×
هذا الكتاب عبارة عن رسالة ألقاها الشيخ زيد عبد العزيز الفياض - رحمه الله - بمقر رابطة العالم الإسلامي بمكة، وركز فيها على الواجب العام للمسلمين في هذا العالم؛ من تبليغ كلمة الله ورسالته إلى الناس، وأن هذا إتمام لوظيفة الرسل وأتباعهم إلى قيام الساعة، ومصداقًا لدعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - للمسلمين : " بلغوا عني ولو آية ".

 واجب المسلمين في نشر الإسلام

زيد بن عبدالعزيز بن فياض

سنة 1388هـ - الموافق 1968م.

(حقوق الطبع للمؤلف)

مطابع القصيم - الرياض

§        الطبعة الأولى في ذي الحجة سنة 1385.

§        الطبعة الثانية ضمن كتاب ندوة المحاضرات لموسم حج 1385.

§        الطبعة الثالثة سنة 1388 وهي هذه.


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله، أشكره وأُثني عليه، وأصلِّي على خاتم رُسله؛ سيِّد ولد آدم، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحابته، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم القيامة.

وبعدُ، فهذه محاضرةٌ كنت ألقيتُها بمقر (رابطة العالم الإسلامي) بمكة في مساء الاثنين 29/11/1385 بدعوة من الرابطة.

وقد رأيتُ طبعَها في رسالة؛ لتعميم فائدتها، واللهَ أرجو أن يوفِّقنا لما فيه الخير، وأن يَهدي الأمَّة الإسلامية؛ كي تنهضَ بواجبها في نشْر الإسلام، واتِّقاء الأخطار المحيطة بها مِن أعدائه، وبالله التوفيق.

زيد بن فياض


واجب المسلمين في نشر الإسلام  

قال الله - تعالى - في مُحكَم كتابه: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: 33]، وقال - تعالى -: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: 108].

وقال - تعالى -: ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾ [البقرة: 135 - 138].

 ويقول الرسول ﷺ‬: ((بلِّغوا عني ولو آية) وفي حديث آخَرَ: ((ألاَ فليبلِّغِ الشاهدُ الغائب))، ولو ذهبنا نسوق الآياتِ والأحاديثَ والآثار في هذا الشأن، لطال البحث، ولكنَّها إيماءة نجتزئ بها في هذا المقام.

والدعوة إلى الله وإلى كتابه، وتبليغ وحيه وشريعته، هي وظيفةُ الرُّسل وأتباعهم، إلى أن تقومَ الساعة، وهي أشرفُ وظيفة، وأعلى مكانة، وأخطر مسؤولية، وقد قام الرسولُ ﷺ‬ في ذلك خيرَ قيام، وجاهد مِن أجْل تبليغ الرِّسالة، وصَبَر وصابر، وتحمَّل الأذى الشَّديد، غيرَ مبالٍ بما يناله مِن عداء المشركين وتعنُّتهم، ولا ملتفتٍ إلى إغراءاتهم ووعودهم، ولم يزلْ على ذلك حتى أتاه اليقين، وأكمل اللهُ به الدِّين.

واضطلع خلفاؤُه بإبلاغ هذا الدِّين ونشْره بيْن الأمم، وكان لهم النصرُ والظَّفَر، رغم قوَّة أعدائهم وكثرتهم، وتحقَّق وعْدُ الله ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ [غافر: 51].

وقيَّض الله لدِينه أنصارًا من مختلف الأُمم والأجناس، ومن شتَّى الأقطار والبلدان، يُنافِحون عنه، ويذبُّون عن حِياضه، ويجاهدون في سبيل الله، لا يخافون لومةَ لائم، ولا تزال طائفةٌ من أمَّة الإسلام على الحقِّ ظاهرةً إلى يوم القيامة؛ ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]، وما زالتْ أسماء قادة الإسلام المجاهِدين، وعُلمائِه الأفاضل، تُضيء التاريخَ بأعمالها الرائعة، وبطولاتها النادرة، وبذلها السخيِّ، جاهَد هؤلاء وغيرُهم؛ لنصْر الدِّين، وإعلاء كلمة الله، فالشهادة في سبيل الله أُمنيةٌ عزيزة لديهم، وأملٌ غالٍ يتسابقون إلى الفَوْز به.

﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 169 - 171].

﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 111].

إنَّ الأسماء المشرِقة في تاريخ الإسلام، لَتزيدُ المؤمن ثِقةً بأنَّ الأمة الإسلامية مهْمَا توالتْ عليها المِحن، وتكالَب حولها الأعداء، فإنَّ العاقبة لها، وفي جِهاد الرسول ﷺ‬ أعظمُ مثَل، وأكْبر حافِز لمواصلة السَّيْر في هذا الطريق - طريق الجهاد بكلِّ ما تعنيه هذه الكلمة من معنًى.

ونذكُر الخلفاءَ الراشدين وما قاموا به مِن جهود تُذكَر فتُشكر، ويَعترِف بها حتى الأعداء الذين لم يُعمهم التعصُّبُ وكتْمان الحق، ونذكر على سبيل المثال مِن خيار الأمَّة وأبطالها: سعد بن أبي وقاص وأبا عبيدة بن الجراح، وخالد بن الوليد وعبدالله بن عمر، والوليد بن عبدالملك وموسى بن نُصَير، وطارق بن زياد وقتيبة بن مسلم، ومحمَّد بن القاسم وعمر بن عبدالعزيز، وصلاح الدين الأيوبي ونور الدين محمود زنكي، وعمر المختار والشيخ أحمد بن عرفان الشهيد، ومحمد بن سعود وعبدالقادر الجزائري، وعبدالكريم الخطَّابي وأحمد وبللو، ومحمَّد السنوسي وابن باديس.

ولا نَنسى من أفاضل العلماء مَن كانت لهم قدمٌ راسخة في العِلم ونقْله بأمانة، وضبط السنن عن التحريفات، أو إدخال أحاديثَ موضوعة، ونفْي الشبهات والاعتراضات، ومن هؤلاء على سبيل المثال: سعيد بن المسيّب والأئمَّة الأربعة، والبخاري ومسلم، وأصحاب السنن، والمحقِّقون من الفقهاء والمفسِّرين، والمؤلِّفين في العقائد والتاريخ، وممن كانوا يذبُّون عن حِياضِ الإسلام، ويدافعون عن حِماهُ، ومنهم: عثمان بن سعيد الدارمي وعبدالعزيز المكي، ومحمد بن خزيمة ومحمد بن جرير الطبري، وموفَّق الدين بن قُدامة والعز بن عبدالسلام، والذهبي والمزي، وشيخ الإسلام بن تيمية وابن القيم وابن كثير، ومحمد بن عبدالوهاب والبشير الإبراهيمي وجمال الدِّين القاسمي، وغيرهم كثيرون ممَّن لا يتَّسع المقام لذِكْرهم، وممن لا يمكن حصرُهم.

إنَّ البطولاتِ والجهاد العظيم الذي أدَّاه رجالٌ صدَقوا ما عاهدوا الله عليه، في أدوار التاريخ الإسلامي المختلِفة، والذي تحمَّله أناسٌ كانوا يزهدون في التفاخُرِ بما أدَّوْه، ويعملون في صمت، ولا يريدون أن يطَّلع الناس على أعمالهم، إلا أن يكون للاقتداء والنَّهْج على مِنوالهم، ويَعدُّون ما يقومون به قليلاً!

وهم يرتجون مثوبةَ الله ورِضاه، ويَحرِصون على سلامة النِّيَّة، وأن تبتعد عن الشوائبِ التي تُكدِّر العملَ الصالح، ويُفضِّلون أن يكونوا جنودًا مجهولين، لا يعلم الناس بأعمالهم الجليلة.

هذه البُطولات، وتلك المُثل، يَنبغي أن تكونَ دافعًا للعمل الجادِّ في سبيل الإسلام ونشْره، فتلك مسؤولية كلِّ مسلم حسبَ طاقته، وما يقدر على أدائه في هذا السبيل.

لقد أدْرك سلَفُ الأمَّة ما يجب عليهم في جِهاد الكفَّار، وما يُفترض عليهم القِيام به في نشْر الإسلام بكلِّ وسيلة ممكنة، في التعليم والإرشاد، وفي الوعظ والتوجيه، وفي بعْث الدُّعاة وإرسال الرسائل والكتب، وفي القِتال إذا أصرَّ أعداءُ الدِّين على عِنادهم واستكبارهم؛ ولذا ارتفعتْ راية الإسلام خفَّاقة، وفي مدَّة قرْن من الزمان صارتْ دولة المسلمين تمتدُّ من الصِّين شرقًا، إلى المحيط الأطلسي غربًا.

شيءٌ يفوق الوصْفَ، ويُذهل العقول، والسرُّ كامِن في وضوح الدِّين وإشراقه، وفي قوَّة الإيمان والصبر فيمَن حمَلُوا لِواءَه، لم يعبؤوا بكثرة الأعداء، ولم يَرْهبوا الموت في سبيل الله، فنصَرَهم الله، ومكَّن لهم في الأرض ﴿وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 40].

وكانتْ سِيرة الرسول ﷺ‬ نبراسًا لهم، يَهتدون بهَدْيه، ويَقتفون أثرَه، فعندما هبط الوحيُ على الرسول؛ خاتمِ الأنبياء، المبعوثِ إلى الناس كافَّة، لا فرْق بيْن أبيضَ وأسود، ولا بين يهودي ونصراني، أو مجوسي ووثني، ولا بيْن جِنس وجنس، ولا بيْن وطن ووطن ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]، قام يُبلِّغ رسالةَ ربه، صابرًا على ما يلْقاه مِن أذَى قومه واستهزائهم، يُعلِّم القرآن، ويدعو إلى توحيد الله وعبادته.

وصبَر معه المؤمنون، وبعدَ أن التفَّ حوله المؤمنون، وقويت شوكةُ المسلمين، وهاجَر إلى المدينة، جاهَد بالسِّنان واللِّسان، وبعَث الدعاةَ يُفقِّهون الناس في الدِّين، ويُعلِّمونهم الحِكمة، وكتَب إلى الملوك والرؤساء يدْعوهم إلى الإسلام، ونَبْذ الوثنية والشِّرك، وعِبادةِ الأحبار والرهبان.

وهكذا سار خلفاؤُه الراشدون، ومَن وفَّقه الله من أئمَّة المسلمين وسلاطينهم.

ولا غرْوَ إذا تحقَّقت على أيديهم الانتصاراتُ، وامتدت رُقعةُ الإسلام في أقاصي الدنيا، لقد كان المسلمون دُعاةَ هداية، وحاملي مشاعِر تضيء الطريق للسائرين، كانوا يدْعون بعِلم وبصيرة إلى دِينٍ واضح، يحقِّق السعادة والأمْن، والحياة الفاضلة، وفي الآخرة جنَّات نَعيم لمَن آمَن واتَّقى، وخلَع الأوثان والأصنام.

 ومن أسباب نجاح الدعوة:  

أن يكون الداعي عالِمًا بما يدعو إليه، وأن يكون حسَنَ الأسلوب، واضحَ البيان، قويَّ الحُجَّة، حليمًا يصبِر على ما يُلاقيه من السُّفهاء والمتعنِّتين، وأن يكون مستقيمًا، ثابتَ الإيمان، متحليًا بالخِلال الكريمة، والأعمال الحسنة.

وقدْ كانتْ هذه الفضائل من أقْوى الأسباب في نشْر الإسلام، وهذا ما يجب أن يُدركَه المسلمون في هذا العصْر الذي طغَتْ فيه المادية والإلْحاد، وتفنَّن فيه الأعداءُ لِفتن المسلمين عن دِينهم، ولإغراق العالَمِ كلِّه في بحْرٍ من الظلمات والمفاسد.

ويجب أن تعيَ الأمَّةُ الإسلاميَّة واجبَها الجسيم في هذا الصِّراع العنيف، وأن تحمِلَ أنوار الهداية إلى الحائرين والمخدوعين، فقد مرَّتْ بالأمة الإسلامية أدوارٌ مختلفة بيْن مدٍّ وجزْر، وعلو وانخفاض، وفي القرون الأخيرة تراكمتْ على بلاد الإسلام رواسبُ وعوائقُ، ففشَتِ الخُرافات والشِّركيَّات، وجهِل كثيرٌ من المسلمين حقيقةَ الدِّين، وأشادوا البناياتِ على القبور، ونَذَروا لها النذور، والْتمسوا منها المَدَد والعَوْن، وأقاموا الاحتفالاتِ البِدعية، وتَبِعوا الجهالات الحمْقاء، ونسبوا ذلك للإسلام، وهو يُناقض الإسلام.

ومِن جهةٍ أخرى انتشرتِ المذاهب الهدَّامة، والأفكار المخرِّبة، من سبئِيَّة وقرامطة، وإسماعيلية ونُصيريَّة، ودرزية وقاديانية وبهائية، فعمِلَتْ عملَها الفتَّاك في تشتيت الأمَّة، وإبعادها عن حقيقةِ الدِّين الصحيح، ولكنَّ الله الحافِظ لدِينه قيَّض من علماء الأمَّة وقادتها، وفرسانها وعساكرها، مَن هبَّ لمقاومة هذه النِّحَل الفاسدة، والدسائس الباطلة، وما زال في كلِّ عصْرٍ ومصْرٍ أقوامٌ يذبُّون عن الدِّين، ويبيِّنون حقائِقَه، سليمةً من الخُرافات والشبهات والإلحاد.

كان الجهلُ بالدِّين وما يأمر به مِن إعداد القوَّة بأنواعها، وبكلِّ ما يُستحدَث من اختراعات ممَّا فيه عزٌّ للأمَّة الإسلامية، وإعلاء شأنها - سببًا في تخلُّف المسلمين وضعْفهم، وغَفَلوا عن قوله - تعالى -: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ [الأنفال: 60]، وأمثالِها من الآيات الكثيرة.

 وكان لمخالفة ما جاءَ به الأمرُ من الاعتصام بحَبْل الله ونبْذ التفرُّق، أثرٌ ظاهِر في ضعْف المسلمين، والله يقول: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ [آل عمران: 103]، ويقول - تعالى -: ﴿وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: 46].

ومَن يقرأْ تاريخَ الأندلسِ المفقودِ وغيرها، يدركْ أيَّ مصيبة حلَّت بالمسلمين؛ بسبب التفرُّق والتنازع، وقد مهَّدت هذه العوامل التي يجمعها (الجهْل بالدِّين، ومخالفة ما جاء به) للاستعمار الأُوربي الصليبي.

فعَمِل على تمزيق البُلدان الإسلاميَّة وتفتيتها، وسامَ أهلَها سوءَ العذاب، ولم يدخِّر وسعًا في أن تصبح بلادًا نصرانيَّة، يرتفع عليها عَلَم الصَّليب، ويُداس عَلَم الإسلام تحتَ أقدام الصليبية، واستعمل القوَّة الطاغية، والعَسْف والإذلال حِيالَ المسلمين، واستخدم كلَّ الوسائل، فأكْثرَ من المبشِّرين بالنصرانية، وأمدَّهم بالمال والحماية.

وكان منهم جيشٌ عَرَمْرم في كلِّ مجال، وقلَب مناهج التعليم، وجعَلها تخدم هذه الأغراض، فابتعد بها عن الإسلام، ووجَّهها نحوَ التبشير، فالحصص الدينية تُقصَى أو تضعف، والشُّبهات التي يُورِدها أعداءُ الإسلام تُبثُّ على شكلٍ هو غايةٌ في المكر والدهاء.

وتاريخ المسلمين وأمجادهم يتجاهلها أولئك الصليبيُّون الحاقِدون، ويطمسون معالِمَها، ويُشوِّهون وقائعها، بما يُدخلونه عليها من تحريفٍ وتمويه، أمَّا تاريخ الغرْب المسيحي، وسِيَر رجاله، فتلك تنال التمجيدَ والإطراء والتهويل.

والمعلِّم منهم ليس هدفُه إيصالَ العلوم إلى عقول الطلاَّب كما يدَّعون، ولكن تنفيذ رغبتهم في تحويل المسلمين إلى نصارَى، أو على الأقلِّ تشكيكهم في الدِّين، والمستعمِرون يبعثون التلاميذَ إلى المدارس النصرانيَّة في الغرْب، أو في بعض البلاد الإسلاميَّة؛ حيثُ المدارس المؤسَّسة لغرَضِ التبشير؛ كي يقومَ أولئك الطلاَّب بيْن أبناء جِلدتهم بنفس الدَّوْر الذي يقوم به المبشِّرون، وهم يطمحون مِن وراء ابتعاثهم إلى سَلْخهم عن دِينهم نهائيًّا، أو حقْنهم بالشُّكوك والشُّبه، فيَرجعون إلى بلادهم؛ ليبثُّوا ما تلقَّوْه في تلك البيئات من شُبهات.

 ويأخذ التبشير أشكالاً وصورًا كثيرةً في المدرسة والمستشفى، في المؤلَّفات والصحافة، والإذاعة والمحاضرات، وبالنِّسبة للفرْد والمجتمع، فلكلٍّ أسلوبٌ وطريقة، وحتى التبشير الصامِت له لونُه من توزيع الأناجيل والتوراة المحرَّفة، والنشرات الدورية والصُّور، وغير ذلك.

وهناك الكُتب التي أُلِّفت للطعْن في الإسلام من قِبَل المبشِّرين، ومنها: كتاب "ميزان الحق"؛ للدكتور/ فانذر المستشرق الأمريكي، والدكتور سنكلير تسدل، وكتاب "مصادر الإسلام"؛ لسنكلير تسدل، وكتاب "مقالة في الإسلام"؛ للمستشرق سان، وكتاب "الهداية"، وهو كتاب يطعن في القرآن وفي الإسلام، وكتاب "المسيحية في الإسلام".

ومِن المجلاَّت التي يُصدِرها المبشِّرون، ومعروفة بعدائها وتعصُّبها الشديد: (مجلة العالم الإسلامي)، وقد توخَّى المبشرون والمستشرقون[1] أن يغْمِزوا المسلمين، ويطعنوا في الإسلام في كلِّ المؤلَّفات التي يُؤلِّفونها، إلا قلة نادِرة جدًّا، فكُتب الديانات والعقائد التي يُؤلِّفونها تكون مملوءةً - غالبًا - بالدسِّ على الإسلام والمسلمين[2]، وفي كتب التاريخ والاجتماع واللغة، مطاعِنُ ومغامِز، وتقليل مِن أهميَّة المسلمين.

وهم يعملون على تشجيعِ النعرات القوميَّة والإقليميَّة، ونبْش الحضارات الجاهلية، والسعْي لإحْباط كلِّ تجمُّع إسلامي، وعمِلوا بنشاط وتواطؤ مع المستعمرين في هذه النواحي وسواها، كإلغاء المحاكم الشرعيَّة، والوقف الإسلامي، وتفكيك الأسرة، وإلى إطلاق العِنان لوسائلِ الإعلام؛ للطعْنِ في الإسلام باسم الحريَّة الصحفية، أو حريَّة الفِكر.

كما كان مِن مخطَّطات الاستعمار والمبشِّرين تشويهُ التاريخ الإسلامي، وانتقاصُ علماء الدِّين وأبطال المسلمين، وإظهارُهم بمظهر النقْص والإِزراء، وإلى التقليل من أهميَّة البلدان الإسلاميَّة لزعزعة الثِّقة في نفوس المسلمين، وتنسيتهم وإضعاف صِلتهم بماضيهم المجيد، وتراثهم الحافِل؛ ليُصبحوا فريسةً لدعايات المبشِّرين والمستعمرين، ولرَبْطهم بعجلة الصليبيِّين حين تَحُلُّ لهم المنزلة العالية في نفوس المسلمين، ويُصبح تعظيمُهم والإعجاب بتاريخهم وإنتاجهم ورجالهم علامةَ الرُّقي والتحضُّر.

كما جهِد النصارى في نشْر المجُون والخَلاعة، وتشجيع تعاطِي المخدِّرات والمسكِرات، والدعارة وتسهيل الوصول إليها، ومن المؤسف أن تكونَ لهذه الدسائس آثارٌ أحدثت فجواتٍ بيْن صفوف المسلمين، وفي تفكير شبابهم، ولا شكَّ أنَّ هذه مصيبة خطيرة، وفادِحة عظيمة، وقد كان ليلاً دامسًا، وكابوسًا ثقيلاً حَلَّ بالأمة الإسلامية، لولا أن تدارَكها لُطفُ الله، لأصبحتْ في خبر كان! ولولا تحقيقُ الله وعْدَه بحِفظ الدِّين، لكانتْ حال المسلمين في سائرِ البقاع كحالهم في الأندلس.

فنهَض في الأمَّة دعاةٌ مصلِحون، وعلماء يُنبِّهون ويحذِّرون، وقادةٌ يُكافحون ويجاهدون، وأناس غيورون، وقد جلاَ المستعمرون عن أكثرِ البلدان الإسلامية، ولكنَّهم خلَّفوا وراءَهم ترِكةً مثقلة بما غرَسوه مِن شكوك، وما عمِلوه من مكْر سياسي، ودهاء استعماري، فقد خلَّفوا تلاميذَ ومدارس، وغزوًا فكريًّا وثقافيًّا، هو أشدُّ خطورةً، وأمضى فتكًا من الغزو العسكري والسياسي، بل لقد أنشؤوا في بعض البلدان العربية الإسلامية المستقلَّة جيشًا باسمِ الجيش المريمي!

وما فتِئوا يُغذُّون هذه الأدوات، ويسخِّرونها؛ لتأتيَ بنتائجَ تقرِّب أهدافَهم الأدبية والمادية؛ يقول الأستاذ عباس محمود العقَّاد - في كتابه "ما يقال عن الإسلام" -: فليستْ حركةُ التبشير اليومَ تنافسًا بيْن المبشِّرين والإسلام؛ لكسْب القبائل الإفريقيَّة، ولكنَّها حملةٌ من التبشير على الإسلام لغزوِه في عُقْر داره، واستعانة على هذا الغزو بمحترِفي التبشير الإفريقيِّين تلاميذ المبشِّرين الأوروبيِّين، ومخالفته بيْن الاستعمار والوطنية الإفريقية من طريق ملفوفٍ لمحاربة الإسلام، تارةً بدعوَى الوطنية، وتارةَ بدعوى الدِّين.

 هذه الطريقة تُتبع في إفريقية الشرقيَّة، وتُتبع في البلاد الآسيوية التي تمكَّن التبشير من اجتذاب فريقٍ منها إليه، فسبيله منذ اليوم أن يجنِّدَ الإفريقيِّين والآسيويِّين للحملة على الإسلام في كلْتا القارتين، ويتوخَّى هذه الخطَّةَ بعينها كلُّ مَن يُجنِّدون الدعاية لتحويل المسلمين عن دِينهم، وإقناعهم بدعوة الأديان الأخرى، أو بدعوة المادية والإلْحاد، فإنَّهم يستترون ثم يدْفعون أمامَهم تلاميذهم الإفريقيِّين والآسيويين، ويعقدونها محالفةً خفيَّة بيْن الاستعمار من بعيد، وبيْن القوميَّة الإفريقيَّة الآسيوية من قريب.

إنَّ هذه التعبئةَ الجديدة توافِق ظروفَ الأحوال كما يُقال، وتتدارك الأزْمة التي وقَع فيها الاستعمار بعدَ الصَّدمات التي لقِيَها ويلْقاها تباعًا من شعوب القارتَيْن، فهو بهذه التَّعْبئة يحاول أن ينقُلَ السلاح من يدِه إلى الوطني الإفريقي، والوطني الآسيوي، وليس له مِن عدوٍّ يُحارِبُه بهذه اليدِ أو بتلك غير الإسلام.

وما تَزَال في بلاد الإسلام أعدادٌ هائلة من المبشِّرين النصارى، ومِن المدارس التبشيريَّة، بل لقد كان الهدفُ الأساسي من حملات التبشير هو الإسلامَ، ومحاولة القضاء عليه في عُقْر داره، فقد كان المبشِّرون يَعتبِرون الإسلامَ القوةَ العتيدة التي تُحطِّم أحلامهم، وتقاوم بصلابةٍ عظيمة دعاواهم وأمانيَهم في أن يُصبِح العالَم بلدًا مسيحيًّا، تحكُمه دولة المسيحيِّين من الفاتيكان.

وقد وضَع المستعمِرون خططًا رهيبة، استخدموا فيها كلَّ الوسائل، وأطْبقوا بواسطتها على جميع بلادِ المسلمين، وتوغَّلوا بيْن ربوعها، وبعْد رحيلهم ترَكوا مخلَّفات ومبشِّرين، وأدوات تنفذ رغائبَهم، وتنصاع لغزوهم الفِكريِّ.

وإنَّ نظرةً واحدةً إلى الجمعيات والمؤسَّسات التبشيرية، تُعطِي البرهانَ الساطِع على ما قُلْنا، فللسويد 40 مركزًا لنشْر المسيحيَّة في أريتريا، وللنرويج أكثر من 500 مركز تبشيري في إفريقيا، ولألمانيا أعدادٌ كثيرة من المبشِّرين في غرْب إفريقيا، وقد افتتحتْ عشرات المراكز لهذه الغاية.

وفي سيراليون والكاب وجنوب إفريقيا، قامتْ جمعيةُ (نوتردام) الهولندية بإنشاء عشرين أسقفية، امتدَّ نشاطُها حتى وسط إفريقيا، ولأمريكا أكثر من 4500 بَعْثة تبشيرية في إفريقيا، ويبلغ عددُ المبشِّرين من البروتستانت 000ر98 ثمانية وتسعين ألفًا، منهم حوالي أربعين ألفًا في إفريقيا، ولكلِّ دولة مسيحيَّة أعدادٌ كثيرة من المبشِّرين، وللمبشِّرين أكثر من خمسمائة جامعة وكلية ومعهد، وقد وُضِعتْ تحت تصرُّف البابا أكثرُ من خمسمائة مليون دولار سنويًّا للتبشير، ومكافحة الإسلام، ورعاية شؤون المسيحيَّة[3].

وينتَشِر مئاتُ الآلاف من المبشِّرين في آسيا وإفريقيا، وعشرات الآلاف من المدارس أُنشِئت لهذا الغرَض، وتُنفَق مئاتُ الملايين من الجنيهات والدولارات في سبيلِ التبشير، بل يوجد في بعضِ المدن الإسلامية أكثرُ من مائة مؤسَّسة تبشيريَّة!

هذه أمثلة موجَزة، ولم نقصد الحصْر والتَّعْداد.

 ومن أهمِّ المؤسَّسات التبشيريَّة، والمجامع النصرانيَّة:

1. المحْفل العام.

2. اتِّحاد الكنائس.

3. البودر.

4. المؤتمر العام.

5. المجتمع الأمريكي.

6. المَجْمع العربي.

7. الإرسالية الأمريكية.

8. مجتمع الخدَّام.

9. مجلس الكنيسة.

10. جمعية الكتاب المقدَّس.

11. جمعية الشُّبَّان المسيحية.

12. جمعية الشابَّات المسيحية.

13. مشروع لوباخ لمحو الأمية.

 14. مدارس الأسقفية الإنكليزية.

15. المدارس التبشيريَّة في البلدان، وللطوائِف النصرانية الكثيرة.

16. الكليات التبشيريَّة للبنين والبنات في مختلف البلدان.

17. المستشفيات والمستوصَفات، والملاجئ ودُور الأحداث.

18. جامعة القدِّيس يوسف في لبنان، وتُسمَّى حاليًّا الجامعة اليسوعيَّة.

19. المعهد الفَرَنسي بالمنيرة بمصر.

20. الجامعات الأمريكيَّة في كلٍّ من بيروت والقاهرة، وإستانبول وأزمير ولاهور.

21. المعهد الشَّرْقي بمصر بالقاهرة.

22. معهد دار السلام بمصر القديمة[4].

والمبشِّرون النصارى لا يَسْتثنُون بلدًا إسلاميًّا دون بلد، فهي جميعًا هدفٌ لهم، فقد عقَد المبشِّرون مؤتمرَهم في 1911م، وقال القسُّ زُويمر في هذا الاجتماع:

إنَّ الانقسام السياسي الحاضِر في العالَم الإسلامي دليلٌ بالِغ على عمل يدِ الله في التاريخ، واستثارة للدِّيانة المسيحية لكي تقومَ بعمل؛ إذ إنَّ ذلك يُشير إلى كثرة الأبواب التي أصبحتْ مفتحةً في العالَم الإسلامي على مصاريعها.

إنَّ ثلاثة أرباع العالَم الإسلامي يجب أن تُعتبر الآن سهلةَ الاقتحام على الإرساليات التبشيرية، إنَّ في الإمبراطورية العثمانية اليومَ، وفي غرْب شبه جزيرة العَرَب، وفي إيران والتركستان، والأفغان وطرابلس الغرب ومراكش، سُدودًا في وجه التبشير، ولكنَّ هنالك مائةً وأربعين مليونًا من المسلمين في الهند وجاوه والصين، ومصر وتونس والجزائر، يمكن أن يصِلَ إليهم التبشيرُ المسيحي بشيء مِن السُّهولة.

ويعمل المبشِّرون كلَّ حِيلة، للوصول إلى تنصير المسلمين، وسَلْخهم عن دِينهم؛ يقول المبشِّر رايد:

إنَّ الوصولَ إلى المسلمين صعْب؛ ذلك لأنَّ المسلمين يشكُّون فيمَن يتبرَّع لهم بشيء مِن المبشِّرين، ويعزون عملَه إلى مأربٍ ما، إنَّني أحاول أن أنقُلَ المسلم من محمَّد إلى المسيح، ومع ذلك يظنُّ المسلم أنَّ لي في ذلك غايةً خاصَّة، أنا لا أُحِبُّ المسلِم لذاته، ولا لأنَّه أخ لي في الإنسانية، ولولا أنَّني أريد ربحَه إلى صفوف النصارى لَمَا كنتُ تعرضتُ له لأساعده.

ومع أنَّ الغربيِّين قد يلجؤون أحيانًا إلى مجامَلة المسلمين وخِداعهم، فيزعمون أنَّ التعصُّبَ الصليبي قد خمَد أُواره، وأنَّهم دُعاة سلام ومحبَّة، وأنهم يحترِمون الإسلام كدِينٍ راقٍ، يُهذِّب المشاعر، ويلطِّف الأحاسيس، ويقدِّم للعالَم تشريعاتٍ عادلةً، فإنَّ المطلع لا يفوته أنَّ هناك غارةً تُشَنُّ على الإسلام من هؤلاء المتشدِّقين، نشرت مجلَّة العالَم الإسلامي مقالاً للمستر واطسون بعدَ مؤتمر مسيحي عُقِد في إدنبره سنة 1910؛ جاء فيه:

وإنَّ نظرةً واحدةً تُوجَّه إلى قرارات المؤتمر، تُظهِر لصاحبها الحظَّ الكبير الذي كان للمسائل الإسلامية مِن أعمال المؤتمر، فقد كان المؤتمر مؤلَّفًا من ثماني لجان، اختصَّتِ الأولى والرابعة منها بالتوسُّع في بحْث المسألة الإسلامية مِن الوجهة الخارجية، وفي إيجاد مَيْدان عامٍّ مشترَك لأعمال المبشِّرين، واختيار خطَّة الهجوم والغارة[5].

ويَعقِد المبشِّرون مؤتمراتٍ مختلفةً، وعلى مستويات متباينة، وهدفُها بثُّ النصرانية، والطعْن في الإسلام، وتشويه حقائقِه، وإظهار المسلمين أمامَ الرأي العام العالَمي بالمظْهَر المُزرِي؛ للتنفير من الإسلام، وصدِّ تيَّاره على ما يدَّعون، ويُلصِقُون التُّهمَ بالمسلمين، ويُثيرون الشبهاتِ والشكوكَ في الإسلام، ولا يتورَّعون عن الكذِب، وقلْب الحقائق؛ للوصول إلى أغراضهم.

التبشير في المدارس:

ويُولِي المبشِّرون التعليمَ أهميَّةً خاصَّة؛ ليحقِّقوا هدفَهم، ويتدرَّج الأسلوب التبشيري بحسب المراحِل الدراسية، فيُلقِّنون الأطفال في دور الحضانة والمرْحَلة الابتدائية ما يُناسِب عقلياتِهم وأذهانَهم الخالية، فيَغْرِسون فيها دعاياتِهم المسمومة، وفي المراحِل المتوسِّطة والثانوية يتغيَّر الأسلوب والطريقة؛ ليكونَ متفقًا مع ذِهنية الطلاَّب وإدراكهم، والمستوى الذي يليق بهم، وفي الجامعات والتعليم العالي يكون التبشيرُ قد اتَّخذ أسلوبَ المناقشة والبحْث العلمي.

وممَّا يساعد المبشِّرين على نفْث سمومهم جهلُ الطلبة بالإسلام، وضعْفُهم في العلوم الدِّينية، مما يجعل لدعاياتِ المبشِّرين أثرًا في ضعْف العقيدة الإسلامية، أو زعزعتها - إلا مَن رحِم ربك.

الجامعة الأمريكية في بيروت:

وكمثَلٍ على ما تقدَّم "الجامعة الأمريكية ببيروت"، فهذه الجامعة الكبيرة هدفُها أساسًا، وغاية سعيها: تنصير المسلمين، فقد أصدرتِ الجامعة الأمريكيَّة في بيروت منشورًا ردَّتْ فيه على احتجاج الطَّلبة المسلمين؛ لإجبارهم على الدُّخول يوميًّا إلى الكنيسة.

وقد جاء في هذا المنشور: أنَّ هذه كلية مسيحيَّة أُسِّست بأموال شعْب مسيحي، هم اشتروا الأرْض، وهم أقاموا الأبنية، وهم أنشؤوا المستشفى وجهَّزوه، ولا يُمكِن للمؤسَّسة أن تستمرَّ إذا لم يُساندْها هؤلاء، وكل هذا قد فعَلَه هؤلاء ليوجدوا تعليمًا يكون الإنجيل مِن موادِّه، فتُعرَض منافعه الحقيقيَّة المسيحيَّة على كلِّ تلميذ، وكلُّ طالب يدخل مؤسَّستَنا يجِبُ أن يعرف سابقًا ماذا يُطلب منه.

هكذا يُصرِّح موجِّهو الجامعة الأمريكية، وهذه هي الحقيقةُ والغَرَض من إنشائها.

 في سنة 1863هـ عُقِد اجتماع لتخطيط الجامعة الأمريكيَّة في بيروت عندَ تأسيسها، وقال المجتمِعون: نحن نُصِرُّ على الطابع التبشيري للكلية، وعلى أن يكون كلُّ أستاذ فيها مبشِّرًا مسيحيًّا.

يقول رشتر عن هذه الجامعة: إنَّها أرْقى مدرسة في الإمبراطورية العُثمانية، إنَّ عمَل الكلية التبشيرية يتناول المسلمين في الدرَجة الأولى، وهذا ما يجعلها بارزةً في ذلك بيْن جميع المدارس الأمريكيَّة في الإمبراطورية العثمانية وإيران، إذْ هي التي تُهيِّئ المدرِّسين المبشِّرين للمدارس الأمريكية المنثورة في الشَّرْق الأدنى كله.

ويقول ستيفن بنروز: ومع ذلك فإنَّ الجامعة الأمريكية كانت - ولا تزال - مؤسَّسةً تبشيرية، ويقول: إنَّ الغاية القُصوَى للكلية السورية الإنجيليَّة (الجامعة الأمريكية) أن تحتضِنَ التبشير المسيحي، وتبذرَ بذور الحقيقة الإنجيليَّة، وعلى هذا الأساس ذهَب دانيال بلس إلى أمريكا؛ ليثيرَ رغبةَ الجمهور المسيحي، لمحاولةِ تأسيس معْهد أدبي يعمل على نشْر الإرساليات البُروتسْتانتية والمدنية المسيحية في سورية، والأقطارِ المجاوِرة.

ولنتأمَّل جيِّدًا عبارة: "والأقطار المجاورة"، ماذا تعني؟ وأين تبتدئ؟ وكيف تنتهي؟ وعسَى أن يَفتَح المسلمون عيونَهم جيدًا؛ ليدركوا ماذا يُراد بهم وبدِينهم وتراثهم.

 ولا يُخفِي المبشِّرون أنهم وجدوا في التعليم أثمنَ فرصةٍ، وأرحب مجالٍ لبثِّ عقيدتهم؛ يقول بنروز - رئيس الجامعة الأمريكية في بيروت -: إنَّ المبشِّرين يُمكِن أن يكونوا قد خابوا في هدفِهم المباشِر، وهو تنصيرُ المسلمين جماعاتٍ، إلا أنَّهم قد أحْدَثوا آثارَ نهضة.

 لقد برهَن التعليم على أنَّه أثمن الوسائل التي استطاع المبشِّرون أن يلجؤوا إليها في سعيهم لتنصيرِ سورية ولبنان، وغيرهما، وقد وجد المبشِّرون في الطلاب خاماتٍ لَدِنةً، قابلةً للتوجيه والتأثُّر بما يلقيه إليهم أساتذتُهم، وفضلاً عن ذلك، فقد حرَص المبشِّرون على أن يُهيِّئوا الأجواءَ المناسبة لطبعِهم بهذا الطابع.

يقول المبشِّر هنري جسب: إنَّ المدارس شرطٌ أساسي لنجاح التبشير، وهي بعدَ هذا واسطةٌ لا غاية في نفسِها، لقد كانتِ المدارس تُسمَّى بالإضافة إلى التبشير (دق الإسفين)، وكانتْ على الحقيقة كذلك في إدْخال الإنجيل إلى مناطقَ كثيرة، لم يكن بالإمكان أن يصِلَ إليها الإنجيل أو المبشِّرون من طريقٍ آخَرَ.

ويقول المبشِّر دانبي: كان التعليمُ وسيلةً قيِّمةً إلى طبْع معرفة تتعلَّق بالعقيدة المسيحيَّة، والعبادة المسيحيَّة في نفوس الطلاب، ويقول: إنَّ المدارس التبشيريَّة تحاول أن تنقُلَ الطلاب إلى جوِّها الخاص، وتُهيِّئ لهم جوًّا مسيحيًّا، وتحملهم فيه على ممارسةِ التقوى المسيحيَّة، والسلوك المسيحي، وخصوصًا ما دام الطالِبُ طفلاً، وهكذا ينشأ الطالِب، وتنشأ معه فلسفةٌ مسيحيَّة للحياة.

ويقول: إنَّ التعليم في مدارسِ الإرساليات المسيحيَّة، إنما هو واسطةٌ إلى غاية فقط، هذه الغاية هي قيادةُ الناس إلى المسيح، وتعليمهم حتى يُصبِحوا أفرادًا مسيحيِّين، وشعوبًا مسيحيَّة.

وهذا الذي يُردِّده المبشِّر جسب، هو نفس الواقع، وقد قاله كثيرون، وهم يؤكِّدون أنَّه أتى بنتائجَ تَسُرُّ المسيحيِّين، كما أنهم يُعطُون الأطفال عنايةً خاصَّة.

ويقول المبشِّر جون موت: يجب أن نؤكِّدَ في جميع ميادينِ التبشير جانبَ العمل بيْن الصِّغار وللصغار، وبينما يبدو مثلُ هذا العمل وكأنَّه غيرية، ترانا مقتنعِين لأسبابٍ مختلفة بأنْ نجعله عمدةَ عملنا في البلاد الإسلامية، إنَّ الأثر المفسِد في الإسلام يبدأ باكرًا جدًّا؛ مِن أجل ذلك يجب المبادرةُ قبل أن تأخذَ طبائعهم أشكالَها الإسلامية، إنَّ اختبار الإرسالياتِ في الجزائر فيما يتعلَّقُ بهذا الأمر، وكما ظَهَر مِن بحوث مؤتمر شَمالي إفريقيا اختبارٌ جديد ومقنِع... وهكذا نجد أنَّ وجود التعليم في يد المسيحيِّين لا يزال وسيلةً من أحْسنِ الوسائل للوصولِ إلى المسلمين.

ويقول المبشِّر تآكلي: يجب أن نشجِّع إنشاءَ المدارس، وأن نشجِّع على الأخصِّ التعليمَ الغربي، إنَّ كثيرين مِن المسلمين قد زُعْزِع اعتقادُهم حينما تعلَّموا اللغة الإنجليزية، إنَّ الكتب المدرسية الغربية تجعل الاعتقادَ بكِتاب شرقي مقدَّس أمرًا صعبًا جدًّا[6].

ولم يقتصرْ دَوْر المبشِّرين على نوْع من التعليم، أو التدريب، أو المجتمعات، ففي ميدان الكشافة والرياضة كان للمبشِّرين صولات وجولات، وبيْن العُمَّال والطبقات، الغنية والفقيرة والمتوسطة، وهكذا يَلِجُون كلَّ ميدان.

 المستشرقون والمبشرون في المجامع اللُّغوية والعِلمية:

لم يكتفِ المبشِّرون أن يكون عملُهم محصورًا في ناحية دون أُخرى، والغرض واضحٌ، وهو تحويل المجتمعات الإسلاميَّة إلى مجتمعاتٍ مسيحيَّة، والاستعاضة بالعقيدة النصرانية والحياة المسيحية، بدلاً من دِين الإسلام وعقيدةِ التوحيد والحياة الإسلامية النقيَّة؛ ولذا فقد اقْتحم المبشِّرون المجامِعَ اللُّغوية والعِلمية بزعم أنَّهم يحبُّون البحْث والمناقشة، وإظهار العلوم وإشاعتها بيْن الناس، فهذا:

1- هـ.ا.ر. جب المستشرِق الإنكليزي، كان عضوًا بالمجْمع اللُّغوي بمصر.

2- لوي ماسنيون المستشِّرق الفَرَنسي، كان عضوًا في المجْمع اللُّغوي بمصر، والمجْمع العلمي العربي بدمشق.

3- د.س. مرجوليوث الإنكليزي المتعصِّب، كان عضوًا بالمجْمعَيْن السالفي الذِّكْر.

4- ر.ا. نيكولسون مستشِرق إنكليزي، كان عضوًا بالمجْمع اللُّغوي بمصر.

5- جريفني الإيطالي، كان عضوًا بالمجْمع العِلمي بدمشق.

6- جوتهيل من كولومبيا، كان عضوًا بالمجْمع العِلمي.

7- جي سوا الفَرَنسي، كان عضوًا بالمجْمع العلمي.

8- نلينوا الإيطالي، كان عضوًا بالمجْمع العلمي.

9- هارتمان، ألْماني الأصْل، كان عضوًا بالمجْمع العلمي.

10- هوتمان الهولندي، كان عضوًا بالمجْمع العلمي.

ويغلب على هؤلاء تعصُّبُهم الشديد ضدَّ الإسلام، واشتهارهم بالكتابات المعادية للإسلام[7]، لقد كانتْ للمستعمرين والمبشِّرين أهدافٌ منوَّعة، فهُم يريدون القضاءَ على الإسلام؛ لتنتشرَ المسيحيَّة، ويزول الإسلام عن منافستها - في زعْمهم - لأنَّه أشدُّ مقاومة، وأمكن في النفوس، وأسهل في القَبول مِن غيرِه مِن الدِّيانات والمذاهب.

يقول المستشرق لورانس براون: إنَّ الخطر الحقيقي يكمُن في نِظام الإسلام، وفي قدرة هذا الدِّين على التوسُّع والإخضاع، وفي حيويته، إنَّه الجدارُ الوحيد في وجه الاستعمار الأوربي.

ويقول المستشرِق الألْماني بيكر: إنَّ هناك عداءً من النصرانية للإسلام؛ بسبب أنَّ الإسلام عندما انتشَر في العصور الوُسطى أقام سدًّا منيعًا في وجهِ الاستعمار، وانتشار النصرانية، ثم امتدَّ إلى البلاد التي كانتْ خاضعةً لصولجانها.

وها هو البابا يوحنَّا الثالث والعِشرون، يعمل على عقْد مؤتمر مسيحي يضمُّ أحبارَ النصارى ورؤساءَهم الدِّينيِّين على اختلاف مذاهبهم ونِحَلهم، ومِن أهداف هذا المؤتمر مكافحةُ انتشار الإسلام في آسيا وإفريقيا وأمريكا الشمالية انتشارًا مِن شأنه أن يُهدِّد الفِكرةَ الصليبيَّة، ويُثبِّط دعواتِ المحبَّة التي تقوم بها رسلُ الكنيسة.

ومع جهود الكنيسة في تنصير المسلمين، ومحاولة وقْف المدِّ الإسلامي، كان النصارى أنفسُهم يعترفون بصَلابة الإسلام، وسُهولة قَبُول الناس له؛ يقول مؤلف كتاب "إفريقيا الجديدة" - وهو صحفي أمريكي -: فإنَّ المسيحيَّة لم تُفلِحْ قطُّ في مقاومة الإسلام بالقارَّة، وإنَّما كان العائق الوحيدُ الذي حال بيْن دِين النبيِّ وبيْن الانتشار فيها، هو عائق التسي تسي - أو ذبابة مرَض النوم - إذ كان الإسلامُ ينتشر دائمًا على أيدي فرسان الصحراء، وكانتِ الخيل عرضةً للإصابة بأذَى تلك الذبابة، وليس لها عملٌ غالِب في أقاليم الغابات[8].


 حقد المبشرين على القرآن:

لقد عرَف المبشِّرون والمستعمِرون أنَّ القرآن يحتلُّ في نفوس المسلمين أسْمى مكانة، وأعْلى منزلة، وأنهم يرخصون النفْسَ والنفيسَ دونه، ورأَى المبشِّرون أنَّ أكبرَ عقبةٍ تصادفهم هو القرآن، فحاولوا - عبثًا - أن ينزعوا القرآنَ مِن قلوب الناس، ويُبعِدوه عن أيديهم، ولكنَّ جهودهم ذهبتْ أدراج الرياح:

كَنَاطِحٍ صَخْرَةً يَوْمًا لِيُوهِنَهَا = فَلَمْ يَضِرْهَا وَأَوْهَى قَرْنَهُ الْوَعِلُ

لقد تكفَّل الله بحِفْظ هذا القرآن، وإذا علِمْنا ما يتمنَّاه المبشِّرون من أحلام سخيفة، فإنَّ ذلك لن يَزيدنا إلا تمسكًا وثِقةً بأنَّ هذه التخرُّصات لا قيمةَ لها، وأنَّ ما يدَّعونه من مطاعنَ في القرآن والرسول، إنما هي بدافعِ الجهلِ والتعصُّب.

يقول وليم جيفورد: متى توارَى القرآن ومدينة مكَّة عن بلادِ العَرَب، يمكننا حينئذٍ أن نرى العربي يتدرَّج في سبيل حضارتنا، التي لم يُبعدْها عنه إلا محمَّدٌ وكتابُه.

ويقول المبشِّر جون تآكلي عن المسلمين: يجب أن نستخدمَ كتابهم - يعني: القرآن - وهو أمْضى سلاح في الإسلام ضدَّ الإسلام نفسه؛ لنقضيَ عليه تمامًا، يجب أن نُرِي هؤلاء الناس أنَّ الصحيح في القرآن ليس جديدًا، وأنَّ الجديد فيه ليس صحيحًا.

ويقول المبشر الأمريكي جسب: إنَّ الإسلام مبنيٌّ على الأحاديث أكثرَ مما هو مبنيٌّ على القرآن، ولكنَّنا إذا حذفْنا الأحاديث الكاذِبة لم يبقَ من الإسلام شيء!

ويقول ف.ج.هاربر: إنَّ محمدًا كان في الحقيقة عابدَ أصنام؛ ذلك لأنَّ إدراكه لله في الواقع (كاريكاتور)!

ويقول المستشرق اليهودي جولد تسيهر: ومِن العسير أن نستخلصَ من القرآن نفسه مذهبًا عقديًّا موحدًا متجانسًا، وخاليًا مِن المتناقضات، ولم يصلْنا من المعارف الدِّينيَّة الأكثر أهميةً وخطرًا إلا آثارٌ عامَّة، نجد فيها إذا بحثْنا في تفاصيلها أحيانًا تعاليمَ متناقضة، ورسالة النبيِّ الدِّينية تنعكس في رُوحه بألوانٍ مختلفة باختلاف الاستعدادات السائِدة في نفسه؛ إذ كان لزامًا على عِلم الكلام المنسَّق أن يتولَّى منذ أوَّل الأمْر حَلَّ الصعوبات النظريَّة الناشِئة عن مِثْل هذه المتناقضات.

ويقول المبشر صمويل زويمر في كتابه "بلاد العرب مهد الإسلام": إنَّ الشَّهْد لم يزل معدودًا كالترياق في بلادِ العرَب استنادًا إلى القرآن والحديث، وقد كانتِ الإشارة الوحيدة إلى الطِّبِّ في وحي محمَّد هذه الكلمة الغبيَّة التي يقول فيها عن النَّحْل: إنَّه ﴿يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: 69]، وقد كان هذا هو العلاجَ الوحيد الذي وصفَه الله في كتابه.

ويتمادَى المبشرون في تلفيقاتهم وسخريتهم وطعْنهم في القرآن والرسول، وفي المسلمين على مرِّ التاريخ.

يقول المنسنيور كولي في كتابه "البحث عن الدِّين الحقيقي" المطبوع سنة 1928م، عن الدِّين الإسلامي: في القرن السابع برَزَ في الشَّرْق عدوٌّ جديد، ذلك هو الإسلام الذي أُسِّس على القوَّة، وقام على أشدِّ أنواع التعصُّب، لقد وضَع محمَّد السيف في أيدي الذين اتَّبعوه، وتساهَل حتى في أقْدس الأخلاق، ثم سمَح لأتباعه بالفجور والسَّلْب، ووعَد الذين يَهلِكون في القتال بالاستمتاع الدائم بالملذَّات في الجنة، وبعدَ قليل أصبحتْ آسيا الصغرى وإفريقيا وإسبانيا فريسةً له، حتى إيطاليا هدَّدها الخطر، وتناول الاجتياحُ جنوبَ فرنسا، لقد أصبحتِ المدنيَّة مصابةً، ولكن هياج هؤلاء الأتباع (المسلمين) تناول في الأكثرِ كِلابَ النصارى، ولكن انظر ها هي النصرانيةُ تضع بسيف شارل مارتل سدًّا عنيفًا في وجه الإسلام المنتَصِر عندَ بواتيه سنة 752م، ثم تعمل الحروب الصليبيَّة في مدى قرنين (1019 - 1254) في سبيل الدِّين، فتُدجِّج أوربا بالسلاح، وتُنجي النصرانية، وهكذا تقهقرتْ قوة الهلال أمامَ راية الصليب، وانتصر الإنجيلُ على القرآن، وعلى ما فيه من قوانين الأخلاق الساذجة[9].

ومِن الغريب أنَّ هذا الكتاب يُدرَّس في المدارس المسيحية، وهو بهذا البذاء والافتراء!

 كان للمستعمرين الصليبيِّين أهدافٌ عديدةٌ في إضْعاف الإسلام، وتفتيت قوَّة المسلمين، فالتعصُّب الحاقِد كان له دَوْر فعَّال ولا شكَّ، وكان للرهبان والقُسس والمبشِّرين النصارى أثرٌ في إذْكاء نار العداء الصَّليبي للإسلام.

والمطامِع الاستعماريَّة، والإجهاز على بلادِ الإسلام لنهْب خيراتها، والاستئثار بثرواتها، كانت هي الأخرى لها دَوْرٌ مهِمٌّ في هذا الصَّدد، ومحاولة صبْغ البلاد الإسلامية بالصِّبغة الغربية، وذوبانها فيها، وقطع كلِّ صِلة لها بدِينها ولُغتها، ممَّا حرَص عليه المستعمرون.

فهي أغراضٌ مزدوجة، وفي الأمثلة التالية ما يجلو ذلك تمامًا:

إنَّ التعصُّب الصليبي قد اتَّخذ أشكالاً عديدة، منها - عدَا ما أسلفنا -:

تركيز السلطة في أيدي النصارى في البلاد المستعمَرة، وجعْلهم أصحابَ النفوذ، حتى في البلدان التي أغلبيتها مسلِمون، ووضْع قوانين تُناقِض الإسلام، وتُثبت السلطة في أيدي النصارى، ولا يختلف الصليبيُّون في هذه الناحية، سواء كانوا (كاثوليك أو بروتستانت أو أرثوذكس).

في السِّنغال جعَل المستعمِرون رئاسةَ الجمهورية بيدِ مسيحي، مع أنَّ 90 بالمائة من السكَّان مسلِمون!

وفي لبنان ركَّز الفَرَنسيُّون السلطةَ في يدِ رئيس الجمهورية، ووضعوا في الدستور اللبناني أنَّ رئيس الجمهورية مسيحي، مع أنَّ 60 بالمائة من السكَّان مسلِمون!

وفي نيجيريا - والمسلِمون يشكِّلون 37 مليونًا، نحو 70 بالمائة من السكَّان - جعلتْ رِئاسة الجمهورية بيدِ مسيحي[10]!

وفي غانة - والمسلِمون يشكلون نصفَ السكَّان - رئيس الدولة مسيحي.

ولا يقتصر التعصُّب المسيحي على هذا!

وكلُّ ذلك بمكايد الاستعمار الصَّليبي، وخططه المخرِّبة، ولا يقتصر التعصُّب المسيحي على هذا، بل إنَّ الدول الغربية تمزِّق بلادَ الإسلام إربًا، مع اقتطاع أجزاء من كلِّ قطر عربي وإسلامي لتضمَّه إلى دول نصرانية، وإذا لم يكن بجوار تلك الدولة بلدٌ مسيحي فهم مستعدُّون أن يُقطِّعوا أوصال الدولة الإسلامية، ولو بإعطائها لدولةٍ غير مسيحية؛ حتى يثيروا المشاكلَ في وجه البلاد الإسلامية، وحتى يضعفَ شأنُ المسلمين ويتمزَّقوا أشلاءً.

في باكستان اقتطعوا جامو وكشمير، وفي الصومال اقتطعوا أجزاءً وزَّعوها بيْن كينيا والحبشة النصرانيتَين، كما ضموا إلى الحبشة أريتريا المسلِمة، بل إنَّ التعصب يبلغ مداه عندما يؤيِّد الغربيُّون كلَّ مناوئٍ للمسلمين، ويضحُّون بصداقة الدول الإسلامية، ويقِفون إلى جانب المخالِفين والمعتدين.

كانتْ باكستان ترتبط مع الغرْب ارتباطاتٍ قوية، وعندما نشَب الخلافُ بينها وبيْن حكومة الهند حولَ كشمير الإسلامية، وقفتِ الدول الغربية إلى جانبِ الهند، وأمدتْها بالأسلحة والمعونات، بينما منَعَتْ هذه الأشياءَ عن باكستان، فما معنى هذا وما تفسيرُه؟!

وفي قُبرص يؤيِّد الغربيُّون (مكاريوس) في اضطهادِ المسلمين، ومنْع الغِذاء والكساء والماء مِن الوصول إليهم، ولا يَكتَرِثون لارتباطات تركيا في السُّوق الأوربية وحِلْف الأطلسي، وغيرهما.

ويُعلِن الغربيُّون تأييدَهم لليونانيِّين، كما يقوم الغربيُّون بتأييد الشيوعيِّين ضدَّ المسلمين، وفي زنجبار عندما جرَتِ المذابح الوحشية، وقُتِل من العرب المسلمين أكثرُ من عشرة آلاف شخصٍ، وسُجِن الكثيرون وشرِّدوا، كانتْ دول الغرب مسرورةً لما يجري، راضيةً به، ولم تنزعجْ مثلَ انزعاجها في كوبا عندَما أقام الشيوعيُّون دولةً لهم في بلدٍ مسيحي!

ومن التعصُّب الصليبي: تقويضُ دعائمِ الحُكم الإسلامي، وعمِل المؤامرات ضدَّ الدول التي تهتمُّ بنشْر الإسلام، وفي نيجيريا مثَل قريب لمَن أراد أن يعتبِر، بل إنَّ الدول الغربية الصليبيَّة تحاول تركيزَ السلطة السياسية في أيدي القَساوسة والمبشِّرين، فرئيس جمهورية قبرص قِسِّيس متعصِّب، ورئيس الدولة في الحبشة مسيحي متعصِّب، ترْعى حكومته الكنيسة الإفريقية، وتُذيع صوتَ الإنجيل، وتُصْلِي المسلمين - الأكثرية - صنوفَ العذاب، والتنكيل والإبادة، هذا مع أنَّ نسبة المسلمين فيها حوالي 65 بالمائة، وإنْ كانوا في نظَر الحكومة خارجين على القانون، يجب أن يعودوا إلى النصرانيَّة - في زعمها!

ومن الطرق الشريرة التي اتَّبعها المستعمرون الصليبيون في بلادِ المسلمين: إلْغاء المحاكِم الشَّرْعية، والاستعاضة عنها بمحاكمَ مدنيَّة تحكُم بالقوانين الغربية، كما سعَوْا لإلْغاء الأوقاف؛ إمعانًا في تعطيل المساجِد وأعمال البِر، وعطَّلوا الإفتاءَ؛ حتى لا يعرفَ الناسُ أحكامَ الشريعة الإسلامية، وقد اشترطوا على بعض البلدان الإسلامية المستعمَرة أن تقومَ حكومتُها الوطنية بتنفيذ هذه الخططِ؛ حتى يحصلوا على الاستقلالِ السياسي.

ومِن المؤسِف أنَّ بعض هذه البلدان قد رضَخَتْ لإرادة المستعمِرين، ونفذت مخططاتِهم جُبنًا أمام المستعمِر، وجهلاً بالدِّين، وعدم إدراكٍ للنتائج الوخيمة التي ترتَّبتْ على هذه الأعمال في بلدان عديدة، وعندما انهزمتْ تركيا بعدَ قِتالٍ مرير مع الدول الصليبيَّة كانت شروطُ المستعمرين الصليبيِّين كلها منصبَّةً على حرْب الإسلام، وها هي الشروط:

1- إلْغاء الخِلافة الإسلامية نهائيًّا من تركيا.

2- أن تقْطَع تركيا كلَّ صِلة مع الإسلام.

3- أن تضمنَ تركيا تجميدَ وشلَّ حركة جميع العناصر الإسلامية الباقية في تركيا.

4- أن يستبدلوا بالدستور العثماني القائم على الإسلام دستورًا مدنيًّا بحتًا.

ولم ترْضَ بريطانيا أنْ توقفَ الحرْب مع تركيا إلا بعْدَ أن قَبِل مصطفى كمال أتاتورك، وعصمت إينونو ورفاقُهما، هذه الشروطَ المجحِفة[11].

 الاستعمار والمبشِّرون والحرب الصليبية:

يَعتبِر المبشِّرون أنفسَهم يخدُمون النصرانية بما يُمكِّنون لها من ترسيخٍ في أنحاء العالَم، ولا سيَّما في العالَم الإسلامي، وينظرون للحروب بيْن المسلمين والمستعمِرين على أنَّها امتداد للحُروب الصليبيَّة أيَّام صلاح الدِّين، وريتشارد قلْب الأسَد، وهذا ما يفسِّر الأعمالَ الوحشيةَ التي يرتكبونها ضدَّ المسلمين في البلاد المستعمَرة؛ يقول اللورد اللنبي - قائد الحملة على فلسطين - بعدَ أن استولى على القدس: اليوم انتهتِ الحروب الصليبيَّة، وعادت القُدس لأحضاننا.

وهذه عقليةُ المستعمِرين التي جاؤوا بها يجرُّون أساطيلَهم وجيوشَهم إلى بلاد المسلمين؛ يقول غاردنر: لقد خاب الصليبيُّون في انتِزاع القُدس من أيدي المسلِمين؛ ليقيموا دولةً مسيحيَّة في قلْب العالَم الإسلامي، والحروب الصليبية لم تكن لإنقاذِ هذه المدينة بقَدْر ما كانتْ لتدمير الإسلام.

 ويقول اليَسوعيُّون في بيان لهم: ألَمْ نكُنْ نحن ورثة الصليبيِّين؟ أوَلَمْ نرجع تحت رايةِ الصليب؛ لنستأنفَ التسرُّبَ التبشيري، والتمدُّن المسيحي، ولنعيدَ في ظلِّ العَلَم الفَرَنسي وباسم الكنيسة مملكةَ المسيح؟!

وما داموا ورثة أولئك الصليبيِّين، فمِن حقِّهم على هذا المنطق المعكوس أن يستعمِروا بلادَ المسلمين باسم الكنيسة، وتحتَ ظلِّ العلم الفرنسي (وكلُّهم في الهوى سواء).

يقول المؤرِّخ جيبون عن المؤرِّخ فلوري في خِطابه السادس في تاريخ الكنيسة: إنَّ المسلمين كانوا - ويجِب أن يظلُّوا - في نظَر رَعاياهم من المسيحيِّين، ومِن الغرْب مغتصِبين، وعلى المسيحي شرعًا وقانونًا أن يسلبَهم ما يمتلكون من سُلطان وأموال؛ لأنَّ ما وصَل إلى أيديهم مِن ذلك كله جاء بطريق الاغْتصاب غير المشروع، وعلى الغَرْب أن ينتزعَ هذا الحقَّ المغتصَب بالحرْب، ويعاون في ذلك المسيحي الشرقي بالثورة الداخلية على الحكَّام المسلمين.

والنَّغمة التي يتغنَّى بها المستعمِرون الصليبيُّون يعزف عليها ويعمل وَفقَ مخطَّطها ركائزُهم وتلاميذهم، خطَب بعضُهم في الكونجرس الأمريكي سنة 1954، فقال: إنَّ أهمَّ الأهداف التي نسعَى إليها هو توحيدُ الدِّين واللُّغة في بلادنا، وبدون ذلك لا يمكن أن نحقِّق شيئًا من التقدُّم، وقد سُئِل عن عددٍ المسلمين في بلاده، فقال: نعَمْ توجد أقليَّة مسلِمة في الجنوب في هرر، وقد وضعْنا لهم برنامجًا منذ اثني عشر عامًا، فلا يمضي وقتٌ قصير إلا وعادتْ إلى حظيرة دين آبائها[12].

هكذا يَبلُغون في غمْط الحق، وإنْكار أبسط القواعِد الأساسية، ويضرِبون بالقرارات الدولية، والمواثيق والعهود، عُرْضَ الحائط أمامَ سمْع العالَم وبصره، وأيُّ حق في نظر هؤلاء للمسلمين؟! وأيُّ شيء يستحقُّون من أجْله الحياة عند أولئك المتعصِّبين الحاقدين؟ وهذا خِطاب يفسِّر أشياءَ كثيرة.

ولِمَا له من الأهميَّة في جلاء الأهداف التبشيريَّة الاستعمارية؛ أوْردناه هنا:

يقول القس زويمر في المؤتمر المسيحي الذي انعقَد بالقُدس إبَّان الاحتلال البريطاني: أيُّها الإخوان الأبطال، والإخوان الذين كتَب الله لهم الجِهادَ في سبيل المسيحيَّة، واستعمارها لبلادِ الإسلام، فأحاطتْهم عنايةُ الربِّ بالتوفيق الجليل المقدَّس، لقدْ أديتم الرِّسالة التي أُنِيطت بكم أحسنَ أداء، ووُفِّقتم لها أسْمَى التوفيق، وإنْ كان يخيَّل إليَّ أنَّه مع إتْمامكم العملَ على أكمل الوجوه لم يَفْطَنْ بعضُكم إلى الغاية الأساسية منه، إنني أُقرُّكم على أنَّ الذين دخلوا من المسلمين في حظيرة المسيحيَّة لم يكونوا مسلِمين حقيقيِّين، لقد كانوا - كما قلتم - أحدَ ثلاثة: إمَّا صغير لم يكن له مِن أهله مَن يُعرِّفه ما هو الإسلام، أو رجل مستخِفٌّ بالأديان لا يبغي غيرَ الحصول على قُوتِه، وقد اشتدَّ به الفقر، وعزَّتْ عليه لُقمة العيش، وآخَر يبغي الوصولَ إلى غايةٍ من الغايات الشخصيَّة.

ولكن مهمَّة التبشير التي ندبَتْكُم دول المسيحيَّة للقيام بها في البلاد المحمديَّة ليستْ في إدْخال المسلمين في المسيحيَّة، فإنَّ في هذا هدايةً لهم وتكريمًا [كذا!]؛ وإنما مهمَّتكم أن تُخرِجوا المسلِم من الإسلام؛ ليصبحَ مخلوقًا لا صِلةَ له بالله، وبالتالي فلا صِلةَ تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأُممُ في حياتها، وبذلك تكونون أنتم بعمَلِكم هذا طليعةَ الفتح الاستعماري في الممالِك الإسلامية، وهذا ما قُمتُم به خلالَ الأعوام المائة السالِفة خيرَ قيام، وهذا ما أُهنِّئكم عليه، وتُهنِّئكم دولُ المسيحيَّة والمسيحيُّون جميعًا كلَّ التهنئة.

 لقد قبَضْنا - أيُّها الإخوان - في هذه الحِقْبة من الدهر مِن ثُلُث القرن التاسعَ عشَرَ إلى يومِنا هذا على جميعِ برامج التعليم في الممالِك الإسلامية، ونشَرْنا في تلك الربوع مكامِنَ التبشير، والكنائس والجمعيات، والمدارس المسيحيَّة الكثيرة، التي تُهَيمن عليها الدولُ الأوروبية والأمريكيَّة، والفضْل إليكم وحدَكم.

أيُّها الزملاء، إنَّكم أعددتُم بوسائلكم جميعَ العقول في الممالِك الإسلامية إلى قَبول السَّيْر في الطريق الذي مهدتُم له كلَّ التمهيد، إنكم أعددتم شبابًا في دِيار المسلمين لا يَعرِف الصلة بالله، ولا يريد أن يعرفَها، وأخرجتُم المسلِمَ من الإسلام ولم تُدخِلوه في المسيحيَّة، وبالتالي جاء النشءُ الإسلامي طبقًا لما أراده له الاستعمارُ؛ لا يهتمُّ للعظائم، ويحبُّ الراحة والكسَل، ولا يعرف هِمَّةً في دنياه إلا في الشَّهَوات، فإذا تعلَّم فللشهوات، وإذا جمَع المال فللشهوات، وإنْ تبوَّأ أسمى المراكز، ففي سبيلِ الشهوات يجود بكلِّ شيء.

 إنَّ مهمَّتَكم تمَّتْ على أكملِ الوجوه، وانتهيتُم إلى خير النتائج، وباركتْكُم المسيحيَّة، ورضِي عنكم الاستعمارُ، فاستمرُّوا في أداء رِسالتكم، فقد أصبحتُم بفَضْل جهادكم المبارَك موضعَ بركاتِ الرب[13].

تلامذة المبشِّرين والمستشرقين:

ومِن الدسائس التي حاكَها المستعمِرون حقدًا على الإسلام: تشجيعُ العامية، والكِتابة بالحروف اللاَّتينية، وتشويهُ التاريخ الإسلامي، ونشْر المجون والخَلاعة، وقد وجَدَ المستعمِر أعوانًا له يجمعهم معه الحِقدُ على الإسلام، والبُغض لتراثه الحافِل، فجُرجي زيدان وسعيد عقل، وسلامة موسى وإحسان عبدالقدوس، كلُّ أولئك قد أدَّوْا خِدماتٍ للمستعمر، وإن تنوَّعتِ الخدمات، وتباينت الصفات، وطه حسين في تشكيكاته في الشِّعر الجاهلي، وعبدالله القصيمي في أغلاله والعالم، ليس عقلاً[14]، قد كانَا مما أسهَم في تنفيذ رغبة المستعمرين بما بثَّاه من سمومٍ شَعرَا أم لم يَشعُرَا، وهناك طابورٌ طويل ألْمَحْنا إلى مثال منه.


 المبشِّرون والمستشرِقون يُشوِّهون الوقائع:

وقد يكون مِنَ السهل أن يُنصِف الغربيُّون في مؤلَّفاتهم وصحافتهم كلَّ الطوائف، ويَتجرَّدوا من الأغراض السيِّئة، وإنَّ هذا يحدُث كثيرًا، ولكن الأمر يختلِف بالنسبة للإسلام والمسلمين فِيما يكتبونه عنهم، وهذا التعصُّبُ يدفعهم إلى قلْبِ الحقائق، وتشويهِ الوقائع، والتقليلِ مِن أهمية المسلمين، وإظهارهم بالمظهر المُزْري، وتَضخيم النقائص، وهذا واضحٌ لكلِّ مَن تأمَّل ما يكتبونه.

وإذا عُرِف السبب، بطَل العَجَب؛ يقول الأستاذ محمَّد أسد - الذي هداه الله للإسلام -: إنَّ كُرْهَ الأوربيين للإسلامِ كُرهٌ عميقُ الجذور، يقوم في الأكثرِ على التعصُّب الشديد، وهذا الكُره ليس عقليًّا فحسْبُ، ولكنَّه يصطبغ بصِبغة عاطفية شديدة، وقويَّة وعنيفة، وقد لا تتقبَّل أوربا تعاليمَ الفلسفة البُوذية أو الهندوسية مثلاً، ولكنَّها تحتفظ دائمًا فيما يتعلَّق بهذَيْن المذهبين بموقِف عقلي متَّزن، ورصين وحكيم، ومبنيٍّ على التفكير، وخلق الأعذار لأصحابِ هذه المذاهب الوثنية، إلاَّ إنَّهم حين يتَّجهون إلى الإسلام، يختَلُّ عندَهم التوازن، ويأخذُهم المَيْلُ العاطفي، حتى إنَّ أبرز المستشرقين جعَلوا من أنفسهم فريسةَ التحزب غيرِ العِلمي في كتاباتهم عن الإسلام، ويظهر في جميعِ بُحوثهم - على الأكثرِ - كما لو أنَّ الإسلام لا يُمكن أن يُعالَج على أنَّه موضوعُ بحث في البحْث العلمي، بل على أنَّه مُتَّهم يقِف أمامَ قُضاته!

 وهذا الذي يقوله الأستاذ محمَّد أسد، قد قاله كثيرٌ من الفاهِمين والسابرين لكتابات المستشرقين؛ يقول العقاد في كتابه "ما يقال عن الإسلام": فإنَّ هؤلاء المبشِّرين المنحرِفين مهَرةٌ في فنون الدعاية، مدرَّبون على تمويهِ الواقِع، وتلبيس الحقِّ بالباطل، فلا يَشُقُّ على عقولهم، ولا على ضمائرهم أن يَعرِضوا أحوالَ الأُمم الإسلامية على الصورة التي تُنفِرُّ الناس منها، ولا سيَّما المتعصِّبين المستعدِّين للنُّفرة، والراغبين في اختلاقِها، ولا نبالغ في التقدير إذا قُلنا: إنَّ تسعةَ أعشار المبشِّرين المحترِفين في العصْر الحاضر من هذا القبيل.

 ويقول الأستاذ العقاد في كتابه "ما يقال عن الإسلام" أيضًا: ويتَّصلُ بأمْر الدعوة كلُّ مبْحث يتناول صلاحَ الإسلام للشيوع والإقناع، وما يُنتظر مِن زيادة عددِ المسلمين في المستقبل، بمختلف الوسائل التي تَنتَشِر بها الأديان في سائرِ الأزمان، ولا يَخْفَى على قارئ يطَّلع على هذه المباحِث أنْ يُلاحظ نُفورَ أصحاب الإحصائيات مِن زيادة عددِ المسلمين، وإسراعهم إلى قَبُول التقديرات التي تَزيد في عددِ أبناء الممالِك من غير المسلمين، مع تحفُّظهم الشديد في قَبول التقديرات التي تُكثِّر من عدد الداخلين في الإسلام قديمًا وحديثًا، ولا يشذُّون عن هذه القاعِدة إلا إذا تَعمَّدوا التهويلَ والتنبيهَ إلى خطَرِ انتشار الإسلام في المستقبل، وضرورةِ المبادرة إلى اتِّخاذ الحَيْطة لهذا الخَطَر، بوسائلِ التبشير، والضغْط السِّياسي والاقتصادي؛ حيث يُستطاعُ الاعتماد على هذه الوسائل بغيْر الالْتجاء إلى المجاهَرَة بالعدوان، وممَّن لاحظ تلك الأخطاءَ المتعمَّدة في إحْصاء المسلمين الأميرُ شكيب أرسلان صاحِب التعليقات على كتاب "حاضِر العالَم الإسلامي".

ثم يقول الأستاذ العقَّاد: فلا مُبالغةَ إذا قدَّرْنا عددَ المسلمين في العالَم بأربعمائةٍ وخمسين مليونًا، وأيقنَّا على الدوام بأنَّ عددَهم يزيد في كلِّ حِقبة على كلِّ تقدير أوروبي يُذيعه الساسةُ والباحثون في شؤون الدعوات الدِّينيَّة، وإنَّ زيادةَ هذا العدد مستمرَّة، يقابلها أولئك الساسةُ والباحِثون بالحَذَر، ويذكرونها منذرِين لأقوامهم بما يستفزُّهم إلى الحَيْطة، ومقاومةِ هذا الازديادِ المستمر؛ حيث تُستطاعُ المقاومة في الخفَاءِ، وفي العلانية إنْ لم يكن لهم بُدٌّ منها.

 والأستاذ العقَّاد مِن أعلم الناس بالمبشِّرين والمستعمِرين، ومِن أكثرهم اطِّلاعًا وخبرة، وهو بَعْدُ ليس معاديًا للغرْب لمجرَّد العداء، وليس له ميولٌ شيوعيَّة حتى يُقال: إنَّه يتحامَل على الدُّول المسيحيَّة، بل إنَّه من أشدِّ الناس عداءً للشيوعية وحرْبًا عليها، ولكنَّ العقَّاد قال الحقيقة التي قالها غيرُه من ذوي الخِبرة بحال المستعمرين.

 يقول الدكتورُ عمر فروخ، ومصطفى الخالدي في كتابهما "التبشير والاستعمار في البلاد العربية": ومن المبشِّرين نَفَرٌ يشتغلون بالآداب العربيَّة، والعلوم الإسلاميَّة، أو يستخدمون غيرَهم في سبيل ذلك، ثم يدْفعون هؤلاء إلى أن يُوازِنوا بيْن الآداب العربية والآداب الأجنبية، أو بيْن العلوم الإسلامية والعلوم الغربية، التي يعتبرونها نصرانيَّةً؛ لأنَّ أُمم الغرب تَدين بالنصرانية؛ ليخرجوا دائمًا بتفضيلِ الآداب الغربيَّة على الآداب العربية والإسلاميَّة، وبالتالي إلى أبرز نواحِي النشاط الثقافي في الغرْب، وتفضيلها على أمثالِها في تاريخ العرب والإسلام، وما غايتُهم من ذلك إلا خلق تخاذُل روحي، وشعور بالنقْص في نفوس الشرقيِّين، وحمْلهم من هذا الطريق على الرِّضا بالخُضوع للمدنيَّة المادية الغربيَّة.

الطب والتبشير:

ومِن المجالات الرَّحْبة التي عمِل فيها المبشِّرون: مجالاتُ التطبيب، فقد وجدوا في العِلاج وسيلةً كبيرةً للدعاية للنصرانية، وأقاموا المستشفياتِ والمستوصفات، وهيَّؤوا الأطباءَ والممرِّضات للقِيام بهذه المهمَّات.

وهم في التطبيبِ كغيرِه من أنواعِ التبشير، يجعلون المسلمين هدفَهم الرئيسي، ويَسْعَوْن إلى هذه الغايات، ويَبذلون الأموالَ الطائِلة، ويُوزِّعون الكتبَ الكثيرة والنشرات، وتمدُّهم بالمالِ المؤسَّساتُ الأهلية والحكومية، ويقوم المبشِّرون من طوائفِ النصارى المختلفة بأدوارٍ خطيرة، فالكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت كلُّهم يهْرعون على أمَل أن يُحقِّقوا بغيتَهم.

يقول الطبيب المبشِّر بول هاريسون في كتاب "الطبيب في بلاد العرب": إنَّ المبشِّر لا يرضَى عن إنْشاء مستشفى ولو بلغَتْ منافِعُ ذلك المستشفى منطقة (عمان) بأسْرِها، لقد وُجِدْنا نحن في بلاد العرب؛ لنجعلَ رِجالَها ونساءَها نصارى.

ويقول س موريسون في "مجلة العالم الإسلامي": إنَّ مهمَّتَنا بيْن المرضى الخارجيِّين في المستشفيات أن نأتيَ بهم إلى المعرفة المنقِذة؛ معرفةِ ربِّنا يسوع المسيح، وأن نُدخِلهم أعضاءً عاملين في الكنيسة المسيحيَّة الحية.

وتقول ايراهاريس - تَنصَح الطبيب الذاهب بمهمَّة تبشيرية -: يجب أن تنتهزَ الفُرَص؛ لتصلَ إلى آذانِ المسلمين وقلوبِهم، فتكرز لهم بالإنجيل، إيَّاك أن تُضيِّعَ وقتك في التطبيب والمستوصفات، فإنَّه أثمنُ تلك الفرص على الإطلاق، ولعلَّ الشيطان يريد أن يَفْتِنَك فيقول لك: إنَّ واجبك التطبيب فقط، لا التبشير، فلا تسمعْ منه.

 إذًا فالطِبُّ والتبشير في رأي المبشِّرين صِنوانِ لا يفترقانِ، ويمثِّلان الواسطةَ والغاية، والتمريض كالرَّهْبنة ليسَا مقتصرَيْن على التعبُّد وخِدمة المرْضى، ولكن تلقين التعاليم النصرانيَّة هو الأساس، وما عداه فأمرٌ ثانوي.

أصدر اليسوعيُّون في بيروت عام 1931 كتابَهم المِئوي، وجاء فيه: إنَّ الأخوات لَسْنَ راهبات معلِّمات فقط، ولكنهنَّ أيضًا راهباتٌ مبشِّرات، إنهنَّ في كلِّ مكان يُوجَدْنَ فيه، يَعْملْنَ إلى جانب عملهنَّ التعليمي أعمالاً تبشيريَّة[15].

 التبشير يُحارِب الوَحْدة الإسلامية:

ومِن أهداف التبشير الأساسية: إضْعاف المسلمين، وإشاعة التفكُّك والفُرْقة بينهم؛ حتى لا تكون لهم وَحْدة وقوَّة تقِف في طريقه، وحتى يكونوا لقمةً سائغةً لابتلاع الصليبيِّين، وما برِحَتْ ذِكْرى صلاح الدين الأيوبي ووَحْدة المسلمين تُرهِب المستعمرين وتُخيفهم، وهم يَعلمون أنَّ المسلمين لو اتَّحدوا لكان لهم بأسٌ وشأن، لا يجترِئ على الاقتراب مِن حماهم مُستعمِرٌ أو طامع، ولا تَحلُم الصِّهْيَونية أن تقتربَ مِن حدودهم، فضلاً عن أن تقيم دولةً في قلْب بلادهم، فالمستعمِرون وطلائعهم وبقاياهم من المبشِّرين النَّصارى، تقضُّ مضاجعَهم اجتماعُ كلمة المسلمين وتعاونهم وتكاتفهم.

يقول الأستاذ إبراهيم خليل أحمد - الذي كان مبشِّرًا نصرانيًّا فأسلم - في كتابه "المستشرقون والمبشرون": فوَحْدة المسلمين إذًا في نظَر التبشير يجب أن تُفتَّت وأن تُوهن، ويجب أن يكون هدفُ التبشير هو التفرِقةَ في توجيه المسلمين واتِّجاهاتهم.

الصليبيُّون يثيرون النعرات بيْن المسلمين:

ومِن دسائس الصليبيَّة ومكايدها ضدَّ الإسلام، والعمل على تمزيقِ المسلمين: إثارةُ النعرات العصبيَّة، وتغذية الرُّوح القوميَّة والوطنية، وصرْف نظر المسلمين بهذه العصبيَّات الجاهلية عن الوَحْدة الإسلامية، والأُخوَّة الدينيَّة، وإظْهار هذه النَّزعات بمظهر التحرُّر والتقدُّم، وتوجيه الدول الإسلامية إلى نبْش حضاراتها القديمة، ووثنياتها البائِدة، وأطلالها الخرِبة.

وقد خُدِع بعضُ أبناء المسلمين بهذه الأفكار، وغفلوا عمَّا تجرُّه من أضرار بدَتْ آثارها واضحةً، وإنْ كان البعض ما زال يُصِرُّ على السَّيْر في هذا الطريق الجائر، وها هي آثارُ الدعوات القوميَّة والعصبيَّات الجاهلية، تظهَر بجلاء في ردِّ الفعل المعاكِس لدَى القوميَّات الأُخرى التي كانت تعيش مع بعضِها في وئام وتعاون، في زنجبار وجنوب السودان، وفي الجزائر والعراق، تحرَّكت قوميات أُخر، وأطلَّتْ برأسها تريد أن يكون لها قوميَّة، كما كان العرَبُ يدْعون إلى قوميتهم، وكان من نتائجِ الدعوة للقومية ضعْفُ الرابطة الإسلامية، وتعمُّد البعضِ إيجادَ هُوَّة سحيقة، وشجَّع الصليبيُّون هذه الخطةَ؛ لأنَّها تخدم أغراضهم.

يقول الأستاذ شكيب أرسلان في تعليقاته على كتاب "حاضر العالم الإسلامي": يظهر مِن هذا اتِّفاق الأوروبيِّين على بثِّ رُوح القوميَّة بيْن أُمم الإسلام؛ أملاً بتشظية عصَا الجامعة الإسلامية، فإنَّنا قد رأيْنا أثر هذه السياسةِ في مواضعَ كثيرة من بلاد الإسلام.

ومَن أراد أن يعرِف خططَ الصليبيِّين تُجاهَ الإسلام في العصْر الحاضر، فليراجع هذه الكتب:

- "الغارة على العالم الإسلامي".

- "معركة المصحف".

- "التبشير والاستعمار في البلاد العربية".

- "المخطَّطات الاستعمارية لمكافحة الإسلام".

- "شبهات حول الإسلام".

- "المستشرقون والمبشرون".

- "المبشرون والمستشرقون".

- "التعصُّب والتسامح بيْن المسيحية والإسلامية".

- "تحت راية القرآن".

- "ما يُقال عن الإسلام".

- "الإسلام بيْن الجحود والإنصاف".

- "القومية في نظر الإسلام".

وغيرها من مؤلَّفات تبيِّن حقيقةَ ما يُحاك للإسلام من مؤامرات، وما يُراد له من مكايد.

 الصِّهْيونيَّة وفروعها:

لقدْ طمِع أعداءُ الإسلام في رِدَّة المسلمين، فاليهود بصِهْيَونيتهم وماسونيَّتهم وشيوعيتهم يحملون الحملاتِ الشعواءَ على الإسلام، ويُشكِّكون الناسَ في دِين الإسلام، ويُشجِّعون كلَّ فِكرة أو نِحْلة تُضعف من أمر الإسلام، أو تُقلِّل من شأنه، وصَدَق الله العظيم ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ [البقرة: 120].

وها هي الصِّهْيَونيَّة تَحُلُّ في قلْب بلاد المسلمين، وفي حِمَى ثالثِ الحرمَيْن وأُولى القِبلتَين، وتشرِّد أبناءَها، وتنتهك حُرماتِها، وتعمل أشنعَ الأعمال وأفظعَها، وتتخذ كلَّ وسيلة لتنشئة أبناء المسلمين في الأرْض المحتلَّة تنشئةً يهودية، بعيدةً عن الإسلام، مناوِئةً له.

وتبثُّ سمومَ التفرِقة بيْن بلدان المسلمين بما تدَّعيه من مفترياتٍ وأراجيفَ، وإثارة الأضْغان، وتلك سِماتهم في تاريخهم الطَّويل، والمؤلِم أن تكون للماسونيَّة في بلادِ العَرَب والمسلمين محافِلُ وأنصارٌ، مع أنها ربيبةُ الصِّهْيونية، وإحْدى فروعها، وقد انضمَّ إليها بعضُ من ينتمُون للعرب والإسلام؛ جهلاً بحقيقة أهدافها، أو خيانةً واستهانةً بالدِّين والواجب.

يقول العقَّادُ في كتابه "ما يقال عن الإسلام" (ص: 14- 15): وقد عرف الصِّهيونيُّون في عصرنا هذا مواطنَ القوَّة التي تسخِّرها الدعاية، فاستَوْلوا على الكثيرِ مِن أدواتها، وبرَعوا في تسخيرِها وإخفاءِ مراميها، فهُم يملكون شركاتِ الإعلان، فتَحسِب الصُّحف الكبيرة قبلَ الصغيرة حسابَهم، ولا تتورَّع عن خِدمتهم، أو السُّكوت عنهم على الأقل، وكِتْمان سيِّئاتهم ومآربهم؛ إذ كانت الصُّحف الكبيرة - خاصَّة - أحوجَ إلى الإعلان؛ لكثرةِ تكاليفها، تبعًا لكثرة صفحاتها، فلا تكاد أثْمانها تفي بتكاليفِ الورق، فضلاً عن تكاليف التحرير، لولا مواردُ الإعلانات.

ويملِك الصِّهيونيُّون دُورَ النشْر، فيحسب المؤلِّفون حسابَهم، كما يحسب الصحفيُّون، وقد يتبرَّع المؤلِّف بمَرْضاتهم أو نشْر دِعايتهم؛ تمهيدًا لقَبول كتبهم وإذاعتها بالترويج والتفريط، وخلق الجوِّ الصالح للاهتمام بها، واللغط حولَها، ولا تقصر وسائلُهم أحيانًا عن ترشيحها لأكبرِ الجوائز العالميَّة مِن قبيل جائزة "نوبل" بالسويد، وجائزة "بولتايزر" بالولايات المتحدة؛ لأنَّ "نوبل" نفسه يهودِي، ولجان التحكيم في الولايات المتحدة لا تخلو مِن اليهود، أو مَن يُسيطِر عليهم اليهود بوسائلِ الإعلان والترويج.

ويملك الصِّهيونيُّون أَسهُمًا وافرةً في شركات الصور المتحرِّكة، وينتسب إليهم عددٌ كبير من الممثِّلين والممثِّلات، ونقَّاد المسرح واللوحة البيضاء، وإلى جانبِ هذه الوسائل الفنيَّة والمالية وسائلُهم وراءَ السِّتار وأمام السِّتار بيْن الساسة والنوَّاب، والمرشَّحين لمراكز الزعامة، والمتنازِعين على الأصوات في مواسمِ الانتخابات، وليس استخدامُهم لوسائلِ الجمال في هذه المعارِك وما إليها بأقلَّ مِن استخدامهم لوسائلِ المال.

الشيوعية وشقيقتها الاشتراكية:

وكلُّ دعوةٍ مهمَا يكن سخفُها وحُمْقها يكون موجَّهًا لبلاد الإسلام منها النصيبُ الأوفر؛ وذلك لما حبَا الله به هذه الأُمَّة من مزايا دِينيَّة وأدبية، ومِن موقع هام، وإستراتيجية ذات شأنٍ في الاقتصاد والحرْب.

 إنَّ النصارى واليهود يَهدِفون إلى القضاءِ على دِين الإسلام؛ لِمَا يرَوْن له من انتشار، ولِمَا فيه من خصائصَ تُحبِّب الناس فيه، وتجعلهم يُقبِلون عليه، وإنَّ الشيوعيِّين يريدون القضاءَ على الدِّين؛ لِمَا يعلمونه من مقاومته الصُّلْبة لأفكارِهم الإلْحادية، ومبادئهم المدمِّرة، ولأنَّ الإسلام لا يتَّفق والشيوعيةَ والاشتراكية.

وإنا لنَجِدُ في الشيوعيِّين وإخوانهم الاشتراكيين مِن الحماس، والحِرْص على إزالة الإسلام ومعاداته، وأحكامه، وتعطيل تشريعاته، والهزْء به، والسخرية من علمائه - ما يُثير الدهشة والاستغراب، نعم، الإسلام لا يلتقي مع الشيوعية إطلاقًا، والشيوعيُّون لا ينفكُّون يروِّجون لأباطيلهم، مِن إنكارٍ لوجود الله، وتكذيبٍ بالقرآن والرسل والبعْث بعد الموت، وهُزْء بالأخلاق النبيلة والمُثُل الكريمة، وتعطيل المواهِب الفردية، ويُريدون أن يحوِّلوا المسلمين إلى اعتقاداتهم الزائغةِ، وأفكارهم الزائفة، ويبذلون من الجهْد والمال، والتفنُّن لتحقيقِ أغراضهم الشيءَ الكثير.

 ولا يقل حماسُ أتباعهم ممَّن يتكلَّمون بألسنتنا، وهُم مِن جلدتنا عن حماس كارل ماركس، وإنجلز، ولينين، وإنَّك لتجد في الكتب التي يُصدرونها، والصحف التي يُوزِّعونها، وفي المدارس والمعاهِد، وفي دُور العرْض، وفي التطبيقات، وفي كلِّ ناحية - الرغبةَ المستميتة في أن تحلَّ الاشتراكية محلَّ الإسلام، ولكنَّهم سيبوءون بالفشَل الذريع - بإذن الله.

وما حملاتهم الظالِمة على كلِّ تقارُب بيْن المسلمين، أو تعاون بينهم، إلا جزءٌ مِن مخطَّط شيوعي، لا يريد أن يَبقَى للإسلام أثرٌ، ولا لرابطته صِلة، إنَّهم يتصايحون ويعولون إذا ما دعَا المخلِصون لتوثيق عُرَى المودَّة، وإصلاح ذات البَيْن بيْن المسلمين، ويُثيرون الشكوكَ، ويَتفنَّنون في الافتراءات والتخرُّصات، ويُنفِّرون مِن ذلك بكلِّ جهدهم وقوَّتهم؛ وما ذلك إلا أنَّهم يريدون أن تكون اللينينيَّة والبلشفية سائدةً، وأن تُسيطرَ الشيوعيةُ الحمراء على بِلاد المسلمين، هكذا يتمنَّى هؤلاء الأتْباع المضطرِبون، وذلك ما تدلُّ عليه أعمالُهم وخططهم، ولكن مصير هذه الدِّعايات الاندحار، لا مِن بلاد الإسلام فحسْبُ، ولكن من العالَم أجمع؛ لأنَّ النِّحلة الشيوعيَّة لا تتفق مع دِين أو خُلُق، أو معاملة أو اقتصاد.

يقول لينين: الدِّين أفيون الشُّعوب، ورجل الدِّين يعمل على تخديرِ أعْصاب المظلومين والفقراء، وجعْلهم يستكينون للذلِّ والبؤس، ويقول أيضًا: ليس صحيحًا أنَّ الله هو الذي ينظِّم الأكوان؛ إنما الصحيح أنَّ الله فكرة خُرَافية اختلقَها الإنسان؛ ليسترَ عجزَه، وكلُّ شخص يُدافِع عن هذه الفِكرة فهو جاهل ضعيف.

ويقول ستالين: نحن ملحِدون، نعتقد أنَّ الدين يُعرقِل تقدُّمَنا، ونحن لا نحبُّ أن يسيطرَ الدِّين علينا؛ لأنَّنا نكْرَه أن نعيشَ سُكارى، ويقول ستالين كذلك: يجب أن تقومَ التربية في المدارس على مبدأ إنْكار الدِّين، وجحْد الأُلوهية.

وهكذا يُعلن قادةُ الشيوعية عن مبادئهم المدمِّرة، وأهدافهم المسمومة، وإذا كانت الشيوعية - كما هو معلومٌ - تناقِض كلَّ دِين وإيمان، فإنَّها تخصُّ الإسلام بالنصيب الأكبر، والسَّهْم الأوفر؛ لأنَّها تعلم مناقضتَه الشديدة للشيوعية، وأنَّه لا لِقاء بينه وبينها في أيِّ مجال، وحال الإسلام مع هؤلاء الأعداء يُذكِّرنا بقول الشاعر:

أَوَكُلَّمَا وَرَدَتْ عُكَاظَ قَبِيلَةٌ = بَعَثُوا إِلَيَّ عَرِيفَهُمْ يَتَوَسَّمُ

وقول الآخر:

وَكُلُّ الْقَوْمِ تَسْأَلُ عَنْ نُفَيْلٍ = كَأَنَّ عَلَيَّ لِلْحُبْشَانِ دَيْنَا

نشرت جريدة (البرافدا السوفيتية) بتاريخ 5 شباط (فبراير) 1964 الخبرَ التالي:

ينعقِد الآن مؤتمر رُوسي موضوعه (التربية الإلحادية) في أواسط آسيا، حيث يشكِّل المسلمون كثرةً عددية غزيرة، ومن بيْن أبحاث هذا المؤتمر (التجديد الإسلامي خارجَ الاتحاد السوفيتي) (والإيدلوجية الإسلامية)، ويأتي هذا المؤتمر الخاص بعْدَ مؤتمر عامٍّ، انعقَد لذات الموضوع بالنسبة لروسيا كلِّها، وقد تقرَّرَ فيه أنَّ عدد المؤمنين في روسيا كبيرٌ جدًّا، على الرغم مِن مرور أربعين عامًا من حملات الدعاية المتواصِلة ضدَّ الدِّين، ودعَا إلى مضاعفة الجهود للتأثير على المتديِّنين من يهود ونصَارى، ومسلمين وغيرهم.

 وقرَّر إنشاءَ معْهد تربوي للإلْحاد المدعوم بالأدلَّة العلمية، وإدْخال دروسٍ إلزامية عن الإلْحاد في مناهجِ الجامعات، وغيرها من معاهدِ الدِّراسة، وأكَّد وجوب مضاعفة استخدام الأقلام والنوادي، والمحاضرات المعادية للدِّين، لقد حلَّتْ بالمسلمين في هذا العصر نكباتٌ كثيرة، ولكنَّها يجب ألاَّ تكون سببًا لليأس أو الفُتور، بل يجب أن تكون حافزًا لعلماء المسلمين وقادتهم ومفكَّريهم، وكلِّ مسلم على وجه الأرض - على الاضطلاع بمسؤوليتِه في نشْر الدعوة الإسلامية حسبَ اقتداره.

الهندوكية تحارب الإسلام:

ومِن المؤسف أن يكونَ ذَوو النِّحل المصطنعة، يَطْمحون إلى أن يجعَلوا من المسلمين وثنيِّين مثلهم، فالهندوكيُّون مع النِّسبة الكبيرة للمسلمين في الهند 40، أو50 مليون مسلم، يُريدون أن يصبِحَ هذا العددُ الهائل هندوكيِّين، فالضغط الاقتصادي والسياسي، والإبْعاد عن الوظائف، ونشْر الكتابات في الصُّحف والمؤلَّفات قائمةٌ على قدَم وساق ضدَّ المسلمين في الهند، والتعليمُ حتى بيْن البلدان التي يقطُنها أغلبيةٌ مسلِمة يصبغ بالصِّبغة الهندوكية الوثنية، وإني أُورد بعضًا من ذلك، كمِثالٍ على ما يُحاك للمسلمين في هذه البلاد.

نشَرت صحيفة (ذي مستنج) التي تصدر في دلهي ما يلي:

ناشَدَ مدير معارِف (راجستان) المؤلِّفين، وناشري الكتب الرسمية أن يَضعوا كتبًا مناسِبة، تحوي دروسًا في اللغة الهندية، وغيرها من الموضوعات التي تتعلَّق بأهميَّةِ البَقَرة في جميع المراحل، ولقد أصبحَ التعليم في جميع معاهِد الحكومة - في الوقت الحاضِر - ذا طابعٍ دِيني طاغٍ، أمَّا الدِّين فهو الهندوكية.

 ونشرت جريدة (فير ارجون) في 12أبريل1952م تحت عنوان "لماذا يجب على المسلمين أن يَعتنقوا الهندوكيَّة"؟

يقول الكاتب الهندوكي: سوف لا تنتهي هذه الخِلافاتُ الطائفية إلاَّ إذا اعتنق مسلِمو الهند الدِّيانةَ الهندوكية، وهذه الطريقة التي يُمكِنهم فيها أن يحتفظوا بحضارتِهم القديمة، وعاداتهم وتراثهم، وكذلك يستطيع المسلِمون إذا ما اعتنقوا الدِّيانةَ الهندوكية أن يضعوا حدًّا لمشكلة البطالة التي تُواجههم، كما يستطيعون أن يَجِدوا مكانًا لهم في التجارة، وعلى هذا فأحْسَن سبيل لهم الآنَ هو أن يُفكِّروا في الموضوع بطريقة هادئة، وأن يعتنقوا الدِّيانة الهندوكية.

 ونشرت صحيفة (رياست) الأسبوعية التي تصدر بدلهي في عددها الصادر في 23 يونيه 1952م مقالاً، تهجَّمت فيه على المسلمين، وختمتْه بقولها: إنَّ الحل الوحيد لهذه المعضِلة إنَّما هو في إعادة اتِّحاد الباكستان مع الهند، أو في هِجرة كلِّ مسلمي الهند، ومعهم زعماؤهم إلى باكستان[16].

ومَن أراد التوسُّع في هذا الموضوع، فليراجعْ ما كتبه الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه "المسلمون في الهند"، وغيره من المؤلِّفين الثقات.

ومِن المحزن حقًّا أن يَتكلَّم باسم الإسلام، ويقوم بنشاط يَدَّعي أنه إسلامي فئاتٌ ما بَرِحتُ منذ أن نشأتْ مذاهبُها تعمل ضدَّ الإسلام، ويمتدُّ نشاط هؤلاء الأقوام إلى أوربا وأمريكا، فالإسماعيليَّة والقاديانيَّة، وهما فئتانِ لا يمتَّان للإسلام بصِلة، يَنشران تعاليمهما الضالَّة في آسيا وإفريقيا، وأوربا وأمريكا، ولا يفتؤون يزْعمون أنَّ ما هم عليه هو الإسلام، والدُّول المسيحية تُشجِّع مثل هذه الحرَكات الهدَّامة، وتعين رجالها على احتلال المراكِز المرموقة؛ حتى يستطيعوا تنفيذَ أغراضهم، ونشْر مفترياتهم.


أعداء كثيرون:

إنَّ الإسلام يواجِه حربًا ضروسًا من جِهات عديدة، ومِن أعداءٍ شَرِسين، فالصليبيُّون الحاقِدون، والشيوعيُّون الملحدون، والصِّهْيَونيون المخرِّبون، كلُّ هؤلاء يَعملون بكلِّ طاقاتهم لحرْب الإسلام، وتلاميذ هؤلاء في قلْب البلاد الإسلامية يحملون معاولَ الهدْم، ويبثُّون سمومَهم، ويلونون شعاراتهم وأساليبهم حسبَ مقتضَى الحال، ولن يَخْفى أمرُهم على مَن نظَر بثاقب فِكره، وتأمل ما يلوكونه ويكتبونه هنا وهناك، ولا أظنُّ الأمرَ يحتاج إلى ضرْب الأمثال، فهو من الوضوح بمكان.

والأمر مِن الأهميَّة والخطورة بحيْثُ يستدعي التشميرَ عن ساعِد الجِد، والوقوف صفًّا واحدًا من العلماء المسلمين، والحكومات والشعوب الإسلامية في وجه هذه التيَّارات العنيفة، والحرْب الطاحنة، وواجب كلِّ مسلِم أن يقوم بما يفرِضه عليه دِينُه، مِن جهاد وبذْل ودِفاع.

لا بدَّ من عمل حازم:

والآن وقد عرضْنا لهذه العوائقِ وأنْباءِ هذه المخاطِر، التي تواجه الإسلام، وتحاول القضاءَ عليه، فإنَّ واجب المسلمين بجميع فِئاتهم أن يَنتبهوا لهذه الأخطار، وأن يهبُّوا جميعًا لمكافحتها، وزلزلة أرْكانها، وغزوها في عُقْر دارها، وإصلاح مناهجِ التعليم، ووسائل الإعلام.

وإنَّ واجب المسلمين تدارسُ الأمر، ووضْع الخطط الكفيلة بمقاومة هذه الأفكار والدعايات المسمومة، هذا مِن جهة، ومِن جهة أخرى بعْث الدُّعاةِ والمرشِدين، وتوزيع الكُتب الدِّينية والنشرات، والتشجيع على قِيام المدارس ذات الصِّبغة الإسلامية، والصُّحُف والمجلاَّت، وأن يتركوا السلبيةَ واليأس جانبًا، وأن يكونوا نشيطِين في الحق أكثرَ من نشاط أولئك في الباطل، وإنَّ موسم الحج فُرصةٌ لاغتنام هذه الفرْصة؛ عملاً بقوله - تعالى -: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [المائدة: 2]، وقول رسولِ الله ﷺ‬: ((المسلِم أخو المسلِم...)) الحديث.

العودة إلى الإسلام:

والعِلاج الوحيد لهذه الأدواء والأخْطار، هو الرجوع إلى كتابِ الله وسُنَّة رسوله، وأن يقومَ كل مسلِم بما يستطيع لتحقيق هذه الغاية، وكما يقول الأستاذُ محمد قطب في كتابه "جاهلية القرن العشرين": لا مخلصَ للناس من جاهليتهم وضلالهم، وشقائهم وحَيْرتهم، وقلقهم واضطرابهم، وتمزُّقِ حياتهم وأفكارهم ومشاعرهم، إلاَّ بالإسلام، ولم يكُنْ للناس مخلصٌ من الجاهلية في تاريخهم كلِّه إلا بالإسلام بمعناه الواسِع الشامل.

الإسلام الذي جاء به نوحٌ وإبراهيم، وموسى وعيسى، ومحمَّد - صلوات الله عليهم - وقد اكتملَ الإسلامُ في دِين الله الأخير، ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3]، وهذا الإسلام في صورته الأخيرة المكتمِلة، هو العلاجُ الوحيد لكلِّ جاهليات الأرض، ولهذه الجاهلية الحديثة على وجهِ التخصيص.

إنَّ الإسلام هو الذي يُعطي الوضعَ الصحيح لكلِّ ما انحرفتْ به الجاهلية في التصوُّر والسُّلوك، في السياسة والاجتماع والاقتصاد، في الأخْلاق والفن وعلاقات الجِنس، وكلِّ شيء في حياة الإنسان.

وهذه الدعوة التي تَنبثِق من نفوس مؤمِنة وسطَ دياجير الظلمات الدامسة، تُردِّدها أصواتٌ كثيرة من نفوس مؤمِنة، تنشد الحق، وتدعو إليه؛ يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟": لا ينهَضُ العالَم الإسلامي إلا برِسالته التي وكلها إليه مؤسِّسُه ﷺ‬ والإيمان بها، والاستماتة في سبيلها، وهي رسالةٌ قويَّة، واضحة مشرقة، لم يعرِفِ العالَم رسالةً أعدلَ منها، ولا أفضل، ولا أيمنَ للبشرية منها.

وهي نفْس الرسالة التي حملَها المسلِمون في فتوحهم الأولى، والتي لخَّصها أحدُ رسلهم في مجلس (يزدجرد) ملِك إيران، بقوله: الله ابتعثَنا لنُخرِجَ مَن يشاء مِن عبادة العباد إلى عبادةِ الله وحدَه، ومِن ضِيق الدُّنيا إلى سَعتها، ومِن جَوْر الأديان إلى عدْل الإسلام؛ رسالة لا تحتاج إلى تغيير كلِمة وزيادةِ حرْف، فهي منطبقةٌ تمامَ الانطباق على القرن العشرين، انطباقَها على القرن السادس المسيحي، كأنَّ الزمان قدِ استدار كهيئته يومَ خرَج المسلمون مِن جزيرتهم لإنقاذ العالَم مِن براثن الوثنية والجاهلية.

فلا يزال الناس اليومَ عاكفين على أصنامٍ لهم، مِن أوثان منحوتة ومنجورة، ومقبورة ومنصوبة، ولا تزال عِبادةُ الله وحدَه مغلوبةً غريبة، ولا تزال الفِتنة قائمةً على قدَم وساق، ولا يزال إلهُ الهوى يُعبَد، ولا يزال الأحبارُ والرهبان، والملوك والسلاطين، وأصحاب القوَّة والثروة، والزعماء والأحزاب السياسية، أربابًا من دون الله، تُقرَّب لها القرابين، ويُنصَب لها الجبين - إلى أن يقول -: فرِسالة العالَم الإسلامي هي الدعوةُ إلى الله ورسوله، والإيمان باليومِ الآخِر، وجائزته الخروجُ من الظلمات إلى النور، ومِن عبادة الناس إلى عبادة الله وحدَه، والخروج مِن ضيق الدنيا إلى سَعتها، ومِن جَوْر الأديان إلى عدْل الإسلام.

وقد ظهَر فضْل هذه الرِّسالة، وسهُل فَهْمها في هذا العصْر أكثرَ من كلِّ عصر، فقد افتضحتِ الجاهلية، وبدَتْ سوءتها للناس، واشتدَّ تذمُّر الناس منها، فهذا طَوْر انتقال العالَم من قيادة الجاهلية إلى قيادة الإسلام، لو نهَض العالَم الإسلامي، واحتضنَ هذه الرسالة بكلِّ إخلاص وحماسة وعزيمة، ودان بها كالرِّسالة الوحيدة التي تستطيعُ أن تُنقِذ العالَم من الانهيار والانحلال.

إلى أن يقول: فالمهمُّ الأهمُّ لقادة العالَم الإسلامي وجمعياته الدِّينية، وللدُّول الإسلامية غرْسُ الإيمان في قلوب المسلمين، وإشْعال العاطفة الدِّينيَّة، ونشْر الدعوة إلى لله ورسوله، والإيمان بالآخِرة على منهاج الدَّعْوة الإسلامية الأُولى، لا تَدَّخر في ذلك وُسعًا، وتستخدم لذلك جميعَ الوسائل القديمة والحديثة، وطُرُق النشْر والتعليم، كتجوُّل الدعاة في القُرى والمدن، وتنظيم الخُطَب والدروس، ونشْر الكتب والمقالات، ومدارسة كُتُب السِّيرة وأخبار الصحابة، وكتب المغازي والفتوح الإسلامية، وأخْبار أبطال الإسلام وشهدائه، ومذاكرة أبواب الجِهاد وفضائل الشُّهداء، وتَستخدم الراديو والصحافة، وكتب الأدب، وجميع القوى والوسائل العصريَّة.

والقُرآن وسِيرة محمَّد ﷺ‬ قوَّتانِ عظيمتان، تستطيعانِ أن تُشعِلاَ في العالَم الإسلامي الحماسةَ والإيمان، وتُحْدِثَا في كلِّ وقت ثورةً عظيمة على العصْر الجاهلي، وتجعلاَ مِن أمَّة مستسلِمة منخَذِلة ناعسة، أُمَّةً فتية ملْتهِبة حماسةً وغَيْرة، وحنقًا على الجاهلية، وسخطًا على النُّظم الجائرة.

إنَّه لو وُجِد رجالٌ يقومون بالدَّعْوة إلى الإسْلام والتعاون بيْن المسلمين، ولهم مِن القيادة والسُّلطة والإمكانيات ما يستطيعون به إنفاذَ آمالهم، لتغيَّرت حالُ العالَم اليوم، كيف والإسلام مشرِق واضح، سالِم من التعقيدات والخُرافات، ويتقبَّله الوثنيُّون وغيرهم بسُهولة أذهَلت المبشِّرين، واعترفوا بها، وهي واقعٌ لا يمكن إنكاره؟!

ذَكَر الدكتور عبدالعزيز عزَّام في كتابه "الإسلام والفكر العالمي" عن ممرِّضة تشتغل بالتبشيرِ بالمسيحية في الصِّين قولَها: إنَّ من أغربِ ما شاهدتُه هناك هو انتشارُ الإسلام بدون مبشِّر، ويَكفي أن يُسافِرَ الصيني للتجارة في الهند، فيعود وقدْ أسْلَم، ولا يلبث طويلاً، حتى تنتقلَ منه عَدْوَى إسْلامه إلى جاره، ثم إلى القَرْية كلها وما دونها، قالت: ولا أدري سببًا يفسِّر هذا الانتشارَ الذي في سُرْعته يُشبه انتشارَ النار في الحطَب اليابس[17]، مع أنَّه ليس هناك مَن يدعو إليه، ونحن قائِمون بأحسنِ دِعاية، وبِخدمة الجمهور بشتَّى الوسائل، وما يتنصر إلاَّ القليل.

كما ذكَر أيضًا في كتابه هذا: أنَّه الْتقى في ألمانيا بجماعة مِن الألمان، أسْلموا دون أن يدعوَهم أحد، وأنَّهم يتدارسون القرآن، وقالوا: "إنَّ القرآن هو حُجَّتنا وبُرهاننا، وهو الذي هدَانا الله بما فيه من تعاليمَ صالِحة لإقامة العَدْل بيْن الناس كافَّة، وإقامة مجتمع صالِح يستوي فيه الضعيفُ والقوي، والفقير والغني، ولا يفضل بعضهم على بعضٍ إلا بالتقوى".

وليس هذا بِدعًا، فقد كان الرسولُ ﷺ‬ يأتيه اللَّجوجُ المعانِد من المشركين، فيتلو عليه الآياتِ البيناتِ من القرآن، فيَدخله الوجَلُ والرهبة، وتُدحَض شبهته، وقد يُسلِم من فوْره.

وقد قال - تعالى - في شأنِ القرآن: ﴿لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ [الأنعام: 19]، وقد ذَكَر المفسِّرون في تفسير هذه الآيات: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ [الطور: 35]، وقوله: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ﴾ [يس: 66]، وقوله: ﴿حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [فصلت: 1 - 3]، وقوله: ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [هود: 44]، وغيرها - ما يَضيق المجالُ عن ذِكْره.

يقول إدوار مونتيه - مدير جامعة جنيف - في محاضرة له: "إنَّ الإسلام دِينٌ سريعُ الانتشار، ينتشر مِن تِلْقاء نفسه دون أيِّ تشجيع تُقدِّمه له مراكزُ منظّمة؛ وذلك لأنَّ كل مسلِم مبشِّر بطبيعته، المسلم شديدُ الإيمان، وشدَّة إيمانه تستولِي على قلْبه وعقله، وهذه ميزة ليستْ لدِين سواه؛ ولهذا السبب ترَى المسلم الملتهِب إيمانًا يُبشِّر بدِينه أينما ذهَب، وأنَّى حلَّ، وينقُل عدْوَى الإيمان الشديد لكلِّ مَن يتصل به مِن الوثنيِّين".

وعلى هذا، فإنَّه لو وُجِد دعاةٌ مخلصون للإسلام في هذا العصر، يُحسِنون أساليبَ الدعوة، ويَدْعون بحِكمة، ويُجادِلون بالتي هي أحْسَن، ويُدْلُون بالحُجج والبراهين، لكان أحْرى أن يجدوا الاستجابةَ والقَبول، وقد تنقلب تلك الأخطارُ المحدِقة بالإسلام على رُؤوس مدبِّريها وكائديها، وتصبح عاملاً قويًّا في نشْر الإسلام.

يقول محمد باكثول - وكان مسيحيًّا إنجليزيًّا فأسلم -: "في رأيي أنَّ الزمن الذي نحْنُ فيه أنسبُ الأزمان وأصلَحُها لنشْر الدعوة الإسلاميَّة في الأرْض، وما يظنُّه الظانُّون مُثبِّطًا مِن نقْص القوَّة هو بالعكس أدْعى إلى نشْر الإسلام، وأكثر ملاءمةً للنجاح فيه، إنَّ لنا في هُدْنة الحديبية لَعِبرةً نقضي لها العجبَ، كلَّما فكَّرْنا فيها، فالصحابة - رضوان الله عليهم - وقَعتْ منهم شروطُ تلك الهدنة موقِعَ الأسى، وكانتْ لهم منها صدْمَة عنيفة، لم يَسْلَم من تأثيرها بعدَ صاحِب الهداية العُظْمى ﷺ‬ غيرُ عددٍ قليل منهم، في مقدِّمتهم الصِّدِّيق - رضوان الله عليه.

ولكن هذه الهُدنة كانتِ الفتحَ الأكبر للإسلام، حتى إنَّ عددَ الذين دَخَلوا في الإسلام في سَنَة واحدة بعد صُلْح الحديبية كان أكثرَ مِن عدد الذين دَخَلوا فيه مدَّة تِسْعَ عشرةَ سَنَةً قبلَ ذلك.

إنَّ صوتًا عُلويًّا نسْمَعه الآن من الحديبية يُنادينا بأنَّه في الإمكان - بالرغْم ممَّا صِرْنا إليه من التجرُّد من القوَّة - أن نلُمَّ شعثَنَا، ونعود إلى نشْر هداية دِيننا، وأن نبلِّغَ هذه الهداية إلى البشَر أجمع، فالشُّعوبُ اليوم أشدُّ إصغاءً إلينا منها في العُصور السابقة.

ويقول الأستاذ محمَّد الغزالي في كتابه "معركة المصحف":

"وقد جهِد الاستعمار بعدَ اسْتمكانِه مِن الأقطار الإسلاميَّة أن يهونَ من قِيمة العِلم الدِّيني، والأوعية الحامِلة له، وأن يَجْعَل الصدارة لألوانٍ أخرى من المعرِفة، وصنوف أُخْرى من الناس، تاركًا الكلام في الإسلام، والاشتغال بتوجيهاتِه لأقوامٍ في مؤخِّرة الحياة، تقاتلهم على ضروراتها، ويُقاتلونها على طلَب البقاء وحسْبُ.

ويَستحيل أنْ يصلحَ الإسلامُ، أو تستقيم أمورُه، أو يصحَّ عَرْضه، أو يعمَّ نفْعُه، إلاَّ إذا عاد التاريخ سِيرتَه الأولى، وأصْبح رجاله مصنوعِين من المعادن التي صُنِعَ منها أسلافُهم الأوائلُ نفاسةً ومجادةً، وتبوَّؤوا في مجتمعاتهم بمحْضِ كفاءتهم أماكنَ التوجيه والقِيادة، "فمِن الضروري إقصاءُ تلاميذ المبشرين عن مراكزِ القيادة والتوجيه، وإبْعادهم عن وسائلِ الإعلام والتدريس، وتمكين ذوي الاتِّجاهات الإسلامية في كلِّ بلد إسلامي؛ لكي يقوموا بالدَّوْر الذي يجب عليهم القِيامُ به، لا أن تتركَ هذه الوسائل بِيَدِ الزُّمَر المخرِّبة، تفْتِك بالأمَّة وتجرُّها إلى الكوارث، بينما يقبع الغيورونَ على الإسلام، والحريصون على نشْره في زوايا النِّسيَان والإهمال، يَعيشون على هامشِ الحياة، كما حصَل في كثيرٍ من البلدان.

وقد أُصِيب المسلِمون من جرَّاءِ ذلك بنكسات ونكبات، وإذا ما أرادوا العِزَّةَ والنهوضَ الصحيح، والقيام بما يُملِيه عليهم دِينُهم وضميرُهم، فلا بدَّ من تدارُكِ هذه الأخطاء الجسيمة، والاتِّعاظ بأحْداث التاريخ ووقائعه ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [المائدة: 56].

أمل وتفاؤل:

وممَّا يُقوِّي الأمل، ويظهر للعِيان ما يلقاه هذا الدِّينُ - دِين البشرية جمعاء - مِن استجابة وقَبول، إذا ما وجد الدُّعاة الذين يُحسِنون توضيحَه وجلْوَه - ما تحقَّق على يدِ الداعية الإسلامي أحمد وبللوا - عليه رحمة الله - فلقد كان إقْبال الناس على الدِّين في شمالي نيجيريا أمرًا يكاد يكون خياليًّا، فأصْبح الناس على يديه يَدْخلون في دِين الله أفواجًا، والكنائس تَقفل أبوابَها؛ لأنَّها أضحتْ خاويةً على عُروشها، والمبشِّرون النصارَى يحزمون أمتعتَهم، ويعودون إلى بلادِهم، أو يذهبون إلى بلدانٍ أخرى؛ لأنَّه لم يَعُد لهم أمَلٌ، وهم يرَوْن هذا التيَّارَ الجارف، وتلك الجموعَ الهائلة تتلهَّف إلى الإسلام، ولا ترْضَى عنه بديلاً.

وقد كانتْ بعثة الجامعة الإسلامية ذاتَ فائدةٍ جليلة، وكذا جهودُ الرابطة الإسلامية، فهي على قلَّة إمكانياتها قد أثْمرَتْ ثِمارًا طيبة، وقَبْل ذلك ما صادَفَه البشيرُ الإبراهيمي مِن نجاح في تدريس القرآن، ونشْر المدارس الإسلاميَّة على الرغم مِن مقاومة الفَرَنْسيِّين المستعمِرين في الجزائر.

وَفَّق الله الأُمَّة الإسلامية إلى الفلاح والرُّشد، وسدَّد خُطاها، إنَّه على كلِّ شيء قدير.

 والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 زيد بن عبدالعزيز فيَّاض



[1] انظر كتاب "المستشرقون والمبشرون".

[2] وانظر: ما كتبه محمد أسد في كتابه "الإسلام على مفترق الطرق"، وما قاله غوستاف لوبون في كتابه "حضارة العرب"، وغيرهما.

[3] انظر: كتابي "معركة المصحف"، و"المخططات الاستعمارية".

[4] انظر كتابي "التبشير والاستعمار في البلاد العربية"، و"المستشرقون والمبشرون".

[5] انظر: كتاب "التبشير والاستعمار في البلاد العربية"، وكتاب "المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام"، وغيرهما.

[6] انظر: كتاب "التبشير والاستعمار في البلاد العربية".

[7] انظر: كتاب "المستشرقون والمبشرون".

[8] انظر: كتاب "التبشير والاستعمار في البلاد العربية"، وكتاب "ما يقال عن الإسلام"، وكتاب "المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام"، وكتاب "حقائق الإسلام وأباطيل خصومه".

[9]  انظر: كتاب "التبشير والاستعمار في البلاد العربية"، و"كتاب معركة المصحف"، و"كتاب المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام".

 [10] وقد قام الصليبيُّون بمؤامرة دَنيئة، اغتيل فيها رئيسُ الوزراء المركزي أبو بكر تفاوي بليوا، ورئيس وزراء الإقليم الشمالي الحاج أحمد وبللو، وعددٌ كبير من المسلمين، ولكن ذلك لم يطُلْ حتى قام المسلِمون بثورة معاكسة وصُرِع قائد الانقلاب الصليبي، غير أنَّ مكايدَ المستعمِرين لم تنقطع، ولكنَّها ستفشل بحَوْل الله (المؤلف).

[11] وانظر: كتاب "المخطَّطات الاستعمارية لمكافحة الإسلام"، ومصطفى كمال أتاتورك مِن يهود الدونمة، ألْغى الخِلافة، وفصَل الدِّين عن الدولة، وأعْلن تركيا دولة علمانية، وألْغى الحِجاب، واستبدلَ عن الحروف العربيَّة الحروف اللاتينية، وقوَّى نفوذ اليهود في تركيا، هلَك بسبب إغراقه في المسكِرات والخمور.

[12] وانظر: كتاب "التبشير والاستعمار في البلاد العربية"، و"المخططات الاستعمارية".

[13] انظر: كتاب "المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام".

[14] أصدر بعدَ ذلك كتابين هما: "هذا الكون ما ضميره"، و"كبرياء التاريخ في مأزق".

[15] انظر: كتاب "التبشير والاستعمار في البلاد العربية".

[16] وانظر: "كتاب القومية في نظر الإسلام".

[17] تعبير هذه الممرِّضة عن انتشار الإسلام بأنَّه عدْوى، وأنَّه يشبه اشتعالَ النار في الحطَب اليابِس، هو تعبيرٌ خاطئ، فالإسلامُ حياةٌ ونورٌ وهِداية، وليس مرضًا أو تدميرًا، ولكنَّا أوردْنا ذلك كما ذكَره الدكتور؛ ا.هـ. المؤلف.