من قصص المسافرين وأخبارهم
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
- من قصص
المسافرين وأخبارهم
- أولاً: أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم
- في سفره
- حفظ الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - من القتل
- في السفر معجزة
- النبي - صلى الله عليه وسلم - يوصي أصحابه
- إنكار المنكر
- الحث على إسباغ الوضوء
- الحث على الرفق بالقوارير
- التذكير بمشهد من مشاهد القيامة
- الدعاء للأمة
- الحث على التأدب في الدعاء
- النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي خلف عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -
- كلام له - صلى الله عليه وسلم - في الضب
- رحمته - صلى الله عليه وسلم - بالأطفال
- رحمته - صلى الله عليه وسلم - بالطير
- ثانيًا: بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في السفر الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع جابر وعلامة من علامات حسن خلقه وزهده في الدنيا
- ثالثًا: مواقف عظيمة للسلف في السفر ذكر الله تعالى يدفع البلاء
- رابعًا: عاقبة العصيان والتمرد: كما تدين تدان
- مِسْكُ الختام
- أولاً: أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم
- في سفره
من قصص المسافرين وأخبارهم
عبد الحميد بن عبد الرحمن السحيباني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
السفر والسياحة في الأرض والضرب فيها والسير في جنباتها لا شك أن ذلك يوقف الإنسان على مشاهدات كثيرة ودروس ومواعظ إذا كان من أهل الاعتبار والاتعاظ؛ إذا كان من أصحاب الألباب الذين يستخدمون عقولهم للنظر فيما ينفعهم عند الله عز وجل في الآخرة. ولذلك عزمت ها هنا على الحديث إليكم عما وقفت عليه من أخبار الأولين وقصصهم في أسفارهم مما فيه درس وعبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
ولأن سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه ومع الناس كافة هي أول ما ينبغي أن يدرسه المرء حتى يستخرج منها الدروس والعبر، فسوف يكون ذلك هو المحور الأول والثاني لهذا الكتاب الذي أسأل الله عز وجل أن ينفعني وإياكم به.
ثم في المحور الثالث نستعرض عددًا من أخبار السلف وقصصهم في أسفارهم مما فيه درس وعبرة.
والمحور الرابع نذكر فيه نماذج لمن عصى وتمرد وخالف شرع الله عز وجل، والمآل الذي آل إليه مما له علاقة بالسفر.
ثم يأتي مسك الختام؛ حيث نختم الحديث بذكر حادثة لأحد السلف في السفر، ولعل في ذكرها إذهابًا للعناء عنكم ورفعًا للسآمة والملل من وجوهكم بما سوف تقرؤونه فيها من الفكاهة والدعابة إن شاء الله تعالى.
أولاً: أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفره
تعددت أخبار نبينا - صلى الله عليه وسلم - في السفر، ولكنها في مجملها دروس وتوجيهات للأمة بما يقود خطاها لكل ما فيه نجاتها وفلاحها في الدنيا والآخرة، وسوف نعرض هاهنا شيئًا مما وقفنا عليه في ذلك، وأسأل الله تعالى أن ينفعني وإياكم به.
حفظ الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - من القتل
أخرج ابن أبي حاتم في تفسيره عن جابر بن عبد الله الأنصاري - رضي الله عنه - قال: لما غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني أنمار نزل ذات الرقاع بأعلى نخل، فبينا هو جالس على رأس بئر قد دلى رجليه، فقال غورث بن الحارث من بني النجار: لأقتلن محمدًا. فقال له أصحابه: كيف تقتله؟ قال: أقول له: أعطني سيفك، فإذا أعطانيه قتلته به. قال: فأتاه، فقال: يا محمد، أعطني سيفك، فأعطاه إياه، فرعدت يداه حتى سقط السيف من يده، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: حال الله بينك وبين ما تريد، فأنزل الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾([1]).
قال ابن كثير في تفسيره([2]): وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وقصة غورث بن الحارث مشهورة في الصحيح. اهـ.
وهذه الحادثة واحدة من عشرات الحوادث التي حفظ الله عز وجل فيها نبيه - صلى الله عليه وسلم - من اعتداءات الكفرة والملحدين؛ فقد حفظ الله عز وجل نبيه - صلى الله عليه وسلم - من أهل مكة وصناديدها وحسادها ومعانديها ومترفيها، مع شدة العداوة والبغضة ونصب المحاربة ليلاً ونهارًا بما يخلقه سبحانه من الأسباب العظيمة؛ بقدرته وحكمته العظيمة سبحانه، فصانه في ابتداء الرسالة بعمه أبي طالب؛ إذ كان رئيسًا مطاعًا كبيرًا في قريش، وخلق الله عز وجل في قلبه محبة طبيعية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا شرعية، ولو كان أسلم لاجترأ عليه كفارها وكبارها، ولكن لما كان بينه وبينهم قدر مشترك في الكفر هابوه، واحترموه، فلما مات عمه أبو طالب نال منه المشركون أذى يسيرًا، ثم قيض الله تعالى له الأنصار، فبايعوه على الإسلام، وعلى أن يتحول إلى دراهم وهي المدينة، فلما صار إليها منعوه من الأحمر والأسود، وكلما هم أحد من المشركين وأهل الكتاب بسوء كاده الله تعالى ورد كيده عليه، كما كاده اليهود بالسحر فحماه الله تعالى منهم، وأنزل عليه سورتي المعوذتين دواء لذلك الداء، ولما سمَّه اليهود في ذراع تلك الشاة بخيبر أعلمه الله تعالى به وحماه منه، وهذا له أشباه كثيرًا جدًا يطول ذكرها ([3]).
في السفر معجزة
أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الطهارة باب الصعيد الطيب عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال: كنا في سفر مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنا أسرينا حتى كنا في آخر الليل وقعنا وقعة لا وقعة أحلى عند المسافر منها، فما أيقظنا إلا حر الشمس، وكان أول من استيقظ فلان ثم فلان ثم فلان، يسميهم أبو رجاء، فنسي عوف – أحد رواة الحديث – ثم عمر بن الخطاب الرابع، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نام لم يوقظ حتى يكون هو يستيقظ؛ لأنا لا ندري ما يحدث له في نومه، فلما استيقظ عمر، ورأى ما أصاب الناس، وكان رجلاً جليدًا، فكبر ورفع صوته بالتكبير، فما زال يكبر ويرفع صوته بالتكبير حتى استيقظ بصوته النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما استيقظ شكوا إليه الذي أصابهم، قال: «لا ضير- أو لا يضير- ارتحلوا». فارتحل، فسار غير بعيد، ثم نزل فدعا بالوضوء، فتوضأ، ونودي بالصلاة، فصلى بالناس، فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم، قال: «ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟» قال: أصابتني جنابة، ولا ماء. قال: «عليك بالصعيد؛ فإنه يكفيك». ثم سار النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاشتكى إليه الناس من العطش فنزل، فدعا فلانًا كان يسميه «أبو رجاء» – فنسيه عوف أحد رواة الحديث – ودعا عليًا فقال: «اذهبا، فابتغيا الماء». فانطلقا، فتلقيا امرأة بين مزادتين أو سطيحتين من ماء على بعير لها، فقالا لها: أين الماء؟ قالت: عهدي بالماء أمس هذه الساعة ونفرنا خلوف. قالا لها: انطلقي إذًا. قالت: إلى أين؟ قالا: إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قالت: الذي يقال له الصابئ؟ قالا: هو الذي تعنين، فانطلقي، فجاءا بها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وحدثاه الحديث. قال: فاستنزلوها عن بعيرها. ودعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بإناء ففرغ فيه من أفواه المزادتين أو السطيحتين، وأوكأ أفواهما، وأطلق العزالى ([4])، ونودي في الناس: اسقوا واستقوا، فسقى من شاء واستقى من شاء، وكان آخر ذاك أن أعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء، قال: اذهب فأفرغه عليك. وهي قائمة تنظر إلى ما يفعل بمائها، وأيم الله لقد أقلع عنها، وإنه ليخيل إلينا أنها أشد ملأة منها حين ابتدأ فيها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اجمعوا لها». فجمعوا لها ما بين عجوة ودقيقة وسويقة، حتى جمعوا لها طعامًا، فجعلوها في ثوب، وحملوها على بعيرها، ووضعوا الثوب بين يديها، قال لها: تعلمين ما رزئنا من مائك شيئًا، ولكن الله هو الذي أسقانا، فأتت أهلها وقد احتبست عنهم. قالوا: ما حبسك يا فلانة. قالت: العجب، لقيني رجلان، فذهبا بي إلى هذا الذي يقال له الصابئ، ففعل كذا وكذا، فوالله إنه لأسحر الناس بين هذه وهذه، وقالت بإصبعيها الوسطى والسبابة، فرفعتهما إلى السماء، تعني السماء والأرض أو إنه لرسول الله حقًا، فكان المسلمون بعد ذلك يُغيرون على من حولها من المشركين، ولا يصيبون الصِّرم الذي هي منه، فقالت يومًا لقومها: ما أرى أن هؤلاء القوم يدعونكم عمدًا، فهل لكم في الإسلام؟ فأطاعوها، فدخلوا في الإسلام.
وهكذا ظهرت في هذه الحادثة معجزة للنبي - صلى الله عليه وسلم - بتكثير الماء القليل، وهناك حادثة أخرى حدثت في السفر ظهرت فيها معجزة له - صلى الله عليه وسلم - بتكثير الماء كذلك، وذلك فيما رواه البخاري عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: كنا نعد الآيات بركة وأنتم تعدونها تخويفًا، كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فقلَّ الماء، فقال: اطلبوا فضلة من ماء، فجاءوا بإناء فيه ماء قليل، فأدخل يده في الإناء، ثم قال: حي على الطهور المبارك، والبركة من الله، فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل».
النبي - صلى الله عليه وسلم - يوصي أصحابه
أخرج مسلم في صحيحه عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة قال: دخلت المسجد فإذا عبد الله بن عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة والناس مجتمعون عليه، فأتيتهم فجلست إليه، فقال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فنزلنا منزلاً، فمنا من يصلح خباءه، ومنا من ينتضل ([5])، ومنا من هو في جشره ([6])، إذ نادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الصلاة جامعة. فاجتمعنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «إنه لم يكن نبي من قبلي إلا كان حقًّا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شرَّ ما يعلمه لهم، وإن هذه الأمة جُعلت عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء فتن يرقق بعضها بعضًا، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي. ثم تنكشف، وتجئ الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة، فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إمامًا فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليعطه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر» قال: فدنوت منه فقلتُ: أنشدك بالله: أنت سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيديه، وقال: سمعته أذناي، ووعاه قلبي.. الحديث.
وهكذا نرى هذا الوصية الجامعة منه - صلى الله عليه وسلم - لأمته مما يكشف لنا ذلك الحرص الشديد على إيصال الخير للأمة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
والمتأمل في وصاياه - صلى الله عليه وسلم - لأمته في السفر يجد أنواعًا متعددة من الوصايا، كلها توجيه وإرشاد وتعليم للأمة، ومن ذلك:
إنكار المنكر
ثبت في صحيح مسلم عن جابر - رضي الله عنه - قال: سرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بطن بواط وهو يطلب المجدي بن عمرو الجهني، وكان الناضح يعقبه منها الخمسة والستة والسبعة، فدارت عقبة رجل من الأنصار على ناضح له، فأناخه، فركبه ثم بعثه، فتلدَّن عليه بعض التلدن، فقال له: شأ ([7]) لعنك الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ هذا اللاعن بعيره؟» قال: أنا يا رسول الله. قال: «انزل عنه فلا تصحبنا بملعون، ولا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة، يُسأل فيها عطاء، فيستجيب لكم».
وفي غير صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في سفر، فلعن رجل ناقته فقال: «أين الذي لعن ناقته؟ فقال الرجل: أنا هذا يا رسول الله. فقال: أخِّرها عنك، فقد أجبت فيها».
وفي صحيح ابن حبان عن عمران بن حصين قال: بينما نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، وامرأة على ناقة لها، فضجرت، فلعنتها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خذوا متاعكم عنها وأرسلوها فإنها ملعونة». قال: ففعلوا فكأني أنظر إليها ناقة ورقاء.
والورقاء من الإبل: قيل في القاموس: هي التي فيها بياض إلى سواد، وهي من أطيب الإبل لحمًا لا سيرًا وعملاً.
الحث على إسباغ الوضوء
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: رجعنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة، حتى إذا كنا بماء بالطريق تعجل قوم عند العصر، فتوضؤوا وهم عجال، فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسها الماء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ويل للأعقاب من النار».
وروى مسلم كذلك عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: تخلف عنا النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر سافرناه، فأدركنا وقد حضرت صلاة العصر، فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادى: «ويل للأعقاب من النار».
وروي كذلك عن أبي هريرة: أنه رأى قومًا يتوضؤون من المطهرة فقال: أسبغوا الوضوء فإني سمعت أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ويل للعراقيب من النار».
قوله: للأعقاب، جمع عقب وهو مؤخر القدم.
وفي هذا الخبر لما رأى عليه الصلاة والسلام التقصير في غسل العقب حذر الصحابة بقوله: ويل، حرصًا عليهم، ولا شك أنه يلحق بها ما في معناها من جميع الأعضاء التي قد يحصل التساهل في إسباغها، ولذا روى الحاكم وغيره من حديث عبد الله بن الحارث: «ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار»([8]).
الحث على الرفق بالقوارير
أخرج البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، وكان معه غلام له أسود يقال له: أنجشه، يحدو، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ويحك يا أنجشة، رويدك بالقوارير».
أنجشة: رجل من الحبشة، وقد قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - ها هنا: «رويدك بالقوارير» أي ارفق بهن، شبههن بالقوارير؛ أي الزجاج؛ بجامع الضعف في كل، ثم اختلف العلماء في معنى الحديث، فقيل: المراد: الرفق في السير؛ لأن الإبل إذا سمعت الحِداء أسرعت في السير، فربما أتعبت راكبها من هؤلاء النساء؛ لأنهن يضعفن عن شدة الحركة، ورجح بعضهم المعنى الآخر؛ وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له ذلك لأنه ينشد شيئًا من القريض والرجز، فخاف أن يفتنهن، فأمره - صلى الله عليه وسلم - بالكف عن ذلك ([9]).
ولذا فإننا نحذر أولياء أمور النساء من تمكينهن من سماع تلك الأناشيد التي يسميها أصحابها إسلامية؛ مما إذا سمعتها وجدت الميوعة وترقيق الصوت، إننا نحذر من ذلك لما فيه من التأثير على النساء، فلربما تعلقت قلوبهن بأصحاب تلك الأناشيد فوقع ما لا يحمد عقباه، والله المستعان.
التذكير بمشهد من مشاهد القيامة
روى الترمذي عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ إلى قوله: ﴿وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ﴾([10]) قال: أنزلت عليه هذه الآية وهو في سفر، فقال: «أتدرون أي يوم ذلك؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ذاك يوم يقول الله لآدم: ابعث بعث النار. قال: يا رب، وما بعث النار؟ قال: تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة. فأنشأ المسلمون يبكون، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قاربوا وسددوا؛ فإنه لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية. قال: فيؤخذ العدد من الجاهلية؛ فإن تمت وإلا كُمِّلتْ من المنافقين، وما مثلكم والأمم إلا كمثل الرقمة في ذراع الدابة أو كالشامة في جنب البعير. ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبروا. ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة فكبروا. ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة، فكبروا». قال: لا أدري قال: الثلثين أم لا؟ قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وفي هذا الحديث يظهر حرصه عليه الصلاة والسلام على أمته، ورحمته بهم، وتشجيعهم على الخير، وعدم إدخال اليأس والقنوط إلى نفوسهم.
الدعاء للأمة
أخرج النسائي وابن حبان والترمذي عن عبد الله بن خباب بن الأرت مولى بني زهرة، وكان قد شهد بدرًا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: وافيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ليلة صلاها كلها حتى كان مع الفجر، فسلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صلاته، فقلت: يا رسول الله، لقد صليت الليلة صلاة ما رأيتك صليت مثلها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أجل، إنها صلاة رغب ورهب، سألت ربي عز وجل فيها ثلاث خصال، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألت ربي عز وجل ألا يهلكنا بما أهلك به الأمم قبلنا، فأعطانيها، وسألت ربي عز وجل ألا يلبسنا شيعًا، فمنعنيها». قال الترمذي: حسن صحيح.
والحديث رواه كذلك الإمام أحمد في مسنده، ووقع في بعض الروايات أن ذلك كان في سفر.
وفي هذا الخبر يظهر حرصه عليه الصلاة والسلام على أمته ورحمته بهم بالدعاء لهم بعدم الهلاك، ذكر السندي في حاشيته على النسائي([11]) أن هذه الخصال الثلاث يحتمل أن تكون هي الواردة في قول الله عز وجل: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا﴾([12]) فالعذاب من فوق إشارة إلى الإهلاك العام بلا مداخلة عدو، ومن تحت الأرجل إشارة إلى غلبة الكفار على المسلمين؛ فكأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استشعر هذه الخصال الثلاث، فسأل الله تعالى أن يدفعها عن المسلمين، فرفع الله عز وجل الأول والثاني، وبقي الثالث وهو الفرقة والاختلاف كما هو مشاهد، والله المستعان.
ومن أمثلة دعائه - صلى الله عليه وسلم - لأمته في السفر دعاؤه لهم أن يُمطروا لما عطشوا في سفر من الأسفار، كما روى ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج في سفر فعطشوا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أرأيتم إن دعوت الله لكم، فسقيتم، لعلكم تقولون: هذا المطر بنوء كذا». فقالوا: يا رسول الله، ما هذا بحين الأنواء، فصلى ركعتين، ودعا ربه فهاجت ريح ثم هاجت سحابة فمطروا، فمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه عصابة من أصحابه برجل يغترف بقدح له وهو يقول: سقينا بنوء كذا، ولم يقل: هذا من رزق الله، فنزلت: ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾ [الواقعة: 82]؛ أي شكركم لله على رزقه إياكم أنكم تكذبون بالنعمة وتقولون: سقينا بنوء كذا. وفي تفسير ابن أبي حاتم أن هذا القائل كان رجلاً يتهم بالنفاق، وقد ورد نحو من هذا الحديث بدون ذكر سبب النزول في الصحيحين وغيرهما.
وفي الموطأ عن زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - أنه قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس وقال: «أتدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أصبح من عبادي مؤمن بي، كافر بالكوكب. وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا- فذلك مؤمن بالكوكب كافر بي».
قال الشافعي يرحمه الله: لا أحب أحدًا أن يقول: مطرنا بنوء كذا وكذا، وإن كان النوء عندنا الوقت المخلوق، لا يضر، ولا ينفع، ولا يمطر، ولا يحبس شيئًا من المطر، والذي أحِبُّ أن يقول: مطرنا وقت كذا كما تقول: مطرنا شهر كذا.
ومن قال: مطرنا بنوء كذا- وهو يريد أن النوء أنزل الماء كما عنى بعض أهل الشرك من الجاهلية بقوله، فهو كافر حلال دمه إن لم يتب، وقال أبو عمر بن عبد البر: وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - حاكيًا عن الله سبحانه: «أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر» فمعناه عندي على وجهين: أما أحدهما فإن المعتقد بأن النوء هو الموجب لنزول الماء وهو المنشئ للسحاب دون الله عز وجل فذلك كافر كفرًا صريحًا، يجب استتابته عليه وقتله إن أبى؛ لنبذه الإسلام ورده القرآن، والوجه الآخر: أن يعتقد أن النوء ينزل الله عز وجل به الماء، وأنه سبب الماء على ما قدره الله، وسبق في علمه، وهذا وإن كان وجهًا مباحًا فإن فيه أيضًا كفرًا بنعمة الله عز وجل وجهلاً بلطيف حكمته في أن ينزل الماء متى شاء؛ مرة بنوء كذا، ومرة بنوء كذا، وكثيرًا ما ينوء النوء فلا ينزل معه شيء من الماء، وذلك من الله تعالى لا من النوء، وكذلك كان أبو هريرة - رضي الله عنه - يقول إذا أصبح وقد مُطر: مطرنا بنوء الفتح، ثم يتلو: ﴿مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا﴾([13]).
قال أبو عمر بن عبد البر: وهذا عندي نحو قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بفضل الله ورحمته». ومن هذا الباب قول عمر بن الخطاب للعباس بن عبد المطلب حين استسقى به: يا عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كم بقي من نوء الثريا، فقال العباس: العلماء يزعمون أنها تعترض في الأفق سبعًا بعد سقوطها. فما مضت سابعة حتى مطروا، فقال عمر: الحمد لله، هذا بفضل الله ورحمته، قال القرطبي: وكأن عمر رحمه الله قد علم أن نوء الثريا وقت يرجى فيه المطر ويؤمل، فسأله عنه: أخرج أم بقيت منه بقية؟([14]). اهـ.
الحث على التأدب في الدعاء
كان عليه الصلاة والسلام ضمن وصاياه في سفره يحث أصحابه على أمر عظيم، وهو التأدب في الدعاء، وكان الصحابة يحرصون على الدعاء في السفر؛ لما يعلمونه عنه - صلى الله عليه وسلم - من حثه على الدعاء؛ لأن دعوة المسافر مستجابة، وشاهد حثِّه - صلى الله عليه وسلم - أمته على التأدب في الدعاء أثناء السفر ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي موسى قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر – وفي رواية: في غزاة – فجعل الناس يجهرون بالتكبير – وفي رواية: فجعل رجل كلما علا ثنية قال: لا إله إلا الله – فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أيها الناس، أربعوا على أنفسكم، إنكم لستم تدعون أصم ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا قريبًا وهو معكم».
فهذا الحديث فيه دلالة على أنه ينبغي على المسلمين التأدب في الدعاء بعدم رفع أصواتهم؛ لأن الله تعالى سميع لكلامهم، قريب غير بعيد، ولذا قال سبحانه: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾([15])، وأثنى على عبده زكريا u فقال: ﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا﴾([16]).
وبهذه المناسبة، وهي الدعاء في السفر، وإجابة الدعاء فيه، يحسن بنا أن نورد قصة للإمام النباجي ذكرها الإمام الذهبي في سيره ([17])، فقال: روى أبو نعيم عن أبيه عن خاله أن النباجي كان مجاب الدعوة، وله آيات وكرامات، وكان في سفر، فأصاب رجل عائن ناقته بالعين، فجاءه النباجي ودعا عليه بألفاظ، فخرجت حدقتا العائن ونشطت الناقة.
قال الذهبي في ترجمة النباجي هذا: القدوة العابد الرباني، أبو عبد الله سعيد بن بُريد. له كلام شريف ومواعظ.
النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي خلف عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -
أخرج ابن خزيمة في صحيحه ([18]) عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قال: شهدت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان في سفر، فحضرت الصلاة، فاحتبس عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأقاموا الصلاة وقدموا ابن عوف، فصلى بهم بعض الصلاة، وجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلى خلف ابن عوف ما بقي من الصلاة، فلما سلم بنا ابن عوف قام النبي - صلى الله عليه وسلم - فقضى ما سبق به.
وفي مسند أحمد وصحيح مسلم كتاب الطهارة، وسنن أبي داود والنسائي عن عمرو بن وهب الثقفي قال: كنا مع المغيرة بن شعبة فسُئل: هل أمَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدا من هذه الأمة غير أبي بكر؟ فقال: نعم. فذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ ومسح على خفيه وعمامته، وأنه صلى خلف عبد الرحمن بن عوف وأنا معه ركعة من الصبح، وقضينا الركعة التي سبقنا.
قال ابن كثبر في البداية والنهاية معلقًا: «وهذه منقبة عظيمة لا تُبارى»([19]).
كلام له - صلى الله عليه وسلم - في الضب
روى عبد الرحمن بن حسنة - رضي الله عنه - قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، قال: فنزلنا أرضًا كثيرة الضباب، قال: فأصبنا منها وذبحنا، قال: فبينا القدور تغلي بها إذ خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إن أمة من بني إسرائيل فُقدت، وإني أخاف أن تكون هي فاكفئوها فكفأناها، وإنا لجياع». رواه أحمد والطبراني في الكبير، وأبو يعلي والبزار. قال الهيثمي: ورجال الجميع رجال الصحيح.
وروى عبد الرحمن بن عتم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن سبطًا من بني إسرائيل هلك لا يدري أين مهلكه، وأنا أخشى أن تكون هذه الضباب».
قال الهيثمي: رواه أحمد، وقد ذكر لعبد الرحمن بن عتم ترجمة؛ فهو مرسل حسن الإسناد، أو متصل على رأي الإمام أحمد ([20]).
فإن قال قائل: وكيف نجمع بين هذا المذكور وبين ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث الصحيحة- أنه أجاز أكل الضب كما في كتاب الذبائح من صحيح البخاري أنه لما قُدم له وعلم أنه ضب رفع يده، فقيل له: أحرام هو يا رسول الله؟ فقال: «لا، ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه».
والجمع بينهما أن يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بإهراق تلك القدور؛ لأنه خشي أن تكون الضباب مما مسخ، ولكنه لم يجزم بذلك، ثم علم بعد ذلك بتعليم الله عز وجل له أن الممسوخ لا يُنسِل كما في صحيح مسلم، فلم ينه عن أكله بعد ذلك ([21]).
رحمته - صلى الله عليه وسلم - بالأطفال
روى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما كما في صحيح مسلم ([22]) قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قدم من سفر تلقى بصبيان أهل بيته قال: وإنه قدم من سفر فسُبق بي إليه، فحملني بين يديه، ثم جيء بأحد ابني فاطمة، فأردفه خلفه، قال: فأدخلنا المدينة ثلاثة على دابة. وروى كذلك عبد الله قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قدم من سفر تلقِّي بنا، قال: فتلقي بي وبالحسن أو بالحسين، قال: فحمل أحدنا بين يديه والآخر خلفه حتى دخلنا المدينة.
والحديث روى نحوه ابن منده في معرفة أسامي أرادف النبي - صلى الله عليه وسلم -([23]).
وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب صحابي جليل، وكان من أهل الفضل والسخاء، وقد جاء ما يدل على ذلك عندما كان في سفر، وذلك فيما ذكره أبو بكر القرشي في كتابه «الإخوان»([24]) عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما؛ أنه كان في سفر له، فمر بفتيان يوقدون تحت قدر لهم، فقام إليه أحدهم فقال: أقول له حين ألفيته عليك السلام أبا جعفر، فوقف عبد الله، وقال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، فقال الفتى: فهذه ثيابي قد أخلقت، وقد عضني زمن منكر، فقال عبد الله: فهذه ثيابي مكانها ونعينك على زمنك المنكر. قال: وعليه جبة خز ومطرف خز وعمامة خز فأعطاه ذلك، فقال الفتى: وأنت كريم بني هاشم، وفي البيت منها الذي نذكر، قال: يا ابن أخي هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومضى.
رحمته - صلى الله عليه وسلم - بالطير
أخرج الحاكم في مستدركه([25]) وصححه، ووافقه الذهبي عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، ومررنا بشجرة فيها فرخا حمرة ([26]) فأخذناهما؛ قال: فجاءت الحُمرة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي تصيح فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من فجع هذه بفرخيها؟ قال: فقلنا: نحن. قال: فردوهما».
هذا الحديث فيه بيان رحمته - صلى الله عليه وسلم - بالطير، وإرشاد للصحابة الكرام والمسلمين جميعًا إلى الحذر من إيذاء الطير أو الحيوان أيا كان، كما ثبت في سنن النسائي ومستدرك الحاكم بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من إنسان قتل عصفورًا فما فوقها بغير حقها إلا سأله الله عز وجل عنها». قيل: يا رسول الله، وما حقها؟ قال: أن يذبحها فيأكلها، ولا يقطع رأسها، فيرمي بها».
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرَّ على حمار قد وسم وجهه، فقال: «لعن الله الذي وسمه».
* * * *
ثانيًا: بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في السفر الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع جابر وعلامة من علامات حسن خلقه وزهده في الدنيا
روى مسلم([27]) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: غزوتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتحتي ناضح لي قد أعيى ولا يكاد يسير، قال: فقال لي: ما لبعيرك؟ قال: قلت: عليل. قال: فتخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فزجره ودعا له، فما زال بين يدي الإبل قدامها يسير. قال: فقال لي: كيف ترى بعيرك؟ قال: قلت: بخير، قد أصابته بركتك. قال: أفتبيعنيه؟ فاستحييت ولم يكن لنا ناضح غيره، قال: فقلتُ: نعم، فبعته إياه على أن لي فقار ظهره حتى أبلغ المدينة، قال: فقلت له: يا رسول الله، إني عروس. فاستأذنته فأذن لي، فتقدمت الناس إلى المدينة حتى انتهيت فلقيني خالي، فسألني عن البعير، فأخبرته بما صنعتُ فيه. فلامَني فيه.. وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لي حين استأذنته: ما تزوجت أبكرًا أم ثيبًا؟ فقلت له: تزوجت ثيبًا. قال: أفلا تزوجت بكرًا تلاعبك وتلاعبها؟ فقلت له: يا رسول الله، توفي والدي- أو استشهد- ولي أخوات صغار، فكرهت أن أتزوج إليهن مثلهن، فلا تؤدبهن، ولا تقوم عليهن، فتزوجت ثيبًا لتقوم عليهن وتؤدبهن. قال: فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة غدوت إليه بالبعير، فأعطاني ثمنه، ورده علي.
وفي صحيح ابن حبان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول لجابر: «تبيعنيه إن قدمنا المدينة إن شاء الله بدينار؟ فما زال يقول ذلك حتى بلغ عشرين دينارًا، كل ذلك يقول: والله يغفر لك.
وهناك قصة أخرى مثل هذه حصلت له - صلى الله عليه وسلم - مع عمر بن الخطاب وابنه عبد الله كما روى البخاري ([28]) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فكنت على بكر ([29]) صعب لعمر، فكان يغلبني، فيتقدم أمام القوم فيزجره عمر ويرده، ثم يتقدم فيزجره عمر ويرده، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر: «بعنيه». قال: هو لك يا رسول الله. قال: «بعنيه»، فباعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «هو لك يا عبد الله بن عمر تصنع به ما شئت».
فانظر – يا رعاك الله – كيف يشتري - صلى الله عليه وسلم - الجمل من جابر ثم يعطيه إياه بدون أخذ الدراهم، ثم انظر كيف يشتري الجمل من عمر، ويعطيه مجانًا لولده عبد الله!! إنه الأدب الرفيع والزهد العجيب البارزان في خلقه - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه ليعلمهم كيف يكونون أسخياء زهادًا لا تهمهم الدنيا، وقد كان الحال كذلك، فزهدوا في الدنيا y وضربوا أروع الأمثلة في ذلك، واقرأ التاريخ والسير يتضح لك ذلك بجلاء.
حرص الصحابة على حراسة النبي - صلى الله عليه وسلم -
روى ابن خزيمة ([30]) عن ثابت البناني أن عبد الله بن رباح حدث القوم في المسجد الجامع، وفي القوم عمران بن حصين، فقال عمران بن حصين: من الفتى؟ فقال: امرؤ من الأنصار. فقال عمران بن حصين: القوم أعلم بحديثهم، انظر كيف تحدث؛ فإني سابع سبعة تلك الليلة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال عمران: ما كنت أرى أحدًا بقي يحفظ هذا الحديث غيري، فقال: سمعت أبا قتادة يقول: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر فقال: «إنكم إلا تدركوا الماء من غدٍ تعطشوا». فانطلق سرعان الناس، فقال أبو قتادة: ولزمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الليلة، فنعس، فنام فدعمته، ثم نعس أيضًا فمال، فدعمته، ثم نعس، فمال أخرى، حتى كاد ينجفل فاستيقظ، فقال: من الرجل؟ فقلت: أبو قتادة، فقال: من كم كان مسيرك هذا؟ قلت: منذ الليلة. فقال: حفظك الله بما حفظت به نبيه».
والحديث أورد نحوه الهيثمي في مجمع الزوائد، وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي قتادة: لا أرانا إلا قد شققنا عليك، نَحِّ بنا عن الطريق. فتوسد كل رجل منا ذراع راحلته.
وتدبر قوله: «لا أرانا إلا قد شققنا عليك». تجد ما يدل دلالة بينة على ما كان يتمتع به - صلى الله عليه وسلم - من المحبة لأصحابه مثل ما يحبه لنفسه، كيف لا وهو صاحب الخلق العظيم، والإمام المعلم للناس كلهم كيف تكون الصحبة؟!
وفي الحديث رأينا كيف حرص الصحابي الجليل أبو قتادة على حماية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والدفاع عنه، وهو ما يكشف لنا بحق كيف كان الصحابة يبذلون مهجهم وأرواحهم ليدافعوا عن صاحب الرسالة - صلى الله عليه وسلم -.
وانظر المكافأة العظيمة التي نالها أبو قتادة - رضي الله عنه - عندما دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «حفظك الله بما حفظت به نبيه».
وماذا يرجو المرء أكثر من هذا الخير العظيم: أن يحفظه الله عز وجل من الشرور، فيبقى عزيزًا شريفًا، مدافعًا عن الإسلام، ومناضلاً من أجله، فما أعظمه من خير، وما أجله من أجر، ولأجر الآخرة أكبر وأعظم لكل من بذل نفسه لله عز وجل حارسًا للملة، ومدافعًا عن الدعوة وصاحبها - صلى الله عليه وسلم -.
درس في الامتثال للأمر النبوي
روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر غزوة ذات الرقاع، فأصاب رجل من المسلمين امرأة رجل من المشركين (أي قتلها)، فلما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى زوجها وكان غائبًا فلما أُخبر حلف لا ينتهي حتى يهريق في أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - دمًا، فخرج يتبع أثر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منزلاً فقال: «من رجل يكلؤنا ليلتنا هذه؟» فانتدب([31]) رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار، فقالا: نحن يا رسول الله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فكونا بفم الشعب». قال: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه نزلوا إلى شعب من الوادي، فلما خرج الرجلان إلى فم الشعب قال الأنصاري للمهاجري: أي الليل أحب إليك أن أكفيك أوله أو آخره. قال: بل اكفني أوله. قال: فاضطجع المهاجري فنام، وقام الأنصاري يصلي وأتى زوج المرأة، فلما رأى شخص الرجل عرف أنه ربيئة للقوم ([32])، فرماه بسهم فوضعه فيه، فنزعه، فوضعه وثبت قائمًا يصلي، ثم رماه الثالثة فوضعه فيه، فنزعه، فوضعه، ثم ركع وسجد، ثم أهب صاحبه فقال: اجلس فقد أُتيت، فوثب، فلما رآهما الرجل عرف أنه نذر به، فلما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الدماء قال: سبحان الله، أفلا أهبتني أول ما رماك. قال: كنت في سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها حتى أنفدها ([33])، فلما تابع على الرمي ركعتُ فآذنتك، وأيم الله لولا أن أضيع ثغرًا أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفدها. الحديث رواه أبو داود، وابن إسحاق، وصححه ابن خزيمة، وحسَّنه الألباني.
وقد ورد أن هذا الصحابي الأنصاري هو عباد بن بشر، والمهاجري هو عمار بن ياسر رضي الله عنهما وهما من كبار الصحابة الذين كان لهما أثر كبير في نصر الإسلام والدفاع عن حياضه، ويكفيك هذا المثال الذي أظهر فيه عباد - رضي الله عنه - امتثاله العظيم لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بحفظ الثغر، وبذل روحه رخيصة في سبيل الله، وذلك عندما قال: «وأيم الله لولا أن أضيع ثغرًا أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفدها».
الصحابة يسألون والرسول - صلى الله عليه وسلم - يجيب
روى مسلم ([34]) أن أعرابيًا عرض لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في سفر فأخذ بخطام ناقته أو بزمامها ثم قال: يا رسول الله. أو: يا محمد؛ أخبرني بما يقربني من الجنة وما يباعدني من النار. قال: فكف النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم نظر في أصحابه، ثم قال: «لقد وفق- أو: لقد هدي». قال: كيف قلت؟ قال: فأعاد، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم، دع الناقة». ومثل هذا السؤال سأله معاذ بن جبل - رضي الله عنه - في حال سفر كذلك كما روى الترمذي وقال: حسن صحيح، عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فأصبحت يومًا قريبًا منه ونحن نسير، فقلت: يا نبي الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار. قال: «لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسَّره الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان وتحج البيت». ثم قال: «ألا أدلك على أبواب الخير؟! الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة، وصلاة الرجل في جوف الليل»، ثم قرأ: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ﴾ حتى بلغ ﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾([35]) ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كلِّه؟ فقلت: بلى يا نبي الله. فأخذ بلسانه ثم قال: «كف عليك هذا». فقلتُ: يا رسول الله، وإنا لمؤاخَذون بما نتكلم به؟ فقال: «ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم- أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم؟!»
وحسبك بهذا التوجيه منه - صلى الله عليه وسلم -؛ ففيه من البيان والحكمة وإيجاز العبارة ما يعجز عنه كبار الفصحاء والبلغاء.
* * * *
ثالثًا: مواقف عظيمة للسلف في السفر ذكر الله تعالى يدفع البلاء
ذكر الخطيب البغدادي من حديث سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده، قال: كنا مع عمر في سفر، فأصابنا رعد وبرد، فقال لنا كعب: من قال حين يسمع الرعد: «سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته» ثلاثًا عوفي مما يكون في ذلك الرعد. ففعلنا، فعوفينا، ثم لقيت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فإذا بَرَدة قد أصابت أنفي، فأثرت به، فقلت: يا أمير المؤمنين، ما هذا؟ قال: بردة أصابت أنفي فأثرت، فقلت: إن كعبًا حين سمع الرعد قال لنا: مَنْ قال حين يسمع الرعد: «سبحان مَنْ يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته» ثلاثًا، عوفي مما يكون في ذلك الرعد، فقلنا: فعوفينا. فقال عمر: أفلا قلتم لنا حتى نقولها([36])!.
وهذا فيه بيان واضح بأن ذكر الله عز وجل يدفع البلاء عن العبد، وكيف لا يكون كذلك وفيه من اللجوء إلى الله عز وجل والاعتصام به- ما يكفيه ويحفظه الله به، وكم في شريعتنا من الأذكار التي إذا حفظها العبد وقالها حفظه الله عز وجل من كل شر وبلاء.
اقتفاء سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -
روى أحمد والبزار بإسناد جيد([37]) عن مجاهد قال: كنا مع ابن عمر رحمه الله في سفر، فمر بمكان، فحاد يمنة، فسُئل: لم فعلت ذلك؟ قال: رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل هذا ففعلتُ. وروى البزار بإسناد لا بأس به([38]) عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يأتي شجرة بين مكة والمدينة، فيقيل تحتها، ويخبر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك.
وروى أحمد بسند رجال محتَجٍّ بهم في الصحيح ([39]) عن ابن سيرين قال: كنت مع ابن عمر رحمه الله بعرفات، فلما كان حين راح رحت معه حتى أتى الإمام، فصلى معه الأولى والعصر ثم وقف وأنا وأصحاب لي، حتى أفاض الإمام فأفضنا معه حتى انتهى إلى المضيق دون المأزمين، فأناخ وأنخنا ونحن نحسب أنه يريد أن يصلي، فقال غلامه الذي يمسك راحلته: إنه ليس يريد الصلاة، ولكنه ذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما انتهى إلى هذا المكان قضى حاجته فهو يحب أن يقضي حاجته.
وهكذا نرى هذا الحرص العظيم على اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل شيء من هذا الصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وهو ينبئ بتلك المحبة العظيمة التي يكنها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إنه ليقلده في كل شيء وقف عليه.
بر الوالدين
روى البخاري في الأدب المفرد([40]) عن ابن عمر أنه مَرَّ أعرابي في سفر، فكان أبو الأعرابي صديقًا لعمر - رضي الله عنه -، فقال الأعرابي: ألست ابن فلان؟ قال: بلى، فأمر له ابن عمر بحمار كان معه، ونزع عمامته عن رأسه فأعطاه، فقال بعض مَنْ معه: أما يكفيك درهمان؟ فقال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: احفظ ود أبيك لا تقطعه، فيطفئ الله نورك.
وأخرج نحوه مسلم في كتاب البر والصلة، ومما ورد في بر الوالدين مما له علاقة بالسفر ما ذكره أبو بكر القرشي في «مكارم الأخلاق»([41]) عن سفيان بن عيينة قال: قدم رجل من سفر فصادف أمه قائمة تصلي، فكره أن يقعد وهي قائمة، فعلمت ما أراد، فطوَّلت ليؤجر.
وقد ذكر ابن حبان في كتاب «الثقات»([42]) أن اسم هذا البار بأمه حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي، أحد التابعين، وفاته سنة تسع وثمانين ومائة.
وهذا فيه تعظيم السلف لحق الوالدة، وتقدير الوالدة والأم لهذا البر؛ كما جاء عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه كان إذا غدا من منزله لبس ثيابه ثم وقف على باب أمه، فيقول: السلام عليك يا أمتاه ورحمة الله وبركاته. فترد عليه مثل ذلك، فيقول: جزاك الله عني خيرًا كما ربيتني صغيرًا. فتقول: وأنت يا ابني فجزاك الله عني خيرًا كما بررتني كبيرة. ثم يخرج فإذا رجع قال: مثل ذلك.
كراهية المال الحرام
روى أحمد بسندٍ رجاله ثقات([43]) عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنهم خرجوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر فنزلوا رُفقة مع فلان، قال: فنزلت في رفقة أبي بكر، وكان معنا أعرابي من أهل البادية، فنزلنا بأهل بيت من الأعراب وفيهم امرأة حامل، فقال لها الأعرابي: نبشرك أن تلدي غلامًا، إن أعطيتني شاة ولدت غلامًا. فأعطته شاة، وسجع لها أساجيع، قال: فذبح الشاة. فلما جلس القوم يأكلون، قال رجل: أتدرون ما هذه الشاة؟ فأخبرهم. أي أنها كانت حلوان كاهن، وهو الأعرابي الآنف الذكر، قال: فرأيت أبا بكر متبرزًا، مستنثلاً متقيئًا.
وهذا فيه فضيلة عظيمة لأبي بكر - رضي الله عنه -؛ حيث إنه لما أكل الطعام ثم علم أنه حلوان كاهن أخرجه، وحسبك بهذا العمل؛ ففيه التقوى، وفيه الورع عن أكل الحرام، فرضي الله عن أبي بكر وأرضاه.
قوة الجسد وقوة الإيمان
أخرج أبو بكر الأصبهاني في كتاب العظمة ([44]) عن علي - رضي الله عنه - قال: والله لقد قاتل عمار بن ياسر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجن والإنس، فقلنا: هذا الإنس قد قاتل، فكيف الجن؟ قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فقال لعمار: «انطلق فاستق لنا من الماء». فانطلق، فعرض له شيطان في صورة عبد أسود، فحال بينه وبين الماء قاعدًا، فصرعه عمار، فقال له: دعني وأخلي بينك وبين الماء. ففعل ثم أبى، فأخذه عمار الثانية فصرعه، فقال: دعني وأخلي بينك وبين الماء. ففعل ثم أبى، فأخذه عمار الثالثة فصرعه، فقال: دعني وأخلي بينك وبين الماء. فتركه فأبى، فصرعه، فقال له مثل ذلك فتركه، فوفى له، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الشيطان قد حال بين عمار وبين الماء في صورة عبد أسود، وإن الله عز وجل أظفر عمارًا به». قال علي - رضي الله عنه -: فتلقينا عمارًا - رضي الله عنه - نقول له: ظفرت يدك يا أبا اليقظان، قال رسول الله كذا وكذا. فقال: أما والله لو شعرتُ أنه شيطان لقتلته، ولكن كنت هممت أن أعض بأنفه لولا نتن ريحه.
وهذا الحديث بهذا اللفظ ضعيف، ولكن له طرق صحيحة كما ذكر الشيخ المباركفوري في تحقيقه لكتاب العظمة، وفيه بيان واضح بقوة عمار الجسدية، وهو نافع من قوة الإيمان كما ثبت في مسند أحمد وغيره بسند صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «عمار ملئ إيمانًا إلى مشاشه». جمع مشاشة وهي العظم.
قيام الليل
ذكر ابن أبي يعلى في «طبقات الحنابلة»([45]) عن عبد الصمد بن سليمان بن أبي مطر قال: بت عند أحمد بن حنبل رحمه الله فوضع لي صاخرة ماء، قال: فلما أصبحت وجدني لم أستعمله، فقال: صاحبُ حديثٍ لا يكون له ورد بالليل. قال: قلت: مسافر، قال: وإن كنت مسافرًا، حجَّ مسروقٌ فما بات إلا ساجدًا.
ومسروق هو مسروق بن الأجدع، أحد كبار التابعين، كنيته أبو عائشة الوادعي، اشتهر بالعلم والعبادة، فإذا كانت هذه عبادته في الحج، فكيف في الحضر! هذه زوجة تذكر عنه ما يفعله في الحضر، تقول: كان مسروق يصلي حتى تورم قدماه، فربما جلست أبكي مما أراه يصنع بنفسه!!
حسن الصحبة
روى مسلم ([46]) عن أنس بن مالك قال: خرجت مع جرير بن عبد الله البجلي في سفر، فكان يخدمني، فقلت له: لا تفعل. فقال: إني قد رأيت الأنصار تصنع برسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا آليت أن لا أصحب أحدًا منهم إلا خدمته. زاد ابن المثنى وابن بشار في حديثهما: وكان جرير أكبر من أنس. وقال ابن بشار: أسنُّ من أنس.
فانظر – يا رعاك الله – إلى إحسان الصحبة والتواضع للغير؛ جرير يخدم أنسًا مع أن جريرًا هو الأكبر، لماذا؟ لما كان يراه في الأنصار من الحرص العظيم على خدمة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعند ذلك قرر تقريرًا جازمًا أن لا يرى أحدًا منهم إلا حرص على خدمته وحسن صحبته.
الاهتمام بالعلم
هذا الذهبي في سيره يروي عن محمد بن أبي حاتم الوراق قال: كان أبو عبد الله – يعني البخاري – إذا كنت معه في سفر يجمعنا بيت واحد إلا في القيظ أحيانًا، فكنت أراه يقوم في ليلة واحدة خمس عشرة مرة، في كل ذلك يأخذ القداحة، فيوري نارًا ويسرج، ثم يخرج أحاديث فيعلم عليها!!
فانظر إلى الجِد والمثابرة والحرص على العلم حتى في السفر.
الصبر على المصيبة
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه نُعي له أخوه قُثَم - وقيل: بنت له – وهو في سفر، فاسترجع وقال: عورة سترها الله، ومؤمنة كفاها الله، وأجر ساقه الله، ثم تنحى عن الطريق وصلى، ثم انصرف إلى راحلته وهو يقرأ: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ﴾([47])، ذكر ذلك عنه القرطبي في تفسير الآية ([48]) وذكر المروزي في كتابه «تعظيم قدر الصلاة»([49]) أن ابن عباس رضي الله عنهما قال ذلك في ابن له مات.
التواضع
ذكر في «التعديل والتجريح»([50]) عن نافع بن جبير وهو من أئمة التابعين، وقد أخرج له البخاري في صحيحه في أكثر من موضع أنه خرج في سفر ومعه شيخ من بني عبد الدار، فلما حضرت الصلاة قال نافع للشيخ: تقدم فصلِّ، ففعل، فلما فرغ من صلاته قال له نافع: تدري لم قدمتك؟ قال: نعم، لشرفي وسني. قال: لا، ولكن أردت أن أتواضع لله بك!
حصول الكرامة
ذكر الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول في أحاديث الرسول»([51]) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه خرج في سفر له، فإذا الجماعة على طريق، فقال: ما هذه الجماعة؟ قالوا: أسد قطع الطريق. قال: فنزل ومشى إليه حتى قفده بيده ونحاه عن الطريق.
وفي كتاب «البيان والتعريف» للحسيني([52]) أن ابن عمر أخذ بأذن الأسد فنحاه عن الطريق.
فهذا الخبر إن صح فهو كرامة لابن عمر رضي الله عنهما، ومثل ذلك ما حصل للإمام ابن النبيل أحمد بن عمرو الضحاك، قال ابن كثير في «البداية والنهاية»([53]): اتفق له مرة كرامة هائلة؛ كان هو واثنان من كبار الصالحين في سفر، نزلوا على رمل أبيض، فجعل أبو بكر هذا – يعني ابن النبيل – يقلبه بيده ويقول: اللهم ارزقنا خبيصًا يكون غداء على لون هذا الرمل، فلم يكن بأسرع من أن أقبل أعرابي وبيده قصعة فيها خبيص بلون ذلك الرمل وفي بياضه، فأكلوا منه.
ترجم له ابن كثير فقال: ابن النبيل له المصنفات في الحديث كثيرة؛ منها كتاب «السنة في أحاديث الصفات» على طريق السلف، وكان حافظ قد ولي قضاء أصبهان بعد صالح بن أحمد، وقد طاف البلاد قبل ذلك في طلب الحديث، وصحب أبا تراب النخشبي وغيره من مشايخ الصوفية ([54]).
وكان يقول: لا أحب أن يحضر مجلسي مبتدع ولا مدع ولا طعان ولا لعان ولا فاحش ولا بذيء ولا منحرف عن الشافعي وأصحاب الحديث، توفي سنة ثمان وثمانين ومائتين بأصبهان.
رابعًا: عاقبة العصيان والتمرد: كما تدين تدان
أخرج أبو جعفر أحمد بن عبد الله الطبري المتوفي سنة أربع وتسعين وستمائة في كتابه «الرياض النضرة في مناقب العشرة»([55]) عن أبي المحياة التيمي قال: حدثني رجل، قال: خرجنا في سفر ومعنا رجل يشتم أبا بكر وعمر، فنهيناه، فلم ينته، فخرج لبعض حاجته، فاجتمع عليه الزنانير ([56])، فاستغاث فأغثناه، فحملت علينا فتركناه، فما أقلعت عنه حتى قطعته قطعًا.
عاقبة الاستكبار
ذكر القرطبي عند تفسير قوله سبحانه: ﴿وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ﴾([57])([58])، عن سليمان بن يسار أنه حكى أن قومًا كانوا في سفر، فكانوا إذا ركبوا قالوا: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وكان فيهم رجل على ناقة لا تتحرك...، فقال: أما أنا فإني لهذه لمقرن. قال: فقمصت به ناقته فدقت عنقه.
فضح المنافقين
جاء في سنن الترمذي مختصرًا أن الصحابة خرجوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزاة ومعهم رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول، فكان مما قاله هذا المنافق: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. وكان زيد بن أرقم - رضي الله عنه - سمع ذلك، فأخبر عمه، فلما وصل الخبر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل إلى عبد الله بن أبي بن سلول فحلف وجحد، قال: فصدقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكذبني. قال: فجاء عمي إليَّ، فقال: ما أردت إلى أن مقتك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكذبك.. قال: فوقع عليَّ من الهمِّ ما لم يقع على أحد، قال: فبينما أنا أسير مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، قد خفقت برأسي من الهمِّ إذ أتاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَعَركَ أذني وضحك في وجهي، فقال: «أبشر». ثم لحقني عمر فقلتُ له مثل قولي لأبي بكر، فلما أصبحنا قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سورة المنافقين.
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وبمناسبة الحديث عن المنافقين يحسن بنا أن نورد هنا حادثة في السفر فيها بيان بالعاقبة التي يصير إليها المنافق؛ وذلك فيما رواه مسلم ([59]) عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم من سفر، فلما كان قرب المدينة هاجت ريح شديدة تكاد تدفن الراكب، فزعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «بعثت هذه الريح لموت منافق». فلما قدم المدينة فإذا منافق عظيم من المنافقين قد مات.
قال السيوطي: بعثت هذه الريح لموت منافق عقوبة له على نفاقه ([60]).
وورد في «المنتخب من مسند عبد بن حميد»([61]) أن اسم هذا المنافق: رافع بن التابوت، والله تعالى أعلم.
* * * *
مِسْكُ الختام
أود قبل أن أختم هذا الموضوع أن أذكر حادثتين وقعتا في السفر؛ أولهما ما ذكره القرطبي في تفسيره عن السهيلي أن من الجن الذين استمعوا لقراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - وآمنوا به جنيًا اسمه عمرو بن جابر، ذكره ابن سلام من طريق أبي إسحاق السبيعي عن أشياخه عن ابن مسعود أنه كان في نفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يمشون – أي في سفر – فرفع لهم إعصار، ثم جاء إعصار أعظم منه، فإذا حية قتيل، فعمد رجل منا إلى ردائه، فشقه، وكفن الحية ببعضه ودفنها، فلما جن الليل إذا امرأتان تسألان: أيكم دفن عمرواً بن جابر؟ فقلنا: ما ندري من عمرو بن جابر. فقالتا: إن كنتم ابتغيتم الأجر فقد وجدتموه، إن فسقة الجن اقتتلوا مع المؤمنين، فقُتل عمرو، وهو الحية التي رأيتم، وهو من النفر الذين استمعوا القرآن من محمد - صلى الله عليه وسلم - ثم ولوا إلى قومهم منذرين، وذكر ابن سلام رواية أخرى أن الذي كفنه هو صفوان بن المعطل.
وذكر ابن أبي الدنيا عن رجل من التابعين سماه أن الحية دخلت عليه في خبائه تلهث عطشًا، فسقاها، ثم إنها ماتت، فدفنها، فأتي من الليل فسُلم عليه وشُكر، وأخبر أن تلك الحية كانت رجلاً من جن نصيبين اسمه زوبة.
وحدث أبو طاهر الإشبيلي أن عمر بن عبد العزيز كان يمشي بأرض فلاة فإذا حية ميتة، فكفَّنها بفضلة من ردائه ودفنها، فإذا قائل يقول: يا سرق، اشهد، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ستموت بأرض فلاة، فيكفنك رجل صالح، فقال: ومن أنت يرحمك الله، فقال: رجل من الجن الذين استمعوا القرآن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يبق منهم إلا أنا وسرق، وهذا سرق قد مات، وقد قُتلت ([62]).
وهذه الأخبار المتقدمة في شأن الجن وردت من طرق ضعيفة، كما ذكر ذلك محقق كتاب «العظمة» الشيخ المباركفوري، لكنه ذكر عن البيهقي في الدلائل أنه روى خبر عمر بن عبد العزيز من طريقين حسنه بهما، والله أعلم.
ومن باب الفائدة فقد ذكر الحكيم الترمذي ضابطًا في صفة الحية التي تمثل الجن؛ وهي أنها لا تلتوي، والله أعلم.
الإمام أبو تراب النخشبي وتمنيه الخبز والبيض
والحادثة الثانية وبها نختم حديثنا- قصة طريفة وقعت للإمام أبي تراب النخشبي، ذكرها أبو نعيم في «حلية الأولياء»([63])، عن يوسف بن الحسين قال: سمعت أبا تراب يقول: ما تمنت علي نفسي قط إلا مرة، تمنت عليَّ خبزًا وبيضاً، وأنا في سفر فعدلت من الطريق إلى قرية، فلما دخلتها وثب إلي رجل فتعلق بي، وقال: إن هذا كان مع اللصوص، فبطحوني وضربوني سبعين جلدة، فوقف علينا رجل، فصرخ: هذا أبو تراب، فأقاموني، واعتذروا إلي، وأدخلني الرجل منزله، وقدم إلي خبزًا وبيضًا، فقلت: كلها بعد سبعين جلدة.
وأبو تراب هذا هو عسكر بن محمد الزاهد، ذكره أبو نعيم فقال: ومنهم أبو تراب النخشبي، كان أحد أعلام المتوكلين وإمام المتجردين.
والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
([1]) المائدة: 67.
([2]) تفسير القرآن العظيم (2/80).
([3]) انظر تفسير القرآن العظيم (2/80).
([4]) جمع عزلاء وهي مصب الماء من الراوية.
([5]) من المناضلة وهي الرمي بالنشاب.
([6]) الدواب التي ترعى في مكانها.
([7]) زجر للبعير بمعنى سرْ.
([8]) انظر فتح الباري (1/267).
([9]) انظر «الديباج على صحيح مسلم» للسيوطي (5/325).
([10]) الحج (1-2).
([11]) (3/218).
([12]) الأنعام: 65.
([13]) فاطر: 2.
([14]) انظر الجامع لأحكام القرآن 17/230.
([15]) الأعراف: 55.
([16]) مريم: 3.
([17]) (9/586).
([18]) (3/72).
([19]) (7/171).
([20]) «مجمع الزوائد» (4/37).
([21]) انظر فتح الباري 9/666، 667.
([22]) (4/1885).
([23]) (1/22).
([24]) (1/249).
([25]) (4/267).
([26]) طائر.
([27]) 3/1221.
([28]) 2/745.
([29]) ولد الناقة كما في القاموس.
([30]) صحيح (1/214).
([31]) أي دعاه.
([32]) أي طليعة.
([33]) أي أنتهي من قراءتها.
([34]) (1/42).
([35]) السجدة: 16، 17.
([36]) نقل ذلك القرطبي في تفسيره 9/298.
([37]) الترغيب والترهيب للمنذري 1/43.
([38]) المرجع السابق.
([39]) المرجع السابق.
([40]) (1/29).
([41]) (1/77).
([42]) (6/194).
([43]) انظر «مجمع الزوائد» (4/92).
([44]) (5/1647).
([45]) (1/217).
([46]) (4/1951).
([47]) البقرة: (45).
([48]) (1/372).
([49]) (1/222).
([50]) (2/788).
([51]) (1/176).
([52]) (1/273).
([53]) (11/84).
([54]) لأبي تراب هذا قصة طريفة في السفر نذكرها في نهاية الكتاب إن شاء الله.
([55]) (1/369).
([56]) جمع زنبور وهو ذباب لساع.
([57]) الزخرف: 13، 14.
([58]) الجامع لأحكام القرآن الكريم: 16/67.
([59]) (4/2145).
([60]) «الديباج على صحيح مسلم» (6/141).
([61]) ص: 315.
([62]) (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي) 16/214 و (العظمة) للأصبهاني (5/1659).
([63]) (10/47).