ما هو الإسلام؟
ترجمات المادة
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
- ما هو الإسلام
ما هو الإسلام
جمال الدين زرابوزو
ترجمة إلى اللغة العربية: د. هالة أحمد الشيخ
مراجعة: مركز الترجمة، جامعة الملك سعود
تمهيد
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
لا يسعني في هذا المقام سوى أن أقر بحمد الله تعالى وشكره على أن يسر لي فرصة كتابة مثل هذا العمل القيم في بابه، وأسأله تعالى أن يغفر ما كان مني من تقصير في تقديم دينه.
كما أتوجه بخالص الامتنان لفضيلة الشيخ محمد التركي من وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد على دعمه لي، كما أتقدم بالشكر إلى أحمد الراشد جزاء جهده المتواصل.
كما أحب أن أتقدم بخالص الشكر لأناس كثيرين على ما بذلوه من دعم لي في هذا العمل، وأتقدم أولًا بالشكر إلى زوجتي العزيزة التي ما فتئت تدعمني وتساندني، كما أتوجه بالشكر الخاص إلى الدكتور/ عبد الكريم السعيد، والدكتور/ نهار الراشد، والدكتور/ جلال عبد الله، فلا يسعني إلا أن أدعو الله أن يباركهم ويجزيهم خيرًا في الدنيا والآخرة.
كما أسأله تعالى أن يتقبل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وكما هو الحال في كل مثل هذه الكتابات، فإن ما فيها من خطأ هو من الكاتب، وأسأل الله أن يغفر لي تقصيري، وأن يهديني سواء السبيل.
جمال زرابوزو
مدينة بولدر، ولاية كولورادو
14 أكتوبر 2005
المقدمة
الهدف من كتابة هذا العمل
نعيش الآن في وقت بالغ الحساسية، وتبرز الحاجة إلى صدور مؤلف مختصر وواضح يبين ما هو الإسلام. إن الإسلام اليوم يتم تصويره - في معظم أنحاء العالم - بشكل لا يثير الفخر، ولم تختلف الصورة كثيرًا عما كانت عليه في الماضي القريب. لقد كتب أحد الكتاب الغربيين عن حياة محمد (صلى الله عليه وسلم) يقول:
حينما اشتعلت الحرب بين الإسلام والمسيحية ودامت عدة قرون اشتد النفور بين الفريقين، وأساء كل منهما فهم الآخر، ولكن يجب الاعتراف: بأن إساءة الفهم كانت من جانب الغربيين أكثر مما كانت من جانب الشرقيين. وفي الواقع أنه على أثر تلك المعارك العقلية العنيفة التي أرهق فيها الجدليون البيزانطيون الإسلام بمساوئ واحتقارات دون أن يتعبوا أنفسهم في دراسته، هبَّ الكتاب والشعراء المرتزقة وأخذوا يهاجمون العرب، فلم تكن مهاجمتهم إياها إلا تهماً باطلة بل متناقضة.
لا حاجة لنا هنا أن نستطرد في هذا، لكن هذه المفاهيم الخاطئة عن الإسلام صارت اليوم تصدر عن كافة الأطياف، بما في ذلك شخصيات عامة، وقادة كنسيين في الغرب.
وحيث إنه لسوء الحظ لا يعلم كثير من العوام عن الإسلام سوى ما يرونه في الإعلام، والذي عج في الآونة الأخيرة بنبرة الحديث عن الإرهاب، فليس من العجيب أن تلقى هذه الشبهات صدى لدى الجمهور ككل. وأسهل أسلوب وربما أجدى الوسائل نفعًا في هذا الصدد هو محاولة الخروج والوصول إلى هؤلاء الناس وإطلاعهم على حقيقة الإسلام ككل. فلابد للمرء من مجاوزة اللغط السائد، وأن يتناول مباشرة صحيح تعاليم هذا الدين. (ومن المؤسف كذلك، أن الواحد منا الآن لابد أن يتجاوز تلك الصورة التي قدمها المسلمون أنفسهم لغيرهم عن الإسلام، وبالرغم من أن المسيحية واليهودية – في عمومهما – لا ينالهما لوم بسوء تصرفات أتباعهما، إلا أن الإسلام اليوم غالبًا ما توجه إليه الاتهامات لسوء تصرفات أتباعه، حتى ولو كانت هذه التصرفات تناقض ما تقرر في دين الإسلام) .
إن مما يؤسف له اليوم أن الآراء السلبية والتفسيرات الخاطئة للإسلام لا تمثل ببساطة مجرد آراء فردية لأصحابها، بل أصبحت توابع هذه الآراء أكبر من ذلك بكثير، وأصبحت تتعلق بأمن العالم كله وسياساته. والأخطر من هذا كله هو أنه مع سوء الفهم الذي تعلق بالإسلام والتصوير الدائم له بأنه هو "الآخر" وأنه مصدر الشر، فإن أناسًا توقفوا عند حدود النواحي الجمالية للإسلام وحقائقه الغالية والتي ينبغي عرضها للبشرية. وفي الحقيقة، في مثل هذه الأوقات العصيبة التي نحياها، تصبح الحاجة ماسة للعودة إلى الهداية الربانية، وهي لب الإسلام وجوهره في واقع الأمر.
وليس هدفنا هنا هو تفنيد المعلومات الخاطئة الشائعة حول الإسلام، لكن هدفنا هنا ببساطة هو عرض ماهية الإسلام الحقيقية بناءً على مصادر الإسلام الأصلية المعروفة وهي القرآن -كتاب الله الذي أنزله على محمد (صلى الله عليه وسلم)، وكذلك أقوال النبي نفسه وتوجيهاته.
لمن نكتب هذا الكتاب؟
يخاطب هذا الكتاب كل من يريد أن يعرف مقدمة أساسية عن العقائد والممارسات الأساسية في الإسلام، فهو يمثل محاولة تهدف مع وجازتها - قدر المستطاع - إلى تشجيع القارئ على دراسة الإسلام بشكل أعمق، وسوف نقدم مجموعة مختارة من الكتابات المهمة في الهوامش للرجوع إليها لدراسة الإسلام بشكل أعمق.
كما لابد من التنويه إلى أن كاتب هذه الأسطر رجل غربي ممن اعتنقوا الإسلام. ومن المفترض - لأنه كتب باللغة الإنجليزية - أن يكون القراء إما غربيين أو على معرفة بالغرب، وبالتالي، فإن كثيرًا من المصادر ستكون متصلة بقضايا يكون القارئ الغربي على معرفة بها أكثر من غيره، ويكون الكاتب نفسه أكثر معرفة بها.
مكانة هذا الكتاب بين الكتابات التمهيدية
هناك كم هائل من الكتابات التي تعرض الإسلام لغير المسلمين. إذ بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر على الأخص يمكن لأي أحد أن يدخل أية مكتبة من المكتبات الكبيرة في الولايات المتحدة على سبيل المثال وسيجد العديد من الكتب التمهيدية عن الإسلام، ومن الواضح أن بعض هذه الكتب جيدة إلى حد كبير. وبعض هذه الكتب كتبها أناس غير مسلمين، وقد كان بعضهم بلا شك صادقًا في محاولة عرض الدين الإسلامي. وبصفتي مسلمًا، فإن كاتب هذه الأسطر يمكنه أن يقرر أن هؤلاء الكتاب في غالبهم طغى عليهم اتجاه غياب الروح الإسلامية وماهية الإسلام الحقيقة. فالاتجاه الغالب في هذه الكتب هو التركيز على بعض القضايا الثانوية، والتطور التاريخي للمسلمين أنفسهم، أو الانحرافات التي حادت بالمسلمين عن الإسلام الحقيقي، تاركين القارئ جاهلًا بجوهر آداب الإسلام وتعاليمه.
ومن ناحية أخرى، نجد كثيرًا من الكتَّاب المسلمين الذين يكتبون للقارئ الغربي ينحون منحى المنهج الحداثي أو الاعتذاري، والمرء لا يسعه أن يكتب كتابًا يعرض فيه الإسلام للآخرين، وفي الوقت ذاته يلوي عنق المعنى أو يحرف المعنى الحقيقي للإسلام الذي يؤمن به ملايين الناس حسبما يرى هذا الكاتب من وجهة نظره الفردية؛ كذلك لا يسع الفرد وهو يكتب كتابًا تمهيديًا عن الإسلام أن يقدم "تفسيرًا" جديدًا للإسلام، فالمسؤولية التي تقع على عاتق من يعرض الإسلام لغير المسلمين هي أن يعرضه كما هو في الواقع بكل أمانة ووضوح، ومن غير محاولة إخفاء أو تغيير أي شيء منه. فعقيدة المسلم أن هذا هو دين الله، وعليه فلا يسع المسلم إلا أن يعرض دين الله كما أنزله الله وكما بلغه رسول الله (صلى الله عليه وسلم). فلابد أن يتسم العرض بالصدق والأمانة، وعلى الكاتب أن يترك الأمر للقارئ ليحدد بنفسه، بناءً على العلم الصحيح إذا أراد أن يتعرف أكثر على هذا الدين.
مصادر الكتاب ومنهجية التأليف
لابد لأي كتاب عن الإسلام أن يعتمد أساسًا على القرآن وعلى سنة النبي (صلى الله عليه وسلم) وهديه حتى يكون كتابًا موثوقًا. وبالرغم من وجود النصوص العربية الأصلية لكل من القرآن والسنة، إلا أنه يجب علينا الاعتماد عند الترجمة على تراجم دقيقة تنقل المعنى للقارئ غير العربي؛ فبالنسبة للقرآن يمكنننا أن نوصي بترجمتين لمعانيه، وهاتان الترجمتان هما المستخدمتان في هذا الكتاب: "القرآن الكريم وترجمة معانيه إلى اللغة الإنجليزية" ترجمة الهلالي وخان ، و"القرآن: النص العربي مع المعنى المقابل باللغة الإنجليزية"، ترجمة صحيح إنترناشيونال ، وإنما نوصي بهاتين الترجمتين لأنهما قائمتان على فهم القرآن كما ورد عن النبي (صلى الله عليه وسلم) وعن صحابته المقربين.
أما بالنسبة لكتب السنة فهناك كتابان موجودان باللغة الإنجليزية وهما صحيح البخاري وصحيح مسلم.
هناك عدد من الكتابات المفيدة جدًا في فهم الدين الإسلامي، وفيما يلي بعض أهم هذه الكتابات، والتي تمثل أيضًا مصادرًا لهذا الكتاب:
شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي، وهو كتاب بالغ الأهمية من كتب التراث التي تشرح العقيدة الإسلامية بالتفصيل.
"سلسلة العقيدة الإسلامية" لعمر الأشقر، ومنها "العقيدة في الله في ضوء القرآن والسنة"، و"الرسل والرسالات في ضوء القرآن والسنة".
"أصول التوحيد" لبلال فيليبس.
"روح الدين الإسلامي: أصول الإسلام وآدابه" لعفيف عبد الفتاح طبارة.
أما بالنسبة للمنهجية التي سار عليها كاتب هذه الأسطر هنا فهي أن كل ما تم عرضه فهو قائم – قدر استطاعة الكاتب - على منهج أهل السنة والجماعة، وهم السائرون على المنهج والعقيدة المتواترة عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نفسه. ولا توجد هنا ثمة محاولة "لإعادة تأويل" شيء أجمع المسلمون على مر القرون المنصرمة على صحته، ولا زال هو الرأي السائد بين المسلمين حتى يومنا هذا.
وقبل أن نشرع في عملنا، لابد من التنويه إلى استخدام كلمتي الله ورب [God في النص الإنجليزي]. فالله هو الاسم العلم للخالق، وهو أقرب لكلمة "يهوه" (Yahwah، ثم فيما بعد jehova) لذلك سوف يستخدم لفظي الله والرب مكان أحدهما الآخر.
الإيمان بالله
إن الإيمان بالله في واقع الأمر هو الركن الركين في العقيدة الإسلامية كلها، فكل ما سواه من المعتقدات والممارسات الإسلامية تدور حول العقيدة السليمة في الإيمان بالله. ولعله لهذا السبب لا نجد أي نظام ديني على وجه الأرض صوَّر الإيمان بالله وفصله كما فصله الإسلام. ولقد ذكر الإمام "ابن أبي العز الحنفي" ذات مرة أن كل آيات القرآن تتعلق من وجه أو آخر بالإيمان بالله.
ومن ثم، فإن أية مناقشة جادة عن الإسلام لابد وأن تبدأ بالحديث عن مفهوم الإيمان بالله، بل لابد أن تكون المناقشة مفصلة لأن كل شيء في الإسلام إنما يجد أصله في هذا المعتقد الأساسي وينبني عليه. وفي الواقع، تبين شعائر الإسلام أن الإيمان بالله الواحد، لا شريك له، هو ما دعا إليه كل الأنبياء، وأنه جوهر رسالاتهم جميعًا. فهي الخطوة الأولى والخطوة الأهم والخطوة القيمة في عملية فهم الإنسان لحقيقته.
كيف يعرف الإنسان ربه؟
قبل عرض رؤية الإسلام في هذا، نقدم ملمحًا تاريخيًا لبعض الأطر الفكرية السائدة.
بداية من النصف الأول من القرن السابع عشر الميلادي، ومع تنامي الانفصال بين الحقيقة العلمية و"الحقائق الإنجيلية" بشكل أكبر وأكبر بدأ الفلاسفة إدوارد هيربيرت وفولاتير ومعهم عدد من القادة الأمريكيين تبني فلسفة عرفت باسم "الربوبية". فقد آمنوا بما أسموه "الدين الطبيعي" الذي يمكن التوصل إليه بواسطة العقل، ومن ثم فقد همشوا دور الوحي وتعاليم الكنيسة.
إن عددًا من العوامل أدت إلى نمو هذه الفلسفة، لكن العامل الرئيس كان هو - وذلك ما سوف نناقشه لاحقًا - أن هؤلاء العلماء لم يستطيعوا إنكار الأدلة البديهية على وجود الخالق، ومن ثم كان لزامًا عليهم البدء بهذه الافتراضية. لكنهم لما أصابهم الإحباط مما كانت الكنيسة تعلمه، اضطروا إلى القول بأن الحقائق الموجودة في هذا العالم يمكن التوصل إليها من خلال العقل الإنساني، وأنه ليست ثمة حاجة للوحي الإلهي؛ بل إنه لم تعد هناك ضرورة لأن يرسل الرب أية معرفة أخرى فوق ما يمكن أن يتوصل إليه البشر بأنفسهم. بل أكثر من هذا أنهم قالوا إن الرب لم يعد له دور آخر ليؤديه في هذه الخليقة. وبالتالي فإن نظرتهم للرب كانت أشبه بجعله "صانع ساعات" والذي بعد أن صنع ساعته وشحنها، تركها بعد ذلك تعمل بمفردها بلا تدخل منه.
وخلاصة القول، أنه وفقًا لهذه النظرية، فإن الله قد ترك البشرية لتعرف بمفردها كيف تعيش وتسير وسط هذه العوالم. لقد أصبحت تلك الفكرة، حتى بدون النظر إلى أصولها الفلسفية، منهج كثير من أهل هذا العالم اليوم. فلم يعودوا يروا أية حاجة في الرجوع إلى الله للتعرف على المنهج الذي يجب أن يسيروا عليه في هذا العالم. إن العلمانية باعتبارها فلسفة سياسية هي الفلسفة السائدة في العالم اليوم. (وكما سنناقش فيما بعد، فإن هذا يناقض صفة من صفات الله تعالى وهي أنه هو الرحمن الرحيم بعباده، وأنه يجب على الإنسان أن يجتنب هذا التفكير بأن الله ترك البشر بلا هداية، وأنه ليس ثمة غاية له تعالى من خلقه إياهم).
لا ينكر الإسلام أن البشر يتمتعون بمقدرة عقلية هائلة، ومواهب فطرية. وكثير من العلماء بما فيهم الفلاسفة المشار إليهم أعلاه لم يستطيعوا إنكار الدلائل الواضحة على وجود الخالق، لذا فقد قبلوا بحق فكرة وجود الله. ولم تكن تلك الفكرة في التاريخ البشري مصدر إشكال، بل إن القرآن الكريم في واقع الأمر يقرر هذا الأمر، مقتبسًا من كلام الرسل السابقين: ﴿أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ﴾ (إبراهيم: ١٠).
إن مشكلتهم تكمن في عدم معرفتهم بالله معرفة سليمة، وعدم تعاملهم مع وحي إلهي حقيقي ومحفوظ، وهذا يبرز أهمية معرفة الطريق الصحيح للوصول إلى الله.
يقرر الإسلام أن الله تعالى خلق البشر وبداخلهم استعداد فطري للاعتراف بحقيقة أن لهم ربًا خالقًا وفهم تلك الحقيقة. يقول النبي (صلى الله عليه وسلم) "ما من مولود إلا يولد على الفطرة" أي أن كل طفل مولود وبداخله ميل إلى الحق واستعداد للتسليم بحقيقة وجود الخالق.
ولذلك فإن مفهوم الرب معروف لجميع الناس: من الفيلسوف والمفكر إلى رجل الشارع العادي – على حد سواء، كما أنه في الوقت ذاته لا يمكن لإنسان عاقل مدرك أن يكون مستعدًا لأن ينكر أو أن يضرب الذكر صفحًا عن أساس خلقه، ومن ثم تتولد داخل كل واحد من البشر رغبة في معرفة ربه وخالقه ومن وهبه الحياة، وهذا إحساس لابد أن يكون إحساسًا فطريًا وتلقائيًا داخل روح كل كائن بشري.
لكن هناك نقطة مهمة لابد من معرفتها بخصوص الله الخالق، وهي أن ذات الله تعالى متفردة ومستقلة عن خلقه، ومن ثم فالله تعالى لا تدركه الأفهام ولا تحيط به الأوهام. إن معرفة الله تعالى لا يمكن أن تكون من خلال التفلسف في غرفة هادئة أو في جزء مترامي الأطراف من هذا العالم، بحيث يوجه هذا الإنسان إلى الحقيقة الدامغة بوجوده وعظمته سبحانه، لكن التعرف على كل ما يتعلق بالخالق، وعلى وجه الخصوص، التعرف على العلاقة بين الفرد وبين ربه لا يمكن التوصل إليها إلا بالإقبال على الله ذاته ومن خلال وحيه، فليس ثمة سبيل آخر.
ومن ثم فإن الوحي الذي أنزله الله والمتمثل في القرآن الكريم، وما أوحاه الله إلى نبيه (صلى الله عليه وسلم) يقدم عرضًا واضحًا جليًا عن الله تعالى. فهو يزيل أي شك في وجوده سبحانه، أو في قدرته وعلمه سبحانه؛ كما أن هذا الوحي يقدم الجواب لكل التساؤلات حول كيفية تعامل الفرد مع خالقه العظيم؛ هذا فضلًا عن أنه سبحانه أمدنا – رحمة منه – بما يغنينا في التعرف عليه سبحانه من خلال أسمائه الحسنى وصفاته العليا، وبذا يصبح الحق تعالى هو محبوب خلقه وغاية عبادتهم، ومصدر إلهام حياتهم.
تتناول الصفحات التالية ملخصًا لتعاليم الإسلام العظيمة المتعلقة بالله تعالى، ونحن لا ندعي أن هذه الصفحات أكثر من مجرد غيض من فيض من القدر الهائل من المعارف المنثورة قي كتاب الله وسنة نبيه.
الإيمان بالله الواحد الخالق الرازق
عند مطالعة القرآن الكريم، هناك أمر يبرز بروزًا جليًا، وهو أن الله تعالى يأمر البشر بالتفكر في الخلق، وما فيه من لطائف وعجائب. ولم يحدث أبدًا أن صدت تعاليم القرآن عن التأمل والتفكير العقلاني. بل إن القرآن يدعو مرارًا وتكرارًا إلى هذه الأسس باعتبارها السبيل الذي سوف يؤدي إلى نهاية واحدة ألا وهي: أن هذا الخلق كما نلحظه وندركه اليوم لم يكن ليأتي للوجود إلا بفعل إله خالق عظيم.
إن الله تعالى أعطانا في آية من آيات كتابه حجة دامغة كانت كافية لإقناع الناس لقرون عديدة، إذ يقول تعالى:
﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (٣٥)أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ (٣٦)﴾ (الطور: ٣٥ – ٣٦)
لقد كان هذا واضحًا للكثيرين والكثيرين، فمعلوم أنهم لم يأتوا لهذا العالم من لا شيء، ولا أنهم هم الذين أوجدوا أنفسهم. وبالتالي لابد وأن يكونوا مخلوقين لخالق، وأن هذا الخالق باق بذاته وأنه غير مخلوق.
ومع وضوح هذه العقيدة واتساقها مع الفطرة، إلا أن الشكوك والشبهات – على اختلاف أنواعها ومصادرها - ما فتئت تعرض للبشر. وفي مختلف الأزمان، كانت هناك أشكال مختلفة من الشكوك تطرأ على البشر، أما اليوم، فإن كثيرًا من الناس يتشككون بخصوص قضية الخلق والتطور. وإن كان كثير من الناس يرون أن نظرية الخلق لا تمثل علمًا سليمًا، بعكس التطور.
وحاليًا، يبدو أن التفسير الأكثر شيوعًا لوجود الكون هي نظرية الانفجار الكبير. حتى أن إنكارتا مايكروسوفت تشير إلى الانفجار العظيم بأنه "التفسير المقبول حاليًا لبدء العالم" وهذا أمر جيد منهم لأن "العلم" دومًا ما يغير حقائقه وتفسيراته. وهذا بالضبط ما أشار إليه تعالى كما في الآية السابقة:
﴿أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ (٣٦)﴾ (الطور: ٣٦). فهؤلاء الذين ابتعدوا عن منهج الله لابد وأن يقروا أنهم لا يعلمون على وجه اليقين ما يؤمنون به، بل إن ما يؤمون به اليوم قد يتغير غدًا تمامًا، لأنهم في الواقع لا يبنون علمهم على أمر ثابت.
ومع ذلك يبدو أن الخلاف بين الانفجار العظيم وبين الخلق والتطور هو خلاف ظاهري أكثر منه جوهري. فنظرية الانفجار العظيم كما تذكر إنكارتا "تشير إلى أن الكون كان عبارة عن نقطة حارة شديدة الكثافة، ثم حدث انفجار كوني أطلق عليه الانفجار العظيم، وكان هذا منذ حوالي من عشرة مليار إلى عشرين مليار سنة، ومن لحظتها والكون يستمر بالتوسع وتستمر درجة الحرارة بالانخفاض. لكن هذا يثير تساؤلًا وهو من الذي خلق المادة التي كانت أساس هذا الانفجار؟ وإذا كانت المادة لا تزال بحاجة إلى خالق، فهل هناك أدلة تنفي أن يكون الخالق خلق أنواعًا أخرى من المخلوقات فيما بعد في هذا العالم؟
لكن هناك مشكلة أكبر تتعلق بنظرية الانفجار العظيم، ألا وهي: كيف يمكن لمثل هذا الانفجار العشوائي أن يؤدي إلى وجود هذا الاتساق والتناغم والإبداع الذي نلحظه في العالم؟ فعلى سبيل المثال، أين مظاهر هذا الجمال والنظام الكوني التي حدثت عقب تفجيرات ناجازاكي وهيروشيما؟
لكن العجيب أن الملحدين والماديين لا زالوا يرفضون رؤية ما اتضح لنفوسهم، ولا زالوا يقولون مقالات أقل ما يقال فيها أنها سخيفة. فعلى سبيل المثال، ذكر الملحد المعروف "هكسلي" "لو جلس ستة من القرود على آلات كاتبة وظَلَّت تضرب على حروفها لملايين السنين، فلا نستبعد أن نجد في بعض الأوراق الأخيرة التي كتبوها قصيدة من قصائد شكسبير . فكذلك كان الكون الموجود الآن نتيجة لعمليات عمياء ظلَّت تدور في المادة لبلايين السنين" وقد أجاب وحيد الدين خان على هذا باستخدام نفس الفكر "المادي" وقال " إنّ الرياضيات التي تعطينا نكتة المصادفة، هي نفسها التي تنفي أيّ إمكان رياضي في وجود الكون الحالي بفعل قانون المصادفة."
وإضافة إلى أن هذا الوجود لابد له من خالق، فإن المرء لابد أن يلحظ التوازن والاتزان الموجود في هذا العالم. فالنظام الذي يسير في هذا الكون بالغ الدقة حتى أنه أحيانًا يشار إليه بأنه "التوازن الدقيق للطبيعة"، ومن العجيب حقًا أن نرى كل الأشياء تعمل في تناسق حتى داخل جسم الإنسان نفسه. فبدون هذا التناسق بين أعضاء الجسم المختلفة على سبيل المثال، لن تكون هناك احتمالية لاستمرار الحياة. إن هذه الظاهرة البينة تؤدي إلى عدد من الاستنتاجات المهمة:
أولًا: أن التنظيم والتناسق بين الجمادات في الطبيعة والتي لم تتعلم أو تتدرب يؤكد أنها لا تزال خاضعة لسيطرة وقوانين الخالق. فلا يوجد هناك شيء في هذه المخلوقات له قدرة أو هدف مستقل به، وإلا أدى هذا إلى أن تتصادم هذه الأشياء مع قانون ونظام العالم. فهي إذًا لا تمتلك سوى ما منحه إياها خالقها المسيطر وسيد هذا الكون بكل ما فيه. إن درجة تناغم هذه المكونات مع بعضها البعض في العمل يشير إلى كونهم جميعًا واقعين تحت سلطة ذات واحدة، تتصف بالعلم الكامل والقدرة التامة لتيسير هذه الأشياء وتوجيهها. ولو لم تكن هذه هي الحقيقة، لما كنا نتوقع من حيث المنطق سوى الفوضى، خاصة مع هذا الكم الهائل من الذرات والجزيئات التي تشكل هذا الوجود.
ثانيًا: هناك دلائل بينة على أن خالق هذا الكون وسيده واحد أحد، وأنه لا يمكن أن يكون هناك أكثر من خالق لهذا الكون المتناسق. وهذا ينبني على النقطة الأولى. فلو كان لهذا الكون أكثر من خالق، كل له إرادته وقدرته، فما كان يتوقع أن يكون لهذا الكون هذا التوحد والتوازن والاتساق الذي نراه الآن، وهذا ما يعرف بـ "دليل التمانع"، وقد ناقش الفلاسفة هذه القضية بالتفصيل في الماضي، فعلى سبيل المثال يقول شارح العقيدة الطحاوية:
أنه لو كان للعالم صانعان فعند اختلافهما مثل أن يريد أحدهما تحريك جسم وآخر تسكينه، أو يريد أحدهما إحياءه والآخر إماتته -: فإما أن يحصل مرادهما، أو مراد أحدهما، أو لا يحصل مراد واحد منهما. والأول ممتنع، لأنه يستلزم الجمع بين الضدين، والثالث ممتنع، لأنه يلزم خلو الجسم عن الحركة والسكون، وهو ممتنع، ويستلزم أيضاً عجز كل منهما، والعاجز لا يكون إلهًا، وإذا حصل مراد أحدهما دون الآخر، كان هذا هو الإله القادر، والآخر عاجزاً لا يصلح للإلهية.
وبالتالي فإن المبدأ القائل بأن للعالم خالقًا واحدًا متفردًا، له القدرة المطلقة على هذا الكون هو شيء يتفق والفطرة البشرية، ويمكن التوصل إليه منطقيًا بسهولة. بل إنه يمكن القول بأن العلماء المسلمين مقتنعون أشد الاقتناع بهذه الحقيقة الجلية، وكما يقول الشيخ ابن عثيمين "ولم يعلم أن أحدًا من الخلق أنكر ربوبية الله سبحانه وتعالى إلا أن يكون مكابرًا غير معتقد لما يقول." وإنما كان ذلك كذلك، لأن الإيمان متأصل في طبيعة البشر، والبشر يعترفون ويدركون أن هذا الخلق لابد له من خالق، كما أنهم يدركون أن هذا الخالق لابد أن يكون واحدًا.
ومع أن الفقرات السابقة كان بها شيء من الاستطراد لموضوعات أخرى لها أهميتها اليوم، لكننا يمكن أن نلخص المعتقد الإسلامي في الله وأنه هو الخالق الأحد الرازق لكل خلقه باقتباس الآيات القرآنية التي توضح هذا وتعبر عن هذه الحقائق الجوهرية:
﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)﴾ (البقرة: 20).
﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١)ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢)لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)﴾ (الأنعام: ١٠١ - ١٠٣).
﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣)﴾ (آل عمران: ٨٣).
﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (١٥)﴾ (الرعد: ١٥).
وبمجرد التوصل لحقيقة أن الله هو الخالق الرازق لهذا الكون، تكون هناك لوازم لذلك، وربما أهم سؤال يمكن أن يسأله المرء لنفسه هو كيف يجب أن تكون علاقة الفرد بهذا الخالق؟ وهذا يقودنا مباشرة إلى الحديث عن الموضوع الثاني ألا وهو أن الله هو المستحق – دون غيره – للعبادة.
الإيمان بوجوب إفراد الله تعالى بالعبادة
من الأهمية بمكان أن ندرك أن الاعتراف بالحقائق القائلة بوجود إله واحد خالق رازق ليس هو كل ما تحمله العقيدة الإسلامية بخصوص الإيمان بالله. في الواقع، إن الاعتراف بهذه الحقيقة هو شيء لا شك في وجوبه، ولابد أن يكون واضحًا للجميع، حيث إنه كما ذكرنا من قبل هو أمر فطري داخل نفس كل فرد. لكن الأهم من ذلك بكثير، والأمر الدقيق هو ما الذي يفعله الفرد بعد ذلك بخصوص الإيمان بالله الخالق الرازق الأحد. إنه بمجرد فهم الفرد وقبوله لصفات الله كما ناقشناها آنفًا، تتضح معالم العلاقة بين الفرد وربه، وبعبارة أخرى، تمثل العلاقة نتيجة تنبني على هذه المقدمات.
ولعل ذكرنا لبعض الأمثلة يوضح هذا الأمر. فكما ذكرنا سابقًا، فإن الله تعالى هو الذات الوحيدة التي تتصف بالكمال والعظمة المطلقة، ومنه النعمة والعون، وهو المسيطر على كل خلقه، وهو المتصرف في الكون، فلم يدع الكون يجري كيفما اتفق، بدون أفعاله الباقية.
والأكثر من ذلك، أن عظمته وقدرته تفوقان حدود إدراك البشر وتصوراتهم. وعلى العموم، ما هو موقف الشخص من ذات لها الكمال والعظمة؟ لابد أنه موقف يتسم بالخشية والرهبة والإجلال. بل أكثر من ذلك، هل يمكن لأحد أن يعامل أحدا كما يعامل الخالق أو حتى معاملة يمكن مقارنتها بمعاملته بالخالق؟ وفي هذا يقول الله تعالى:
﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١)﴾ (الأعراف: ١٩١).
ويقول كذلك: ﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧)﴾ (النحل: ١٧).
إضافة إلى هذا، فإن الله تعالى هو أصل كل نعمة ومنة على خلقه، فهو واهب الحياة، وكل ما فيها مما سخره لخلقه، ولذا يقول تعالى: ﴿وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤)﴾ (إبراهيم: ٣٤)
فهل كان بمقدور البشر إيجاد هذه النعم لأنفسهم من دون عون الله؟ ويضرب الله مثالًا آخر إذ يقول:
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦)﴾ (الأنعام: ٤٦)
فالمطر وهو من أعظم نعم الله، لا يمكن لأحد أن يوجده إلا إذا خلق الله السحب بخصائص معينة حتى ينزل المطر. ويُذكِّر الله البشر في مجموعة آيات باهرة بهذه النعمة العظيمة مع غيرها من النعم فيقول:
﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩)أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠)أَمَّنْ جَعَلَ الأرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١)أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ (٦٢)أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣)أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٦٤)﴾ (النمل: ٥٩ – ٦٤).
فهل من المقبول منطقيًا بعد كل هذا أن يتخذ المرء موقفًا مع خالقه عز وجل يتسم بالإنكار أو عدم الوقار؟ بل هل بعد كل هذا يمكن أن يكون تعامل المرء مع خالقه والرب الأحد سوى تعاملًا يفيض بالتواضع والخضوع، والاستسلام والشكر والامتنان، والحب والإخلاص؟
هذان المثالان لقدرة الله المتفردة ولتوحده في إنعام النعم لابد أن يكونا كافيين لإظهار أن الله وحده له حق المحبة الخالصة، والإجلال والعبادة. وهذا المعنى هو الذي ذكَّر الله به مرات عديدة وبأساليب مختلفة في القرآن الكريم هؤلاء الذين يقرون بوجود خالق واحد، لكنهم مع ذلك ينكرون هذا الخالق، ويعبدون من دونه آلهة باطلة. ولذا يقول الله تعالى – على سبيل المثال-: ﴿قُلْ لِمَنِ الأرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥)﴾ (المؤمنون: ٨٤-٨٥). ويقول الله: ﴿قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩)﴾ (المؤمنون: 88- ٨٩).
إن الله تعالى وحده هو الذي يملك الهداية، وما دونه من آلهة باطلة لا تملكها، ولذا يقول الله تعالى:
﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥)وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (٣٦)﴾ (يونس: ٣٥ – ٣٦).
وبناء على ما سبق ذكره، وعلى غيره من الأدلة والبراهين المنثورة في ثنايا كتاب الله، لابد أن نصل إلى نتيجة مفادها أنه لا مستحق للعبادة سوى الله، وبالتالي، فإذا كان لا إله إلا الله، فلابد أن يوطن المرء نفسه على عبادة الله وحده لا شريك له، فتلك هي في حقيقة الأمر لب رسالة الإسلام، وجوهر ما دعت إليه الرسالات، وهذا هو الجزء الأول من شهادة التوحيد في الإسلام "أشهد أن لا إله إلا الله".
وهنا يبدو من المهم أن نشرح معنى كلمة "عبادة" من المنظور الإسلامي. اللفظ المستخدم للعبادة في اللغة الإنجليزية هو Worship، وإن كان اللفظ العربي له كثير من المدلولات تختلف عن مدلولات اللفظ الإنجليزي.
يعرف قاموس أكسفورد كلمة Worship بأنها: تبجيل وتوقير أو التقرب بإجلال؛ وهي التعبد بأفعال وشعائر وطقوس مناسبة." فالجذر اللغوي للفظ الإنجليزي يعني "التبجيل" وبالتالي يمكن تعريف اللفظ في اللغة الإنجليزية بأنه "إقامة أفعال تعبدية، تبجيلًا للإله." لكن يذكر بلال فيليبس:
غير أن لغة الوحي الأخير – اللغة العربية – تستخدم لفظ العبادة، وهو مشتق من كلمة عبد. والعبد هو شخص ينتظر منه أداء كل ما يريده سيده، وبالتالي فإن العبادة في لغة الوحي الأخير تعني: الانقياد لإرادة الله. تلك هي جوهر كل الرسالات التي جاءت بها الأنبياء من عند الله للبشر. وعلى سبيل المثال، نلحظ هذا التعبير المؤكد لهذا المعنى للعبادة في كلام نبي الله عيسى (عليه السلام) في إنجيل متى حيث يذكر: "ليس كل من يقول لي: يا رب، يا رب يدخل ملكوت السماوات. بل الذي يعمل حسب إرادة أبي الذي في السماوات." (متى، 7: 21).
وعليه فإن هذا المعنى للتوحيد، أعني الإيمان بأحقية الله وحده للعبادة، يتجاوز مفهوم العبادة كما يفهمه الكثيرون في الغرب، على الخصوص. وقد عبر الشيخ السعدي عن هذا الجانب من جوانب التوحيد فقال:
هو اعتقاد العبد وإيمانه بتفرد الرب بصفات الكمال، وإفراده بأنواع العبادة، والإيمان بربوبيته واعتقاد انفراد الرب بالخلق. فإذا آمن العبد بهذا إيمانًا راسخًا، فلابد أن يصرف كل أفعال عبادته الظاهرة والباطنة لله وحده، فيقوم بأفعال الإسلام الظاهرة كالصلاة والصوم، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والقيام بحقوق الله وحقوق خلقه،... ولا يكون له هدف في الحياة سوى مرضاة الرب، وتحصيل ثوابه. ويكون شأنه اتباع هدي رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ويعتقد ما جاء في الكتاب والسنة، وتكون أفعاله وفق ما أمر الله به ورسوله، ويكون سلوكه موافقًا لسلوك النبي (صلى الله عليه وسلم) وهديه في كل شؤونه."
هذا المظهر من مظاهر العقيدة الإسلامية يجمع بين إيمان القلب وأعمال البدن؛ فأما إيمان القلب فيشمل الثقة بالله والتوكل عليه وحده سبحانه، وخشيته حق الخشية، والرضا به ربًا وخالقًا سبحانه وتعالى إلى غير ذلك.
وهناك مظهران لابد من تمثلهما - على وجه الخصوص - في عبادة الله، يقول الشيخ السعدي:
العبادة روحُها وحقيقتُها تحقيقُ الحبِّ والخضوع لله؛ فالحب التام والخضوع الكامل لله هو حقيقة العبادة، فمتى خلت العبادة من هذين الأمرين أو من أحدهما فليست عبادة؛ فإن حقيقتها الذل والانكسار لله، ولا يكون ذلك إلا مع محبته المحبة التامة التي تتبعها المحاب كلها.
يتضح مما سبق أن الإيمان بالله وأنه وحده المستحق للعبادة دون غيره يلزم معه تبعات لابد أن يلتزم بها المؤمن، وأخصها أن هناك عددا من جوانب الحياة لابد أن تصرف له سبحانه على الانفراد، وبدون هذا يفشل الفرد في إدراك حقيقة قول "لا إله إلا الله"، ولعل شرحًا مختصرًا لهذه الجوانب يزيد الأمر وضوحًا.
أولاً: لابد من صرف كل أنواع العبادة لله تعالى وحده، لا شريك له. فلا يقوم العبد بالصلاة والصوم والحج والزكاة وغيرها إلا بنية إرضاء الله تعالى، وأن هذه الأفعال خالصة له سبحانه. وعليه فإذا توجه أحد بدعائه لأحد من دون الله، فإن هذا ناقض لمبدأ لا إله إلا الله، والنبي (صلى الله عليه وسلم) يقول "الدعاء مخ العبادة."
ثانيًا: أن الحكم المطلق في هذه الحياة إنما هو لله، وبعبارة أخرى، أن المرء لابد أن يستسلم لأوامر الله ووحيه، فهو الخالق، وهو الحقيق بوضع الشرائع والأحكام التي تضمن هداية خلقه، قال تعالى:
﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٤٠)﴾ (يوسف: ٤٠). إن تجاهل أحكام الله تعالى عن عمد، أو التكبر عن الالتزام بها يعني أن المرء لم يستسلم حقًا لله، وبالتالي فهو لا يفرده سبحانه بالعبادة والخضوع. ويوضح الحق تعالى أن بعض الأمم السابقة كان جرمهم في هذا الموطن، يقول الله تعالى:
﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١)﴾ (التوبة: ٣١).
ثالثًا: أن حب الشخص وبغضه وولاءه وبراءه لابد أن يكون كما أمر الله، وهذا إنما ينبع من القلب، لكنه القلب الذي امتلأ بالإيمان بالله، ومحبته والسعي لمرضاته. وإن كان هذا الأمر يبدو بسيطًا، لكنه له معان عميقة. إن كمال الإيمان يستلزم أن يكون الله تعالى هو أقرب محبوب لقلب العبد، وأن يكون هو مراد النفس، وعندما يتشرب قلب العبد هذا المعنى، تكون النتيجة أن يحب العبد ما يحبه محبوبه، وأن يبغض ما يبغضه. ومع أن هذا معروف في علاقة البشر مع بعضهم البعض، إلا أن الأمر يصبح أكثر قوة، وشمولية في علاقة العبد بربه. فإذا كان الله يحب شيئًا فإن العابد والعبد المخلص لابد أن يحب ذلك الشيء، وكذلك، إذا كان الله يبغض شيئًا – مع أنه هو خالق هذا الشيء لكنه سبحانه قد يكون خلقه اختبارًا وابتلاءً للبشر - فلابد للعابد والعبد المخلص أن يبغض ذالك الشيء. ولا شك أن أساس كل هذا هو الوحي الذي أنزله سبحانه، فإذا كان الله يقرر أنه يحب الطهارة والإخلاص والخير والصدقة على سبيل المثال، تصبح هذه الأمور محبوبة للمسلم كذلك. وإذا كان الله يقرر أن يظهر بغضه لعبادة الأوثان، والزنا، وإتيان الرجل الرجل، وشرب الخمر وغير ذلك، فلابد أن يكره المؤمن هذه الأشياء. وكل هذا جزء من إيمان المؤمن وتوقيره لله ربًا ومعبودًا.
ومع أن الإيمان بالله معبودًا واحدًا هو جزء مهم من التوحيد الخالص، إلا أن هذا المفهوم كثيرًا ما يساء فهمه أو لا يطبق كما ينبغي، وهذه خسارة كبيرة للبشر، إذ أن هذا الجانب من جوانب التوحيد هو المفتاح للحياة الحقيقية، الحياة السليمة الصحيحة. يقول ابن تيمية:
واعلم أن فقر العبد إلى الله أن يعبد الله لا يشرك به شيئا، ليس له نظير فيقاس به؛ لكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الطعام والشراب، وبينهما فروق كثيرة. فإن حقيقة العبد قلبه، وروحه، وهى لا صلاح لها إلا بإلهها الله الذي لا إله إلا هو، فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره، وهى كادحة إليه كَدْحًا فملاقيته، ولابد لها من لقائه، ولا صلاح لها إلا بلقائه.
ولو حصل للعبد لذة أو سرور بغير الله فلا يدوم ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص، ويتنعم بهذا في وقت وفى بعض الأحوال، وتارة أخرى يكون ذلك الذى يتنعم به ويتلذذ غير منعم له ولا ملتذ له، بل قد يؤذيه اتصاله به ووجوده عنده، ويضره ذلك. وأما إلهه فلابد له منه في كل حال وكل وقت، وأينما كان فهو معه.
ومن عبد غير الله وإن أحبه وحصل له به مودة فى الحياة الدنيا ونوع من اللذة فهو مفسدة لصاحبه أعظم من مفسدة التلذاذ أكل الطعام المسموم.
نكرر أنه لا يمكن أن نعطي هذا المبدأ حقه، وهو أن مجرد الإيمان الحق بالله خالق هذا الكون ورازقه ليس هو كل ما يستلزمه الإيمان السليم بالله تعالى. وقد حدث على مر التاريخ أن توقف أناس عند هذا الحد من الإيمان معتقدين أن هذا القدر هو الإيمان كله، ولا شيء وراء هذا القدر. إن هذا الإيمان ضروري بالتأكيد، لكنه غير كاف، إذ لابد أن يتبع هذا الإيمان علائق مناسبة ومشاعر قلبية وأفعال تتعلق جميعها بالله تعالى. ومن خلال هذه الأفعال يكون الفرد قد آمن حقًا بالله ربًا وخالقًا، فيكون سبحانه وحده هو محبوبه وبغيته، وله تكون كل طاعته. وفي سبيل ذلك، لابد أن يؤمن المرء أن أحدًا لا يستحق العبادة سوى الله تعالى بأي حال، ثم بعد هذا الاعتقاد فقط يلزمه أداء ما يعني إيمانه بالله.
وخلاصة القول، بناء على ما سبق توضيحه من حقائق نقول: (1) لابد أن تكون رغبة الإنسان متجهة نحو عبادة ربه لأن له الكمال والعظمة، وهو الخالق الرازق الأحد. (2) لا أحد يشارك الله تعالى في صفاته كما أسلفنا، ومن ثم فهو وحده المستحق للعبادة. (3) يحرم على البشر عبادة أي أحد سوى الله، مهما كان شكل أو طبيعة هذه العبادة.
تبقى نقطة واحدة وأخيرة لابد من ذكرها في نهاية حديثنا وهي: حيث إن براهين إثبات وجوب الإيمان بالله الحق في غاية القوة (سواء من حيث الفطرة البشرية، أو الظواهر المادية، أو الرسالات التي جاء بها النبيون عبر القرون) فإنه من غير المقبول منطقيًا وشرعًا أن يعبد الإنسان أحدًا سوى الله، ومن ثم فإن إشراك أحد مع الله في العبادة ، أو الإعراض عن عبادة الله هو ذنب كبير تبلغ خطورته أن من مات على تلك الحال فلن يغفر الله له، إذ يقول الله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (٤٨)﴾ (النساء: ٤٨) (وانظر أيضًا النساء: 116).
الإيمان بأسماء الله تعالى وصفاته
إن إخلاص العبودية لله ومحبته سبحانه محبة تفوق كل ما سواه يستلزم أن يحقق المرء معرفة بالله تتجاوز مجرد معرفة أنه هو الخالق الرازق الأحد. إن المؤمن تتوق نفسه للتعرف أكثر وأكثر على الله ربه. ولا شك أن الله تعالى فوق ما يتصوره البشر، ولذا لا يستطيعون معرفة أي شيء عن ذاته سبحانه إلا ما يخبرهم هو سبحانه به في وحيه. وبرحمة منه سبحانه وفضله أوحى الله إلى خلقه الكثير عنه، بحيث أن الباحث عن الحقيقة يستطيع من خلال ذلك التعرف على الله وعبادة ربه بناء على معرفة ثابتة.
ويقرر النبي (صلى الله عليه وسلم) فيقول: "إن لله تسعة وتسعين اسمًا، مائة إلا واحدًا". وبالتالي يجد الواحد أسماء الله تعالى وصفاته منثورة في ثنايا كتابه العزيز، فالله تعالى يقول – على سبيل المثال –:
﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤)﴾ (الحشر:
٢٣ – ٢٤).
ويقول سبحانه ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥)﴾ (البقرة: ٢٥٥).
فمن خلال آيات القرآن وأحاديث النبي (صلى الله عليه وسلم) يدرك المرء أن الله تعالى هو الرحمن الرحيم، الغفور، التواب، العفو، الودود، الكريم، العظيم، الكبير، المستحق لأنواع المحامد كلها، رب العالمين، ومالك يوم الدين، وهو السميع البصير، العليم الحكيم، القوي، القادر، المتعال، وهو الغني، المنزه عن الاحتياج، الرازق، القدوس، العلي، الحافظ الرقيب، المهيمن على كل خلقه، وهو الذي له حق الأمر والنهي، وهو سبحانه يرضى ويغضب، ويثيب ويعاقب، ويعطي ويمنع، ويعز ويذل، ويفعل ما يشاء، متصف سبحانه بكل صفات الكمال، ومنزه عن كل نقيصة، فهو سبحانه في كماله فوق ما يشركون، وما من ذرة تتحرك إلا بإذنه ومشيئته.
هذه المعرفة التي اطلعنا الله بها عن ذاته هي منة منه وفضل على البشر، إذ أنه بعد هذا لا حاجة لهم للتفكر في ذات الله للتعرف عليه، إذ أنه هو سبحانه وكما أسلفنا فوق ما تدركه عقول البشر. وبدلًا من وضع نظريات خيالية عن ذات الله، أوحى الله نفسه إلينا بهذا ليتعرف البشر على ربهم فلا يضلون أو يتخبطون. بل الأكثر من هذا أن الله تعالى قدم لنا هذه المعرفة بصورة يسهل فهمها على كل أحد، حتى ولو اعتقد أحد أن كل هذا إنما هو غيض من فيض عن عظمة الرب الخالق.
وهنا لابد أن نوضح أن هناك مفهومًا واضحًا في القرآن وهو: أن العقيدة تنفي نفيًا تامًا كل صور التشبيه. فتلك نقطة ضلت فيها أقدام أقوام في القديم. فالمقولة الهزلية المشهورة في الغرب "خلق الله الإنسان على صورته وكان الإنسان سريعًا في رد الجميل" ليس لها أي وجود في عقيدة المسلمين. فالخالق والمخلوق منفصلان تمامًا، وصفات الله تعالى صفات كمال، تناسب عظمته وقدسيته. وحتى لو كان هناك "مفهوم مشترك" بين صفة من صفات الله وصفة من صفات المخلوقين، فإنه في الحقيقة لا يوجد ثمة تشابه في طبيعة الصفتين. ولذا يقول الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١)﴾ (الشورى: ١١). فهذا نفي مطلق للتشبيه، مع التأكيد في الوقت ذاته على أنه سبحانه سميع بصير. فالمسلم يدرك دومًا كمال الله تعالى، ولا ينتقص من قدر الله بوصفه وصفًا لا يليق بذاته سبحانه. والله تعالى لا يتصف بصفات المخلوقين، كما أن المخلوق لا يتصف بصفات الخالق، وأية مخالفة لهذا المبدأ الأخير هو كفر بين، وإشراك بالله.
قبل مبعث النبي (صلى الله عليه وسلم) كان الناس يؤمنون بأن الله هو الخالق وحده لهذا الكون، لكنهم مع ذلك اتخذوا معه شركاء في عبادتهم. لذلك جاء الإسلام ليصفي هذه العقيدة ويقرر حقيقة أن يكون الله هو الرب، وليفهم الناس ذلك فهمًا سليمًا. لذلك فإن نقطة البداية هي العلم بأسماء الله وصفاته وفهمها فهمًا صحيحًا. فإذا كان المرء لديه علم صحيح وفهم قويم لأسماء الله وصفاته، فلا يمكنه أن يصرف أي شكل من أشكال العبادة لأحد سوى الله.
الأكثر من هذا أن العلم بهذه الأسماء والصفات، وفهمها فهمًا صحيحًا لابد أن يكون له أثر بارز في تنقية النفس وتزكيتها. لأن العلم في الواقع بكل اسم من أسماء الله تعالى الحسنى لابد وأن يزيد من محبة المرء لله، ويزيد من خشيته سبحانه، ويصحب هذا سعي المرء إلى التقرب من ربه لأن له من الصفات أعظمها وأكملها وأفضلها.
هذا فضلًا عن أن العلم المفصل عن الله سيكون له أثر على الفرد أكثر من مجرد العلم العام أو المعرفة الباهتة، وهذا الذي شدد عليه الكثير من علماء المسلمين. فيقول ابن تيمية على سبيل المثال "وكذلك من عرف أسماء اللّه ومعانيها فآمن بها، كان إيمانه أكمل ممن لم يعرف تلك الأسماء، بل آمن بها إيماناً مجملاً" ، ويقول الشيخ السعدي "كلما ازداد العبد معرفة بأسماء الله الحسنى وصفاته ازداد إيمانه وقوي يقينه."
إن هناك علاقة قوية بين الإيمان بأسماء الله وصفاته وبين المفهومين السابقين (الإيمان بأن الله هو الخالق الرازق، وأنه سبحانه هو وحده المستحق لأنواع العبادة). بل لا يبعد المرء أن نقول أن الزيغ عن سبيل الوحدانية الخالصة إنما كان بسبب عدم فهم أسماء الله وصفاته وعدم فهم تفرده سبحانه بها.
إن تاريخ البشرية ينبئنا أن البشر قد فُطروا على رغبتهم في العبادة، فهم يريدون أن يكون لهم رب يعبدوه ويتقربوا إليه. كما أنهم يعلمون أنه لابد أن يكون هناك شيء خاص وعظيم في هذا الإله الذي يعبدونه، لكن الكثيرين منهم صرفوا آمالهم واعتمادهم وطموحاتهم إلى أشياء لا تستحق هذا كله، سواء كانت هذه الأشياء من قوى الطبيعة أو من الجمادات أو غيرهم من البشر أو المادة أو القومية أو الجنس أو غير ذلك، فقد وطنوا أنفسهم على الإيمان بأن هذه المعبودات الباطلة يمكن أن تحقق لهم ما تصبو إليه نفوسهم أو ما تبغيه أحلامهم. وبعبارة أخرى، يمكن أن القول بأن هؤلاء إنما خلعوا صفات الله تعالى على هذه المعبودات التي عبدوها، وبدلًا من التوجه إلى الله والتعرف عليه بصفاته ثم تحقيق اليقين بأنه هو الذات التي يبحثون عنها، توجهوا إلى معبودات أخرى صرفوا إليها محبتهم وعبادتهم. وبسبب هذا ضل هؤلاء عن الصراط المستقيم ضلالًا بعيدًا.
والله تعالى يخبرنا في مواطن عديدة عن هذه الضلالات، وهي عند التحقيق تبين أن مصدر هذه الضلالات هو الإيمان الخاطئ بصفات من عبدوهم، وجهلهم بصفات الله تعالى. فالله تعالى يقول على سبيل المثال ﴿قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦)﴾ (المائدة: ٧٦). ويقول سبحانه ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (٥)وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (٦)﴾ (الأحقاف: ٥ – ٦). ويقول تعالى ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ شَيْئًا وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣)﴾ (النحل: ٧٣). ويقول: ﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧)﴾ (النحل: ١٧)، وكذلك: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣)مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤)﴾ (الحج: ٧٣ – ٧٤).
إن الله تعالى هو من يسمع ويجيب، ويعطي و يمنع، وهو الحكم العدل، وهو الخالق الرازق الباعث،...الخ. وخلاصة القول، أن أيا من هذه المعبودات الباطلة لا تستحق العبادة، فالبشر بعبادتهم هذه المعبودات لا يفعلون شيئًا سوى إذلال أنفسهم، والأسوأ من هذا كله أنهم ينكرون حق الله، ويعدلون به آلهة أخرى، مستجلبين غضبه وعذابه الأليم.
ملخص
إن الإيمان الحق بالله هو جوهر وحجر أساس العقيدة الإسلامية، فهو المفتاح - مفتاح الحياة السعيدة، ومفتاح فهم الحقيقة، ومفتاح تحقيق السعادة والأمان. وعندما يعرف المرء ربه معرفة حقيقية، يدرك أن لا معنى لعبادة غيره سبحانه، فهو يدرك أن هذا هو ما خُلق له، وهذا هو ما يسعى إليه. وإذا ما ذاق المرء لذة عبادة الله وحده، لا تهفو نفسه لعبادة أحد سواه، إذ يسكن قلبه وتطمئن نفسه.
الكون
خلق الكون وكيف أنه يشير لوجود الله
يتكون هذا الكون أو هذا العالم المتشابك من أجزاء متعددة. فهناك المجرات والمجموعات الشمسية التي تتجاوز حدود الأرض. أما في الأرض، فهناك الجمادات كالجبال والبحار واليابسة، وهناك عالم الحيوانات بما فيه من تنوع هائل، بل إن هناك أنماط من المخلوقات لا زال البشر يكتشفونها اليوم. كل هذا في حقيقته هو جزء لا يتجزأ من خلق الله.
والقرآن الكريم يوضح لنا صراحة أن الله هو من خلق السماوات والأرض، فالله تعالى يقول: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣)﴾ (النحل: 3)، وقال تعالى ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥)﴾ (الزمر: 5)
ويجمل الله سبحانه هذا كله فيقول: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢)﴾ (الزمر: 62)
إن قدرة الله على الخلق تفوق كل تصور، وما أمره سبحانه إلا أن يقول للشيء كن فيكون. يقول تعالى ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧)﴾ (البقرة: 117؛وانظر يس: 82، وغافر: 68)، فهو من خلق فسوى، وقدر فهدى، يقول تعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى (١)الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢)وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (٣)﴾ (الأعلى: 1-3).
بل يقرر الله تعالى أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام. يقول تعالى ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤)﴾ (السجدة: 4؛ وانظر أيضًا: الأعراف: 54؛ ويونس: 3؛ وهود: 7؛ الفرقان: 59).
في الفقرة بعنوان " الإيمان بالله الواحد الخالق الرازق" ستجد هناك مناقشة توضح كيف أن خلق هذا الكون يشير إلى الإله الرازق الواحد، ومن ثم فلا حاجة لإعادة هذا الحديث هنا مرة أخرى. لكن هناك نقاط أخرى من الأهمية بمكان يمكن التوصل إليها من خلال التأمل في هذا الخلق.
يشير الله تعالى في العديد من آيات القرآن إلى المظاهر المتعددة لهذا الخلق، ويصفها بأنها آيات لأولي الألباب. فالله تعالى يقول على سبيل المثال ﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣)﴾ (الرعد: 3). ويقول تعالى ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠)يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١)وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣)﴾ (النحل: 10-13) وأخيرًا نضرب مثالًا بقوله تعالى ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤)﴾ (البقرة: 164)
في وسط ما يحيا فيه المرء حاليًا في هذا العالم من صخب وكد يستطيع بالكاد أن يجد وقتًا للتأمل في هذا الخلق، وفي وجوده في هذا الكون، وفي الهدف من هذا الوجود. لكن مع هذا يبقى من الضروري أن يجد المرء لنفسه وقتًا للتأمل والتدبر. فإذا ما فعل الإنسان هذا فسوف يقوده هذا إلى الدلائل والعبر التي تعيده إلى الصراط المستقيم: صراط الله عز وجل، وهي الخطوة الأهم في حياته. ولا شك أن هذه الدلائل وتلك الآيات تحيط بالبشر جميعًا، إذا هم تأملوها وتدبروها. ولذا يقول الله تعالى ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣)﴾ (فُصِّلَت: 53).
إن التأمل في النظام والترتيب المعقد لهذا الخلق يجعل المرء يدرك أنه لابد من وجود هدف وراء هذا الخلق. إذا لا يتصور أن ذاتًا تخلق خلقًا هذه دقته وهذا كمال انتظامه ثم لا يكون وراء هذا الخلق بأكمله هدف أو غاية. فالله تعالى يقول على سبيل المثال ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ (١٦)﴾ (الأنبياء: 16)، ويقول تعالى ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ (١٩٠)الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (١٩١)﴾ (آل عمران: 190-191) ويقول تعالى ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (٨)﴾ (الروم: 8)، ويقول تعالى ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ (١١٥)﴾ (المؤمنون: 115).
تقوم الحجة القرآنية على أنه ليس من المقبول عقلًا أن يصل المرء إلى نتيجة مخالفة. فإن المرء إذا كان يؤمن بالرب الخالق، فإنه لا يليق بهذا الخالق العظيم الكريم أن يوجد هذا الجمال وهذا التناغم من دون أن يكون هناك غرض من هذا الخلق. إن من يؤمن بالخالق، وفي الوقت ذاته يؤمن بأن هذا الخالق ليس له هدف من هذا الخلق، فهو في الحقيقة يصف الخالق بعدم الحكمة والعبث. إن خالقًا هذا وصفه يصعب جدًا أن يكون هو من أوجد هذا الخلق الهائل الذي يراه كل أحد اليوم. لكن هذا الخلق كما نراه يدل دلالة واضحة على وجود هدف عظيم ومهم وراء هذا الخلق كله. إن طبيعة الوجود بأسره تشير إلى أن الخالق ذات متفردة، ولا يمكن أن يخلق شيئًا بهذه الصورة لهوًا أو لعبًا. فهذا الخالق لا يمكن أن يكون سوى الله بصفاته العليا، أي أن هذا الكون مفتقر في وجوده إلى الله، ولا يمكن له أن يسير كما ينبغي إلا بإرادة الله وتحكمه، ولذا نجد الله تعالى يخبرنا في كتابه ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢)﴾ (الأنبياء: 22).
النتيجة المهمة الثانية التي يمكن للمرء أن يستنبطها ببساطة من التأمل هي أن من أوجد هذا الخلق من عدم قادر على أن يبعثه مرة أخرى. وإذا كانت له القدرة على إعادته بعد الموت، فهذا يعني أنه قادر على أن يحشره بين يديه مرة أخرى. وحيث إن هذه الفكرة كما هو واضح لها تداعيات مثيرة على البشر وسلوكهم في هذه الدنيا، فإن الله تعالى أشار إليها وذكرنا بها في ثنايا كتابه الكريم.
يقول الله تعالى على سبيل المثال ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلا لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلا كُفُورًا (٩٩)﴾ (الإسراء: 99)، ونقرأ كذلك في آيات أخرى ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨)قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩)الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠)أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ (٨١)إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢)فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣)﴾ (يس: 78-83).
ويقول الله تعالى في موضع آخر ﴿فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠)﴾ (الروم: 50). ويقول كذلك ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (٢٩)﴾ (الشورى: 29). ونقرأ في آية أخرى ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧)﴾ (الروم: 27). ويقول الله تعالى ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣)﴾ (الأحقاف: 33)
إذًا فهذا الخلق مع حقيقة أن لابد أن يكون له غاية من ورائه وهو آية بينة على صدق البعث. إن مفهوم البعث لا يعارض الفطرة، بل على العكس فهو متفق تمامًا معها. والله سبحانه وتعالى يبين لنا هذا من خلال هذا النص القرآني الحي، حيث لا يتوقف النص على إثبات كبر وغطرسة من يكابر في الاعتراف بهذه الحقيقة فحسب، بل يوضح كذلك سوء عاقبة أفعالهم. يقول تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥)ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦)وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧)وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ (٨)ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (٩)ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ (١٠)﴾ (الحج: 5-10)
إن من ينكر البعث يظن أن الله سيجعل المتقين كالفجار، وهذا أمر لا يتصور منه سبحانه، فلقد أوضح سبحانه أن هذا ليس هو الحال، مبينًا أن مثل هذا الظن إنما يأتي ممن لا يؤمنون بالله. يقول تعالى ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧)أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨)﴾ (ص: 27-28).
بعد هذه الدلائل الكثيرة في الخلق، والعبر والدروس المأخوذة من الوحي لابد للمرء أن يتساءل: ما عذر من لم يقبل قبولا مناسبا للدلائل التي أحاطت به؟ أليس من المتوقع أنه لن يجد عذرا شرعيا؟ ومن ثم أليس من الحق أن يعامله الله في النهاية معاملة قاسية يستحقها كل معاند متكبر أعرض عن كثير من الدلائل الواضحة؟
الحكمة من خلق الكون
بناءً على ما سبقت مناقشته آنفًا، يمكن للمرء أن يستنبط بعض الحكم وراء إيجاد هذا الخلق والكون كله. وهذه الحكم يمكن رسمها كما يلي:
(1) يشير وجود هذا الخلق بالإضافة إلى طبيعة هذا الخلق على وجود الخالق، كما أسلفنا ذكره في الفصل السابق.
(2) تدل ضخامة هذا الكون بالإضافة إلى كمال تناسقه وتفصيلاته إلى وجود هدف من هذا الخلق، إذ يبعد أن يخلق الخالق الذي صفته الحكمة خلقًا بهذه الطبيعة من دون أن تكون له حكمة من خلقه.
(3) إن وجود هذا الكون بهذه الصورة ليدل على قدرة الخالق على إعادة الخلق مرة أخرى بعد موته، فمن أوجد من العدم قادر على إعادة الخلق مرة أخرى؛ فهذا إنذار ودليل على البعث بعد الموت.
هذه النقاط الثلاث تمت مناقشتها إما في الفصل السابق أو في مطلع هذا الفصل، لكن لا تزال هناك نقاط مهمة تشير إلى الحكمة وراء هذا الخلق وهذا الكون.
إن خلق الكون يجلي أو يظهر الكثير من صفات الله تعالى، وهذا في حد ذاته أمر مثير ورائع ومطلوب. فالله تعالى على سبيل المثال كان وما زال قادرًا على الخلق، لكن لم تظهر لنا هذه الصفة بشكل مادي إلا بعد أن خلق. مع العلم أن الطريقة التي خلق بها خلقه تشير إلى غير ذلك من صفاته الحسنى التي تدل على كمال قدرته وحكمته وعلمه (كما هو واضح من التوازن الذي نلحظه في الكون) وعظمته. فبدون هذا الخلق لم تكن الصفات الحسنى لتتجلى وتبرز مع وجودها.
إن كل ما في الوجود يخضع لإرادة الله تعالى وأمره، مبينًا طبيعته سبحانه وصفاته وهيمنته. إن الخلق يعلم حقيقة خالقه ولا يكابر أو يرفض الخضوع له سبحانه إلا بعض البشر كما سنوضح بعد قليل. يقول الله تعالى ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩)﴾ (النحل: 49).
لكن ثمة هدف آخر عظيم ومهم من إيجاد هذا الخلق وهذا الكون. إن المظاهر المتعددة لهذا الخلق قُصد بها أن تكون مسخرة لمخلوق واحد وهو الإنسان، وتلك نعمة خاصة امتن الله بها على هذا المخلوق، يقول تعالى في كتابه الكريم ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ (٢٠)﴾ (لقمان: 20). ويقول تعالى ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣)﴾ (الجاثية: 13).
تلك منة عظيمة، ومسؤولية جسيمة؛ فهذه الآيات لا تشير على الاطلاق إلى أن الإنسان له الحرية المطلقة في التعامل مع هذه الموارد كيفما شاء، فالنبي (صلى الله عليه وسلم) يقول "إن الدنيا حلوة خَضِرَة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا..." فلابد أن يدرك المرء أن هذه النعمة تستجلب معها مسؤولية كبيرة، وبمعنى آخر، هناك ثمة طريق آخر أو هدف آخر لهذا الخلق لابد من إعماله، وبالتالي يكون السؤال هو: ما الهدف أو الغاية التي من أجلها سخر الله كل هذه الموارد للإنسان؟ وقبل أن نجيب على هذا التساؤل يتحتم علينا أن نناقش العلاقة بين البشر وباقي المخلوقات.
البشر والخلق
ذكرنا في حديثنا السابق أن هناك بعض المميزات والخصائص التي يتمتع بها هذا الكائن -الإنسان، ومع هذا فإن الصورة المادية الأصلية التي خلق عليها هذا الإنسان الأول لم تختلف كثيرًا عن غيره من الكائنات الموجودة في عالمنا اليوم. فقد خلق الإنسان الأول - آدم من الطين والماء، وهما من العناصر الرئيسية المكونة لهذا الكون الذي نعيش فيه. وقد ذُكرت هذه الحقيقة في عدة مواضع في القرآن الكريم: قال تعالى ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنْ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54)﴾ (الفرقان، 54) وقال تعالى ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26)﴾ (الحجر، 26)
ولم يحصل الإنسان الأول آدم على المميزات والخصائص التي حباه الله بها إلا في مرحلة تالية، وهي المرحلة التي أصبح فيها هذا الكائن مخلوقًا مستقلًا يتمتع بصفات فريدة تجمع بين الجانب المادي والجانب الروحي الذي أنعم الله به عليه. وهذا في الحقيقة ما يجعله كائنًا متميزًا عن سائر الكائنات التي تعيش في هذا الكون، وقد ذكر الله هذه المرحلة في قوله تعالى ﴿ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (9)﴾ (السجدة، 9).
وقبل أن يخلق الله سبحانه وتعالى هذا الكائن أخبر ملائكته أنه سيخلق كائنًا لغرض معين في هذه الأرض، وستسمو مميزاته وخصائصه على سائر المخلوقات الأخرى التي خلقت من قبله، قال تعالى ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً...﴾ (البقرة، 30). وبعد أن أتم الله سبحانه وتعالى خلق هذا الكائن الجديد ونفخ فيه من روحه وعلمه من لدنه علما أمر الملائكة المطهرين أن يسجدوا له، قال تعالى ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ (الحجر، 29).
ويذكرنا الله سبحانه وتعالى باختلاف آخر بين البشر وبقية الخلق، حيث قال إن بني آدم شهدوا على أنفسهم أنهم اختاروا تحمل الأمانة وتحمل المسؤولية الأخلاقية. وفي الجانب الآخر نجد أن المخلوقات الأخرى عرضت عليهم هذه الأمانة الثقيلة فأبوا أن يتحملوها، ولم يتحملها سوى الإنسان وقد تجسد هذا الموقف في قوله تعالى ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾ (الأحزاب، 33). وهذا يفسر لنا ما نراه في هذا الكون من أن كل المخلوقات تخضع وتنقاد لله سبحانه وتعالى طوعًا أو كرهًا باستثناء الجن والإنس؛ فالإنس والجن يخضعون للقوانين الكونية التي وضعها الله سبحانه وتعالى سواء رغبوا ذلك أو كرهوه، لكنهم يتمتعون بقدر من الحرية في الخضوع للقوانين الأخلاقية وقبولها، قال تعالى ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)﴾ (الحج، 18).
ومع أن الإنسان هو الذي اختار تحمل الأمانة فالله سبحانه وتعالى يساعد الإنسان على استيفاء هذه الأمانة فهو الرحمن الرحيم، كما وعد الله سبحانه وتعالى من يفي بهذه الأمانة بالأجر العظيم فهو الكريم القدير. ومع تقبل الإنسان تحمل هذه المسؤولية فقد وهبه الخالق جل وعلى بعض الصفات الخاصة التي تميزه عن سائر المخلوقات الأخرى الموجودة في هذا العالم. من ضمن هذه الصفات الخاصة التي منحها الله لبني الإنسان ما يلي:
(1) الفطرة السليمة النقية التي تهيئ الإنسان لعبادة الله وحده وتمنحه القدرة على إدراك أن الله هو الإله الواحد المعبود في هذا الكون.
(2) القدرة على استغلال العقل الذي وهبه الله للإنسان في فهم وإدراك الأشياء التي حوله.
(3) حرية الاختيار بين طريق الحق وطريق الضلال، والحرية المحدودة في اتخاذ القرار الذي يريده.
(4) تحمل مسؤولية القرارات التي يتخذها، وذلك لأن الإنسان يتمتع بحرية الاختيار والقدرة على تنفيذ هذه الاختيارات.
(5) هذه هي كل الخصائص بالإضافة إلى ما ذكر آنفًا وهو أن الله قد سخر له كل شي في هذا الكون لخدمته.
وحري بالإنسان بعد أن حباه الله كل هذه الخصائص والمميزات أن يدرك الهدف السامي وراء وجوده في هذه الدنيا. وكما ذكرنا آنفاً فإن أسباب خلق هذا الكون هي ذاتها نفس أسباب خلق الإنسان ومنحه هذه الصفات التي يتميز بها عن سائر المخلوقات، وهذا يجعل الإنسان يدرك أن خالق هذا الكون هو أحكم الحاكمين، ويستحيل عليه سبحانه أن يخلق هذا الكون عبثًا، فقد ذكر سبحانه في كتابه الكريم السبب وراء خلق الإنسان قال تعالى ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ (115)﴾ (المؤمنون، 115).
إن هذا الخالق العظيم الذي خلق الإنسان والكون الذي يعيش فيه هو الذي يرزقه وييسر له كل الاحتياجات حتى الاحتياجات الدقيقة، وهو الذي يغفر له ذنوبه ويرحمه ولم يتركه سبحانه دون هداية ودون أن يبين له الأوامر التي يجب اتباعها والنواهي التي يجب اجتنابها. ومن أبلغ ما قيل في وصف هذه الحالة قوله تعالى ﴿أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)﴾ (القيامة، 36).
ولذلك يجب على الإنسان أن يدرك أن كل ما يقوم به من حركة أو سكنة له تأثير عليه، وهذا يعني أن أفعاله كلها لها قيمة ويتعلق بها توابع. فحياة الإنسان لها هدف مقصود في هذه الدنيا، والله سبحانه وتعالى مطلع على أفعاله صغيرها وكبيرها ويعلم حركات جسده ونوايا قلبه.
جدير بالإنسان أن يدرك هذه الحقيقة ويعلم أن له هدفًا في هذه الدنيا، وبعد إدراك هذه الحقيقة يكون قد تخطى أول مرحلة في سلم الحياة الذي ينتهي به عند خالقه العظيم جل جلاله، ويخضع له بإرادته. وإذا لم يدرك المرء هذه الحقيقة فلا معنى ولا هدف ولا حاجة للإنسان أن يتبع أسلوب حياة معين. نعم، إذا لم يعبأ الإنسان بأي شيء في هذه الحياة، ولم يدرك أن من الأفعال ما هو مستقبح وما هو مستحسن، وتساوى عنده الطرفان ولم يؤمن بوجود ربٍ لهذا الكون أو هدف من هذه الحياة فله أن يفعل ما يشاء. لكن عندما تنفتح عينا الإنسان على حقيقة الخلق، وعلى الهدف من وجوده في هذه الحياة ودوره فيها، فلابد – نظريًا – من أن يكون لذلك تبعات جسام في حياته.
ويذكر كرزون:
إذا زاغ الإنسان عن الهدف الذي خلق من أجله والمسؤولية التي تحملها فإنه ينشغل وينساق وراء الأمور الأخرى, وهذا ما يحوله عن الطبيعة البشرية التي خلقه الله عليها، ويمنعه من التمتع بالمكانة التي حباه الله إياها. وعندها ينساق الإنسان إلى طريقين مختلفين تمامًا: طريق الروح أو طريق الجسد.
ويذكر كروزن في كتابه أن الطريق الوحيد الذي يجمع بين هذين الطريقين هي تعاليم الإسلام. فتعاليم الإسلام وحدها هي القادرة على الموازنة بين الجانب المادي والجانب الروحي. وتجاهل هذا الأمر والابتعاد عن هذه التعاليم هو ما أسفر عما نراه الآن في مجتمعاتنا، حيث أصبح الهدف الرئيس هو إشباع الرغبات وغض الناس الطرف تمامًا عن الأمور الأخلاقية والروحية وهي أهم من ذلك.
وجدير بنا في هذا المقام أن نذكر بعض وجهات النظر حول الإنسان وطبيعته، وهي وجهات تُعارض منهج الإسلام في التعامل مع الطبيعية البشرية تعارضًا صريحًا وواضحًا.
من أولى وجهات النظر هذه أن الإنسان ما هو إلا كائن مادي ليس هناك غاية من وجوده، وأنه ما جاء إلا بمحض الصدفة من غير أن يخلقه خالق. وقد اعتقد كبار علماء مذهب الوجودية مثل سارتر وكامو أن هذه الحياة التي نعيش فيها والأفعال التي نقوم بها لا معنى لها، وقد تبنى هذا المفهوم في الحياة علماء آخرون، فهذا يعقوب مونود الطبيب الحائز على جائزة نوبل والمتوفى عام 1976 يقرر:
قد عرف الإنسان أخيرًا أنه يعيش وحده في هذا الكون الضخم الذي ظهر هو فيه عن طريق الصدفة البحتة، وعلم أنه مثل الرحالة لا قيمة له في العالم الذي يعيش فيه, العالم الذي لا يتسمع لنداءاته أو يتفاعل مع حركاته أو يتأثر بأخطائه.
وقال ستيفين واينبيرج أحد العلماء الحائزين على جائزة نوبل "كلما عرفنا هذا الكون أكثر ظهر إلينا أنه لا معنى له ويزداد في الغرابة أكثر وأكثر".
وما ذكرناه آنفًا يوضح أن وجهة النظر هذه تتناقض تمامًا مع وجهة النظر التي يتبناها الإسلام في هذا الكون. وفي نفس الوقت ينبغي لنا أن نعلم ما مدى تأثير هذه الوجهة التي يتبناها بعض الأشخاص على عقل البشر وتصرفاتهم.
لم يكن المؤلف الفرنسي فيكتور هوجو مسلمًا كما هو معلوم، لكنه لا يجب بالضرورة أن يكون المرء مسلمًا حتى يدرك خطورة النظر إلى الحياة بمثل هذه الصورة المادية البحتة، فلا يكون هناك هدف وراء هذه الحياة ولا توجد حياة آخرة ولن يكون موقف أخير نقف فيه بين يدي الخالق. وبذلك استطاع هوجو أن يصف الآثار الخطيرة المترتبة على الإيمان بمادية الحياة وتأثيرها على البشر، فكتب يقول:
ومن الخطورة بمكان أن تنصب اهتمامات البشر على هذه الدنيا فقط دون النظر إلى الحياة الآخرة. لأنه في الحقيقة إذا اعتقد الإنسان أن هذه الحياة على هذه الأرض فقط هي أسمى أهداف الحياة الدنيا ولا يوجد هدف حقيقي بعد الموت، فسيترتب على هذا الاعتقاد أمور خطيرة حيث سيتفاقم إدراك المشكلات التي تحدث في هذه الدنيا ويتحمل الإنسان أعباء أكثر مما تستحقه. وبالتالي يصبح الاعتقاد باليوم الآخر مستحيلاً ويتحول الدافع الذي يوجه الناس إلى الإتقان إلى دافع يقود الناس إلى النيران. وينطبق هذا أيضًا على الأمور الأسرية... ما الذي يهون علينا أعباء الحياة وما الذي يجعل المرء قويًا أو متسامحًا أو مترويًا أو صبورًا أو جريئًا أو شجاعًا وفي نفس الوقت هو إنسان متواضع عظيم يستحق أن ينعم بشعور الحرية؛ إنها الحياة الكاملة الخالدة التي تومض في ظلمة الحياة الدنيا...والواجب على كل واحد منا أن يجعل أعماله كلها خالصة وتتعلق روحة بالآخرة وعندها يسود العدل في كل مكان ويحاسب كل إنسان على عمله.
لقد كان لكاتب هذه الأسطر تجربة شخصية بالعمل في سجون الولايات المتحدة، حيث سأل العديد من السجناء عن سبب ارتكاب جرائمهم، وكانت الإجابة المعتادة "ولما لا نرتكبها؟". إن السؤال الوحيد الذي يشغلهم هو هل تستطيع أن ترتكب الجريمة دون إن يتم الإمساك بك. لم يكن لديهم أي شعور تجاه الخالق أو أي هدف من هذه الحياة. وفي الحقيقة لا يجدر بالمرء أن يجادلهم في طريقة تفكيرهم إذا كانوا من السذاجة بحيث يؤمنوا أن هذه الحياة لا قيمة لها ولا هدف وراءها.
باختصار يمكن القول أن الاعتقاد بأن وجود البشر في هذه الدنيا بلا هدف وأنهم جاءوا إلى هذه الدنيا بمحض الصدفة بات قولاً غير منطقي وظهرت آثاره الخطيرة لاسيما الآثار بعيدة المدى (ما بعد الموت).
وهناك فكرة ثانية لا تقل خطورة عن الفكرة الأولى التي ذُكرت آنفًا فكلاهما له آثاره المدمرة، وتعتبر هذه الفكرة فرع من فروع الفكرة الأولى حيث تقول أن البشر ببساطة ما هم إلا كائنات انحدرت من الحيوانات وتحولت وتطورت حتى وصلت إلى الصورة التي هي عليها الآن. فتشير هذه الفكرة إلى أن الإنسان ما هو إلا نتيجة أفرزتها عدة مضاعفات لعملية ما، تتكون من عناصر مادية خالصة فضلاً عن انحدارهم من الحيوانات بصورة مباشرةً وإن حيوان القرد هو أقرب الحيوانات لهم نسبًا. وهذه الفكرة تناقض تماما الطريقة القرآنية التي تناولناها سابقًا والتي وصفت خلق الإنسان الأول، حيث أشارت هذه الطريقة بوضوح أن الإنسان كائن متميز، خلقه الله سبحانه وتعالى ولم يأت إلى هذه الدنيا نتيجة لتطور أو تحول عن حيوانات سابقة.
تعرف هذه الفكرة بنظرية داروين للتطور ؛ ماذا يعني أن يعتبر الإنسان نفسه مجرد حيوان أو قرد مثلًا؟ هل يمكن أن تٌستغل هذه الفكرة حتى نبرر السلوك الحيواني الذي يتبعه بعض البشر؟ هل أصبحت الحياة عديمة القيمة حتى باتت تتمحور حول مفهوم البقاء للأصلح أو الأكثر إنجابًا أو الأكثر هيمنة؟ يوجد الآن مجال من مجالات علم النفس يعرف باسم علم النفس الدارويني أو علم النفس التطوري، ويتبنى هذا العلم تفسير أفعال البشر وفقًا لهذه الفكرة أو النظرية. كما أنهم يعتبرون من خلال هذا العلم أن الاغتصاب الذي هو من أعمال العنف ما هو إلا نتيجة لما يحمله الإنسان في جيناته الوراثية التي تدفعه إلى الرغبة في إنجاب الذرية .
وكتب عمر الأشقر عن النظرية الداروينية يقول "هذا المبدأ الذي أطلقه داروين (البقاء للأصلح) قد دمر الحياة البشرية، لأنه أعطى المسوغ لكل ظالم فردًا كان أم حكومة. لأن هذا الظالم وهو يمارس غصبه وجوره وظلمه وحربه ومكره لا يمارس رذائل خلقية، إنما هو يمارس قوانين الفطرة كما زعم داروين، إنه يمارس قانون (البقاء للأصلح)، وذلك الزعم هو الذي أعطى حركة الاستعمار كل بشاعتها."
في الواقع ما ذكره الأشقر ليس مجرد استدراكات نجمت عن الإيمان ببعض النظريات الداروينية، فإن هؤلاء الأشخاص الذين وضعوا هذه النظريات كانوا أنفسهم يعتقدون في هذه الاستنتاجات ولذا أسسوا هذه النظريات. ولننظر إلى ما ذكره ممداني حيث يقول:
كتب هربرت سبنسر في سوشيال ستاتيكس Social Statics (1850) حيث قال "إن القوى التي تسعى إلى تحقيق السعادة المطلقة ولا تراعي أية معاناة عرضية تبيد كل كائن يقف في طريقها حتى ولو كان هذا الكائن من الجنس البشري". وهذا هو تسلسل الأفكار الذي تبناه تشارلز ليل منذ عشرين سنة في كتابه مبادئ الجيولوجيا Principles of Geology: "إن أنواع الكائنات الضخمة منها والصغيرة...كل منها ذبح الآلاف من نوعه، فلم لا نتبع نحن هذا الأسلوب ونحن سادة الخلق؟" وأكد تلميذه تشارلز داروين في "أصل الإنسان" The Descent of Man (1871) "إنه في المستقبل وخلال فترة ليست بالبعيدة إذا كنا نحسب الزمن بالقرون، فإن الأجناس المتحضرة ستفنى بالكامل في جميع أنحاء العالم وستحل مكانها الجماعات الوحشية." وأضاف سفين ليندكفيست بعد داروين في دراسة له حول المفهوم الأوروبي تجاه الإبادة الجماعية "أصبح من المقبول أن تهز كتفيك عند سماع خبر عن إبادةٍ جماعيةٍ. وإذا غضبت من هذا الخبر فإنه قد يدل على عدم ثقافتك."
ناهيك عن حقيقة أن هناك "حلقات مفقودة" في هذه النظرية وبالإضافة إلى الشكوك العلمية التي أثيرت ضد هذه النظرية, هل يجرؤ أحد أن يقول إن هذا الكون العظيم هو نتاج هذه النظرية الواهية؟ هل يمكن أن يكون أصل الإنسان الذي يتمتع بكل هذه القدرات والخصائص الفريدة التي تميزه عن سائر المخلوقات لا شيء سوى حيوان، ولا يوجد هدف جاء لأجله في هذه الدنيا ولا يوجد إله يرجع إليه؟ وكما ذكرنا آنفا حول وجهة النظر المادية لهذا الكون ما هي إلا وجهة نظر فرعية، ويمكننا القول أن هذا الرأي يبدو غير منطقي بالمرة، كما أن له عواقب وخيمة.
وبالإضافة إلى وجهات النظر المذكورة آنفًا فيما يتعلق بطبيعة البشر، فهناك من الناس من يؤمن بوجود خالق لهذا الكون لكنهم يعتقدون بأن البشر بطبيعتهم يحبون الشر. ويبدو من الوهلة الأولى أن هذا الرأي غريب، إذ كيف يُظن ذلك وقد وهب الله الإنسان الكثير من المميزات وسخر له باقي المخلوقات، فكل هذا لا يتناسب مع القول بأن هذا الكائن المبارك خلقة الله ليكون محبًا للشر. ومع ذلك فهذا الاعتقاد لا يتبناه سوى عدد من اليهود والنصارى على وجه الخصوص.
ذكر كرزون فيما يتعلق بالعقيدة اليهودية، إن تعاليم التلمود تشير إلى أن الشر متأصل في النفس البشرية. واعتبر حاخامات اليهود أن تحقيق الفضيلة شيء صعب جدًا نظرًا لأنه يتعارض مع طبيعة الجنس البشري. ويزعمون أن الله هو الذي جعل الشر متأصلاً في النفس البشرية لذا فإن إجبار النفس على اتباع قانون ما سيحملها ما لا طاقة لها به.
لذا فإن الإنسان مخير بين اتباع فطرته الشريرة أو اتباع الشريعة التي أرسلها الله. وبناءً على هذا السبب يزعمون أن داوود لم يرتكب خطأً عندما قتل وزنى لأن الذي يقف وراء هذه المحنة التي وقع فيها هو الله ذاته.
إذا سلمنا باعتقاد الإنسان في النفس البشرية على هذا النحو فمن السهل جدًا أن تشوه النفس البشرية. إذا كان من الصعب إدراك الصلاح فما هي الفائدة من السعي لتحقيقه؟ فلا يسعنا حينها إلا أن نقول أنه يحق للإنسان أن يرتكب المعاصي، وأن يغضب من الله لأنه هو من شرع دينًا فوق طاقة البشر.
لكن النظرة الإسلامية للنفس البشرية مختلفة جدًا عن هذه الوجهات حيث تشير وجهة النظر الإسلامية إلى أن النفس البشرية متسقة تمامًا مع ما يمكن إدراكه بعد تأمل طويل في عظمة خلق هذا الكون. وفي الحديث الذي ذكرناه آنفًا أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال " مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، وَيُنَصِّرَانِهِ، وَيُمَجِّسَانِهِ". وهذا الحديث يبين لنا أنه يستحيل أن تتأصل النفس البشرية على الشر، حيث إن كل مولود يولد على الدين الحق. ولا تتحول نفس البشر أو تتأثر إلا بعد اختلاطه بالأسرة والمجتمع والبيئة التي تحيط به، وعندها يمكن أن يسلك الإنسان طريق الشر. أضف إلى ذلك أن الله أنزل شريعة تتناسب مع قدرة البشر. قال تعالى في كتابه العزيز ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ (البقرة، 286) وقال تعالى ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7)﴾ (الطلاق،7). لذا تعتبر وجهتي النظر اليهودية خاطئتين من الناحية الإسلامية. وليس هناك شك في أن العقيدة اليهودية التي ذكرت هنا فيما يتعلق بالنفس البشرية عقيدة واهية فضلاً عما يمكن أن تسفر عنه من عواقب وخيمة على البشرية جمعاء.
أما النصارى فهم يؤمنون بما يدعى "الخطيئة الأصلية"، ومعنى هذا الاعتقاد أن الإنسان الأول آدم أورث خطيئته التي ارتكبها إلى جميع نسله. وهذا يعني أن كل إنسان معلق في رقبته خطيئة لم يرتكبها حتى ولو كان طفلاً صغيرًا. ويزعمون أن هذه الخطيئة لا يمحوها سوى نزول ابن الرب وتعذيبه فداءً للناس وتكفيرًا عن هذه الخطيئة. هذا الاعتقاد يتعارض صراحة مع قضية التوحيد في الدين الإسلامي خاصة الجزء الذي يتعلق بابن الإله؛ فالرب لا ولد له ولا ند له ولا مثيل له ولا "قريب" له.
ومن المنظور الإسلامي فإن كلا من آدم وحواء ارتكبا الخطيئة معًا, لما أزلهما الشيطان، وبعد ذلك تابا إلى الله وتقبل الله توبتهما وبذلك غفر الله لهما هذه الخطيئة ومُحيت عنهما، فلا مجال حينئذ أن يورثاها إلى ذريتهما. والأخطر من هذا أن مسألة توريث الخطيئة تكون من أعلى مراتب الظلم فكيف يأخذ الله الناس بذنوب غيرهم. وقد قال تعالى ﴿وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ (الأنعام، 164) وقال تعالى (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾ (فاطر، 18) ويمكن الرجوع أيضًا إلى سورتي (الإسراء، 15 والزمر، 7).
ومن ثم فإن مفهوم الخطيئة الأصلية هذه مفهوم خاطئ فضلاً عن الآثار الخطيرة التي تترتب عليه. وفضلاً عن أنه يعطي انطباعًا خاطئًا عن الله وصفة العدل التي يتحلى بها سبحانه، بالإضافة إلى أنه يرسخ المفهوم بتأصل الشر في النفس البشرية.
وليس من قبيل الصدفة البحتة أن كل وجهات النظر التي ذكرتها آنفًا يظهر زيفها وضررها. فكما أن الإنسان لم يأت إلى هذه الدنيا عن طريق الصدفة البحتة، فيبقى هناك نظام واحد فقط يوضح حقيقة البشر، نظام صحيح متناسق مع الكون هو نظام منطقي ونظام له معنى. وهذا هو ما يريد أن يوصله الكاتب في طيات هذا الكتاب معتمدًا على التعاليم التي أنزلها الله في دين الإسلام.
الإنسان
لقد تحدثنا عن الإنسان كثيرًا، لكن بقي علينا أن نعرج على بعض الأوجه المهمة التي تستحق التركيز في فصل خاص.
تكريم الإنسان
لقد خلق الله الإنسان، وهو لا يتصف بصفات الإلوهية بأي شكل من الأشكال، فهو لا يشارك الرب في صفاته الإلهية. وهذا عام في جميع البشر وآحادهم. وليس من البشر من يُدْعَى ابن الله أو ابنته بالمعنى الحرفي. وينبغي للبشر أن يدركوا أنهم ليسوا أعظم وأكبر خلق الله؛ فالله تعالى يقول: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (غافر: 57). بل إن تفكر الإنسان في مدى ضآلة حجمه بين خَلْق الله العظيم يدفع النفس للتواضع.
لكن في ذات الوقت نجد أيضًا أن الله قد كرم الإنسان بأشياء كثيرة، وفضله على كثير من خلقه، يقول الله تعالى في كتابه: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ (الإسراء: 70).
في الحقيقة، إن كل إنسان يملك قوتين مختلفتين تماما كامنتين بداخله، تنتظران ظهورهما. وهذه حقيقة ثابتة منذ أن خلق الله الإنسان الأول. لما خلق اللهُ آدم أمر الملائكة بالسجود له، وهذه الملائكة بمثابة قُوىً روحانية أوكلها الله لتقف دومًا إلى جانب الإنسان كي تسانده في فعل الخير. وفي الوقت نفسه يوجد الشيطان الذي أقسم بعزة الله أن يكون عدوًا للإنسان، وأن يغوي ما استطاع منهم. فهذان المثالان موجودان أمام الإنسان.
والإنسان حر في أن يسمو بنفسه إلى أعلى عليين أو يردي نفسه أسفل سافلين. وقد ذُكر هذان الخياران المختلفان للإنسان في عدة مواضع في القرآن، يقول الله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ (التين: 4-6). ويقول أيضا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾ (البينة: 6-7).
وتفصح هاتان المجموعتان من الآيات عن مفتاح بين واضح ألا وهو: الإيمان والعمل. فبالإيمان السليم والعمل الصالح يصل المرء إلى بُغيته في هذه الحياة، ويحقق أسمى ما تصبو إليه نفسه. لقد ذكر الله تعالى الغرض من خلقه الخلق بقوله: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: 56).
إن غاية هذه الحياة هي عبادة الله وإرضائه، ومن ثم الوصول لمرضاته تعالى، ولكن بعض الناس يزهدون في هذا الهدف؛ ظانين أن أمامهم ما هو أسمى منه كي يحصلوه. ولكن هذا يُجانب ما قررناه من الحق؛ فإن الله تعالى وصف أشرف خلقه بـ "عباده" مما يدل على أنه ليس هناك ثمة حياة أو وجود أرفع قدرًا أو أكرم منزلة من أن يكون الإنسان عبدًا حقيقيًا لله تعالى. إنه الثناء الأعلى الذي يمتدح الله به خلقه؛ فقد قال الله تعالى عن الملائكة: ﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾ ( الأنبياء: 19-20).
وهذا أيضا ينطبق على أشرف البشر كالأنبياء، يقول الله تعالى: ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا﴾ (النساء: 172). وإن أجهل الناس من يأبى الخضوع والعبودية لله الإلهِ الخالقِ العظيمِ المجيدِ الجليلِ.
ويقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "لاَ تُطْرُونِي، كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ، وَرَسُولُهُ".
فتحقيق العبودية لله هو الغاية الأسمى التي ليس وراءها غاية، وهي الغاية الوحيدة التي تفضي إلى الراحة الحقيقية لنفس الإنسان؛ لأنها مستقرة في أعماق نفْسه. وكما أشرنا من قبل لا تنفك هذه الرغبة في معرفة وعبادة الرب عن فطرة الإنسان. وإذا ما فقد الإنسان هذه الحقيقة فلن يجد السعادة الحقيقية.
إذن فالطريق إلى السمو والعظمة والرفعة يتمثل في عبادة الله تعالى وليس وراء ذلك من سمو ورفعة. وهذه هي القوة الكامنة. وهذا مما يجب أن يكون ماثلًا في أذهاننا. فكلما تحرك الإنسان لتلك الغاية وهي الخضوع لله الإله الواحد الحق وتعبد له شعر بسعادة أكبر وسمو أعلى. وعندما يدرك المرء ذلك فعليه أن يزيد من جهده ليحصل على درجة قصوى من هذه القوة الكامنة لديه.
وعندما يدرك الإنسان أن أمامه هدفًا واحدًا واضحًا يكون لهذا مزيد الأثر في أعماق نفسه، فلا يكون في حاجة إلى الركض وراء سلسلة لا تنتهي من أهداف لا يستطيع أن يُشبع أو يحقق أي منها كلية (فكثيرًا ما تتعارض أهداف الناس ولا يستطيعون تحقيق جميعها)، ولا يكون أيضًا في حاجة إلى استفراغ طاقاته لتحقيق أهداف عديدة، إذ أن الإنسان إذا لم يكن له سوى هدف واحد فقط فسوف يعرف بيُسر وجهته الصحيحة في التحرك نحو تحقيق هذا الهدف، ويضع كل طاقته وفكره في العمل نحوه ويكون سبيله واضحًا. ومن هنا تنتفي لديه أسباب التشكك والريبة، وكلما اقترب من هذا الهدف المطلق يجد السعادة الحقيقية والسرور. ولقد وصف الله تعالى حال من يدرك العبادة الحقيقية لرب واحد ويسعى في سبيلها وحال من الذين يبغون تحقيق عدة أهداف وإرضاء عدة آلهة فقال: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الزمر: 29).
لاحظ أنه بالرغم من أن هذه هي الغاية المطلقة للإنسان فالله غني عن عبادته؛ يقول الله تعالى: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ (آل عمران: 97). وفي آية أخرى يقول: ﴿وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ (إبراهيم: 8).
فإذا كان ذلك كذلك فمن الذي تنفعه عبادة الله؟! إنه الإنسان نفسه، فيحصل له بها تزكية النفس وطمأنينة القلب وتتوثق عرى صلته بربه وهي أهمها. يذكرنا الله تعالى بذلك في عدة مواضع في القرآن، فمثلًا يقول الله تعالى : ﴿وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ (العنكبوت: 6). ويقول تعالى : ﴿وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ (لقمان: 12). وأخيرًا يقول الله تعالى: ﴿مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ (الإسراء: 15).
الحكمة من خَلْق الإنسان
إذا قلنا أن الغاية المطلقة للإنسان هي عبادة الله وأن الله غني عن تلك العبادة له، فقد يسأل سائل: ما الحكمة من خلق الإنسان؟ بالتأكيد هناك حكمة كما قررنا سابقًا: أوضح الله تعالى أنه لم يخلق شيئا سُدى أو عبثًا، فله حِكمةٌ في خلقه، وهو العليم الحكيم. فلما استعلمت الملائكة من الله تعالى عن سبب خلقه لهذا المخلوق الجديد في الأرض (آدم)، كان جوابه تعالى أنه يعلم ما لا يعلمون.
وكما كان الحال في قضية التأمل في خلق السماوات والأرض، فكذلك يمكننا من خلال التأمل أن نصل إلى بعض النتائج التي ربما تكون إجابات جزئية لهذا السؤال المعْنِيِّ.
أولا: نرى أن الإنسان كائن فريد باعتبار قدرته في عبادة الله وحريته واستخدامه عقله. لقد خلق الله كائنًا يستطيع –كما وصفنا سابقا- أن يسمو بنفسه إلى أعلى مستويات الخَلْق أو يهوي بها إلى الحضيض. إن الخَلْقَ لا يدل فقط على وجود خالق - إذ أن خَلقًا كهذا لم يأت صدفة ولا يوجد في الخلق شيء أتى صدفة- ولكن يدل أيضًا على عظمة الله تعالى وعلمه العظيم. فهذا الجانب له أهميته وعلى الإنسان أن يتدبره، فلا مناص من أن له خالقًا وربًا.
ثانيا: إن وجود الإنسان الذي له القدرة على فعل الخير أو الشر تُظهر لنا العديد من صفات الله تعالى التي قد لا تُرى بسهولة من خلال خلق السماوات والأرض. نعم، إن حتى مجرد وجود "الشر النسبي" له مدلول إيجابي. فعن طريق وجود هذا الشر نرى صفات الله الحسنى من المغفرة والرحمة والصبر والمجازاة على الأعمال. بالإضافة إلى أن صفاته كالعدل والقدرة على العقاب وقدرته المطلقة على خلقه تَظهر أيضًا من خلال الأفعال التي يعاني منها الإنسان ويعجب منها: لِمَ أوقع الله هذا؟! فلا يوجد شيء بدون حكمة أو غاية وقد يدرك الشخص على المدى البعيد الخير العظيم الذي جاء من وراء هذه الأفعال.
ثالثا: إن الثواب الخالد الذي أعده (سبحانه) لمن آمن وعمل صالحا يُظهر محبة الله تعالى ورحمته. فمن أخلص في عبادته لله وقَبِلَها وآمن بها وأنجز مسعاه في ذلك سيجعله الله تعالى في سعادة أبدية، وهذا يُظهر عظمة الله تعالى في العطاء والثواب. أما في الجانب الآخر وهو مصير أولئك الذين أعرضوا طوعًا عما حولهم من آيات وأبوا عبادة الله والاستسلام له فذلك يُظهر قوة الله وقدرته على القضاء بعدل تام وحق مطلق.
المساواة الجوهرية بين كل البشر في الإسلام
لقد حسم الإسلام بتعاليمه هذه القضية التي لا تزال المجتمعات الحديثة تتخبط فيها ألا وهى المساواة الأساسية بين كافة البشر. فكل البشر خَلقُ الله وكل منهم له القدرة على الترقي والسمو إلى القمة البشرية عن طريق العبودية لله تعالى والاستسلام له. فلا تمايز بينهم من جهة البشرية، فباختيارهم الذي أولاه الله إياهم يتمايزون أمام الله وأمام القانون والمجتمع، وليس للعِرْق أو اللون أو الجنس دور في هذا التمايز البتة.
يقول الله تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجرات: 13). وبيَّن ذلك النبي (صلى الله عليه وسلم) عندما قال في جمع عظيم وهو من أعظم الجموع: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا إنَّ رَبّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إلَّا بِالتَّقْوَى أَبَلَّغْتُ؟ قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ - (صلى الله عليه وسلم) –".
فالتمييز والعرقية اللتان مازلنا نراهما في العصر الحديث كانا موجودين قبل النبي (صلى الله عليه وسلم) لكنه محاهما. ففي إحدى المرات قال النبي (صلى الله عليه وسلم): ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ وَتَعَاظُمَهَا بِآبَائِهَا، فَالنَّاسُ رَجُلَانِ: بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ، وَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ".
خلق الله آدم من تراب وكلنا من آدم. ومن أراد أن يعلم مدى سخافة العِرقية الموجودة فليراها في ضوء حقيقة أن اختلاف لون البشر يرجع إلى أصل آدم؛ فإن النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: "إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ. جَاءَ مِنْهُمُ الْأَبْيَضُ وَالْأَحْمَرُ وَالْأَسْوَدُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالْخَبِيثُ، وَالطَّيِّبُ وَالسَّهْلُ، وَالْحَزْنُ وَبَيْنَ ذَلِكَ" .
فليس الهدف من وراء هذا التغاير الشقاق والتناحر بين الناس، بل مقصوده الدلالة على عظمة الخالق. قال الله تعالى: ﴿ومِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾ (الروم: 22).
إذن فالطريق لتحقيق العبودية لله تعالى ميسر لكل أحد بدون نظر إلى عِرق أو جنسية أو غير ذلك. إنه طريق واحد لا غير ألا وهو العبودية لله (جل وعلا)، وبه يستحق المرء الشرف والإجلال، وتغمره بالفضائل؛ وهذه عقيدة من عقائد الإسلام التي نلمسها في تاريخه.
كتب المؤرخ المشهور أرنولد توينبي حول هذه النقطة قائلا: "إن اندراس الشعور العِرْقِي بين المسلمين من أبرز إنجازات الإسلام. وفي العالم المعاصر هناك حاجة ماسة لنشر هذه الفضيلة الإسلامية...".
وهذه المساواة الجوهرية بين البشر تشمل الذكر والأنثى بغض النظر عن الإشاعات التي ربما يسمعها المرء عن الإسلام. إن الرجل والمرأة سِيَّان أمام الله من حيث كونهما مخلوقين لله، قادرين على تحقيق العبودية له فلا فرق بينهما.
يقول الله تعالى : ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (النحل: 97). ويقول أيضا: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (التوبة: 71). ومثال أخير يقول الله تعالى : ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ (الأحزاب: 35).
من المعروف أن الإسلام أعطى المرأة حقوقًا عديدة لم تحصل عليها المرأة الغربية إلا من وقت قريب كحق الملكية ومزاولة شئون أعمالها التجارية، بل ما هو أكثر من ذلك. إن أية أيديولوجية أو دين أو ثقافة تقدر بعض الأمور أكثر من بعض. وكما هو واضح في هذا الجزء فإن أهم منزلة في الإسلام هي التقوى والطاعة لله تعالى، وربما يليها العلمُ بالدين. وفي هذه الجوانب فإن المرأة مساوية للرجل؛ فعبر تاريخ الإسلام عُرِف نساء بالتقى والعلم وشُهد لهن بالفضل. ومن ناحية أخرى، لا يقول الإسلام أن قَدْر المرء يقاس بجمال وجهه أو بإغراء جسده أو سرعة ركضه في الرياضة أو حسن غنائه أو رقصه أو أدائه؛ هذه معايير سخيفة في نظر الإسلام لتقييم الشخص على الرغم من أنها تأخذ الكثير من اهتمام "الحضارة الحديثة" على ما يبدو. لكن خلاصة القول أن المرأة تساوي الرجل تمامًا بالنسبة للأمور التي تحتل المرتبة العظمى في الحياة ألا وهى التقوى والعلم بالدين، وهذا أهم ما يثبت المساواة وفق منظومة المعايير الإسلامية.
حقوق الإنسان والشريعة الإسلامية
مما يتعلق بقضية كرامة الإنسان هو موضوع "حقوق الإنسان". وليس بمستغرب أن نقرأ في كتابات الغربيين ادعاء أن مفهوم حقوق الإنسان اختراع غربي، فعلى سبيل المثال كتبت آن مايير: "إن مفاهيم حقوق الإنسان هى جزء من مجموعة أعراف نُقلت منذ القرن التاسع عشر من الغرب". وكتب جاك دونلي أيضا: "إن معظم التقاليد السياسية والثقافية غير الغربية تفتقر ليس إلى ممارسة حقوق الإنسان فحسب ولكن أيضًا إلى المفهوم ذاته. فإذا تكلمنا من منطلق الحقائق التاريخية فمفهوم حقوق الإنسان هو من صنع الحضارة الغربية الحديثة".
وعلى الرغم أن كل الدساتير القانونية قد أعطت الحقوق الضرورية للإنسان، فإن بإمكان المرء أن يقول بملء فِيْه إن ذلك متقرر في الإسلام الذي ضمن حقوقًا هائلة لجميع البشر. إن الإسلام دين يأمر بالعدل، ويحفظ الحقوق، ويحفظ حُكم القانون، وقد كفل الإسلام هذه الحقوق للإنسان منذ ألف وأربعمائة سنة تقريبًا.
ولهذا عندما طالع العلماء المسلمون الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وجدوا أن الأغلبية العظمى من مبادئه قد وصى بها الإسلام وطبقها في المجتمع.
فإذا ألقينا نظرة خاطفة على بعض حقوق الإنسان القائمة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان نجد ببساطة أن هذه الحقوق يكفلها الإسلام بالفعل ويُوصي بها. فلنأخذ بعض المبادئ من هذا الإعلان عشوائيا: نقرأ في المادة الثالثة: "لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه"، وفي المادة السابعة: "كل الناس سواسية أمام القانون ولهم الحق في التمتع بحماية متكافئة عنه دون أية تفرقة، كما أن لهم جميعاً الحق في حماية متساوية ضد أي تمييز يُخل بهذا الإعلان وضد أي تحريض على تمييز كهذا". ويمكننا القول بأن الشريعة الإسلامية لا تحمي هذه الحقوق فحسب، ولكن أيضًا تشكل جزءًا من مقاصد الشريعة نفسها التي تكفل حقوقًا من هذا النوع.
ويدور جدل إلى يومنا هذا حول ما الذي يجب اعتباره ضمن حقوق الإنسان الأساسية وما الذي لا يجب؟ هناك سؤال مهم وجد صعوبة لدى مؤيدي حقوق الإنسان من العلمانيين في الإجابة عليه عبر التاريخ وهو: على أي أساس أو معيار يمكننا تحديد شيء ما بأنه من حقوق الإنسان الأساسية؟ وهل لدى البشر حقًا العلم والقدرة على تحديد حقوق الإنسان الأساسية؟ ألا ينبغي أن يكون لتحديد حقوق إنسانية أساسية كهذه صلة بجوهر الإنسان ذاته ونفسه مع الإقرار بأن البشر لم ينجحوا نجاحًا كافيًا في خوض الغموض الواسع للنفس البشرية؟
إن هذه الأسئلة تجد لها إجابات سهلة في الإسلام: إنه اللهُ – دون أحد سواه - الذي له العلم والقدرة على تعيين ما يكون حقا أساسيًا للإنسان وما لا يكون. نعم إنه الله ولا أحد سواه يستطيع ذلك وبعدل ومع ما يتلاءم مع طبيعة الإنسان وما يحتاجه. فترك أمر خطير كهذا لعقل الإنسان- الذي تخبط في تعيين هذه الحقوق، وتغيرت آراؤه عبر الزمن - والبعد أيضًا عن وحي الله أمر محفوف بالمخاطر. يقول الله تعالى في القرآن: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾ (المؤمنون: 71).
إذن هناك فرق آخر مُهِم بين الرؤية الإسلامية لحقوق الإنسان وأية رؤية علمانية أخرى لها. إذ يرى المسلمون أن حقوق الإنسان التي يفرضها الإسلام إلهية ولا يجوز انتهاكها أو تجاهلها، واحترام حقوق الآخرين التي يكفلها لهم الإسلام من طاعة الله تعالى. وقد ظهر هذا في سلوك المسلمين عبر التاريخ، حتى عند وقت اللجوء إلى الحرب نجدهم يتبعون آدابا صارمة ملزمة تهديهم في هذا الأمر فيلتزمون بها. ولا نجد نموذجًا لجيش مسلم ارتكب ما ارتكبه الصليبيون من العنف والتذبيح عندما دخلوا بيت المقدس. إن كاتب هذه الأسطر علي يقين من أن المسلمين لم يرتكبوا أفعالًا وحشية كهذه التي ارتكبت حديثًا في سجن أبي غريب مع أن الفاعلين لها بل المدافعين عنها أحيانا أناس يدَّعون الإيمان بحقوق الإنسان والحرية والديمقراطية الخ.
أخيرًا، عندما يناقش البشر ويحددون حقوق الإنسان تجد أن المجال يكون قاصرًا جدًا؛ فتجدهم لا يناقشون إلا الأوجه الدنيوية فقط ويهملون أهم حقوق الإنسان وهو حق لا يمكن أن يمنحه إلا الله تعالى. ونلتمس معرفة هذا الحق من الوحي والأنبياء: لقد شرح النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) هذا الحق عندما كان يكلم أحد الصحابة فقال: "يَا مُعَاذُ، أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ؟» قَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «أَنْ يُعْبَدَ اللهُ وَلَا يُشْرَكَ بِهِ شَيْءٌ»، قَالَ: «أَتَدْرِي مَا حَقُّهُمْ عَلَيْهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟» فَقَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ»".
الدين
ها نحن وقد ناقشنا قضية الخَلْق وحقوق الإنسان بشيء من التفصيل، وقد آن الوقت كي نناقش الحاجة إلى الدين نفسه بالإضافة إلى أننا سنناقش الأساس الذي يقبل عليه أي دين.
حاجة البشر إلى الدين
يعيش العالم الآن في مرحلة مادية جدًا، وبدا أن العلم قد غزا الطبيعة، وأن لا حاجة إلى الدين والخرافات وأساطير الأقدمين، لذا تجرأ نيتشه وأعلن قائلًا: "إن الرب ميت".
وبالرغم من ذلك كله فإن الدين لم يندرس، وهذا مما جعل العلماء يحاولون الإجابة عن هذا السؤال: لم لا يندرس الدين والإيمان بالإله؟ ولقد نُشر مؤخرا كتاب بعنوان: لماذا لا يختفي الله: علم العقل وبيولوجيا الإيمان Why God Won't Go Away: Brain Science & the Biology of Belief.
فالدين لم يندرس ويشهد رجوعًا عظيما إليه في وقتنا الحالي في كل أنحاء العالم، وليس للدين فحسب بل للدين الأصولي وهذا مما أقلق العلمانيين.
إن من الواضح في القرآن والسنة أن الدين شيء طبيعي وفطري في البشر. لقد خلق الله الخلق وجعل فيهم فطرة تتوق إلى معرفته وعبادته. يقول الله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الروم: 30). ويصف الله تعالى لنا أيضًا شيئًا قد حدث لكل إنسان في "حياته" قبل أن يكون شيئًا مذكورًا في العالم المحسوس، ولكنه محفور في أعماق ضميره؛ يقول الله تعالى : ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ (الأعراف: 172).
ويقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ، مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا،[قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:] كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلَالٌ، وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا...".
يوضح لنا هذا الحديث أن هناك قوى شريرة ربما تحاول أن تُخفي أو تعمي أو تشوه هذه الفطرة في البشر، ولكنهم لا يستطيعون القضاء على ما هو محفور في أعماق نفوس جميع البشر.
والأكثر من ذلك أنهم إذا استطاعوا أن يقضوا على هذا الميل الفطري في بعض البشر فلن يستطيعوا أن يقضوا عليه في جميع البشر. ومن ثم ستجد على الأقل بعض البشر- إذا لم يكن الأغلبية- يعترفون بالله ودينه (الذي هو مجموعة من العقائد والشرائع العملية التي شرعها لعباده). إنه ليس من قبيل الصدفة أن نجد كل قوم لديهم بعض أشكال الدين وبعض الإيمان الملموس بالإله صاحب العظمة المطلقة. والأمر الذي لا يستطيع الماديون في هذا العالم إنكاره هو أن الإنسان يتكون من مكون مادي ومكون غير مادي يسمى النفسُ أو الجانبُ الروحي للإنسان. يستطيع الماديون - ووسائل الراحة المادية – أن تتعامل فقط مع الجانب المادي للإنسان، لكنهم لا يستطيعون مساعدة الجانب الروحي الشاسع للإنسان، لذا فإنهم يتركون فراغًا في عقله. وعندما يشعر الإنسان بهذا الفراغ يشعر بأن شيئًا خطأ قد حدث له، فيبحث عن شيء يملأ به هذا الفراغ. وعلى الرغم أنه قد يلجأ إلى أشياء أكثر مادية أو إلى أنواع مختلفة من الأشياء المادية (كالخمر والعقاقير) إلا أن هذه الأشياء لن تستطيع ملء هذا الفراغ في حياته.
فإذا ما تَرَفَّعَ الإنسانُ عن الدعايات الكاذبة حوله اليوم يدرك أن الذي يفتقده في حياته وقلبه هو الله والدين. لكن الإنسان للأسف قد ينخدع مرة أخرى فيتبع دينا باطلًا من هذه الديانات المنتشرة في هذا الزمن، ويظل باحثًا عن ذلك الشيء الذي ما زالت تتطلع إليه نفسه. لكن كثيرًا من الناس قد هداهم الله إلى الطريق المستقيم، ووجدت أنفسهم ما كانت تبحث عنه من الحق منذ ولادتهم، نعم كثير من الناس يُعْمِلُ إدراكه في هذا ويمشي عليه فيغير به حياته إلى الأبد.
يقول ابنُ تيمية:
"فالقلب لَا يصلح وَلَا يفلح وَلَا ينعم وَلَا يسر وَلَا يلتذ وَلَا يطيب وَلَا يسكن وَلَا يطمئن إِلَّا بِعبَادة ربه وحبه والإنابة إِلَيْهِ وَلَو حصل لَهُ كل مَا يلتذ بِهِ من الْمَخْلُوقَات لم يطمئن وَلم يسكن إِذْ فِيهِ فقر ذاتي إِلَى ربه من حَيْثُ هُوَ معبوده ومحبوبه ومطلوبه وَبِذَلِك يحصل لَهُ الْفَرح وَالسُّرُور واللذة وَالنعْمَة والسكون والطمأنينة".
إن هذا الكلام تدعمه آيات من القرآن، يقول الله تعالى : ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ (الرعد: 28). ويقول (سبحانه): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ (الأنفال: 24). إن الحياة الحقيقية والوحيدة التي تستحق العيش فيها هي الحياة التي يدعونا إليها اللهُ ورسولُه. نعم لأن فيها حياة القلب وخلاصه، ولأنها تخلصه من أن يكون عبدًا للأهواء والشهوات والشبهات؛ وهى الحياة الحقيقية للعقل إذ أنها تحرره من الجهل والشك والحيرة؛ وهى الحياة الحقيقية للإنسان نفسِه إذ أنها تحرره من عبودية البشر والأيديولوجيات. إنها تخلصه إلى عبادة الله وحده، والتي هي الغاية المطلقة تعرفها نفسه وتهفو إليها. وهذا هو مصدر عزته وكرامته والغرض الذي من أجله خُلق. وأخيرًا هي الحياة الحقيقية لأن مصيرها النعيم الخالد والسعادة الأبدية في جنة الخلد مع الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه.
(ما أكدناه هنا هو حاجة الفرد إلى معرفة الله والدين. أما مناقشة مسألة الدين من منظور اجتماعي فسوف نتعرض لها عند الحديث عن مسألة "الحاجة إلى الرسل").
معايير الدين الحق
إذا أمعنا النظر في تاريخ البشر يظهر أن لديهم رغبة في الدين، ونرى أن كل دين يعرض نفسه على أنه الدين الحق الذي يجلب الراحة للفرد. ففي هذا الجانب يريد المؤلف أن يعرض أربعة معايير يرى أنه يمكن للفرد من خلالها أن يميز الدين الحق.
أولها: أن يكون الإله هو المصدر الأصلي لهذا الدين. ولا يعرفُ كنه الرب إلا الرب، ولا تدركه الأبصار، ولا سبيل إلى معرفة عبادته إلا عن طريقه. وعلى الرغم من أن البشر قادرون على الوصول إلى استنتاجات كثيرة سليمة عن الإله، لكن لا يستطيع إنسانٌ أن يدعي بعقله- بعيدًا عن وحي ربه- أنه اكتشف الطريقة التي بها يُعبَد الرب والسبيل الذي يرضيه. فإذا كان إرضاء الرب وعبادته كما يريد هي الغاية المطلقة في قلب الإنسان فلا سبيل للإنسان إلا أن يلجأ إليه للهداية والتوفيق. (علاوة على ذلك لا يمكن لأحد أن يعرف دقائق النفس البشرية سوى خالقها).
وبناءً على هذه المقدمة المنطقية الأولى نقول أن أي دين من صنع البشر لا يمكن منطقيًا أن يكون بديلًا، فإذا حاول البشر بكل ما أوتوا من قوة أن يجزموا بكلام عن كيفية عبادة الله فلن يستطيعوا.
إذن وفقًا لهذا المعيار فإن اعتقادات الدين وتعاليمه لابد أن تأتي من عند الله. لكن هذا المعيار لا يعني أن الله كان له في وقت ما دور في تكوين الدين فحسب، ولكن يعني أن الإطار بأكمله لتعاليم الدين إنما يأتي من عند الله. وهناك بعض الديانات التي ربما كان منشؤها من عند الله لكن أتباعها ظنوا أنهم أحرار في الاعتماد على عقولهم لتعديل الدين وتغييره وتبديله. لكن النتيجة أنهم في الواقع العملي اختلقوا لأنفسهم دينًا جديدًا غير الذي شرعه لهم الله بوحيه، وهذا يبطل الغاية برمتها. إن وحي الله لا يحتاج إلى تحسين أو تغيير من قِبَل البشر؛ فأي تبديل أو تغيير يعني انحرافًا عن وحي الله. إن التبديل والتغيير يُبعد الناس عن السبيل السليم والحقيقي لعبادة الله. والله تعالى له القدرة المطلقة على الوحي الكامل الملائم لكل زمان ومكان. وإذا دعت الحاجة للتغيير أو التبديل في شيء من شرعه، فإنه يأتي منه وحده لا من أحد سواه، فيغير متى شاء وما أراد من شرعه فهو العليم الحكيم، فيفعل ذلك إما رحمة بعباده أو عقابًا لهم، أو يرسل وحيًا جديدًا أو حتى رسولًا جديدًا. بذلك لا توجد مشكلة عقلية. ولكن مكمن الخطورة في أن يشتغل البشر بتعديل وحي الرب.
لقد أصبح انتهاك المعيار الأول أمراً منتشرًا، ويبدو أن بعض البشر يعطون لأنفسهم السلطة المطلقة في هذا، على الرغم من أن هذا يناقض جوهر عبادة الرب والاستسلام والخضوع له. وبذا ينخلع المرء من طاعة الرب والاستسلام له وعبادته وحده. فنرى شخصًا يدعي الاستسلام لله وهو لا يستسلم إلا لمرؤوسه أو هواه، وهذا مما يناقض العبادة الخالصة والنقية للرب.
إذن فالمعيار الأول ينص على أن الدين من عند الله. ولابد لهذا المعيار من معايير أخرى معه: فالمعيار الثاني: أن تظل تعاليم الرب في شكلها الأصلي [بلا تبديل من البشر أو تحريف]، ولابد أن يكون هذا واضحًا، فإن جاء الدين من الرب فعلًا في شكله الأصلي ثم نالته أيدي التحريف والتغيير من قِبَل البشر فيكون هذا خليطًا من دين الرب وتحريف البشر، وليس دينه الخالص.
على الرغم من وضوح هذه المقدمة المنطقية فإن من المدهش أن نرى كثيرًا من الناس لا يتعقلونها، وينقادون كالعميان وراء كتب وتعاليم لا يثبت التاريخ صحتها.
المعيار الثالث أن لا يكون هذا الدين قد نُسخ بدين آخر بعده، بمعنى أن الله قد يُنزل وحيًا ثم ينسخه بوحي بعده، أو يرسل رسولًا ناسخًا لرسالة الذي قبله. وعليه فإذا كان المرء يسلم أمره لله فلا يسعه أن يختار اتباع الدين المنسوخ أو الجزء المنسوخ من التعاليم والإعراض عن اتباع التعاليم الجديدة التي يأمره الله باتباعها؛ إنَّ خَرْق هذا المعيار يناقض مبدأ الاستسلام لله تعالى وبذا ينتحل المرءُ لنفسه الحق في اختيار ما يريده بدلًا من شرع الله.
هذه المعايير الثلاثة صريحة وواضحة ولكن يرى كاتب هذه الأسطر أن هناك معيارًا رابعًا وهو أن العقائد الأساسية لهذا الدين لابد أن تكون واضحة للبشر ولا تناقض الفطرة البشرية. فإنه لا يتصور من الرب الذي خلق هذا الأمر وأعطى البشر القدرة على الفهم واستخلاص الدروس مما حولهم أن يطلب منهم بعد ذلك أن يؤمنوا بأمور يتعذر فهمها بالكامل وتناقض ما تؤمن به النفس من الحق.
موقف الأديان السابقة
في هذا الجانب يناقش الكاتب حال اليهودية والمسيحية والإسلام في إطار هذه المعايير الأربعة.
نقول كان المعيار الأول أن يكون الرب مصدرا أصليا للدين، بمعنى أن تأتي معتقدات هذا الدين وتعاليمه من الرب من غير ادعاء من قِبل البشر الحق في التبديل والتغيير بأية طريقة كانت.
نجد في القرآن ذمًا لليهود والنصارى الذين تركوا أحبارهم ورهبانهم يشرعون لهم تعاليمًا جديدة منتهكين شرع الرب. يقول الله تعالى : ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (التوبة: 31).
إن أكثر طوائف اليهود اليوم انتشارًا هم الحَبْرية؛ وهذا بسبب الدور الذي يقوم به الأحبار وغيرهم من تشكيل الشرع وكونهم سلطة على الدين ومعظم الدين عندهم قائم على التلمود الذي هو مجموع كتابات يهودية كُتبت بعد عدة قرون من الخروج [Exodus]، ولكن يُفترض أنها قائمة على نقولات شفهية من عهد موسى (عليه السلام). فالإيمان بالتلمود في اليهودية التقليدية واجب. إذ يشرح الحاخام آرون باري مكانة التلمود فيقول: "عند اليهود الإيمان بالنقولات الشفهية التي هي التلمود ركن جوهري من أركان الإيمان. يؤمن اليهود بأنه لا يمكن فهم شيء من التوراة فهمًا سليمًا بدون التلمود، وتلك النقطة توضحها القصة الآتية من التلمود:
أتى شخص يبدو عليه أنه يريد الدخول في اليهودية إلى الحكيم العظيم شاماي وسأله قائلا: "أيها الزعيم المبجل! كم عدد التوراة عند اليهود؟ فأجاب أنها اثنين: الشرع المكتوب والشرع الشفهي. فأبدى رغبته في التهود على أنه لن يؤمن بالشرع الشفهي، فسخط شاماي من هذه الشروط التي لا يمكن أن تُقال وطرده فورًا مشيرًا له إلى الباب.
...إن إنكار أصول التوراة الشفهية يُعَد إنكارًا للأصول المكتوبة...وعندما نأتي للتلمود فمن المهم أن نعي أنه لا شك في الوحي الذي سمعه موسى من ربه. لذا فإنه جرى العمل التقليدي لليهود على أن التلمود يمثل أمر الرب الإلهي وإرادته. فنحن نثق في قوة الحكماء في كل عصر وتابعيهم على نقله".
ووفقًا لقاموس الكتاب المقدس: "يمثل التلمود على الأقل عند اليهود الأرثودوكس أعلى مرجع لكل أمور الإيمان...وبناءً عليه فإنه ليس من المبالغة أن نقول أن التلمود مصدر مساو للكتاب المقدس عند اليهود الأرثودوكس." فهذه المساواة بين الكتاب المقدس وشيء آخر من الواضح أنه من صنع البشر- كما رأينا قصة الحاخام شاماي التي تشكل جزءًا من التلمود- ليس أمرًا منطقيًا.
بل وفقًا لما يقوله كرزون فإن التلمود يذكر لنا أن معركة ما قامت بين الرب وعلماء اليهود، وبعد جدال طويل عقيم قُرر أن يحال الأمر إلى أحد الحاخامات الذي حكم بأن على الرب الاعتراف بأنه كان مخطئًا وهو ما حدث بالفعل. ومن ثم فإن الرب يعتريه النقص من جانب علمه عند اليهود. ولا عجب إذن أن نراهم ينحرفون عن الوحي الإلهي للبحث عما يسمى"بالمصادر الأفضل للعلم". فعلى الرغم من أن الوحي الذي جاء به موسى هو مستمد من الرب، فإن الإيمان اليهودي سمح للبشر أن يتخطوا ويبطلوا هذا الوحي.
أما بالنسبة للمسيحية فإن الأمر أشد إثارة. فالكثير يطلق في يومنا على المسيحية "مسيحية بولس"، وإنما كان هذا نظرًا للتأثير الكبير الذي كان لبولس في تشكيل عقائد الكنيسة المسيحية. وتجدر الإشارة هنا إلى أننا نعدم دليلًا على أن بولس كان رسولًا من الرب، بل إنه لم يكن أيضًا أحد رسل عيسى، بل كان من المضطهدين للمسيحيين إلى أن رأى رؤيا انتهت به إلى أن اعتنق المسيحية. وعندما بدأ بولس نشر الوجه الجديد للمسيحية عارضه زعماء الكنيسة ببيت المقدس وكان من بينهم يعقوب الذي كان أشبه الناس بعيسى. لذا أشار فريدريك قائلًا "يظل حتى يومنا هذا من الواضح أن لبولس اليوناني ومتى المبشر اليهودي وجهتهما الخاصة بهما والتي اختلفت كلية عن وجهة الآخرين الذين نقلوا لنا تعاليم عيسى".
وإذا أخذنا هذه الإشارة في الاعتبار فإنه يمكننا القول بأن بولس كان بإمكانه أن يؤسس لتفسير جديد لتعاليم عيسى، وقطعًا كان ذاك التفسير مغايرًا لما أتى به عيسى أو ما أنزله الرب . وأسوأ ما أدخله بولس على هذا الدين من المعتقدات اعتقاد أن الخلاص الحقيقي يتأتى من صلب أو سفك دم المسيح.
ومن ثم يمكننا القول بأن العلاقة بين تعاليم الدين وبين الرب الذي هو مصدرها قد أزيلت في أولى مراحل تاريخ المسيحية. ثم استأثرت الكنيسة التي يتزعمها البابا فيما بعد بالحق لنفسها في تفسير التعاليم الجديدة وعرض الحقائق التي تختص بالدين، وهذا ما تسير عليه جميع كنائس اليوم. لذا لا عجب أن ترى قبولًا كليًا من الكنائس للشذوذ الجنسي على الرغم من وضوح تعاليم الكتاب المقدس في هذا الشأن – حتى بالنسبة للغريب عن هذا الدين.
لكننا في الإسلام نرى صورة مختلفة جدًا عن هذا، فالإسلام لا يعرف الكهنوتية. فأي عالم من العلماء في الإسلام مهما علا شأنه ما هو إلا بشر عرضة للخطأ، فأي حكم أفتى به أي شخص لابد وأن يكون في ضوء القرآن وسنة النبي (صلى الله عليه وسلم). ولقد ظل القرآن والسنة المصدرين المطلقين للتشريع ولا يحق لأحد أن يخالفهما، وهذا من المبادئ المتفق عليها في الإسلام. بل إن أبرز علماء المسلمين كانوا يرون ألا تنقل آراءهم مجردة وألا يؤخذ بما عارض القرآن والسنة من أقوالهم. فما فهمه هؤلاء العلماء هو أن الدين دين الله، وليس للبشر ثمة دور سوى في تبليغه بإخلاص ومحاولة فهمه لا ليغيروه أو يبدلوه، معتبرين بما ذكره القرآن من أمثلة عن الأمم السابقة التي حرفت أديانها.
وهنا يتعاظم دور الصلة بين المقدمة الثانية المطروحة سابقًا والحفظ التاريخي لوحي الله، وهذا أمر ضروري للتحقق من قبول المرء الحقيقة أم عدم قبوله لها.
ومن هنا لا يستطيع أن يزعم اليهود أن التوراة التي بأيديهم هي بعينها التي أوحاها الله إلى موسى. لكن يضيق بنا المقام هنا لمزيد من البسط لهذا الموضوع. لذا فسنحتاج إلى عرض النتائج التي توصل إليها أحد المؤلفين في هذا الشأن باستفاضة. فبعد مناقشة مستفيضة لتاريخ التوراة يتوصل ديرك إلى:
إن التوراة التي تلقيناها ليست نصًا واحدًا بمفرده، بل هي جمع ناتج عن نسخ ولصق مع إضافات متلاحقة... وعلى الرغم من أن موسى الذي تلقى الوحي الأصلي، والذي يفترض أن تمثله التوراة، لم يعش أبدًا لما بعد القرن الثالث عشر قبل الميلاد، بل من المحتمل أن يكون قد عاش في القرن الخامس عشر قبل الميلاد فإن التوراة المتلقاة ترجع إلى ما بعد ذلك من العصور، فالطبقات الأولى المجهولة من التوراة، التي قد نمثل لها على سبيل المثال بالرمز J، لا يمكن أن تعود لما قبل القرن العاشر قبل الميلاد...ولم تؤلف هذه الطبقات لتشكل التوراة المتلقاة إلا قبل الميلاد بأربعمائة سنة تقريبًا، أي 1000 سنة بعد موسى. ثم إن التوراة المتلقاة، المؤلفة على الأقل من الأربعة نصوص المختلفة التي وجدت في القرن الأول من الميلاد، لم تعتمد كلية، إلا بعد موسى بألف وخمسمائة سنة. بالإضافة إلى ذلك أننا لو أخذنا بالنص العبري المسوري للعهد القديم Masoretic Text كأكثر النصوص "اعتمادًا" للتوراة فسوف نتوصل إلى أن أقدم المخطوطات الموجودة ترجع إلى 895 من الميلاد تقريبًا، أي 2,300 سنة بعد موسى. ويمكننا القول بإيجاز أنه على الرغم من أن التوراة المتلقاة قد تكون محتوية علي بعض من التوراة الأصلية إلا أننا نقول أنها ليست التوراة الأصلية، وهي أيضا مجهولة ولا يمكن نسبتها إلى موسى.
على الرغم من ظهور عيسى بعد موسى بقرون عديدة فإن الوحي الذي تلقاه لم ينل حظًا أوفر من الحفظ على ذلك الموحى به لموسى، وقد حاولت مجموعة من العلماء المسيحيين تدعى أعضاء ندوة عيسى Fellows of the Jesus Seminar تحديد أصح الأقوال التي يمكن نسبتها إلى عيسى وتوصلوا إلى أن "82% من الأقوال التي نسبت إلى عيسى لم يتحدث بها عيسى في الواقع". واصفين تاريخ الأناجيل بقولهم: "الحقيقة الصارخة أن تاريخ الأناجيل اليونانية، منذ تأليفها في القرن الأول حتى اكتشاف أوائل النسخ لها مع بداية القرن الثالث، يظل مجهولًا جدًا، وبذا أصبحت هناك منطقة غير مطروقة". ويبين لنا كتاب بارت إيرمان التحريف الأرثوذكسي للكتاب المقدس (The Orthodox Corruption of Scripture) كيفية تحريف الكتاب المقدس عبر العصور. ويصرح بفرضيته التي يبرهن لها باستفاضة من البداية قائلًا" إن فرضيتي في أبسط العبارات: "أن النساخ من حين للآخر بدلوا الأقوال المذكورة في نصوصهم المقدسة لتبدوا وكأنها النصوص الأصلية، ولتفويت الفرصة على المسيحيين الذين يسيئون استخدامها من خلال إثارة الآراء الشاذة". وهذا الأمر يشبه وضع العربة أمام الحصان: فالعقائد لابد أن تعتمد على النصوص المنقولة ولا ينبغي أن تبدل النصوص لتناسب العقائد.
لاحظ العلاقة الوثيقة فيما بين الفرضيتين الأولتين بشأن الدين الصحيح، فهناك إدراك عام لدى العديد من المسيحيين أنه لم يتم حفظ كل ما في نصوصهم المقدسة. وهذا يعني أن الإضافات والتحريفات البشرية قد تسربت إليها. وبما أن النصوص قد لحقها التحري فقد شعروا أن عليهم تصحيحها، ومن ثم فقد أعطوا لأنفسهم الحق المطلق في تحديد ما هو الدين. لذا استطاع أساقفة إنجلترا في أكتوبر من عام 2005 إظهار ورقة قرروا فيها أن كثيرًا مما يذكر في الكتاب المقدس لا يمكن التسليم بحقيقته، ومن ثم فقد شرعوا في بيان ما هو حقيقي من الكتاب المقدس وما ليس بحقيقي، فلو حفظت النصوص الأصلية بدقة، لم تكن هناك حاجة إلى تصويبات جديدة أو عالم ليحدد ما يمكن قبوله أو رفضه.
ونكرر القول بأن تاريخ الإسلام يقدم لنا عرضًا لرسالته مختلفًا عما كانت عليه الرسالات السابقة، فلقد عاش النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) منذ أكثر من 1400 عام مضى، وبذا يكون قطعًا هو "آخر" الأنبياء السابقين.
لقد حُفظ القرآن الكريم وسنة النبي (صلى الله عليه وسلم) بعناية متناهية، فحُفظ القرآن وهو ليس بالكتاب الضخم عن ظهر قلب، كما كُتب منذ عصره (صلى الله عليه وسلم) كذلك. ولقد دفع الصحابة خوفهم من أن يحدث لكتابهم ما حدث لكتب الأمم السابقة إلى أن يحفظوا القرآن بأكمله، وأن يحتاطوا لحفظ كتابهم من التحريف. وبعد موت النبي (صلى الله عليه وسلم) بفترة وجيزة جُمع القرآن وبعدها بفترة وجيزة أيضا نسخت النسخ المعتمدة وأُرسلت إلى الأمصار البعيدة لضمان سلامتها من التحريف. وإلى يومنا، باستطاعة أي فرد أن يسافر إلى أي مكان في العالم ويحصل على نسخة من القرآن ليرى أن ما يمسك به هو القرآن نفسه الموجود في باقي أنحاء العالم.
ولم يقتصر الحفظ للقرآن فقط فلقد حُفظت أقوال النبي (صلى الله عليه وسلم) أيضا بدقة متناهية ودُونت ودرست ورويت وانتقلت بعناية منذ السنوات الأولى من تاريخ الإسلام إلى يومنا. وحُفظت أيضا لغة القرآن واللغة التي نطق بها النبي. ولا يمكن أن يقال هذا في شأن ما تكلم به موسى أو عيسى اللذان تكلما بلغة عبرية أو آرامية لا وجود لهما الآن.
ومن ثم يمكن القول بأن الوحي الإلهي للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) قد حُفظ بأكمله وهو متاح للباحثين عن الحقيقة اليوم.
أما المعيار الثالث فهو متعلق بعدم كون الوحي قد نُسخ أو حل محله وحي آخر. ويدرك كل من اليهود والمسيحيين أن هناك "مسيحًا" سيأتي بعد موسى وستكون له الهيمنة الدينية المطلقة. فالمسيحيون يزعمون أنه عيسى، بينما يزعم اليهود أنه لم يأت بعد. فإذا ما تبين أن الرب يريد أن يتعبدنا برسالة جديدة فما من خيار للمؤمن بربه إلا أن يتبع تلك الرسالة الجديدة. وسوف نناقش هذه النقطة بالتفصيل عند تعرضنا لمفهوم النبوة.
ويثير هذا المعيار الأخير الذي ذكره الكاتب التساؤل عما إذا كان من الممكن أن يصل المرء إلى جوهر العقيدة ويفهمها فهمًا دقيقًا. وقد فندنا في بداية هذا الكتاب بعض الشبهات التي أثارها أنصار المادية والداروينية بإيجاز، لكن كل ما أثاروه لا يثبت. وكذلك الحال بالنسبة للعقيدة المسيحية في التثليث والتي تقاتل بسببها المسيحيون لأعوام عديدة، وقاموا بعقد المؤتمرات، واحدًا تلو الآخر لتحديد ما تعنيه عقيدة التثليث، حتى أطلق عليها بعضهم "الأسطورة". فهي ليست الحقيقة التي أنزلها الرب الرحيم الحكيم الذي أظهر قدرته العجيبة في خلق هذه الآيات العجيبة في الكون، حتى أدى هذا بأحد آباء كنيسة شمال إفريقية في القرن الثاني للميلاد وهو ترتليان ليقول مقولته الشهيرة 'credo quia absurdum'، "أنا أؤمن لأنه غير معقول". فلا ينبغي أن يبنى الدين – من حيث الاعتقاد- على الإيمان المحض وقفزة إيمانية كهذه، بل يجب أن يكون مبنيا في بداية أمره، على العلم لكي يطمئن إليه القلب والعقل وينقادا معه بعزم وهمة.
النبوة
يدرك اليهود والمسيحيون مفهوم النبوة. وبالنسبة للمسلمين فهم يرون أن نبيهم محمد-صلى الله عليه وسلم- هو خاتم النبيين، والذي جاء بعد سلسلة طويلة من الأنبياء شملت إبراهيم وموسى وعيسى.
حقيقة النبوة
الرسل والأنبياء هم من اصطفاهم الله من خلقه لتبليغ رسالته للبشر، فيوحي إليهم بما شاء ثم يبلغون ما أوحي إليهم. وليس للرسول أن يبدل أو يحرف رسالته بل عليه أن يبلغها بأمانة وصدق. وعلى من أرسل إليهم التسليم لهذا الرسول بما جاء به، يقول الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ (النساء: 64).
إن الله تعالى يصطفي من يشاء من خلقه ليكون رسولًا، فليست الرسالة اكتسابًا يكتسبه المرء باجتهاده، يقول الله تعالى أيضا: ﴿يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ﴾(النحل: 2). والأنبياء في الأساس قد لا يكونون على معرفة بالنبوة أو يسعون إليها كما هو الحال مع النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) ، إذ يقول الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (الشورى: 52)، ويقول تعالى أيضًا: ﴿وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾ (القصص: 86).
وهذا الاصطفاء للرسل بالطبع ليس اصطفاءً عشوائيًا، بل ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ (الأنعام: 124)، فالله يصطفي من خلقه أناسًا ذوي صفات متفردة عن غيرهم، يقول الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ (النحل: 43)، وتؤكد هذه الآية ومثيلاتها بشرية الرسل، فلم تلحقهم أدنى صفات الألوهية.
لقد اصطفى الله الرسل من خلقه، ومهمة الرسل أن يبلغوا الصدق الذي أنزله الله ويبينوه لكي يكونوا قد أعذروا إلى البشر إن لم يتبعوهم في رسالتهم، فالرسل ما هم إلا بشر لا ملائكة، ولو أرسلت الملائكة بالرسالة وترك البشر وإدراكهم في تخير دينهم ليذعنوا إليه لضاعت الرسالة. لذا يقول سبحانه: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ﴾ (الأنعام: 8). وبعبارة أخرى لن يكون الخيار لأي فرد إلا أن يذعن ويقبل ما جاء به الملك ثم لا يمهل، ولكن المراد عرض هذه الحقيقة التي يمكن للبشر إدراكها في سياق واضح صريح لا حياد عنه. فإذا ما أتت في هذه الصورة فمن أراد من الخلق اتباع هذه الحقيقة فسيتبعها، ومن أراد الإعراض عنها فسيعرض عنها. وبهذا يعرف من هم أهل لمحبة الله ورحمته ومن هم أهل لسخطه وعقابه.
لقد جاء الرسل بالهداية الواضحة مبشرين ومنذرين، ولو لم ترسل الرسل لصاح البشر قائلين لو أرسل إلينا رسولًا لاتبعناه، لذا قال الله - الذي يعلم ما كان وما سيكون - في كتابه: ﴿ولَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى﴾ (طه: 134). وبمجرد أن يأتي الرسل بالآيات البينات لا يكون هناك عذر للبشر أن يتخلفوا عن اتباعهم: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ (النساء: 165)، وكفي بهذه الآية واعظة لذوي الألباب.
وكما سنرى بإيجاز أن من أجل النعم التي أنعم الله بها على البشرية هي نعمة إرسال الرسل.
علامات النبوة
تتبدى لنا بعض العلامات "غير المباشرة" للنبوة من خلال دراستنا لتاريخ الرسل. والعلامة الأولى للنبوة هي أن الرسول الذي يصطفيه الله لرسالته يجب أن يكون ذا شخصية لها احترامها وذا سمعة طيبة بين قومه قبل أن يشرفه الله بالرسالة، فلا يتوقع من شخص لم يكذب قط في حياته على أحد من الناس أن يكذب على الله، ويزعم كذبًا أنه قد تلقى وحيًا منه. ثانيًا: أن تتسم رسالته بالسمو والفضيلة، وأن تكون رسالته غير مناقضة لما جاءت به الرسل السابقين المعترف برسالتهم، إذ أن جوهر رسالة الله تعالى الأساسية بشأن حقيقة الكون والحياة لا تتغير من نبي إلى آخر. كذلك ألا يسعى ذاك الشخص المدعي للنبوة إلى نفع أو تحصيل أجر على دعوته، فلا يكن سعيه الأول لغرض دنيوي، بل يبلغ رسالة ربه طاعة وسعيًا في مرضاته. وأخيرًا أن نرى من هذا النبي انتصارًا روحيًا وإن لم يكن قد حقق انتصارًا سياسيًا، بمعنى أنه راض عن رسالته ولا يتخلف عنها بل مثابر عليها حتى موته، فلم نشهد نبيًا من الأنبياء الذين شُهد لهم بالنبوة أنه قد تخلف عن تبليغ رسالة ربه أو هجر عقيدته.
أضف إلى ذلك أن الله تعالى يؤيد رسله بآيات فريدة- أي أشياء خارقة للعادة كدلالة على إرسال الله لهم، وكل هذه العلامات إنما هي من عدل الله ورحمته ولطفه، فالله يصطفي ويرسل رسله بهذه الكيفيات ليقيم الحجة على المعاند ويظهر جحوده لرسالة الحق، ولا يكتفي المولى تعالى بأن يرسل إلينا رسالة تتلاءم تمامًا مع طبيعة بشريتنا، بل أيضا يرسل رسلًا ليقيم عليهم الحجة إن لم يقروا برسالتهم. لذا يقول الله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ﴾ (الحديد: 25).
وهذه الدلائل الخاصة التي ينعم الله بها على رسله تسمى "معجزات"، وبالطبع ينزع الناس في عصر "العلم" إلى التشكك في المعجزات التي سجلها التاريخ لنا، مع أننا لا نلمس شيئًا غير منطقي أو غير معقول في حدوثها. فإذا ما ابتدأنا بمقدمة أن الله قد خلق هذا الكون، وهي مقدمة قوية (كما رأينا من قبل)، فلا يصعب علينا أن نتفهم أن لله السلطة المطلقة في تسيير هذا الكون وبيده أن يبدل صنعه في أي وقت شاء لمن شاء. ونسمع إلى اليوم عن معجزات طبية أو حدوث حالات شفاء معجزة من أمراض مستعصية-وهي أشياء قد نعدم لها "تفسيرًا عقليًا". ولا يجرؤ أحد على إنكار هذه الأحداث "غير المفسرة".
وقد حدثت في الماضي بعض هذه المعجزات مثل انفلاق البحر الأحمر لموسى (عليه السلام) وإبراء المريض والأكمه على يد عيسى (عليه السلام)، وكانت هذه الآيات هي التي أيدت هؤلاء الأنبياء في دعوى النبوة لأنها أظهرت تأييد الرب وهدايته لهم. ولقيت جميع هذه المعجزات القبول ممن عاينوها، لكن مع مرور الزمن وغيابها عن الأعين بدأت الأنفس تتشكك في تلك القصص أو الإدعاءات وبدأت تأثيرات هذه المعجزات تخفت، لكن مع معرفة أن هناك أنبياءا آخرون يأتون لتجديد الرسالة، فلا يصبح هذا الأمر قضية كبيرة.
ولذا لما أرسل الله خاتم أنبيائه للبشرية كلها إلى يوم الدين أيده بمعجزة تغاير تمامًا تلك المعجزات- فهي المعجزة التي أثبتت أنها من عند الله، وأن لها تأثيرًا دائما. يقول النبي محمد (صلى الله عليه وسلم): "مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ إِلا وَقَدْ أُعْطَي مِنَ الآيَاتِ مَا آمَنَ عَلَى مِثْلِهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليه؛ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ". وبعبارة أخرى أن المعجزة الكبرى التي أوتيها محمد (صلى الله عليه وسلم) هي القرآن.
ومن ثم فإن المعجزة الكبرى التي أوتيها النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) ما زالت مشهودة ملموسة إلى يومنا. وقد أطلق القرآن تحديًا أبديًا أن يأتي أحد بشيء يشبهه، حيث يقول الله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (البقرة: 23).
يظهر إعجاز القرآن في أوجه عدة؛ وقد ظل العرب الذين برعوا في اللغة على عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) لأعوام عديدة يحاولون تحدي النبي في هذه المعجزة حتى أدركوا عجزهم في مجابهة فصاحة وبلاغة القرآن. إن القرآن أكثر بكثير من كونه مجرد كتاب أدبي وحسب، بل يبرز إعجازه أيضًا في كونه ينبئ عن أشياء تتحقق في المستقبل، وفي دقته العلمية والتاريخية، وفي حفظه، وفي تشريعاته الحكيمة السمحة، وأثره الباقي في إصلاح وتغيير البشر وغير ذلك.
لقد كان النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) أميًا، ومع ذلك اصطفاه الله لرسالته لأن أميته لم تكن عيبًا ينقص من قدر نبوته، بل كانت برهانًا على نبوته، إذ كيف يتأتى لأمي عربي عاش بعد عيسى بستة قرون أن يجيء بهذا الكتاب. ولقد أوحى الله إلى نبيه (صلى الله عليه وسلم) مثلًا قصص الأنبياء السابقين، ولم يكن النبي في بيئة يسهل فيها الاستزادة من تعاليم اليهود والمسيحيين. ومع ذلك نرى أن قصص الأنبياء السابقين مسطرة بدقة متناهية، وهذا مما يثير الدهشة والعجب. إن كثيرًا من الناس يدركون أن الكتاب المقدس يحتوي على عبارات مستحيلة تاريخيًا أو ذات مفارقة تاريخية، في حين أن القرآن يخلو من مثل هذه الإشكاليات –وهي آية أخرى على أن هذا القرآن ليس من صنع البشر. لقد ذكر فتوحي والدرغزيلي في مصنف ضخم لهما العديد من الأمثلة المحتوية على أخطاء تاريخية في الكتاب المقدس، وقد خلا القرآن منها على الرغم من اتحاد القصص والأحداث، وفيما يلي عرض لبعض من النتائج الكثيرة التي خلصا إليها:
إذا كان القرآن قد انتُحل من الكتاب المقدس [كما يزعم البعض] لتسربت إليه تلك الأخطاء الموجودة في الكتاب المقدس، فلم يُظهر القرآن، على سبيل المثال، بني إسرائيل على أنهم أمة صغيرة بينما يزعم الكتاب المقدس أن عددهم كان من 2 إلى 3 ملايين نسمة وهو عدد ضخم جدًا قد لا يقبله عالم؟... ولماذا لم يتفق القرآن الكريم مع الكتاب المقدس في أن البحر قد ابتلع فرعون مع أن هذا هو الذي يستسيغه العقل، لكننا نجد القرآن يصرح أن "جسد" فرعون قد نجا؟ ولم قال القرآن هذا في شأن فرعون وحسب ولم يقله في شأن من دمرهم الله من البشر غير فرعون؟...
حاجة البشر إلى رسل الله
إن نعمة إرسال الرسل إلى البشر لمن أجل نعم الله، يقول الله تعالى واصفًا إرسال النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) : ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 107).
ولا ريب أن البشر في حاجة شديدة إلى هذه النعمة من الله، فهم في حاجة إلى رؤية مثال عملي على قدرة الفرد على نيل رضا الله في حياته، وهم في حاجة ملحة أيضًا إلى ذاك العلم الذي أتت به الرسل.
ولو شاء الله لأرسل رسالته مكتوبة على جانبي جبل، لكن تظهر حكمته ونعمته تعالى في إرسال الرسل للبشر بصورة مضاعفة:
(1) فبإرسال الله رسلًا من البشر بدلًا من الاتصال بهم عن طريق كلمات مكتوبة يكون الله قد نقل رسالته من الجانب النظري إلى العملي، فممارسة الرسول لرسالته تتيح للبشر رؤية التطبيق العملي للهداية، فهداية الله لا تتسم بالغموض وليست مبادئ عامة تتشتت أفهام الناس فيها، بل هي رسالة واضحة في شكل عملي ملموس مدعومة بالأمثلة كي يتبعها البشر.
(2) على الرغم من كون الرسل أفضل البشر، لكنهم لا يتخطون حيز البشرية، فهم أمثلة من البشر كي يتبعها الآخرون، فبتطبيقهم للتعاليم الإلهية يعلم الناس أن تلك التعاليم قابلة للتطبيق وأن بقدرة البشر اتباعها، فلا يظن ظان أن الصلاح فوق مقدور البشر بل هو في مقدورهم، ويدل على ذلك تجسده في الرسل الذين هم بشر.
وكما بينا سابقًا أن البشر في حاجة ملحة إلى العلم الذي أُرسل به الرسل، وهذا العلم يمكن تقسيمه إلى نوعين من العلوم وكل منهما لا يستغني عنه البشر.
النوع الأول هو علم ما فوق الإدراك البشري أو ما تطلق عليه النصوص الإسلامية "الغيب". ونكرر ما قلناه سابقًا من أن هذه الأمور هي خارج نطاق إدراك البشر، فلا تُعلم إلا عن طريق الوحي من الله، وتشمل العلم بالله وصفاته وغرض الخلق، والقدرة على التمييز بين الخير والشر، وما يحدث للبشر بعد الممات في الآخرة إلى غير ذلك. وهذا العلم هو صميم الدين ولا تقوم حياة البشر القويمة بدون الإيمان به.
ولا تقتصر هداية الله للبشر على هذه الأشياء وحسب، فهداية الله التي أرسل بها أنبياءه إلى البشر تحمل في طياتها هداية للبشر في الأمور الدنيوية أو الحياتية. فباستثناء الأمور الحياتية الفنية أو التقنية، يحتاج البشر إلى الله للهداية الإلهية في كل الأمور كحاجتهم لهذه الهداية في الأمور الغيبية. فالله الخالق المبدع هو المتفرد بعلم ما ينفع البشر. يقول الله تعالى: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ (الملك: 14)، وهذه النقطة تحتاج إلى مزيد من البسط فهي تضرب في جذور العلمانية التي تهيمن على فكر العالم اليوم.
لقد حاول البشر أن يشيدوا أنظمتهم الاقتصادية والسياسية والقوانين الدولية وهلم جرا، وفي قيامهم بهذا عليهم أن يقروا أنهم يحاولون صنع ما هو أبعد من قدرتهم، حيث فاق ضرر ما أتوا به المنافع التي حصلوها، وإن كان صادرًا عن حسن نية.
وأول ما يتبادر إلى الذهن في جانب الاقتصاد هو انهيار نظريات الاشتراكية والشيوعية. وهذا يدفعنا إلى النظر عن كثب إلى الرأسمالية والمفارقة بين حقيقتها وما يُفترض أن تكون عليه. لقد شيد الرأسماليون الأوائل نظرية من المفترض أن تحقق "الأفضل لكل العالم"، لكن نظرياتهم كانت مبنية على افتراضات لم ولن تتحقق. فكان من بين افتراضاتهم المنافسة الكاملة والمعرفة المطلقة والتجارة الحرة وغير ذلك. وبمجرد مخالفة هذه الافتراضات، وحتما ستقع المخالفة، فلن تؤدي إلى ما هو " الأفضل لكل العالم" بل ستؤدي إلى خلق عالم من الاستغلال، حيث يزداد الغني غنى، ويزداد الفقير فقرًا. حتى عندما أدركت الحكومات تلك النتائج الفاشلة كلية حاولت أن تخطو خطة نحو العلاج لهذا الموقف، لكن طالما أن "السوق الحر" هو القوة الدافعة والربح هو الهدف الأول وأن الطلب يوجه ما يتم إنتاجه، فإن العالم سيظل بعيدًا عما هو "الأفضل لكل العالم". فمن المذهل أن تعلم أن الأعداد غير المفصح عنها لموتى الأطفال في الدول الأقل تقدمًا هي "بأداة" الرأسمالية الحديثة: الربا، فبعض الحكومات الإفريقية مضطرة لتنفق على خدمات الديون أكثر مما تنفقه على الصحة والتعليم. وهذه الفائدة المدمرة محرمة تحريمًا أبديًا في الإسلام.
وعمومًا، فإن القوانين الوضعية في مقابل وحي الرب عرضة لأربع مشكلات خاصة.
أولا: البشر غالبًا ما يتأثرون بأهوائهم. والقرآن دائما ما يقارن بين اتباع الحق أو الهوى، فالمرء إما أن يتبع الحق الذي يعرف من خلال الوحي أو يتبع ما يزينه له هواه على أنه الخير، فعلى سبيل المثال يقول الله تعالى في آية من كتابه: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ (المائدة: 49). فنجد التركيز في القوانين الوضعية على :"الحرية" و"الحقوق" أكثر من اعتبار ما هو الأصلح للمجتمع أو العالم ككل، ولعل الكحوليات والحرية الجنسية خير الأمثلة على هذا، فما هو مقدار الضرر والتكلفة التي يتكبدها المجتمع بسبب شرب الكحوليات؟ كم عدد البيوت التي خربت بسبب شرب الكحوليات؟ كم عدد النساء اللاتي ضربن بسبب شرب الكحوليات؟ وكم عدد أولئك الذين لا يستطيعون أن يؤدوا أدوارهم في المجتمع بسبب شرب الكحوليات؟ لكن لا يجرؤ أحد أن يناقش "الحق"-بل الرغبة في- شرب الكحوليات. وما قيل في الكحوليات يمكن أن يقال أيضًا بشأن الحرية الجنسية، على الرغم من أن مرض الإيدز الذي هو من أول الأمراض التي تنتقل عن طريق الاتصال الجنسي يسبب ضررًا كبيرًا وخسائر في الأرواح وخسائر اقتصادية. لذا يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ، حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ، وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا".
ولو كان البشر قادرين على أن يسموا بأنفسهم عن الشهوات، فعليهم أن يتفهموا الفرق الشاسع بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية. فعلماء الاجتماع يقفون على منحدر زلق إذ ليس لديهم معامل أو أدوات لاختبار نظرياتهم، والتفاعلات بين المكونات العديدة لحياة الإنسان ضخمة جدًا بحيث يعجز أي بشر أو مجموعة من البشر أن يدروسها بأكملها، وإن كانوا غير منحازين فستشتتُ العديد من العوامل الأخرى كالبيئة آراءهم. لذا يشكك بعض العلماء في قدرة هذه العلوم على تحديد الحقائق. ولذا يقول الله في قرآنه مبينًا قدرة البشر المحدودة في هذا الشأن: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ (الروم: 7)، فإذا ما تقرر هذا ظهرت حاجة البشر لهداية وعلم الخالق الذي برحمته أرسل هذه الهداية على أيدي رسله. وكما قرر علماء الشرع فإن الهدف والغرض الأساسي من الشرائع التي جاءت بها الرسل هو تحصيل ضروريات الحياة البشرية والحفاظ عليها.
وفي الختام نقول إن القوانين العلمانية لا تؤثر في أنفس البشر كما يفعل الوحي، فليس للقوانين الوضعية تأثيرٌ أخلاقيٌ ، وبعبارة أخرى لا تستطيع تلك القوانين أن تدفع الفرد إلى الالتزام بها إلا باستخدام القوة، لكن التمسك بالشرائع التي جاءت بها الرسل توجهها الدوافع النفسية لإرضاء الله تعالى وتجنب سخطه. وعندما يخالط هذا الشعور القلب فلن يمنعه أي شيء من اتباع شرع ربه-لا مغريات ولا رشاوى ولا مال ولا أي شيء غير ذلك.
ليس في هذه الانتقادات التي طرحناها شيء مدهش أو جديد، بل هي ظاهرة منطقية. والسؤال الآن: لم لا يتجه البشر إلى هداية الرب وتعاليم الرسل طالما كانت منطقية، وهي الأصلح لكل البشر؟ إن النموذج المهيمن الذي ينظر له هو نموذج الحضارة الغربية التي – نظرًا لأحوالها التاريخية - رأت أنه من الحكمة تنحية الوحي في الأمور العامة. ولا نعجب لهذا ولا نستغربه فالغرب لم ير الوحي الإلهي في صورته الصحيحة المحفوظة. فلو رأى البشر وحيًا إلهيًا صحيحًا محفوظًا يسهل الوصول إليه وهو القرآن فمن المتوقع أن يتجه الكثير والكثير منهم نحوه ليهتدوا به في حياتهم.
وخلاصة القول، لا مناص من الحقيقة التي تقر بأن البشر في حاجة ملحة للعلم الذي أتت به الرسل، وهم أيضا في حاجة ملحة للنماذج التي جسدتها الرسل.
مباديء دعوة الرسل
روي عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال أن الله أرسل 124,000 نبيًا. وأخبر الله في كتابه أنه تعالى أرسل لكل أمة رسولا (النحل: 36)، وجاء الحديث عن بعضهم في القرآن بينما لم يذكر شيء عن الآخرين.
ومع مجيء العديد من الأنبياء والرسل لكنهم كلهم كانوا على منهج واحد، إذ وصف النبي (صلى الله عليه وسلم) الأنبياء أنهم إخوة لِعَلَّاتٍ قائلًا: "وَالْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ" ، وأخبر الله نبيه (صلى الله عليه وسلم) أن الله سيهديه لما كان عليه الأنبياء السابقون من الدين قائلًا: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى﴾ (سورة الشورى: الآية 13). وقال في آية أخرى مشيرًا إلى جميع الرسل: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ (الأنبياء: 92).
لذا فالمسلم يؤمن بكل هؤلاء الأنبياء والرسل ويوقرهم ولا يفرق بين أحد منهم لأن الله أرسلهم جميعًا، وهم يؤمنون بحقائق أساسية واحدة ويدعون إلى نفس الغاية، ومن ثم فلا يحق لأحد أن يقول أنه سيؤمن ويوقر بعضهم ثم يكذب ولا يوقر الآخرين، فهذا يؤدي به إلى ألا يوقر ربه الذي أرسلهم جميعًا، وبذا يكون متناقضًا إذ كل الأنبياء قد أتوا برسالة واحدة، وهم - كما وصفهم النبي (صلى الله عليه وسلم) - إخوة.
ولذا يجب الإيمان بجميعهم وتوقيرهم حق التوقير، يقول الله تعالى: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ (البقرة: 136؛ وانظر آل عمران: 84). وخلاصة القول، أنه طالما أن الذي أرسل هؤلاء الأنبياء والرسل هو إله واحد أحد وحقيقة الوجود واحدة لا تتغير فهذا يوحي بأن رسالاتهم كانت واحدة ومتطابقة في جوهرها.
ومن خلال دراستنا للقرآن يمكننا أن نتتبع المبادئ الأساسية لدعوة جميع الرسل، فلقد دارت رسالتهم حول النقاط الثلاثة التالية:
(1) الدعوة إلى الله مع عرض الأدلة البينة على أنه الوحيد المستحق للعبادة، ودعوة البشر إلى الإذعان لله وترك كل ما يعبد سواه من آلهة باطلة: وهذا هو جوهر الدين الحق وهذا هو الدين من لدن آدم، وهذه هي الرسالة التي وصلت لجميع الأمم والبشر. يقول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ (النحل: 36). ويقول أيضا: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ (الأنبياء: 25). وينقل لنا الله تعالى ما قاله العديد من الأنبياء على اختلافهم : ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ (الأعراف: 59،65،73،85 ومواضع أخرى).
(2) بيان أن هناك سبيلاً محدداً للوصول لمرضاة الله تعالى وتزكية النفس، بالإضافة إلى تصحيح العقيدة في الإله وتصحيح العبادة والتطبيق العملي الصحيح لهذه العقيدة؛ فلم يرسل الرسل لإخبار البشر بعبادة الإله وحسب، بل لقد تلقوا وحيًا عن كيفية تأدية العبادة، وما هو المنهج الذي ينبغي أن يسير عليه المرء في حياته الدنيوية. كذلك يشمل هذا الوحي شعائر العبادة والشرائع الدنيوية والتوجيهات الأخلاقية. وكل أمة من الأمم قد جاءتها هذه الدعوة إلى سبيل الهداية، يقول الله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ (المائدة: 48). وعلى الرغم من أن الأنبياء جميعًا قد جاءوا بنفس هذا السبيل الأساسي والشرائع العامة المتطابقة كالأمر بالصلاة والنهي عن الشرك وحرمة الزنا والقتل وغير ذلك، فلا يعني هذا أن جميع شرائعهم العملية كانت متحدة ولم تكن مختلفة، فعموميات الشرائع كانت متحدة لكن تفصيلاتها هي التي اختلفت. فلقد اقتضت رحمة الله وحكمته أن يرسل العديد من الرسل لبيئات وأزمنة مختلفة. وهذا التنوع في بعض شرائعهم لا يعني التعارض في كنه الرسالة الأساسية أو نهجهم الذي انتهجوه، فبعض الشرائع الخاصة التي أوحيت لرسول بعينه قد تتغير بتغير الزمن. فعلى سبيل المثال، لقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) والمسلمون في بادئ أمر الصلاة يتوجهون في قبلتهم إلى بيت المقدس وقد نُسخ هذا الحكم عن طريق الوحي بالتوجه إلى مكة وظل المسلمون يعبدون ربهم بإذعان وخضوع لكن الذي تغير هو هذا الحكم الخاص.
(3) بيان جزاء من قبل الرسالة وعبد الله، وعاقبة من رفض الرسالة التي تأمره بالخضوع لله وعبادته. وفي هذا الشأن أخبر الرسل البشر بالحياة بعد الممات والبعث ويوم القيامة والثواب والعقاب من عند الله. وقد اختص الله تعالى نفسه بتفصيلات هذه الأمور فلا تعرف إلا من خلاله، ولم يعذب الله أمة من الأمم حتى يبينها لهم. ومن ثم فإن الرسل جميعًا جاءوا مبشرين لمن قبلوا الإيمان ومنذرين الذين أعرضوا بالعواقب الوخيمة، يقول الله تعالى: ﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ *وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ (الأنعام: 48-49).
هذه النقاط الثلاث الأساسية المذكورة هي التي دارت حولها الرسالات، فهي بمثابة المفاتيح للسعادة في الدارين، بل تبرز قصص الأنبياء في القرآن تلك القضايا على أنها أهم القضايا. ولقد جاهد الأنبياء من أجل نشر رسالتهم، ليؤدوا ما اؤتُمنوا عليه وبلغوا الرسالة وبينوها. فإذا ما أُدركت هذه النقاط فلا مجال إذًا للجدال أو الاعتذار، فالنبي قد بلغ رسالته والأمر موكول الآن إلى البشر.
التبشير بالنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) في الكتب المقدسة السابق
أوضحت الفقرة السابقة أن جوهر الرسالة عند جميع الأنبياء واحد. وعلاوةً على هذا، فمما لا ريب فيه أن دور بعض الأنبياء السابقين، إن لم يكن جميعهم، كان هو التبشير ببعثة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) . يقول الله تعالى في القرآن الكريم ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ...﴾ (الأعراف: 157). كما يقول الله تعالى أيضًا ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦)﴾ (الصف: 6)
وبناءً على هذه الآيات القرآنية وغيرها، أدرك العلماء المسلمون أنه لابد وأن هناك بعض الدلائل على بعثة النبي ((صلى الله عليه وسلم) ) في ثنايا ما تبقى من الكتب المقدسة الأصلية التي كانت بين أيدي اليهود والمسيحيين. ولقد وجدت العديد من الآيات التي تبدو وكأنها تشير بصورة مباشرة إلى النبي محمد (وهناك العديد من الكتب التي تناولت هذا الموضوع) . وعلى الرغم من ذلك - وكما هو الحال مع التفاسير الإنجيلية - فإن تفسير آية بعينها قد لا يكون واضحًا، وقد يقرأ الآخرون الآيات نفسها التي يستدل بها المسلمون بصورة مختلفة كل الاختلاف. ومع التأكيد على هذا، فإنه ما يزال هناك بعض الآيات المتبقية التي يعد التفسير الوحيد المقبول لها هو التنبؤ بالنبي محمد (صلى الله عليه وسلم).
وحتى لا نستطرد في الحديث هنا، فسوف نناقش مثالين فقط. والفقرة الأولى هنا مقتبسة من العهد القديم حيث يتحدث موسى فيقول: "قال لي الرب: قد أحسنوا في ما تكلموا. أقيم لهم نبيًا من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه" (سفر التثنية، الإصحاح 18: 17-19).
ولعل السؤال الأول الذي يطرح نفسه هنا هو من هم "إخوة" إسرائيل؟ طبقًا للمعجم العبري للإنجيل فإن المصطلح "إخوة" يشير إلى "تشخيص لمجموعة من القبائل التي كانت تعد من ذوي القرابة الشديدة للإسرائيليين" . والمجموعة التي ينطبق عليها تمامًا مثل هذا التوصيف هي أحفاد إسماعيل بن إبراهيم الأخ غير الشقيق لإسحاق. والعرب عامةً ومحمد (صلى الله عليه وسلم) خاصةً ينحدرون من نسل إسماعيل.
والأمر الثاني أن النبي القادم قد وُصف بأنه "مثلك" بمعنى أنه يكون شبيهًا بموسى. والآن هناك بعض المسيحيين يدعون بأن هذه الفقرة إنما تشير إلى عيسى. ومع الوضع في الاعتبار أن المسيحيين لا يعتبرون عيسى مجرد نبي، فإن هذه الإشارة غير محتملة على الإطلاق. ومع ذلك، فقد وضع جمال بدوي جدولًا يوضح فيه أوجه الشبه بين موسى ومحمد (وأوجه اختلاف عيسى عنهما). وفيما يلي الجزء الرئيس من جدول بدوي :
أوجه المقارنة موسى محمد عيسى
الميلاد طبيعي طبيعي غير طبيعي
الحياة الأسرية متزوج وله أولاد متزوج وله أولاد غير متزوج وليس له أولاد
المهنة نبي ورجل دولة نبي ورجل دولة نبي
الهجرة الاضطرارية إلى مدين إلى المدينة لا يوجد
المواجهة مع الأعداء مطاردات عنيفة مطاردات عنيفة وغزوات لا توجد مواجهات شبيهة
نتائج المواجهات نصر معنوي ومادي نصر معنوي ومادي نصر معنوي
طبيعة التعاليم روحية وتشريعية روحية وتشريعية روحية
قبول زعامته بين قومه رفض ثم قبول رفض ثم قبول رفضه معظم بني إسرائيل
ثم تستكمل الآيات السابقة فتقول: "وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به" وهذا وصف بالغ الدقة للنبي محمد في نقله للقرآن الكريم. فلقد وضعت الكلمات في فمه عن طريق الوحي المباشر عن طريق جبريل، حيث كان محمد (صلى الله عليه وسلم) يكرر حرفيًا ما كان يوحى إليه ويُؤمر به حتى استكمل الوحي.
وفي العهد الجديد يمكننا أن نجد الفقرات التالية من إنجيل يوحنا "إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي، وأنا اطلب من الأب فيعطيكم معزيًا آخر ليمكث معكم إلى الأبد" (يوحنا، الإصحاح 14: 15-16)، كما نجد في موضع آخر "لكني أقول لكم الحق إنه خير لكم أن أنطلق لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي، ولكن إن ذهبت أرسله إليكم، ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية وعلى بر وعلى دينونة" (يوحنا، الإصحاح 16: 7-8)، ونجد في موضع آخر "إن لي أمورًا كثيرة أيضًا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية" (يوحنا، الإصحاح 16: 12-13).
ولكن من هذا الذي سوف يأتي بعد المسيح ولا يمكنه أن يأتي في حياته؟ يفسر المسيحيون هذه الفقرات على أنها تشير إلى روح القدس. إلا أن العقيدة المسيحية توضح أن الآب والابن والروح القدس أجزاء مكونة للثالوث، ومعًا يشكلون كيانًا واحدًا. وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يكون الجزء حاضرًا والآخر غائبًا في الوقت نفسه؟ إن هذا يخالف تمامًا العقيدة المسيحية. وعلاوةً على هذا، فإن الجزء التالي من المقطع الأخير المقتبس "فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية" لا يعد سوى وصفًا رائعًا للنبي (صلى الله عليه وسلم) وكيف تلقى وأبلغ الوحي عن الله.
وهناك مجموعة أخيرة من الآيات سوف نضعها بين يدي القارئ حيث يعتقد كاتب السطور أنها في الواقع لا تتطلب أي تعليق سوي التأكيد على أن ثمة نبي عظيم الشأن سوف يُبعث: "وهذه هي شهادة يوحنا حين أرسل اليهود من أورشليم كهنة ولاويين ليسألوه من أنت فاعترف ولم ينكر وأقر أني لست أنا المسيح فسألوه إذًا ماذا؟ إيليا أنت ؟ فقال لست أنا، النبي أنت؟ فأجاب لا" (يوحنا، الإصحاح 1: 19-20). فمن النبي الذي كان يتوقعه يوحنا واليهود؟
وهذه الأمثلة السريعة كافية، ويمكن للقارئ أن يراجع الأعمال الأخرى الأكثر تفصيلًا إن أحب. ومع هذا، فلو أن هذه الإشارات تشير إلى النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) كما يعتقد العلماء المسلمون، فإن من قبيل الإخلاص للنبي الذي صرح بهذه الاشارات أساسا أن يتبع المرءُ النبي الذي أُشير إليه.
الرسالة الخاتمة
لقد بعث الله العديد من الأنبياء على مدى الزمان. لكنه قضى سبحانه أن يبعث رسولًا خاتمًا برسالة خاتمة، وأن يكون هذا الرسول الخاتم رسولًا لكل البشرية من وقت بعثته وحتى يوم القيامة، فلا يعقبه نبي، ولا يأتي بعد وحيه وحي ليغير في وحيه. ومن ثم فلقد كان من الضروري أن يتميز هذا النبي عن من سبقه في بعض النواحي.
أولًا، بما أنه لن يأتي أي نبي آخر بعده ليصحح أية أخطاء أو تحريفات فلقد كان من الضروري أن يُحفظ الوحي في صورته الأصلية النقية.
ثانيًا، كان من الضروري أن تختلف طبيعة "معجزات" النبي الخاتم أيضًا، وهذا نظرًا لأن هدف المعجزة ليس فقط أن تؤثر في من كان حيًا في عصر النبي، ولكن أيضًا في جميع من سيأتي بعدهم.
ثالثًا، لم يكن من الممكن أن يبعث النبي الخاتم لمجتمع واحد فقط من بين البشرية جمعاء وإلا لكان لكل مجتمع نبيهم الخاتم ولاختلفوا مع بعضهم بعضًا. لذا كان من الضروري لهذا النبي الخاتم أن يبعث للبشرية جمعاء ويضع نهاية لتتابع إرسال الأنبياء، ويكون مناسبًا للعالم كله.
رابعًا، كان من الضروري لتشريعات وتعاليم هذه الرسالة أن تكون ثابتة فيما يتعلق بالأمور التي يجب أن تكون ثابتة فيها للبشرية جمعاء وحتى يوم القيامة، وأن تكون مرنة ويسهل تكييفها في الأمور القابلة للتغيير تبعًا للتغيرات التي تطرأ في ظروف حياة البشر.
وبالنظر إلى هذه العوامل مجتمعة، يدرك المرء أن رسالة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) توافق هذه المعايير. وقد تقدمت مناقشتنا للحفظ الدقيق للقرآن والسنة. وبالمثل فقد تقدمت مناقشتنا لطبيعة معجزة النبي (صلى الله عليه وسلم) "القرآن" وهي المعجزة الكبرى التي لا يزال لها أثر حتى يومنا هذا.
وأما فيما يتعلق بالعنصر الثالث، فلقد كان النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) هو النبي الوحيد الذي أعلن أنه لم يبعث فقط لقوم بعينهم ولكنه بعث لجميع شعوب العالم المختلفة. فاليهود، على سبيل المثال، يعتبرون أنفسهم الشعب المختار وأن رسالتهم قد جاءت لهم خصيصًا. وبناءً عليه فإن اليهود الأرثوذكس لا يعتقدون بالتبشير بعقيدتهم. كما يوضح العهد الجديد أيضًا أن رسالة عيسى كانت لقبائل بني إسرائيل. ونقرأ في إنجيل متى (الإصحاح 10: 5-6): "هؤلاء الاثنا عشر أرسلهم يسوع وأوصاهم قائلًا إلى طريق أمم لا تمضوا وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا بل اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة" . ولقد أكد القرآن أيضًا على خصوصية بعثة عيسى (الصف: 6).
وأما في حالة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) فإن الله تعالى يقول: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨)﴾ (الأعراف: 158)، ويقول في آية أخرى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٨)﴾ (سبأ: 28).
وهناك آيات أخرى في القرآن تؤكد على المعنى نفسه. ولقد أكد النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) أيضًا على أنه قد تميز عن الأنبياء السابقين بأمور خمسة وكان الأمر الخامس منها هو "كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة" .
وأخيرًا، عندما يدرس المرء التشريعات التي جاء بها النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) فإنه يجدها تتمتع بعنصر المرونة الذي من شأنه أن يتيح لها أن تكون قابلة للتطبيق في يومنا هذا كما كانت في عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) ؛ فما يحتاج إلى أن يكون ثابتًا للأبد تجده ثابتًا في الشريعة الإسلامية وما احتاج إلى المرونة تجده مرنًا. وعلى سبيل المثال، في التعاملات التجارية تجد أن الربا محرم للأبد، علاوةً على وضوح الإرشادات العامة، وبالتالي يصبح منهج الهداية واضحا في أنه حالما تتطور وتنشأ أشكال جديدة من التعاملات التجارية كما في العصور الحديثة فإن المرء يكون بمقدرته أن يحدد ما هو المقبول منها طبقًا للإرشادات الإسلامية وما لا يعد مقبولًا. ومن ثم فلقد برهنت الشريعة الإسلامية على إمكانية تطبيقها على ما يربو على 1400 سنة، وأنها طبقًا للعقيدة الإسلامية ستظل قابلة للتطبيق حتى يوم القيامة.
خاتم الأنبياء
بعد أن بعث الله العديد من الأنبياء، بعث النبي محمدًا (صلى الله عليه وسلم) . وُلد محمد (صلى الله عليه وسلم) بعد حوالي 570 عامًا خلت لمولد المسيح عيسي، وقد ولد في مكة في شبه القارة العربية. وكان أهل مكة يدينون بعبادة الأصنام، كما كان في مكة بناء شيده نبي الله إبراهيم ونبي الله إسماعيل. كان هذا البناء - الذي عُرف باسم الكعبة - مخصصًا لعبادة الله الإله الحق الأحد، ولكن المشركين من العرب كانوا قد أحاطوه بأصنامهم. وقد عاش محمد (صلى الله عليه وسلم) بين ظهرانيهم، لكنه لم يختلط معهم قط في عبادة الأصنام، كما عرف بأمانته وكان يلقب بالصادق الأمين.
ولما بلغ أربعين سنة تلقى محمد (صلى الله عليه وسلم) أول وحي. وعلى الرغم من أن هذا كان مروعًا في بداية الأمر له إلا أنه أدرك المهمة التي بعثه الله بها. ولقد سارع المشركون من العرب برفض رسالته والتي كان جوهرها أن لا معبود بحق إلا الله. وعلى الرغم من أنه كان يعرف بالصادق الأمين إلا أنهم كذبوه وسرعان ما بدأوا حملة ضارية لتعذيب من آمن بمحمد. ولقد اضطر بعض أتباعه إلى الهجرة إلى الحبشة، وبعد ثلاثة عشر عامًا من الدعوة في مكة أُرغم النبي نفسه على الخروج منها إلى المدينة التي كان له أتباع فيها، كما نصبه أهلها زعيمًا للمدينة. ولكن مشركي مكة لم يهدأ لهم بال وحاولوا سحق الدين الجديد عن طريق الحرب. وعلى الرغم من ذلك، فإن عدد جماعة المسلمين الزهيد قد نمى وأصبح قادرًا على الصمود أمام وثبة المشركين عليهم. وفي مدة لا تتجاوز العشرة أعوام، قاد محمد (صلى الله عليه وسلم) جيشًا إلى مكة وفتحها في نصر لم ترق فيه نقطة دم واحدة. وبهذا انتصر الإسلام في شبه الجزيرة العربية وبدأ في الانتشار في ربوع العالم .
ولقد قضى الله أن النبي محمدًا (صلى الله عليه وسلم) سوف يكون رسوله الخاتم. يقول الله تعالى ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (٤٠)﴾ (الأحزاب: 40) كما قال النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) " وبعثت إلى الناس كافة وختم بي النبيون" " وقال أيضًا "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي".
وبهذا جاء أخيرًا النبي الذي أعلن صراحة أنه خاتم النبيين فلا نبي بعده، ولقد ثبت صدق رسالته وصدقه هو أيضًا، وإذا خلص المرء إلى وجوب تصديق النبي (صلى الله عليه وسلم) أو إلى أن القرآن حق فإنه يخلص إلى الإيمان بهذه القضية أيضًا.
وبناءً عليه، فإنه لا يحق لأحد أن يؤمن بالأنبياء الآخرين بينما لا يؤمن بالنبي محمد، كما لا يحق لأحد أن يقول أن محمدًا صادق لكنني "أفضل أن أظل أتبع عيسى أو موسى بدلًا منه". ومن الناحية المنطقية لا يتوقع أحد أن يقبل الله هذا منه، فلقد أرسل الله رسوله الخاتم لكي يؤمن الناس به ويتبعوه حيث أبطل وألغى ما تبقى من تعاليم الأنبياء السابقين. ويصف الله هذا النهج في القرآن بقوله ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ﴾ (البقرة: 91). ولقد وصف الله من يتبعون هذا النهج بأنهم مشركون وقال عنهم ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا (١٥٠)أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (١٥١)وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (١٥٢)﴾ (النساء: 150-152).
ولقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم) "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بي إلا كان من أصحاب النار"، بل ولقد أخبر النبي (صلى الله عليه وسلم) أحدًا من أصحابه يومًا قائلًا "لو كان موسى حيًا ما وسعه إلا اتباعي."
وباختصار، فإن هناك من الإشارات ما تدل على قدوم النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) قبل بعثته كما أن صدق وأمانة النبي أمر لا ريب فيه، وقد ثبت حفظ الله للكتاب الذي أرسله به، كما أن جميع الدلائل تشير إلى نبوته، فيجب الإيمان بما جاء به باعتباره نبيًا. ولقد أعلن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه خاتم الأنبياء، وقال أن البشرية جمعاء يجب عليها أن تختار اتباعه، فهذا هو الاختيار الذي يواجه الناس أجمعين ومن المؤمل أن يتخذ الناس القرار المنطقي الصائب.
الإسلام
تعريف الإسلام
الإسلام لغة هو مصدر الفعل [أسلم]، والذي يعني "أذعن وانقاد"، ومن ثم فإن الإسلام هو فعل الاستسلام والانقياد، وأما "مسلم" فهو اسم الفاعل من الفعل الذي يعني "أسلم". وبناءً عليه فإن المسلم هو من ينقاد أو يذعن.
ومما تقدم نلاحظ أن كلمة الإسلام لا تعني "السلام" على الرغم من أن المرء يسمع الكثيرين يؤكدون على هذا المعنى مؤخرًا. ومن الصحيح أن كلمة إسلام وكلمة "سلام" مشتقتان من المصدر نفسه، كما أنه مما لا ريب فيه أن هناك صلة وثيقة بين الكلمتين: فالإسلام هو منبع السلام الحق. ومن المؤكد أن المقصود هنا ليس السلام بمعنى "انتفاء حالة الحرب"، فالسلام يعني ما هو أكثر من هذا بكثير، فالمرء قد لا يكون في حالة حرب لكنه ما زال يعاني من القلق والإحباط والافتقار إلى السلام. ويشير السلام في هذا السياق إلى الإحساس الغامر بالاطمئنان. فالإسلام يحدث لدى المرء إحساسًا بالطمأنينة والسلام الروحي الذي ينجم عن إدراك المرء أنه يؤمن ويتصرف بما يتوافق مع هداية خالقه. وهذا الإحساس بالسلام الداخلي ما يلبث حتى ينتشر في أفراد الأسرة والمجتمع والعالم كله . فهو إحساس خاص بالطمأنينة لا ينجم إلا عن الإيمان الحق بالله. ومن ثم فإن الله تعالى يقول ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ﴾ (المائدة: 16)، وأما بالنسبة لمن يتبع هذا الصراط فإن مكافأتهم سوف تكون دار السلام ﴿لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧)﴾ (الأنعام: 127). وباختصار، فإنه من غير الصحيح أن نقول أن "الإسلام يعني السلام" ولكن من المؤكد أن السلام الحق لا ينبع إلا من الإسلام.
ومن الناحية الاصطلاحية فإن كلمة الإسلام لها ثلاثة استخدامات بارزة: (1) مصطلح يستخدم للإشارة إلى دين الله الحق منذ بدء الخليقة؛ (2) مصطلح يستخدم في يومنا هذا للإشارة إلى الدين الذي جاء به خاتم الأنبياء محمد (صلى الله عليه وسلم) ؛ (3) مصطلح يشير إلى الفعل الظاهري بالاستسلام لله كمقابل للفعل الباطني للإيمان. وسوف نناقش هنا بمزيد من التفصيل التعريفين الأول والثاني وأما التعريف الثالث فسوف نناقشه في موضع آخر.
الإسلام: دين جميع الأنبياء
أوضحنا سابقًا أن كلمة "إسلام" تعني لغةً الانقياد والإذعان، وتعني اصطلاحًا "التسليم والطاعة الحق لله الواحد". ولهذا يقول محمد منظور نعماني:
"ومن الناحية الحرفية يشير الإسلام إلى الاستسلام النفسي أو أن يسلم المرء نفسه إلى آخر ويتقبل ويذعن لسيادته بكل ما تحمله الكلمة من معان. ولقد أطلق على الدين الذي أرسله الله وبلغه نبيه إلى هذه الدنيا لفظ الإسلام لأن المرء يسلم بمقتضاه نفسه كليًا لقدرة الله ويجعل الطاعة الكاملة له هو المبدأ الجوهري لحياته. وهذا هو خلاصة وجوهر العقيدة الإسلامية..."
وبناءً عليه، فإنه بموجب هذا المعنى كان الإسلام هو دين جميع أنبياء الله، وفي حقيقة الأمر فلقد كان هو أيضًا دين جميع أتباعهم. وبعبارة أخرى، فإن كل مؤمن حق منذ عهد آدم وحتى آخر مؤمن على ظهر الأرض يؤمن بالإسلام ويعد مسلمًا. أضف إلى هذا أنه الدين الوحيد الذي أمر الله البشرية باتباعه. ومن ثم فإن الإسلام هو الدين الوحيد عند الله. يقول الله تعالى ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ﴾ (آل عمران: 19)، كما يقول الله أيضًا ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٨٥)﴾ (آل عمران: 85).
ويوضح الله تعالى في عدة مواضع في القرآن أن دين وعبادة جميع الأنبياء كان الإسلام. وعلى سبيل المثال، يقول الله تعالى على لسان نوح بعد أن أوضح حقيقة إيمانه لقومه ﴿فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢)﴾ (يونس: 72).
وأما الفقرة التالية فإنها جاءت على لسان إبراهيم وبها من الفائدة ما يجعلنا نقتبسها كاملة:
﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧)رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨)رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩)وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠)إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (١٣١)وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢)أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣)تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤)وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥)قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦)فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧)صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (١٣٨)قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩)أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠)تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١)﴾ (البقرة: 127-141).
وهناك عدد من النقاط التي تستحق الوقوف عليها في هذه الآيات. أولًا، على الرغم من أن الغرب غالبًا ما يطلق على إبراهيم "أبو التوحيد"، ومما لا ريب فيه أن إبراهيم كان موحدًا خالصًا وأحد الذين أسلموا أنفسهم لله على وجه اليقين (بمعنى أنه كان مسلمًا حقًا)، لكن على الرغم من هذا لم يكن إبراهيم بأي حال من الأحوال مؤسس التوحيد. فلقد كان التوحيد دين آدم ودين جميع المؤمنين الصادقين مثل نوح الذي بعث بين عصري آدم وإبراهيم. ولقد كان الإيمان بربوبية الله وحده والاستسلام له دائمًا ركنًا من أركان دين الله الحق.
كما تظهر هذه الآيات أيضًا أن إبراهيم لم يكن يهوديًا أو نصرانيًا فلم يخضع إبراهيم أو يتبع التوراة التي نزلت على موسى بعد أن انتقل إبراهيم إلى الرفيق الأعلى، كما لم يكن إبراهيم من نسل يهوذا. ومن الواضح أيضًا أن إبراهيم لم تربطه أية علاقة بالعقائد المسيحية فيما يتعلق بالثالوث. لقد كان مسلمًا أسلم نفسه كليًا للهداية التي جاءت من عند الله وحده. ومن ثم فإن أوثق رباط بينه وبين أي بشر هو الرباط بينه وبين من يتبع الصراط نفسه وهو ما يعني النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) ومن يتبعه. ولهذا يقول الله تعالى ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨)﴾ (آل عمران: 68).
ولقد كان موسى أيضًا مسلمًا يتلقى الوحي من عند الله، مسلمًا نفسه كليًا لله وحده وآمرًا قومه بالشيء نفسه. يقول الله تعالى ﴿وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤)﴾ (يونس: 84). ولقد كان الإسلام أيضًا دين جميع أنبياء بني إسرائيل، وفي إشارة إليهم يقول الله تعالى ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا...﴾ (المائدة: 44).
فموسى على سبيل المثال لم يكن لينكر نبوة أحد الأنبياء وهو عيسى كما فعل اليهود، ولم يكن موسى لينعت النبي عيسى بمختلف أنواع الأوصاف غير اللائقة التي نعته بها اليهود .
لقد كان عيسى نبيًا من أنبياء الله الذين اتبعوا الإسلام وأسلموا لله وحده، وقد علم الدين الذي جاء به للحواريين. يقول الله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢)﴾ (آل عمران: 52).
لقد كان عيسى بشرًا شأنه في ذلك شأن جميع الأنبياء الآخرين، ولم يدع قط أنه إله أو نصف إله. بل إن قراءتنا للعهد الجديد يمكن أن تقودنا إلى أن عيسى لم يصدر منه شيء قط يتعلق بمبدأ التثليث وجميع العقائد الأخرى التي اعتنقها المسيحيون بعد ذلك، وفي حقيقة الأمر أوضح الله تعالى بما لا يدع مجالًا للشك أن عيسى لم يطلب من أحد أن يتخذه إلهًا:
﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ (١١٦)مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧)إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨)﴾ (المائدة: 116-118).
ومن ثم فإن أخوة الإسلام ورباط الإيمان الحق يمتدان ويتصلان من آدم إلى نهاية الزمان، ويستوعبان جميع الأماكن والشعوب، والمؤمنون بحق هم من يحب بعضهم بعضًا، ويتعاونون فيما بينهم وهذه بلا أدنى ريب الأخوة المباركة التي لا تضاهيها أخوة.
وعلى وجه الدقة، يؤمن المسلمون بحق على مدى العصور بجميع الأنبياء، فهم يناصرونهم ويذبون عن مكانتهم، وتقع مسؤولية الدفاع عن الأنبياء على عاتق أتباع النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) في يومنا هذا على وجه الخصوص. وأما معتنقي العقائد الأخرى فلا يشعرون بوخز الضمير إذا ما تحدثوا بطريقة غير لائقة عن أنبيائهم أو سخروا منهم، ناهيك عن الأنبياء الذين ينكرون نبوتهم. ولذلك فإنه يبدو أن أتباع محمد فقط هم المستعدون للوقوف موقف الذب عن أعراض هؤلاء الأنبياء الشرفاء. ولا يكاد المرء يجد مسلمًا تقيًا يتحدث بطريقة مسيئة عن إبراهيم أو إسحاق أو موسى أو عيسى أو أي نبي من الأنبياء، بل على النقيض من ذلك، فهم يوقرون ويجلون ويحبون جميع الأنبياء وينزلونهم منزلتهم التي يستحقونها.
الإسلام: دين النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)
لقد أوضحنا أن الإسلام أو الاستسلام الخالص لله وحده وعبادته هو دين جميع الأنبياء والمؤمنين من لدن آدم، ومع ذلك فإنه بعد بعثة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) أصبح من الضروري وضع علامة فارقة أخرى.
قبل عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) كان بوسع المرء أن يقول أنه كانت هناك صور متعددة من الإسلام بمعنى أنه كان لكل قوم نبيهم الذي يتبعون تعاليمه، وكانوا بذلك على صراط الإسلام، وكان إذا جاءهم نبي جديد من سلسلة الأنبياء المتصلة لم يكن أمامهم خيار إلا اتباع النبي الجديد. وكما أوضحنا سابقًا فإن من كان ينكر نبوة آخر أنبياء الله لم يكن ليعد مستسلمًا لله بحق ولو لم يكن مستسلمًا لله بحق فهو لا يعد "مسلمًا".
وبناءً عليه فإنه بعد عهد النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) أضحت هناك طريقة واحدة مقبولة من العبادة والاستسلام لله وهي: الصراط الذي دعا إليه النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) ، فهذا هو الصراط الوحيد الذي يمكن أن يوصف في يومنا هذا على أنه "الاستسلام لإرادة الله". وأي فرد لا يؤمن بالنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) بغض النظر عن عدد الأنبياء الآخرين الذين يؤمن بهم لا يعد مستسلمًا لله ولا يعتبر مسلمًا.
ومن المثير للاهتمام أن نلحظ أن الدين الوحيد الذي لم يتغير "الاستسلام لله" أو الإسلام هو دين خاتم الأنبياء محمد (صلى الله عليه وسلم). وتسمى الأديان الأخرى المعروفة بأسماء أفراد أو شعوب أو أماكن. وطبقًا لمايكروسوفت إنكارتا (Microsoft Encarta) فإن مصطلح اليهودية لم يكن موجودًا في اللغة العبرية القديمة، والكلمة تشير إلى يهوذا. وبلا أدنى ريب تسمى المسيحية باسم المسيح تمامًا مثلما تسمى البوذية باسم بوذا. ويرتبط اسم الهندوسية بالمكان الذي هو هندستان ولكن اقتضت حكمة الله ورحمته أن يكون اسم الدين الحق الوحيد للاستسلام لله الذي هو دين جميع الأنبياء محفوظًا للإشارة إلى بعثة خاتم الأنبياء الذي بعثه الله للبشرية جمعاء .
وباختصار، فإن الخيار الوحيد المتبقي لنا في يومنا هذا لكي نسير على صراط الإسلام ونتبع نهج جميع الأنبياء السابقين هو اتباع النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) . وقد أشرنا سابقًا إلى حديث النبي (صلى الله عليه وسلم) عن موسى " لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي".
إن الدعوة عامة للجميع لكي يتبعوا هدي النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، وقد أوضح النبي (صلى الله عليه وسلم) في حديث بالغ الدلالة أن بعض الملائكة أتت له وهو في نومه:
(جاءت ملائكة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو نائم، فقالوا إن لصاحبكم هذا مثلًا فاضربوا له مثلًا قال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان. فقالوا: مثله كمثل رجل بنى دارًا وجعل فيها مأدبة وبعث داعيًا، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة. فقالوا: أولوها له يفقهها. قال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان فقالوا: الدار الجنة، والداعي محمد، فمن أطاع محمدًا فقد أطاع الله، ومن عصى محمدًا فقد عصى الله، ومحمد فرق بين الناس).
وفي حديث آخر قال النبي (صلى الله عليه وسلم) : كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا ومن يأبى يا رسول الله فقال من أطاعني فقد دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى" . والأمر في بساطته هو: أن هناك من يرفض أن يتبع النبي، ومن دواعي الأسف عليهم أنهم سيتحتم عليهم تحمل عواقب اختيارهم.
ونكرر أن الدعوة عامة أمام الجميع وهي دعوة إلى الاعتقاد بأصدق عبارة وهي لا إله إلا الله. ولكن إذا رفض البعض فعليهم أن يشهدوا أن المسلمين قد قرروا أن يسلموا أنفسهم لله وحده. وبناءً عليه فإن الله تعالى يقول ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤)﴾ (آل عمران: 64).
الإسلام والدين
وقبل أن نختتم مناقشتنا فيما يتعلق بتعريف كلمة إسلام فإننا نسوق ملحوظة تتعلق بالكلمة نفسها وبمفهوم الدين. ونحن بحاجة إلى مقارنة الكلمة الإنجليزية (religion) بمقابلها في العربية وهو "دين" حيث وُصف الإسلام في ثنايا القرآن بأنه الدين.
تستخدم كلمة دين كثيرًا ولكن بمنظور ضيق؛ فهي تختص على سبيل المثال بعقيدة المرء عن الله وعادةً ما تشمل بعض شعائر العبادة التي قد يمارسها البعض. وقد تعكس الكلمة بعض القيم الأخلاقية وعددًا محدودًا من السلوكيات الأخلاقية. ومع ذلك فإنه بالنسبة للكثير ما تزال أجزاء كبيرة من معيشتهم خارج نطاق الدين. وبعبارة أخرى، فإن الدين بالنسبة لهم ليس "أسلوب حياة كامل" تهتدي فيه جميع مظاهر حياتهم بمبادئه وتعاليمه.
وفيما يلي بعض التعريفات التي وردت في بعض المعاجم لكلمة "religion":
1. العمل أو السلوك الذي يشير إلى الإيمان بقوة إلهية وتوقيرها ورغبة في إرضائها. وهي أيضًا ممارسة وأداء الشعائر والطقوس التي تشير إلى هذا. (معجم أكسفورد للغة الإنجليزية Oxford English Dictionary).
2. اعتراف الإنسان بوجود قوة عليا غيبية تتحكم في القدر وتستحق الطاعة والتوقير والعبادة والسلوك العقلي والأخلاقي العام الذي ينتج عن هذا الاعتقاد مع مراعاة أثره على الفرد أو المجتمع وقبوله الشخصي أو العام لهذا الشعور كمعيار للحياة الروحية والعملية (معجم أكسفورد للغة الإنجليزية Oxford English Dictionary).
3. العقائد والعبادة: عقائد وأراء الناس فيما يتعلق بوجود وطبيعة وعبادة رب أو أرباب والتدخل الإلهي في الكون وحياة الإنسان (مايكروسوفت إنكارتا Microsoft Encarta).
4. نظام معين: نظام مؤسسي أو شخصي معين من العقائد والعبادات التي تتعلق بالإله (مايكروسوفت إنكارتا Microsoft Encarta).
5. العقائد أو القيم الشخصية: مجموعة من العقائد والقيم والسلوكيات التي يعتنقها المرء بشدة ويحيا بها (مايكروسوفت إنكارتا Microsoft Encarta).
على الرغم من أن بعض هذه التعريفات يقترب من معنى الدين إلا أنه لا يوجد منها ما يعطي تصورًا كاملًا عن ماهية الدين. وبعبارة أخرى، فإن الإسلام يعني ما هو أكثر من الانطباع الذي يترسخ لدى المرء من مطالعة هذه التعريفات لكلمة دين "religion" وهو ما جعل كاتب السطور يخشى أنه عندما يفكر القارئ في الإسلام كدين فإنه ربما يحيله إلى إحدى التعريفات السابقة وهو ما يؤدي إلى أنه لن يقدر المعنى الكامل لكلمة الإسلام. ولهذا رأينا ضرورة مناقشة الأمر بمزيد من التفصيل.
وفي حقيقة الأمر فإن كلمة دين تتكون من عدة عناصر بجانب معناها الأصلي . وقد حاول أبو الأعلى المودودي أن يلخصها جميعًا في فقرة واحدة جامعة:
[ومن ناحية المعنى فإن الكلمة تعني] أسلوب حياة كامل بمقتضاه يسلم المرء نفسه وطاعته إلى آخر يعتبره صاحب السلطة المطلقة، ويشكل سلوكه تبعًا للحدود والشرائع والقوانين التي وضعها هذا الإله وينتظر منه الاعتراف به وتكريمه ومكافأته على طاعته وولائه ويخشى عذابه وعقابه الذي قد يتسبب فيه أي تقصير من جانبه. وربما لا توجد كلمة في لغة أية دولة أو شعب - باستثناء المسلمين - يمكنها أن تشمل في طياتها جميع هذه العناصر المجتمعة .
ونلحظ أنه لا يوجد من بين التعريفات السابقة للدين ما ينص صراحة على أن الدين يشمل كل لحظة وكل مظهر من مظاهر حياة المرء وهو ما نجده في مفهوم الدين. وعلى سبيل المثال، فإننا لو قمنا بتعديل التعريف الأخير فإنه قد يصبح صحيحًا: "مجموعة من العقائد والقيم والسلوكيات التي يعتنقها المرء بشدة ويحيا بها وتخالط جميع مظاهر حياته" وبهذا تشمل جميع مظاهر التفاعلات الاجتماعية مما يعني أنها تتخطى حاجز "العقائد أو القيم الشخصية" كما نجدها في التعريف الخامس.
ثانيًا: بعض هذه التعريفات تعوزها الإشارة لمفاهيم الطاعة والعبادة وهي المفاهيم التي تعد أساسية في مصطلح "دين" . ويدرك التعريف الثاني جزءًا منها: "اعتراف الإنسان بوجود قوة عليا غيبية... تستحق الطاعة والتوقير والعبادة" ويمكن أن يتم تعديل هذا التعريف بتغيير "الطاعة" إلى "الطاعة المطلقة".
ثالثًا، ومن العناصر المهمة في كلمة "دين" أيضًا هي قبول سلطة الإله مما ينتج عنه الرغبة في الاستسلام له واستيعاب أن الاستسلام له هو الحق والصواب. وبعبارة أخرى، فإن المرء يعترف بأن هذه العلاقة صحيحة ومن ثم فإنه يريد أن يكمل دوره فيها. ويحيط التعريف الأول تقريبًا بهذا المفهوم: " الذي يشير إلى إيمان بقوة إلهية وتوقيرها ورغبة في إرضائها ".
وعلى الرغم من أن هذه العناصر موجودة في ثنايا التعريفات المختلفة للدين التي تقدم ذكرها، إلا أنه يتحتم شموليتها جميعًا في تعريف واحد للكلمة العربية "دين". وبعبارة أخرى، فإنه يجب أن تكون جميع تلك التعريفات موجودة لاستيعاب الإسلام كدين.
وباختصار، فإن كلمة دين من الناحية الدينية تعني تسليم المرء لنفسه طوعا لسلطة الإله المطلقة مع العبودية الخالصة في جميع مناحي الحياة وشمولية تنفيذ جميع الشرائع المنزلة من الإله، مع الاعتراف بأن هذا هو حق الإله وإدراك أن هذا هو أنبل غايات المرء، وهذا هو ما تعنيه كلمة دين من منظور إسلامي وما هو متوقع من المسلمين.
أصول الإسلام ومصادره
هناك مصدران أساسيان فقط للإسلام: القرآن الكريم وسنة النبي (صلى الله عليه وسلم) . فهذان المصدران هما المصدران الأساسيان في الإسلام لأنهما يمثلان الوحي المنزل على النبي (صلى الله عليه وسلم) من الله عز وجل. فلقد أوحى الله تعالى إلى النبي القرآن والسنة. ومن ثم تنبني كافة العقائد والأعمال على هذه الأسس: فإذا وافق العمل أو العقيدة هذه الأسس، يمكن أن يكون مقبولًا في الإسلام؛ أما إذا تناقض معهما، فلابد من رفضه.
وقد عرجنا فيما سبق على إعجاز القرآن وحفظه. ومع ذلك، يمكن أن نستطرد في الحديث عن القرآن. فالقرآن شديد الاختلاف عن الكتاب المقدس، إذ أنه لا يتألف من قصص يرويها بشر عن أنبياء مختلفين، مع اقتباس كلام نبي ما من حين لآخر. لكن القرآن الكريم كلام الله، نزل به جبريل مباشرة بوحي من الله تعالى إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) . ولقد تلقى النبي لفظه كما هو ونقله إلى أتباعه. ولقد حفظ هذا الوحي وسجل وتواتر بلفظه الذي نزل به. ومن ثم، فإن الله والله وحده هو من يتحدث في القرآن. وليس هناك في القرآن تعليقات أو فقرات أو اقتباسات مأخوذة عن أي بشر مهما كان.
ولذلك كان أسلوب القرآن فريدًا من نوعه. فهو كلام الله إلى قلوب وعقول وأرواح البشر. وهو ينتقل من موضوع لآخر بطريقة رائعة. فهو يلتفت بين المتكلم والمخاطب والغائب وأحيانًا يجري الكلام على لسان القارئ. وهو يلتفت بسلاسة من صفات الله إلى شرائعه الخاصة بالميراث والأطعمة وما إلى ذلك، ودائمًا ما يذكرنا في نهاية المطاف بأن الهدف الأسمى هو طاعة الله. وهو بلغته العربية الأصلية شديد الإثارة للمشاعر كما أنه شديد الجمال (أما اليوم فقد ترجمت "معاني" القرآن إلى لغات كثيرة. ومع ذلك، لا تعتبر أية ترجمة من هذه الترجمات قرآنًا . فليس هناك قرآن إلا القرآن الأصلي المنزل باللغة العربية. ومن ثم، فلا يستخدم في الصلوات والشعائر إلا القرآن العربي الأصلي الحقيقي).
لم ينزل القرآن على النبي جملة واحدة. وإنما نزل منجمًا طوال فترة امتدت ثلاثة وعشرين عاما ليوجه الرعيل الأول من الأمة الإسلامية في كل خطوة اتخذوها. وهكذا حول القرآن هذا الرعيل الأول تحويلًا كاملًا إلى جيل تقي. وقد ضرب في الوقت نفسه المثل من خلال هذا الرعيل لجميع الأجيال الإسلامية اللاحقة التي ستواجه بعض الظروف التي تشبه ما واجهه هذا الرعيل. وقد حول عربا كانوا على هامش العالم المتحضر في ذلك الوقت إلى قادة حضارة عظيمة لا يزال تأثيرها مستمرًا حتى يومنا هذا. وعندما يقرأ القرآن ويفهم ويطبق بشكل مناسب اليوم، فإنه سيحول الأفراد أو المجتمع أيضا ويرفعهم إلى أعلى مقامات التقوى والقرب من الله.
وبالإضافة إلى القرآن، هناك أقوال النبي (صلى الله عليه وسلم) وسيرته. فكما ذكرنا من قبل، لا تستمد سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مرجعيتها من كونه شريكًا مع الله أو نصف إله كما يقولون. ولكنه كان بشرًا مثل جميع الأنبياء الآخرين. لكن طاعة النبي (صلى الله عليه وسلم) هي طاعة الله. فالله نفسه هو الذي يثبت في القرآن وجوب طاعة النبي. ومن ثم، فإن اتباع سنة النبي ما هو إلا طاعة لله وخضوع له. وهذا ما أشار الله إليه بقوله: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ (النساء: 80)
ويوضح الله في القرآن أنه إذا أحب المرءُ اللهَ وأراد أن يحبه اللهُ في المقابل، فالسبيل إلى ذلك هو اتباع سنة النبي (صلى الله عليه وسلم) . يقول الله تعالى: "قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾. (آل عمران: 31)
ويقول القرآن الكريم عن النبي (صلى الله عليه وسلم) : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (٢١)﴾ (الأحزاب: 21)
ولقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) بطريقة ما "قرآنا يمشي على الأرض". فعندما سئلت عائشة زوج النبي (صلى الله عليه وسلم) عن خلقه وسلوكه، قالت: "كان خلقه القرآن".
وهناك علاقة مهمة للغاية بين القرآن والسنة، حيث تبين السنة كيفية تطبيق القرآن؛ فهي شرح عملي لتعاليم القرآن، كما أنها تحدد أخلاق وسلوكيات وشرائع القرآن بطريقة تبين معناه. وكما ذكرنا من قبل، يعتبر هذا التجسيد البشري الكامل لآداب القرآن نعمة كبرى ورحمة للمسلمين، فهو يجعل هداية الله هداية كاملة وممكنة التطبيق للجميع.
وهكذا، يشكل القرآن والسنة وحدة واحدة تقدم كافة مبادئ الهداية التي سيحتاجها البشر إلى يوم الدين.
مراتب الإيمان
في الحديث المشهور، سأل جبريل النبي (صلى الله عليه وسلم) بعض الأسئلة بغرض تعليم الناس أمور دينهم. وفيما يلي جزء من ذلك الحديث:
قال (جبريل): "يا محمد أخبرني عن الإسلام"، فقال له :"الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا"، قال: "صدقت"، فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: "أخبرني عن الإيمان" قال :"أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"، قال: "صدقت"، قال: "فأخبرني عن الإحسان "الخ
يبرز هذا الحديث الاستخدام الثالث للفظ الإسلام: وهو العمل الظاهري الذي يجسد التسليم لله مقارنة بأعمال الإيمان الباطنية. وبناءً على هذا الحديث، يمكن القول بأن هناك مراتب "للإيمان" أو "التدين": "الإسلام" و"الإيمان" و"الإحسان". وتستحق كل مرتبة من هذه المراتب مناقشة منفصلة.
مرتبة "الإسلام"
عند مقارنته "بالإيمان"، يشير الإسلام (التسليم) إلى الأعمال الظاهرية أو بعبارة أخرى الأعمال الفعلية التي يؤديها المرء.
فردًا على سؤال جبريل، سرد النبي (صلى الله عليه وسلم) بعض أعمال الإسلام بمعنى التسليم. ومن الواضح طبعًا أن هذه ليست هي أعمال الإسلام الوحيدة، إذ أن كل عمل صالح يؤدى بنية إرضاء الله وفقًا لوحيه يعتبر عملًا من أعمال الإسلام. ومع ذلك، تلعب الأعمال المحددة التي ذكرها النبي (صلى الله عليه وسلم) في هذا الحديث دورًا خاصًا. ويشار إليها في مجملها "بأركان الإسلام الخمسة"، كما قال النبي (صلى الله عليه وسلم) في الحديث الآخر "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان".
وكما كتب كاتب هذه الأسطر في موضع آخر يقول:
هنا أعطى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مثلًا رسم فيه صورة للإسلام تشبه صورة منزل؛ فأُسُسُ أو أركانُ هذا المنزل خمسة، فإذا فقد المنزل هذه الأركان الخمسة، فهذا المنزل غير موجود أصلًا. وتشبه الأعمال الأخرى في الإسلام أجزاءً تكميلية أو أجزاءً تضيف إلى اكتمال المنزل، فإذا فُقد أي جزء من الأجزاء التكميلية، ظل المنزل قائمًا ولكن كان به عور، فلا يكون كاملًا أو تامًا. وإذا فقدت جميع الأركان، فلن يظل المنزل قائمًا أو موجودًا، وإذا فُقد الركن الركين ، فلا يمكن أن تقوم للمنزل قائمة أو يقال أنه موجود أصلًا.
نقدم في هذا الجزء وصفًا مختصرًا للأركان الخمسة مع مناقشة بعض الفوائد بعيدة المدى لهذه الأركان.
الركن الأول هو الشهادتان. يبين هذا الركن الأول أن الإسلام ليس شيئًا يدعي وجوده في القلب بدون تصديق علني له. فلا يقصد بالتسليم لله أن يكون هذا التسليم تسليمًا غير علني، ولكنه تسليم علني حيث إنه القوة الدافعة للأعمال الظاهرية التي يؤديها المرء. وهكذا، بكل اقتناع وإيمان وإخلاص وصدق، يشهد المرء أنه لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
وفي الحقيقة، بدون هذا الركن، لا يكون هناك معنى للأعمال الأخرى. فلابد من بناء الأعمال الأخرى على أساس من الإيمان. ولا يستطيع المرء أداء أي عمل لإرضاء الله حق إرضائه دون الإيمان أولًا بالله ورسوله، إذ أن هذا الإيمان يسوق المرء إلى الأعمال الإيمانية الأخرى. وأول عمل يهدي إليه هذا الإيمان هو نطق الشهادتين. ومن ثم، فإن ذلك هو نقطة البداية لكافة الأسس الأخرى.
الركن الثاني هو "إقام الصلاة". وهذا الركن لا يعني ببساطة إقامة الصلاة حينما أو كيفما شاء المرء أن يصلي. فهناك صلوات أساسية شعائرية يجب على كل مسلم أداؤها كعلامة أساسية على رغبته في التسليم لله. هذه الصلوات هي خمس فرائض كل يوم، ولها أوقات ثابتة. فوقت الصلاة الأولى هو ما بين الفجر والشروق. ويبدأ وقت الصلاة الثانية بعد الزوال مباشرة. ويبدأ وقت الصلاة الثالثة وهي صلاة العصر، عندما يصير ظل كل شيء مثله. ويبدأ وقت الصلاة الرابعة بعد الغروب مباشرة. ويكون وقت الصلاة الخامسة عند الليل. ومن ثم، مع قضاء المسلم ليومه لا يكون هناك أية فترة زمنية يكون فيها بعيدا عن الصلاة الأساسية، حيث تواصل هذه الصلوات المتكررة تذكيرها للشخص بعلاقته بربه وغرضه الحقيقي في الحياة.
وبصفة عامة، يفترض أداء هذه الصلوات في جماعة بالمسجد. ولذلك، تنتشر مساجد كثيرة في بلاد المسلمين. ويقوم شخص بدعوة المؤمنين للصلاة من خلال عبارات معينة من بينها "حي على الصلاة، حي على الفلاح". وفي المسجد، يقف المصلون صفوفًا مستقيمة خلف الإمام، ويتجه الجميع نفس الاتجاه نحو مكة. وتؤدى الصلاة باللغة العربية وتنطوي على قراءات من القرآن الكريم. وتتألف الصلاة أيضا من ركوع وسجود. وإذا جاب أي شخص العالم، فسيجد المسلمين يصلون بنفس الطريقة وبنفس الألفاظ والتعبيرات العربية. وهكذا عندما يدخل المسلم أي مسجد في العالم فإنه يشعر على الفور بأنه في بيته وبين إخوانه وأخواته في الدين. فليس هناك ثمة حاجة للبحث عن "مسجد فيتنامي أمريكي " أو "مسجد ألماني" أو أي شيء من هذا القبيل. ويعلم الجميع كيفية أداء الصلاة، ويفهم الجميع ما يحدث ويصلي الجميع معًا بغض النظر عن الخلفية أو الحالة الاجتماعية أو الجنس أو غير ذلك. ويصلي الجميع بنفس الطريقة التي صلى بها النبي (صلى الله عليه وسلم) . (فحيث إن المرء يعلم أن هذه هي الطريقة التي صلى بها النبي، فإنه يشعر بالرضا الكامل لأن هذه هي الطريقة التي ترضي الله).
إن الصلاة نوع من أنواع تطهير الإنسان. فالمؤمن يقف بين يدي ربه خمس مرات في اليوم. وكما أشرنا فيما سبق، لابد وأن يحمي هذا الوقوف المتكرر أمام الله الشخص من ارتكاب المعاصي أثناء اليوم. وعلاوة على ذلك، ينبغي أن يكون هذا الوقت أيضًا وقتًا للندم والتوبة بحيث يلح في طلب المغفرة من الله على ما اقترفه من آثام. وبالإضافة إلى ذلك، تعتبر الصلاة في حد ذاتها عملًا صالحًا يمحو بعض السيئات التي يرتكبها المؤمن. ويمكن ملاحظة هذه الأشياء في الحديث التالي للنبي (صلى الله عليه وسلم): "أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم، يغتسل فيه كل يوم خمسا، ما تقول ذلك يبقي من درنه؟ قالوا: لا يبقي من درنه شيئا. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بها الخطايا".
ولقد ذهب أكثر أهل العلم إلى أن الصلوات المفروضات هي الحد الأدنى للعبادة المفروضة على المسلم. فإذا لم يرغب الشخص في أداء هذه الصلوات بشكل يومي، فلا يمكن أن يقال عنه أنه يرغب في التسليم لله حقا. ومن ثم، لا يمكن اعتباره مسلمًا حقيقيًا.
الركن الثالث من أركان الإسلام هو أداء الزكاة. وأصل كلمة "زكاة" في اللغة هو التطهير والبركة والنماء. وهناك مرادف آخر للزكاة يستخدم في القرآن والحديث وهو الصدقة. وتشتق هذه الكلمة من الصدق. ويبين "صديقي" أهمية هذين اللفظين المستخدمين هنا فيقول:
تحمل كلتا الكلمتين الكثير من المعاني، حيث يطهر إنفاق الأموال في سبيل الله قلب الإنسان من حب المال، فالشخص الذي ينفق هذه الأموال يخرجها صدقة متواضعة لربه ويؤكد بذلك أنه لا شيء أعز إليه في الحياة من حب الله وأنه على استعداد تام للتضحية بكل شيء في سبيله.
وفي الشريعة الإسلامية، تشير كلمة "زكاة" في الاصطلاح إلى جزء محدد من مال المرء يجب إخراجه سنويًا لمجموعة محددة من المستحقين مثل الفقراء والمساكين.
ولا يقتصر البر في الإسلام، على المشاعر الفردية المخلصة لدى الفرد أو عبادته الشخصية. وإنما يجب أن يتعدى البر أيضًا إلى الآخرين في المجتمع بل والعالم ككل. وتجعل الزكاة الفرد يدرك أنه ليس معزولًا عن الآخرين، وإنما يكون كل فرد واحدًا من المجتمع وخاصة المجتمع الإسلامي. ويتمتع الأفراد المختلفون في هذا المجتمع بحقوق ومسؤوليات تجاه بعضهم البعض. ويكون التفاعل المناسب مع الآخرين في المجتمع جزء من عبادة المرء لله.
وتذكر الزكاة أيضًا الفرد بأن المال الذي يملكه نعمة من الله. وفيما يتعلق بتوزيع الرزق في الحياة الدنيا، فإن أكثره يعتمد على ما يسميه الناس "حظًا" مثل الميلاد في الأسرة ذات وضع حسن، والتي تعيش في الوقت والمكان الصحيح وتواتيها فرص ممتازة. ولكن هذا ليس "حظًا"، إذ أن جميع هذه الأشياء أقدار مختلفة قدرها الله لكل فرد. ومن هنا، لابد أن يشكر المرء الله ويكون على استعداد للجود ببعض ماله الذي رزقه الله به.
أما الركن الرابع من أركان الإسلام، فهو صوم الشهر التاسع من التقويم الإسلامي هو شهر رمضان. ويعني هذا الصوم الامتناع عن الطعام والشراب والجماع طوال النهار من الفجر حتى الغروب في كل يوم من أيام هذا الشهر.
إن الصوم وسيلة لضبط النفس والتقوى والخوف من الله. ولقد كتبه الله على الأنبياء قبل بعثة النبي (صلى الله عليه وسلم). وفي الآيات التي تفرض صوم شهر رمضان، يبين الله الهدف أو الغرض منه حيث يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣)﴾ (البقرة: 183).
لاحظ أن الصوم أكثر بكثير من مجرد الامتناع عن الطعام والشراب والجماع، حيث يفترض أنه وقت تزيد فيه التقوى زيادة كبيرة. وينبغي أن ينعكس هذا المستوى المتزايد من التقوى في كل شيء يفعله الفرد أثناء الصوم. ولقد أشار النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى هذه الحقيقة عندما قال: "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر". وقال النبي (صلى الله عليه وسلم) أيضا: "ليس الصيام من الأكل والشرب وإنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابك أو جهل عليك، فقل إني صائم، إني صائم". وأخيرا، قال النبي (صلى الله عليه وسلم) أيضا: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".
الركن التالي من أركان الإسلام والوارد في هذه الرواية من الحديث هو حج بيت الله أو الكعبة. وهو في الشريعة الإسلامية يعني السفر إلى مكة في الشهر الأخير من التقويم الإسلامي بغرض عبادة الله وحده. والواجب على المسلم أداء فريضة الحج على الأقل مرة واحدة في العمر إذا توفرت له الوسائل المادية والمالية لأدائه.
جزء من الحج يرتبط بتذكر ما فعله سيدنا إبراهيم وزوجته هاجر وابنهما إسماعيل في وادي مكة، حيث يسير المرء على خطاهم ويتذكر ما كان منهم من تضحية في سبيل الله، فما كان من الله إلا أن رضي صنيعهم وحل عليهم بركات كثيرة.
ويعتبر الحج تجربة مثيرة جدًا للمشاعر، حيث يأتي ملايين المسلمين من كل فج عميق وينزلون بمكة. وهم بذلك يكررون جميعا تعبيرهم عن رغبتهم في عبادة الله، وتختفي الفوارق بين الحجاج حيث يقفون جميعًا أمام ربهم في هذه الأيام المباركة. ويصف صديقي أهمية الحج فيقول:
يقال أنه (الحج) تمام الإيمان حيث أنه يجمع جميع السمات المميزة للفرائض الأخرى. فهو ينطوي على الصلاة حيث يؤدي الحاج الصلاة عند الكعبة، بيت الله. وهو يشجع على إنفاق المال في سبيل الله وهذه هي أهم مميزات الزكاة. وعندما ينطلق الحاج إلى الحج، فإنه يفارق وطنه وأعز الناس وأقربهم إليه لإرضاء الله. ويعاني من الحرمان ويتحمل مشقة السفر، وهذه هي الدروس التي نتعلمها من الصوم والاعتكاف. وفي الحج، يتدرب المرء على النسيان الكامل للراحة المادية والأبهة والخيلاء وعرض الحياة الدنيا، حيث على المرء أن ينام على التربة الحجرية ، ويطوف بالكعبة، ويسعى بين الصفا والمروة ويمضي ليله ونهاره ولا يرتدي سوى قطعتين من القماش غير المخيط. وعليه أن يتجنب استخدام الزيت أو العطر أو أي نوع من الطيب. ولا يسمح له بقص شعره أو تشذيب لحيته. وباختصار، فإنه مأمور بترك كل شيء لوجه الله والتسليم لربه وذلك هو الهدف الأسمى لحياة المسلم. وفي الحقيقة، يعتبر الحج المادي مقدمة للحج الروحي لله عندما يودع الإنسان كل شيء من الدنيا ويقف أمام الله عبدا ذليلا ويقول: "لبيك اللهم لبيك".
وكما ذكرنا من قبل، تشكل هذه الأعمال أساس حياة التسليم لله بصفة عامة. وبقدر ما يتعلمه من هذه الأعمال الشعائرية يصبح المرء عبدًا كامل العبودية لله في كل ناحية من نواحي الحياة.
مرتبة "الإيمان"
بالإضافة إلى التسليم الظاهري، لابد أن يستقر الإيمان في قلب المرء. وفيما يتعلق بهذه القضية، هناك نقطتان شديدتا الأهمية، الأولى تتعلق بما يفترض أن يؤمن به المرء أو بعبارة أخرى أركان الإيمان، والثانية تتعلق بالتحولات التي ينبغي أن تحدث عندما يكون هذا الإيمان المستقر في القلب هو فعلًا القوة المهيمنة في حياة المرء.
قال جبريل للنبي (صلى الله عليه وسلم) : "أخبرني عن الإيمان" قال :"أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره". وهكذا، يذكر النبي (صلى الله عليه وسلم) في هذا الحديث أركان الإيمان الرئيسية. وعدد هذه الأركان ستة كما يلي:
1. الإيمان بالله: إن الإيمان بالله هو حجر الزاوية في الدين الإسلامي. وقد شرحنا هذا الركن من أركان الإيمان في ثنايا هذا الكتاب ولا يحتاج إلى مزيد إسهاب.
2. الإيمان بالملائكة: الملائكة نوع من مخلوقات الله لا يراها الإنسان بصفة عامة. ولقد خلقت من نور، ولكنها تتخذ أشكالًا وأجسامًا مختلفة. والملائكة من عباد الله ولا يتجلى فيهم أي مظهر من مظاهر الألوهية مهما كان. وهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. وينبغي ألا يكون وجود بعض الكائنات خارج نطاق الإدراك البشري أمرًا صادما. وكما ذكر طباره: "كل يوم يكتشف العلم كائنات حية لم يكن لدينا فكرة عنها من قبل. وهذا يجعلنا نسأل: أكانت هذه الكائنات غير موجودة قبل اكتشافها، أم لم توجد إلا في اللحظة التي اكتشفها الإنسان فيها؟"
3. الإيمان بالكتب التي أنزلها الله: يشير الإيمان بكتب الله إلى ما أنزله الله على رسله من الوحي رحمة وهداية للناس لإرشادهم إلى الفلاح في هذه الدنيا والسعادة في الآخرة. ويشير القرآن إلى عدد من هذه الكتب: صحف إبراهيم وتوراة موسى وزبور داود وإنجيل عيسى. (ولابد أن نتذكر أن الوحي الأصلي الذي نزل على هؤلاء الأنبياء ليس هو الوحي الموجود في الكتب التي تحمل هذه الأسماء اليوم. فهي لم يتم حفظها حفظًا مناسبًا). ويشمل الإيمان بالكتب أيضا الإيمان بالقرآن بوصفه الوحي الخاتم. ومن المهم جدًا أن ندرك أن إعلان الفرد أن من حقه الإيمان ببعض ما أوحى الله به والكفر بالبعض الآخر يعتبر قمة التكبر وشكلًا من أشكال الكفر. ولذلك، يقول الله: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥)﴾. (البقرة: 85)
4. الإيمان بالرسل: وقد سبقت مناقشة هذا المفهوم بالتفصيل لذا فهو لا يحتاج إلى التوسع فيه.
5. الإيمان باليوم الآخر والبعث: يسمى "اليوم الآخر" بهذا الاسم لأنه لن يكون هناك يوم جديد بعد أن يدخل أهل الجنة الجنة ويدخل أهل النار النار. ومن أسمائه الأخرى "يوم القيامة" و"الحاقة" و"الواقعة" و"يوم الحساب" و"الغاشية". وهذا هو أعظم يوم يشهده البشر، بل إنه سيكون أخطر الأيام وأخوفها. وستتحدد حياة الشخص الجديدة في ذلك اليوم، كما أنه سيمثل بداية جديدة لكل روح. وقد تؤدي هذه الخطوة الجديدة إلى نعيم مقيم أو عذاب مقيم. ويقتضي الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل شيء ذكره القرآن أو النبي (صلى الله عليه وسلم) عن مشاهد ذلك اليوم وما بعده. وهناك بعض المظاهر العامة (وهي البعث والحساب والجزاء والجنة والنار) وهناك مظاهر أكثر تفصيلًا ذكرها القرآن أو رسول الله (صلى الله عليه وسلم). وكلما تعرف المرء على ذلك اليوم والأحداث المحيطة به، عظم تأثير هذا الاعتقاد عليه. ويورد القرآن والسنة تفاصيل كثيرة عن أحداث ذلك اليوم وذلك الزمان.
ومن المهم أن ندرك أنه لا يمكن لأحد أن يجزم بمن سيكون من أهل الجنة أو النار. ولا يعلم أحد ما سيحدث لأي فرد. فقد يتغير الشخص الصالح اليوم ويصبح غير صالح غدًا، وبالتالي فإنه بذلك يقذف نفسه في النار. وقد يتوب أعدى أعداء الإسلام وأكفر الكفار في المستقبل ويصبح أتقى الناس، وبالتالي فإنه بذلك يدخل نفسه الجنة. بل إن هناك بعض الناس الذين ربما لم يسمعوا بالإسلام مطلقا أو لم يقدم لهم سوى صورة شديدة التشوه عن الإسلام، ولا يعلم أحد إلا الله ما سيحدث لهؤلاء الناس في الآخرة. ومع ذلك، هناك بعض الأشياء المحققة: فسيقضي الله وحده بين العباد يوم الحساب، ولن يظلم الله أي نفس مثقال ذرة. فإذا كان الشخص مسلمًا ومؤمنًا حقيقيًا، فسيرضى الله عنه.
6. الإيمان بالقدر: يشير ذلك إلى الإيمان باستحالة حدوث أي شيء في هذا الخلق إلا بإرادة الله وإذنه. فليس هناك قوة يمكن أن تقف أمام إرادته. فهو على كل شيء قدير. لكن هذا لا يعني أن الإسلام يدعو إلى القول بالقدرية. فالبشر يتمتعون بحرية الإرادة في الإسلام، لكنه سبق في علم الله الأزلي ما سيفعله البشر. فهو قد علم ما سيفعلونه وأراده وقدره، ولكنه لا يجبرهم على اختيار شيء في حياتهم. وقد تناول جعفر شيخ إدريس أحد مصادر الالتباس في هذه النقطة تناولًا ملائمًا. فكتب يقول:
ربما يقول قائل "إذا كان الله قد أراد أعمالنا، فهي في حقيقة الأمر أعماله هو". وهذا الاعتراض مبني على التباس. فالله يريد ما نريد بمعنى أنه يهبنا إرادة الاختيار ويمكننا من تنفيذ ما نريد، أي أنه يخلق كل ما يمكننا من عمله. ولكنه لا يريد ذلك بمعنى فعله بنفسه، وإلا فلنا أن نقول عندما نشرب أو نأكل أو ننام مثلا أن الله هو الذي فعل هذه الأشياء. فإنه وإن كان هو من يخلق هذه الأشياء إلا أنه لا يفعلها أو يؤديها. وهناك اعتراض مبني على التباس آخر وهو أن الله إذا سمح لنا بعمل الشر، فإنه يرضاه ويحبه. ولكن إرادة شيء ما بمعنى السماح لشخص بعمله شيء، واستحسان عمله واستحبابه شيء آخر.
إن الأركان السابقة هي أركان الإيمان الستة في الدين الإسلامي. وهناك قضية ثانية مهمة تتعلق بالإيمان وهي: ما الذي يعنيه الإيمان بالنسبة للشخص وما هي مقتضياته؟ أولًا، الإيمان بمعنى الإيمان الحقيقي والجازم بشيء ما ينبغي أن يؤدي إلى تسليم على نفس المستوى لما يؤمن المرء به، وإلا كان مجرد قبول لحقيقة ما، وهذا ليس هو المفهوم الإسلامي للإيمان. ولذا كتب ابن عثيمين يقول:
والإيمان هو: "الاعتراف المستلزم للقبول والإذعان". أما مجرد أن يؤمن الإنسان بالشيء بدون أن يكون لديه قبول وإذعان، فهذا ليس بإيمان، بدليل أن المشركين مؤمنون بوجود الله ومؤمنون بأن الله هو الخالق، الرازق، المحيي، المميت، المدبر للأمور، وكذلك أيضاً فإن الواحد منهم قد يقر برسالة النبي (صلى الله عليه وسلم) ، ولا يكون مؤمناً، فهذا أبو طالب عم النبي، (صلى الله عليه وسلم)، كان يقر بأن النبي، (صلى الله عليه وسلم) ، صادق..... فهذا إقرار بأن دين الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، حق، لكن لم ينفعه ذلك، لأنه لم يقبله ولم يذعن له.
إن معتقدات الشخص هي أهم مظهر من مظاهر وجوده، فهي بصفة عامة القوى المحركة لمنهج حياته واختياراته الشخصية. ولا تقف المعتقدات الحقيقية والفعلية عند مستوى مجرد ولكن يتجلى تأثيرها على مستوى عملي يومي. وبعبارة أخرى، ليس هناك إيمان حقيقي دون أن يكون له تأثير قوي على تصرفات الشخص. فلا يمكن أن يدعي شخص ويقول: "قلبي عامر بالإيمان" دون أن يؤدي ذلك الشخص عبادات تصدق إيمانه. فأعمال هذا الشخص تكذب ادعاءه أن "قلبه عامر بالإيمان".
وهكذا، لابد أن يؤثر الإيمان الحقيقي على أعمال الشخص. ولنأخذ مثلًا بسيطًا، تتعلق مسألة الغش والسرقة تعلقًا مباشرًا بالمنظومة العقدية بصفة عامة. فإذا اعتقد شخص أن مثل هذه الأعمال خاطئة أخلاقيا وأن هناك إله عليم عادل سوف يحاسبه على أعماله، فسوف يحجم عن هذه الأعمال على الأرجح. ولكن إذا لم يؤمن الشخص بأية عواقب أبدية أو بيوم القيامة أو إذا لم يتأثر قلبه بهذه المشاعر، فقد لا يكون العامل الحاسم لديه سوى إمكانية إلقاء القبض عليه وشدة العقوبة المفروضة على هذه الأعمال.
ولكن عندما يمتلئ القلب بالإيمان - وهو مفهوم يشمل أيضًا حب الله والخوف من الله والأمل في الله - فسوف يدفع البدن إلى أداء الطاعات واجتناب المحرمات. ومن ثم، ليس هناك شيء يسمى إيمان حقيقي أو قوي في القلب من دون أن ينعكس في الأعمال.
فهذا الشعور الذي يحس به القلب ليس شيئًا ساكنًا وثابتًا؛ وليس هناك شيء بمعنى "قبلت الإيمان في يوم كذا، ومن ثم فأنا من الآن وإلى الأبد مؤمن مكتمل الإيمان". فالإيمان في حقيقة الأمر يزيد وينقص بشكل مستمر، وينعكس ذلك في الآثار الحقيقية لهذا الإيمان. وتؤثر عوامل كثيرة في الإيمان. وربما يجرب كل فرد منا ذلك. ففي بعض الأوقات، يكون الشخص شديد الخوف من الله وشديد الحب له. ويملأ هذا الشعور القوي قلب الشخص بالسكينة والدفء كما يجنبه ارتكاب المعاصي. ومع ذلك، في أوقات أخرى، ربما عندما ينهمك في شئون هذه الدنيا، لا يكون ذكره لله وتعلقه به يصل إلى هذا الحد، ولا يجد في قلبه هذا الحس الإيماني الكبير. ولا يكون سلوكه وأعماله بنفس الدرجة التي هي عليها في أوقات أخرى. وفي هذه المرحلة، تصبح روحه شديدة الضجر أو غير مستعدة للتضحية. وهذا ما هو إلا تقلبات الإيمان في قلب الشخص. ومن الواضح أن هذه التقلبات تؤثر بدورها في الأعمال التي يؤديها الشخص.
ولذلك، قد يمر الشخص بمراحل يكون فيها مسلمًا بالمعنى العام للكلمة كشخص يسلم وجهه لله ولا يعترف بأي إله آخر ولكن تأثير إيمانه عليه ضعيف. فهذا الشخص لا يستحق وصف "المؤمن الحقيقي" على الرغم من أنه لم يفقد إيمانه كلية. وفي حالات كهذه يرتكب المسلم المعاصي بل وأحيانا الكبائر. ولذا يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن". وعندما يدرك الشخص ما حدث لإيمانه، لابد أن يتوب إلى الله ويجدد إيمانه ويجاهد في الله حق جهاده حتى يزداد إيمانًا.
ينبغي أن يراعي الجميع أن الإيمان يزيد وينقص. ومن ثم ينبغي أن يحترس المؤمن دائمًا من أية بادرة تشير إلى انخفاض مؤشر الإيمان في القلب. وفي الواقع، ينبغي أن يتخذ المرء خطوات إيجابية لزيادة إيمانه من نحو تلاوة القرآن وذكر الله والتفكر في الخلق إلى غير ذلك من الأعمال التي تساعد المرء في إحياء إيمانه وتجديده، مع العلم أن زيادة المعرفة بالله والنبي (صلى الله عليه وسلم) والإسلام من أهم وسائل زيادة الإيمان.
ومن المهم جدًا بالنسبة لحديثي العهد بالإسلام أن يدركوا أن الإيمان يزيد وينقص. فعندما يعتنق الشخص الإسلام، فإنه يكون بذلك قد اتخذ خطوة التسليم لله. وفي الوقت نفسه، ربما لا يكون لديه المعرفة اللازمة لملء قلبه بالإيمان أو ربما لا يكون لديه نوع محبة الله التي تجعل الله أكبر من كل شيء في حياته، إذ قد يكون لديه بعض الرواسب التي تتناقض مع الإسلام في قلبه وعقله. ومع ذلك، فمع ارتقائه في معرفة الإسلام سيرتقي إيمانه أيضًا إن شاء الله، وسيزداد يقينًا بحقيقة الإسلام ويصبح أكثر إخلاصًا لله، وسيكون إيمانه في نهاية المطاف أكبر قوة دافعة في حياته.
وهناك مرتبة أخرى تتجاوز مرتبة "الإيمان" وهي مرتبة "الإحسان"، فالمحسن هو الذي يتميز بالإحسان (الإحسان في عبادة الله). ويجب أن يستوفي كل محسن جميع شروط المسلم والمؤمن. ومن ثم، فكل محسن مسلم ومؤمن. ومع ذلك، ليس كل مؤمن محسن. فالإحسان مرتبة أعلى من مرتبة الإيمان أو الإسلام.
مرتبة "الإحسان"
ثم قال جبريل للنبي (صلى الله عليه وسلم): "فأخبرني عن الإحسان". فقال (صلى الله عليه وسلم) : "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
يشير المعنى اللغوي للإحسان إلى الإتيان بما هو حسن، والإتيان بالحسنات، وفعل الخير للآخرين وهو ضد الإساءة إلى الآخرين. وفي هذه الحالة، تتعدى هذه الكلمة بحرف جر. ومع ذلك، قد تأتي الكلمة بمعنى إحسان الشيء، وربما يكون ذلك أقرب المعاني إلى ما تعنيه كلمة الإحسان في هذا الحديث بعينه. ومع ذلك، لا يمكن الفصل بين المفهومين. وسيتعامل الشخص مع الآخرين بأحسن طريقة ممكنة إذا كان يفعل ذلك حقًا لإرضاء الله. ومن ثم فإنه يحسن في علاقته مع الله أو شعائر العبادة وفي علاقته مع مخلوقات الله لعلمه بأن الله يراه.
إن الإحسان لفظ واسع الظلال، وهو يشمل كافة أنواع الإحسان إلى الآخرين. ومعناه أن ينشر الشخص الإحسان بدلًا من الإساءة إلى الآخرين، وأن يستغل ماله وعلمه ومكانته وجسده للإحسان إليهم، وأن يخرج جزءًا من ماله زكاة وصدقة، فذاك هو الإحسان. فالمحسن ينشر علمه ولا يضيع فرصة لهداية الآخرين، فذلك هو الإحسان فيما يتعلق بعلمه. وهو يستغل مكانته المستحقة وموقعه لمساعدة المستحقين والمحتاجين للمساعدة، فذلك إحسان أيضًا. وهو يساعد الآخرين في ركوب سياراته أو حمل الأشياء وهذا أيضا مثال على الإحسان.
لم يقدم النبي (صلى الله عليه وسلم) في هذا الحديث تعريفًا معجميًا للإحسان، وإنما شرح عامل التحفيز الرئيسي للإحسان، وهو أن الله يرى أعمالنا. فإذا وعى القلب تلك الحقيقة، فسيأمل الشخص إرضاء ربه وسيخشى من إسخاطه، وهذا بدوره يزكي قلبه. وعندما يزكو القلب، فسوف يفعل ما في وسعه في سبيل الله. ويعني ذلك أيضا أنه سيحاول بذل قصارى جهده بأحسن طريقة ممكنة. وسيهتم بالكيف وليس مجرد الكم أو الأداء الظاهري.
لا يعني الإحسان رؤية الله حقيقة، ولكنه شعور قوي للغاية يغمر القلب، وهنا يكون إدراك وجود الله بعلمه ورحمته كبير جدًا حتى أن الشخص لكأنه يشهد الله أمامه على الحقيقة، فيصبح فكر الشخص وعقله منصبًا كلية على العبادة أو العمل الذي يؤديه. وهذا هو معنى الجملة الأولى: "أن تعبد الله كأنك تراه". ومما لا شك فيه أن المرء إذا استطاع أن يرى الله، فسيكون لذلك تأثير عميق على عبادته وطاعته لله.
ويتمثل تأثير الشعور برؤية الله على الشخص في أنه سيؤدي كل طاعة من الطاعات بأحسن طريقة ممكنة. فهو يرى الله أمامه فعلًا، لذا فهو يعلم علم اليقين وليس كمجرد اعتقاد نظري محض أن الله مطلع على كل شيء يفعله. لذا فسيشعر بالخجل والحرج الشديد عند عمل أي شيء على مستوى أدنى من الإحسان. كما أنه سيمتلئ بالخوف والخشية والرهبة من الله. وسيبذل قصارى جهده لإرضاء الله الذي "يراه" أمامه. كما سيجتهد في أداء عبادته بأحسن طريقة ممكنة دون أي تقصير.
وهذا النوع من العلاقات مع الله هو الذي ينبغي على الجميع أن يسعوا لإقامته. فإذا ما أدرك شخص ماذا يعني الإيمان بالله، الذي لا يستحق العبادة غيره، فسوف يمتلئ قلبه بحب كبير لله والرغبة في إرضائه بأحسن طريقة ممكنة، كما أنه سوف "يشعر" و"يستشعر" وجود الله دائمًا حوله ومعه. ولنجر قياسًا دنيويًا، إنه سيتصرف كما لو كان أحب أصحابه إليه في معيته وسيخشى أن يفعل أي شيء من شأنه جرح مشاعره أو الإساءة إليه. وهكذا، سيدرس المرء وسيفكر في كل عمل مقدمًا. فإذا كان هناك أي قصور في عمله، فسيندم وسيستغفر، وسيستحق حب الله ورضوانه لأنه بين أنه يحب الله ولا يرغب إلا في إرضائه.
ما الذي يعود على البشر من الإسلام؟
الإسلام خير كله للإنسان. فإن الله لم يرسل هدايته للبشر إلا لمصلحة الإنسان، إذ أنه سبحانه ليس في حاجة إلى عبادة البشر، وهو غني عن جميع الحاجات، ولكن كان من رحمته تعالى أن أرى البشر السلوك اللائق الذي يرضاه. ولذلك، فقد قال تعالى: ﴿مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا (١٥)﴾ (الإسراء: 15). وبالإضافة إلى ذلك، من المهم ملاحظة أن من يرفض الإسلام إنما يظلم نفسه، حيث يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤)﴾ (يونس: 44).
ويستحيل سرد جميع الفوائد التي يستفيد بها البشر من الإسلام. وفيما يلي ذكر موجز لبعض القضايا الرئيسية:
أولا وقبل كل شيء، باتباع الإسلام لا يتبع الفرد إلا منهج الحياة الذي يرضي خالقه وربه. وينبغي أن يكون هذا حافزًا شديدًا جدًا بحيث لا يحتاج إلى غيره. يقول الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٨٥)" (آل عمران: 85).
إن الإسلام هو منهج الحياة الوحيد الذي يتماشى مع الطبيعة البشرية تماشيًا حقيقيًا، فقد أنزله من خلق البشر. وهكذا، فهو المصدر الوحيد للرضا والسكينة. والإسلام كما وصفه الله دواء لكل داء يصيب قلب الإنسان وروحه. إن من يرفضون التسليم لله يقضون حياتهم بالكامل في تعقب أشياء أخرى، وغالبًا ما تكون أشياء مادية لا يمكن أن تحقق لهم السعادة الحقيقية.
وهذه النقطة لا تتعلق بمجرد ما سيحدث في الآخرة. فهذا أيضا أمر واقعي يحدث أثناء حياة الشخص في هذه الحياة الدنيا. يقول الله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (النحل: 97). ويقول الله أيضًا: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ (طه: 124).
ومن ثم، كتب ابن القيم يقول:
ولا تحسب أن قوله تعالى "إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم" (الانفطار: 13-14) مقصور على نعيم الآخرة وجحيمها فقط بل في دورهم الثلاثة كذلك أعني دار الدنيا ودار البرزخ ودار القرار، فهؤلاء في نعيم وهؤلاء في جحيم وهل النعيم إلا نعيم القلب وهل العذاب إلا عذاب القلب وأي عذاب أشد من الخوف والهم والحزن وضيق الصدر وإعراضه عن الله والدار الآخرة وتعلقه بغير الله وانقطاعه عن الله.
ولقد حاول ابن تيمية التعبير عن البهجة التي يشعر بها الفرد لإيمانه بالله. فهو يقول: "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة". وقال أيضا: "ما يصنع أعدائي بي؟ إن جنتي وبستاني في صدري".
بل يقرر ابن القيم - أقرب تلاميذ ابن تيمية إليه وأكثرهم جلوسًا إليه:
وعلم الله ما رأيت أحدًا أطيب عيشا منه قط مع كل ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق. وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشًا وأشرحهم صدرًا وأقواهم قلبًا وأسرهم نفسًا، تلوح نضرة النعيم على وجهه وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله وينقلب انشراحا وقوة ويقينا وطمأنينة فسبحان من أشهدَ عباده جنته قبل لقائه.
وبالطبع، لم يكن هذا الشعور الجميل بالإيمان قاصرًا على ابن تيمية، حيث يورد ابن القيم عن بعض العارفين قوله: "لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف". وقال آخر: "مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها. قيل وما أطيب ما فيها؟ قال محبة الله تعالى ومعرفته وذكره". وقال آخر: "إنه لتمر بي أوقات أقول إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب".
وفي النهاية وبعد كل هذا سيستطيع الفرد أن يعيش الحياة الحقيقية الباقية في الآخرة. يقول الله تعالى: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤)﴾ (العنكبوت: 64).
ولا تقف فوائد الإسلام على الفرد فحسب، ولكنها تتعداه إلى المجتمع ككل، بل وتستفيد جميع البشرية من تعاليم الإسلام. يقول الله تعالى عن النبي (صلى الله عليه وسلم) ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 107).
لقد جاءت قيم الإسلام بالحق والعدل لجميع الأمة، مما يسمح لأفرادها بالعيش في مجتمع قائم على المحبة والتناغم والمودة.
العبادات في الإسلام
غاية العبادة ونطاقها
ذكرنا سابقًا أن مصطلح العبادة في الإسلام يتضمن معنى "العبودية" لله رب العالمين. وكما ذكرنا فإن عبادة الله هي الهدف الوحيد الذي خلق من أجله جميع البشر، وإن أنبل وأعظم مرتبة يمكن للمرء أن يحتلها هي مرتبة العبودية الحقيقية لله.
ويذكر المقريزي أن للعبادة أربع قواعد وهي:
1. التحقيق بما يحب الله ورسوله (صلى الله عليه وسلم) ويرضاه.
2. قيام ذلك بالقلب.
3. قيام ذلك باللسان.
4. قيام ذلك بالجوارح.
ولابد من كل هذه القواعد إذا أراد الشخص تحقيق هدفه في أن يكون عبدًا حقيقيًا لله. فعلى الفرد أن يتيقن أولا أن الطريقة التي يعبد بها الله ليست مبنية على أهوائه الفردية أو عقله أو شهواته. وإنما لابد أن تبنى على ما جاء من عند الله. فالله وحده هو الذي يمكنه أن يحدد كيفية عبادته. ومن ثم، فالخطوة الأولى هي تحديد ما يريده الله من الفرد وما يرضيه. ويتحقق ذلك من خلال المعرفة بالقرآن والسنة. ولابد من تحويل هذه المعرفة إلى قبول ورغبة في هذه الأشياء بالقلب. ولابد أن يقر المرء بأن هذه الأشياء هي الطيبات الحقيقية، ومن ثم لابد أن يجد المرء المحبة في قلبه لهذه الأشياء. وعندما يتحقق ذلك، ينبغي أن يصاحبه تلقائيًا الإعلان عن قبوله والإيمان به وترجمة هذا القبول إلى أعمال.
وبصفة عامة، عادة ما تتلخص هذه القواعد الأربع في نقطتين مهمتين للغاية. فحتى تكون عبادة المرء مناسبة، لابد مما يلي: (1) أدائها بصدق وبإخلاص لله تعالى، (2) أن تكون وفقًا لما أنزله الله في القرآن والسنة.
وهناك قاعدة أخرى مهمة للغاية لابد من مراعاتها وهي أن "العبادة" لا تقتصر على الشعائر أو الأعمال التي قد يعتبرها المرء "دينية" أو "روحية". فكما ذكرنا من قبل، يتمثل الهدف في العبودية الكاملة لله قدر المستطاع. ويتسم المفهوم الصحيح للعبودية بالشمولية. والعبادة كما ذكر ابن تيمية في تعريفه الشهير والمتعارف عليه لها:
العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه اللهُ ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة. فالصلاة، والزكاة، والصّيام، والحج، وصِدْق الحديث، وأداء الأمانة، وبِرّ الوالدين، وصِلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد ضد الكفار والمنافقين، والإحسان للجار، واليتيم، والمسكين، وابن السبيل، والمملوك من الآدميين، والبهائم، والدعاءُ والذِّكر، والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة. وكذلك حبُّ الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه، وإخلاص الدِّين له، والصبر لحُكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وأمثال ذلك هي منَ العبادة لله..
ومن ثم، فإن العبادة تتغلغل في كل جزء من الشخص، وتمس تركيبته الداخلية وأعماله الظاهرية.
فالعبادة تشمل باختصار ما يلي:
1. علاقة الإنسان بالله.
2. علاقة الإنسان بنفسه وحقوقها عليه.
3. علاقة الإنسان بالمجتمع ككل.
4. علاقة الإنسان بذوي رحمه وزوجه وولده وغيرهم ممن لهم حقوق خاصة عليه.
5. علاقة الإنسان بالحيوانات التي سخرها الله في هذا الكون.
6. علاقة الإنسان بالبيئة وكافة الموارد التي خلقها الله والتي يفترض استخدامها بطريقة مسئولة وأخلاقية.
ومع ذلك، لم يترك الله البشر جاهلين بما يمكنهم من الترقي والمثابرة والاستمرار في سلم العبادات. وإنما فرض الله للبشر عبادات مخصوصة. وهذه الأعمال هي عبادات في حد ذاتها، وأيضا أعمال تساعد الفرد في الاستمرار في السير على الصراط المؤدي لعبادة الله وحده. وأهم هذه العبادات ما يعرف "بأركان الإسلام الخمسة". وكما ذكرنا سلفا، قال النبي (صلى الله عليه وسلم) "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان".
وفيما يلي مناقشة موجزة للأركان الشعائرية الأربعة ومفهوم الدعاء المهم:
الدعاء والذكر
الدعاء من الأعمال المهمة التي تقوي من صلة العبد بربه، ويكون الدعاء في أي وقت وتحت أي وكل الظروف، ويكون بين الله وعبده مباشرة بدون وسطاء بينهما.
والدعاء في حد ذاته عبادة لله. فعندما يدعو شخص شخصًا آخر، فإنه يبدي ثقته واعتماده على ذلك الآخر، ويبين حاجته لمن يدعوه، ويبين ثقته في قدرة ذلك الشخص أو الذات على معرفة وفهم وتلبية حاجته. ويجب أن ينصرف هذا النوع من المشاعر الموجودة بالقلب والتي تترجم في الدعاء نحو الله وحده. وعند الدعاء، يتوجه الفرد إلى الله فيقر بذلك بضعفه بينما يؤكد قدرة الله على الاستجابة لدعائه وقدرة الله على تحقيق إرادته. والنبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: "الدعاء مخ العبادة" . والله تعالى يحب الدعاء، فقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم) "من لم يسأل الله يغضب عليه".
ومن ثم لا ينتظر من دعاء الله إلا الخير. فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث إما أن تعجل له دعوته وإما أن يدخرها له في الآخرة وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها".
إن المؤمن الحقيقي لا ينفك يسأل الله الهداية في جميع الأوقات، وألا يكله المولى إلى نفسه، وهكذا يكون المسلم دومًا في اتصال مباشر ومستمر مع ربه ومحبوبه– الله عز وجل.
الصلاة
تكمن أهمية الصلاة في أنه مهما فعل المرء في حياته من أعمال، فالمهم هو علاقته بالله أي إيمانه وخوفه من الله وإخلاصه وعبادته لله. وتتجلى هذه العلاقة مع الله وتتجسد في الصلاة وتتحسن وتزداد بها. ولذلك، إذا صلحت الصلاة، صلح العمل كله، وإذا فسدت فسد العمل كله كما قال النبي (صلى الله عليه وسلم).
إذا أُقيمت الصلاة كما ينبغي بذكر حقيقي لله واستغفاره، فسيكون لها تأثير مستمر على الشخص. فبعد فراغه من الصلاة، سيمتلئ قلبه بذكر الله. وسيكون من الله بين الخوف والرجاء. وبعد ذلك الحال، لن يريد أن يترك تلك المرتبة الرفيعة إلى مرتبة يعصي الله فيها. ولقد ذكر الله هذا الجانب من الصلاة عندما قال: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُون﴾ (العنكبوت: 45). ووصف الندوي هذا التأثير وصفًا بليغًا فقال:
إنها تنشئ في النفس قوة روحية وإيماًنا عميقًا جديدًا، ونورًا يفيض به القلب يستطيع أن يقاوم به أقوى الفتن والمغريات وأقسى الحوادث والكوارث ويتغلب به على شرور النفس ومكايدها.
والصلاة أحد مصادر القوة لدى المؤمنين، حيث إنهم يتوجهون إلى المصدر الحقيقي الوحيد للقوة في الكون كله. وبذلك، تطهر الصلاة الروح من الكثير من الأمراض، مثل اليأس والجبن. ويشير القرآن إلى هذا التأثير القوي للصلاة في الآيات التالية: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ (٤٥)الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (٤٦)﴾ (البقرة: 45-46)
وإلى جانب كونها أحد مصادر القوة، تعتبر الصلاة أيضا مناسبة وفرصة رائعة للروح كي تستريح وهي ترتحل في العالم؛ إنه وقت تجمع فيه النفس والعقل شتاتهما لينصب تركيزهما بشكل كامل ومطلق على الأمر الوحيد الذي تعلم أنه ذو الأهمية المطلقة في الحياة: وهو علاقتها بإحسان العبادة لله. وتدرك الروح أن في الصلاة (عند حسن أدائها) لا يفعل الشخص إلا التقرب إلى الله وتحقيق الغرض الوحيد الذي خلق من أجله تحقيقًا جزئيًا. ومن ثم، كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول لبلال "قم يا بلال فأرحنا بالصلاة".
كذلك عندما يذل الإنسان ويرتكب المعاصي والآثام، يمكن للصلاة أن تطهر الروح من هذه الآثام. وبعبارة أخرى، للصلاة تأثير تطهيري على الروح. فكل إنسان معرض لارتكاب الأخطاء واقتراف الخطايا. ولكن هذه الآثام لا ينبغي أن تظل قابعة على الروح مما يضر بها. وإنما هناك وسائل لمحوها. ومن أهم هذه الوسائل أداء الأعمال الصالحة ولاسيما الصلاة.
هذه هي بعض الأمور التي تشير إلى عظم وأهمية الصلاة. وفي واقع الأمر، ما هي إلا غيض من فيض. ومن يصلي سيجد في نفسه الكثير من المشاعر الأخرى النافعة التي لا يمكن أن تعبر عنها الكلمات تعبيرًا دقيقًا.
الزكاة
إن مفهوم الالتزام بإخراج جزء من مال الإنسان في سبيل الله كأحد العبادات شيء يجده المرء في رسالة الأنبياء السابقين. ويعرج سليمان الندوي على مكانة الزكاة المهمة في تطهير الروح، فكتب يقول:
يتمثل السبب الرئيسي في الأمراض الروحية التي يعاني منها البشر في غياب الرجاء والخوف من الله، وعدم محبته والتعلق به. ويتمثل علاج هذه الأمراض في الصلاة. وهناك سبب آخر أيضا في هذه الأمراض وهو التعلق بالممتلكات والغنى والثروة الدنيوية بدلًا من التعلق بالله؛ والزكاة هي العلاج لهذا السبب الثاني للمرض.
والزكاة أيضا تذكرة قوية بأن المال نعمة من الله، حيث يرى الغني حوله وفي الدنيا البؤس والفقر الذي لو شاء الله لكان هو من يكابدهما. وهذا لابد وأن ينمي شعورًا قويًا للغاية بالتذلل والشكر لله.
وينبغي أن يسعى المؤمن حق السعي وراء الوسائل التي يمكنه من خلالها أن يشكر الله على النعم التي أنعم الله بها عليه. وينبغي أن يدفعه هذا الشعور إلى أداء المزيد من الأعمال الصالحة. والمفارقة الجميلة في ذلك هي أنه إذا كان للزكاة هذا الأثر عليه وأصبح أكثر شكرًا لله، فسوف ينعم الله عليه بمزيد من النعم في هذه الدنيا وفي الآخرة. يقول الله تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾. (إبراهيم: 7)
وتبرز هذه العبادة حقيقة سبق وأن بحثناها بخصوص نطاق العبادة. فإن العبادة لا تتناول مجرد تفاعل الإنسان مع ربه (إذا استطاع الإنسان تقسيم ذلك إلى حد ما وفصله عن جميع التفاعلات الأخرى)، ولكنها تتناول أيضا تفاعل الإنسان مع غيره من المؤمنين على وجه الخصوص وباقي البشر على وجه العموم. فعن طريق الزكاة، يلبي الإنسان احتياجات الآخرين تلبية مباشرة. والأساس الذي ينبغي أن يتفاعل الإنسان بناء عليه مع الآخرين هو عبادة الله. فالإنسان يتفاعل مع الآخرين ليس على أساس علماني أو وجهة نظر فلسفية ما عن حقوق الإنسان. وإنما يتفاعل مع الآخرين بناء على أساس أقوى بكثير: على أساس أمر الله للإنسان بالتفاعل مع الآخرين. وبهذه الطريقة، يصبح ذلك التفاعل حقيقة لونًا من ألوان العبادة وإرضاء الله والمساعدة في تطهير الروح.
وتنمي الزكاة في الروح رغبة في التضحية ومساعدة الآخرين لوجه الله. وينمي المؤمن الحقيقي في قلبه بسبب هذا بهجة البذل في سبيل الله والاعتراف برضا الله عن هذا العمل. فليس المقصود ببساطة هو مجرد إزالة داء الأنانية وأضرار الغرور من القلب والنهي عن كنز المال. إن المسألة أكبر من ذلك. إنها مسألة استبدال تلك المشاعر المريضة المحتملة بالشعور بأن المؤمن ينبغي أن يضحي ويعمل من أجل الآخرين كوسيلة للتقرب إلى الله. وينبغي أن يكون هذا الشعور الإيجابي قويًا للغاية حتى يريد الإنسان الذي لا يملك شيئا أو لا يملك إلا القليل التضحية والعطاء للتقرب من الله. ويصف الله هؤلاء المؤمنين عندما قال: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الحشر: 9). ومن ثم، يتجسد الشعور بعدم التفكير في النفس فحسب، ولكن في الخروج إلى الآخرين والإحسان إليهم كأحد العبادات، في قلب المؤمن الحقيقي وروحه.
ومن الواضح أن الزكاة تلعب دورًا مهمًا جدًا في المجتمع ككل. وهناك بعض العوامل الواضحة التي يمكن ذكرها هنا. فعلى سبيل المثال، تساعد الزكاة فقراء المجتمع، حيث إنهم يتلقون المال الذي يحتاجونه. وينبغي أن يساعد ذلك في تعزيز أواصر الأخوة في المجتمع الإسلامي لأن الفقراء يعلمون أن الأغنياء سيساعدونهم من خلال الزكاة وغيرها من ضروب الصدقة. وحتى بالنسبة لمن هم دون حد الثراء الشديد، يدركون من خلال الزكاة أنهم بإمكانهم الإنفاق في سبيل الله. وقد يدركون أنهم لن يجوعوا أو يموتوا إذا أنفقوا من أموالهم في سبيل الله. وعلاوة على ذلك، يمكن أن تجعل الزكاة من يملكون المال يدركون أن هذا المال قد أتى فعلًا نعمة من الله. ومن ثم، يجب أن يستعمله الشخص فيما يرضي الله.
الصوم
الصوم هو أحد العبادات التي يتخلى فيها المؤمن عن احتياجاته وشهواته الأساسية لفترة طويلة من الوقت كشكل من أشكال العبادة. وبهذا المعنى، فإن الصوم فريد من نوعه وترتبط آثار هذه العبادة ارتباطًا مباشرًا بزيادة التقوى والخوف من الله.
ومن الاستنتاجات المهمة التي يخلص بها الإنسان من الصوم أن الميول الطبيعية للإنسان من حاجة للطعام والشراب والجماع على سبيل المثال ليست شرًا في حد ذاتها. وكما ذكرنا من قبل أن آداب الإسلام تتسق اتساقًا كاملًا والفطرة التي فطر الله الناس عليها. ومن ثم، لا تُكبت هذه الرغبات والشهوات الطبيعية أو تُكبح كبحًا صريحا. فلن يكون ذلك عمليًا أو قابلًا للتحقق نظرًا لطبيعة البشر (فقد أثبت المتنسكون عبر التاريخ بضلالاتهم العديدة تلك الحقيقة بالفعل). وفي الوقت نفسه، لا يمكن إطلاق العنان لهذه الشهوات الطبيعية لأن الناس سيطلقون العنان لشهواتهم بغض النظر عن الآثار السلبية عليهم أو على الآخرين (كما يمكن أن نرى في العالم اليوم وما فيه من انتشار الاختلاط والأمراض الجنسية وإدمان الكحول والمخدرات وما إلى ذلك). ولابد من استغلال هذه الشهوات الطبيعية بحيث تعود بنتائج إيجابية على الروح بل وعلى البشرية ككل.
إن الصبر أو المثابرة من أهم الصفات التي يمكن أن يتصف بها الشخص وأكثرها صحية، وهي من الصفات المهمة الموجودة في الروح المطهرة. وهناك علاقة واضحة وجلية بين الصوم والصبر. إن الصوم لا يعزز خصلة الصبر فحسب، وإنما يعزز جميع ألوان الصبر. والصبر ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر عن محارم الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة. وتجتمع الأنواع الثلاثة في الصوم، فإن فيه صبرًا على طاعة الله، وصبرًا عما حرم الله على الصائم من الشهوات، وصبرًا على ما يحصل للصائم فيه من ألم الجوع والعطش.
والصوم تجربة يدع فيها الشخص رغباته وشهواته تقديمًا لإرادة الله على إرادته. وهذا يذكره بهدفه وغرضه الحقيقي في الحياة. وتسمح هذه التجربة له بوضع الأمور في نصابها فيما يتعلق بما يريده من هذه الدنيا وأهميتها الحقيقية بالنسبة له.
والنبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: "أنظر إلى من هو تحتك، ولا تنظر إلى من هو فوقك فإنه أجدر ألا تزدري نعمة الله عندك" ففي هذا الحديث، أعطى النبي (صلى الله عليه وسلم) تعليمات تساعد المرء في تقدير النعم العديدة التي وهبه الله إياها. ويمكن أن يأخذ الصوم الشخص إلى ما هو أبعد من ذلك. فأثناء الصيام، لا يرى الشخص معاناة الآخرين فحسب، فهو الآن يحس بمعاناتهم. ومن ثم، يستطيع الأغنياء التفكير فيما قد أعطوه من نعم، ويؤدون شكرها شكرًا حقيقيًا. يعتاد المرء تيسر الطعام والشراب والمياه النظيفة والكهرباء وخلافه لاسيما في هذا اليوم وهذا العصر وفي بعض الدول المتقدمة ماديًا. ونظرًا لإتاحة هذه الأشياء، يبدأ الشخص في اعتيادها ولا يدرك مدى عظمة هذه النعمة، ومدى معاناة المحرومين فعليًا من هذه الحاجات الأساسية في يومنا هذا.
في ختام الآية الثالثة في الآيات التي تحدثت عن الصوم، يقول الله تعالى: "ولعلكم تشكرون" (البقرة: 185). وإن حمد الله وشكره من الخصال الأساسية لدى المؤمنين الحقيقيين. ويمكن للناس الحديث عن هذا الأمر نظريًا، ولكن ليس هناك بديل للشعور الحقيقي بالعطش والجوع والإنهاك الذي يعاني منه الآخرون بشكل يومي. ولذا كان رسول الله صلى عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان.
الحج
من أركان الإسلام وفرائضه الأساسية حج بيت الله الحرام في مكة. والحج من الشعائر شديدة الشمول والإثارة للمشاعر.
ومن بين النواحي العملية التي تستفاد من الحج والتي يمكن لأي شخص أدى فريضة الحج أن يشهد لها أنه أثناء الحج يمكن للمرء أن يرى استعداد غيره من البشر للتضحية في سبيل الله. فأثناء الطواف بالكعبة، يرى المرء الناس ممن لا أقدام لهم أو من أقدامهم ليست أقداما عادية يُحملون للطواف حول الكعبة. ويمكن للمرء أن يشعر بفقر بعض الحجاج ويدرك كثرة وطول التضحيات التي كان عليهم تقديمها، وما ادخروه من مال لأداء فريضة الحج ابتغاء مرضاة الله. وسوف يجعله ذلك يسأل نفسه هل هو على استعداد لتقديم هذه التضحيات الجسام لوجه الله عند الحاجة إليها أم لا.
ويحتاج الحج إلى الكثير من التضحيات من جانب الإنسان المسلم مثل التضحية بالوقت والمال والجهد. ويجب على كل مؤمن إدراك العلاقة بين إيمانه وتضحيته. فالتضحية جزء أساسي من هذا الدين. فينبغي أن يكون المؤمن الحقيقي على استعداد للتضحية بوقته وماله بل وحياته في سبيل الله. وبالإضافة إلى ذلك، يجب على المؤمن الحقيقي التضحية بكافة الرغبات والشهوات التي لا تتوافق مع القرآن والسنة. وفي الحقيقة، يجب على المؤمن الحقيقي التضحية بأي شيء يحول بينه وبين العبادة الحقيقية لله وحده.
وتعتبر الأنانية والتكبر واحتقار الآخرين والجشع من الأمراض الخطيرة التي تصيب الروح بالضعة. ويجب على المرء العمل بكل شجاعة من أجل علاج هذه الأمراض. وينبغي أن يكون الحج خطوة مساعدة في هذه العملية. ويتحقق ذلك عن طريق عدد من الوسائل:
أولا: يتطلب الحج في أغلب الحالات قدرًا كبيرًا من النفقات (السفر وشراء حيوان للتضحية به وما إلى ذلك). ويتم إنفاق جميع هذه النفقات في سبيل الله. ويساعد ذلك في تطهير النفس من الأنانية والجشع. وهو يسمح للروح بالابتهاج بإنفاق بعض المال في سبيل الله مباشرة.
ثانيا: حيث إن كل الحجاج يجتمعون في صعيد واحد وبثوب واحد، ويسلمون جميعًا وجوههم لربهم، ويسألونه مغفرة ما ارتكبوه من ذنوب في هذه الدنيا، فإن مشاعر الأخوة والمحبة لابد أن تعمر قلب المؤمن. وينبغي أن يدرك أنه وجميع المسلمين ليس لديهم سوى غرض واحد في الدنيا وأنهم يسعون لغاية واحدة وأنهم جميعًا عباد الله وحده. فليس هناك مجال للتكبر والغرور. وتتجلى في الحج حقيقة أن سبل التفاضل بين هؤلاء المسلمين على اختلافهم هي إخلاصهم لله وأعمالهم الصالحة. فلا فضل لأحد على أحد بالجنسية أو العرق أو المال أو المكانة في المجتمع.
ولابد وأن يكون هناك أثر عميق في نفس المؤمن من جميع الشعائر التي يؤديها المسلم في الحج والأهمية التاريخية والروحية للمكان الذي يؤدي فيه الشخص هذه الشعائر، وهو مكان وضع فيه آدم قواعد أول بيت وضع للناس، وهو مكان رفع إبراهيم فيه قواعد هذا البيت، تاركًا أهله هناك وحدهم، وهو مكان عاش فيه النبي (صلى الله عليه وسلم) وصحابته فجر الإسلام. فينبغي أن يقارن حياته بحياة الأنبياء. وينبغي أن يعترف بتقصيره وعدم أهمية المظاهر الدنيوية الأخرى التي يؤثرها. وينبغي أن يدفع ذلك الشخص إلى التوبة واستغفار ربه. وفي الواقع، ربما تكون المشاعر التي ينبغي أن تغلي في قلبه في هذا المكان هي تلك التي تجعل دعاءه شديد الإخلاص بحيث يستجيب الله دعاءه.
الإعجاز العلمي في القرآن والسنة
ذكرنا سابقًا أن "معجزة" خاتم النبيين معجزة فريدة. فحيث أنه كان العاقب فلا نبي بعده، كان لابد أن يكون لمعجزته أثر دائم حتى يوم القيامة كما هو الحال مع القرآن. فالقرآن معجز من نواحي كثيرة. ومع ذلك، في القرن الماضي أو نحوه، ذكر الكثيرون أنه معجز من حيث إنه يتماشى تماشيًا كاملا مع الحقائق العلمية. وفي الحقيقة، مع الاكتشافات الجديدة، يدرك الناس أن بعض هذه الاكتشافات قد وردت الإشارة إليها في القرآن أو السنة. وفيما يلي بعض الأمثلة على هذا الإعجاز:
المعجزات المتعلقة بالبشر
عند تلاوة القرآن، يعتبر بحث قضية خلق الإنسان في رحم الأم من النواحي التي تلفت نظر القارئ كثيرًا. وتعتبر التفاصيل والتحليلات من الأهمية بمكان حتى أن كيث مور أستاذ التشريح والبيولوجيا الحيوية المتفرغ في جامعة تورنتو قد أدرجها في طبعة خاصة لكتابه التعليمي: التطور البشري: علم الأجنة التجريبي"The Developing Human: Clinically Oriented Embryology". . ومعلقا على الاتساق المعجز بين آي القرآن والتطور التاريخي لعلم الأجنة، قال الدكتور مور في عام 1981: "لقد كان من دواعي سروري الشديد أن أساعد في توضيح آيات القرآن الخاصة بالتطور البشري. ويتضح لي أن هذه الآيات لابد وأنها قد أوحيت إلى محمد من الله، لأن معظم هذا العلم لم يكتشف إلا بعد قرون عديدة. وهذا يثبت لي أن محمدًا لابد وأنه أحد رسل الله".
وحتى لا نطيل الحديث لن نناقش سوى آية واحدة بشيء من التفصيل هنا. يقول الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢)ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ (المؤمنون: 12-14).
تتسم هذه الفقرة الموجزة بالروعة في وصفها الدقيق للعملية الفعلية وخلوها من كافة النظريات والرؤى غير الصحيحة التي كانت سائدة في زمن محمد (صلى الله عليه وسلم). وكما هو ملحوظ، يمكن أن تعني كلمة "علقة" دودة العلقة أو الشيء المعلق أو جلطة الدم. وفي الحقيقة، تصف كل هذه المصطلحات الجنين. فالجنين لا يبدو في أولى مراحله كالعلقة فعلا بل إنه أيضا "يحصل على التغذية من دم الأم مثل دودة العلقة التي تتغذى على دم الآخرين". ويمكن أن تعني العلقة أيضا "الشيء المعلق" وهو يصدق أيضا على الجنين في هذه المرحلة حيث أنه يجلس معلقًا في رحم الأم. وفي النهاية، يمكن أن تعني العلقة أيضا جلطة الدم. والعلاقة بالعملية المادية الفعلية علاقة معجزة. يقول إبراهيم:
إننا نجد أن المظهر الخارجي للجنين وأكياسه خلال مرحلة العلقة يشبه مظهر جلطة الدم. ويرجع السبب في ذلك إلى وجود مقدار كبير نسبيًا من الدم في جسم الجنين أثناء هذه المرحلة. وأيضا، أثناء هذه المرحلة، لا يدور الدم في جسم الجنين حتى نهاية الأسبوع الثالث. وهكذا يشبه الجنين في هذه المرحلة جلطة الدم.
وتذكر الآية أن المرحلة التالية هي مرحلة المضغة. وهذا أيضًا وصف دقيق للغاية لمرحلة الجنين التالية. وفي هذه المرحلة، تنمو في ظهر الجنين كتل "وتشبه هذه الكتل إلى حد ما آثار الأسنان في المادة الممضوغة".
جدير بالذكر أنه لم يتم "اكتشاف" نوع المعلومات المذكورة أعلاه ولم يره البشر إلا منذ اختراع مجاهر دقيقة. ويذكر إبراهيم أن هام وليفينهوك كانا أول من شاهد خلايا منوية بشرية في عام 1677 بمساعدة مجهر مطور. وقد حدث ذلك بعد حوالي 1000 عام من زمن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم). وكما استنتج مور، يبدو من غير المتصور إلى حد ما أن يكون النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) قد علم هذه التفاصيل إلا عن طريق وحي من الله.
المعجزات المتعلقة بالحيوانات
قال النبي (صلى الله عليه وسلم): "إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه، فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء". وعلى المرء أن يتذكر أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يتحدث في وقت لم يكن فيه علم بالفيروسات واللقاحات ومضادات السموم وما شابهها. ومع ذلك، فقد قال هذا الحديث كجزء مما أوحي إليه من الله. وفي السنوات الأخيرة، تم التحقق من دقة وصحة هذا الحديث من خلال اختبارات تجريبية منفصلة. وفي هذه التجارب، اكتشف أنه عند غمس أحد جناحي الذبابة في الماء فإن الماء يتلوث ولكن عندما يغمس الجناح الآخر في الماء، فإن التلوث يزول.
ويعتبر التناول القرآني لمصدر عناصر اللبن الحيواني مفيدا جدًا أيضا. وقد تم تناول ذلك في سورة النحل، الآية رقم 66. ولم يصب أوائل المترجمين الذين بنوا ترجماتهم على المعاني الظاهرة لبعض الكلمات في الآية في توصيل المعنى الدقيق لما ورد في الآية. فقد توصل بوكاي بعد دراسة الكلمات دراسة دقيقة أن الآية التالية: "وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين" ينبغي ترجمتها على النحو التالي:
"Verily, in cattle there is a lesson for you. We give you to drink of what is inside their bodies, coming from a conjunction between the contents of the intestine and the blood, a milk pure and pleasant for those who drink it."
وبعد مناقشة العملية التي يتكون من خلالها اللبن في جسم الحيوان، ذكر بوكاي ما يلي:
والعملية الأولية هنا التي تحرك كل شيء آخر عبارة عن جمع مكونات الأمعاء والدم عند مستوى الجدار المعوي نفسه. وهذا المفهوم شديد الدقة وهو نتيجة الاكتشافات التي تمت في كيمياء ووظائف الجهاز الهضمي. ولم يكن ذلك معلومًا على الإطلاق في زمن النبي محمد ولم يدرك ذلك إلا في الفترة الأخيرة. ولم يكتشف هارفي الدورة الدموية إلا بعد نزول القرآن بعشرة قرون تقريبًا.
وأرى أن وجود آية في القرآن تشير إلى هذه المفاهيم ليس لها تفسير بشري نظرًا للفترة التي نزلت فيها.
المعجزات المتعلقة بنشأة الكون
أظهرت البحوث المعاصرة أن الكون لم يكن في وقت من الأوقات سوى سحابة من "الدخان" وهو ما يعرف بأنه "مركب غازي ساخن عالي الكثافة وغير شفاف". ولا تزال هناك نجوم جديدة تتكون من بقايا ذلك الدخان. يقول الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ (فصلت: 11). ويوضح بوكاي معنى هذه الآية مبينًا كيفية تماشيها التام مع معنى "دخان" التي يشير العلماء المعاصرون إليها فيقول:
تقرر الآية وجود كتلة غازية ذات جسيمات دقيقة لأن هذا هو تأويل كلمة "دخان". ويتكون الدخان بصفة عامة من طبقة تحتية غازية بالإضافة إلى جسيمات دقيقة ذات تعليق ثابت يمكن أن تكون في إحدى الحالات الصلبة بل والسائلة للمادة في درجة حرارة مرتفعة أو منخفضة.
ولكن حيث أن المجرة تكونت من هذا "الدخان"، يقول العلم المعاصر أن السموات والأرض كانتا جميعا كيانًا متصلاً واحدًا بالفعل ومن ذلك الكيان أو "الدخان"، انفصلت وخلقت السماوات. وهذا أيضا ما يجد المرء الإشارة إليه في القرآن. يقول الله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠)﴾. (الأنبياء: 30) ومن العجيب أن نلاحظ الكلمات العربية الدقيقة المستخدمة في هذه الفقرة. ويقول بوكاي:
فالنص يشير إلى عملية الانفصال (الفتق) الأولى لكتلة واحدة رتقت عناصرها في البداية. وتجدر الإشارة إلى أن كلمة الفتق هي عبارة عن الفصل وأن الرتق عبارة عن دمج أو ضم عناصر معينة لتكوين وحدة واحدة متجانسة.
وقد استنتج الدكتور ألفريد كرونر، أستاذ الجيولوجيا ورئيس قسم الجيولوجيا في معهد علوم الأرض بجامعة يوهانس جوتنبرج، ماينتس، ألمانيا، الاستنتاج التالي حول ما يذكره القرآن عن نشأة الكون:
عند التفكير في مصدر ما جاء به محمد، أعتقد أنه كان من شبه المستحيل أن يعرف أشياء مثل نشأة الكون، لأن العلماء لم يكتشفوا ذلك إلا في السنوات القليلة الماضية وبطرق تكنولوجية شديدة التعقيد والتقدم وهذا هو الواقع.
المعجزات المتعلقة بالجبال
يقول الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ مِهَادًا (٦) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (٧)﴾ (النبأ: 6-7). ويقول الله داعيًا البشر إلى التأمل في الظواهر المختلفة في الخلق: ﴿وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩)وَإِلَى الأرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠)﴾ (الغاشية: 19-20).
وفي ضوء العلم الحديث، تمثل هذه الآيات فائدة كبيرة. فقد تبين أن الجبال لها "جذور" عميقة. وهذه الجذور عميقة في الأرض وتأخذ شكل الأوتاد. وبعبارة أخرى، يشبه ذلك وصف الله للجبال بأنها مثل الأوتاد. كما يقول الله تعالى: ﴿وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (٣٢)﴾ (النازعات: 32). ونجد في آية أخرى آية أخرى: ﴿وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥)﴾ (النحل: 15). وقد أظهرت الاكتشافات الأخيرة أن الجبال تساعد على استقرار القشرة الأرضية. ولم يعرف ذلك إلا من خلال نظرية تكوينات الصفائح الحديثة التي لم توضع إلا في أواخر الستينيات.
يمكن عرض الكثير من الأمثلة الأخرى على هذه الطبيعة هنا، ولكن يرى كاتب الأسطر أن ما سبق لابد وأنه كاف لإبراز "الإعجاز العلمي" في القرآن الذي أوحي إلى النبي الأمي محمد (صلى الله عليه وسلم) منذ أكثر من 1400 عام.
أقوال المراقبين المنصفين في الشرق والغرب
سطر كثير من المراقبين المنصفين عبر التاريخ شهادات تعبر عن جمال الإسلام والقرآن والنبي (صلى الله عليه وسلم) أو تميزهم. وحتى هذا اليوم، يتسم الكثير ممن يكتبون عن الإسلام بالإيجابية الشديدة في تقييمهم لهذا الدين الحنيف. بل إن بعض المعاصرين من غير المسلمين يشتهرون بالنشاط الشديد في محاولة تفنيد الكثير من الادعاءات الكاذبة التي يسمعها المرء عن الإسلام في وسائل الإعلام.
ولقد اتسم بعض المفكرين والمؤرخين العظام بالغرب والشرق بالمجاملة الشديدة في مناقشتهم للدين الإسلامي بصفة عامة.
كتب مؤلف كتاب "تاريخ التطور الفكري لأوروبا" يقول: "بعد أربع سنوات من وفاة جستنيان عام 569 ميلادية، ولد في مكة بشبه الجزيرة العربية الرجل الذي كان أعظم الناس تأثيرًا على الجنس البشري". أما مؤخرًا، فقد كتب مايكل هارت كتابه الذي يحمل العنوان التالي: "المائة: تصنيف لأعظم الناس أثرا في التاريخ" ووضع فيه النبي محمدا (صلى الله عليه وسلم) الأول بين جميع زعماء العالم المؤثرين.
وكتب الكاتب الأمريكي القديم واشنطن إرفنج كتابًا عن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) بعنوان: "محمد وخلفاؤه". وهو في هذا الكتاب يثني على النبي ثناء شديدًا للغاية. فقد كتب على سبيل المثال يقول: "لقد كانت خصائصه الفكرية بلا شك فريدة من نوعها... فلم يهتم بروعة الثياب، ولم يتفاخر تفاخر ذي العقل التافه... وكان عادلًا في تعاملاته الخاصة. وكان يقسط إلى الأصدقاء والغرباء والفقراء والأغنياء والأقوياء والضعفاء، وكان محبوبًا من عامة الناس... ولم تصبه انتصاراته العسكرية بالغرور ولم تدعه إلى التفاخر وهو ما كان سيحدث إذا تمت هذه الانتصارات لأغراض أنانية..."
وكتب المفكر الفرنسي لامارتين يقول:
إذا كان عظم الغرض وصغر الوسيلة والنتائج المذهلة هي معايير الجنس البشري الثلاثة، فمن يجرؤ على مقارنة أي عظيم في التاريخ الحديث بمحمد؟ فلم يأت أشهر المشاهير إلا بالأسلحة والقوانين والإمبراطوريات فقط. ولم يؤسسوا إن كانوا قد أسسوا شيئا أصلًا ما هو أكثر من القوى المادية التي غالبًا ما انهارت أمام أعينهم. إن هذا الرجل لم يحرك الجيوش والتشريعات والإمبراطوريات والشعوب والأسر المالكة فحسب، وإنما حرك ملايين البشر في ثلث العالم المأهول آنذاك، بل وحرك مذابح الكنائس والآلهة والأديان والأفكار والمعتقدات والأرواح. وعلى أساس كتاب منزل أصبح كل حرف منه شريعة، أقام قومية مزجت الشعوب من كل لغة ومن كل جنس..."
وكتب الدكتور ناثانيل شميت قائلًا:
لا يمكن التشكيك في إخلاص محمد أساسًا، وإن النقد التاريخي الذي لا يغض الطرف عن أية حقيقة ولا يتسم بالسذاجة ويأخذ كل شهادة في الاعتبار وليس لديه مصلحة طائفية ولا يسعى إلا للحقيقة يجب أن يقر بصحة دعوى أنه من أنبياء الله..."
ويمكن أن يجد المرء أقوالا مهمة شبيهة لمؤرخين ومفكرين مشهورين من أمثال إدوارد جب وأرنولد توينبي وهربرت جورج ويلز وجورج برنارد شو وول ديورانت ومارشال هودجسون وغيرهم.
وإلى جانب المؤرخين والمفكرين، عبر رموز ديانات أخرى عن احترامهم وإعجابهم بالنبي محمد. فقد صرح القس مونتجومري وات بأمانة بأن "افتراض أن محمدًا كان دجالًا يثير مشاكل أكثر مما يمكن حلها. وعلاوة على ذلك، ليس هناك رمز من رموز التاريخ العظماء لم يقدر حق قدره في الغرب مثل محمد". وقال الزعيم الهندي غاندي عن النبي (صلى الله عليه وسلم) :
لقد أردت أن أتعرف على حياة الرجل الذي له تأثير لا ينازع اليوم على قلوب البشر... ولقد أصبحت أكثر اقتناعا من ذي قبل بأن الإسلام لم ينتشر بالسيف في هذه الأيام من دنيا الناس، وإنما انتشر ببساطة النبي الشديدة، وإنكاره الكامل لذاته، والوفاء الشديد بالعهود، وإخلاصه الشديد لأصحابه وأتباعه، وجرأته وشجاعته وثقته الشديدة في الله وفي رسالته؛ فهذه الأشياء وليس السيف هي التي أخضعت لهم كل شيء وتجاوزت جميع العقبات... وعندما انتهيت من الجزء الثاني (من سيرة النبي)، شعرت بالأسف لأنه لم يعد هناك ما أقرأه عن تلك الحياة العظيمة".
وفي العقود الأخيرة، تعجب الكثير من العلماء على وجه الخصوص من إعجاز القرآن وتوصلوا إلى أنه لا يتصور أن بشرًا قد افترى هذا الكتاب منذ حوالي 1400 عاما. فعلى سبيل المثال، كتب الطبيب الفرنسي موريس بوكاي في ختام دراسة شاملة عن الكتاب المقدس والقرآن والعلم يقول:
إذا أخذنا في الاعتبار المستوى العلمي السائد في عهد محمد (صلى الله عليه وسلم) ، فلا يتصور أن تكون كثير من الآيات الواردة في القرآن والتي تتعلق بالعلوم هي من كلام بشر. هذا فضلًا عن أن المنطق يقرر أنه من الصحيح تمامًا ألا نعتبر القرآن تعبيرًا عن وحي فحسب، بل أن ننزله منزلة خاصة جداً نظرًا لضمان الصحة الذي يقدمه ﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون﴾ واحتوائه على آيات تتناول حقائق علمية فيه والتي يتعذر شرحها بلغة البشر عند دراستها اليوم.
وقال الدكتور برسود وهو أخصائي التشريح والتوليد ومجالات أخرى ذات صلة وأستاذ بجامعة مانيتوبا: "إنك تجد أميًا (يعني النبي محمد) يأتي بأقوال وكلام شديد الدقة عن الطبيعة العلمية. إنني شخصيًا لا أرى أن ذلك يمكن أن يكون من محض الصدفة. فهناك الكثير جدا من الحقائق الدقيقة وشأني شأن الدكتور مور لا أجد غضاضة في الإيمان بأن هذا إلهام أو وحي إلهي قد أجرى على لسانه هذه الحقائق".
وقال الدكتور تيجاتات تيجاسين وهو أستاذ بجامعة تشيانج ماي في تايلاند:
خلال السنوات الثلاث الأخيرة، أصبحت مهتما بالقرآن... ومن واقع دراستي... أعتقد أن كل شيء قد أحصاه القرآن منذ أربعة عشر قرنًا من الزمان لابد وأنه الحق الذي تثبته الوسائل العلمية. وحيث إن النبي محمد كان أميًا لا يقرأ ولا يكتب، فلابد وأنه كان رسولًا بلغ هذا الحق الذي أوحي إليه نورًا من الخالق... ولذلك، أعتقد أنه قد حان الوقت لأن أقول... (وحينئذ أعلن الدكتور تيجاتات إسلامه).
لقد أعلن الدكتور تيجاتات إسلامه وأصبح مسلمًا. وبالفعل، صار هذا هو قدر الملايين الذين درسوا الإسلام في الشرق والغرب. ولعل بعضهم من المشاهير من أمثال نجم الروك كات ستيفنز أو الدبلوماسي الألماني مراد هوفمان، ولكن الغالبية العظمى كانت من البسطاء الصادقين الذين أدركوا أن هناك حقيقة ما وراء هذه الحقيقة وعن طريق الدراسة والتأمل الأمينين والمنصفين أدركوا وقبلوا حقيقة الإسلام.
وبالطبع، يمكن طرح مسألة مهمة جدا في هذه النقطة. لماذا لم يعتنق الإسلام جميع من عبروا عن الإسلام بخواطر رائعة؟ والإجابة هي أن كل حالة فردية يمكن أن تكون لها ظروفها المختلفة، ولكن قد يكون للكثير منهم أسبابهم الشخصية في عدم اعتناق الإسلام. فعلى سبيل المثال، للكثير ممن نشأوا في الغرب ذوق فاسد تجاه أي شكل من أشكال "التدين المنظم" ومن ثم، فهم يرون الحقيقة ولكنهم يتبعون أهواءهم. وقد يكون غيرهم "سعيدا وراضيا" بما لديهم ولا يدركون ضرورة البحث عن الحقيقة الكاملة من المنظور الرباني. ولا يرغب آخرون في إحداث تغيير جذري في حياتهم حتى وإن وجدوا الحقيقة في شيء ما. ومع ذلك، قد يكون لدى آخرين عوائق اجتماعية تعترض سبيل قبولهم هذا الدين المختلف بسبب مجتمعهم أو مكانتهم. وتتعدد الأسباب. وعلى أي حال، للإسلام فضائله العظيمة. وينبغي ألا يهتم الفرد كثيرا بما قد يفعله أو يقوله الآخرون فلكل منهم ما يخصه من دواعي المحبة والكراهية. وإنما عليه أن يبادر من تلقاء نفسه بمحاولة البحث عن الحقيقة واكتشافها. وهكذا، يتم تشجيعه ودعوته إلى دراسة منصفة للإسلام. وكما هو الحال في كثير من الأحوال، قد يهديه ذلك إلى حقيقة الإسلام ورغبة في اعتناق دين الله.
وهذا يدفعنا إلى الموضوع الأخير: وهو كيف يصير المرء مسلمًا؟
كيف يصير المرء مسلمًا؟
يصير المرء مسلمًا من خلال منظومة بسيطة ومباشرة تمامًا. فكل ما تتطلبه هو إعلان المرء عن إيمانه. وهكذا، يشهر المرء إسلامه أمام شهود فيقول: "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله". عند النطق بهذه العبارات، يدخل المرء في دين الإسلام الجليل وهو دين يمتد من لدن آدم وحتى آخر أيام هذه الدنيا.
ويستحب أن يغتسل المرء قبل إعلان إسلامه. فهذا العمل الرمزي كفارة لجميع ما مضى من الأعمال حيث أن المرء يدخل مرحلة جديدة من حياته. فقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم) "الإسلام يجب ما قبله". وبعبارة أخرى، حتى لو كان المرء من أهل المعاصي أو من أهل الغفلة قبل إسلامه، فهو يترك كل هذا وراء ظهره ليحيا حياة جديدة. ومع ذلك، عليه أن يدرك أنه بذلك قد اتخذ أولى خطواته. وتبقى أمامه خطوات مهمة أخرى. وينبغي أن يكون على استعداد عندئذ لأن ينمو ويترعرع كعابد وعبد من عباد الله المخلصين حتى يلقى الله في نهاية المطاف يوم القيامة وقد رضي بعبوديته لله، ورضي الله عنه.
وقد ذكرنا من قبل أن الإسلام منهج حياة كامل. فعند اعتناق الإسلام، على المرء أن ينوي التسليم لله. وهذا يعني أن تغييرات كثيرة قد تحدث في حياة الشخص. ومن ثم، فهي نقطة تحول حقيقية في حياة الإنسان من نواح عديدة. وينبغي أن يلتزم المرء بما يعلم وبالإيمان الراسخ بأن إرضاء الله هو الهدف الأسمى في حياة الإنسان.
ومع ذلك، لا ينبغي أن يسير المرء على درب الإيمان وحيدًا. فمنذ لحظة اعتناقه للإسلام، يدخل المرء – ذكرًا كان أم أنثى - في رباط الأخوة في الله، فالمؤمنون بعضهم أولياء بعض. ففي كل مدينة كبيرة حول العالم، يمكن أن يجد المرء مراكز ومساجد إسلامية. ولقد وجد كاتب هذه الأسطر أن تلك المراكز دائمًا ما تسعد بالترحيب بأي وافد جديد على جماعة المسلمين وبمحاولة مساعدته على النمو كمسلم.
وقد جعل الله – فضلًا منه ورحمة - دينه متاحًا للجميع. فليس هناك قيود، فكل المطلوب هو قلب مخلص راغب في التسليم لله وعبادته وحده.
أسأل الله أن يهدي جميع الباحثين المخلصين عن الحقيقة إلى سبيل دينه الحق، دين الإسلام.
خاتمة
حاول الكاتب إلقاء بعض الضوء على دين الله- الإسلام، لكن معلوم أنه يتعذر أداء هذه المهمة في بضعة كلمات معدودات. وأحيانًا، يتعذر التعبير بالكلمات عن الجمال الذي يستشعره المرء. ومع ذلك، يأمل المؤلف في أن يمس بعض ما كتب قلب القارئ وعقله. والنصيحة الوحيدة التي يقدمها هذا المؤلف هي تشجيع كل قارئ على الإنابة إلى الله بإخلاص القلب وطلب الهداية منه. وهو سبحانه مع إخلاص الدعاء سيهدينا مباشرة إلى حقيقة وجمال الإسلام، آمين.