×
رسالة للإمام ابن قيم الجوزية - رحمه الله - ذكر فيها أكثر من 30 ضررًا وأثرًا قبيحًا للذنوب والمعاصي على القلب والبدن والمجتمع.


    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.. وبعد:

    فهذه رسالة نفيسة للإمام ابن القيم الجوزية جدير بكل مسلم أن يقرأها ويدقق النظر فيها حيث ذكر ابن القيم أكثر من 30 ضررًا وأثرًا قبيحًا للذنوب والمعاصي على القلب والبدن والمجتمع.

    وقد رأت دار ابن خزيمة للنشر لأهمية هذه الرسالة أن تقوم بطبعها ونشرها حتى يستفيد منها كل مسلم. ندعو الله أن يجعل ذلك في موازين أعمالنا يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

    قال الإمام ابن القيم رحمه الله:

    وكثير من الجهال – اعتمدوا على رحمة الله وعفوه وكرمه فضيعوا أمره ونهيه، ونسوا أنه شديد العقاب، وأنه لا يرد بأسه عن القوم المجرمين ، ومن اعتمد على العفو مع الإصرار على الذنب فهو كالمعاند.

    وقال معروف: رجاؤك لرحمة من لا تطيعه من الخذلان والحمق ، وقال بعض العلماء: من قطع عضوًا منك في الدنيا بسرقة ثلاثة دراهم فلا تأمن أن تكون عقوبته في الآخرة على نحو هذا، وقيل للحسن نراك طويل البكاء فقال: أخاف أن يطرحني في النار ولا يبالي. وسأل رجل الحسن، فقال يا أبا سعيد: كيف نصنع بمجالسة أقوام يخوفونا حتى تكاد قلوبنا تنقطع؟ فقال: والله لأن تصحب أقوامًا يخوفونك حتى تدرك أمنًا خير لك من أن تصحب أقوامًا يؤمنونك حتى تلحقك المخاوف.

    * وقد ثبت في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد قال: سمعت رسول الله ﷺ‬ يقول: «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتتدلق أقطاب بطنه في النار كما يدور الحمار برحاه ، فيطوف به أهل النار فيقولون: يا فلان ما أصابك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه».

    * وذكر الإمام أحمد من حدث أبي رافع قال: مر رسول الله ﷺ‬ بالبقيع فقال: «أف لك أف لك» فظننت أنه يريدني. قال: «لا ولكن هذا قبر فلان بعثته ساعيًا إلى آل فلان فغل نمرة ، فدُرع الآن مثلها من نار».

    * وفي صحيح مسلم قال: قال رسول الله ﷺ‬: «يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار فيصبغ في النار صبغة. ثم يقال: له: يا ابن آدم هل رأيت خيرًا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول؛ لا والله يا رب. ويؤتى بأشد الناس بؤسًا في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ في الجنة صبغة ، فيقال له: يا ابن آدم ، هل رأيت بؤسًا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب ما مربي بؤس قط ولا رأيت شدة قط».

    * وفي صحيح مسلم قال: سمعت رسول الله ﷺ‬ يقول: «إن أول الناس يقضى فيه يوم القيامة ثلاثة: رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها ، فقال ما عملت فيها؟ قال قاتلت فيك حتى قتلت، قال كذبت ولكن ليقال هو جريء فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها فقال ما عملت فيها؟ قال تعلمت فيك العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، فقال: كذبت ولكنك تعلمت ليقال هو عالم، وقد قيل، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه رزقه وأعطاه من أصناف المال كله ، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها فقال: ما عملت فيها؟ فقال: ما تركت من سبيل تحب أن أنفق فيها إلا أنفقت فيها لك. قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار وفي لفظ: - فهؤلاء أول خلق الله تسعر بهم النار – يوم القيامة».

    * وقال ﷺ‬: «إذا رأيت الله عز وجل يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج» ثم تلا قوله عز وجل: }فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ{.

    * وقال بعض السلف إذا رأيت الله عز وجل يتابع عليك نعمه وأنت مقيم على معاصيه فاحذره فإنما هو استدراج منه يستدرجك به.وقد قال تعالى: }وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ{.

    وقد رد سبحانه على من يظن هذا الظن بقوله: }فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا{ أي ليس كل من نعمته ووسعت عليه رزقه أكون قد أكرمته، وليس كل من ابتليته وضيقت عليه رزقه أكون قد أهنته، بل أبتلي هذا بالنعم وأكرم هذا بالابتلاء.

    * وفي جامع الترمذي أنه ﷺ‬ قال: «إن الله يعطي من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب».

    * وقال بعض السلف: «رب مستدرج بنعم الله عليه وهو لا يعلم ، ورب مفتون بثناء الناس عليه وهو لا يعلم ، ورب مغرور بستر الله عليه وهو لا يعلم».

    فمما ينبغي أن يعلم أن الذنوب والمعاصي تضر، ولا شك أن ضررها في القلوب كضرر السموم في الأبدان على اختلاف درجاتها في الضرر. وهل في الدنيا والآخرة شر وداء إلا سببه الذنوب والمعاصي؟.

    فما الذي اخرج الأبوين من الجنة دار اللذة والنعيم والبهجة والسرور إلى دار الآلام والأحزان والمصائب؟ وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء وطرده ولعنه ومسخ ظاهره وباطنه؟ وما الذي أغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماء فوق رؤوس الجبال، وما الذي سلط الريح العقيم على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض كأنهم أعجاز نخل خاوية ودمرت ما مرت عليه من ديارهم وحروثهم وزروعهم ودوابهم حتى صاروا عبرة للأمم إلى يوم القيامة؟ وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم وماتوا عن آخرهم؟ وما الذي رفع قرى اللوطية حتى سمعت الملائكة نباح كلابهم ، ثم قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها ، فأهلكهم جميعًا ثم أتبعهم حجارة من سجيل أمطرها عليهم، فجمع عليهم من العقوبة ما لم يجمعه على أمة غيرهم. ولإخوانهم أمثالها، وما هي من الظالمين ببعيد؟ وما الذي أرسل على قوم شعيب سحاب العذاب كالظلل، لما صار فوق رؤوسهم أمطر عليهم نارًا تلظى؟ وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر ثم نقلت أرواحهم إلى جهنم فالأجساد للغرق والأرواح للحرق؟ وما الذي خسف بقارون وداره وماله وأهله؟ وما الذي أهلك القرون من بعد نوح بأنواع العقوبات ودمرها تدميرًا؟ وما الذي أهلك قوم صاحب «يس» بالصيحة حتى خمدوا عن آخرهم؟ وما الذي بعث على بني إسرائيل قومًا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار ، وقتلوا الرجال وسبوا الذراري والنساء وأحرقوا الديار ونهبوا الأموال ، ثم بعثهم عليهم مرة ثانية ، فأهلكوا ما قدروا عليه ، وتبروا ما علوا تتبيرا، وما الذي سلط عليهم أنواع العذاب والعقوبات مرة القتل والسبي وخراب البلاد ومرة بجور الملوك ومرة بمسخهم قردة وخنازير، وآخر ذلك أقسم الرب تبارك وتعالى: }لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ{.

    * وفي جامع الترمذي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ‬ « يخرج في آخر الزمان قوم يختلون الدنيا بالدين ويلبسون للناس مسوح الضأن من اللين، ألسنتهم أحلى من السكر ، وقلوبهم قلوب الذئاب ، يقول الله عز وجل: أبي تغترون؟ أم علي تجترئون؟ فبي حلفت، لأبعثن على أولئك فتنة تدع الحليم حيرانًا».

    * وذكر ابن أبي الدنيا من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال: قال علي: (يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه ، ولا من القرآن إلا رسمه ، مساجدهم يومئذ عامرة وهي خراب من الهدى. علماؤهم شر من تحت أديم السماء، منهم خرجت الفتنة وفيهم تعود).

    * وذكر من حدث سماك بن حرب عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه: (إذا ظهر الربا والزنا في قرية أذن الله عز وجل بهلاكها) وفي مراسيل الحسن: (إذا أظهر الناس العلم ، وضيعوا العمل، وتحابوا بالألسن ،وتباغضوا بالقلوب ، وتقاطعوا الأرحام - لعنهم الله عز وجل عند ذلك فأصمهم وأعمى أبصارهم).

    * وفي سنن ابن ماجة من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب: كنت عاشر عشرة رهط من المهاجرين عند رسول الله ﷺ‬ فأقبل علينا رسول الله بوجهه فقال: «يا معشر المهاجرين، خمس خصال أعوذ بالله أن تدركوهن. ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولا نقص قوم المكيال إلا ابتلوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان. وما منع قوم زكاة أمولهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولا خفر قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله من كتابه إلا جعل الله بأسهم بينهم».

    * وفي المسند قال رسول الله ﷺ‬: «إن من كان قبلكم كان إذا عمل العامل فيهم بالخطيئة جاءه الناهي تعذيرًا قال يا هذا اتق الله. فإذا كان من الغد جالسه وواكله وشاربه كأنه لم يره على خطيئة بالأمس ، فلما رأى الله عز وجل ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض ثم لعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. والذي نفس محمد بيده لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، ولتأخذن على يد السفيه ، ولتأطرنه على الحق أطرًا ، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم».

    * ونظر بعض أنبياء بني إسرائيل إلى ما يصنع بهم بختنصر فقال: (بما كسبت أيدينا سلطت علينا من لا يعرفك ولا يرحمنا). وقال بختنصر لدانيال: ما الذي سلطني على قومك؟ قال: (عظم خطيئتك وظلم قومي أنفسهم).

    * وذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب: توشك القرى أن تخرب وهي عامرة؟ قال إذا علا فجارها على أبرارها وساد القبيلة منافقوها.

    * وذكر الأوزاعي عن حسان بن عطية أن النبي ﷺ‬ قال: «سيظهر شرار أمتي على خيارها حتى يستخفي المؤمن فيهم كما يستخفي المنافق فينا».

    وللمعاصي من الآثار القبيحة المذمومة المضرة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلا الله.

    فمنها: حرمان العلم، فإن العلم نور يقذفه الله في القلب، والمعصية تطفئ ذلك النور.

    ومنها: حرمان الرزق. وفي المسند (إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه).

    ومنها: وحشة يجدها العاصي في قلبه لا يوازنها ولا يقارنها لذة أصلاً ولو اجتمعت له لذات الدنيا بأسرها لم تف بتلك الوحشة. وهذا أمر لا يحس به إلا من في قلبه حياة، وما لجرح بمبيت إيلام.

    ومنها: الوحشة التي تحصل بينه وبين الناس لا سيما أهل الخير منهم. وتقوى هذه الوحشة حتى تستحكم فتقع بينه وبين امرأته وولده وأقاربه وبينه وبين نفسه فتراه مستوحشًا من نفسه. وقال بعض السلف إني لأعصي الله فأرى ذلك في خلق دابتي وامرأتي.

    ومنها: تعسير أموره.

    ومنها: ظلمة يجدها في قلبه حقيقة يحس بها كما يحس بظلمة الليل البهيم.

    ومنها: أن المعاصي توهن القلب والبدن.

    ومنها: أن المعاصي تقصر العمر وتمحق بركته.

    ومنها: أن المعاصي تزرع أمثالها ويولد بعضها بعضًا حتى يعز على العبد مفارقتها والخروج منها كما قال بعض السلف: إن من عقوبة السيئة السيئة بعدها وإن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها.

    ومنها: وهو من أخوفها على العبد – أنها تضعف القلب عن إرادته فتقوى إرادة المعصية وتضعف إرادة التوبة شيئًا فشيئًا إلى أن تنسلخ من قلبه إرادة التوبة بالكلية.

    ومنها: أن ينسلخ من القلب استقباحها فتصير له عادة، فلا تستقبح من نفسه رؤية الناس له ولا كلامهم فيه.

    ومنها: أن كل معصية من المعاصي فهي ميراث عن أمة من الأمم التي أهلكها الله عز وجل، فاللوطية ميراث عن قوم لوط. والعلو في الأرض والفساد ميراث عن فرعون وقومه، وهكذا.

    ومنها: أن المعصية سبب لهوان العبد على ربه وسقوطه من عينه. قال الحسن البصري: هانوا عليه فعصوه ولو عزوا عليه لعصمهم وإذا هان العبد على الله لم يكرمه أحد، قال الله تعالى في سورة الحج: }وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ{ وإن عظمهم الناس في الظاهر لحاجتهم إليهم أو خوفًا من شرهم فهم في قلوبهم أحقر شيء وأهونه.

    ومنها: أن العبد لا يزال يرتكب الذنوب حتى تهون عليه وتصغر في قلبه وذلك علامة الهلاك.

    ومنها: أن غيره من الناس والدواب يعود عليه شؤم ذنبه فيحترق هو وغيره بشؤم الذنوب والظلم.

    ومنها: أن المعصية تورث الذل فإن العز كل العز في طاعة الله تعالى، قال تعالى في سورة فاطر: }مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا{. أي: فليطلبها بطاعة الله فإنه لا يجدها إلا في طاعته. وكان من دعاء بعض السلف: اللهم اعزني بطاعتك ولا تذلني بمعصيتك.

    قال الحسن البصري: إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين – فإن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه.

    ومنها: أن المعاصي تفسد العقل ، فإن للعقل نورًا والمعصية تطفئ نور العقل.

    ومنها: أن الذنوب إذا تكاثرت طبع على قلب صاحبها فكان من الغافلين كم قال بعض السلف في قوله تعالى في سورة المطففين: }كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ{.

    ومنها: حرمان دعوة رسول الله ﷺ‬ ودعوة الملائكة فإن الله سبحانه أمر نبيه أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات وقال تعالى: }الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ{.

    ومنها: ذهاب الحياء الذي هو مادة الحياة للقلب وهو أصل كل خير، وذهابه ذهاب كل خير بأجمعه. وفي الصحيح عنه ﷺ‬ أنه قال: «الحياء خير كله» وقال: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت».

    ومنها: أنها تضعف في القلب تعظيم الرب جل جلاله وتضعف وقاره في قلب العبد ولا بد شاء أم أبى. ولو تمكن وقار الله وعظمته في قلب العبد لما تجرأ على معاصيه.

    ومنها: أنها تستدعي نسيان الله لعبده وتركه وتخليته بينه وبين نفسه وشيطانه، وهنالك الهلاك الذي لا يرجى معه نجاة قال تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ{.

    ومنها: أنها تزيل النعم وتحل النقم فما زالت عن العبد نعمة إلا بسبب ذنب، ولا حلت به نقمة إلا بذنب كما قال علي بن أبي طالب t: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع بلاء إلا بتوبة. وقد قال تعالى: }وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ{.

    ومنها: أنها تصرف القلب عن صحته واستقامته إلى مرضه وانحرافه فلا يزال مريضًا معلولاً لا ينتفع بالأغذية التي بها حياته وصلاحه فإن تأثير الذنوب في القلوب كتأثير الأمراض في الأبدان. بل الذنوب أمراض القلوب وداؤها ولا دواء لها إلا تركها. وقد أجمع السائرون إلى الله أن القلوب لا تعطى مناها حتى تصل إلى مولاها، ولا تصل إلى مولاها حتى تكون صحيحة سليمة ولا تكون صحيحة سليمة حتى ينقلب داؤها فيصير دواءها، ولا يصح لها ذلك إلا بمخالفة هواها، وهواها مرضها وشفاؤها مخالفته، فإن استحكم المرض قتل أو كاد، وكما أن من نهي نفسه عن الهوى كانت الجنة مأواه كذلك يكون قلبه في هذه الدار في جنة عاجلة لا يشبه نعيم أهلها البتة، بل التفاوت الذي بين النعيمين كالتفاوت الذي بين نعيم الدنيا والآخرة. وهذا أمر لا يصدق به إلا من باشر قلبه هذا وهذا. ولا تحسب أن قوله تعالى: }إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ{ مقصور على نعيم الآخرة وجحيمها فقط بل في دورهم الثلاثة – كذلك: أعني دار الدنيا ودار البرزخ ودار القرار. فهؤلاء في نعيم وهؤلاء في جحيم، وهل النعيم إلا نعيم القلب؟ وهل العذاب إلا عذاب القلب؟ وأي عذاب أشد من الخوف والهم والحزن وضيق الصدر وإعراضه عن الله والدار الآخرة وتعلقه بغير الله وانقطاعه عن الله؟ بكل واد منه شعبة، وكل شيء تعلق به وأحبه من دون الله فإنه يسومه سوء العذاب، فكل من أحب شيئًا غير الله عذب به ثلاث مرات: مرة في هذه الدار فهو يعذب به قبل حصوله حتى يحصل، فإذا حصل عذب به حال حصوله بالخوف من سلبه وفواته والتنغيص والتنكيد عليه وأنواع المعارضات، فإذا سلبه اشتد عذابه عليه، فهذه ثلاثة أنواع من العذاب في هذه الدار، وأما في البرزخ فعذاب يقارنه ألم الفراق الذي لا يرجى عوده، وألم فوات ما فاته من النعيم العظيم باشتغاله بضده، وألم الحجاب عن الله، وألم الحسرة التي تقطع الأكباد. فالهم والغم والحسرة والحزن تعمل في نفوسهم نظير ما تعمل الهوام والديدان في أبدانهم ، بل عملها في النفوس دائم مستمر حتى يردها الله إلى أجسادها ، فحينئذ ينتقل العذاب إلى نوع هو أدهى وأمر. فأين هذا من نعيم من يرقص قلبه طربًا وفرحًا وأنسًا بربه واشتياقًا إليه وارتياحًا بحبه وطمأنينة بذكره؟ حتى يقول بعضهم في حال نزعه : واطرباه. ويقول الآخر: مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا لذيذ العيش فيها وما ذاقوا أطيب ما فيها. ويقول الآخر: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف. ويقول الآخر: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة. فيا من باع حظه الغالي بأبخس الثمن؛ وغبن كل الغبن في هذا العقد وهو يرى أنه قد غبن، إذا لم تكن لك خبرة بقيمة السلعة فاسأل المقومين، فيا عجبًا من بضاعة معك، الله مشتريها، وثمنها جنة المأوى، والسفير الذي جرى على يده عقد التبايع وضمن الثمن عن المشتري هو الرسول ﷺ‬ ، وقد بعتها بغاية الهوان!!

    وبعد – أيها القارئ العزيز – الآن وقد أنهيت قراءة هذه الرسالة سلمها إلى قريبك أو صديقك ليقرأها ، وأعد طباعتها إن استطعت ووزعها على أكبر عدد من الناس ليكون الأجر مضاعفًا.

    والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين.

    * * *