×
عِقد الجُمان من تفسير أضواء البيان: هذه الرسالة تحتوي على مختصر تفسير سور (الفاتحة - البقرة - آل عمران) من تفسير الإمام الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي - رحمه الله - المُسمَّى: «أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن».

 عِقد الجُمان من تفسير أضواء البيان

ناصر بن سعيد السيف


 مقدمة

 الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

فإن من أعظم النِعم على العبد أن هداه الله سبحانه وتعالى للإسلام وأن وفقه لإتباع سنة خير الأنام محمد - صلى الله عليه وسلم - وإنَّ مما يزيد الإيمان التدبر والتأمل في كتاب الله عز وجل ومداومة مطالعة كتب التفسير وإن من أعظم أنواع التفاسير أن يفسَّر القرآن بالقرآن وقد منَّ علينا تبارك تعالى بأننا اختصرنا تفسير سورة الفاتحة وسورة البقرة وسورة آل عمران من تفسير الإمام الحافظ الأصولي المفسِّر العلامة الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي رحمه الله تعالى من تفسيره المسمى: (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن) وقد سميت هذه الورقات مجتهداً: (عِقد الجُم‍ان من تفسير أضواء البيان).

نسأل الله العلي القدير أن يخلص لنا أقوالنا وأعمالنا وأن يتقبل منَّا وأن يغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين أجمعين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين([1]).

                                     كتبه الفقير إلى عفو ربه القدير

                          أبو خلاد ناصر بن سعيد بن سيف السيف

                                 غفر الله له ولوالديه وجميع المسلمين

 تفسير سورة الفاتحة

﴿الحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِينَ﴾ [الفاتحة:2].

لم يذكر جل وعلا حمده هنا ظرفًا مكانيًا ولا زمانيًا وبيان الظرف المكاني قال تعالى: ﴿وَلَهُ الحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [الرُّوم:18] وبيان ظرف الزماني في قوله تعالى: ﴿وَهُوَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآَخِرَةِ﴾ [القصص:70] والأصل في ﴿الحَمْدُ لله﴾ الألف واللام للاستغراق بأن جميع المحامد لله وهو ثناء أثنى به تعالىٰ على نفسه وأمَرَ عباده أن يثنوا عليه به.

﴿رَبِّ العَالَمِينَ﴾ [الفاتحة:2]

لم يبين هنا ما العالمون، وبين ذلك في موضع آخر بقوله: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ [الشعراء: 23-24].

﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة:3]

هما وصفان للَّه تعالىٰ، واسمان من أسمائه الحسنى، مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة، والرحمن أشد مبالغة من الرحيم، لأن الرحمن هو ذو الرحمة الشاملة لجميع الخلائق في الدنيا، وللمؤمنين في الآخرة، والرحيم ذو الرحمة للمؤمنين يوم القيامة.

﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة:4]

لم يبينه هنا، وبينه في قوله: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا﴾. [الانفطار:17-19] والمراد بالدين الجزاء ومنه قوله تعالىٰ:  ﴿يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الحَقَّ﴾ [النور:25] أي جزاء أعمالهم بالعدل.

﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة:5]

أشار في هذه الآية الكريمة إلى تحقيق معنى لا إله إلا الله؛ لأن معناها مركب من أمرين: نفي وإثبات.

 ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة:5]

أي لا نطلب العون إلا منك وحدك؛ لأن الأمر كله بيدك وحدك لا يملك أحد منه معك مثقال ذرة وسبب تقديم ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ لأن لا ينبغي أن يتوكل إلا على من يستحق العبادة ؛ لأن غيره ليس بيده الأمر.

 ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ [الفاتحة:7]

لم يبين هنا من هؤلاء الذين أنعم عليهم وبين ذلك في موضع آخر بقوله: ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء:69].

 ﴿غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة:7]

قال جماهير من علماء التفسير: المغضوب عليهم هم اليهود و الضالون هم النصارى.

õõõ

 تفسير سورة البقرة

 ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة:2]

 ويفهم من مفهوم الآية أن القرآن الكريم ليس هدى لغير المتقين، قال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾ [الإسراء:82]  ومعلوم أن المراد بالهدى في هذه الآية الهدى الخاص الذي هو التفضل بالتوفيق إلى دين الحق، لا الهدى العام، الذي هو إيضاح الحق.

 ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة:3]

عبر في هذه الآية الكريمة بـ(من) التبعيضية الدالة على أنه ينفق لوجه الله بعض ماله ليس كله.

 ﴿خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ [البقرة:7]

فتحّصل أن الختم على القلوب والأسماع، وأن الغشاوة على الأبصار. وذلك في قوله تعالىٰ: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً﴾ [الجاثية:23].

 ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِالله وَبِاليَوْمِ الآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة:8]

لم يذكر هنا بيانًا عن هؤلاء المنافقين، وصرح بذكر بعضهم بقوله: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ﴾ [التوبة:101].

 ﴿اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ [البقرة:15]

لم يبين هنا شيئًا من استهزائه بهم وذكر بعضه في سورة الحديد في قوله: ﴿قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالتَمِسُوا نُورًا﴾ [الحديد:13] .

﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ [البقرة:18]

ظاهر هذه الآية أن المنافقين متصفون بالصمم، والبكم، والعمى. ولكنه تعالىٰ بيّن في موضع آخر أن معنى صممهم، وبكمهم، وعماهم، هو عدم انتفاعهم بأسماعهم، وقلوبهم، وأبصارهم وذلك في قوله جلّ وعلا: ﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ الله وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [الأحقاف:26].

 ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ﴾ [البقرة:19]

ضرب الله في هذه الآية مثلاً لما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من الهدى والعلم بالمطر؛ لأن بالعلم والهدى حياة الأرواح، كما أن بالمطر حياة الأجسام وأشار إلى وجه ضرب هذا المثل بقوله جلّ وعلا: ﴿وَالبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا﴾ [الأعراف:58].

 ﴿فِيهِ ظُلُمَاتٌ﴾ [البقرة:19].

ضرب الله تعالىٰ في هذه الآية الْمثل لما يعتري الكفار والمنافقين من الشبه والشكوك في القرآن، بظلمات المطر المضروب مثلاً للقرآن.

 ﴿وَرَعْدٌ﴾ [البقرة:19]

ضرب الله المثل بالرعد لما في القرآن من الزواجر التي تقرع الآذان وتزعج القلوب التي خوفت المنافقين حتى قال الله تعالىٰ فيهم: ﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾ [المنافقون:4].

﴿وَبَرْقٌ﴾ [البقرة:19]

ضرب تعالىٰ المثل بالبرق ؛ لما في القرآن من نور الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة. وقد صرح بأن القرآن نور يكشف الله به ظلمات الجهل والشك والشرك. كما تكشف بالنور الحسي ظلمات الدجى كقوله: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾ [النساء:174].

 ﴿وَاللهُ مُحِيطٌ بِالكَافِرِينَ﴾ [البقرة:19]

 قال بعض العلماء: ﴿مُحِيطٌ بِالكَافِرِينَ﴾: أي مهلكهم المهلوك لا يهلك حتى يحاط به من جميع الجوانب، ولم يبق له منفذ للسلامة ينفذ منه.

 ﴿يَكَادُ البَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾ [البقرة:20]

أي يكاد نور القرآن لشدة ضوئه يعمي بصائرهم، كما أن البرق الخاطف الشديد النور يكاد يخطف بصر ناظره، ولا سيما إذا كان البصر ضعيفًا؛ لأن البصر كلما كان أضعف كان النور أشد إذهابًا له فالأصل أن بصائر الكفار والمنافقين في غاية الضعف فشدة ضوء النور تزيدها عمى.

 ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾ [البقرة:20]

إن المنافقين إذا كان القرآن موافقًا لهواهم ورغبتهم عملوا به، كمناكحتهم للمسلمين وإرثهم لهم والقسم لهم من غنائم المسلمين، وعصمتهم به من القتل مع كفرهم في الباطن، وإذا كان غير موافق لهواهم. كبذل الأنفس والأموال في الجهاد في سبيل الله المأمور به فيه وقفوا وتأخروا.

 ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا﴾ [البقرة:22]

أشار في هذه الآية إلى ثلاثة براهين من براهين البعث بعد الموت:

البرهان الأول: خلق الناس أولاً المشار إليه بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ لأن الإيجاد الأول أعظم برهان على الإيجاد الثاني ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ [الرُّوم:27].

البرهان الثاني: خلق السمٰوات والأرض المشار إليه بقوله: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ لأنهما من أعظم المخلوقات، ومن قدر على خلق الأعظم فهو على غيره قادر من باب أحرى تعالىٰ: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾ [غافر:57].

البرهان الثالث: إحياء الأرض بعد موتها ؛ فإنه من أعظم الأدلة على البعث بعد الموت، كما أشار له هنا بقوله: ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ﴾ [إبراهيم:32]  وقال تعالى: ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَ‍مُحْيِي المَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [فصِّلت:39].

 ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾ [البقرة:23]

لم يصرح هنا باسم هذا العبد الكريم، صلوات الله وسلامه عليه، وصرح باسمه في موضع آخر وهو قوله تعالى: ﴿وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ﴾ [محمد:2].

 ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ﴾ [البقرة:24]

قال بعض العلماء: إن الحجارة هي الأصنام التي كانوا يعبدونها كما في قوله تعالىٰ: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ [الأنبياء:98].

 ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ﴾ [البقرة:25]

لم يبيّن هنا أنواع هذه الأنهار، ولكنه بيّن ذلك في قوله: ﴿فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى﴾ [محمد:15].

﴿وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ [البقرة:25]

لم يبيّن هنا صفات تلك الأزواج، ولكنه بين صفاتهن الجميلة في آيات أخر كقوله: ﴿وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ﴾ [الصَّفات:48]، وقوله: ﴿كَأَنَّهُنَّ اليَاقُوتُ وَالمَرْجَانُ﴾ [الرَّحمن:58]، وقوله: ﴿وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ المَكْنُونِ﴾ [الواقعة:23-24]، وقوله: ﴿وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا﴾ [النَّبأ:33].

﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ [البقرة:27]

 لم يبيّن هنا هذا الذي أمر به أن يوصل، وقد أشار إلى أن منه الأرحام بقوله: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾ [محمد:22].

﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ [البقرة:29]

ظاهر الآية: أن ما في الأرض جميعًا خلق بالفعل قبل السماء، وبين ذلك سبحانه وتعالى في قوله ﴿وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا﴾ [فصِّلت:10] والعرب تسمي التقدير خلقًا فيكون بذلك خلق الأرض قبل السماء.

﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة:30]

المراد بالخليفة آدم عليه السلام وأن الله أعلم الملائكة أنه يكون من ذريته من يفعل ذلك الفساد وسفك الدماء فقالوا ما قالوا وأن المراد بخلافة آدم الخلافة الشرعية وبخلافة ذريته أعم من ذلك وهو أنهم يذهب منهم قرن ويخلفه قرن آخر.

﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلَائِكَةِ﴾ [البقرة:31]

يعني مسميات الأسماء لا الأسماء كما يتوهم من ظاهر الآية وقد أشار إلى أنها المسميات بقوله: ﴿أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ﴾ [البقرة:31]  الآية، كما هو ظاهر.

﴿وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ [البقرة:33]

لم يبيّن هنا هذا الذي كانوا يكتمون، وقد قال بعض العلماء: هو ما كان يضمره إبليس من الكبر، وعلى هذا القول فقد بيّنه قوله تعالىٰ: ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ﴾ [البقرة:34].

﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ﴾ [البقرة:34]

لم يبيّن هنا هل قال لهم ذلك قبل خلق آدم أو بعد خلقه؟ وقد صرح في سورة الحجر وص بأنه قال لهم ذلك قبل خلق آدم. فقال في سورة الحجر: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [الحجر: 28-29]، وقال في سورة صۤ: ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [ص: 71-72].

﴿إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ﴾ [البقرة:34]

 لم يبيّن هنا موجب استكباره في زعمه، ولكنه بيّنه في مواضع أُخر كقوله: ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [الأعراف:12].

﴿فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ﴾ [البقرة:37]

 لم يبيّن هنا ما هذه الكلمات، ولكنه بيّنها في سورة الأعراف بقوله: ﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف:23].

﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة:40]

 لم يبيّن هنا ما هذه النعمة التي أنعمها عليهم، ولكنه بيّنها في آيات أُخر، كقوله: ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ المَنَّ وَالسَّلْوَى﴾ [البقرة:57].

﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ [البقرة:40]

لم يبيّن هنا ما عهده وما عهدهم، ولكنه بيّن ذلك في مواضع أُخر كقوله: ﴿وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ [المائدة:12]، فعهدهم هو المذكور في قوله: ﴿لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾، وعهده هو المذكور في قوله: ﴿لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾.

﴿وَلَا تَلْبِسُوا الحَقَّ بِالبَاطِلِ﴾ [البقرة:42]

الحق الذي لبسوه بالباطل هو إيمانهم ببعض ما في التوراة والباطل الذي لبسوا به الحق، هو كفرهم ببعض ما في التوراة وجحدهم له كصفات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغيرها مما كتموه وجحدوه وهذا يبيّنه قوله تعالىٰ: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ [البقرة:85].

﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ [البقرة:45]

الاستعانة بالصبر على أمور الدنيا والآخرة لا إشكال فيها، وأما نتيجة الاستعانة بالصلاة، فقد أشار لها تعالىٰ في آيات من كتابه، فذكر أن من نتائج الاستعانة بها النهي عما لا يليق، وذكر أن الصلاة تجلب الرزق وذلك في قوله تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾ [طه:132]؛ ولذا كان - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة.

﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ [البقرة:46]

المراد بالظن هنا: اليقين كما يدل عليه قوله تعالىٰ: ﴿وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ [البقرة:4].

﴿وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ﴾ [البقرة:48]

ظاهر هذه الآية عدم قبول الشفاعة مطلقًا يوم القيامة، ولكنه بيّن في مواضع أُخر أن الشفاعة المنفية هي الشفاعة للكفار، والشفاعة لغيرهم بدون إذن رب السماوات والأرض. أما الشفاعة للمؤمنين بإذنه فهي ثابتة بالكتاب، والسنة، والإجماع وأن الشفاعة للكفار مستحيلة شرعًا مطلقًا، يستثنى منه شفاعته - صلى الله عليه وسلم - لعمه أبي طالب في نقله من محل من النار إلى محل آخر منها، كما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم -.

﴿يَسُومُونَكُمْ سُوءَ العَذَابِ﴾ [البقرة:49]

 بيّنه بقوله بعده: ﴿يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاؤكُم﴾ [البقرة:49].

﴿وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ﴾ [البقرة:50]

لم يبيّن هنا كيفية فرق البحر بهم، ولكنه بيّن ذلك في مواضع أُخر كقوله: ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ البَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ العَظِيمِ﴾ [الشعراء:63].

﴿وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ﴾ [البقرة:50]

لم يبين هنا كيفية إغراقهم ولكنه بيّنها في مواضع أُخر كقوله: ﴿وَاتْرُكِ البَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ﴾ [الدُخان:24].

﴿وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ [البقرة:51]

 لم يبيّن هنا هل واعده إياها مجتمعة أو متفرقة؟ ولكنه بيّن في سورة الأعراف أنها متفرقة، وأنه واعده أولاً ثلاثين، ثم أتمها بعشر، وذلك في قوله تعالىٰ: ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ [الأعراف:142].

﴿وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ وَالفُرْقَانَ﴾ [البقرة:53]

الظاهر في معناه: أن الفرقان هو الكتاب الذي أوتيه موسى، وإنما عطف على نفسه؛ تنزيلاً لتغاير الصفات منزلة تغاير الذوات؛ لأن ذلك الكتاب الذي هو التوراة موصوف بأمرين: أحدهما: أنه مكتوب كتبه الله لنبيه موسى عليه وعلى نبيّنا الصلاة والسلام، والثاني: أنه فرقان أي فارق بين الحق والباطل.

﴿إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ العِجْلَ﴾ [البقرة:54]

 لم يبيّن هنا من أي شىء هذا العجل المعبود من دون الله؟ ولكنه بيّن ذلك في مواضع أُخر كقوله: ﴿وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ﴾ [الأعراف:148].

﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ﴾ [البقرة:63]

أوضحه بقوله:  ﴿وَإِذْ نَتَقْنَا الجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ﴾ [الأعراف:171].

﴿خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾ [البقرة:63]

لم يبيّن هنا هذا الذي أتاهم ما هو، ولكنه بيّن في موضع آخر أنه الكتاب الفارق بين الحق والباطل، وذلك في قوله: ﴿وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ وَالفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [البقرة:53].

﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ﴾ [البقرة:65]

أجمل قصتهم هنا وفصلها في سورة الأعراف، في قوله: ﴿وَاسْأَلهُمْ عَنِ القَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ البَحْرِ﴾ [الأعراف:163].

﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ﴾ [البقرة:70]

لم يبيّن مقصودهم بقولهم: ﴿مَا هِيَ﴾ إلا أن جواب سؤالهم دل على أن مرادهم بقولهم في الموضع الأول ﴿مَا هِيَ﴾ أي: ما سنها؟ بدليل قوله: ﴿قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ﴾ [البقرة:68]  الآية. وأن مرادهم بقولهم ﴿مَا هِيَ﴾ في الموضع الآخر هل هي عاملة أم لا؟ وهل فيها عيب أم لا؟ وهل فيها شيء مخالف للونها أم لا؟ بدليل قوله: ﴿قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا﴾ [البقرة:71].

﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا﴾ [البقرة:72]

 لم يصرح هل هذه النفس ذكر أم أنثى؟. وقد أشار إلى أنها ذكر بقوله: ﴿فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا﴾ [البقرة:73].

﴿كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ المَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ﴾ [البقرة:73]

أشار في هذه الآية إلى أن إحياء قتيل بني إسرائيل دليل على بعث الناس بعد الموت؛ لأن من أحيا نفسًا واحدة بعد موتها قادر على إحياء جميع النفوس، وقد صرح بهذا في قوله: ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ [لقمان:28].

﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالحِجَارَةِ﴾ [البقرة:74]

 لم يبين هنا سبب قسوة قلوبهم، ولكنه أشار إلى ذلك في مواضع أُخر كقوله: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾ [المائدة:13].

﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ [البقرة:78]

لا يعلمون الكتاب، لكن يتمنون أماني باطلة، ويدل لهذا القول: قوله تعالىٰ: ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ﴾ [البقرة:111].

﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة:85]

يعني: تقتلون إخوانكم، ويبيّن أن ذلك هو المراد، كثرة وروده كذلك في القرآن نحو قوله: ﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [الحجرات:11] وقوله: ﴿فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة:54]، أي: بأن يقتل البريء من عبادة العجل من عبده منهم.

﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ [البقرة:85]

يتبيّن ممّا قبله أن البعض الذي آمنوا به هو فداء الأسارى منهم، والبعض الذي كفروا به هو إخراجهم من ديارهم وقتلهم ومظاهرة العدو عليهم، وإن كفروا بغير هذا من الكتاب وآمنوا بغيره منه.

﴿وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ البَيِّنَاتِ﴾ [البقرة:87]

 لم يبيّن هنا ما هذه البينات ولكنه بيّنها في مواضع أُخر كقوله: ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ الله وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ﴾ [آل عمران:49].

﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ﴾ [البقرة:87]

هو جبريل على الأصح، ويدل لذلك قوله تعالىٰ: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ﴾ [الشعراء:193].

﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالبَيِّنَاتِ﴾ [البقرة:92]

 لم يبيّن هنا ما هذه البيّنات وبيّنها في مواضع أُخر كقوله: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالجَرَادَ وَالقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آَيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ﴾ [الأعراف:133].

﴿خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا﴾ [البقرة:93]

قال بعض العلماء هو من السمع بمعنى الإجابة ومنه قولهم سمعًا وطاعة أي: إجابة، وطاعة ومنه: سمع الله لمن حمده في الصلاة. أي: أجاب دعاء من حمده، ويشهد لهذا المعنى قوله: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ [النور:51]، وهذا قول الجمهور.

﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ﴾ [البقرة:96]

معنى الآية: أن أحد المذكورين يتمنى أن يعيش ألف سنة وطول عمره لا يزحزحه، أي: لا يبعده عن العذاب وهذه هي أعظم آية في إزالة الداء العضال الذي هو طول الأمل. كفانا الله والمؤمنين شره.

﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله﴾ [البقرة:97]

 ظاهر هذه الآية أن جبريل ألقى القرآن على قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير سماع قراءة ونظيرها في ذلك قوله تعالىٰ: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ﴾ [الشعراء:193-194]. ولكنه بيّن في مواضع أُخر أن معنى ذلك أن الملك يقرؤه عليه حتى يسمعه منه، فتصل معانيه إلى قلبه بعد سماعه وذلك هو معنى تنزيله على قلبه. وذلك كما في قوله تعالىٰ:  ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ [القيامة:16-19].

﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ [البقرة:100]

 بَلْ ذكر في هذه الآية أن اليهود كلما عاهدوا عهدًا نبذه فريق منهم وصرح في موضع آخر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو المعاهد لهم وأنهم ينقضون عهدهم في كل مرة، وذلك في قوله: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ﴾ [الأنفال: 55-56]، وصرح في آية أخرى بأنهم أهل خيانة إلا القليل منهم، وذلك في قوله: ﴿وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾ [المائدة:13].

﴿وَل‍َمَّ‍ا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ الله مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ كِتَابَ الله وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ [البقرة:101]

 ذكر في هذه الآية الكريمة أن كثيرًا من اليهود نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ولم يؤمنوا به، وبيّن في موضع آخر أن هؤلاء الذين لم يؤمنوا بالكتاب هم الأكثر، وذلك في قوله تعالىٰ: ﴿وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الفَاسِقُونَ﴾ [آل عمران:110].

﴿أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ﴾ [البقرة:108]

لم يبّين هنا هذا الذي سئل موسى من قبل ما هو ؟ ولكنه بيّنه في موضع آخر وذلك في قوله: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً﴾ [النساء:153].

﴿فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ﴾ [البقرة:109]

هذه الآية في أهل الكتاب كما هو واضح من السياق، والأمر في قوله ﴿بِأَمْرِهِ﴾. قال بعض العلماء: هو واحد الأوامر. وقال بعضهم: هو واحد الأمور، فعلى القول الأول: بأنه الأمر الذي هو ضد النهي ؛ فإن الأمر المذكور هو المصرح به في قوله: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِاليَوْمِ الآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ﴾ [التوبة:29] وعلى القول بأنه واحد الأمور: فهو ما صرح الله به في الآيات الدالة على ما أوقع باليهود من القتل والتشريد كقوله: ﴿فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ * وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا﴾ [الحشر:2-3]، وبعد التحقق أن الآية غير منسوخة.

﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ الله أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا﴾ [البقرة:114]

قال بعض العلماء: نزلت في صد المشركين النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن البيت الحرام في عمرة الحديبية عام ستّ من الهجرة النبوية وعلى هذا القول: فالخراب معنوي، وهو خراب المساجد بمنع العبادة فيها وهذا القول يبيّنه ويشهد له قوله تعالىٰ: ﴿هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ﴾ [الفتح:25]. وقال بعض العلماء: الخراب المذكور هو الخراب الحسيّ والآية نزلت فيمن خرّب بيت المقدس، وهو بختنصر أو غيره وهذا القول يبيّنه ويشهد له قوله جلّ وعلا: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾ [الإسراء:7].

﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا﴾ [البقرة:116]

هذا الولد المزعوم على زاعمه لعائن الله قد جاء مفصلاً في آيات أُخر كقوله: ﴿وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [التوبة:30].

﴿قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة:124]

 يفهم من هذه الآية أن الله علم أن من ذريّة إبرٰاهيم ظالمين. وقد صرح تعالىٰ في مواضع أُخر بأنّ منهم ظالمًا وغير ظالم كقوله: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ﴾ [الصَّافات:113].

﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾ [البقرة:127]

 ذكر في هذه الآية رفع إبرٰاهيم وإسمٰعيل لقواعد البيت. وبيّن في سورة الحج أنه أراه موضعه بقوله: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ﴾ [الحج:26]، أي: عينّا له محله وعرفناه به.

﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ [البقرة:128-129]

لم يبيّن هنا من هذه الأمة التي أجاب الله بها دعاء نبيّه إبرٰاهيم وإسمٰاعيل، ولم يبيّن هنا أيضًا هذا الرسول المسؤول بعثه فيهم من هو؟ ولكنه يبيّن في سورة الجمعة أن تلك الأمة العرب، والرّسول هو سيِّد الرسل محمد - صلى الله عليه وسلم -، وذلك في قوله: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ﴾ [الجمعة:2-3]؛ لأن الأميين العرب بالإجماع والرسول المذكور نبينا محمّد - صلى الله عليه وسلم - إجماعًا. ولم يبعث رسول من ذرية إبرٰاهيم وإسمٰاعيل إلا نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وحده.

﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ﴾ [البقرة:130]

 لم يبيّن هنا ما ملّة إبرٰاهيم وبينها بقوله: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام:161]، فصرح في هذه الآية بأنها دين الإسلام الذي بعث الله به نبيّه محمدًا - صلى الله عليه وسلم -.

﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ﴾ [البقرة:132]

أشار إلى أنه دين الإسلام هنا بقوله: ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة:132]، وصرح بذلك في قوله: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ الله الإِسْلَامُ﴾ [آل عمران:19].

﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [البقرة:136]

لم يبيّن هنا هذا الذي أنزل إلى إبرٰاهيم، ولكنه بيّن في سورة الأعلى بقوله: ﴿إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾ [الأعلى:18-19].

﴿وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى﴾ [البقرة:136]

لم يبين هنا ما أوتيه موسىٰ وعيسىٰ وأن ما أُوتيه موسىٰ هو التوراة المعبَّر عنها بالصحف في قوله: ﴿صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾ ﴿الأعلى: 19﴾ أن ما أوتيه عيسى هو الإنجيل كما في قوله: ﴿وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ﴾ [الحديد:27].

﴿وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ [البقرة:136]

أمر الله النبيّ - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين في هذه الآية أن يؤمنوا بما أوتيه جميع النبيّين وأن لا يفرقوا بين أحد منهم وذكر أنهم امتثلوا الأمر بقوله: ﴿مِنْ رَبِّهِ وَالمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِالله وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ﴾ [البقرة:285]، وذكر جزاءهم على ذلك بقوله: ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالله وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء:152].

﴿قُلْ لله المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [البقرة:142]

 لم يبيّن هنا الصراط المستقيم. ولكنه بيّنه بقوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة].

﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ [البقرة:143]

أي: خيارًا عدولاً. لأن الوسط الخيار العدول. قوله تعالىٰ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران:110].

﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة:143]

 لم يبين هنا هل هو شهيد عليهم في الدنيا أم الآخرة؟ ولكنه بيّن في موضع آخر: أنه شهيد عليهم في الآخرة وذلك في قوله: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا﴾ [النساء: 41-42].

﴿وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ﴾ [البقرة:143]

وفي هذه الآية بيان عظيم لجميع الآيات التي يذكر الله فيها اختباره لخلقه، ومعنى ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ﴾ أي علمًا يترتب عليه الثواب والعقاب فلا ينافي أنه كان عالمًا به قبل ذلك، وفائدة الاختبار ظهور الأمر للناس وأما عالم السر والنجوى فهو عالم بكل ما سيكون كما لا يخفى.

﴿مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾ [البقرة:143]

أشار إلى أن الرسول هو محمد - صلى الله عليه وسلم - بقوله مخاطبًا له: ﴿وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا﴾.

﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ [البقرة:143]

أي صلاتكم إلى بيت المقدس على الأصح و ذلك من قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا﴾.

﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾ [البقرة:144]

 بيّنه قوله بعده: ﴿تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ﴾ [البقرة:144].

﴿أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ [البقرة:159]

 لم يبيّن هنا من اللاعنون، ولكنه أشار إلى ذلك في قوله: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [البقرة:161].

﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [البقرة:164]

لم يبيّن هنا وجه كونهما آية، ولكنه بين ذلك في مواضع أُخر، كقوله: ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾ [ق: 6-8].

﴿وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ [البقرة:164]

 لم يبيّن هنا وجه كون اختلافهما آية، ولكنّه بيّن ذلك في مواضع أُخر كقوله: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ﴾ [القصص:71].

﴿وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾ [البقرة:164]

لم يبيّن هنا كيفية تسخيره، ولكنه بيّن ذلك في مواضع أُخر كقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ﴾ [النور:43].

﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ العَذَابَ﴾ [البقرة:165]

المراد بالذين ظلموا الكفار وقد بيّن ذلك بقوله في آخر: ﴿يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِالله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان:13].

﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ [البقرة:166]

 أشار هنا إلى تخاصم أهل النار وقد بيّن منه غير ما ذكر هنا في مواضع أُخر كقوله: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ القَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ﴾ [سبأ:31].

﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ [البقرة:168]

لم يذكر هنا ما يترتب على اتباع خطواته من الضرر، ولكنه أشار إلى ذلك في سورة النور بقوله: ﴿وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ﴾ [النور:21].

 ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:169]

لم يبيّن هنا هذا الذي يقولونه عليه بغير علم، ولكنه فصله في مواضع أُخر فذكر أن ذلك الذي يقولونه بغير علم هو أن الله حرّم البحائر والسوائب ونحوها، وأن لهُ أولادًا، وأن له شركاء، سبحانه وتعالىٰ عن ذلك علوًّا كبيرًا فصرح بأنه لم يحرم ذلك بقوله: ﴿مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ﴾ [المائدة:103] ونزه نفسه عن الشركاء المزعومة بقوله: ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾، ونزّه نفسه عن الأولاد المزعومة بقوله: ﴿قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ﴾ [يونس:68].

﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالدَّمَ﴾ [البقرة:173]

ظاهر هذه الآية أن جميع أنواع الميتة والدم حرام، ولكنه بيّن في موضع آخر أن ميتة البحر خارجه عن ذلك التحريم وهو قوله:  ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البَحْرِ وَطَعَامُهُ﴾ [المائدة:96] إذ ليس للبحر طعام غير الصيد إلا ميتته.

﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة:173]

لم يبيّن هنا سبب اضطراره، ولم يبين المراد بالباغي والعادي، ولكنه أشار في موضع آخر إلى أن سبب الاضطرار المذكور المخمصة، وهي الجوع وهو قوله: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ﴾ [المائدة:3]، وأشار إلى أن المراد بالباغي والعادي المتجانف للإثم، وذلك في قوله: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ﴾. والمتجانف: المائل. فيفهم من الآية أن الباغي والعادي كلاهما متجانف لإثم، وهذا غاية ما يفهم منها.

﴿وَآَتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ [البقرة:177]

معنى ﴿عَلَى حُبِّهِ﴾، أي حب مؤتي المال لذلك المال وهو قوله تعالىٰ: ﴿لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران:92].

﴿وَحِينَ البَأْسِ﴾ [البقرة:177]

لم يبيّن هنا ما المراد بالبأس ولكنه أشار في موضع آخر إلى أن البأس القتال، وهو قوله: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللهُ المُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ البَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الأحزاب:18]. كما هو ظاهر من سياق الكلام.

﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ [البقرة: 183-184]

قال بعض العلماء: هي رمضان، وعلى هذا القول فقد بيّنها تعالىٰ بقوله: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآَنُ﴾ [البقرة:185] ولم يبيّن هنا هل أنزل في الليل منه أم في النهار؟ ولكنه بيّن في غير هذا الموضع أنه أنزل في ليلة القدر من رمضان وذلك في قوله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ﴾ [القدر:1]، وقوله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾ [الدُخان:3]؛ لأن الليلة المباركة هي ليلة القدر على التحقيق وفي معنى إنزاله وجهان:

الأول: أنه أنزل فيها جملة إلى السماء الدنيا، كما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما.

والثاني: أن معنى إنزاله فيها ابتداء نزوله كما قال بعض السلف.

﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ [البقرة:186]

 ذكر في هذه الآية أنه جلّ وعلا قريب يجيب دعوة الداعي وبيّن في آية أخرى تعليق ذلك على مشيئته جلّ وعلا وهي قوله:  ﴿فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام:41]. وقال بعضهم التعليق بالمشيئة في دعاء الكفار كما هو ظاهر سياق الآية، والوعد المطلق في دعاء المؤمنين وعليه فدعاؤهم لا يرد، إما أن يعطوا ما سألوا أو يدخر لهم خير منه أو يدفع عنهم من السوء بقدره.

﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ﴾ [البقرة:187]

بينه قوله: ﴿مِنَ الفَجْرِ﴾، والعرب تسمى ضوء الصبح خيطًا وظلام الليل المختلط به خيطاً.

﴿وَلَكِنَّ البِرَّ مَنِ اتَّقَى﴾ [البقرة:189]

لم يصرح هنا بالمراد بمن اتقى، ولكنه بينه بقوله:  ﴿وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آَمَنَ بِالله وَاليَوْمِ الآَخِرِ وَالمَلَائِكَةِ وَالكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَاليَتَامَى ...الآية﴾ [البقرة:177] .

﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ [البقرة:190]

المراد بالذين يقاتلونكم من شأنهم القتال، أي دون غيرهم، كالنساء، والصبيان، والشيوخ الفانية، وأصحاب الصوامع. فالمعنى يبينه ويشهد له قوله تعالىٰ: ﴿وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً﴾ [التوبة:36].

﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ﴾ [البقرة:196]

اختلف العلماء في المراد بالإحصار في هذه الآية الكريمة ولكن قوله تعالىٰ بعد هذا: ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾، يشير إلى أن المراد بالإحصار هنا صد العدو المحرم ؛ لأن الأمن إذا أطلق في لغة العرب ينصرف إلى الأمن من الخوف لا إلى الشفاء من المرض قوله: ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ﴾، فجمهور العلماء على أن المراد به شاة فما فوقها تنحر في الحرم إن تيسر أو ترسل إليه أو تنحر في مكان الحصر.

﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ [البقرة:196]

ثبت في الأحاديث الصحيحة عنه - صلى الله عليه وسلم -، أنه حلق لما صده المشركون عام الحديبية وهو محرم، وأمر أصحابه أن يحلقوا وقال: «اللهم أرحم المحلقين»، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: «اللهم أرحم المحلقين»، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: «والمقصرين» فهذه أدلة واضحة على عدم سقوط الحلق عن المحصر بعد نحر الهدي.

﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [البقرة:198]

لم يبيّن هنا ما هذا الفضل الذي لا جناح في ابتغائه أثناء الحج وأشار في آيات أُخر إلى أنه ربح التجارة كقوله: ﴿وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ الله﴾ [المزمل:20] لأن الضرب في الأرض عبارة عن السفر للتجارة، فمعنى الآية يسافرون يطلبون ربح التجارة.

﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ [البقرة:199]

لم يبيّن هنا المكان المأمور بالإفاضة منه المعبر عنه بلفظة ﴿حَيْثُ﴾، التي هي كلمة تدل على المكان، كما تدل حين على الزمان ولكنه يبيّن ذلك بقوله: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ﴾ [البقرة:198] وقال بعض العلماء المراد بقوله: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا﴾ الآية أي: من مزدلفة إلى منى، وعليه فالمراد بالناس إبرٰاهيم عليه السلام.

﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ [البقرة:212]

لم يبين هنا سخرية هؤلاء الكفار من هؤلاء المؤمنين ولكنه بين في موضع أخر أنها الضحك منهم والتغامز وهو قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ﴾ [المطَّففين:29-30].

﴿وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ﴾ [البقرة:212]

 لم يبين هنا فوقية هؤلاء المؤمنين على هؤلاء الكفرة، ولكنه بين ذلك في مواضع أُخر كقوله: ﴿فَاليَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ﴾ [المطَّففين:34-35].

﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة:216]

لم يصف هذا الخير هنا بالكثرة وقد وصفه بها في قوله: ﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [النساء:19].

﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ [البقرة:217]

لم يبيّن هنا هل استطاعوا ذلك أم لا؟ ولكنه بيّن في موضع آخر أنهم لم يستطيعوا، وأنهم حصل لهم اليأس من ردّ المؤمنين عن دينهم، وهو قوله تعالىٰ: ﴿اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ﴾ [المائدة:3]. وبيّن في مواضع أُخر أنه مظهر دين الإسلام على كل دين كقوله في براءة، والصف، والفتح، ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ [التوبة:33].

﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ [البقرة:219]

لم يبيّن هنا ما هذا الإثم الكبير؟ ولكنه بيّن في آية أُخرى أنه إيقاع العداوة والبغضاء بينهم، والصدّ عن ذكر الله، وعن الصلاة، وهي قوله: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ [المائدة:91].

﴿وَلَا تَنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ﴾ [البقرة:221]

 ظاهر عمومه شمول الكتابيات، ولكنّه بيّن في آية أُخرى أن الكتابيات لسن داخلات في هذا التحريم، وهي قوله تعالىٰ:﴿ وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ﴾ [المائدة:5] ، فإن قيل الكتابيات لا يدخلن في اسم المشركات بدليل قوله: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالمُشْرِكِينَ﴾ [البيِّنة:1]، وقوله: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ وَٱلمُشْرِكِينَ﴾ وقوله: ﴿مَّا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ وَلاَ ٱلْمُشْرِكِينَ﴾، بأن الواو في هذه الآيات واو عطف يقتضي المغايرة.

﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله﴾ ﴿البقرة: 222﴾

لم يبيّن هنا هذا المكان المأمور بالإتيان منه المعبر عنه بلفظة حيث ولكنه بين أن المراد به الإتيان في القبل في آيتين:

الأولى: هي قوله هنا: ﴿فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ﴾؛ لأن قوله: ﴿فَاتُواْ﴾ أمر بالإتيان بمعنى الجماع وقوله: ﴿حَرْثِكُمْ﴾، يبيّن أن الإتيان المأمور به إنما هو في محل الحرث يعني بذر الولد بالنطفة، وذلك هو القبل دون الدبر كما لا يخفى ؛ لأن الدبر ليس محل بذر للأولاد

الثانية: قوله تعالىٰ: ﴿فَالآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ﴾ [البقرة:187]؛ لأن المراد بما كتب الله لكم، الولد.

﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ [البقرة:225]

لم يصرح هنا بالمراد بما كسبته قلوبهم، ولم يذكر هنا ما يترتب على ذلك إذا حنث، ولكنه بيّن في سورة المائدة، أن المراد بما كسبت القلوب، هو عقد اليمين بالنيّة والقصد، وبيّن أن اللازم في ذلك إذا حنث كفارة، هي: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة ومن عجز عن واحد من الثلاثة فصوم ثلاثة أيام، وذلك في قوله: ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ﴾ [المائدة:89].

﴿وَالمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة:228]

ظاهر هذه الآية شمولها لجميع المطلقات، ولكنه بيّن في آيات أُخر خروج بعض المطلقات من هذا العموم، كالحوامل المنصوص على أن عدتهن وضع الحمل، في قوله: ﴿وَأُولَاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطَّلاق:4] وكالمطلقات قبل الدخول المنصوص على أنهنّ لا عدة عليهن أصلاً، بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ﴾ [الأحزاب:49] وأما اللواتي لا يحضن، لكبر أو صغر فقد بيّن أن عدتهن ثلاثة أشهر في قوله: ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ﴾ [الطَّلاق:4]  وقوله تعالى: ﴿ثَلَـٰثَةَ قُرُوۤءٍ﴾ فيه إجمال؛ لأن القرء يطلق لغة على الحيض ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ﴾، قالوا: فترتيب العدة بالأشهر على عدم الحيض يدلّ على أن أصل العدة بالحيض، والأشهر بدل من الحيضات عند عدمها، واستدلوا أيضًا بقوله: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَ‍هُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾ [البقرة:228] قالوا: هو الولد، أو الحيض وقال بهذا القول الخلفاء الأربعة وغيرهم من الصحابة والتابعين.

﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا﴾ [البقرة:228]

ظاهر هذه الآية الكريمة أن أزواج كل المطلقات أحق بردهن، لا فرق في ذلك بين رجعية وغيرها ولكنه أشار في موضع آخر إلى أن البائن لا رجعة له عليها، وذلك في قوله تعالىٰ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾ [الأحزاب:49] وذلك لأن الطلاق قبل الدخول بائن، كما أنه أشار هنا إلى أنها إذا بانت بانقضاء العدة لا رجعة له عليها، وذلك في قوله تعالىٰ: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ فِي ذٰلِكَ﴾ ؛ لأن الإشارة بقوله: ﴿ذٰلِكَ﴾، راجعة إلى زمن العدة المعبر عنه في الآية بـ ﴿ثَلَـٰثَةَ قُرُوء﴾ واشترط هنا في كون بعولة الرجعيات أحق بردهن إرادتهم الإصلاح بتلك الرجعة، في قوله: ﴿إِنْ أَرَادُواْ إِصْلَـٰحاً﴾، ولم يتعرض لمفهوم هذا الشرط هنا، ولكنه صرح في مواضع أُخر أن لزوج الرجعية إذا ارتجعها لا بنية الإصلاح بل بقصد الإضرار بها ؛ لتخالعه أو نحو ذلك، أن رجعتها حرام عليه، كما هو مدلول النهي في قوله تعالىٰ: ﴿وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيَـٰتِ الله هُزُوًا﴾ فالرجعة بقصد الإضرار حرام إجماعًا، كما دلّ عليه مفهوم الشرط المصرّح به في قوله: ﴿وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا﴾.

﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ [البقرة:228]

لم يبيّن هنا ما هذه الدرجة التي للرجال على النساء، ولكنه أشار لها في موضع آخر وهو قوله تعالىٰ: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ [النساء:34]، فأشار إلى أن الرجل أفضل من المرأة ؛ وذلك لأن الذكورة شرف وكمال والأنوثة نقص المرأة وضعفها الخلقيين الطبيعيين، بقوله: ﴿أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ﴾ [الزُّخرف:18]؛ لأن نشأتها في الحلية دليل على نقصها، المراد جبره والتغطية عليه بالحلي، بقوله: ﴿وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾، إلى أن الكامل في وصفه وقوته وخلقته يناسب حاله، أن يكون قائمًا على الضعيف الناقص خلقة وأشار إلى حكمة كون الطلاق بيد الرجل دون إذن المرأة بقوله: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾ [البقرة:223]؛ لأن من عرف أن حقله غير مناسب للزراعة لا ينبغي أن يرغم على الزرع في حقل لا يناسب الزراعة.

﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ [البقرة:229]

ظاهر هذه الآية الكريمة أن الطلاق كله منحصر في المرتين، ولكنه تعالىٰ بين أن الطلاق المنحصر في مرتين هو الطلاق الذي تملك بعده الرجعة لا مطلقًا، وذلك بذكره الطلقة الثالثة التي لا تحل بعدها المراجعة إلا بعد زوج. وهي المذكورة في قوله: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ﴾ [البقرة:230]، وعلى هذا القول فقوله: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة:229] ، يعني به عدم الرجعة وقال بعض العلماء الطلقة الثالثة هي المذكورة في قوله تعالىٰ: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾، وروي هذا مرفوعًا إليه - صلى الله عليه وسلم -.

﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة:229]

لم يبين في هذه الآية ولا في غيرها من آيات الطلاق حكمة كون الطلاق بيد الرجل دون إذن المرأة، ولكنه بيّن في موضع آخر أن حكمة ذلك أن المرأة حقل تزرع فيه النطفة كما يزرع البذر في الأرض، ومن رأى أن حقله غير صالح للزراعة فالحكمة تقتضي أن لا يرغم على الزرع فيه، وأن يترك وشأنه؛ ليختار حقلاً صالحًا لزراعته وذلك في قوله تعالىٰ: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾.

﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ الله فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [البقرة:229]

صرح في هذه الآية الكريمة بأن الزوج لا يحل له الرجوع في شىء مما أعطى زوجته، إلا على سبيل الخلع، إذا خافا إلا يقيما حدود اللَّه، فيما بينهما، فلا جناح عليهما إذن في الخلع. أي: لا جناح عليها هي في الدفع، ولا عليه هو في الأخذ وصرح في موضع آخر بالنهي عن الرجوع في شىء مما أعطى الأزواج زوجاتهم، ولو كان المعطى قنطارًا وبين أن أخذه بهتان وإثم مبين، وبيّن أن السبب المانع من أخذ شىء منه هو أنه أفضى إليها بالجماع. وذلك في قوله تعالىٰ: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُّمُ ٱسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَءاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَـٰناً وَإِثْماً  مُّبِيناً * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مّيثَـٰقاً غَلِيظاً﴾ [النساء: 20-21] وبيّن في موضع آخر أن محل النهي عن ذلك إذا لم يكن عن طيب النفس من المرأة؛ وذلك في قوله: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ [النساء:4]. وأشار إلى ذلك بقوله: ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الفَرِيضَةِ﴾ [النساء:24].

﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾ [البقرة:231]

صرح تعالىٰ في هذه الآية الكريمة بالنهي عن إمساك المرأة مضارة لها؛ لأجل الاعتداء عليها بأخذه ما أعطاها ؛ لأنها إذا طال عليها الإضرار افتدت منه ؛ ابتغاء السلامة من ضرره وصرح في موضع آخر بأنها إذا أتت بفاحشة مبينة جاز له عضلها، حتى تفتدي منه وذلك في قوله تعالىٰ: ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ [النساء:19]  واختلف العلماء في المراد بالفاحشة المبينة فقال جماعة منهم هي: الزنا، وقال قوم هي: النشوز والعصيان وبذاءة اللسان. والظاهر شمول الآية للكل كما اختاره ابن جرير.

﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة:233]

ذكر في هذه الآية الكريمة أن الرجل إذا أراد أن يطلب لولده مرضعة غير أمه لا جناح عليه في ذلك، إذا سلم الأجرة المعينة في العقد، ولم يبيّن هنا الوجه الموجب لذلك، ولكنّه بيّنه في سورة الطلاق بقوله تعالىٰ: ﴿وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى﴾ [الطَّلاق:6] ، والمراد بتعاسرهم: امتناع الرجل من دفع ما تطلبه المرأة، وامتناع المرأة من قبول الإرضاع بما يبذله الرجل ويرضى به.

﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ [البقرة:234]

ظاهر هذه الآية الكريمة أن كل متوفى عنها تعتد بأربعة أشهر وعشر، ولكنه بيّن في موضع آخر أن محل ذلك ما لم تكن حاملاً، فإن كانت حاملاً كانت عدتها وضع حملها، وذلك في قوله: ﴿وَأُولَاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطَّلاق:4].

﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى المُتَّقِينَ﴾ [البقرة:241]

 ظاهر هذه الآية الكريمة أن المتعة حق لكل مطلقة على مطلقها المتقي، سواء أطلقت قبل الدخول أم لا ؟ فرض لها صداق أم لا ؟ ويدل لهذا العموم قوله تعالىٰ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾ [الأحزاب:28]، مع قوله: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب:21] فاعلم أن أزواج النبيّ مفروض لهن ومدخول بهن، وقد يفهم من موضع آخر أن المتعة لخصوص المطلقة قبل الدخول، وفرض الصداق معًا؛ لأن المطلقة بعد الدخول تستحق الصداق، والمطلقة قبل الدخول وبعد فرض الصداق تستحق نصف الصداق. والمطلقة قبلهما لا تستحق شيئًا، فالمتعة لها خاصة لجبر كسرها وذلك في قوله تعالىٰ: ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ﴾ [البقرة:236] ، ثم قال: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ [البقرة:237]، فهذه الآية ظاهرة في هذا التفصيل، ووجهه ظاهر معقول والتحقيق أن قدر المتعة لا تحديد فيه شرعًا لقوله تعالىٰ: ﴿عَلَى المُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى المُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾ [البقرة:236]، فإن توافقا على قدر معين فالأمر واضح، وإن اختلفا فالحاكم يجتهد في تحقيق المناط، فيعين القدر على ضوء قوله  تعالىٰ: ﴿عَلَى المُوسِعِ قَدَرُهُ﴾، هذا هو الظاهر، وظاهر قوله: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ﴾، وقوله: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَـٰتِ مَتَـٰعٌ﴾، يقتضي وجوب المتعة في الجملة لأن قوله: ﴿عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ﴾ و ﴿عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ﴾ تأكيد للوجوب وليس لأحد أن يقول لست متقيًا مثلاً ؛ لوجوب التقوى على جميع الناس.

﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ المَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ [البقرة:243]

 المقصود من هذه الآية الكريمة، تشجيع المؤمنين على القتال بإعلامهم بأن الفرار من الموت لا ينجي، فإذا علم الإنسان أن فراره من الموت أو القتل لا ينجيه، هانت عليه مبارزة الأقران ؛ والتقدم في الميدان. وقد أشار تعالىٰ أن هذا هو مراده بالآية حيث أتبعها بقوله: ﴿وَقَـٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله﴾، وصرح بما أشار إليه هنا في قوله: ﴿قُل لَّن يَنفَعَكُمُ ٱلْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مّنَ ٱلْمَوْتِ أَوِ ٱلْقَتْلِ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾، وهذه أعظم آية في التشجيع على القتال؛ لأنها تبين أن الفرار من القتل لا ينجي منه، ولو فرض نجاته منه فهو ميت عن قريب وهذا هو المراد بالآيات  المذكورة، ويؤخذ من هذه الآية عدم جواز الفرار من الطاعون إذا وقع بأرض وأنت فيها، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عن الفرار من الطاعون وعن القدوم على الأرض التي فيها الطاعون.

﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ [البقرة:245]

لم يبيّن هنا قدر هذه الأضعاف الكثيرة، ولكنه بيّن في موضع آخر أنها تبلغ سبعمائة ضعف وتزيد عن ذلك. وذلك في قوله تعالىٰ: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [البقرة:261].

﴿وَآَتَاهُ اللهُ المُلْكَ وَالحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾ [البقرة:251]

لم يبيّن هنا شيئًا مما علمه وقد بيّن في مواضع أُخر أن مما علمه صنعة الدروع كقوله: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ﴾ [الأنبياء:80]، وقوله: ﴿وَأَلَنَّا لَهُ الحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ﴾ [سبأ:10-11].

﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ﴾ [البقرة:252]

يفهم أن الكفار ينكرون رسالته - صلى الله عليه وسلم - وقد صرح بهذا المفهوم في قوله: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا﴾ [الرعد:43].

﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ﴾ [البقرة:253]

لم يبين هنا هذا الذي كلمة الله منهم وقد بيّن أن منهم موسى عليه وعلى نبيّنا الصلاة والسلام بقوله: ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ [النساء:164]، وقوله: ﴿قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي﴾ [الأعراف:144]  وقال ابن كثير: ﴿مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ﴾ يعني موسى ومحمد وآدم عليهم الصلاة والسلام.

﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ [البقرة:253]

أشار في مواضع أُخر إلى أن منهم محمدًا - صلى الله عليه وسلم - كقوله: ﴿عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾ [الإسراء:79] وأشار في مواضع أُخر إلى أن منهم إبرٰاهيم كقوله: ﴿وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾ [النساء:125]  وأشار في موضع آخر إلى أن منهم داود وهو قوله: ﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾ [الإسراء:55]، وأشار في موضع آخر إلى أن منهم إدريس وهو قوله: ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا﴾ [مريم:57]، وأشار هنا إلى أن منهم عيسىٰ بقوله ﴿وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ البَيِّنَاتِ﴾ [البقرة:253] واختار ابن عطية كما نقله عنه القرطبي أن وجه الجمع جواز التفضيل إجمالاً كقوله - صلى الله عليه وسلم -: « أنا سيد ولد آدم ولا فخر »، ومنع التفضيل على طريق الخصوص كقوله: « لا تفضلوني على موسى»، وقوله: «لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متَّى »، ونحو ذلك والعلم عند الله تعالىٰ.

﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ [البقرة:257]

صرح في هذه الآية الكريمة بأن الله ولي المؤمنين، وصرح في آية أخرى بأنه وليهم وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليّهم، وأن بعضهم أولياء بعض، وذلك في قوله تعالىٰ: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ﴾ وقال: ﴿وَٱلْ‍مُؤْمِنُونَ وَٱلْ‍مُؤْمِنَـٰتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ﴾ وصرح في موضع آخر بخصوص هذه الولاية للمسلمين دون الكافرين وهو قوله تعالىٰ: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ مَوْلَى ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَأَنَّ ٱلْكَـٰفِرِينَ لاَ مَوْلَىٰ لَهُمْ﴾، وصرح في موضع آخر بأن نبيّه - صلى الله عليه وسلم - أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وهو قوله تعالىٰ: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ [الأحزاب:6]، وبيّن في آية سورة البقرة هذه، ثمرة ولايته تعالىٰ للمؤمنين، وهي إخراجه لهم من الظلمات إلى النور بقوله تعالىٰ: ﴿الله وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ يُخْرِجُهُم مّنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ﴾، وبيّن في موضع آخر أن من ثمرة ولايته إذهاب الخوف والحزن عن أوليائه، وبيّن أن ولايتهم له تعالىٰ بإيمانهن وتقواهم، وذلك في قوله تعالىٰ: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ﴾، وصرّح في موضع آخر أنه تعالىٰ وليّ نبيّه - صلى الله عليه وسلم -، وأنه أيضًا يتولّى الصالحين، وهو قوله تعالىٰ: ﴿إِنَّ وَلِيّىَ الله ٱلَّذِى نَزَّلَ ٱلْكِتَـٰبَ وَهُوَ يَتَوَلَّى ٱلصَّـٰلِحِينَ﴾.

﴿يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [البقرة:257]

 المراد بالظلمات الضلالة، وبالنور الهدى، وهذه الآية يفهم منها أن طرق الضلال متعددة ؛ لجمعه الظلمات وأن طريق الحق واحدة؛ لإفراده النور، وهذا المعنى المشار إليه هنا بيّنه تعالىٰ في مواضع أُخر كقوله: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام:153].

﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ﴾ [البقرة:257]

والتحقيق أن كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت والحظ الأكبر من ذلك للشيطان، كما قال تعالىٰ: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ﴾ [يس:60].

﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة:262]

يفهم من هذه الآية أن من أتبع إنفاقه المنّ والأذى لم يحصل له هذا الثواب المذكور هنا في قوله: ﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة:62]. وقد صرح تعالىٰ بهذا المفهوم في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالمَنِّ وَالأَذَى﴾ [البقرة:264].

﴿كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ﴾ [البقرة:264]

بيّن أن المراد بـ ﴿كَالَّذِي﴾ الذين بقوله: ﴿لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا﴾ [البقرة:264] وقوله: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ الله﴾ [البقرة:273] لم يبيّن هنا سبب فقرهم ؛ ولكنه بيّن في سورة الحشر أن سبب فقرهم هو إخراج الكفار لهم من ديارهم وأموالهم بقوله: ﴿لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ﴾ [الحشر:8].

﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾ [البقرة:275]

معنى هذه الآية الكريمة أن من جاءه موعظة من ربه يزجره بها عن أكل الربا فانتهى أي: ترك المعاملة بالربا ؛ خوفًا من الله تعالىٰ وامتثالاً لأمره ﴿فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾ أي: ما مضى قبل نزول التحريم من أموال الربا، ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أن الله لا يؤاخذ الإنسان بفعل أمر إلا بعد أن يحرمه عليه، وقد أوضح هذا المعنى في آيات كثيرة، فقد قال في الذين كانوا يشربون الخمر، ويأكلون مال الميسر قبل نزول التحريم: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا﴾ وقال في الذين كانوا يتزوجون أزواج آبائهم قبل التحريم: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [النساء:22]، أي: لكن ما سلف قبل التحريم فلا جناح عليكم فيه ونظيره قوله تعالىٰ: ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [النساء:23] وقال في الصيد قبل التحريم: ﴿عَفَا الله عَمَّا سَلَف﴾ وقال في الصلاة إلى بيت المقدس قبل نسخ استقباله: ﴿وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَـٰنَكُمْ﴾، أي: صلاتكم إلى بيت المقدس قبل النسخ ومن أصرح الأدلة في هذا المعنى أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين لما استغفروا لقربائهم الموتى من المشركين وأنزل الله تعالىٰ: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجَحِيمِ﴾ [التوبة:113]، وندموا على استغفارهم للمشركين أنزل الله في ذلك: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ﴾ [التوبة:115]، فصرح بأنه لا يضلهم بفعل أمر إلا بعد بيان اتقائه.

﴿يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا﴾ [البقرة:276]

صرح في هذه الآية الكريمة بأنه يمحق الربا أي: يذهبه بالكلية من يد صاحبه أو يحرمه بركة ماله فلا ينتفع به كما قاله ابن كثير وغيره، وما ذكر هنا من محق الربا، أشار إليه في مواضع أُخر كقوله: ﴿وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ الله﴾ [الرُّوم:39]، وقوله: ﴿قُلْ لَا يَسْتَوِي الخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخَبِيثِ﴾ [المائدة:100]، وقوله تعالى: ﴿وَيَجْعَلَ الخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ﴾ [الأنفال:37] واعلم أن الله صرح بتحريم الربا بقوله: ﴿وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة:275]، وصرّح بأن المتعامل بالربا محارب الله بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 278-279] وصرح بأن آكل الربا لا يقوم أي: من قبره يوم القيامة إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس بقوله: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ [البقرة:275].

﴿وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ [البقرة:276]

ذكر في هذه الآية الكريمة أنه تعالىٰ يربي الصدقات، وبيّن في موضع آخر أن هذا الإرباء مضاعفة الأجر، وأنه يشترط في ذلك إخلاص النية لوجه الله تعالىٰ، وهو قوله تعالىٰ: ﴿وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ المُضْعِفُونَ﴾ [الرُّوم:39].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾ [البقرة: 282]

ظاهر هذه الآية الكريمة أن كتابة الدين واجبة ؛ لأن الأمر من الله يدل على الوجوب. ولكنه أشار إلى أنه أمر إرشاد لا إيجاب بقوله: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾ [البقرة:283]؛ لأن الرهن لا يجب إجماعًا وهو بدل من الكتابة عند تعذرها في الآية فلو كانت الكتابة واجبة لكان بدلها واجبًا. وصرح بعدم الوجوب بقوله: ﴿فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾ [البقرة:283]، فالتحقيق أن الأمر في قوله:  ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾ للندب والإرشاد ؛ لأن لرب الدَّيْنِ أن يهبه ويتركه إجماعًا، فالندب إلى الكتابة فيه إنما هو على جهة الحيطة للناس، قاله القرطبي. وقاله بعضهم: إن أشهدت فحسن، وإن ائتمنت ففي حل وسعة ابن عطية، وهذا القول هو الصحيح وقاله القرطبي أيضًا وأخذ بعض العلماء من قوله تعالىٰ: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ﴾ الآية. أن الرهن لا يكون مشروعًا إلا في السفر كما قاله مجاهد والضحاك وداود والتحقيق جوازه في الحضر ولا مفهوم لمخالف الآية لأنه جرى على الأمر الغالب والكاتب يتعذر في السفر دون الحضر.

﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ [البقرة:282]

ظاهر الأمر الوجوب أيضا على من باع أن يشهد وجمهور العلماء على إن الإشهاد على المبالغة وكتابة الدين أمر مندوب إليه لا واجب ويدل ذلك قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ [البقرة:283] لم يبيّن الله تعالىٰ في هذه الآية اشتراط العدالة في الشهود، ولكنه بيّنه في مواضع أُخر كقوله: ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ [البقرة:282]، وقوله:  ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ [الطَّلاق:2].

﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ [البقرة:286]

لم يبين هنا هل أجاب دعاءهم هذا أم لا؟ وأشار إلى أنه أجابه بقوله في الخطأ: ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ﴾ [الأحزاب:5] وأشار إلى أنه أجابه في النسيان بقوله: ﴿وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام:68]  وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لما قرأ هذه الآية قال: قال الله تعالىٰ: ( نعم).

﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾ [البقرة:286]

لم يبين هنا هل أجاب دعاءهم هذا أم لا؟ ولم يبين الإصر الذي كان محمولاً على من قبلنا، وبيّن أنه أجاب دعاءهم هذا في مواضع أُخر كقوله: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف:157]، وقوله: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة:286]، وقوله: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج:78]، وقوله: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ﴾ [البقرة:185]، إلى غير ذلك من الآيات. وأشار إلى بعض الإصر الذي حمل على من قبلنا بقوله: ﴿فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة:54]؛ لأن اشتراط قتل النفس في قبول التوبة من أعظم الإصر، والإصر الثقل في التكليف.

õõõ

 تفسير سورة آل عمران

﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ﴾ [آل عمران:7]

اعلم أن الغالب في القرآن إطلاق التأويل على حقيقة الأمر التي يؤول إليها كقوله: ﴿هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ﴾ [يوسف:100]، وقوله: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ﴾ [الأعراف:53]، وقوله: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾ [يونس:39] وقوله: ﴿ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [الإسراء:35]، إلى غير ذلك من الآيات.

﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ﴾ [آل عمران:7]

الآية فيها إشارة تدل على أن الواو استئنافية لا عاطفة قال ابن قدامة في روضة الناظر ما نصّه: ولأن في الآية قرائن تدل على أن الله سبحانه، متفرد بعلم المتشابه، وأن الوقف الصحيح عند قوله تعالىٰ: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ﴾ [آل عمران:7]، لفظًا ومعنى ومما يؤيد أن الواو استئنافية لا عاطفة، دلالة الاستقراء في القرآن أنه تعالىٰ إذا نفى عن الخلق شيئًا وأثبته لنفسه أنه لا يكون له في ذلك الإثبات شريك كقوله:  ﴿قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلَّا اللهُ﴾ [النمل:65]، وقوله: ﴿لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ﴾ [الأعراف:187]، وقوله: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ [القصص:88]، فالمطابق لذلك أن يكون قوله: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ﴾ معناه: أنه لا يعلمه إلا هو وحده. وقال بعض العلماء: والتحقيق في هذا المقام أن الذين قالوا هي عاطفة، جعلوا معنى التأويل التفسير وفهم المعنى كما قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «اللهمّ علمه التأويل»، أي: التفسير وفهم معاني القرآن، والراسخون يفهمون ما خوطبوا به وإن لم يحيطوا علمًا بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه. والذين قالوا هي استئنافية جعلوا معنى التأويل حقيقة ما يؤول إليه الأمر وذلك لا يعلمه إلا اللَّه.

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ﴾ [آل عمران:10]

 ذكر في هذه الآية الكريمة أن الكفار يوم القيامة لا تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم شيئًا، وذكر أنهم وقود النار  أي: حطبها الذي تتقد فيه، ولم يبين هنا هل نفيه لذلك تكذيب لدعواهم أن أموالهم وأولادهم تنفعهم، وبيّن في مواضع أُخر أنهم ادعوا ذلك ظنًّا منهم أنه ما أعطاهم الأموال والأولاد في الدنيا إلا لكرامتهم عليه واستحقاقهم لذلك، وأن الآخرة كالدنيا يستحقون فيها ذلك أيضًا فكذبهم في آيات كثيرة، فمن الآيات الدالة على أنهم ادعوا ذلك قوله تعالىٰ: ﴿وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ [سبأ:35] ورد الله عليهم هذه الدعوى في آيات كثيرة كقوله   هنا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ﴾ [آل عمران:10] وقوله: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [آل عمران:178] وصرح في موضع آخر أن كونهم وقود النار المذكور هنا على سبيل الخلود وهو قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ الله شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [آل عمران:116].

﴿كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ العِقَابِ﴾ [آل عمران:11]

لم يبيّن هنا من هؤلاء الذين من قبلهم وما ذنوبهم التي أخذهم الله بها وبيّن في مواضع أُخر أن منهم قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب ؛ وأن ذنوبهم التي أخذهم بها هي الكفر باللَّه، وتكذيب الرسل وغير ذلك من المعاصي، كعقر ثمود للناقة وكلواط قوم لوط، وكتطفيف قوم شعيب للمكيال والميزان، وغير ذلك كما جاء مفصلاً في آيات كثيرة.

﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التَقَتَا﴾ [آل عمران:13]

ذكر في هذه الآية الكريمة أن وقعة بدر آية أي: علامة على صحة دين الإسلام إذ لو كان غير حق لما غلبت الفئة القليلة الضعيفة المتمسكة به الفئة الكثيرة القوية التي لم تتمسك به وصرح في موضع آخر أن وقعة بدر بيّنة أي: لا لبس في الحق معها وذلك في قوله: ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ [الأنفال:42] وصرح أيضًا بأن وقعة بدر فرقان فارق بين الحق والباطل، وهو قوله: ﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الفُرْقَانِ﴾ [الأنفال:41].

﴿وَالخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالحَرْثِ﴾ [آل عمران:14]

لم يبيّن هنا كم يدخل تحت لفظ الأنعام من الأصناف ولكنه قد بيّن في مواضع أُخر أنها ثمانية أصناف هي الجمل والناقة والثور والبقرة والكبش والنعجة والتيس والعنز كقوله تعالىٰ: ﴿وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا﴾ [الأنعام:142]، ثم بيّن الأنعام بقوله: ﴿ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ﴾ [الأنعام:143]، يعني الكبش والنعجة: ﴿وَمِنَ المَعْزِ اثْنَيْنِ﴾ [الأنعام:143]، يعني: التيس والعنز إلى  قوله: ﴿وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ﴾ [الأنعام:144] يعني: الجمل والناقة، وقوله: ﴿وَمِنَ البَقَرِ اثْنَيْنِ﴾، يعني: الثور والبقرة وهذه الثمانية هي المرادة بقوله: ﴿وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ [الزُّمر:6]، وهي المشار إليها بقوله: ﴿فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا﴾ [الشُّورى:11].

﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾ [آل عمران:31]

صرح تعالىٰ في هذه الآية الكريمة: أن اتباع نبيه موجب لمحبته جلّ وعلا ذلك المتبع، وذلك يدل على أن طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - هي عين طاعته تعالىٰ، وصرح بهذا المدلول في قوله تعالىٰ: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ﴾ [النساء:80]، وقال تعالىٰ: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر:7].

﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الكِبَرُ﴾ [آل عمران:40]

لم يبين هنا القدر الذي بلغ من الكبر ولكنه بيّن في سورة مريم أنه بلغ من الكبر عتياً وذلك في قوله تعالى عنه: ﴿وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكِبَرِ عِتِيًّا﴾ [مريم:8] والعتي: اليبس والقحول في المفاصل والعظام من شدة الكبر.

﴿قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾ [آل عمران:41]

لم يبين هل المانع له من كلام الناس بكم طرأ له، أو آفة تمنعه من ذلك. أو لا مانع له إلا الله وهو صحيح لا علة له ولكنه بيّن في سورة مريم أنه لا بأس عليه. وأن انتفاء التكلم عنه لا لبكم، ولا مرض وذلك في قوله تعالىٰ: ﴿قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا﴾ [مريم:10]  لأن قوله ﴿سَوِيًّا﴾ يفيد أنه سوي الخلق سليم الجوارح، ما بك شائبة بكم ولا خرس، وهذا ما عليه الجمهور.

﴿إِذْ قَالَتِ المَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ﴾ [آل عمران:45]

 لم يبيّن هنا هذه الكلمة التي أطلقت على عيسى؛ لأنها هي السبب في وجوده من إطلاق السبب وإرادة مسببه، ولكنه بيّن في موضع آخر أما أنها لفظة كن، وذلك في قوله: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ الله كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران:59]، وقيل: الكلمة بشارة الملائكة لها بأنها ستلده.

﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي المَهْدِ﴾ [آل عمران:46]

لم يبيّن هنا ما كلمهم به في المهد ولكنه بيّنه في سورة مريم بقوله: ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي المَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آَتَانِيَ الكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ [مريم: 29-33].

﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ [آل عمران:47]

أشار في هذه الآية إلى قصة حمل مريم بعيسى وبسطها مبينة في سورة مريم بقوله: ﴿وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا﴾ [مريم:16-17] إلى أخر القصة وبيّن النفخ فيها في سورة التحريم وسورة الأنبياء معبراً في سورة التحريم بالنفخ في فرجها رفي سورة الأنبياء بالنفخ فيها.

﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى الله قَالَ الحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ الله﴾

 [آل عمران:52]

لم يبيّن هنا الحكمة في ذكر قصة الحواريين مع عيسى، ولكنّه بيّن في سورة الصف، أن حكمة ذكر قصتهم هي أن تتأسى بهم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - في نصرة الله ودينه، وذلك في قوله تعالىٰ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ الله كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي﴾ [الصَّف:14].

﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ﴾ [آل عمران:54]

لم يبيّن هنا مكر اليهود بعيسى ولا مكر الله باليهود، ولكنه بيّن في موضع آخر أن مكرهم به محاولتهم قتله، وذلك في قوله: ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ الله﴾ [النساء:157]، وبيّن أن مكره بهم إلقاؤه الشبه على غير عيسى وإنجاؤه عيسى عليه السلام وذلك في قوله: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ﴾ [النساء:157]، وقوله: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ﴾ [النساء:158]  [النساء:157].

﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ [آل عمران:55]

قال بعض العلماء: أي مُنجِّيك ورافعك إليَّ في تلك النومة ويستأنس لهذا التفسير بالآيات التي جاء فيها إطلاق الوفاة على النوم، كقوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ﴾ [الأنعام:60]، وقوله: ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾ [الزُّمر:42].

﴿يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ﴾ [آل عمران:65]

لم يبيّن هنا ما وجه محاجتهم في إبرٰهيم. ولكنه بيّن في موضع آخر أن محاجتهم في إبرٰاهيم هي قول اليهود: إنه يهودي، والنصارى: إنه نصراني، وذلك في قوله: ﴿أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ﴾ [البقرة:140]، وأشار إلى ذلك هنا بقوله: ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ  * مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا﴾ [آل عمران:67].

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ [آل عمران:90]

 قال بعض العلماء: يعني إذا أخروا التوبة إلى حضور الموت فتابوا حينئذ، وهذا التفسير يشهد له قوله تعالىٰ: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ [النساء:18] وقال بعض العلماء: معنى لن تقبل توبتهم لن يوفقوا للتوبة حتى تقبل منهم ويشهد له قوله تعالىٰ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا﴾ [النساء:137]، فعدم غفرانه  لهم  لعدم هدايتهم السبيل الذي يغفر لصاحبه ونظيرها قوله تعالىٰ: ﴿لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ﴾ [النساء: 168-169].

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا﴾ [آل عمران:91]

صرّح في هذه الآية الكريمة، أن الكفار يوم القيامة لا يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبًا ولو افتدى به وصرّح في مواضع أخر أنه لو زيد بمثله لا يقبل منه أيضًا كقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القِيَامَةِ﴾ [المائدة:36]، وبيّن في مواضع أُخر، أنه لا يقبل فداء في ذلك اليوم منهم بتاتًا كقوله: ﴿فَاليَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الحديد:15].

﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ﴾ [آل عمران:97]

صرّح في هذه الآية، أنه غني عن خلقه، وأن كفر من كفر منهم لا يضره شيئًا، وبيّن هذا المعنى في مواضع متعددة، كقوله عن نبيّه موسى: ﴿وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [إبراهيم:8]  فالله تبارك وتعالىٰ يأمر الخلق وينهاهم؛ لا لأنه تضره معصيتهم ولا تنفعه طاعتهم، بل نفع طاعتهم لهم وضرر معصيتهم عليهم، كما قال تعالىٰ: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ [الإسراء:7].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ [آل عمران:102]

 أكثر العلماء على أنها منسوخة بقوله: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن:16] وقال بعضهم: هي مبينة للمراد منها فقوله: ﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ [آل عمران:102]، أي: بقدر الطاقة، والله تعالىٰ أعلم.

﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ [آل عمران:103]

لم يبيّن هنا ما بلغته معاداتهم من الشدة، ولكنّه بيّن في موضع آخر أن معاداتهم بلغت من الشدة أمرًا عظيمًا حتى لو أنفق ما في الأرض كله؛ لإزالتها وللتأليف بين قلوبهم لم يفد ذلك شيئًا وذلك في قوله: ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: 62-63].

﴿وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ [آل عمران:106]

 بيّن في هذه الآية الكريمة أن من أسباب اسوداد الوجوه يوم القيامة الكفر بعد الإيمان، وذلك في قوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ [آل عمران:106] وبيّن في موضع آخر أن من أسباب ذلك الكذب على الله تعالىٰ وهو قوله تعالىٰ: ﴿وَيَوْمَ القِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ﴾ [الزُّمر:60]. وبيّن في موضع آخر أن من أسباب ذلك اكتساب السيئات، وهو قوله: ﴿وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا﴾ [يونس:27]، وبيّن في موضع آخر أن من أسباب ذلك الكفر والفجور وهو قوله تعالىٰ: ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُولَئِكَ هُمُ الكَفَرَةُ الفَجَرَةُ﴾ [عبس: 40-42] وهذه الأسباب في الحقيقة شيء واحد عبّر عنه بعبارات مختلفة، وهو الكفر بالله تعالىٰ، وبيّن في موضع آخر شدة تشويه وجوههم بزرقة العيون، وهو قوله: ﴿وَنَحْشُرُ المُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا﴾ [طه:102]، وأقبح صورة أن تكون الوجوه سودًا والعيون زرقًا.

﴿مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ الله آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ [آل عمران:113]

ذكر هنا من صفات هذه الطائفة المؤمنة من أهل الكتاب أنها قائمة، أي: مستقيمة على الحق وأنها تتلو آيات الله آناء الليل وتصلّي وتؤمن بالله وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وذكر في موضع آخر أنها تتلو الكتاب حقّ تلاوته وتؤمن بالله، وهو قوله: ﴿الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ [البقرة:121] وذكر في موضع آخر أنهم يؤمنون بالله وما أُنزل إلينا وما أُنزل إليهم، وأنهم خاشعون لله لا يشترون بآياته ثمنًا قليلا، وهو قوله: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِالله وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لله لَا يَشْتَرُونَ بِآَيَاتِ الله ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [آل عمران:199] وذكر في موضع آخر أنهم يفرحون بإنزال القرآن، وهو قوله تعالىٰ: ﴿وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ [الرعد:36] وذكر في موضع آخر أنهم يعلمون أن إنزال القرآن من الله حقّ، وهو قوله: ﴿وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالحَقِّ﴾ [الأنعام:114]، وذكر في موضع آخر أنهم إذا تلي عليهم القرآن خرّوا لأذقانهم سجدًا وسبحوا ربهم وبكوا، وهو قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا﴾ [الإسراء: 107-109] وقال في بكائهم عند سماعه أيضًا:  ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ﴾ [المائدة: 83]، وذكر في موضع آخر أن هذه الطائفة من أهل الكتاب، تؤتى أجرها مرتين، وهو قوله: ﴿الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا﴾ [القصص: 52-54].

﴿وَتُؤْمِنُونَ بِالكِتَابِ كُلِّهِ﴾ [آل عمران:119]

يعني: وتؤمنون بالكتب كلها كما يدل له قوله تعالىٰ: ﴿وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتَابٍ﴾ [الشُّورى:15]، وقوله: ﴿كُلٌّ آَمَنَ بِالله وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ﴾ [البقرة:285].

﴿وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ﴾ [آل عمران:133]

يعني: عرضها كعرض السمٰوات والأرض كما بيّنه قوله تعالىٰ في سورة الْحَدِيدَ: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾ [الحديد:21]، وآية آل عمران هذه تبيّن أن المراد بالسماء في آية سورة الحديد جنسها الصادق بجميع السمٰوات كما هو ظاهر، والعلم عند الله تعالىٰ.

﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾ [آل عمران:140]

المراد بالقرح الذي مسّ المسلمين هو ما أصابهم يوم أُحد من القتل والجرح، كما أشار له تعالىٰ في هذه السورة الكريمة في مواضع متعددة كقوله: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ المَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ [آل عمران:143] وأما المراد بالقرح الذي مسّ القوم المشركين فيحتمل أنه هو ما أصابهم يوم بدر من القتل والأسر، وعليه فإليه الإشارة بقوله: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى المَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ [الأنفال:12] وقد أشار إلى القرحين معًا بقوله: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا﴾ [آل عمران:165] فالمراد بمصيبة المسلمين القرح الذي مسهم يوم أُحد، والمراد بمصيبة الكفار بمثليها قبل القرح الذي مسّهم يوم  بدر؛ لأن المسلمين يوم أُحد قتل منهم سبعون، والكفار يوم بدر قتل منهم سبعون، وأسر سبعون.

﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَل‍َمَّ‍ا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران:142]

أنكر الله في هذه الآية، على من ظن أنه يدخل الجنة دون أن يبتلى بشدائد التكاليف التي يحصل بها الفرق بين الصابر المخلص في دينه، وبين غيره وأوضح هذا المعنى في آيات متعددة كقوله: ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت: 1-3].

﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ [آل عمران:146]

والآيات القرآنية مبينة أن النبي المقاتل غير مغلوب بل هو غالب، كما صرّح تعالىٰ بذلك في قوله: ﴿كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾ [المجادلة:21]، وقال قبل هذا: ﴿أُولَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ﴾ [المجادلة:20]، وقال بعده: ﴿إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج:74].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾ [آل عمران:156]

ذكر في هذه الآية الكريمة أن المنافقين إذا مات بعض إخوانهم يقولون لو أطاعونا فلم يخرجوا إلى الغزو ما قتلوا ولم يبيّن هنا هل يقولون لهم ذلك قبل السفر إلى الغزو ليثبطوهم أو لا؟ ونظير هذه الآية: قوله تعالىٰ: ﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾ [آل عمران:168]، ولكنه بيّن في آيات أُخر أنهم يقولون لهم ذلك قبل الغزو ليثبطوهم كقوله: ﴿وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الحَرِّ﴾ [التوبة:81].

﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ الله وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [آل عمران:157]

 ذكر في هذه الآية الكريمة أن المقتول في الجهاد والميت كلاهما ينال مغفرة من الله ورحمة خيرًا له مما يجمعه من حطام الدنيا وأوضح وجه ذلك في آية أخرى بيّن فيها أن الله اشترى منه حياة قصيرة فانية منغصة بالمصائب والآلام بحياة أبدية لذيذة لا تنقطع ولا يتأذى صاحبها بشيء واشترى منه مالاً قليلاً فانيًا بملك لا ينفد ولا ينقضي أبدًا، وهي قوله: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ ... الآية﴾ [التوبة:111].

﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لهُمْ﴾ [آل عمران:159]

يحتمل دخول النساء فيه وعدم دخولهن بناء على الاختلاف المذكور، ولكنّه تعالىٰ بيّن في موضع آخر أنهنّ داخلات في جملة من أمر ر بالاستغفار لهم، وهو قوله تعالىٰ: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ﴾ [محمد:19].

﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ الله كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ الله﴾ [آل عمران:162]

ذكر في هذه الآية أن من اتبع رضوان الله ليس كمن باء بسخط منه ؛ لأن همزة الإنكار بمعنى النفي ولم يذكر هنا صفة من اتبع رضوان الله، ولكن أشار إلى بعضها في موضع آخر وهو قوله: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ الله وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ الله وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ [آل عمران: 173-174]. وأشار إلى بعض صفات من باء بسخط من الله بقوله: ﴿تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي العَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ﴾ [المائدة:80].

 ﴿أَوَلَما أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ [آل عمران:165]

ذكر في هذه الآية الكريمة أن ما أصاب المسلمين يوم أُحد إنما جاءهم من قبل أنفسهم، ولم يبيّن تفصيل ذلك هنا ولكنه فصله في موضع آخر وهو قوله: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ﴾ [آل عمران: 152]، وهذا هو الظاهر في معنى الآية؛ لأن خير ما يبين به القرآن بالقرآن.

﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [آل عمران:178]

ذكر في هذه الآية الكريمة أنه يملي للكافرين ويمهلهم لزيادة الإثم عليهم وشدة العذاب وبيّن في موضع آخر أنه لا يمهلهم متنعمين هذا الإمهال إلا بعد أن يبتليهم بالبأساء والضراء فإذا لم يتضرعوا أفاض عليهم النعم وأمهلهم حتى يأخذهم بغتة كقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آَبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [الأعراف:94-95] وبيّن في موضع آخر أن ذلك الاستدراج من كيده المتين وهو قوله: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ [الأعراف]. وبيْن في موضع آخر أن الكفار يغترون بذلك الاستدراج فيظنون أنه من المسارعة لهم في الخيرات وأنهم يوم القيامة يؤتون خيرًا من ذلك الذي أوتوه في الدنيا، كقوله تعالىٰ: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ﴾ [المؤمنون] ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ﴾ [المؤمنون:55] والبأساء: الفقر والفاقة، والضراء: المرض على قول الجمهور.

﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا﴾ [آل عمران:169]

نهى الله تبارك وتعالىٰ في هذه الآية عن ظن الموت بالشهداء، وصرح بأنهم ﴿أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [آل عمران]. ولم يبيّن هنا هل حياتهم هذه في البرزخ يدرك أهل الدنيا حقيقتها أم لا؟ ولكنه بيّن في سورة البقرة أنهم لا يدركونها بقوله: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [البقرة:154]؛ لأن نفي الشعور يدل على نفي الإدراك من باب أولى كما هو ظاهر.

﴿الَّذِينَ قَالَ لهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ [آل عمران:173]

قال جماعة من العلماء: المراد بالناس القائلين: ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾، نعيم بن مسعود الأشجعي أو أعرابي من خزاعة رافع ويدل لهذا توحيد المشار إليه في قوله تعالىٰ: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ﴾ [آل عمران:175].

﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾ [آل عمران:186]

ذكر في هذه الآية الكريمة أن المؤمنين سيبتلون في أموالهم وأنفسهم، وسيسمعون الأذى الكثير من أهل الكتاب والمشركين، وأنهم إن صبروا على ذلك البلاء والأذى واتقوا اللَّه، فإن صبرهم وتقاهم ﴿مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾، أي: من الأمور التي ينبغي العزم والتصميم عليها لوجوبها وقد بيّن في موضع آخر أن من جملة هذا البلاء: الخوف والجوع وأن البلاء في الأنفس والأموال هو النقص فيها وأوضح فيه نتيجة الصبر المشار إليها هنا بقوله: ﴿فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾، وذلك الموضع هو قوله تعالىٰ: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ وَالجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ﴾ [البقرة:155-157]، وبقوله: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ الله وَمَنْ يُؤْمِنْ بِالله يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ [التغابن:11] ويدخل في قوله: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِالله﴾، الصبر عند الصدمة الأولى، بل فسره بخصوص ذلك بعض العلماء، ويدل على دخوله فيه قوله قبله: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ الله﴾  وبيّن في موضع آخر أن خصلة الصبر لا يُعطاها إلا صاحب حظٍ عظيم وبخت كبير، وهو قوله: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [فصِّلت:35]، وبيّن في موضع آخر أن جزاء الصبر لا حساب له، وهو قوله: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزُّمر:10].

﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران:191]

ذكر في هذه الآية أن من جملة ما يقوله أُولوا الألباب تنزيه ربهم عن كونه خلق السمٰوات والأرض باطلاً، لا لحكمة سبحانه تعالىٰ عن ذلك علوًّا كبيرًا وصرح في موضع آخر بأن الذين يظنون ذلك هم الكفار، وهددهم على ذلك الظن السَّيِّىء بالويل من النار، وهو قوله: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾ [ص:27].

 ﴿وَمَا عِنْدَ الله خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾ [آل عمران:198]

لم يبيّن هنا ما عنده للأبرار، ولكنه بيّن في موضع آخر أنه النعيم، وهو قوله: ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ﴾ [الانفطار:13]  وبيّن في موضع آخر أن من جملة ذلك النعيم الشرب من كأس ممزوجة بالكافور، وهو قوله: ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا﴾ [الإنسان:5].

õõõ

 الخاتمة

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات

اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني

اللهم اغفر لي جدِّي وهزلي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي

اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار

اللهم انفعني بما علَّمتني وعلِّمني ما ينفعُني وارزقني علماً ينفعُني وزدني علماً

والحمد لله على كل حال وأعوذ بالله من حال أهل النار

سبحانك اللهم وبحمدك أشهدُ أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

                                   كتبه الفقير إلى عفو ربه القدير

                          أبو خلاد ناصر بن سعيد بن سيف السيف

                             غفر الله له و لوالديه وجميع المسلمين

1/6/1428هـ



([1]) نشكر الأخ: عبدالعزيز بن محمد الجوير حفظه الله تعالى على جهده في ترتيب هذه الورقات، نسأل الله العلي القدير أن يسدده ويوفقه والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.