلًا يقول: اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الذي لا إله إلَّا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَقَدْ سَأَلْتَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الْأَعَظَمِ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ». فأخبر أن هذا هو الاسم الأعظم، لما تضمنه من الحمد والثناء والمجد والتوحيد، ولمحبة الربِّ تعالى لذلك أجاب من دعا به. _________ (1) في «المستدرك»: «عبدي أنا عند ظنك بي». (2) تكرر في «ح»: «وأنا معك». (3) «المستدرك» (1/ 503) وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه». (4) (893) وتقدم تخريجه (ص 560). (5) «المستدرك» (1/ 504) و «صحيح ابن حبان» (892) وتقدم (ص 561) تخريج الحديث.
(2/1062)
وهذا باب يطول تتبُّعه جدًّا. والمقصود أنه إذا كان لا معنى للمدح إلَّا الإخبار المتضمن فرح الممدوح، وليس أحدٌ أحب إليه المدح من الله وحمده والثناء عليه وذلك عنده بالمنزلة التي لا يمكن وصفها ولا يحيط بها البشر، كان المنكر لفرحه وما يستلزمه فرحه منكرًا لحقيقة حمده ومدحه والثناء عليه وتمجيده. وحينئذٍ فنقول في: الوجه الحادي والعشرين: إن هؤلاء الجهمية يُقرُّون بظاهر من القول وينكرون حقيقته، ويصدون عن سبيل الله، ويقطعون ما أمر الله به أن يُوصل، وينفرون من أحب الأشياء إلى الله وأكرمها عليه وأعظمها عنده، وهو ذكره بأسمائه وصفات كماله ونعوت جلاله، والثناء عليه ومدحه بها وحمده عليها. بل يُكفِّرون من يُثني عليه بها، وينسبونه إلى التشبيه والتجسيم، ويستحلون منه ما لا يستحله المحاربون من أعدائهم. وذلك [ق 126 أ] عين العداوة لله ولرسوله، كما قال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن إسحاق، أنا ابن المبارك، عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية قال: «ما عادى عبدٌ ربَّه أشد عليه من أن يكره ذكره وذكر من يذكره» (1). ومن المعلوم أن ذكره سبحانه وتعالى إنما يتم بإثبات حقائق أسمائه وصفات كماله ونعوت جلاله، لا بألفاظٍ مجردة لا حقيقة لها. _________ (1) لم نقف عليه في مظانه من كتب الإمام أحمد أو تلامذته، وأخرجه أبو نعيم في «الحلية» (6/ 72) والبيهقي في «شعب الإيمان» (715) وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (12/ 442) من طريق الأوزاعي به.
(2/1063)
فهؤلاء المعطلة النُّفاة أبعد شيءٍ عن حقيقة ذكر الله، كما هم أبعد شيءٍ عن محبته، كما أقروا بذلك على أنفسهم من أنه لا يحبُّه أحدٌ ولا يحبُّ أحدًا، فهم لا يحبونه ولا يذكرونه. وإن ذكروه فإنما يذكرونه بالسلب والعدم الذي هو أنقص النقص، وإن أحبوه فإنما يحبون ثوابه المنفصل لا ذاته ولا صفاته. ولا يثبتون ألذ ما في الجنة وأطيب ما فيها وأعظم نعيمها، وهو النظر إلى وجهه وسماع كلامه. فهم عمدوا إلى لُبِّ الدِّين وقلبه، فنبذوه (1) وأبطلوه ووقفوا في طريق الرسل وعارضوهم في دعوتهم: وبيانه: بالوجه الثاني والعشرين: وهو أن دعوة الرسل تدور على ثلاثة أمور: تعريف الربِّ المدعو إليه بأسمائه وصفاته وأفعاله. الأصل الثاني: معرفة الطريق الموصلة إليه، وهي ذكره وشكره وعبادته التي تجمع كمال حبِّه وكمال الذُّلِّ له. الأصل الثالث: تعريفهم ما لهم بعد الوصول إليه في دار كرامته من النعيم الذي أفضله وأجلُّه رضاه عنهم وتَجلِّيه لهم، ورؤيتهم وجهه الأعلى، وسلامه عليهم، وتكليمه إياهم، ومحاضرتهم في مجالسهم. فيثبت الأصل الأول بذكر أوصاف الربِّ تعالى ونعوت جلاله على التفصيل، وإثبات حقائق أسمائه على وجه التفصيل، ونفوا عنه ما يتضمن هذا الإثبات ويستلزمه، كالنسيان واللغوب والظلم والسِّنة والنوم والمثل والكفء (2) والند والصاحبة والولد والسَّمي. والجهمية عكسوا الأمر، _________ (1) «ح»: «فانتبذوه». ولعل المثبت هو الصواب. (2) «ح»: «الكفر».
(2/1064)
فسلبوا صفاته على التفصيل، وأثبتوا له ما يتضمن نفي ذاته وصفاته. وأمَّا الأصل الثاني: فإن الرُّسل أمرت الأمم بإدامة ذكره وشكره وحُسن عبادته، فصدَّت النُّفاةُ القلوبَ والألسنةَ عن ذكره بإنكار صفاته، وهم في الحقيقة لا يشكرونه؛ لأن الشكر إنما يكون على الأفعال، وعندهم لا يقوم به فعلٌ؛ لأنه يستلزم حلول الحوادث به، فلا يُشكر على فعلٍ يقوم به. وإن شكروه فإنما يشكرونه على مفعولاته، وهي منفصلة عنه، فلم يُشكر على أمرٍ يقوم به عندهم. وأيضًا فإن رأس الشكر الثناء والحمد، وقد اعترفوا بأنه لا حقيقة له إلَّا ما يقتضي فرح المحمود المثنى عليه، وذلك في حقِّه محالٌ عندهم، كما تقدم حكاية لفظهم (1). وكذلك هم منكرون لحقيقة عبادته، وإن قاموا بصورها وظواهرها، فإن حقيقة العبودية كمال محبته وكمال الذل له، وهم قد أقرُّوا بأنه لا يحبه أحدٌ، ولا يمكن أن يُحِبَّ، واحتجوا على ذلك بأن المحبة تستلزم المناسبة بين (2) المحبِّ والمحبوب، ولا مناسبة بين الخالق والمخلوق. وهذا إنكار لحقيقة لا إله إلَّا الله، فإن الإله هو المألوه المستحق لغاية الحبِّ بغاية التعظيم، فنفوا (3) هذا المعنى بتسميته «مناسبةً»، كما نفوا محبته ورضاه وفرحه وغضبه وسخطه وكرامته ورأفته ورحمته وضحكه وتعجُّبه بتسميتها «كيفيات محسوسة»، ونفوا حياته وسمعه وبصره وقدرته وكلامه وعلمه بتسميتها _________ (1) تقدم (ص 1023 - 1024، 1045 - 1046). (2) «ح»: «من». (3) «ح»: «فنقول». ولعل المثبت هو الصواب.
(2/1065)
«أعراضًا»، ونفوا أفعاله بتسميتها «حوادث»، ونفوا علوه على خلقه واستواءه على عرشه والمعراج برسوله إليه بتسمية ذلك «تجسيمًا وتركيبًا». وأمَّا الأصل الثالث: وهو تعريف الأمم حالهم بعد الوصول إليه، فإنهم أنكروا أجلَّ ما فيه وأشرفه وأفضله، وهو رُؤية (1) وجهه وسماع كلامه، وإنما أثبتوا أمورًا منفصلةً يُتنعم بها من الأكل والشرب والنكاح ونحوها. وممَّا يوضح ذلك: الوجه الثالث والعشرون: وهو ما ثبت في «صحيح مسلم» (2) من حديث أبي ذَرٍّ (3) قال: قيل: يا رسول الله أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه؟ قال: «تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ». فأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن حمد الناس للمؤمن بشارة معجلة في الدنيا كالرؤية الصالحة، كما في الصحيح (4) عن عبادة بن الصامت أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قوله تعالى: {لَهُمُ اُلْبُشْرى فِي _________ (1) «ح»: «رواية». وهو تحريف. (2) (2642). (3) «ح»: «ذكر». وهو تحريف. (4) لعله يعني في الحديث الصحيح، فإن الحديث ليس في أي من الصحيحين، بل أخرجه الإمام أحمد (23127، 23128، 23182) والترمذي (2275) وابن ماجه (3898) والطبري في «تفسيره» (12/ 215 - 217) والحاكم (2/ 340، 4/ 391) والضياء (8/ 259 - 260، 276 - 277) من طرق. وقال الحاكم في الموضع الأول: «هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه». وقال في الموضع الثاني: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه». وله شواهد عن أبي الدرداء وابن مسعود وجابر بن عبد الله بن رئاب وأبي هريرة - رضي الله عنهم -، ينظر «تخريج أحاديث الكشاف» (2/ 132 - 135).
(2/1066)
اِلْحَيَاةِ اِلدُّنْيا وَفِي اِلْآخِرَةِ} [يونس: 64] قال: «هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ أَوْ تُرَى لَهُ». فجعل حمد الناس له في اليقظة والرُّؤيا الصالحة في المنام بشارةً له في الدنيا. والبشارة نوع من الخبر، وهو [ق 126 ب] الخبر بما يَسُرُّ، فالحمد هو الخبر بما يَسُرُّ المحمود ويُفرحه، فإنكار فرحه ولوازم فرحه إنكار للحمد في الحقيقة. وفي «الصحيحين» (1) عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لمَّا بعثه ومعاذًا إلى اليمن قال لهما: «بَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَيَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا». وعند مسلم (2): كان إذا بعث أحدًا من الصحابة قال: «بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا». وذلك أن الكلام نوعان إنشاءٌ وإخبارٌ، فأمرهم في الإخبار أن يبشروا ولا يُنفروا، وفي الإنشاء أن ييسروا ولا يُعسروا. فمن جعل المحمود والممدوح يُحمد ويُمدح بما لا يُحبُّه ولا يفرح به فقد عطل حقيقة حمده ومدحه التي تعطيلها تعطيل لحقيقة الدِّين. وممَّا يوضح ذلك: الوجه الرابع والعشرون: وهو أن الحُسن والقُبح سواء عُرف بالشرع أو بالعقل إنما يعود إلى الملائم والمنافي، والملائم يعود إلى الفرح ولوازمه، والمنافي يعود إلى الغضب ولوازمه. والمثبتون للحُسن والقُبح العقليين رأوا ما يعلمه العبد بضرورته وفطرته من حُسن بعض الأعمال وقُبح بعضها، وأن ذلك من لوازم الفطرة فأثبتوه، ولكن أخطؤوا في موضعين: _________ (1) البخاري (3038) ومسلم (1733). (2) (1732).
(2/1067)
أحدهما: قياس الخالق على المخلوق في ذلك، وأن ما حسُن وقبُح منهم حسُن وقبُح منه، [ولذلك] (1) كانوا مشبهة الأفعال معطلة الصفات. الموضع الثاني: نفيهم لوازم ذلك من الفرح والرضا والمحبة، وتسميتهم ذلك لذةً وألمًا وكيفيات نفسانية. وأمَّا النفاة (2) فأصابوا في الفرق بين الله وبين الخلق، وألَّا يُقاس بخلقه، ولا يلزم أن ما حسُن وقبُح منهم يقبُح ويحسُن منه، وأصابت أيضًا في ردِّ ذلك إلى الملاءمة والمنافرة، وأخطأت في موضعين: أحدهما: سلب الأفعال صفاتها التي باعتبارها كانت حسنةً وقبيحةً، وجعلهم ذلك مجرد نسبٍ وإضافاتٍ عدميةٍ. والموضع الثاني: نفيهم لوازم ذلك عن الربِّ تعالى من محبته ورضاه وفرحه وغضبه وسخطه وكراهته ومقته؛ بتسميتهم ذلك لذةً وألمًا. والفريقان جميعًا لم يهتدوا في تحقيق المسألة إلى أن كل حُسنٍ وقُبحٍ ثبت بشرعٍ أو عقلٍ أو عرفٍ أو فطرةٍ فإنما يعود إلى الملاءمة والمنافرة، ولم يهتدوا أيضًا إلى ثبوت الحُسن في أفعال الله بمعنى محبته ورضاه وفرحه، وأنه لا يفعل إلَّا ما يُمدح على فعله ويُحمد عليه، وحمده ومدحه خبر بما يرضى به ويفرح به ويحبه، وأنه منزَّهٌ عن أن يفعل ما يُذمُّ عليه، والذمُّ هو الخبر المتضمن لما يؤذي المذموم ويؤلمه، وإن كان أعداؤه من المشركين يؤذونه ويشتمونه كما في الحديث الصحيح: «لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى مِنَ اللهِ، _________ (1) «ح»: «وكذلك». (2) يعني النفاة للحُسن والقُبح العقليين.
(2/1068)
يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا وَشَرِيكًا وهو يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ» (1). وفي الصحيح (2) أيضًا: «يَقُولُ اللهُ: شَتَمَنِي عَبْدِي (3) ابْنُ آدَمَ؛ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ، وَكَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ؛ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَزَعَمَ أَنِّي اتَّخَذْتُ وَلَدًا. وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي. وَلَيْسَ أَوَّلُ الخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ». ومن ذلك قول أعدائه: إنه فقيرٌ، وإن يده مغلولةٌ، وإنه اتخذ صاحبةً وولدًا. تعالى الله عمَّا يقول الظالمون علوًّا كبيرًا. وحينئذٍ فنقول في: الوجه الخامس والعشرين: إنه سبحانه كما يبغض هذا الإفك والباطل الذي قاله فيه أعداؤه ويشتد غضبه منه ويؤذيه ذلك أذًى لا ينقصه، كما أخبر به عن نفسه بقوله (4): «يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ» (5)، فهو سبحانه يفرح بثناء المُثْني عليه بأوصاف كماله ونعوت جلاله أعظم فرحٍ ويرضى به ويحبه. وإذا كان يفرح بتوبة التائب أعظم فرحٍ يقدر، فكيف فرحه سبحانه بالثناء عليه وحمده ومدحه وتمجيده عمَّا (6) يصفه به أعداؤه ممَّا لا يليق بكماله؟ ممَّا يتضمن فرحه ومحبته ورضاه أعظم من ذلك؟! فإن محبته تغلب غضبه، وفضله أوسع من عدله. وهو سبحانه كما أنه موصوفٌ بكل كمالٍ فهو منزَّهٌ عن كل نقصٍ _________ (1) متفق عليه عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -، وتقدم (ص 1026) تخريجه. (2) «صحيح البخاري» (4974، 4975) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (3) كذا في «ح»، ولعلها زائدة. (4) «ح»: «فقوله». (5) متفق عليه، وقد تقدم (ص 1026) تخريجه. (6) «ح»: «بما». ولعل المثبت هو الصواب.
(2/1069)
وعيبٍ. فكما أنه موصوف في أفعاله بكل حمدٍ وحكمةٍ وغايةٍ محمودةٍ، فهو منزَّهٌ فيها عن كل عيبٍ وظلمٍ وقبيحٍ. وبهذا استحق أن يكون محمودًا على كل حالٍ، وأن يكون محمودًا على المكاره كما هو محمودٌ على المحابِّ، كما في «صحيح الحاكم» (1) وغيره من حديث عائشة قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أتاه الأمر يسُرُّه قال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ». وإذا أتاه الأمر يكرهه قال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ». واللفظ العام إذا ورد على سببٍ وجب دخول السبب فيه، فيوجب هذا الحمد أنه محمودٌ على هذا الأمر [ق 127 أ] المكروه؛ لأنه حسنٌ منه وحكمةٌ وصوابٌ، فيستحق أن يُحمد عليه. وممَّا يوضح ذلك: الوجه السادس والعشرون: وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع بين محبة الربِّ سبحانه للمدح ومحبته للعذر، كما في حديث المغيرة بن شعبة: «لَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللهِ؛ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمِدْحَةُ مِنَ اللَّهِ؛ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَعَدَ الْجَنَّةَ» (2). وكذلك جمع بينهما في حديث ابن مسعودٍ (3). فهو سبحانه شديد _________ (1) «المستدرك» (1/ 499). والحديث أخرجه ابن ماجه (3803) والطبراني في «الدعاء» (1769) وفي «المعجم الأوسط» (6663) وابن السني في «عمل اليوم والليلة» (378) والبيهقي في «شعب الإيمان» (4065) وفي «الدعوات الكبير» (376). وقال الحاكم: «صحيح الإسناد، ولم يخرجاه». وجوَّد النووي إسناده في «الأذكار» (ص 320) وصححه البوصيري في «مصباح الزجاجة» (1338) وابن حجر في «فتح الباري» (3/ 290). (2) أخرجه البخاري (7416) ومسلم (1499). (3) متفق عليه، وقد تقدم (ص 1046) تخريجه.
(2/1070)
المحبة لأن يُحمد وأن يُعذَر، ومن محبته للعذر إرسال رسله وإنزال كتبه، ومن محبته للحمد ثناؤه على نفسه، فهو يحب أن يُعذَر على عقاب المجرمين المخالفين لكتبه ورسله ولا يُلام على ذلك ولا يُذم عليه ولا يُنسب فيه إلى جورٍ ولا ظلمٍ، كما يحب أن يحمد على إحسانه وإنعامه وأياديه عند أوليائه وأهل كرامته، وحمده متضمنٌ هذا وهذا. فهو محمود على عدله في أعدائه وإحسانه إلى أوليائه، كما قال تعالى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اِلْعَالَمِينَ} [الزمر: 72]، فأخبر عن حمد الكون أجمعه له عَقِيب قضائه بالحق بين الخلائق وإدخال هؤلاء إلى جنته وهؤلاء إلى ناره. وحذف فاعل الحمد إرادة لعمومه وإطلاقه حتى لا يُسمع إلَّا حامد (1) له من أوليائه وأعدائه، كما قال الحسن البصري: «لقد دخلوا النار وإن حمده لفي قلوبهم ما وجدوا عليه حجةً ولا سبيلًا» (2). وهو سبحانه قد أعذر إلى عباده، وأقام عليهم الحجة. وجمع - صلى الله عليه وسلم - في الحديث بين ما يحبه ويبغضه، فإنه قال فيه: «لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ؛ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ. وَمَا أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللهِ؛ مِنْ (3) أَجْلِ ذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ» (4). فإن الغيرة تتضمن البغض والكراهة (5)، فأخبر أنه لا أحد أغير منه. وأن من غيرته حرَّم _________ (1) «ح»: «حامدا». (2) ذكره المصنف في «حادي الأرواح» (2/ 790) وفي «الفوائد» (ص 237). ولم نقف عليه مسندًا. (3) «ح»: «و». (4) متفق عليه، وقد تقدم (ص 1046) تخريجه. (5) «ح»: «والكرامة». وهو تحريف.
(2/1071)
الفواحش، ولا أحد أحب إليه المدحة منه، والغيرة عند المعطلة النفاة من الكيفيات النفسية كالحياء والفرح والغضب والسخط والمقت والكراهة، فيستحيل وصفه عندهم بذلك. ومعلومٌ أن هذه الصِّفات من صفات الكمال المحمودة عقلًا وشرعًا وعُرفًا وفطرةً، وأضدادها مذمومةٌ عقلًا وشرعًا وعُرفًا وفطرة، فإن الذي لا يغار بل تستوي عنده الفاحشة وتركها مذموم غاية الذم، مستحقٌّ للاسم (1) القبيح. وهؤلاء المعطلة النُّفاة لحقيقة محبته ورضاه وغضبه عندهم الأمران سواء بالنسبة إليه، وأن ما وجد من ذلك فهو يحبه ويرضاه، وما لم يوجد من طاعاته وامتثال أوامره فهو يبغضه ويسخطه، بناءً على أصلهم الفاسد أن المحبة هي عين الإرادة والمشيئة، فكل ما شاءه فقد أحبه ورضيه. وإذا جاء هؤلاء إلى النصوص الدالة على أنه لا يرضى بها ولا يحبها ولا يريدها أولوها بمعنى أنه لا يشرعها ولا يأمر بها ولا يحبها ولا يرضاها دينًا، وهو التأويل الأول بتغيير العبارة. وحينئذٍ فنقول في: الوجه السابع والعشرين: إنه ـ سبحانه عمَّا يقول الجاهلون به ـ إذا كان لا يفرح ولا يرضى بمدحه وحمده والثناء عليه، ولا يغضب ولا يسخط ويبغض شتمه. وما قال فيه أعداؤه، بل نسبة الأمرين إلى ذاته وصفاته بنسبة واحدة؛ إذ لو حصل فيه سبحانه فرحٌ ورضًا ومحبةٌ من ذلك وغضبٌ وسخطٌ وكراهةٌ من هذا لَلَحِقَته الكيفيات النفسية = كان لا فرق عنده بين الحسن والقبيح والمدح والذمِّ، وهذا غاية النقص والعيب شرعًا وعقلًا وفطرةً وعادةً. ومن كلام الشافعي: «من استُرضي ولم يرض فهو جبَّارٌ، ومن _________ (1) مشتبه في «ح»، ولعله كما أثبته.
(2/1072)
استُغضب ولم يغضب فهو حمارٌ» (1). وهذا يدل على موت القلب وبطلان الحسِّ وفَقْدِ الحياة. ولهذا كان أكمل الناس حياةً أشدهم حياءً. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشد حياءً من العذراء في خدرها (2) لكمال حياة قلبه. والله سبحانه الحي القيوم، وقد وصف نفسه بالحياء ووصفه رسوله، فهو الحيي الكريم كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا (3)» (4). وقالت أم سُلَيم: «يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من _________ (1) أخرجه الآجري في «جزء فيه حكايات عن الشافعي» (27) وأبو نعيم في «الحلية» (9/ 143) والبيهقي في «مناقب الشافعي» (2/ 202) وفي «شعب الإيمان» (8734) وابن عساكر في «تاريخه» (51/ 414) وفيه: «شيطان» بدل «جبار»، وذكره بلفظ المصنِّف الراغب في «محاضرات الأدباء» (1/ 278) والوطواط في «غرر الخصائص» (ص 495). (2) أخرجه البخاري (3562) ومسلم (2320) عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. (3) أي: خاليتين. «فيض القدير» (2/ 229). (4) أخرجه الإمام أحمد (24212) وأبو داود (1488) والترمذي (3556) وابن ماجه (3865) وابن حبان (876) والحاكم (1/ 497، 535) والبيهقي في «السنن الكبرى» (2/ 211) عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - مرفوعًا. وقال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب، ورواه بعضهم ولم يرفعه». وقال الحاكم في الموضع الثاني: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه». وجوَّد إسناده ابن حجر في «فتح الباري» (11/ 143). والموقوف أخرجه الإمام أحمد في «المسند» (24211) ووكيع في «الزهد» (504) وهناد في «الزهد» (1361) والحاكم في «المستدرك» (1/ 497) وقال الحاكم: «هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين». وللحديث شواهد عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم -، منهم أنس بن مالك وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهم -، ينظر «تخريج أحاديث الكشاف» للزيلعي (1/ 55 - 57). وقال الذهبي في «العرش» (2/ 66): «وهذا حديث صحيح، رواه جماعة من الصحابة، علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وسلمان الفارسي، وأنس بن مالك، وغيرهم».
(2/1073)
الحق» (1). وأقرَّها على ذلك، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَعْجَازِهِنَّ» (2). والحياء عند هؤلاء من الكيفيات النفسانية، فلا يجوز عندهم وصف _________ (1) أخرجه البخاري (130) ومسلم (313). (2) أخرجه الإمام أحمد (22271، 22275، 22282، 22291) والنسائي في «السنن الكبرى» (8933 - 8946) وابن ماجه (1924) وابن الجارود في «المنتقى» (728) وابن حبان (4198، 4200) والطبراني في «المعجم الكبير» (4/ 88 - 90) والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 196 - 197) من طرق عن خزيمة بن ثابت - رضي الله عنه -. وصححه ابن حزم في «المحلى» (10/ 70)، وقال المنذري في «الترغيب والترهيب» (3/ 290): «رواه ابن ماجه والنسائي بأسانيد، أحدها جيد». وقال ابن الملقن في «خلاصة البدر المنير» (2/ 201): «رواه الشافعي والبيهقي من رواية خزيمة بن ثابت بإسناد صحيح، وصححه الشافعي». وقال ابن حجر في «فتح الباري» (8/ 191 (: «من الأحاديث الصالحة الإسناد حديث خزيمة بن ثابت». وأخرجه الإمام أحمد (666، 24445) والترمذي (1164، 1166) وابن حبان (4199، 4201) عن علي بن طلق - رضي الله عنه -. وقال الترمذي: «حديث علي بن طلق حديث حسن». وفي الباب عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم -، ينظر: «البدر المنير» (7/ 651 - 659) و «إرواء الغليل» (2005). وقال ابن المنذر في «الأوسط» (9/ 121): «ثابت عن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله لا يستحيي من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن». وقال الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (14/ 128): «قلت: قد تيقنا بطرق لا محيد عنها نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أَدْبار النِّساء، وجزمنا بتحريمه، ولي في ذلك مصنَّفٌ كبيرٌ».
(2/1074)
القديم بها. والمقصود أنه كلما [زادت] (1) صفات الكمال في الحيِّ كان فرحه ومحبته ورضاه وغضبه ومقته أكمل. ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا غضب لم يقم لغضبه [ق 127 ب] شيءٌ (2). وفي الأثر: «إن موسى كان إذا غضب اشتعلت قلنسوته» (3). وكان أشدَّ بني إسرائيل حياءً حتى إنه لا يغتسل إلَّا وحده من شدة حيائه (4). _________ (1) سقط من «ح». والسياق يقتضيه. (2) هو قطعة من حديث هند بن أبي هالة في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه الترمذي في «الشمائل» (215) والطبراني في «المعجم الكبير» (22/ 155) والآجري في «الشريعة» (1022) والبيهقي في «شعب الإيمان» (1362) والبغوي في «شرح السنة» (13/ 269) من طريق جميع بن عمر عن رجل بمكة عن ابن لأبي هالة التميمي عن الحسن بن علي به، وذكر الحديث بطوله، وفي إسناده جهالة، قال البخاري في «الضعفاء» (ص 118): «يتكلمون في إسناده». ولبعض ألفاظه شواهد صحيحة، ويكثر وروده في كتب السير والشمائل حتى قال ابن عبد البر في «الاستيعاب» (4/ 1545 (: «وكان هند بن أبي هالة فصيحًا بليغًا وصَّافًا، وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأحسن وأتقن». (3) أخرجه الخرائطي في «مساوئ الأخلاق» (339) ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (61/ 161) عن زيد بن أسلم. ونقل ابن القاسم عن مالك أنه قال: «كان موسى إذا غضب طلع الدخان من قلنسوته، ورفع شعر بدنه جبته». كما في «أحكام القرآن» لابن العربي (2/ 325). (4) أخرج البخاري (278) ومسلم (339) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - حديث اغتسال موسى عليه السلام وحده، وفي لفظ للبخاري (3404): «إن موسى كان رجلًا حييًّا ستيرًا، لا يُرى من جلده شيءٌ استحياء منه».
(2/1075)
وإذا كانت هذه صفات كمالٍ فلا يجوز سلبها عمَّن هو أحق بالكمال المطلق من كل أحدٍ بمجرد تسميتها كيفيات نفسية وأعراضًا وانفعالات ونحو ذلك، فإن هذا من اللبس والتلبيس وتسمية المعاني الصحيحة الثابتة بالأسماء القبيحة المنفِّرة، وتلك طريقة للنُّفاة مألوفة وسجية معروفة. وإذا عُرف هذا تبيَّن أن هؤلاء المعطلة النُّفاة أضاعوا حقَّ الله الذي يستحقه لنفسه، والذي بعث به رسله وأنزل به كتبه، والذي هو أصل دينه ومنتهى عبادته؛ بما هم متناقضون فيه. وقد سبق لك أنهم معترفون بما فطر الله عليه خلقه أن المدح يتضمن فرح الممدوح ولوازمه، ولهذا لزمهم القولُ بخلاف ما يُعلم بالضرورة من دين الرسل من أولهم إلى آخرهم: أن الله لا يفرح بمدحه وحمده وتمجيده والثناء عليه ولا يرضى نفسه بذلك ولا يكون محبوبًا له على الحقيقة. وهذا هم معترفون به، لا يتحاشون منه، ولا يستنكفون من إطلاقه. وإنما العجب تصريحهم بأنه لا يمدح بمدح (1)، والمدح هو أصل الثناء والحمد، وقد صرَّحوا باستحالة ذلك في حقِّه، كما قالوا: المدح هو الإخبار [عن] (2) كونه مستحقًّا لأن [يفعل] (3) به ما يفرح به ويلتذ به، والذم هو الإخبار عن كونه مستحقًّا لأن يفعل به ما يحزن به ويتألم به. قالوا: وإذا فسرنا المدح والذم بذلك استحال (4) تصورهما في حق الله تعالى لاستحالة الفرح والغم عليه. _________ (1) «ح»: «ممدح». ولعل المثبت هو الصواب. (2) «ح»: «هو». والمثبت من «نهاية العقول»، وقد تقدم على الصواب. (3) «ح»: «ينقل». والمثبت من «نهاية العقول»، وقد تقدم على الصواب. (4) «ح»: «استحالة». والمثبت من «نهاية العقول»، وقد تقدم على الصواب.
(2/1076)
وقد أبطل فاضلهم (1) طُرق الناس، وعوَّل على هذه الطريقة، كما تقدم حكاية لفظه. وهذا اعترافٌ منه بأنه ليس للمدح والذم حاصلٌ إلَّا ما لا يتصور في حقِّ الله، فلا يتصور عنده أن يكون الله محمودًا ممدوحًا بحالٍ، ومعلومٌ أن فساد هذا في دين الرُّسل كلهم وجميع فِطَر بني آدم من أوضح الواضحات. وحينئذٍ فنقول في: الوجه الثامن والعشرين: قولكم: إن المدح يستحيل تصوره في حقِّ الله، من أوضح الكفر، وأقبح المعاداة لله، والمناقضة لكتبه ورسله. واستدلالكم على ذلك بأن الفرح يستحيل عليه أبطل وأبطل، بل قد عُلم بالاضطرار عقلًا وفطرةً وشرعًا أن المستحق لغاية المدح الكامل المطلق هو الربُّ سبحانه، فهذا أحقُّ الحقِّ. ولازمه حقٌّ، فإنه لا يلزم من الأحقِّ إلَّا حقٌّ، فإن كان الفرح لازمًا لهذا المدح فهو حقٌّ. وقد أثبته له سبحانه أعلم خلقه وأعرفهم به وبصفاته وما يجب له ويمتنع عليه، وقرَّب فرحه سبحانه إلى الأذهان بما هو من أعظم (2) أنواع الفرح، وهو فرحه بتوبة التائب إليه، فكيف بما هو أعظم من ذلك من حمد الحامدين له ومدحهم له وثنائهم عليه. فإذا كان المدح مستلزمًا للفرح، وقد عُلم أنه يستحق المدح أجمع، عُلم أنه يفرح بمدحه. وإثبات الملزوم ونفي لازمه محالٌ، ولهذا لمَّا تفطَّن هؤلاء لذلك وعلموا (3) أنه لا يمكن إثبات الملزوم ونفي لازمه، صرَّحوا بنفي اللازم والملزوم، وقالوا: يستحيل ثبوت المدح والفرح في حقِّه. فنقول في: _________ (1) يعني الفخر الرازي في «نهاية العقول» (3/ 241 - 242)، وقد تقدم نقل كلامه في الوجه العشرين. (2) «ح»: «أعظم من». ولعل المثبت هو الصواب. (3) «ح»: «علموا» من غير واو.
(2/1077)
الوجه التاسع والعشرين: إنه من المعلوم أن كونه سبحانه يستحق المدح، والمحامد أبين في الشرع والعقل والفطرة من كونه لا يفرح، والواجب أن يستدل بالمعلوم على المجهول، وبالواضح على الخفي. أمَّا أن يُستدل بانتفاء (1) الفرح على انتفاء كونه مستحقًّا للمدح فهذا من أبطل الباطل، وهو خروج عن مقتضى السمع والعقل، وهو من فعل أهل التلبيس والتدليس. وإذا تبيَّن ذلك عُرف أن هؤلاء الجهمية المعطلة الذين يذكرون ما وصف الله به نفسه من الرضا والفرح والمحبة يلزم لزومًا بيِّنًا (2) أن يجحدوا حمده سبحانه ومدحه والثناء عليه واستحقاقه لذلك، بموجب هذه القضية الكاذبة الباطلة التي قرَّروها. وهذا شأن جميع قضاياهم الكاذبة التي تتضمن تعطيل ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله، فإنها تستلزم إثبات الباطل وإبطال الحقِّ، ويأبى الله إلَّا أن يُقيم لدينه من يذبُّ (3) عنه، والحمد لله رب العالمين. الوجه الثلاثون بعد المائتين: أن يقال: قولكم: إن المدح والذم لا معنى لهما إلَّا مجرد (4) الخبر عن استحقاق ما يفرح ويؤلم، ليس كذلك. والتحقيق أن فيهما معنًى زائدًا على الخبر المجرد، سواء دلَّ اللفظ على ذلك المعنى الزائد [ق 128 أ] بالتضمن أو باللزوم، فإن الحامد المادح يقترن بحمده ومدحه محبة المحمود والرضا عنه وتعظيمه، وكذلك الذامُّ يقترن بذمِّه بُغض المذموم وتنقصه وقلاه. ولهذا فسَّر كثيرٌ من الناس الحمد بالرضا _________ (1) «ح»: «بانتفاح». (2) «ح»: «نفيا». (3) «ح»: «عذت». ولعل المثبت هو الصواب. (4) «ح»: «بمجرد».
(2/1078)
واختاره الآمدي في «أبكاره» (1) وغيره، فالآمدي فسَّره بالرضا وهو من باب الإرادات، والرازي فسره بالخبر وهو من باب الاعتقادات. والتحقيق أن الحمد والذمَّ يتضمن الأمرين جميعًا، فالمادح يعتقد أن في الممدوح والمحمود ما يحبه ويرضى به ويفرح به، ويكون مع هذا الاعتقاد والخبر في قلبه من محبته والرضا به والفرح ما استحق به أن يكون حامدًا له ومادحًا. وهذا أمر يجده الحامد المادح من نفسه إذا كان مادحًا بحقٍّ وصدقٍ، بخلاف المدح بالباطل فإنه كذبٌ لا يستلزم شيئًا من ذلك. فالمدح والحمد أصلهما الخبر، ويتبعه الحب والرضا. والذمُّ أصله الخبر ويتبعه البغض والسخط. والصلاة على من يُصلَّى عليه أصلها الطلب والإرادة ويتبعها الخبر. ولعنة من يُلعن أصلها طلب إهانته وإقصائه ويتبعها الخبر. وهذان النوعان من الخبر، وهما الإخبار عن الشيء بالخبر السيئ وطلب السوء له، والإخبار عنه بالخبر الحسن وطلب الخير له. الأول أصل اللعن، والثاني أصل الصلاة. وهو سبحانه يلعن أعداءه ومن يفعل ما يبغضه ويسخطه، ويُصلِّي على أوليائه وأهل طاعته وذكره. وفي «صحيح مسلم» (2) عنه - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَكُونُ الطَّعَّانُونَ وَاللَّعَّانُونَ شُهَدَاءَ وَلَا شُفَعَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». فإن الشهادة من باب الخبر والشفاعة من باب _________ (1) «ح»: «وأبطاره». وهو تحريف، وهذا نص كلام الآمدي في «أبكار الأفكار» (2/ 191): «أما الحمد فقد قيل: هو الشكر. ومنه يقال: الحمد لله شكرًا، فيجعل الشكر مصدر الحمد. وقيل: الحمد هو الرضا. ومنه يقال: الحمد لله حق حمده. أي حق رضاه». (2) (2598) عن أبي الدرداء - رضي الله عنه -. دون لفظ: «الطعانون».
(2/1079)
الطلب، ومن يكون كثير الطعن على الناس ـ وهو الشهادة عليهم بالسوء ـ وكثير اللعن لهم ـ وهو طلب السوء لهم ـ لا يكون شهيدًا عليهم ولا شفيعًا لهم؛ لأن الشهادة مبناها على الصدق، وذلك لا يكون فيمن يكثر الطعن فيهم، ولا سيما فيمن هو أولى بالله ورسوله منه. والشفاعة مبناها على الرحمة وطلب الخير، وذلك لا يكون ممَّن يكثر اللعن لهم ويترك الصلاة عليهم. ومن أعظم أسباب سعادة العبد أن يكون موافقًا لربه سبحانه في صلاته على من صلَّى عليه ولعنته لمن لعنه، كما في «مسند الإمام أحمد» (1) و «صحيح الحاكم» (2) من حديث زيد بن ثابت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمه وأمره أن يتعاهد أهله في كل صباحٍ: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ وَمِنْكَ وَإِلَيْكَ. اللَّهُمَّ فَمَا قُلْتُ مِنْ قَوْلٍ، أَوْ حَلَفْتُ مِنْ حَلِفٍ، أَوْ نَذَرْتُ مِنْ نَذْرٍ، فَمَشِيئَتُكَ بَيْنَ يَدَيْ ذَلِكَ كُلِّهِ، مَا شِئْتَ كَانَ، وَمَا لَمْ تَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. اللَّهُمَّ مَا صَلَّيْتُ مِنْ صَلَاةٍ فَعَلَى مَنْ صَلَّيْتَ، وَمَا لَعَنْتُ مِنْ لَعْنَةٍ فَعَلَى مَنْ لَعَنْتَ، أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ. اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَبَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوتِ، وَلَذَّةَ نَظَرٍ إِلَى وَجْهِكَ، وَشَوْقًا إِلَى _________ (1) (22069). (2) «المستدرك» (1/ 516 - 517) وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه». فتعقبه الذهبي بقوله: «أبو بكر ـ يعني: ابن أبي مريم ـ ضعيف، فأين الصحة؟». وأخرج الحديث ابن خزيمة في «التوحيد» (17) وابن المنذر في «الأوسط» (12/ 162) والطبراني في «الكبير» (5/ 119) والبيهقي في «الدعوات الكبير» (42، 43) من طريق أبي بكر بن أبي مريم. وقال ابن المنذر: «لا يصح». وينظر «السلسلة الضعيفة» (6733).
(2/1080)
لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَعْتَدِيَ أَوْ يُعْتَدَى عَلَيَّ، أَوْ أَكْسِبَ خَطِيئَةً أَوْ ذَنْبًا لَا تَغْفِرُهُ. اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، فَإِنِّي أَعْهَدُ إِلَيْكَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَأُشْهِدُكَ ـ وَكَفَى بِكَ شَهِيدًا- أَنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، لَكَ الْمُلْكُ وَلَكَ الْحَمْدُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ. وَأَشْهَدُ أَنَّ وَعْدَكَ حَقٌّ وَلِقَاءَكَ حَقٌّ، وَالسَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّكَ تَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، وَأَنَّكَ إِنْ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي تَكِلْنِي إِلَى ضَعْفٍ وَعَوْرَةٍ وَذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ. وَإِنِّي لَا أَثِقُ إِلَّا بِرَحْمَتِكَ، فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي كُلَّهَا، إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ». فهذه ثلاثون وجهًا مضافة إلى المائتين، فصارت مائتين وثلاثين وجهًا تبطل معارضتهم للنصوص بالتوهمات والظنون الكاذبة التي يُسمونها عقليات. الوجه الحادي والثلاثون بعد المائتين: أن نقول: إذا عارضتم بين المعقول والمنقول فإمَّا أن تكذِّبوا المنقول وإمَّا أن تصدِّقوه. فإن كذَّبتموه أُلحقتم بأعداء الرُّسل المكذِّبين لهم، وانسلختم من العقل والدِّين كانسلاخ الشعرة من العجين. وإن صدَّقتم المنقول فإمَّا أن تعتقدوا أن له معنًى، أو تقولوا: لا معنى له. ولا يمكنكم أن تقولوا بالثاني؛ إذ تستحيل المعارضة على هذا التقدير، وتبطل المسألة التي أصَّلتموها من أصلها. وإن قلتم: بل للمنقول معانٍ [ق 128 ب] قصدها المتكلم وأراد من العباد اعتقادها والإقرار بها، فإما أن يدل اللفظ عليها أو لا يدل. فإن لم يدل اللفظ
(2/1081)
عليها كان ذلك متضمنًا للمحال والعبث والقدح في الربِّ تعالى ورسله وكلامه من وجوهٍ متعددةٍ، فكيف يحسُن به وبرحمته وحكمته وعنايته بخلقه ولطفه بهم وإحسانه إليهم أن يخاطبهم بكلامٍ يريد منهم أن يفهموا منه ما لا يدل عليه بوجهٍ ما؟! وهو سبحانه قد أكذب هذا الظن الكاذب الجائر بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 5] وقوله: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ آاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت: 43]. فخطابهم بذلك من جنس خطاب كل أمةٍ بِلُغةٍ لا تفهمها البتة، بل أبعد منه، لأنها يمكنها التوصل إلى معرفة المراد بهذا الخطاب بالترجمة كما يُترجم التَّرَاجِم بين الرُّسل والملوك. وأمَّا الخطاب بما لا يدل على المعنى المراد بوجهٍ في لغة من اللغات وإرادة اعتقاد ذلك المعنى منه فلا يفعله عاقلٌ، ويُصان عنه عقلاء البشر فضلًا عن أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وأعدل العادلين. وهذا لو كان المراد منه معاني لا يناقضها الكلام ولا يدل عليها بنفيٍ ولا إثباتٍ، فكيف إذا كان الكلام المخاطب به له معانٍ تُناقض تلك المعاني التي أراد منهم فهمها ومخالفتها؟ فهذا أبلغ في الإحالة. وإن قلتم: بل له معانٍ ظاهرةٌ مفهومةٌ أراد من العباد اعتقادها والإقرار بها، فإمَّا أن تقولوا: هي في نفسها حقٌّ مطابقٌ للواقع، أو تقولوا: ليس لها وجودٌ بل هي منتفيةٌ في نفس الأمر. فإن قلتم بالأول صدقتم، ورجعتم إلى موجب العقل والنقل. وإن قلتم بالثاني لزمكم أن يكون الله ورسوله أراد من العباد اعتقاد الباطل والضلال والتشبيه والتجسيم، وهذا غاية المُشاقَّة (1) والقدح في الحكمة والرحمة. _________ (1) «ح»: «المشقة». والمشاقة: الخلاف والعداوة. «الصحاح» (4/ 1503).
(2/1082)
وإن قلتم: له معانٍ ظاهرةٌ مفهومةٌ أراد من العباد نفيها وإنكارها وعدم اعتقادها ـ وهذا هو حقيقة قولكم ـ لزمكم نسبة الله ورسوله إلى ما لا يليق بآحاد العقلاء، فضلًا عن ربِّ الأرض والسماء، وخاتم الرسل وسيد الأنبياء؛ فإنه يكون قد خاطبهم بإثبات ما أراد منهم نفيه، وتحقيق ما أراد منهم إبطاله، وعرضهم لأنواع الكفر والضلال والتشبيه؛ وكان بمنزلة من أراد أن يصف لعليل دواءً يستشفي به، فوصف له دواءً قاتلًا، وأخبره أن فيه الشفاء والعافية، وأراد منه أن يأخذ من ألفاظ ذلك الدواء ما لا يدل عليه بل على خلافه! فهل يكون هذا المداوي إلَّا من أجهل الناس وأعظمهم تلبيسًا وتدليسًا؟ فلا بد لكم من أحد هذه الأقسام المذكورة، فإن كان هاهنا قسمٌ آخر فبيِّنوه وبيِّنوا صحته. يوضحه: الوجه الثاني والثلاثون بعد المائتين: وهو أن الأدلة العقلية التي زعمتم أنها تعارض النقل وتنفي موجبه هي بعينها تنفي المعاني التي تأولتم النقل عليها، وصرفتم معناه إليها، فإنكم لا يمكنكم تعطيل دلالة النصوص بالكلية وجعلها بمنزلة الكلام المهمل الذي لم يستعمله العقلاء، بل لا بد لكم من حملها على معانٍ أُخر غير حقائقها التي دلَّت عليها، وحينئذٍ فالأدلة العقلية التي نفيتم بها حقائق النصوص تنفي تلك المعاني التي تأولتموها عليها بعينها. مثاله: أنكم تأولتم الرحمة والرأفة بالإرادة، وزعمتم أن الدليل العقلي يقتضي نفي الرحمة والرأفة حقيقة، وهو إمَّا دليل الأعراض، وإمَّا دليل التركيب، وإمَّا الدليل الذي ينفي التجسيم والتشبيه، وإمَّا دليل التوحيد الذي ينفي ثبوت شيءٍ من الصِّفات، وإمَّا دليل امتناع الكيفيات النفسانية عليه،
(2/1083)
وإما دليل امتناع الاختصاص بغير مخصصٍ أو غير ذلك. فجميع هذه الشُّبه الباطلة تنفي كل معنًى حملتم عليه النصوص، ويلزمكم فيما أثبتموه نظير ما لزمكم فيما نفيتموه. وإذا كان الإلزام ثابتًا على التقديرين لم تستفيدوا بتأويل النصوص وحملها على خلاف حقائقها إلَّا تحريف الكلم عن مواضعه، والقول على الله بلا علم، والجناية على الكتاب والسُّنَّة. فلو أنكم تخلصتم بالتحريف ممَّا فررتم منه من التشبيه والتجسيم كنتم قد صنعتم شيئًا، ولكن أصابكم في ذلك ما أصاب القائل (1): وَأَفْقَرَنِي فِيمَنْ أُحِبُّ وَمَا اسْتَغْنَى فهذان وجهان يَعُمَّانِ كل ما ينفون من الصِّفات الإلهية ويتأولونه على غير تأويله من النصوص النَّبوية ويعتمدون عليه من الأقيسة العقلية. الوجه الثالث والثلاثون بعد المائتين: أن لازم هذا القول بل حقيقته (2) أن أسماء الربِّ تعالى إنما تُطلق عليه مجازًا لا حقيقة، فإنه إذا قام الدليل العقلي على انتفاء حقائقها صار إطلاقها بطريق المجاز والاستعارة لا بطريق [ق 129 أ] الحقيقة، فيكون إطلاقها على المخلوق بطريق الحقيقة، إذ لا يمكن أن يكون مجازًا في الشاهد والغائب، وقد نفيتم أن يكون حقيقةً في حقِّ الربِّ سبحانه، فتكون حقيقة في المخلوق مجازًا في الخالق، فيكون المخلوق أحسن حالًا فيها من الخالق، وتكون حُسنى في حقِّه دون حقِّ الربِّ _________ (1) عجز بيت للشيخ تقي الدِّين عبد الله بن أحمد بن تمام الحنبلي (ت 718 هـ)، نسبه له الكتبي في «فوات الوفيات» (2/ 165). وصدر البيت: «لحا الله دهرًا راعني بفراقكم». (2) «ح»: «حقيقة».
(2/1084)
تعالى؛ لأنها إنما كانت حُسنى باعتبار معانيها وحقائقها، لا بمجرد ألفاظها، فمن له حقائقها (1) فهي في حقه حُسنى، دون من انتفت عنه حقائقها. وكفى بهذا خروجًا عن العقل والسمع، وإلحادًا في أسمائه سبحانه! قال تعالى: {وَلِلَّهِ اِلْأَسْمَاءُ اُلْحُسْنى فَاَدْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا اُلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180]. فإن قلتم: حقائقها بالنسبة إليه ما يليق به، وهو ما تأولناها عليه، وحينئذٍ فتكون حُسنى بذلك الاعتبار، وتكون حقيقة لا مجازًا. قيل: فهلَّا حملتموها على حقائقها المفهومة منها على وجهٍ يليق به ولا يماثله فيه خلقه، كما فعلتم بحملها على تلك المعاني التي صرفتموها إليها؟ فإن قلتم: حملها على ذلك يستلزم محذورًا من تلك المحاذير. قيل: فكيف لم يستلزمه فيما أثبتموه من تلك المعاني، واستلزمه فيما نفيتموه؟ وإذا كنتم قد أثبتم تلك على وجهٍ يختص به ولا يماثل خلقه فيه فأثبتوا له حقائقها على هذا الوجه، وتكونون للعقل والنقل موافقين، وللكتاب والسُّنَّة مصدِّقين، ولسلف (2) الأُمَّة وأعلمها بالله وصفاته وأسمائه موافقين، وعن سبيل أهل الإلحاد والتعطيل عادلين. الوجه الرابع والثلاثون بعد المائتين: أن الناس في هذه الأسماء التي تقال على الربِّ وعلى العبد مختلفون على أقوال: _________ (1) «ح»: «بحقائقها». والمثبت هو الصواب. (2) «ح»: «لسلفاء».
(2/1085)
فقالت غُلاة المعطلة من الجهمية: إنها مجازٌ في حقِّ الخالق حقيقةٌ في حقِّ المخلوق، وإنها استعيرت له من أسمائهم، وهذا كما قيل: خرَّ عليهم السقف من تحتهم، لا عقل ولا قرآن! فكيف يُستعار للقديم الخالق سبحانه أسماء من المُحْدَث المخلوق، وكيف يُستقرض للغني الواجد من الفقير المُعْدَم؟! أترى لم يكن في الممكن أن يكون للربِّ سبحانه من الأسماء إلَّا ما استُعير له من أسماء خلقه؟ ولمَّا رأت (1) طائفة من العقلاء شناعة هذا المذهب وبطلانه قابلوا قائليه وقالوا: بل هي حقيقةٌ في الربِّ، مجازٌ في العبد. وهذا قول أبي العباس [الناشئ] (2) وقد وافقه عليه طائفةٌ، ويلزم أصحاب هذا القول صحة نفيها عن المخلوق كما يلزم أصحاب القول الأول صحة نفيها عن الخالق. والقولان باطلان، مع أن أصحاب هذا القول وإن كانوا خيرًا من أولئك فهم متناقضون، فإنهم إن أثبتوا للربِّ تعالى حقائقها المفهومة منها فجعلُها مجازًا في المخلوق ممتنع، فإن المعنى الذي كانت به حقيقة في الغائب موجود في الشاهد وإن كان غير مماثل، بل للربِّ منه ما يختص به ولا يماثله فيه المخلوق، وللمخلوق منه ما يختص به ولا يماثله فيه الخالق. وهذا لا يوجب أن تكون مجازًا في حقِّ المخلوق كالوجود والشيء والذات. وإن _________ (1) «ح»: «رأيت». (2) «ح»: «الهاشمي». وهو تحريف، والتصويب من «منهاج السنة» (2/ 583) و «مجموع الفتاوى» (9/ 146) و «بدائع الفوائد» (1/ 290). وأبو العباس الناشئ هو عبد اللَّه بن محمد بن شرشير المتكلم الشاعر من أهل الأنبار، توفي سنة ثلاث وتسعين ومائتين. ترجمته في «تاريخ بغداد» (11/ 297).
(2/1086)
أثبتوها على غير حقائقها المفهومة منها بل جعلوا معناها ما تأولوها عليه فقلبوا الحقائق وعكسوا اللغة وأفسدوها، وجعلوا المجاز حقيقةً والحقيقة مجازًا. هذا، وهم أعذر من أولئك وأقل خطأ، فإنهم جعلوها مجازًا في حقِّ من هو أولى بها من (1) خلقه وأولى من تثبت له على أتم الوجوه وأكملها أزلًا وأبدًا ووجوبًا وبراءةً عن كل ما ينافي ذلك، وجعلوها حقيقةً في حقِّ من استعيرت له على وجه الحدوث والضعف والنقص، فهؤلاء أعظم قلبًا للحقائق ومخالفة للمعقول من أولئك. وقالت طائفةٌ ثالثة: بل هي حقيقة في الغائب والشاهد كالوجود والشيء والذات، وإن لم تماثل الحقيقة الحقيقة. ثم اختلف هؤلاء فقالت طائفةٌ: هي مقولة عليهما بالاشتراك اللفظي؛ لتباين الحقيقتين من كل وجهٍ. وهذا من أفسد الأقوال؛ فإن كل عاقلٍ يفرق بين لفظي (2) العين ولفظ المشتري ولفظ العين ونحوها (3)، وبين لفظ السميع والبصير والحي والعليم والقدير، ويفهم المعنى من هذه الألفاظ عند إطلاقها دون تلك، فلو كانت مشتركة لم يُفهم منها شيءٌ عند الإطلاق. وقالت طائفةٌ أخرى: بل يقال على القديم والحادث بطريق التواطؤ (4)، _________ (1) «ح»: «ومن». (2) كذا في «ح». (3) كذا في «ح»، ولعل في العبارة سقطًا أو تحريفًا. (4) المتواطئ: لفظٌ يدل على أعيان متعددة بمعنى واحد مشترك بينها، كدلالة اسم الإنسان على زيد وعمرو. ودلالة اسم الحيوان على الإنسان، والفرس، والطير. لأنها متشاركة في معنى الحيوانية. وفي «تعريفات الجرجاني»: «المتواطئ: هو الكلي الذي يكون حصول معناه وصدقه على أفراده الذهنية والخارجية على السوية، كالإنسان، والشمس، فإن الإنسان له أفراد في الخارج، وصدقه عليها بالسوية، والشمس لها أفراد في الذهن وصدقها عليها أيضًا بالسوية». «المعجم الفلسفي» (2/ 334).
(2/1087)
وهي موضوعة للقدر المشترك، والخصائص لا تدخل في مسمَّى اللفظ، قالوا: ولهذا يصح تقسيم معانيها إلى واجب وممكن، وقديم ومحدث. ومورد التقسيم مشتركٌ بين الأقسام. وقالت طائفةٌ: بل يقال على الربِّ والعبد بطريق التشكيك (1)؛ لأنها [ق 129 ب] في الربِّ أولى وأولى وأتم وأكمل، ولا ريب أن المتواطئ (2) يعم ما تساوت أفراده فيه وما تفاوتت، فالمشكِّك نوع من المتواطئ. وإذا عُرف هذا فمن نفى حقائقها عن الربِّ سبحانه جعلها مجازًا في حقِّه حقيقةً في المخلوق. يوضحه: الوجه الخامس والثلاثون بعد المائتين: أنه قد عُلم أن المعنى المستعار يكون في المستعار منه أكمل منه في المستعار، وأن المعنى الذي دلَّ عليه اللفظ بطريق الحقيقة أكمل من المعنى الذي دلَّ عليه بطريق المجاز، وإنما يستعار لتكميل معنى المجاز، مثل الأسد فإن شجاعته لمَّا كانت أكمل من شجاعة ابن آدم، والبحر لمَّا كان أوسع من ابن آدم، والشمس والقمر لمَّا _________ (1) التشكيك عند القدماء: كون اللفظ موضوعًا لأمرٍ عامٍّ مشتركٍ بين الأفراد لا على السواء، بل على التفاوت، كالوجود بالنسبة إلى الواجب الوجود والممكن الوجود، وذلك اللفظ يُسمى مشكِّكًا. والتشكيك عند المحدثين: دلالة اللفظ أو العبارة على معانٍ متعددة، وكل معنى يمكن تفسيره أو تأويله بصور مختلفة، فهو معنى مشكك. فالمشكِّك إذن هو المبهم الذي لا يستطيع الذهن أن يتصور معناه تصورًا ثابتًا، ولا أن يرتبه في نوع محدود، أو جنس معين. «المعجم الفلسفي» (2/ 378 - 379). (2) «ح»: «التواطؤ».
(2/1088)
كانا (1) أبهى وأحسن، استُعيرت أسماؤها لما دونها. فإذا قيل: إن هذه الأسماء مجازٌ في حقِّ الربِّ حقيقةٌ في حقِّ العبد، كانت في العبد أكمل وأتم منها في الربِّ، وكانت تسمية الربِّ سبحانه بها تقريبًا (2) وتمثيلًا لما هو حقيقة في العبد! وهل في الباطل والضلال والكفر والمحال فوق هذا؟! والظاهر ـ والله أعلم ـ أن أكثر هؤلاء النُّفاة المعطلة جهالٌ لا يتصورون حقيقة أقوالهم ولوازمها، وإلَّا فمن آمن بالله وكان له في قلبه جلالةٌ وعظمةٌ ووقارٌ لا يرضى بذلك ولا يعتقده، وإن كان كثيرٌ من الناس لا يتحاشى من ذلك ولا يأنف منه لقلة وقار الله في قلبه وبُعده عن معرفته وإساءة ظنه بأهل الإثبات وإحسان ظنه بطائفته وأهل نِحْلته. وضلالُ بني آدم لا يحيط به إلَّا من هو بكل شيءٍ محيطٌ! الوجه السادس والثلاثون بعد المائتين: أن أعقل الخلق على الإطلاق الرُّسل، وأتباعهم بعدهم أعقل الأمم، وأهل الكتب والشرائع الكبار أعقلهم، وأعقل هؤلاء المسلمون، وأعقل المسلمين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعون لهم بإحسان، وأهل السُّنَّة والحديث أعقل الأُمة بعدهم على الإطلاق. والبرهان القاطع على هذا أنه قد ظهر على أيدي الرُّسل من العلم النافع والعمل الصالح ومصالح الدنيا والآخرة ما لم يظهر مثله ولا قريب منه ولا ما له (3) البتة نسبة بوجهٍ من الوجوه على أيدي غيرهم من العقلاء. _________ (1) «ح»: «كان». (2) «ح»: «أنه بها تقريقا». ولعل المثبت هو الصواب. (3) «ح»: «مثاله». ولعل المثبت هو الصواب.
(2/1089)
ومن تدبَّر سيرتهم في أنفسهم وفي خاصتهم وفي العامة وصبرهم وزهدهم في الدنيا ورغبتهم في الله وما عنده، واشتمالهم من الأخلاق على أزكاها، ومن الشِّيم على أرضاها، وأنهم أصدق الخلق وأبرهم قلوبًا، وأزكاهم نفوسًا، وأعظمهم أمانةً، وأكرمهم عشرةً، وأعفهم ضمائر، وأطهرهم سريرةً = لم يشك أنهم أعقل خلق الله على الإطلاق. ولا ريب أن كل من كان إليهم أقرب كان حظُّه من العقل أوفر، والعلوم والأعمال والسِّيرة والدلائل على ذلك (1). وأمَّا أعداؤهم وخصومهم فقد ظهر من نقصان عقولهم ما كان الحيوان البهيم أحسن به حالًا منهم؛ فإنه لا يقدم على هلاكه، وخصماء الرُّسل وخصماء أتباعهم متهافتون في أسباب هلاكهم (2) تهافت الفراش في النار، وظهر نقصان هذه العقول في علومهم ومعارفهم، مثل ظهوره في أعمالهم أو أعظم، فإن كل من له نورٌ وبصيرةٌ إذا عرض على العقل الصحيح والفطرة السليمة ما جاءت به الرُّسل وما قالته النُّفاة المعطلة في الله جل جلاله؛ تبين له الذي بينهما من الفَرْق أعظم ممَّا بين القَدَم [والفَرْق] (3). ومن أعظم المحال أن يكون أعقل الخلق وأعقل الأُمم مطبقين على الانقياد لكتابٍ قد خالفه صريح العقل، ويكون ذلك الكتاب متضمنًا لخلاف (4) الصواب في أعظم مطالب الدعوة الإلهية، وظاهره ضلالٌ _________ (1) كذا في «ح»، ولعل في الكلام سقطًا. (2) «ح»: «هلا لزم». ولعل المثبت هو الصواب. (3) يعني: فَرْق الرأس، وفي «ح»: «الفرق»، تحريف. (4) «ح»: «الخلاف».
(2/1090)
ومحالٌ؛ ويطبق عليه أعقل بني آدم ويتلقونه بالقبول، وتشهد عقولهم وفِطَرهم أنه الحق والصواب، وأن ما خالفه فهو الباطل والإفك والمحال، وتصح به قلوبهم، وتطمئن به، وتسكن إليه، وتزكو به النفوس أعظم زكاء! وهذا من المحال أن يحصل بما يخالف صريح العقل، ويكون الصواب في خلاف (1) ما دلَّ عليه؛ فإن القلوب الصحيحة والفِطَر السليمة والعقول المستقيمة لا تطمئن بباطلٍ أبدًا، بل يكون أهله كما قال الله سبحانه: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ} [ق: 5] وقال تعالى: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات: 8 - 9] وقال: {اِنظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ اَلْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [الإسراء: 48]. ووصف سبحانه المصدِّقين به الذين لا يُقدِّمون عليه غيره بطمأنينتهم به، وجعل ذلك من أعظم آيات صدقه في أنه لو كان باطلًا مخالفًا [ق 130 أ] للعقول لم تطمئن به القلوب، بل كانت ترتاب به أعظم ريب، فإن الكذب في الأمور الجزئية ريبةٌ، فكيف بالكذب في باب أسماء الربِّ وصفاته وشأنه؟ والصدق في الأمور الجزئية طمأنينة، فكيف بالصدق في هذا الباب؟ قال تعالى: {الم ذَلِكَ اَلْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 1]. وقال تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا اَلْقُرْآنُ أَن يُفْتَرى مِن دُونِ اِللَّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ اَلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ اَلْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ اِلْعَالَمِينَ} [يونس: 37]. وقال تعالى: {الم تَنزِيلُ اُلْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ اِلْعَالَمِينَ} [السجدة: 1]. فجعل سبحانه من أعظم أدلة صدقه نفي الريب عنه في مثل هذه المطالب التي هي أصل مطالب بني آدم، وأجلُّ معارفهم وعلومهم على _________ (1) «ح»: «خلافه».
(2/1091)
الإطلاق. فلو كان فيه ما يخالف صريح العقل لكان فيه أعظم الريب، ولما اطمأنت به القلوب ولا ثلجت به الصدور. وقد قال تعالى: {اَلَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اِللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اِللَّهِ تَطْمَئِنُّ اُلْقُلُوبُ} [الرعد: 29] وذِكْرُه هاهنا هو كتابه (1)، وهو الذكر الحكيم. فكيف يجوز على أعقل الأُمم وأفضلها أن تطمئن قلوبهم بما يخالف العقل الصريح؟ وهل هذا إلَّا قدحٌ في عقولهم، كما هو قدح في نبيهم، وفي كتابهم، ومن تكلَّم به وجعله هدًى وشفاءً ورحمةً وعصمةً ونورًا وروحًا! والله ورسوله وملائكته وأولو العلم يعلمون أن كلام هؤلاء المعطلة النُّفاة ـ المعارضين للوحي بعقولهم وآرائه ـ فيه أعظم الريب وأبعد شيءٍ عن طمأنينة القلوب به وسكونها إليه وأشد شيءٍ مخالفة للمعقول الصريح. وهذه سُنة الله في خلقه أن أنقص الناس عقولًا وأعظمهم سفهًا يرمون أعقل الخلق وأفضلهم بنقصان العقول. ولا تنس قول أعداء الرُّسل في الرُّسل أنهم مجانين لا عقول لهم، فهكذا ورثتهم يرمون ورثة الرُّسل بدائهم إلى يوم القيامة. يوضحه: الوجه السابع والثلاثون بعد المائتين: أنه لو كان ظاهر الكتاب مخالفًا لصريح المعقول لكان في الصدور أعظم حرجٍ منه وضيق. وهذا خلاف المشهود بالباطن لكل ذي عقلٍ سليمٍ، فإنه كلما كان الرجل أتم عقلًا كان الحرج بالكتاب أبعد منه. قال تعالى لرسوله: {المص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ} [الأعراف: 1] والله تعالى رفع الحرج عن الصدور _________ (1) «ح»: «كناية». وهو تصحيف، وقد مر (ص 738) على الصواب في تفسير المصنف لهذه الآية في الوجه الحادي والمائة.
(2/1092)
بكتابه وكانت قبل إنزال الكتاب في أعظم الحرج والضيق، فلمَّا أنزل كتابه ارتفع به عنها ذلك الحرج، وبقي الحرج والضيق على من لم يؤمن به كما قال تعالى: {فَمَن يُرِدِ اِللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 126]. ومن آمن به من وجهٍ دون وجهٍ ارتفع عنه الحرج والضيق من الوجه الذي آمن به دون ذلك الوجه. فمن أقرَّ أنه منزلٌ من عند الله أنزله على رسوله ولم يُقرَّ بأنه كلامه الذي تكلَّم به بل جعله مخلوقًا من جملة مخلوقاته؛ كان في صدره من الضيق والحرج ما يناسب ذلك. ومن أقرَّ بأنه تكلم بشطره وهو المعاني دون شطره الآخر وهو حروفه كان (1) في صدره من الحرج منه ما يناسب ذلك. ومن [اعتقد] (2) أنه غير كافٍ في معرفة الحقِّ وأن العباد يحتاجون معه إلى معقولات وآراء ومقاييس وقواعد منطقية ومباحث عقلية ففي صدره منه أعظم حرج. وأعظم حرجًا منه من اعتقد أن فيه ما يناقض العقل الصريح ويشهد العقل بخلافه، وكذلك من زعم أن آياته لا يُستفاد منها علمٌ ولا يقينٌ ففي صدره منه من الحرج ما الله به عليم. ومن زعم أن الخطاب به خطابٌ جمهوريٌّ يُخيل للعامة ما ينتفعون به ممَّا ليس له حقيقة في نفس الأمر ففي صدره منه أعظم حرج. ومن زعم أن أجلَّ ما فيه وأشرفه وأفضله وهو قسم التوحيد المتضمن للأسماء والصفات مجازاتٌ واستعاراتٌ وتشبيهاتٌ لا حقائق ففي صدره منه أعظم حرجٍ، فكل هذه الطوائف في صدرهم منه حرجٌ وريبٌ، وليس في حقهم هدًى ولا شفاء _________ (1) «ح»: «لكان». (2) سقط من «ح».
(2/1093)
ولا رحمة، ولا هو كافٍ لهم بشهادتهم على أنفسهم، وشهادة الله وملائكته والشهداء من عباده عليهم، وبالله التوفيق. وقد أقسم سبحانه بنفسه المقدسة أنهم لا يؤمنون حتى يُحكِّموا رسوله في كل ما شجر بينهم، ولا يكفي ذلك في حصول الإيمان حتى يزول الحرج من نفوسهم بما حكم به، ولا يكفي ذلك أيضًا حتى يحصل منهم الرضا والتسليم؛ فقال تعالى: {* فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا ممَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 64] فأكَّد ذلك بضروبٍ من التأكيد: أحدها: تصدير [ق 130 ب] الجملة المقسم عليها بحرف النفي المتضمن لتأكيد النفي (1) المقسم عليه، وهو في ذلك كتصدير الجملة المثبتة بإنَّ. الثاني: القَسَم بنفسه سبحانه. الثالث: أنه أتى بالمُقْسَم عليه بصيغة الفعل الدالة على الحدوث، أي: لا يقع منهم إيمانٌ ما حتى يحكموك. الرابع: أنه [أتى] (2) في الغاية بـ «حتى» دون «إلَّا»، المُشْعرة بأنه لا يُوجد الإيمان إلَّا بعد حصول التحكيم؛ لأن ما بعد «حتى» يدخل فيما قبلها. الخامس: أنه أتى بالمحكم فيه بصيغة الموصول الدالة على العموم وهو قوله: {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} أي في جميع ما تنازعوا فيه من [الأمور] (3) الدقيقة والجليلة. _________ (1) لعل الصواب «نفي». (2) سقط من «ح». (3) زدته ليستقيم السياق.
(2/1094)
السادس: أنه ضم إلى ذلك انتفاء الحرج وهو الضيق من حكمه. السابع: أنه أتى به نكرةً في سياق النفي، أي: لا يجدون نوعًا من أنواع الحرج البتة. الثامن: أنه أتى بذكر ما قضى به بصيغة العموم، فإنها إمَّا مصدرية أي: من قضائك. أو موصولة أي: من الذي قضيته. وهذا يتناول كل فردٍ من أفراد قضائه. التاسع: أنه لم يكتف منهم بذلك حتى يضيفوا إليه التسليم، وهو قدر زائد على التحكيم وانتفاء الحرج، فما كل من حكَّم انتفى عنه الحرج، ولا كل من انتفى عنه الحرج يكون مسلمًا منقادًا، فإن التسليم يتضمن الرضا بحكمه والانقياد له. العاشر: أنه أكَّد فعل التسليم بالمصدر المؤكد. ونحن نناشد (1) هؤلاء الجهمية بالله الذي لا إله إلَّا هو، هل يجدون في أنفسهم هذا التسليم والانقياد والتحكيم للنصوص، وهل هم مع الرسول وما جاء به بهذه المنزلة؟ فوالله إن قلوبهم وألسنتهم وكتبهم لتشهد عليهم بضدِّ ذلك كما يشهد به عليهم المؤمنون والملائكة وأولو العلم والله سبحانه، وكفى بالله شهيدًا. الوجه الثامن والثلاثون بعد المائتين: أن جماع ما يرد به المبطلون لما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأمور العلمية الخبرية والأمور العملية الطلبية نوعان: _________ (1) «ح»: «نشاهد».
(2/1095)
أحدهما: منع دلالة ما جاء به على تلك المسألة. والثاني: معارضة الدلالة بما يمنع اتباعها. فردهم نوعان: منع ومعارضة. فوضعوا لهذين النوعين قانونين. فوضعوا لمنع الدلالة قانون التحريف والتأويل الفاسد، ووضعوا للمعارضة قانون تعارض العقل والسمع وتقديم العقل. فيتضمن هذان القانونان ألَّا يُستفاد من القرآن والسُّنَّة في باب الأسماء والصفات علمٌ ولا يقينٌ. وأمَّا الطلبيات فإمَّا أن يكون في المسألة إجماعٌ أو لا. فإن كان فيها إجماعٌ استُغني به عن النظر في الكتاب والسُّنَّة، وإن لم يكن (1) فيها إجماعٌ ففرضه التقليد لبعض الأئمة؛ لأن النصوص فيها الناسخ والمنسوخ، وفيها ما قد تُرك العمل به، وفيها الخاص والعام وغير ذلك، وقد كفانا (2) الأئمة مُؤْنة النظر والاستدلال وكلفة الاجتهاد، فيتعين المصير إلى أقوالهم. وليس لنا أن نستدرك عليهم ولا نخالفهم، فهم قد كفونا مُؤنة الفروع، وشيوخنا المتكلمون قد كفونا مُؤنة الأصول، فلا يفيدنا النظر في الكتاب والسُّنَّة إلَّا التعب والعناء، وغايتنا أن نصل إلى ما وصلوا إليه إن أصبنا، وإن خالفناهم كنا نحن المخطئين وهم المصيبون. فالأولى بنا أن نتلقى الأصول عن المتكلمين، والفروع عن مشايخنا الذين هذَّبوا لنا مذاهب الأئمة وضبطوا قواعدها وأصولها. فيقال: هذا إخبارٌ منكم بحالكم وما يليق بكم وما أنتم أهله، وأمَّا من _________ (1) «ح»: «يكون». (2) «ح»: «كفينا».
(2/1096)
رُفع له عَلَم الكتاب والسُّنَّة فشمَّر إليه وآنس من مشكاتهما نور الهداية فطلبه وحرص عليه، وكان كتاب الله وسُنة رسوله أجلَّ في صدره وأعظم في نفسه وأوقر في قلبه من أن يجعل لهما عيارًا يعيِّرهما به، وميزانًا يزنهما به، وندًّا يحاكم إليه ويخاصم به دونهما، فهذا كتاب الله بين أظهرنا كما أنزل محضًا لم يُشَبْ، وهذه سُنة رسوله هل يسوغ لنا الإعراض عنهما إلى ما ذكرتم؟ وهل يُوجد فيهما دليلٌ واحدٌ على هذه الطريق التي سلكتم؟ وهل تجدون فيهما الحوالة على غيرهما بوجهٍ من الوجوه؟ وهل تجدون فيهما ما يتضمن ذلك أو يدلُّ عليه أو يُشير إليه أو يسوِّغه؟ وكأنكم تتمسكون (1) بقوله: {اَتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: 2]. وبقوله: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية [النساء: 64]. وبقوله (2): {وَمَا اَخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اَللَّهِ} [الشورى: 8]. وبقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاَتَّبِعُوهُ وَاَتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام: 156]. وبقوله: {قُلْ يَاأَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اُللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا اِلَّذِي لَهُ مُلْكُ اُلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ اِلنَّبِيِّ اِلْأُمِّيِّ اِلَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاَتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]. _________ (1) كذا في «ح»: «وكأنكم تتمسكون» وهو يخالف ما بعده، فالسياق فيه سقط أو تحريف. (2) «ح»: «وبقول».
(2/1097)
وبقوله [ق 131 أ]: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ اَلدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اِللَّهُ} [الشورى: 19]. وبقوله (1): {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ اَلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَاَلْإِثْمَ وَاَلْبَغْيَ بِغَيْرِ اِلْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزِلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اَللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 31]. وبقوله: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]. وبقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اَللَّهُ وَإِلَى اَلرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [المائدة: 106]. وبقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اِللَّهُ اُلَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اِللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا اَلْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} [التوبة: 16] أي وليجة [أعظم] (2) ممَّن اتخذ رجلًا بعينه عيارًا على كلام الله ورسوله وكلام سائر علماء الأُمة، يزن القرآن والسُّنَّة وكلام سائر العلماء على قوله، فما خالفه ردَّه، وما وافقه قبله. وبقوله: {فَبَشِّرْ عِبَادِ (3) اِلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ اَلْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 16] والقول هاهنا ما قاله الله ورسوله، واتباع أحسنه هو الاقتداء به، فهذا أحسن من قول كل قائلٍ عداه. _________ (1) «ح»: «وبقول». (2) سقط من «ح»، وأثبته من «أعلام الموقعين». (3) «ح»: «عبادي». وهي قراءة سبعية، ينظر «الحجة للقراء السبعة» لأبي علي الفارسي (6/ 93).
(2/1098)
وبقوله: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اَللَّهَ فَاَتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اُللَّهُ} [آل عمران: 31]. وبقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاَتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا اُلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 154]. وبقوله: {فَمَنِ اِتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقى (121) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه: 121 - 122]. وذكره هو كتابه الذي أنزله، فمن أعرض عنه مكتفيًا بقول واحدٍ من بني آدم عنه؛ فقد أتى بحقيقة الإعراض. وبقوله: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاَعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اِتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اَللَّهِ} [القصص: 50]. فقسم الناس إلى مستجيبين للرسول ومتبعٍ هواه. فمن ترك استجابته إذا ظهرت له سُنته وعدل عنها إلى (1) خلافها فقد اتَّبع هواه. وهذا أكثر من أن يُذكر، والمقصود أن الواجب على الخلق بعد وفاته هو الواجب عليهم في حياته سواء، ففرضُ من سمع كلامه أن يأخذ به. ومن خفي عليه قوله سأل من (2) يعرفه، فإذا سمعه ففرضٌ عليه أن يأخذ به، فإن خفي عليه فغاية قول غيره أن يسوغ له الأخذ به، فيكون سائغ الاتباع بعد خفاء السُّنَّة، لا واجب الاتباع، ولا سيما مع ظهور السُّنَّة، وبالله التوفيق. الوجه التاسع والثلاثون بعد المائتين: أن كل واحدٍ من هذين الأمرين -أعني: المنع والمعارضة ـ ينقسم إلى درجات متعددة. فأمَّا المنع فهو على ثلاث درجاتٍ: _________ (1) «ح»: «لك». (2) «ح»: «ممن».
(2/1099)
أحدها: منع كون الرسول جاء بذلك أو قاله. الدرجة (1) الثانية: منع دلالته على ذلك المعنى، وهذه الدرجة بعد التنزل إلى الاعتراف بكونه قاله. الدرجة الثالثة: منع كون قوله حجةً في هذه المسائل. والدرجات الثلاث قد استعملها المعطلة النُّفاة: فأمَّا الأولى: فاستعملوها في الأحاديث المخالفة لأقوالهم وقواعدهم، ونسبوا رواتها إلى الكذب والغلط والخطأ في السمع، واعتقاد أن كثيرًا منها من كلام الكفار والمشركين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحكيه عنهم، فربما أدركه الواحد في أثناء كلامه بعد تصديره بالحكاية فيسمع المحكي فيعتقده (2) قائلًا له، لا حاكيًا، فيقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. كما قاله بعضهم (3) في حديث قتادة بن النعمان في الاستلقاء (4). قال: يحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - حدَّث به عن بعض _________ (1) «ح»: «بالدرجة». (2) «ح»: «فيعقده». (3) كأن المصنِّف عنى به البيهقي، فإنه في كتابه «الأسماء والصفات» (2/ 199 - 200) أعلَّ الحديث بكل ما ذُكر هنا، ونقله مختصرًا ابن الجوزي في «دفع شبه التشبيه» (ص 36 - 37). (4) أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» (568) وأبو بكر الخلال ـ ومن طريقه أبو يعلى في «إبطال التأويلات» (179) ـ والطبراني في «الكبير» (19/ 13) وأبو يعلى في «إبطال التأويلات» (182) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (2/ 198) من طريق محمد بن فليح بن سليمان، عن أبيه، عن سعيد بن الحارث، عن عبيد بن حنين، عن قتادة بن النعمان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله عز وجل لما قضى خلقه استلقى ... » الحديث، قال أبو محمد الحسن بن محمد الخلال: «هذا حديث إسناده كلهم ثقات، وهم مع ثقتهم شرط الصحيحين مسلم والبخاري». نقله أبو يعلى في «إبطال التأويلات» (1/ 189)، وصححه عبدالمغيث الحربي كما في «سير أعلام النبلاء» (21/ 160). واستنكره البيهقي في «الأسماء والصفات» (2/ 198) والذهبي في «السير» (21/ 160) وضعفه ابن كثير في «جامع المسانيد» (7/ 91). وقال ابن رجب في «فتح الباري» (3/ 407): «لا أصل لرفعه، وإنما هو متلقًى عن اليهود، ومن قال إنه على شرط الشيخين فقد أخطأ. قال: وعبيد بن حنين قيل إنه لم يسمع من قتادة بن النعمان، قاله البيهقي .. وفليح وإن خرج له البخاري فقد سبق كلام أئمة الحفاظ في تضعيفه، وكان يحيى بن سعيد يقشعر من أحاديثه، وقال أبو زرعة ـ فيما رواه عنه سعيد البرذعي ـ: فليح واهي الحديث، وابنه محمد واهي الحديث». وقد اختلف حكم المصنِّف على هذا الحديث، فقال في «اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص 127): «روى الخلَّال في كتاب «السنة» بإسنادٍ صحيحٍ على شرط البخاري عن قتادة بن النعمان - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لما فرغ الله من خلقه استوى على عرشه». فلم يذكر اللفظ المنكر منه، ولما ذكر الحديث تامًّا في «تهذيب سنن أبي داود» (7/ 209) قال: «هذا الحديث له علتان: إحداهما: انفراد فليح بن سليمان به، وقد قال عباس الدوري: سمعت يحيى بن معين يقول: فليح بن سليمان لا يُحتج بحديثه. وقال في رواية عثمان الدارمي: فليح بن سليمان ضعيف. وقال النسائي: ليس بالقوي. والعلة الثانية: أنه حديث منقطع؛ فإن قتادة بن النعمان مات في خلافة عمر وصلى عليه عمر، وعبيد بن حنين مات سنة خمسٍ ومائة وله خمس وسبعون سنة في قول الواقدي وابن بكير. فتكون روايته عن قتادة بن النعمان منقطعة. والله أعلم».
(2/1100)
أهل الكتاب على طريق الإنكار عليهم، فلم يفهم عنه قتادة بن النعمان إنكاره (1)، فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. _________ (1) من العجيب نسبتهم سوء الفهم إلى الصحابي الكريم - رضي الله عنه -، مع كون الإسناد إليه ضعيفًا، وهذا سيستنكره المصنِّف جدًّا، ولو نُسب ذلك للرواة الضعفاء لكان حسنًا. قال ابن رجب في «فتح الباري» (3/ 409): «فأمَّا هذه الطامة فلا تُحتمل أصلًا، وقد قيل: إن هذه ممَّا اشتبه على بعض الرواة فيه ما قاله بعض اليهود، فظنه مرفوعًا فرفعه». فجعل الغلط من الرواة ليس من الصحابي - رضي الله عنه -.
(2/1101)
وعضد هذا الاحتمال بما رواه من حديث ابن أبي أُويس، حدثني ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن عبد الله بن عروة بن الزبير، أن الزبير بن العوَّام سمع رجلًا يُحدِّث حديثًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستمع الزبير له حتى إذا قضى الرجل حديثه قال له الزبير: أنت سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال له الرجل: نعم. قال هذا وأشباهه (1) ممَّا يمنعنا أن نتحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قد لعمري سمعتَ هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا يومئذٍ حاضرٌ، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابتدأ هذا الحديث فحدَّثنا به عن رجلٍ من أهل الكتاب حدَّثه إيَّاه، فجئتَ أنتَ يومئذٍ بعد أن قضى صدر الحديث وذكر الرجل الذي من أهل الكتاب، فظننت أنه من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2). قالوا: فلهذا الاحتمال تركنا الاحتجاج بأخبار الآحاد في صفات الله عز وجل (3). فتأمَّل ما في هذا الوجه من الأمر العظيم أن يشتبه على أعلم الناس بالله _________ (1) «ح»: «وأشباهم». والمثبت من «الأسماء والصفات». (2) أخرجه البيهقي في «الأسماء والصفات» (764) وفي «المدخل» (702). وعزاه ابن رجب في «فتح الباري» (3/ 409) إلى مسلم في كتاب «التفصيل». ولم يُذكر في هذه المصادر اللفظ الذي نُسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال ابن الجوزي في «دفع شبه التشبيه» (ص 37): «وغالب الظن أن الإشارة في حديث الزبير إلى حديث قتادة». (3) قال البيهقي في «الأسماء والصفات» (2/ 201): «ولهذا الوجه من الاحتمال ترك أهل النظر من أصحابنا الاحتجاج بأخبار الآحاد في صفات الله تعالى، إذا لم يكن لما انفرد منها أصل في الكتاب أو الإجماع، واشتغلوا بتأويله».
(2/1102)
وصفاته وكلامه وكلام رسوله كلام الرسول الحق الذي قاله مدحًا وثناءً على الله بكلام الكفار المشركين الذي هو تنقصٌ وعيبٌ، فلا يُميِّز بين هذا وهذا ويقول: «قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» لما يكون من كلام ذلك المشرك الكافر. فأي نسبة جهلٍ واستجهالٍ لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ق 131 ب] فوق هذا أنه لا يميز أحدهم بين كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكلام الكفار والمشركين، ويميز بينهما أفراخ الجهمية والمعطلة؟ وكيف يستجيز من للصحابة في قلبه وقارٌ وحرمةٌ أن ينسب إليهم مثل ذلك؟! ويا لله العجب! هل بلغ بهم الجهل المفرط إلى ألَّا يُفرِّقوا بين الكلام الذي يقوله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاكيًا عن المشركين والكفار، والذي يقوله حاكيًا له عن جبريل عن رب العالمين، ولا بين الوصف بما هو مدح وثناء وتمجيد لله ووصفه بما هو ضد ذلك؟ فتأمَّل جناية هذه المعرفة على النصوص! ومن تأمَّل أحاديث الصِّفات وطُرقها وتعدد مخارجها ومن رواها من الصحابة علم بالضرورة بطلان هذا الاحتمال، وأنه من أبين الكذب والمحال. فوالله، لو قاله صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عند نفسه لكان أولى بقبوله واعتقاده من قول الجهمي المعطل النافي، فكيف إذا نسبه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! والمقصود أن هذه الدرجات الثلاث قد وضعت الجهمية أرجلهم فيها. فهذه درجة منع كون الرسول قاله. وأكدوا (1) أمر هذه الدرجة بأن أخبار الآحاد يتطرق إليها الكذب والخطأ والغلط، فلا يجوز أن يُحتج بها في باب معرفة الله وما يجب له ويمتنع عليه. وسيمر بك إن شاء الله تعالى ما يقلع هذه الدرجة من أصلها (2). _________ (1) «ح»: «وألحدوا». ولعل المثبت هو الصواب. (2) للأسف هذا في الجزء المفقود من الكتاب، وينظر «مختصر الصواعق» (4/ 1465 - 1645).
(2/1103)
الدرجة الثانية: منع الدلالة، وهذه الدرجة المسمَّاة بأن الأدلة اللفظية لا تُفيد اليقين، وقد تقدم فسادها من خمسة وسبعين وجهًا فيما مضى (1)، وبيَّنا أن هذا القول لا يجامع دين الإسلام، بل مناقضته للدين معلومةٌ بالضرورة بعد التأمل لحقيقته ولازمه. الدرجة الثالثة: تسليم دلالته على ذلك ولكن يمنع كون قول الرسول حجة في ذلك. وهذه الدرجة ينزلها طائفتان: إحداهما من يجوز على الرسول أن يخاطب الأمة بخلاف ما هو في نفس الأمر لمصلحتهم. الطائفة الثانية من يعتقد أن لكلامه باطنًا يخالف ظاهره، وتأويلًا يخالف حقيقته. فالطريقة الأولى للمتفلسفة ومن تتلمذ (2) لهم، والطريقة الثانية للجهمية ومن اقتفى آثارهم. وكثيرٌ من المتأخرين يجمع بين الطريقتين، فيتفلسف تارةً، ويتجهم تارةً، ويجمع بين الإدامين تارةً! فهذه درجات المنع. وأمَّا درجات المعارضة فثلاثة أيضًا: إحداها: أن يعارض المنقول بمثله ويسقط دلالتهما، أو يرجح دلالة المعارض كما عارض الجهمي قوله: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4] بقوله: {قُلْ هُوَ اَللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] وزعم أنه لو كان على العرش لم يكن أحدًا، وعارضه بقوله: {وَهْوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [الحديد: 4] وزعم أنه لو كان على عرشه لم يكن معنا، وعارضه بقوله: {اِلَّذِينَ يَحْمِلُونَ اَلْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} [غافر: 6]. وهذه معارضة _________ (1) في الرد على الطاغوت الأول (ص 342 - 470). وذكر فساده من ثلاثة وسبعين وجهًا. (2) «ح»: «يتلمذ».
(2/1104)
الزمخشري في «كشافه» (1) قال: «وفيها التنبيه على أن الأمر لو كان كما يقوله المجسمة كان حملة العرش ومن حوله مشاهدين معاينين، ولما وُصفوا بالإيمان؛ لأنه إنما يُوصف بالإيمان الغائب. ولمَّا وُصفوا به على سبيل الثناء عليهم عُلم أن إيمانهم وإيمان من في الأرض وكل من غاب عن ذلك المقام سواء في إيمان الجميع بطريق النظر والاستدلال لا غير، وأنه لا طريق إلى معرفته إلَّا هذا، وأنه منزَّهٌ عن صفات الأجرام». [فلو أنَّ] (2) المجسم بزعمك جسَّم حقيقةً لما رضي لنفسه ولمن يخاطبه بمثل هذا الكلام الذي هو من أقبح الكلام وأبطله، ولشحَّ على زمانه وأوراقه أن يضيعه بمثله، ولمنعه وقار القرآن وعظمته في صدره أن يفسِّره بمثل هذا الكلام الذي هو كما قيل: «مثل حجارة الكنيف ترجع وتنجس». فقد صرَّح قائله بأن إيمان محمد بن عبد الله وإبراهيم الخليل وموسى الكليم وجميع الأنبياء والمرسلين إنما هو عن نظر واستدلال، وهم بسعادتهم قد سدوا جميع طرق الإيمان والمعرفة إلَّا طريق الجواهر والأعراض والاجتماع والافتراق وإبطال حوادث لا أول لها، وزعموا أن من لم يعرف ربَّه من تلك الطريق مات ولم يعرف له ربًّا ولم يُقرَّ بأن له إلهًا وخالقًا. وزادوا في الافتراء والكذب والبهت، فزعموا أن إيمان جبريل وميكائيل والملائكة المقربين وجميع المرسلين مبنيٌّ على هذه الطريقة، وأن إيمانهم كلهم سواء، وأنهم لا طريق لهم إلى معرفته إلَّا هذا النظر والاستدلال الذي وضعه لهم شيوخ الجهمية ومبتدعة المتكلمين وضُلال أهل الاعتزال. فهاهنا يسجد _________ (1) (4/ 152). (2) «ح»: «فيكون». والمثبت لتستقيم العبارة.
(2/1105)
المجسم ـ بزعمكم ـ شكرًا لله؛ إذ عافاه الله من مثل هذا البلاء العظيم، وهذا القول أقل وأحقر من أن يتكلف للوجوه التي تدل على بطلانه بأكثر من حكايته (1). ومن هذا معارضة [ق 132 أ] غيره لنصوص الاستواء والعلو بقوله: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى» (2). قال قائل (3): هذا دليلٌ على أن الله ليس فوق العالم ولا مستويًا على العرش. قال: لأن يونس نزل إلى قرار البحر، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - رُفع إلى فوق السماوات، فكانا في القرب من الله على حدٍّ سواء لا يفضل أحدهما على الآخر في القرب منه سبحانه. فلو أن المجسم نزل إلى الأرض السابعة لم يرض لنفسه ولمعرفته ولفهمه عن نبيه بمثل هذا. ومن هذا معارضة نصوص الاستواء والعلو بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 9] فلبسوا على الجهال بإيهامهم أن من أثبت كونه سبحانه فوق سماواته على عرشه فقد جعل له مثلًا. ومن هذا معارضة بعضهم الأحاديث الصحيحة الصريحة التي تكلم فيها (4) النبي - صلى الله عليه وسلم - بأين الله؟ وسمع السؤال بأين الله؟ وأقرَّ السائل عليه ولم ينكره. كما كفره هؤلاء، فعارضوها كلها بحديثٍ مكذوبٍ موضوعٍ في إسناده _________ (1) من العجيب أن الفخر الرازي أُعجب بقول الزمخشري المردود عليه غاية الإعجاب، فقال في «مفاتيح الغيب» (27/ 488): «رحم الله صاحب «الكشاف» فلو لم يحصل في كتابه إلا هذه النكتة لكفاه فخرًا وشرفًا». (2) تقدم (ص 124) تخريجه. (3) لم أقف عليه. (4) بعده في «ح»: «إلى». وهو لفظ زائد.
(2/1106)
من لا يُدرى من أي الدوابِّ هو، كشيحة (1) الذي لا ذكر له في شيءٍ من كتب الحديث، ولعل بعض الوضاعين نسبه إلى واحد الشِّيح (2). والحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وقد سُئل أين الله؟ فقال: «لَا يُقَالُ أَيْنَ لِمَنْ أَيَّنَ الْأَيْنَ» (3). فعارض هذا الأحاديث الصحيحة المستفيضة التي نطق فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأين، وأقرَّ على إطلاقها بهذا الحديث [الركيك] (4) الذي يستحيي من التكلُّم به آحاد الناس، فضلًا عن سيِّد ولد آدم. وأقبح من هذا معارضة الأحاديث المتواترة ـ التي تزيد على مائتي _________ (1) «ح»: «كشيخه». بالخاء المعجمة. (2) «ح»: «الشيخ». بالخاء المعجمة. (3) قال ابن تيمية في «درء تعارض العقل والنقل» (5/ 225): «رواه ابن عساكر فيما أملاه في «نفي الجهة» عن شيحة ـ تصحف في المطبوع إلى: شيخه ـ بن عبد الله العوسجي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «الذي أيَّن الأين فلا يقال له أين». وعارض به حديث ابن إسحاق الذي رواه أبو داود وغيره، الذي قال فيه: «يستشفع بك على الله ويستشفع بالله عليك» وأكثر فيه في القدح في ابن إسحاق مع احتجاجه بحديث أجمع العلماء على أنه من أكذب الحديث، وغاية ما قال فيه: إنه غريب». وقال ابن تيمية في «بيان تلبيس الجهمية» (3/ 258): «وهذا الحديث ممَّا يعلم صبيان أهل الحديث أنه كذبٌ مختلقٌ، وأنه مفترًى، وأنه لم يروه قط عالمٌ من علماء المسلمين المقتدى بهم في الحديث، ولا دونوه في شيءٍ من دواوين الإسلام، ولا يستجيز أهل العلم والعدل منهم أن يورد مثل ذلك إلا على بيان أنه كذب». وقال الذهبي في «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 261): «شيحة العوسجي جاء في خبرٍ موضوعٍ في مجلس لابن عساكر الحافظ». وذكره الإسفراييني في «التبصير» (ص 161) عن عليٍّ موقوفًا. قال ابن تيمية في «الفتاوى الكبرى» (6/ 630): «وهذا من الكذب على علي باتفاق أهل العلم، لا إسناد له». (4) «ح»: «الوكيل». ولعل المثبت هو الصواب.
(2/1107)
طريق، وأصلها نحو الثلاثين ـ في رؤية الربِّ تعالى في الآخرة بقوله تعالى: {لَّا تُدْرِكُهُ اُلْأَبْصَارُ} [الأنعام: 104]. فيا للعقول! نحن إنما تلقينا هذه الأحاديث عمَّن أُنزلت عليه الآية، فهو الذي جاء بهذا وهذا، فكيف يستجيز مسلمٌ أن يُعارض كلامه بما فهمه من ظاهر القرآن فهمًا فاسدًا؟ ولو فهمه كما ينبغي لعلم أن القرآن موافق للسُّنة لا مناقض لها، كما تقدم تقريره. فصل الدرجة الثانية من المعارضة: معارضة النصِّ بالرأي، وهذه المعارضة في الأصل هي من فعل المشركين أعداء الرسل، وتلقاها ورثتهم من بعدهم كما تقدم بيانه (1). الدرجة الثالثة: المعارضة بالتقليد واتباع الآباء والمشايخ والمعظَّمين في النفوس، وإذا تأمَّلت الغالب على بني آدم وجدته من هذا النوع. واعلم أنه لا يستقر للعبد قدم (2) في الإسلام حتى يبرأ من هذه الممانعة والمعارضة، فحينئذٍ يدخل في دائرة الإسلام، ولا يمكن تحكيم الرسول وانتفاء الحرج ووقوع التسليم حتى تنتفي هذه الممانعة والمعارضة من كل وجهٍ، وبالله التوفيق. يوضحه: الوجه الأربعون بعد المائتين: وهو أنه مع التصديق الجازم يمتنع وقوع المعارضة والممانعة، وحيث وُجد ذلك فهو ملزومٌ لانتفاء التصديق، ووجود الملزوم بدون لازمه محالٌ. فهاهنا أمران: تصديقٌ جازمٌ يلزمه انتفاء _________ (1) تقدم (ص 551). (2) «ح»: «فدتم». والمثبت هو الصواب.
(2/1108)
المنع والمعارضة، ومنع ومعارضة يلزمه انتفاء التصديق الجازم، فيُستدل بوجود الملزوم منهما على وجود لازمه، وبانتفاء اللازم على انتفاء ملزومه. وهذا أمرٌ قطعيٌّ، لكنه موقوف على صحة اللزوم. فنقول: متى حصل الإقرار بأن المتكلم عالمٌ بما أخبر به، صادقٌ في خبره يستحيل عليه الجهل والكذب عمدًا أو خطأ؛ امتنع ـ والحالة هذه ـ أن يقوم بقلب من اعتقد ذلك منعٌ لخبره أو معارضةٌ له، ووجود المنع والمعارضة وهذا الإقرار والتصديق لا يجتمعان. وإذا ثبت اللزوم المذكور لزم من وجود الملزوم وجود لازمه، ومن انتفاء اللازم انتفاء ملزومه. والعجب أن هؤلاء مع (1) شدة تمسكهم بالعقليات واعتنائهم بها حين عارضوا بينها وبين الوحي يجمعون بين النقيضين، ويُثبتون الشيء وينفون لازمه، وينفون اللازم ويثبتون ملزومه، وذلك مخالفةٌ لصريح العقل؛ فإنهم يدَّعون الإيمان بما جاء به الرسول وينفون لازمه، وإذا نفوا اللازم انتفى الملزوم، ولكن من حكمة أحكم الحاكمين أن سلب (2) هؤلاء خاصة عقولهم، وحال بينهم وبينها، وكشف لأهل العقل والسمع أنهم من أبعد الناس عن العقل والسمع. وهذا كما ظهر لأتباع الرُّسل في الدنيا فإنه سيظهر لأولئك حين يقول المعارضون للرُّسل بعقولهم: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ اِلسَّعِيرِ} [الملك: 11]. الوجه الحادي والأربعون بعد المائتين: أن الله سبحانه أنزل على عبده ورسوله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ في أفضل الأيام وأفضل الشهور وأفضل _________ (1) «ح»: «من». ولعل المثبت هو الصواب. (2) «ح»: «يسلب».
(2/1109)
الأماكن ومعه أفضل الخلق {اِلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ اُلْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 4]. وقد ثبت في «صحيح البخاري» (1) وغيره من حديث طارق بن شهاب قال: جاء رجلٌ من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين، آية تقرؤونها في كتابكم لو علينا [ق 132 ب] معشر اليهود نزلت فعُلم اليوم الذي نزلت فيه لاتخذناه عيدًا. فقال عمر: أية آية هي؟ قال: {اِلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ اُلْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 4] فقال عمر: إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه. أُنزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشية الجمعة ونحن معه بعرفة. وفي «مسند علي» (2) للحافظ مُطيَّن: حدثنا يحيى الحِمَّاني، حدثنا قيسٌ، عن إسماعيل بن سلمان، عن أبي عمر البزار، عن ابن الحنفية، عن عليٍّ قال: «نزلت هذه الآية على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو واقف عشية عرفة {اِلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ _________ (1) أخرجه البخاري (45) ومسلم (3017). (2) لا يزال مفقودًا فيما نعلم، والحديث أخرجه الهروي في «ذم الكلام» (8) من طريق مطيَّن به. وأخرجه الطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (2501) من طريق يحيى الحماني به. وقال ابن ناصر الدِّين في «جامع الآثار» (6/ 85 - 86): «خرجه يعقوب بن شيبة في «مسنده» عن الحماني وقال: وهذا إسنادٌ ضعيفٌ. وقد رُوي هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوهٍ صحاحٍ عن عمر بن الخطاب وغيره، وإنما ذكرنا هذا الحديث على وهاه وضعفه، ليُعرف مخرجه وطريقه، كان يحيى بن معين يتكلم في إسماعيل بن سلمان هذا، قال: يقال له الأزرق، يروي عن أبي عمر البزار، غير معروف، وضعفه جدًّا. قال يعقوب: وقيس بن الربيع سيئ الحفظ، مختلط الحديث، وهو صدوق، قد حمل الناس عنه».
(2/1110)
لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ اُلْإِسْلَامَ دِينًا}». وقال عبدُ بن حُميدٍ (1): أخبرنا يزيد بن هارون، ثنا حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار قال: قرأ ابن عباس: {اِلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وعنده يهودي فقال: لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذنا يومها عيدًا. فقال ابن عباس: نزلت في يوم عيدين: يوم جمعة ويوم عرفة. قال (2): وحدثنا أبو نُعيم، عن إسرائيل، عن جابرٍ، عن عامرٍ قال: «نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - [وهو بعرفة، وكان إذا أعجبته آيات جعلهن صدر السورة] (3)». [الوجه الثاني والأربعون بعد المائتين (4): أن هذه المعارضة بين العقل والنقل هي أصل كل فسادٍ في العالم، وهي ضدُّ دعوة الرُّسل من كل وجهٍ، فإنهم دعوا إلى تقديم الوحي على الآراء والعقول، وصار خصومهم إلى ضدِّ ذلك، فأتباع الرُّسل قدَّموا الوحي على الرأي والمعقول، وأتباع إبليس أو _________ (1) «تفسير عبد بن حُميد» لا يزال مفقودًا، وعزاه إليه السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 18)، وقد أخرجه الترمذي (3044) عن عبد بن حميد به. وقال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب». وأخرجه الطبري في «التفسير» (8/ 87). (2) أخرجه الهروي في «ذم الكلام» (12) من طريق عبد بن حميد به. وأخرج ابن سعد في «الطبقات الكبير» (2/ 169) وسعيد بن منصور في «التفسير» (713) والطبري في «التفسير» (2/ 526، 8/ 88) عن داود بن أبي هند عن عامر الشعبي نحوه. (3) سقط من «ح»، وأثبته من «ذم الكلام». وقد وقع في «ح» هنا سقط كبير، وكتب على حاشيتها: «كذا في الأصل». وقد استدركت من «م» جزءًا كبيرًا منه سأنبه عليه عند انتهائه. (4) «م»: «الثاني والخمسون». لأنها مختصرة من الكتاب، وأثبت مقتضى ترتيب الكتاب.
(2/1111)
نائبٍ من نوابه قدَّموا العقل على النقل. قال محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في كتابه «الملل والنحل» (1): «اعلم أن أول شُبهةٍ وقعت في الخلق شُبهة إبليس، ومصدرها استبداده بالرأي في مقابلة النصِّ، واختياره الهوى في معارضة الأمر (2)، واستكباره بالمادة التي خُلق منها، وهي النار على مادة آدم، وهي الطين. وتشعبت عن هذه الشُّبهة سبع شبهاتٍ، حتى صارت مذاهب بدعةٍ وضلالةٍ. وتلك الشُّبهات مسطورةٌ في شرح الأناجيل الأربعة، ومذكورة في التوراة متفرقة على شكل مناظرةٍ (3) بينه وبين الملائكة بعد الأمر بالسجود والامتناع منه. قال كما نُقل عنه: إني سلَّمت أن الباري إلهي وإله الخلق عالمٌ قادرٌ ولا تسأل (4) عن قدرته ومشيئته، وأنه إذا أراد شيئًا قال له: كن، فيكون. وهو حكيمٌ، إلَّا أنه تتوجه على مساق حكمته أسولة سبعة: أولها: قد علم قبل خلقي أي شيءٍ يصدُر عنِّي ويحصل، فلم خلقني أولًا؟ وما الحكمة في خلقه إيَّاي؟ الثاني: إذ خلقني على مقتضى إرادته ومشيئته فَلِمَ كلفني بمعرفته (5) وطاعته؟ وما الحكمة في التكليف بعد ألَّا ينتفع بطاعة ولا يتضرر بمعصة؟ والثالث: إذ خلقني وكلَّفني فالتزمت تكليفه بالمعرفة والطاعة فعرفت _________ (1) (1/ 23 - 28) باختلاف يسير. (2) «م»: «الرأي». والمثبت من «الملل والنحل». (3) «الملل والنحل»: «مناظرات». (4) «الملل والنحل»: «يُسأل». (5) «م»: «لمعرفته». والمثبت من «الملل والنحل».
(2/1112)
وأطعت، فلم كلفني بطاعة آدم والسجود له؟ وما الحكمة في هذا التكليف على الخصوص بعد ألَّا يزيد ذلك في طاعتي ومعرفتي؟ والرابع: إذ خلقني وكلفني على الإطلاق وكلفني هذا التكليف على الخصوص، فإذْ لم أسجد فلم (1) لعنني وأخرجني من الجنة، ما الحكمة في ذلك بعد أن (2) لم أرتكب قبيحًا إلَّا قولي: لا أسجد إلَّا لك؟ والخامس: إذ خلقني وكلفني مطلقًا وخصوصًا ولم أطع فلعنني وطردني] (3) فَلِمَ طرَّقني إلى آدم حتى دخلت الجنة ثانيًا وغررته بوسوستي، فأكل من الشجرة المنهي عنها، وأخرجه من الجنة معي؟ وما الحكمة في ذلك بعد أن لو منعني من دخول الجنة استراح (4) مني آدم وبقي خالدًا في الجنة؟ والسادس: إذ خلقني (5) وكلفني عمومًا وخصوصًا ولعنني ثم طرَّقني إلى الجنة، وكانت الخصومة بيني وبين آدم؛ فلم سلَّطني على أولاده حتى أراهم من حيث لا يروني وتؤثر فيهم وسوستي، ولا يُؤثر فيَّ حولهم وقوتهم وقدرتهم واستطاعتهم؟ وما الحكمة في ذلك بعد أن لو خلقهم على الفطرة دون من يجتالهم عنها فيعيشوا طاهرين سامعين مطيعين كان أحرى وأليق بالحكمة؟ والسابع: سلَّمت هذا كله: خلقني، وكلفني مطلقًا ومقيدًا، وحيث لم _________ (1) كتبه على حاشية «م»، وعليه: «ظ». يريد أن الظاهر إثباته، وهو ثابت في «الملل والنحل». (2) «م»: «إذ». وعلى حاشية «م»: «ان». وعليه: «ظ». وكذا هو في «الملل والنحل». (3) آخر السقط الكبير من «ح»، وأثبته من «م». (4) «الملل والنحل»: «لاستراح». (5) «ح»: «أدخلني». والمثبت من «م» و «الملل والنحل».
(2/1113)
أطع لعنني وطردني، ومكَّنني من دخول الجنة وطرَّقني، وإذ عملت عملي أخرجني، ثم سلَّطني على بني آدم؛ فلِمَ إذ استمهلته أمهلني فقلت: {أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [ص: 78] فقال: {إِنَّكَ مِنَ اَلْمُنظَرِينَ (79) إِلَى يَوْمِ اِلْوَقْتِ اِلْمَعْلُومِ} [ص: 79 - 80]؟ وما الحكمة في ذلك بعد أن لو أهلكني في الحال (1) استراح الخلق مني، وما بقي شرٌّ في العالم؟ أليس بقاء العالم على نظام الخير خيرًا من امتزاجه بالشر؟! قال: فهذه حجتي على ما ادعيته في (2) كل مسألة. قال شارح الإنجيل: فأوحى الله إلى الملائكة: قولوا له: فإنك في مسألتك الأولى أني إلهك وإله الخلق غير صادقٍ ولا مخلصٍ، إذ لو صدَّقت أني ربُّ العالمين ما احتكمت عليَّ بلِمَ، فأنا الله الذي لا إله إلَّا أنا، لا أُسأل عمَّا أفعل والخلق مسؤولون. قال: هذا مذكورٌ في التوراة ومسطورٌ في الإنجيل على الوجه الذي ذكرته. وكنت برهةً من الزمان أتفكر وأقول: من المعلوم الذي لا مرية فيه أن كل شبهةٍ وقعت لبني آدم فإنما وقعت من إضلال الشيطان ووساوسه، ونشأت من شُبهاته. وإذا كانت الشُّبهات محصورةً في سبعٍ، عادت كبار البدع والضلال إلى سبعٍ، ولا يجوز أن تعدو (3) شبهات فرق أهل الزيغ والكفر هذه الشبهات وإن اختلفت العبارات وتباينت الطُّرق، فإنها بالنسبة إلى أنواع الضلالات كالبذر، يرجع جملتها (4) إلى إنكار الأمر بعد الاعتراف بالحقِّ، _________ (1) «ح»: «الحالة». والمثبت من «م» و «الملل والنحل». (2) «في» من «م» و «الملل والنحل». (3) في «ح»، «م»: «يعدوها». والمثبت من «الملل والنحل». (4) «ح»: «كالبدو يرجع حملها». وفي «الملل والنحل»: «كالبذور ويرجع جملتها». والمثبت من «م».
(2/1114)
وإلى الجنوح إلى الهوى والرأي في مقابلة النصِّ. والذين جادلوا نوحًا وهودًا وصالحًا وإبراهيم ولوطًا وشعيبًا وموسى وعيسى ومحمدًا ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ كلهم نسجوا على منوال اللعين الأول في إظهار شبهاته. وحاصلها يرجع إلى دفع التكليف عن أنفسهم وجحد أصحاب التكاليف والشرائع بأسرهم، إذ (1) لا فرق بين قولهم: {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} [التغابن: 6] وبين قوله: {آاسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء: 61]. وعن هذا صار مفصل الخلاف ومحزُّ (2) الإشكال والافتراق ما هو في قوله: {وَمَا مَنَعَ اَلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذ جَّاءَهُمُ اُلْهُدَى إِلَّا أَن قَالُوا أَبَعَثَ اَللَّهُ بَشَرًا رَّسُولًا} [الإسراء: 94] فبيَّن أن المانع من الإيمان هو هذا المعنى، كما قال للمتقدم الأول: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا (3) تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ} [الأعراف: 11]. وقال المتأخر من ذريته كما قال المتقدم: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا اَلَّذِي هُوَ مَهِينٌ (51) وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 51 - 52]. وكذلك لو تعقبنا أقوال (4) المتأخرين (5) منهم وجدناها مطابقة لأقوال المتقدمين (6) {كَذَلِكَ قَالَ اَلَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة: 117] {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِن قَبْلُ} [يونس: 74]. _________ (1) «ح»: «أن». والمثبت من «الملل والنحل». (2) «ح»: «مجرد». والمثبت من «الملل والنحل». (3) «ح»، «م»: «أن». (4) «ح»: «أحوال». والمثبت من «م» و «الملل والنحل». (5) «الملل والنحل»: «المتقدمين». (6) «ح» و «الملل والنحل»: «المتأخرين». والمثبت من «م».
(2/1115)
فاللعين الأول لمَّا حكَّم العقل على من لا يحتكم عليه العقل أجرى حكم الخالق في الخلق وحكم الخلق في الخالق، والأول غلوٌّ والثاني تقصيرٌ. فثار من الشُّبهة الأولى مذاهب الحلولية والتناسخية والمُشبِّهة والغلاة من الرافضة حيث غلوا في حقِّ شخصٍ من الأشخاص حتى وصفوه [ق 133 أ] بأوصاف الجلال. وثار من الشُّبهة الثانية مذاهب القدرية والجبرية والمُجسِّمة حيث قصروا من وصفه تعالى بصفات المخلوقين، والمعتزلة مشبِّهة الأفعال والمشبهة حلولية (1) الصِّفات، وكل منهما أعور. فإن من قال: يحسن منه ما يحسن منَّا، ويقبح منه ما يقبح منَّا؛ فقد شبَّه الخالق بالخلق. ومن قال: يُوصف الباري بما يُوصف به الخلق، أو يُوصف الخلق بما يُوصف به الخالق؛ فقد اعتزل عن الحقِّ. وسِنْخ (2) القدرية طلب العلة في كل شيءٍ، وذلك من سِنْخ اللعين الأول؛ إذ طلب العلة في الخلق أولًا، والحكمة في التكليف ثانيًا، والفائدة (3) في تكليف السجود لآدم ثالثًا». ثم ذكر الخوارج والمعتزلة والروافض، وقال: «رأيت بدء شبهاتهم كلها نشأت من شبهات اللعين الأول، وتلك في الأول مصدرها، وهذه في الآخرة مظهرها. وإليه أشار التنزيل بقوله: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطْوَاتِ اِلشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [البقرة: 167]. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «لَتَسْلُكُنَّ سُبُلَ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ حَذْوَ _________ (1) «ح»: «مشبهة». والمثبت من «الملل والنحل». (2) «ح»، «م»: «شيخ». هنا وفي الموضع التالي، وهو تصحيف، والمثبت من «الملل والنحل». والسِّنْخ: الأصل. (3) «ح»، «م»: «المعاندة». والمثبت من «الملل والنحل».
(2/1116)
الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ (1) وَالنَّعْلِ بِالنَّعْلِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ» (2). فهذه (3) القصة والمناظرة هي من نقل أهل الكتاب، ونحن لا نصدقها ولا نكذبها؛ وكأنها ـ والله أعلم ـ مناظرة وُضعت على لسان إبليس. وعلى كل حالٍ فلا بد من الجواب عنها، سواء صدرت منه أو قيلت على لسانه، فلا ريب أنها من كيده، وقد أخبر الله سبحانه {إِنَّ كَيْدَ اَلشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 75]. فهذه الأسولة والشُّبهات من أضعف الأسولة عند أهل العلم والإيمان، وإن صعب موقعها عند من أصَّل أصولًا فاسدةً كانت سدًّا بينه وبين ردِّها. وأمَّا من لم يُؤصِّل غير كتاب الله وسُنة رسوله فهذه الأسولة عنده من جنس أسولة تلامذته وأصحابه التي يوردونها على الرُّسل وما جاؤوا به. وهي أسولةٌ فاسدةٌ مبنيةٌ على أصولٍ فاسدةٍ، وقد افترقت طُرق الناس في الأجوبة عنها أشد افتراق، وسلكوا في إبطالها كل طريقٍ يخطر بالبال. ونحن نذكر طرقهم. فقال (4) المنجمون وزنادقة الطبيعيين والفلاسفة: لا حقيقة لآدم ولا لإبليس ولا لشيءٍ من ذلك، بل لم يزل الوجود هكذا ولا يزال نسلًا بعد نسلٍ وأُمةً بعد أُمةٍ، وإنما ذلك أمثال مضروبة لانفعالِ القوى النفسانية الصالحة لهذا البشر، وهذه القوى هي المسمَّاة في الشرائع بالملائكة، _________ (1) يُضرب مثلًا للشيئين يستويان ولا يتفاوتان. كما تقدم (ص 52). (2) أخرجه البخاري (3456) ومسلم (2669) عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - بنحوه. وبانتهاء هذا الحديث انتهى النقل عن الشهرستاني. (3) «ح»: «بهذه». والمثبت من «م». (4) «ح»: «فقالت». والمثبت من «م».
(2/1117)
واستعصاءِ القوى (1) الغضبية والشهوانية عليه وهي المسمَّاة بالشياطين، فعبَّر عن خضوع القوى الفاضلة بالسجود، وعبر عن إباء القوى الشريرة الفاسدة بالإباء والاستكبار وترك السجود. قالوا: والحكمة الإلهية اقتضت تركيب الإنسان على هذا الوجه وإسكان هذه القوى فيه، وانقياد بعضها له وإباء بعضها، فهذا شأن الإنسان، ولو كان على غير هذا التركيب لم يكن إنسانًا. قالوا: وبهذا تندفع الأسولة كلها، ويظهر بطلانها، وأنها بمنزلة أن يقال: لِمَ أحوج الإنسان إلى الأكل والشرب واللباس؟ ولمَّا أحوجه إليه فلِمَ جعله يبول ويتغوط ويتمخط؟ ولم جعله يمرض ويهرم ويموت؟ فإن هذه الأمور من لوازم النشأة الإنسانية التي لو قدر ارتفاعها لارتفعت هذه النشأة. فهذه الطائفة رفعت القواعد من أصلها، وأبطلت آدم وإبليس والملائكة، وردت الأمر إلى مجرد قوى نفسانية وأمور معنوية. وقالت الجبرية ومنكرو الحِكَم والتعليل: هذه الأسولة إنما ترد على من يفعل لعلةٍ أو لغرضٍ أو لغايةٍ. فأمَّا من لا علة لفعله ولا غاية ولا غرض بل يفعل ما يفعله بلا سببٍ ولا غايةٍ، وإنما مصدر مفعولاته (2) محض مشيئته، وغايتها مطابقتها لعلمه وإرادته، فيجيء فعله على وفق إرادته وعلمه. وعلى هذا فهذه الأسولة فاسدةٌ كلها؛ إذ مبناها على أصلٍ واحدٍ، وهو تعليل أفعال من لا تُعلل أفعاله ولا يُوصف بحُسنٍ ولا قُبحٍ عقليين، بل الحسن ما فعله، وما فعله فكله حسنٌ، لا يُسأل عمَّا يفعل وهم يسألون. _________ (1) «ح»: «واستقصا بالقوى». والمثبت من «م». (2) «ح»: «مفعولات». والمثبت من «م».
(2/1118)
قالوا: والقبح والظلم هو تصرف الإنسان في ملك غيره بغير إذنه، فأمَّا تصرف المالك الحقِّ في ملكه من غير أن يكون تحت حجر حاجرٍ أو أمر آمرٍ أو نهي ناهٍ فإنه لا يكون ظلمًا ولا قبيحًا. فرفع هؤلاء الأسولة من أصلها، وسدوا على أنفسهم طريق استماعها والجواب عنها. والتزموا لوازم هذا الأصل من إبطال الحِكَم والتعليل والأسباب والتحسين والتقبيح ووجوب شكر المنعم عقلًا، ومنعت لأجله أن يجب على الله شيءٌ أو يحرم عليه شيءٌ أو يقبح منه ممكنٌ، بل كل ممكنٍ فهو جائزٌ عليه لا يقبح منه. وقالت القدرية: هذا لا يرد على أصولنا، وإنما يرد على أصول الجبرية القائلين بأن الله خالق أفعال العباد [ق 133 ب] طاعاتهم ومعاصيهم وإيمانهم وكفرهم، وأنه قدَّر ذلك عليهم قبل أن يخلقهم وعلمه منهم وخلقهم له، فخلق أهل الكفر للكفر، وأهل الفسوق للفسوق، وقدَّر ذلك عليهم وشاءه منهم وخلقه فيهم. فهذه الأسولة واردة عليهم، وأمَّا نحن فعندنا أن الله سبحانه عرضهم للطاعة والإيمان وأقدرهم عليه ومكَّنهم منه ورضيه لهم وأحبه، ولكن هم اختاروا لأنفسهم الكفر والعصيان، وآثروه على الإيمان والطاعة. والله سبحانه لم يُكْرِههم على ذلك، ولم يُلْجِئهم إليه، ولا شاءه منهم، ولا كتبه عليهم ولا قدَّره ولا خلقهم له ولا خلقه فيهم، ولكنها أعمالٌ هم لها عاملون، وشرورٌ هم لها فاعلون، فإنما خلق إبليس لطاعته وعبادته، ولم يخلقه لمعصيته والكفر به. وصرَّح قدماء هذه الفرقة بأنه سبحانه لم يكن يعلم من إبليس حين خلقه أن يصدر منه ما صدر، ولو علم ذلك منه لم يخلقه، وأبى متأخروهم ذلك، وقالوا: بل كان سبحانه عالمًا به وبشأنه، وخلقه امتحانًا لعباده ليظهر المطيع
(2/1119)
له من العاصي، والمؤمن من الكافر، وليُثيب (1) عباده على معاداته ومحاربته ومعصيته أفضل الثواب. قالوا: وهذه الحكمة اقتضت بقاءه حتى تنقضي الدنيا وأهلها. قالوا: وأمره بالسجود ليطيع فيثيبه ويقربه ويكرمه، فاختار لنفسه المعصية والكفر من غير إكراه للربِّ تعالى، ولا ألجأه إلى ذلك ولا حال بينه وبين السجود ولا منعه، ولا سلَّطه على آدم وذريته قهرًا وإكراهًا لهم. وقد اعترف عدو الله بذلك حيث يقول: {وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ} [إبراهيم: 25] وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ} [سبأ: 21]. قالوا: فاندفعت تلك الأسولة وبطلت، وظهر أنها ترد على أصول الجبرية لا على أصولنا. وقالت الفرقة الناجية ـ حزب الرسول وأنصاره، وبُنْك (2) الإسلام وعصابة الإيمان، الذين لم يتحيزوا إلى فئةٍ غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يذهبوا إلى مقالةٍ غير ما دلَّت عليه سُنته، ولم ينتسبوا إلى غيره بوجهٍ من الوجوه ـ: كيف يطمع في الردِّ على عدو الله وإبطال قوله من قد شاركه في أصله أو في بعض شُعبه، فإن عدو الله أصَّل معارضة النص بالرأي، فترتب على تأصيله هذه الأسولة وأمثالها، فمن عارض العقل بالنقل في أمرٍ من الأمور فهو شريكه من هذا الوجه، فلا يتمكن من الردِّ التام عليه. ولهذا لمَّا شاركه زنادقة الفلاسفة والمنجمين والطبائعيين في هذا الأصل أنكروا وجوده ووجود آدم والملائكة، فضلًا عن قصة أمره بالسجود وإبائه وما ترتب عليها. _________ (1) «ح»: «ليثبت». والمثبت من «م». (2) البُنْك: الأصل، وهو مُعرَّب. «الصحاح» (4/ 1576).
(2/1120)
ولمَّا أنكرت الجبرية الحكمة والتعليل والأسباب وأبطلت هذا الأصل بعقولها وآرائها عجزوا عن جواب أسولته، وسدُّوا على نفوسهم باب استماعها والجواب عنها، وفتحوا باب مكابرة العقول الصريحة وإنكار تحسين العقل (1) وتقبيحه وإنكار الأسباب والقوى والطبائع والحِكَم والغايات المحمودة التي لأجلها يفعل الربُّ ما يفعله ويأمر بما يأمر (2) به، وجوَّزوا عليه أن يفعل كل شيءٍ، وأن يأمر بجميع ما نهى عنه، وينهى عن كل ما أمر به؛ ولا فرق عنده البتة بين المأمور والمحظور، والكل سواء في نفس الأمر، ولكن هذا صار حسنًا بأمره، لا أنه في نفسه وذاته حسنٌ، وهذا صار قبيحًا بنهيه، لا أنه في نفسه وذاته قبيحٌ. ولمَّا أصَّلت القدرية إنكار عموم قدرة الله سبحانه ومشيئته لجميع الكائنات، وأخرجت أفعال عباده خيرها وشرها عن قدرته ومشيئته وخلقه، وأثبتت لله سبحانه شريعة بعقولهم = حكمت عليه بها، واستحسنت منه ما استحسنته من أنفسها، واستقبحت منه ما استقبحته (3) من نفوسها، وعارضت بين الأدلة السمعية الدالة على خلاف ما أصَّلوه وبين العقل، ثم راموا الردَّ على عدو الله، فعجزوا (4) عن الردِّ التامِّ عليه، وأجادت (5) كل فرقة من هذه الفرق من الرد عليه بحسب ما وافقت فيه السمع والعقل. _________ (1) «ح»: «الفعل». والمثبت من «م». (2) «ح»: «وبأمرهما بأمر». ولعل المثبت هو الصواب. (3) «ح»: «استقبحه». والمثبت من «م». (4) «ح»: «فورا». والمثبت من «م». (5) «ح»: «أجابت». والمثبت هو الصواب.
(2/1121)
وإنما يتمكن من الردِّ عليه كل الردِّ من تلقى أصوله عن مشكاة الوحي ونور النبوة، ولم يؤصِّل أصلًا برأيه وعقله وآراء الرجال وعقولهم، ولم يخرج من مشكاة الوحي ولم يظهر من معدنه، بل تلقى أصوله كلها عن قول من لا ينطق عن الهوى إن هو إلَّا وحيٌ يُوحى. فأول ذلك أنه علم أن هذه الأسولة ليست من كلام الله الذي أنزله على موسى وعيسى مخبرًا بها عن عدوه، كما أخبر عنه في القرآن بكثيرٍ من أقواله وأفعاله. وإدخالُ بعض أهل الكتاب لها في تفسير التوراة والإنجيل هو كما تجد في المسلمين ـ وما بالعهد من قِدَم ـ من يدخل في تفسير [ق 134 أ] القرآن كثيرًا من الأحاديث والأخبار التي لا أصل لها، والقصص المعلوم كذبها، وإذا كان هذا في هذه الأُمة التي هي أكمل الأُمم علومًا ومعارف وعقولًا، فما الظن بأهل الكتاب؟! فصل الوجه الثاني: أن نقول لعدو الله: قد ناقضت في أسولتك ما اعترفت به وسلَّمته غاية المناقضة، وجعلت ما أسلفته من التسليم والاعتراف مبطلًا لجميع أسولتك، متضمنًا للجواب عنها قبل ذكرها. وذلك أنك قلت: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر: 39] وقلت: {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف: 11] وقلت: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (81) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ اُلْمُخْلِصِينَ} [ص: 81 - 82]. فاعترفت بأنه ربك وخالقك ومالكك، وأنك مخلوقٌ له مربوبٌ تحت أوامره ونواهيه، إنما شأنك أن تتصرف في نفسك تصرف العبد المأمور المنهي، المستعد لأوامر سيده ونواهيه، وهذه هي الغاية التي خُلقت لها،
(2/1122)
وهي غاية الخلق وكمال سعادتهم وصلاحهم. وهذا الاعتراف منك بربوبيته وقدرته وعزته يتضمن إقرارك بكمال علمه وحكمته وغناه، وأنه في كل ما أمر به عليمٌ حكيمٌ، لم يأمر عبده لحاجةٍ منه إلى أمره به، ولم ينهه بخلًا عليه بما نهاه عنه، بل أمره رحمةً منه به وإحسانًا إليه بما فيه صلاحه في معاشه ومعاده، وما لا صلاح له إلَّا به، ونهاه عمَّا في ارتكابه فساده في معاشه ومعاده. فكانت نعمته عليه بأمره ونهيه أعظم من نعمته عليه بمأكله ومشربه ولباسه وصحة بدنه بما لا نسبة بينهما، كما قال سبحانه في آخر قصتك مع الأبوين: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ اُلتَّقْوى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اِللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 25]. فأخبر سبحانه أن لباس التقوى وزينتها خيرٌ من المال والرِّياش (1) والجمال الظاهر، فالله سبحانه خلق عباده وجمَّل ظواهرهم بأحسن تقويم، وجمَّل بواطنهم بهدايتهم إلى الصراط المستقيم. ولهذا كانت صورتك قبل معصية ربك وإيثارك معاداته على طاعته وموالاته من أحسن الصور، وأنت مع الملائكة الأكرمين. فلمَّا وقع ما وقع جعل قُبح صورتك وبشاعة منظرك مثلًا يُضرب لكل قبيحٍ؛ كما قال تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ اُلشَّيَاطِينِ} [الصافات: 65]. فهذه أول نقدة تعجلتها من معصيته. ولا ريب أنك تعلم أنه أحكم الحاكمين، وأعلم العالمين، وأغنى الأغنياء، وأرحم الراحمين، وأنه لم يأمر العباد إلَّا بما فعلُه خيرٌ لهم وأصلح وأنفع وأحسن تأويلًا، وأعظم عائدةً من تركه، كما أنه لم يرزقهم إلَّا ما تناولُه أنفع لهم من تركه، فأمرُه لهم بما أمرهم به كرزقه لهم ما رزقهم إيَّاه. _________ (1) الريش والرياش بمعنًى، وهو اللباس الفاخر. «الصحاح» (3/ 1008).
(2/1123)
فالسُّعداء استعملوا أمره وشرعه لحفظ صحة قلوبهم وكمالها وصلاحها، بمنزلة استعمالهم رزقه لحفظ صحة أجسامهم وصلاحها، وتيقنوا أنه كما لا بقاء للبدن ولا صحة ولا صلاح إلَّا بتناول غذائه الذي جُعل له، فكذلك لا صلاح للقلب والروح ولا فلاح ولا نعيم إلَّا بتناول غذائه الذي جُعل له. هذا، وإن ألقيت إلى طائفة من الناس أنه لا مصلحة للمكلفين فيما أُمروا به ونُهوا عنه، ولا منفعة لهم فيه ولا خير، ولا فرق في نفس الأمر بين فعل هذا وترك هذا، ولكن أُمروا ونُهوا لمجرد الامتحان والاختبار؛ ولا فرق في نفس الأمر بين ما أُمروا به ونُهوا عنه فلم يُؤمروا بحسنٍ ولم يُنهوا عن قبيحٍ، بل ليس في نفس الأمر لا حسن ولا قبيح. ومن عجيب أمرك وأمرهم أنك أوحيت إليهم هذا فردوا به عليك وجعلوه عصمتهم في جواب أسولتك، فدفعوها كلها، وقالوا: إنما تتوجه هذه الأسولة في حق من يفعل لغرضٍ (1) أو لعلةٍ. وأمَّا من فعله بريئًا من العلل والأغراض فلا يتوجه عليه سؤال واحد من هذه الأسولة. فإن كانت هذه القاعدة حقًّا فقد اندفعت أسولتك كلها، وإن كانت باطلًا والحقُّ في خلافها فقد بطلت أسولتك أيضًا لما تقدم. فقد بطلت أسولتك على التقديرين. يوضحه: الوجه الثالث: أن نقول لعدو الله: إمَّا أن تُسلِّم حكمة الله في خلقه وأمره وإمَّا أن تجحدها وتنكرها. فإن سلمتها وأنه سبحانه حكيمٌ في خلقك حكيمٌ في أمرك بالسجود بطلت الأسولة، وكنت معترفًا بأنك أوردتها على من تبهر (2) حكمته العقول، ولم تجعل أحدًا من خلقه شريكًا له في ما فعل _________ (1) «ح»: «العلة». والمثبت من «م». (2) «ح»: «يميز». والمثبت من «م».
(2/1124)
بحكمته (1)، فإنه لا يشرك في حكمه أحدًا كما لم يشركهم في علمه وقدرته وملكه وربوبيته. وحينئذٍ فتسليمك هذه الحكمة ـ التي لا سبيل للمخلوقين إلى مشاركة (2) الخالق فيها البتة ـ قد عادت على (3) أسولتك الفاسدة [ق 134 ب] بالنقض والإبطال. وإن رجعت عن الإقرار له سبحانه بالحكمة وقلت: إنه لا يفعل لحكمة البتة، بل لا يُسأل عمَّا يفعل وهم يسألون؛ فما وجه إيراد هذه الأسولة على من لم يفعل بحكمةٍ ولا يُسأل عمَّا يفعل؟ فقد أوردت الأسولة على من لا يُسأل عمَّا يفعل، وطعنت في حكمة مَنْ كلُّ أفعاله حكمةٌ ومصلحةٌ وعدلٌ وخيرٌ بمعقولك الفاسد وعقلك الصغير الذي آثرت به داعي الكبر والكفر على داعي العبودية والإيمان. يوضحه: الوجه الرابع: وهو أنك قد كشفت للخلائق عن محصول علمك ومعرفتك، وقدر عقلك الذي صرت به ضُحْكةً لهم، وسخرية على ألسنتهم، فإنك انتصرت لنفسك ورياستك، ودلك عقلك على أن عزَّك في معصيتك، ورياستك في إبائك من السجود، وكان هذا أعظم أسباب ذُلِّك وخيبتك، ويأسك من روح الله، وبُعدك من رحمته، وطردك من جنته، ومباءتك بلعنته، فأضعت عزَّك، وأخملت شرفك، ووضعت قدرك من حيث زعمت أنك تحفظه، فكنت كآكل السم الذي فيه تلافه ليحفظ به قوته وصحته، ثم رضيت _________ (1) «ح»: «جعل حكمته». ولعل المثبت هو الصواب. (2) «ح»: «لما يشاركه». والمثبت هو الصواب، بدليل أنه في «م»: «إلى المشاركة» دون لفظ «الخالق». (3) «ح»: «عليه». والمثبت من «م».
(2/1125)
لنفسك أن صرت خادمًا وقوادًا لكل فاسقٍ وفاجرٍ وخبيثٍ. فمَن هذا قدر عقله ونهاية معرفته وعلمه، ألا يستحيي من إيراد هذه الأسولة اللائقة به على من ملأت حكمته الوجود وبهرت العقول حتى صارت للبصائر أظهر من نور الشمس للأبصار؟ يوضحه: الوجه الخامس: أن غاية معقولك وحاصل عقلك هو القياس الذي عارضت به النصَّ وقدَّمته عليه، وقد بان فساده للعقلاء من أكثر من ثلاثين وجهًا قد تقدم ذكرها (1)، فلا حاجة إلى إعادتها. فإذا كان هذا شأن أقوى أسولتك التي أوردتها على ربِّك، وسائر أسولتك مبنية عليه ومردودة إليه، فما الظن بفروعٍ هذا أصلها؟ فمن نادى على مقدار عقله ومحصول معرفته على رؤوس الملأ من الملائكة بقوله: {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف: 11] واستجاز معارضة الأمر المتضمن لغاية الحكمة والمصلحة بهذا الرأي الفاسد والسفه البارد، كيف يتوجه له سؤال على الحكيم العليم؟ الوجه السادس: أن هذه الأسولة يرجع حاصلها كلها إلى القدح والطعن في علم الربِّ سبحانه أو حكمته أو قدرته أو اثنين منها أو كلها؛ إذ حاصلها أنه سبحانه إمَّا أن يكون عالمًا بما يحصل مني وما يكون من أمري أو لا يكون عالمًا، فإن لم يكن عالمًا لزم القدح في علمه. وإن كان عالمًا فإمَّا أن يكون قادرًا على منعي (2) من هذا الفساد والضرر الواقع ببني آدم مني أو لا يكون قادرًا. فإن لم يكن قادرًا لزم القدح في قدرته. وإن كان قادرًا ولم _________ (1) تقدم (ص 636 - 641). (2) «ح»: «منع».
(2/1126)
يمنعني بل مكنني (1) وأبقاني وسلَّطني لزم القدح في حكمته. فهذا غاية ما عند تلامذة عدو الله وأصحابه، وهو الذي أوحاه إليهم، وألقاه على ألسنتهم، وجعله دائرًا بينهم. وحينئذ فيقال له: هذا إنكارٌ منك لما عُلم بالضرورة التي هي فوق كل ضرورة، من وجود ربِّ العالمين وإله من في السماء والأرض الذي هو بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وهو أحكم الحاكمين، فإنكارُ علمه وحكمته وقدرته جحدٌ وإنكارٌ (2) له ونفيٌ أن يكون لك (3) أو للعالمين ربٌّ عليمٌ مدبِّرٌ حكيمٌ، فإن الجاهل العاجز السفيه لا يكون ربًّا ولا إلهًا، فلا تتم لك هذه الأسولة إلَّا بقول أخيك وشقيقك فرعون: {وَمَا رَبُّ اُلْعَالَمِينَ} [الشعراء: 22] وقوله: {يَاأَيُّهَا اَلْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38] فإن عدو الله علم أنه إن أقرَّ بوجود فاطر السماوات والأرض وبصفاته وعلوه فوق العالم وتكليمه لموسى أوجب عليه هذا الإقرارُ الانقيادَ والعبوديةَ والإيمانَ بموسى، فلم يجد بُدًّا من إنكار الربِّ وعدم الإقرار به. وهكذا هذه الأسولة لا تتوجه (4) إلَّا مع إنكاره سبحانه وجحوده، وإلا فمع الإقرار بأنه بكل شيءٍ عليمٌ وعلى كل شيءٍ قديرٌ وأنه أحكم الحاكمين فلا تتوجه البتة، وهذا حقيقة الربِّ. وحينئذٍ فنقول في: الوجه السابع: أن مثل هذا النمط من الاعتراضات والأسولة فاسدٌ عند _________ (1) «ح»: «ملتني». ولعل المثبت هو الصواب. (2) «ح»: «جحدوا إنكارا». (3) «ح»: «ذلك». (4) «ح»: «تتواجا».
(2/1127)
جميع أهل الأرض، فإنه يتضمن اعتراض الجاهل على أحذق الناس بصناعة قد أحكم آلاتها وأسبابها وقدَّرها على أكمل الوجوه وأحسنها، وأوفقها لما يقصد منها، فجاء رجلٌ جاهلٌ لا مناسبة بينه وبين ذلك الحاذق بوجهٍ ما، فأخذ يعترض عليه في أجزاء تلك الصناعة وآلاتها وأشكالها ومقاديرها، ويقول: [ق 135 أ] هلَّا كان هذا أكبر ممَّا هو أو (1) أصغر أو على شكل آخر، أو كان كذا في موضع كذا، أو عمل هذا في وقت كذا، ونحو هذا ممَّا يسخر منه العقلاء، ويعدون صاحبه في زمرة السفهاء! مع أنه يمكن المعترض مشاركة ذلك الأستاذ الحاذق في صناعته ومساواته فيها وتقدمه عليه فيها، فإذا كان اعتراضه عليه مدفوعًا عند كل عاقلٍ فما الظن بالاعتراض على من لا شريك له في حكمته ولا شبيه له فيها، والتفاوت الذي بينه وبين المعترض في حكمته كالتفاوت الذي بينه وبينه في العلم والقدرة والغنى وسائر الصِّفات؟! أفلا يستحي من يرى الاعتراض على مخلوقٍ مثله قد فاقه في صناعةٍ وعلمٍ قبيحًا لا يجد عليه إلَّا تعريضه نفسه للذمِّ ومبادلته عليها بالجهل من إيراد مثل هذه الأسولة على الحكيم العليم؟! الوجه الثامن: أن يقال لعدو الله: إيرادك هذه الأسولة إمَّا أن تكون على وجه الظنِّ في الربِّ تعالى، وأنه فعل ما لا ينبغي له فعله، أو على وجه الاسترشاد وطلب الهداية. فإن كان على وجه الطعن والقدح، فكيف تجامع اعترافك بربوبيته وملكه وخلقه، وإقرارك بعزته وحكمته، ثم تقدح فيه، وإن كان على وجه الاسترشاد وطلب الحكمة، فذلك فرعٌ عن (2) التسليم لأمره _________ (1) «ح»: «و». (2) «ح»: «على».
(2/1128)
والإذعان لعبوديته والانقياد لحكمته، فلا يجتمع مع تصريحك بالعداوة والكفر والاستكبار عن طاعته؛ فإن معصيتك له وقد أمرك منه إليك بلا واسطة أعظم من استكبار من استكبر عن طاعته التي أمر بها على ألسنة رسله. فإذا آثرت الكفر والاستكبار والعداوة، فكيف سألت (1) مسائل المسترشد المهتدي؟! فالسؤال نوعان: إمَّا سؤال جاهلٍ بالحكمة في طلب معرفتها، وإمَّا سؤال قادحٍ في الحكمة بما يبطلها وينقضها. وحينئذٍ فنقول في: الوجه التاسع: لا تتوجه هذه الأسولة على واحدة من (2) الطريقتين. أمَّا على الطريقة الأولى فلأن الاستعداد والقبول لمعرفة تفاصيل الحكمة يكون شرطًا في قبول الأسولة والجواب عنها، والقوى البشرية ليست مستعدةً للعلم بتفاصيل حكمة الله في خلقه وأمره. وحينئذٍ فيكون بيان تفاصيل الحِكَم عبثًا ضائعًا وهو منافٍ للحكمة، وأمَّا على الطريقة الثانية، فلأن أسولته تتضمن قدح العبد في الربِّ، والمخلوق في الخالق، والجاهل في العالم، والسفيه في الحكيم؛ [فهي] (3) من أبطل الأسولة، ولا يحتاج في بيان بطلانها إلى أكثر من ذلك. يوضحه: الوجه العاشر: أن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله على التسليم وعدم الأسولة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع، ولهذا لم يحك الله سبحانه عن أُمة نبيٍّ صدَّقت نبيها وآمنت بما جاء به أنها سألته عن _________ (1) «ح»: «سأل». (2) «ح»: «بين». (3) «فهي» ليس في «ح».
(2/1129)
تفاصيل الحكمة فيما أمرها به ونهاها عنه وبلَّغها عن ربها، ولو فعلت (1) ذلك لما كانت مؤمنةً بنبيها؛ بل انقادت وسلَّمت وأذعنت، وما عرفت من الحكمة عرفته، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها وإيمانها واستسلامها على معرفته، ولا جعلت (2) طلبه من شأنها. وكان رسولها أعظم في صدورها من سؤالها عن ذلك، كما في الإنجيل: «يا بني إسرائيل لا تقولوا: لِمَ أمر ربنا، ولكن قولوا بِمَ أمر ربنا». ولهذا كانت هذه الأُمة ـ التي هي أكمل الأمم عقولًا ومعارف وعلومًا ـ لا تسأل نبيها: لِمَ أمر الله بذلك؟ ولِمَ نهى عن كذا؟ ولِمَ قدَّر كذا؟ ولِمَ فعل كذا؛ لعلمهم أن ذلك مضادٌّ للإيمان والاستسلام، وأن قدم الإسلام لا تثبت إلَّا على درجة التسليم. وذلك يوجب تعظيم الربِّ تعالى وأمره ونهيه، فلا يتم الإيمان إلَّا بتعظيمه، ولا يتم تعظيمه إلَّا بتعظيم أمره ونهيه؛ فعلى قدر تعظيم العبد لله سبحانه يكون تعظيمه لأمره ونهيه. وتعظيم الأمر دليلٌ على تعظيم الآمر، وأول مراتب تعظيم الأمر: التصديق به، ثم العزم الجازم على امتثاله، ثم المسارعة إليه والمبادرة به القواطع والموانع (3)، ثم بذل الجهد والنصح في الإتيان به على أكمل الوجوه، ثم فعله لكونه مأمورًا به، بحيث [لا] (4) يتوقف الإنسان على معرفة حكمته فإن ظهرت له فعله _________ (1) «ح»: «بلغت». (2) «ح»: «فعلت». (3) أخرج مسلم (118) عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم ... ». (4) سقط من «ح»، وأثبته ليستقيم السياق.
(2/1130)
وإلَّا عطله، فهذا من عدم عظمته في صدره. بل يُسلِّم (1) لأمر الله وحكمته ممتثلًا ما أمر به سواء ظهرت له حكمته أو لم تظهر. فإن ورد الشرع بذكر حكمة الأمر أو فقهها العقل كانت زيادةً في البصيرة والرغبة (2) في الامتثال، وإن لم تظهر له حكمته لم يُوهن ذلك انقياده، ولم يقدح في امتثاله. فالمُعظِّم لأمر الله يُجري [ق 135 ب] الأوامر والنواهي على [ما] (3) جاءت، لا يُعللها بعللٍ توهنها وتخدش في وجه حسنها، فضلًا عن أن يُعارضها بعللٍ تقتضي خلافها، فهذا حال ورثة إبليس، والتسليم والانقياد والقبول حال ورثة الأنبياء. الوجه الحادي عشر: أن المعترضين على الربِّ سبحانه قسمان: قسمٌ اعترضوا عليه في أمره ونهيه، وقسمٌ اعترضوا عليه في قضائه وقدره. وربما اجتمع النوعان في حقِّ المعترض، وقد ينفرد أحدهما. وإبليس ممَّن جمع النوعين، فاعترض أولًا عليه في أمره له بالسجود لآدم، وزعم أنه مخالفٌ للحكمة، وأن الحكمة إنما تقتضي خضوع المفضول للفاضل لا ضد ذلك، وزعم أنه أفضل وخير من آدم، ثم اعترض بعد ذلك على القضاء والقدر بهذه الأسولة، فجمع بين الاعتراض على أمره وقدره. وبثَّ هذين النوعين في أصحابه وتلامذته، وأخرجها لهم في كل قالبٍ وصورة يقبلونهما فيها، وآخر ذلك أوحى إليهم أن يعترضوا على خبره (4) عن نفسه وخبر رسله عنه بالعقل. _________ (1) «ح»: «مسلم». والمثبت هو الصواب. (2) «ح»: «الدعية». ولعل المثبت هو الصواب. (3) سقط من «ح». (4) «ح»: «جزو». ولعل المثبت هو الصواب.
(2/1131)
فعارض عدو الله أمره بأنه خلاف الحكمة، وقدره بأنه خلاف العدل، وخبره بأنه خلاف العقل. وسرت هذه المعارضات الثلاث في أتباعه، فهم خلفاؤه ونوابه، وهم (1) على قدر أنصبائهم (2) منها. ومعلومٌ أن هذه الأنواع الثلاثة مضادة له ومجاهرة بالعداوة، ومن التلبيس إخراج المعترض لها في صورة العلم والحب والمعرفة بألفاظ مزخرفة تغرُّ السامع، وتصغى إليها أفئدة أشباه الأنعام، وتنفعل عنها قلوبهم بالرضا بها، وألسنتهم بالتكلم بها، وجوارحهم بالعمل بمقتضاها. الوجه الثاني عشر: أن أعداءه المشركين اعترضوا على أمره وشرعه بقضائه وقدره، فجعلهم سبحانه بذلك كاذبين جاهلين مشركين. وهذه الأسولة الإبليسية تتضمن الاعتراض على قضائه وقدره بحكمته، وأن الحكمة تعارض ما قضاه وقدره، كما أن اعتراض المشركين يتضمن أن القضاء والقدر يعارض ما شرعه وأمر به. وهذه المعارضات كلها من مشكاةٍ واحدةٍ، فإذا كان الاعتراض على دينه وشرعه بقضائه وقدره باطلًا، فكذلك الاعتراض على قضائه وقدره بحكمته. يوضحه: الوجه الثالث عشر: أن الأمر والقدر تفصيل للحكمة ومظهرها، فإنها خفية فلا بد لظهورها من شرع يأمر به وقدر يقضيه ويكونه (3)، فتظهر حكمته سبحانه في هذا وهذا، فكيف يكون تفصيل الشيء وما يظهره مناقضًا له منافيًا؟ بل يمتنع أن يكون إلَّا مصدقًا موافقًا، فإن التفصيل متى ناقض _________ (1) «ح»: «فهما». ولعل المثبت هو الصواب. (2) «ح»: «أنصابهم». والأنصباء جمع نصيب، وهو الحظ. (3) «ح»: «وتكوينه».
(2/1132)
الأصل وضاده كان دليلًا على بطلانه. يوضحه: الوجه الرابع عشر: وهو أن الربَّ سبحانه له الأسماء الحسنى، وأسماؤه متضمنة لصفات كماله، وأفعاله ناشئة عن صفاته؛ فإنه سبحانه لم يستفد كمالًا بأفعاله، بل له الكمال التام المطلق، وفعاله عن كماله، والمخلوق كماله عن فعاله؛ فإنه فعل فكمُل بفعله. وأسماؤه الحسنى تقتضي آثارها وتستلزمها استلزام المقتضي الموجِب لموجَبه ومقتضاه، فلا بد من ظهور آثارها في الوجود؛ فإن من أسمائه الخلَّاق المقتضي لوجود الخلق، ومن أسمائه الرزَّاق المقتضي لوجود الرِّزق والمرزوق، وكذلك الغفَّار والتوَّاب والحكيم والعفوُّ، وكذلك الرحمن الرحيم، وكذلك الحَكَم العدل إلى سائر الأسماء. ومنها الحكيم المستلزم لظهور حكمته في الوجود، والوجود متضمن لخلقه وأمره {أَلَا لَهُ اُلْخَلْقُ وَاَلْأَمْرُ تَبَارَكَ اَللَّهُ رَبُّ اُلْعَالَمِينَ} [الأعراف: 53]. فخلقه وأمره صدرا عن حكمته وعلمه، وحكمته وعلمه اقتضيا ظهور خلقه وأمره. فمصدر الخلق والأمر عن هذين الاسمين المتضمنين لهاتين الصفتين. ولهذا يقرن (1) سبحانه بينهما [عند] (2) ذكر إنزال كتابه، وعند ذكر ملكه وربوبيته؛ إذ هما مصدر الخلق والأمر. ولمَّا كان سبحانه كاملًا في جميع أوصافه، ومن أجلِّها حكمته (3) كانت عامة التعلق بكل مقدورٍ، كما أن علمه عام التعلق بكل معلومٍ، ومشيئته عامة التعلق بكل موجودٍ، وسمعه وبصره عام _________ (1) «ح»: «يفرق». (2) سقط من «ح». (3) «ح»: «كلمته». ولعل المثبت هو الصواب.
(2/1133)
التعلق بكل مسموعٍ ومرئيٍّ. فهذا من لوازم صفاته، فلا بد أن تكون حكمته عامة التعلق بكل ما خلقه وقدره وأمر به ونهى عنه. وهذا أمرٌ ذاتي للصفة يمتنع تخلفه وانفكاكه عنها. كما يمتنع تخلف الصفة نفسها وانفكاكها عنه. وهذا وحده برهانٌ كافٍ شافٍ في إبطال تلك الأسولة كلها، وأنها تكفي في إبطالها إثباتُ عموم [ق 136 أ] تعلق صفاته، وذلك يستلزم إثبات الصِّفات، وهي تستلزم إثبات الذات. فإثبات ذات الربِّ تعالى كافٍ في بطلان الأسولة الإبليسية. نعم، الجهمي المعطل وأصحابه يعجزون عن الجواب عنها على هذه الطريق، وإن أجابوا عنها على غيرها لم يشفوا عليلًا ولم يرووا غليلًا؛ إذ هي أجوبةٌ مبنيةٌ على أصولٍ باطلةٍ، والمبنية على الباطل لا تكون صحيحة من كل وجهٍ. وقد قدَّمنا مجامع طُرق الناس في الأجوبة، وبان أن الأصول الفاسدة خذلتهم عن الجواب الصحيح الشافي. الوجه الخامس عشر: أن الله سبحانه فطر عباده حتى الحيوان البهيم على استحسان وضع الشيء في موضعه، والإتيان به في وقته، وحصوله على الوجه المطلوب منه، وعلى استقباح ضدِّ ذلك وخلافه، وأن الأول دالٌّ على كمال فاعله وعلمه وقدرته وخبرته، وضدُّه دالٌّ على نقصه وعلى نقص علمه وقدرته وخبرته. وهذه فطرة لا يمكنهم الخروج عن موجبها، ومعلوم أن الذي فطرهم على ذلك وجعله فيهم أولى به منهم. فهو سبحانه يضع الأشياء في مواضعها التي لا يليق بها سواها، ويخصها من الصِّفات والأشكال والهيئات والمقادير بما هو أنسب (1) بها من غيره، ويبرزها في أوقاتها وأزمنتها المناسبة لها التي لا يليق بها سواها. _________ (1) «ح»: «فسر». والمثبت من «م».
(2/1134)
ومن له نظرٌ صحيحٌ وفكرٌ مستقيمٌ وأعطى التأمُّل حقَّه شهد بذلك فيما رآه وعلمه، واستدل بما شاهده على ما خفي عنه؛ فإن الكل صُنْع الحكيم العليم. ويكفي في هذا ما يعلمه من حكمة خلق الحيوان وأعضائه وصفاته وهيئاته ومنافعه واشتماله (1) على الحكمة المطلوبة منه أتم اشتمال. وقد ندب سبحانه عباده إلى ذلك، فقال: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] وقال: {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى اَلْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17] إلى آخرها. وكذلك جميع ما يشاهد من مخلوقاته عاليها وسافلها وما بين ذلك إذا تأمَّلها صحيحُ التأمل والنظر وجدها مؤسسة على غاية الحكمة مغشاة بالحكمة، فيقرأ (2) سطور الحكمة على صفحاتها، وينادي عليها: هذا صنع العليم الحكيم، وتقدير العزيز العليم (3). فإن وجدت العقول أوفق من هذا فلتقترحه، أو رأت أحسن منه فلتُبده ولتوضحه! ذلك صنع {اُلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرى فِي خَلْقِ اِلرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَاَرْجِعِ اِلْبَصَرَ هَل تَّرى مِن فُطُورٍ (3) ثُمَّ اَرْجِعِ اِلْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ اَلْبَصَرُ خَاسِئًا وَهْوَ حَسِيرٌ} [الملك: 3 - 4]. ومن نظر في هذا العالم وتأمَّل أمره حقَّ التأمُّل علم قطعًا أن خالقه أتقنه وأحكمه غاية الإتقان والإحكام، فإنه إذا تأمَّله (4) وجده كالبيت المبني المُعَدِّ _________ (1) «ح»: «واستعماله». ولعل المثبت هو الصواب. (2) «ح»: «فقرأ». (3) قد ذكر المصنِّف - رحمه الله - في كتابه «مفتاح دار السعادة» تأملات كثيرة في خلق الله تعالى قد لا تجدها مجموعة في كتابًا آخر. (4) «ح»: «تأمل».
(2/1135)
فيه جميع عتاده. فالسماء مرفوعةٌ كالسقف، والأرض ممدودةٌ كالبساط، والنجوم منضودةٌ كالمصابيح، والمنافع مخزونةٌ كالذخائر، كل شيءٍ منها لأمرٍ يصلح له، والإنسان كالمالك المخول فيه، وضروب النبات مهيأة لمآربه، وصنوف الحيوان مصرفة في مصالحه. فمنها ما هو للدر والنسل والغذاء فقط، ومنها ما هو للركوب والحمولة فقط، ومنها ما هو للجمال والزينة، ومنها ما يجمع ذلك كله كالإبل، وجعل أجوافها خزائن لما هو شرابٌ وغذاءٌ، ودواءٌ وشفاءٌ، ففيها عبرةٌ للناظرين، وآيات للمتوسمين. وفي الطير واختلاف أنواعها وأشكالها، وألوانها ومقاديرها، ومنافعها وأصواتها، صافات وقابضات، وغاديات ورائحات، ومقيمات وظاعنات: أعظم عبرة وأبين دلالة على حكمة الخلاق العليم (1). وكل ما أوجده الناس وأولوه (2) بالًا بالأفكار الطويلة والتجارب المتعددة من أصناف الآلات والمصانع وغيرها إذا فكَّر فيها المتفكر وجدها مشتقة من الخلقة، مستنبطة من الصنع الإلهي. مثال ذلك أن القَبَّان (3) مستنبطٌ من خلقة البعير، كأنهم لما رأوه ينهض بحمله وينوء (4) به يمد عنقه ويوازن حمله برأسه استنبطوا القبان من ذلك. وجعلوا طول حديدته في مقابلة طول العنق، ورمانة القبان في مقابلة رأس البعير، فتم لهم ما استنبطوه. _________ (1) ينظر «مفتاح دار السعادة» للمصنف (2/ 586 - 587). (2) «ح»: «وأدلة». (3) القبان: الميزان ذو الذراع الطويلة المقسمة أقسامًا ينقل عليها جسم ثقيل يُسمى الرمانة لتعين وزن ما يُوزن. «المعجم الوسيط» (2/ 713). (4) «ح»: «وبينوا». والمثبت من «م».
(2/1136)
وكذلك استنبطوا بناء الأقباء (1) من ظهره، فإنهم وجدوه يحمل ما لا يحمله غيره، فتأملوا ظهره فإذا هو كالقبو، فعلموا أن القبو يحمل ما لا يحمله السطح (2). وكذلك ما استنبطه الحذاق لمن (3) كَلَّ [ق 136 ب] بصره أن يُديم النظر إلى إجَّانة (4) خضراء مملوءة (5) ماءً استنباطًا من حكمة الخلاق العليم في لون السماء، فإن لونها أشد الألوان موافقةً للبصر وتقويته، فجعل أديمها (6) بهذا اللون لتمسك الأبصار ولا تنكأ فيها (7) بطول مباشرتها لها، ومن هذا استنبط الأطباء لمن أصابه سوءٌ في بصره إدمان النظر إلى الخُضرة (8). وإذا فكرت في طلوع الشمس وغروبها لإقامة دولتي الليل والنهار، ولولا طلوعها لبطل أمر هذا العالم، فكم في طلوعها من الحِكَم والمصالح، وكيف كان حال الحيوان لو أُمسكت عنهم، وجُعل الليل عليهم سرمدًا والدنيا مظلمة عليهم، فبأي نور كانوا يتصرفون وينقلبون؟ وكيف كانت تنضج ثمارهم وتكمل أقواتهم وتعتدل صورهم وأبدانهم؛ فالحِكَم في _________ (1) الأقباء: جمع القبو، وهو الطاق المعقود بعضه إلى بعض في شكل قوس. «المعجم الوسيط» (2/ 713). (2) ينظر «مفتاح دار السعادة» للمصنف (2/ 674 - 675). (3) «م»: «لكل من». (4) الإجَّانة بالتشديد: إناء يُغسل فيه الثياب. «المصباح المنير» (1/ 6). (5) «ح»: «مملوءة خضر». والمثبت من «م». (6) أديم السماء: ما ظهر منها. «لسان العرب» (12/ 11). (7) أي: لا تؤذيها. (8) ينظر «مفتاح دار السعادة» للمصنف (2/ 589).
(2/1137)
طلوعها أعظم من أن تخفى أو تحصى. ولكن تأمَّل الحكمة في غروبها فلولا غروبها لم يكن للحيوان هدوء ولا قرار، مع شدة حاجتهم إلى الهدوء والراحة لأبدانهم (1) وإجمام حواسهم. وأيضًا لو دامت على الأرض لاشتد حَمْوُها (2) بدوام طلوعها عليها فأحرق كل ما عليها من حيوان ونبات. فاقتضت حكمة الخلاق العليم والعزيز الحكيم أن جعلها تطلع عليهم في وقتٍ وتغيب في وقتٍ بمنزلة سراج يرفع لأهل الدار مليًّا ليقضوا مآربهم، ثم يغيب عنهم مثل ذلك ليقروا ويهدؤوا، وصار ضياء النهار وحرارته وظلام الليل وبرده على تضادهما وما فيهما متظاهرين متعاونين على ما فيه صلاح العالم وقوامه ومنافع أهله (3). ثم اقتضت حكمته أن جعل للشمس ارتفاعًا وانحطاطًا لإقامة هذه الفصول (4) الأربعة من السنة، وما فيها من قيام الحيوان والنبات، ففي زمن الشتاء تَغُورالحرارة في الشجر والنبات، فيتولد فيها مواد الثمار (5)، ويغلظ الهواء بسبب البرد، فيصير مادة للسحاب، فيرسل العزيز الحكيم الريح المثيرة فتثيره قَزَعًا (6)، ثم يُرسل عليه الريح المؤلِّفة، فتؤلِّف بينه حتى يصير طبقًا واحدًا. ثم يُرسل عليه الريح اللاقحة التي فيها مادة الماء، فتلقحه كما _________ (1) «ح»: «الراحة أبدانهم». وفي «م»: «والراحة». ولعل المثبت هو الصواب. (2) «م»: «حرها». (3) ينظر «مفتاح دار السعادة» للمصنف (2/ 590 - 592). (4) «ح»: «الأزمنة». والمثبت من «م». (5) «م»: «النار». (6) «ح»: «فيثيره فزعًا». والمثبت من «م». والقَزَع: قطع من السحاب رقيقة، الواحدة قزعة. «الصحاح» (3/ 1265).
(2/1138)
يلقح الذكر الأنثى، فيحمل الماء من وقته. فإذا كان بروز الحمل وانفصاله أرسل عليه الريح الذارية، فتذروه وتفرِّقه في الهواء لئلا يقع صبةً واحدةً، فيُهلك (1) ما أصابه ويقل الانتفاع به. فإذا سقى ما أُمر بسقيه وفرغت حاجتهم منها أرسل عليه الرياح السائقة فتسوقه وتزجيه إلى قومٍ آخرين وأرضٍ أخرى محتاجة إليه. فإذا جاء الربيع تحركت الطبائع، وظهرت المواد الكامنة في الشتاء، فخرج النبات، وأخذت الأرض زخرفها، وازَّيَّنت وأنبتت من كل زوجٍ بهيجٍ. فإذا جاء الصيف سخن الهواء، فنضجت الثمار، ويبست الحبوب فصلحت للحفظ والخزن وتحللت فضلات الأبدان. فإذا جاء الخريف كسر ذلك السَّموم والحرور، وصفا (2) الهواء واعتدل، وأخذت الأرض والشجر في الراحة والجموم والاستعداد (3) للحمل الآخر (4). واقتضت حكمته سبحانه أن أنزل الشمس والقمر في البروج، وقدَّر لهما المنازل ليعلم العباد عدد السنين والحساب من الشهور والأعوام، فتتم (5) بذلك مصالحهم، وتُعلم آجال معاملاتهم ومواقيت حجهم وعباداتهم، ومُدد أعمارهم وغير ذلك من مصالح حسابهم. فالزمان مقدار الحركة، ألا ترى أن _________ (1) بعده في «م»: «ما على الأرض و». (2) «مح»: «وبرد». (3) «ح»: «والاستداد». والمثبت من «م». (4) ينظر «مفتاح دار السعادة» للمصنف (2/ 592 - 594). (5) «ح»: «قسم». والمثبت من «م».
(2/1139)
السنة الشمسية مقدار مسير الشمس من الحمل إلى الحمل، واليوم مقدار مسيرها من الشرق إلى الغرب، وبحركة الشمس والقمر يُكال الزمان من حين خُلقا إلى أن يجمع الله بينهما ويعزلهما عن سلطانهما، ويُرِيَ عابديهما أنهم عبدوا الباطل من دونه، وأن سلطان معبودهم قد بطل واضمحل، وأن سلطان الحقِّ والملك الحق لله الواحد القهار. قال تعالى: {هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ اَلشَّمْسَ ضِيَاءً وَاَلْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ اَلسِّنِينَ وَاَلْحِسَابَ مَا خَلَقَ اَللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ اُلْأيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [يونس: 5]. وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا اَلَّيْلَ وَاَلنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اَلَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ اَلنَّهارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ اَلسِّنِينَ وَاَلْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء: 12]. ففي القمر وتقدير منازله آيات وحكم لا تخفى على الناظرين (1). واقتضت حكمته سبحانه في تدبيره أن فاوت بين مقادير الليل والنهار، فلم يجعلهما دائمًا على حدٍّ سواء، ولا أطول [ق 137 أ] ممَّا هما عليه ولا أقصر، بل جاء استواؤهما وأخذ أحدهما من الآخر على وفق الحكمة، حتى إن المكان الذي يقصر أحدهما فيه جدًّا لا يكون فيه حيوان ونبات كالمكان الذي لا تطلع عليه الشمس أو (2) لا تغرب عنه. فلو كان النهار مقدار مائة ساعة أو أكثر أو كان الليل كذلك لتعطلت المصالح التي نظمها الله بهذا المقدار من الليل والنهار (3). _________ (1) ينظر «مفتاح دار السعادة» للمصنف (2/ 594 - 595). (2) «ح»: «و». والمثبت من «م». (3) ينظر «مفتاح دار السعادة» للمصنف (2/ 595 - 597).
(2/1140)
ثم تأمَّل الحكمة في إنارة القمر والكواكب في ظلمة الليل فإنه مع الحاجة إلى الظلمة لهدوء الحيوان وبرد الهواء لم تقتض المصلحة أن يكون الليل ظلمةً واحدةً داجيةً (1) لا ضياء فيها، فلا يمكن فيه شيءٌ من العمل، وربما احتاج الناس إلى العمل بالليل لضيق الوقت عليهم في النهار أو (2) لإفراط الحر فيه، فاحتاجوا إلى العمل في الليل في نور القمر من حرث الأرض وقطع الزرع وغير ذلك، فجعل ضوء القمر في الليل معونة للناس على هذه الأعمال. وجعل في الكواكب جزءًا يسيرًا من النور لتسد مسدَّ القمر إذا لم يكن. وجُعلت زينة السماء ومعالم يُهتدى بها في ظلمات البر والبحر، ودلالات واضحات على الخلاق العليم، وغير ذلك من الحِكَم التي بها انتظام هذا العالم. وجُعلت الشمس على حالة واحدة لا تقبل الزيادة والنقصان لئلا تتعطل الحكمة المقصودة منها. وجُعل القمر على حال تقبل الزيادة والنقصان لئلا تتعطل الحكمة المقصودة من جعله كذلك، وكان في نوره من التبريد والتصليب ما يقابل ما في ضوء الشمس من التسخين والتحليل، فتنتظم المصلحة وتتم الحكمة من هذا التسخين والتبريد (3). وتأمَّل اللطف (4) والحكمة الإلهية في جعل الكواكب السيارة ومنازلها تظهر في بعض السنة وتحتجب في بعضها؛ لأنها لو ظهرت دائمًا أو احتجبت دائمًا لفاتت (5) الحكمة المطلوبة منها، كما (6) اقتضت الحكمة أن يظهر _________ (1) «ح»: «راجية». والمثبت من «م». والداجية: المظلمة. «الصحاح» (6/ 2334). (2) «ح»: «و». والمثبت من «م». (3) ينظر «مفتاح دار السعادة» للمصنف (2/ 597 - 598). (4) «ح»: «اللفظ». والمثبت من «م». (5) «ح»: «لذابت». والمثبت من «م». (6) «ح»: «وكما». والمثبت من «م».
(2/1141)
بعضها ويحتجب بعضها فلا تظهر كلها دفعةً واحدةً، ولا تحتجب دفعة واحدة، بل ينوب ظاهرها عن خفيها في الدلالة، وجعل بعضها ظاهرًا لا يحتجب أصلًا بمنزلة الأعلام المنصوبة التي يهتدي بها الناس في الطرق المجهولة في البر والبحر، فهم ينظرون إليها متى أرادوا ويهتدون بها حيث شاؤوا، فجاء الأمران على وفق الحكمة (1). ثم تأمَّل حال النجوم واختلاف مسيرها، ففرقة منها لا تريم (2) مراكزها من الفلك ولا تسير إلَّا مجتمعة كالجيش الواحد، وفرقة منها مطلقة تنتقل في البروج وتفترق في مسيرها، فكل واحدٍ منها يسير سيرين مختلفين: أحدهما عام مع الفلك نحو الغرب، والآخر خاص لنفسه نحو الشرق، فله حركتان مختلفتان على وفق الحكمة. وذلك من أعظم الدلالة على الفاعل المختار العليم الحكيم، وعلى كمال علمه وقدرته وحكمته (3). وتأمَّل كيف صار هذا الفلك بشمسه وقمره ونجومه وبروجه يدور على هذا العالم هذا الدوران العظيم السريع المستمر بتقديرٍ محكمٍ لا يزيد ولا ينقص، ولا يختل عن نظامه، بل هو تقدير العزيز العليم (4) كما أشار تعالى إلى أن ذلك التقدير صادر عن كمال عزته وعلمه، فقال تعالى: {وَاَلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ اُلْعَزِيزِ اِلْعَلِيمِ} [يس: 37]. وقال تعالى: {قُلْ أَائنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ اَلْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ... } إلى قوله: _________ (1) ينظر «مفتاح دار السعادة» للمصنف (2/ 598 - 599). (2) أي: لا تبرح. «الصحاح» (5/ 1939). (3) ينظر «مفتاح دار السعادة» للمصنف (2/ 600). (4) بعده في «ح»: «وقال تعالى». وهي زائدة.
(2/1142)
{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا اَلسَّمَاءَ اَلدُّنْيا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ اُلْعَزِيزِ اِلْعَلِيمِ} [فصلت: 8 - 11]. وقال تعالى: {فَالِقُ اُلْإِصْبَاحِ وَجَاعِلُ اُلَّيْلِ سَكَنًا وَاَلشَّمْسَ وَاَلْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ اُلْعَزِيزِ اِلْعَلِيمِ} [الأنعام: 97]. فذكر سبحانه أن هذا التقدير لمسير الشمس والقمر والليل والنهار وحركات النجوم في مطالعها ومغاربها تقديرٌ ناشئٌ عن عزته وعلمه، وذلك متضمن وقوعه على وجه الحكمة الطائفة (1)، وتسخير الشمس والقمر والكواكب وتذليلها لعزته، وجارٍ (2) على وفق حكمته، فجاءت على وفق ما قدرها له. فهل يخفى على ذي لُبٍّ أن ذلك تقدير مقدرٍ قادرٍ عزيزٍ حكيمٍ (3)؟! وحسبنا الله ونعم الوكيل (4). * * * * * _________ (1) كذا في «ح»، ولعل الصواب «البالغة» أو «التامة». (2) «ح»: «وخاب». والمثبت هو الصواب. (3) ينظر «مفتاح دار السعادة» للمصنف (2/ 602). (4) هذا آخر ما وجدناه من هذا الكتاب الجليل، وكتب الناسخ بعده: «أنهاه كاتبه يوم 17 من ذي القعدة سنة 1110 على ما وجدناه في الأصل، ونعوذ بالله من الزيادة والنقصان».
(2/1143)