على الباغي تدور الدوائر
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
- على
الباغي تدور الدوائر
- المقدمة
- اتق دعوة المظلوم!
- رسالة الموت
- اللهم لا تسلطه على أحد بعدي
- سيف العدالة
- معذبة زنيرة
- وكانت نهايته مؤلمة
- الرصاصة العادلة
- عاقبة المعاصي والعصاة
- يمهل ولا يهمل
- على الباغي تدور الدوائر
- صفعة على الخد الآخر
- المعذبون في الأرض
- من زرع الإثم حصد الدماء
- رفض الهدنة فأصبح أسيرًا
- اللهم خذه أخذًا عزيزًا
- من قتل يُقتل ولو بعد حين
- أراد قتل الضيف فقتل ابنه
- سوء الخاتمة
- اللهم عليك به
- جزاء المرابي
- حكمة القدر
- اللهم انصرني هذا اليوم
- نهاية ظالم
- بشر القاتل بالقتل
على الباغي تدور الدوائر
خالد أبو صالح
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله الذي أمر بالعدل والإحسان، ونهى عن البغي والظلم والعدوان، والصلاة والسلام على نبينا محمد المؤيد بالحكمة والبرهان، وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين، أما بعد :
فمن محاسن الإسلام – وكل ما في الإسلام حسن – أنه نهى عن البغي وحذر منه قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ﴾ [النحل: 90].
والبغي يرجع معناه إلى تجاوز حد الاقتصاد فيما يُتحرى، وينطبق ذلك على الظلم والاستطالة على الناس والإيقاع بهم، والإفساد في الأرض والحسد والاستعلاء على الناس؛ كل ذلك من البغي المحرم الذي هو من كبائر الذنوب.
وأخبر تعالى أن البغي يرجع على صاحبه بالنكال والخسران في الدنيا والآخرة. قال تعالى: ﴿فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ [يونس: 23]، وقلما ينجو الباغي بفعلته ولذلك قيل: على الباغي تدور الدوائر. وقيل: البغي مرتعه وخيم. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدّخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم» [رواه أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح].
وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن البغي هو نهاية الفساد فقال: «سيصيب أمتي داء الأمم»، فقالوا: يا رسول الله! وما داء الأمم؟ قال: «الأشر والبطر، والتكاثر، والتناجش في الدنيا، والتباغض، والتحاسد، حتى يكون البغي» [رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي].
ولكن ماذا على المظلوم الذي بغي عليه، كيف يتصرف؟ أخبر القرآن أنه إن استطاع أن يأخذ حقه، وينتصف من ظالمه بقدر مظلمته فليفعل ولا حرج عليه في ذلك قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ﴾ [الشورى: 39].
ولا ريب أن الدولة مسؤولة عن إنصاف المظلومين ورفع الظلم عنهم، وما دام هناك حكومة ومحاكم وجهات قضائية، فلا يجوز للأفراد أن يتولوا تنفيذ الأحكام بأنفسهم، وإنما لا بد من الرجوع للقضاء والتحاكم إلى شرع الله تعالى في كل صغيرة وكبيرة.
وإذا لم يستطع المظلوم أخذ حقه في الدنيا فليصبر فإن عاقبة الصبر حميدة، وعاقبة البغي شنيعة. قال تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾ [الحج: 60].
قال عبد الله بن أشهب التميمي: كانوا يقفون في الجاهلية بالموقف فيسمعون صوتًا من الجبل يقول:
البغي يصرع أهله ويحثهم | ||
دار المذلة والمعاطس رغم | ||
فيطوفون بالجبل فلا يرون شيئًا، ويسمعون الصوت بذلك.
وهذه – أخي الحبيب – مجموعة من القصص في ذم البغي وبيان سوء عاقبته في الدنيا، والآخرة أشد وأنكى.
نسأل الله تعالى أن يصرف قلوبنا عن الظلم والبغي والاستطالة على الخلق بغير حق. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وكتبه
خالد بن مصطفى سالم
الرياض ص. ب. 3310
اتق دعوة المظلوم!
روى البخاري([1]) أن أهل الكوفة شكوا سعد بن أبي وقاص إلى عمر رضي الله عنه، فعزله واستعمل عليهم عمارًا، فشكوا سعدًا حتى ذكروا أنه لا يحسن يصلي. فأرسل إليه فقال: يا أبا إسحاق، إن هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن تصلي. قال سعد: أما أنا فوالله إني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما أخرم عنها، أصلي صلاة العشاء فأركد في الأوليين([2]) وأخف في الأخريين. قال: ذاك الظن بك يا أبا إسحاق. فأرسل معه رجلاً – أو رجالاً – إلى الكوفة، فسأل عنه أهل الكوفة، ولم يدع مسجدًا إلا سأل عنه، ويثنون معروفًا، حتى دخل مسجدًا لبني عبس، فقام رجل منهم يقال له: أسامة بن قتادة، يكنى أبا سعدة، قال: أما إذا نشدتنا، فإن سعدًا كان لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية. قال سعد: وأنا والله لأدعون بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذبًا، قام رياء وسمعة، فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه للفتن. وكان الرجل إذا سئل بعد يقول:
شيخ كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد!!
قال عبد الملك: فأنا رأيته بعد، قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنه ليتعرض للجواري في الطرق يغمزهن!!
فإياك أيها العبد أن تتعرض لعباد الله الصالحين، فإنهم في حفظ الله وكنفه كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ [الحج: 38]، وإذا دافع الله عن أحد فهل لمخلوق قبل بإنزال الهزيمة بساحته؟! كلا ولو اجتمع على ذلك الأولون والآخرون، إذن فلماذا تقف في موقف المواجهة مع رب السموات والأرض؟ أما علمت أن الله يقول في الحديث القدسي: «من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب» [رواه البخاري].
يا مسكين! أتريد أن تدخل في حرب مع خالقك؟ أين قوتك؟ أين جنودك؟ أين سلاحك؟ أين حصونك؟ أين أرضك أين سماؤك؟ أفق من سكرتك، وعد إلى رشدك، وأعرف من أنت، وكيف بدأت وإلى أي شيء تنتهي...
نادي القصور التي أقوتْ معاِلمهُا | ||
أين الجسوم التي طابت مطاعمُها | ||
أين الملوك وأبناء الملوك ومن | ||
ألهاه ناضر دنياه وناعمها | ||
أين الأسود التي كانت تحاذرها | ||
أُسد العرين ومن خوفٍ تسالمها | ||
أين الجيوش التي كانت لو اعترضت | ||
لها العقابُ لخانتها قوادمها | ||
أين الذين لهَوْا عما له خُلقوا | ||
كما لهتْ في مراعيها سوائمها | ||
أين البيوت التي من عسجد نُسجت | ||
هل الدنانير أغنت أم دراهمها؟ | ||
أين الأسرةُ تعلوها ضراغمُها | ||
هل الأسرةُ أغنت أم ضراغمها؟ | ||
أين العيون التي نامت فما انتبهتْ | ||
واهًا لها نومةً ما هب نائمها ([3]) | ||
رسالة الموت
نشأ أحمد بن طولون في صيانة وعفاف ورياسة ودراسة للقرآن العظيم مع حسن الصوت به، وحكى ابن عساكر عن بعض مشايخ مصر: أن طولون لم يكن أباه وإنما كان قد تبناه([4]) لديانته وحسن صوته بالقرآن، وظهور نجابته وصيانته منذ صغره.
وبعثه طولون مرة في حاجة ليأتيه بها من دار الإمارة، فذهب أحمد، فإذا حظية من حظايا طولون مع بعض الخدم وهما على فاحشة، فأخذ أحمد حاجته التي أمر بها طولون وكرَّ راجعًا إليه سريعًا، ولم يذكر له شيئًا مما رأى من الحظية والخادم. ولكن الحظية توهمت أن يكون أحمد قد أخبر طولون بما رأى، فجاءت إلى طولون وقالت: إن أحمد جاءني الآن إلى المكان الفلاني وراودني عن نفسي، وانصرفت إلى قصرها.
فوقع في نفسه صدقها، فاستدعى أحمد وكتب معه كتابًا وختمه إلى بعض الأمراء، ولم يواجه أحمد بشيء مما قالت الجارية، وكان في الكتاب «إن ساعة وصول حامل هذا الكتاب إليك تضرب عنقه وابعث برأسه سريعًا إلي».
فذهب أحمد بالكتاب من عند طولون وهو لا يدري ما فيه، فاجتاز بطريقه بتلك الحظية، فاستدعته إليها.
فقال: إني مشغول بهذا الكتاب لأوصله إلى بعض الأمراء.
قالت: هلم فلي إليك حاجة.
وأرادت أن تحقق في ذهن الملك طولون ما قالت له، فحبسته عندها ليكتب لها كتابًا، ثم أخذت من أحمد الكتاب الذي أمره طولون أن يوصله إلى ذلك الأمير، فأعطاها إياه، فأرسلت به ذلك الخادم الذي وجده معها على الفاحشة، وكانت تظن أن في الكتاب جائزة تريد أن تخص بها الخادم المذكور، فذهب الخادم بالكتاب إلى ذلك الأمير.
فلما قرأه أمر بضرب عنق ذلك الخادم وأرسل برأسه إلى الملك طولون، فتعجب الملك من ذلك، وقال: أين أحمد؟!
فطُلب له: فقال: ويحك أخبرني كيف صنعت منذ خرجت من عندي؟! فأخبره بما جرى من الأمر.
ولما سمعت تلك الحظية بأن رأس الخادم قد أُتي به إلى طولون أسقط في يديها وتوهمت أن الملك قد تحقق الحال، فقامت إليه تعتذر مما وقع منها مع الخادم، اعترفت بالحق وبرأت أحمد مما نسبته إليه، فحظي عند الملك طولون وأوصى له بالملك من بعده ([5]).
اللهم لا تسلطه على أحد بعدي
من أعظم الأمراض وأشد الأدواء مرض الإعجاب بالنفس والتسلط على عباد الله وعدم مراقبة الرب، والاغترار بالدنيا والتدنس ببهرجها وزخارفها حتى تكون معبوده الذي يعبد، من أجلها يحب، ومن أجلها يبغض، ومن أجلها يبذل، ومن أجلها يحيا، ومن أجلها يموت، وما علم أن الدنيا متاع الغرور، كم غرت من الناس وتركتهم قبل أن يتركوها، ولا أحد أضل ممن اتبع هواه ووافق شهوته من غير تقييدها بقيود الشرع.
والحجاج بن يوسف رجل تجرأ على الدماء، وأحب الاعتداء، وقد لا يمر به يوم لا يؤذي فيه أحدًا إلا ما ندر، وأمره إلى ربه لا نقول إلا كما يقول الذهبي: «نسبّه ولا نحبه، ونبغضه في الله، فذلك من أوثق عرى الإيمان، له حسنات انغمرت في بحر سيئاته وأمره إلى الله تعالى»([6]).
وقد ذكر ابن كثير – رحمه الله تعالى – عند إيراده لسيرة الحجاج أنه لم يرتضع أيامًا عند ولادته، فسقوه دم جدي فكان أول ما دخل جوفه الدم ([7])، وكان يحب سفك الدماء، وممن سُلّط عليهم التابعي الجليل سعيد بن جبير – يرحمه الله -. ولست في معرض الحديث عن سيرته وإن كانت سيرته شيقة لأهل القلوب الحية، ولكني سأقتصر على دعوته على الحجاج ألا يسلطه الله على أحد بعده.
وسبب تصادمه مع الحجاج وتتبع الحجاج له، ما حصل بين الحجاج وبين عبد الرحمن بن الأشعث إذ أمر الحجاج بجعل سعيد بن جبير على نفقات الجند أمينًا عليها يتصرف حسب الحاجة وليحفظ حقوق المسلمين، فهو أمين على ذلك، ولكن ابن الأشعث خلع الحجاج وخرج عن طاعته لجوره وظلمه، وقد بايعه الجند الذين كانوا معه في حربه لرتبيل ملك الترك، وكان من ضمن الجند سعيد بن جبير – رحمه الله – وقد انتصر الحجاج على ابن الأشعث، فهرب سعيد إلى أصبهان، فكتب الحجاج إلى نائبها أن يبعثه إليه، فلما سمع سعيد بذلك هرب إلى مكة واستقر بها، وكان الحجاج يطارده ويتلمس أخباره، وأشار المحبون لسعيد أن يهرب من مكة، قال: والله لقد استحييت من الله مما أفر ولا مفر من قدره.
وأمر أمير مكة خالد بن عبد الله القسري بالبحث عن سعيد فبحثوا عنه حتى وجدوه، وألقوا القيد في يديه على مرأى من بعض أصحابه , وآذنوه بالرحيل إلى الحجاج، فتلقاهم هادئ النفس مطمئن القلب، ثم التفت إلى أصحابه وقال: ما أراني إلا مقتولاً على يدي ذلك الظالم، ولقد كنت أنا وصاحبان لي في ليلة عبادة فاستشعرنا حلاوة الدعاء فدعونا الله بما دعونا وتضرعنا إليه بما شاء أن نتضرع، ثم سألنا الله جل وعز أن يكتب لنا الشهادة، وقد رزقها الله تعالى لصاحبيَّ كليهما وبقيت أنا انتظرها.
ثم إنه ما كاد ينتهي من كلامه حتى طلعت عليه بنت صغيرة له فرأته مقيدًا والجند يسوقونه فتشبثت به وجعلت تبكي وتنشج، فأبعدها برفق والعبرة في فؤاده رحمة بها لا جزعًا من الموت، وقال لها: يا بنية قولي لأمك إني أرجو الله أن يجمعنا في الجنة، وإن افترقنا في الدنيا فإن موعدنا الجنة إن شاء الله تعالى... ثم مضى، واطلع الجند على عبادته وزهده وورعه وتقواه، فذهلوا لذلك وقالوا: كيف يقتل مثل هذا وما جنايته إلا الانتقام للنفس، ولعل بعض الجند قد عرض عليه التخلص فأبى مستسلمًا لأمر الله تعالى ومنقادًا له. ولعلمه ويقينه أنه لا يغني حذر من قدر.
فلما وصل سعيد إلى الحجاج وأدخلوه عليه نظر إليه في حقد وغيظ وقال: ما اسمك؟ قال: اسمي سعيد بن جبير. قال له: بل أنت شقي بن كسير. فقال: بل كانت أمي أعلم باسمي منك. فقال: ما تقول في محمد؟
قال: من تعني بمحمد هل تريد الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟
قال: نعم.
قال: وهل يخفى عليك قولي فيه، وهو سيد ولد آدم، النبي المصطفى وليس مثلك يسأل مثلي لأننا جميعًا نؤمن برسالته، ولا يُسأل إلا شاك مرتاب.
قال له: فما تقول في أبي بكر؟
قال: هو الصديق خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ذهب حميدًا وعاش سعيدًا، وسأله عن عمر، وعن عثمان، وعن علي، وهو يجيب بما اتصف به كل واحد من هؤلاء الكرام البررة صفوة الخلق بعد الرسل الأئمة المهديين الذي رضي الله عنهم ورضوا عنه، ثم قال له: أي خلفاء بني أمية أعجب لك؟ قال: أرضاهم لخالقهم.
قال: فأيهم أرضى للخالق؟
قال: علم ذلك عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى.
قال: فما تقول فيَّ؟
قال: أنت أعلم بنفسك.
قال: أريد علمك أنت؟
قال: إذن يسوؤك ولا يسرك.
قال: لا بد أن أسمع منك.
قال: إني لأعلم أنك مخالف لكتاب الله تعالى، تقدم على أمور تريد بها الهيبة وهي تقحمك في الهلكة، وتدفعك إلى النار، قال له: والله لأقتلنك، قال: إذن تفسد علي دنياي وأفسد عليك آخرتك... قال: اختر لنفسك أي قتلة شئت؟
قال: بل اخترها أنت لنفسك يا حجاج، فوالله ما تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة.
قال: أتريد أن أعفو عنك؟
قال: إن كان عفو فمن الله تعالى، فدعا الحجاج بالسيف والنطع فتبسم سعيد فقال له الحجاج: وما تبسمك؟
قال: عجبت من جراءتك على الله وحلم الله عليك.
قال: اقتله يا غلام فاستقبل سعيد القبلة ثم قال: ﴿وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 8].
قال: احرفوا وجهه عن القبلة، قال سعيد: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ [البقرة: 116].
فقال: كبوه على الأرض.
فقال: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ [طه: 55].
فقال الحجاج: اذبحوا عدو الله فما رأيت أحدًا أدعى للآيات منه.
فرفع سعيد المظلوم كفيه البريئتين إلى الرب القدير الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور ثم قال: «اللهم لا تسلط الحجاج على أحد بعدي».
ولم يمض على مصرع سعيد غير خمسة عشر يومًا حتى أصيب الحجاج بالحمى الشديدة، واشتدت عليه وطأة المرض حتى كان يغفو ساعة ويفيق ساعة، فإذا أفاق استيقظ مذعورًا مهزومًا وهو يصيح ويقول: ما لي ولسعيد بن جبير، ردوا عني سعيد بن جبير، وما بقي إلا أيامًا وهو في عذاب شديد حتى قصم الله ظهره، وأزال ذكره، وأحصى بطشه، وجعله عبرة للمعتبرين.
وقد روي عنه لما مات: أنْ رآه بعض الناس في الحلم فقالوا ما فعل الله بك؟ قال: قتلني الله بكل امرئ قتلة واحدة، وقتلني بسعيد بن جبير سبعين قتلة.
ومضى الحجاج بإثمه ووزره ومرده إلى ربه الذي يقول: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [غافر: 17]([8]).
سيف العدالة
قال أبو القاسم عبيد الله بن محمد بن الحسن العبقسي الشاعر:
كان لأبي مملوك يسمى مقبل فأبق منه ([9])، ولم يعرف له خبر سنين كثيرة. ومات أبي وتغربت عن بلدي، وذهبت إلى نصيبين، وأنا حدث حين اتصلت لحيتي.
وبينما أنا مجتاز يومًا في سوق نصيبين، وعليَّ لباس فاخر، وفي كمي منديل فيه دراهم كثيرة، إذ رأيت غلامنا مقبلاً.
فحين رآني انكب على يدي يقبلها، وأظهر سرورًا شديدًا بي، وأقبل يسألني عن أبي، وأهلنا، فأعرفه موت من مات، وخبر من بقي.
ثم قال لي: يا سيدي متى دخلت إلى هاهنا، وفي أي شيء؟ فعرفته، فأخذ يعتذر من هربه منا.
ثم قال: أنا مستوطن هاهنا، وأنت مجتاز، فلو أنعمت علي وجئت في دعوتي، فأنا أحضر لك طعامًا وشرابًا وما تريد.
فاغتررت به، ومضيت معه، حتى بلغ بي إلى آخر البلد، إلى دور خراب، ثم انتهى إلى دار عامرة، مغلقة الباب، فدق، ففتح له، فدخل ودخلت.
فحين حصلت في الدهليز، أغلق الباب بسرعة، واستوثق منه، فأنكرت ذلك، ودخلت الدار، فإذا بثلاثين رجلاً بالسلاح، وهم جلوس على بارية، فلم أشك في أنهم لصوص، وأيقنت بالشر.
وبادرني أحدهم، فلطمني، وقال: انزع ثيابك، فطرحت كل ما كان علي، حتى بقيت بسراويل، فحلوا الدراهم التي كانت في منديلي، وأعطوا مقبلاً شيئًا منها، وقالوا: امض فهات لنا بهذا ما نأكله ونشربه.
فتقدم مقبل، وسَارَّ واحدًا منهم، فقال له مجيبًا: وأي شيء يفوتنا من قتله، امض فجئنا بما نأكله، فإنا جياع.
فلما سمعت ذلك كدت أموت جزعًا، فقال لهم الغلام، مظهرًا للكلام: ما أمضي أو تقتلوه.
فقلت لهم: يا قوم، ما ذنبي حتى أقتل، قد أخذتم ما معي، ولستم ترثوني إذا قتلتموني، ولا لي حال غير ما أخذتموه، فالله الله فيَّ.
ثم أقبلت استعطف مقبلاً، وهو لا يجيبني، ويقول لهم: إنكم إن لم تقتلوه، حتى يفلت، دل السلطان عليكم، فتقتلون كلكم.
قال: فوثب إلي أحدهم بسيف مسلول، وسحبني من الموضع الذي كنت فيه إلى البالوعة ليذبحني.
وكان بقربي غلام أمرد، فتعلقت به، وقلت: يا فتى ارحمني، وأجرني، فإن سنك قريب من سني، واستدفع البلاء من الله تعالى بخلاصي.
فوثب الغلام، وطرح نفسه علي، وقال: والله لا يقتل وأنا حي، وجرد سيفه، وقام أستاذه بقيامه، وقال: لا يقتل من أجاره غلامي.
واختلفوا، وصار مع الغلام جماعة منهم، فانتزعوني، وجعلوني في زاوية من البيت الذي كانوا فيه، ووقفوا بيني وبين أصحابهم.
فقال لهم رئيسهم: كفوا عن الرجل إلى أن ننظر في أمره، وشتم مقبلاً، وقال: امض، فهات ما نأكله قبل كل شيء، فإنا جياع، وليس يفوتنا قتله، إن اتفقنا عليه.
فمضى مقبل، وجاءهم بمأكول كثير، وجلسوا يأكلون، وترك جماعة منهم الأكل حراسة لي؛ لئلا يغتالني أحدهم إذا تشاغلوا بالأكل.
فلما أكلوا، انفرد بعض من كان يتعصب لي بحراستي، وأكل من لم يكن أكل منهم.
ثم أفضوا إلى الشراب، فقال لهم مقبل: الآن قد أكلتم، وترك هذا يؤدي إلى قتلكم، فدعوا الخلاف في أمره واقتلوه.
فوثب من يريد قتلي، ووثب الغلام، ومن معه، للدفع عني، وطال الكلام بينهم، وأنا في الزاوية، وقد اجتمع علي من يمنع من قتلي، فصرت بينهم وبين الحائط، إلى أن جرد بعضهم السيوف على بعض.
فقال لهم رئيسهم: هذا الذي أنتم فيه يؤدي إلى تلفكم، وقد رأيت رأيًا فلا تخالفوه.
فقالوا: إنا بأمرك.
فقال: أغمدوا السلاح، واصطلحوا، ونشرب إلى وقت نريد أن نخرج من هذه الدار، ثم نكتفه، ونسد فاه، وندعه في الدار، وننصرف، فإنه لا يتمكن من الخروج وراءنا، ولا الصياح علينا.
وإلى أن نصبح من غد، نكون قد قطعنا مفازة، ولا يجرح بعضكم بعضًا، ولا تتفرق كلمتكم.
فقالوا: هذا هو الصواب، وجلسوا يشربون.
وجاء الغلام ليشرب معهم، فقلت له: الله، الله فيّ، تمّم ما عملت من الجميل، ولا تشرب معهم، واحرسني، لئلا يثب علي واحد منهم على غفلة، فيضربني ضربة يكون فيها تلف نفسي، ثم لا تتمكن أنت من ردها، ولا ينفعني أن تقتل قاتلي.
فرحمني، وقال: أفعل، ثم قال لأستاذه: أحب أن تترك شربك الليلة، فتفعل ما أفعل.
فجاءا جميعًا فجلسا قدامي، وأنا في الزاوية، أتوقع الموت ساعة بساعة، إلى أن مضى من الليل قطعة.
وقام القوم فتحزموا، ولبسوا ثيابهم، وخرجوا، وبقي الغلام وأستاذه.
فقالا لي: يا فتى، قد علمت أننا قد خلصنا دمك، فلا تكافئنا بقبيح، ونريد أن نخرج، ولا نستحسن أن نكتفك، فاحذر أن تصيح.
فأخذت أقبل أيديهما وأرجلهما، وأقول: أنتما أحييتماني بعد الله تعالى، فكيف أكافئكما بالقبيح؟
فقالا: قم معنا، فقمت، ففتشنا الدار، حتى علما أنه لم يختبئ فيها أحد يريد قتلي.
ثم قالا لي: قد أمنت، فإذا خرجنا فاستوثق من الباب ونم وراءه، فليس يكون إلا خيرًا، وخرجا.
فاستوثقت من غلق الباب، ثم جزعت جزعًا عظيمًا، ولم أشك أنه يخرج علي من تحت الأرض منهم من يقتلني، وزاد علي الفزع، فأقبلت أمشي في الدار، وأدعو، وأسبِّح، إلى أن كدت أتلف إعياءً.
وأنست باستمرار الوقت على السلامة، وحملتني عيني، فنمت، فلم أحس إلا بالشمس وحرارتها، على وجهي، من باب البيت.
فقمت، وخرجت أمشي وأنا عريان بسراويل، إلى أن حصلت في الموضع الذي كنت أسكنه.
وما حدثت أحدًا بهذا الحديث مدة، لبقية الفزع الذي داخلني منهم في قلبي.
ثم بعد انقضاء سنة، أو قريب منها، كنت يومًا عند صاحب الشرطة بنصيبين، لصداقة كانت بينه وبين أبي، فما لبث أن حضر من عرّفه عثور الشرطة على جماعة من اللصوص، بقرية سماها، من قرى نصيبين، وقبضه على سبعة نفر منهم، وفوت الباقين، فأمر بإحضارهم.
فوقع بصري منهم على ذلك الغلام الذي أجارني ذلك اليوم، وعلى أستاذه، ثم على مقبل.
فحين رأيتهم أخذتني رعدة تبين في، وأخذ مقبل – من بينهم – مثل ما أخذني.
فقال لي صاحب الشركة: مالك؟
فقلت: إن حديثي طويل، ولعل الله تعالى، أراد بحضوري هذا المجلس، سعادة نفر، وشقاوة نفر.
فقال: هات.
فاقتصصت عليه قصتي مع القوم إلى آخرها، فتعجب، وقال: هلا شرحتها لي فيما قبل، حتى كنت أطلبهم، وأنتصف لك منهم.
فقلت: إن الفزع الذي كان في قلبي منهم، لم يبسط لساني به.
فقال: من الذي كان معك من هؤلاء؟
فقلت: هذا الغلام، وأستاذه، وواحد من الباقين، فأمر بحل كتافهم، وتمييزهم من بين أصحابهم.
ودعا بمقبل، فقال له: ما حملك على ما فعلت بابن مولاك؟
فقال: سوء الأصل، وخبث العرق.
فقال: لا جرم تقابل بفعلك، وأمر به فضرب عنقه، وأعناق أصحابه الباقين.
ودعا بالغلام، وأستاذه، وصاحبهما، وقال لهما: لقد أحسنتما في فعلكما ودفعكما عن هذا الفتى، فالله يجزيكما عن فعلكما الخير، فتوبا إلى الله من فعلكما، وانصرفا في صحبة الله، مع صاحبكما، ولا تعودا إلى ما أنتما عليه من التلصص، فقد مننت عليكما لحسن صنيعكما بهذا الفتى، فإن ظفرت بكما ثانيًا، ألحقتكما بأصحابكما.
فتابا وصاحبهما، وشكروا له، ودعوا، وانصرفوا.
وشكرته أنا أيضًا على ما فعل، وحمدت الله على توفيقي لقضاء حق من أجارني، والانتقام ممن ظلمني.
ثم صار ذلك الغلام وأستاذه من أصدقائي، وكانا يختلفان إليَّ، ويقولان: قد أقبلنا على حرفنا في السوق، وتركنا التلصص ([10]).
معذبة زنيرة
كانت زنيرة فتاة صغيرة مملوكة عند امرأة مشركة في قريش، لما أسلمت قامت سيدتها تعذبها بالليل والنهار، وذات يوم جمعت الجواري وأمرتهن أن يضربنها على رأسها، حتى فقدت البصر، فإذا عطشت قالت: أعطوني ماء. قالت: الماء أمامك فابحثي عنه. قالت لها سيدتها: يا زنيرة، إن كان ربك الذي تؤمنين به حقًا كما تزعمين، ادعيه فليرد عليك بصرك لكي تري الماء والطعام. فرفعت يديها إلى الله، وقالت: اللهم، إني أسألك أن ترد علي بصري: فأبصرت، وإذا بسيدتها تصرخ، وتصيح من رأسها وارأساه. وتقول للجواري: احملن النعال والقباقيب، واضربنني على رأسي. فضربنها حتى فقدت البصر.
وهكذا ينتقم الله لأوليائه، والجزاء من جنس العمل ([11]).
وكان العمى جزاءً على الكفر.
وكانت نهايته مؤلمة
وذكر القاضي أبو الحسن محمد بن عبد الواحد الهاشمي عن شيخ من التجار قال: كان لي على بعض الأمراء مال كثير فماطلني ومنعني حقي، وجعل كلما جئت أطالبه حجبني عنه، ويأمر غلمانه يؤذونني، فاشتكيت عليه إلى الوزير فلم يفد ذلك شيئًا، وإلى أولياء الأمر من الدولة فلم يقطعوا منه شيئًا، وما زاده ذلك إلا منعًا وجحودًا، فأيست من المال الذي عليه ودخلني هم من جهته، فبينما أنا كذلك وأنا حائر إلى من أشتكي، إذ قال لي رجل: ألا تأتي فلانًا الخياط – إمام مسجد هناك – فقلت وما عسى أن يصنع خياط مع هذا الظالم. وأعيان الدولة لم يقطعوا فيه؟ فقال لي: هو أقطع وأخوف عنده من جميع من اشتكيت إليه، فاذهب إليه لعلك أن تجد عنده فرجًا. فقال فقصدته غير محتفل في أمره، فذكرت له حاجتي ومالي وما لقيت من هذا الظالم، فقام معي، فحين عاينه الأمير قام إليه وأكرمه واحترمه وبادر إلى قضاء حقي الذي عليه فأعطانيه كاملاً من غير أن يكون منه إلى الأمير كبير أمر، غير أنه قال له: ادفع إلى هذا الرجل حقه وإلا أذنت. فتغير لون الأمير ودفع إلي حقي.
قال التاجر: فعجبت من ذلك الخياط مع رثاثة حاله وضعف بنيته كيف انطاع ذلك الأمير له، ثم إني عرضت عليه شيئًا من المال فلم يقبل مني شيئًا، وقال: لو أردت هذا لكان لي من الأموال ما لا يحصى. فسألته عن خبره وذكرت له تعجبي منه وألححت عليه فقال عن سبب ذلك: أنه كان عندنا في جوارنا أمير تركي من أعالي الدولة، وهو شاب حسن، فمرت به ذات يوم امرأة حسناء قد خرجت من الحمام وعليها ثياب مرتفعة ذات قيمة، فقام إليها وهو سكران فتعلق بها يريدها على نفسها ليدخلها منزله، وهي تأبى عليه وتصيح بأعلى صوتها: يا مسلمين أنا امرأة ذات زوج، وهذا رجل يريدني على نفسي ويدخلني منزله، وقد حلف زوجي بالطلاق أن لا أبيت في غير منزله، ومتى بت هاهنا طلقت منه ولحقني بسبب ذلك عار لا تدحضه الأيام ولا تغسله المدامع.
قال الخياط: فقمت إليه فأنكرت عليه وأردت خلاص المرأة من يديه فضربني بدبوس في يده فشج رأسي، وغلب المرأة على نفسها وأدخلها منزله قهرًا، فرجعت أنا فغسلت الدم عني وعصبت رأسي وصليت بالناس العشاء ثم قلت للجماعة: إن هذا قد فعل ما قد علمتم فقوموا معي إليه لننكر عليه، ونخلص المرأة منه، فقام الناس معي فهجمنا عليه داره فثار إلينا في جماعة من غلمانه بأيديهم العصي والدبابيس يضربون الناس، وقصدني هو من بينهم فضربني ضربًا شديدًا مبرحًا حتى أدماني، وأخرجنا من منزله ونحن في غاية الإهانة، فرجعت إلى منزلي وأنا لا أهتدي إلى الطريق من شدة الوجع وكثرة الدماء، وتحيرت ماذا أصنع حتى أنقذ المرأة من يده في الليل لترجع فتبيت في منزلها، فألهمت أن أؤذن الصبح في أثناء الليل؛ لكي يظن أن الصبح قد طلع فيخرجها من منزله فتذهب إلى منزل زوجها، فصعدت المنارة وجعلت أنظر إلى باب داره وأنا أتكلم على عادتي قبل الأذان، هل أرى المرأة قد خرجت؟ ثم أذنت فلم تخرج، ثم صممت على أنه إن لم تخرج أقمت الصلاة حتى يتحقق الصباح، فبينما أنا انظر هل تخرج المرأة أم لا، إذ امتلأت الطريق فرسانًا، ورجالة وهم يقولون: أين الذي أذن هذه الساعة؟ فقلت: ها أنذا، وأنا أريد أن يعينوني عليه، فقالوا: انزل، فنزلت فقالوا: أجب أمير المؤمنين، فأخذوني وذهبوا بي لا أملك من نفسي شيئًا، حتى أدخلوني عليه، فلما رأيته جالسًا في مقام الخلافة ارتعدت من الخوف وفزعت فزعًا شديدًا، فقال: ادن، فدنوت فقال لي: ليسكن روعك وليهدأ قلبك. وما زال يلاطفني حتى اطمأننت وذهب خوفي، فقال: أنت الذي أذنت هذه الساعة؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين. فقال: ما حملك على أن أذنت هذه الساعة، وقد بقي من الليل أكثر مما مضى منه؟ فتغر بذلك الصائم والمسافر والمصلي وغيرهم.
فقلت: يؤمنني أمير المؤمنين حتى أقص عليه خبري؟ فقال: أنت آمن. فذكرت له القصة.
قال: فغضب غضبًا شديدًا وأمر بإحضار ذلك الأمير والمرأة من ساعته على أي حالة كانا فأحضرا سريعًا فبعث بالمرأة إلى زوجها مع نسوة من جهته ثقات ومعهن ثقة من جهته أيضًا، وأمره أن يأمر زوجها بالعفو والصفح عنها والإحسان إليها، فإنها مكرهة ومعذورة.
ثم أقبل على ذلك الشاب الأمير فقال له: كم لك من الرزق؟ وكم عندك من المال؟ وكم عندك من الجواري والزوجات؟ فذكر له شيئًا كثيرًا.
فقال له: ويحك أما كفاك ما أنعم الله به عليك حتى انتهكت حرمة الله وتعديت حدوده وتجرأت على السلطان، وما كفاك ذلك أيضًا حتى عمدت إلى رجل أمرك بالمعروف ونهاك عن المنكر فضربته وأهنته وأدميته؟ فلم يكن له جواب.
فأمر به فجعل في رجله قيدًا وفي عنقه غلاً ثم أمر به فأدخل في جوالق([12]) ثم أمر به فضرب بالدبابيس ضربًا شديدًا حتى خفت، ثم أمر به فألقي في دجلة فكان ذلك آخر العهد به.
ثم أمر بدرًا صاحب الشرطة أن يحتاط على ما في داره من الحواصل والأموال التي كان يتناولها من بيت المال، ثم قال لذلك الرجل الصالح الخياط: كلما رأيت منكرًا صغيرًا كان أو كبيرًا ولو على هذا – وأشار إلى صاحب الشرطة – فأعلمني، فإن اتفق اجتماعك بي، وإلا فعلى ما بيني وبينك الأذان، فأذن في أي وقت كان أو في مثل وقتك هذا.
قال: فلهذا لا آمر أحدًا من هؤلاء الدولة بشيء إلا امتثلوه، ولا أنهاهم عن شيء إلا تركوه خوفًا من المعتضد. وما احتجت أن أؤذن في مثل تلك الساعة إلى الآن([13]).
الرصاصة العادلة
في أيام الصيف، وعلى ساحل البحر، تحدث مآسٍ وأحداث تعمل عملها المدمر في تخريب البيوت، وفي انهيار الأخلاق والفضيلة.
قبل خمسة أعوام ألحت عليه زوجه، وطالبته بالسفر إلى المصيف البحري: تستنشق نسيمه العليل، وتستحم في أمواجه وتخالط الغادين والرائحين عارية متهتكة متمتعة بحريتها الحمراء تقليدًا للغربيات دون رادع أو دين.
وكان مما هو معروف مألوف...!
تعرفت العائلة بعائلة أخرى، وكان في العائلة شاب مفتول العضل، جميل الطلعة، له هامة وقامة، ويملك سيارة فارهة.
وعرض الشاب خدماته وأريحيته من أجل الشيطان، فكان وعد ولقاء، وكان استحمام في البحر، وكان غزل بين الشاب والزوجة، وكان الرجل الزوج في شغل شاغل عن زوجه وولدها الطفل في رؤية لحوم البحر البشرية كاسية عارية، وكان له موعد ولقاء حرام...
كان الشاب يتطوع كل يوم لنقل العائلة: الزوج وزوجه وطفلهما بسيارته صباحًا ومساءً إلى البحر، وكانوا يستحمون جميعًا في مكان واحد. وكانت الزوجة لا تحسن السباحة، فتطوع صاحبنا لتعليمها السباحة وكان زوجها يبتعد عنهما ليلاقي من يلاقي بعيدًا عن أنظار زوجه، وكان ينشر شباكه متصيدًا أعراض الناس، تاركًا عرضه لذلك الشاب كما يترك الراعي الغنم للذئب.
وابتدأ الأمر بين الزوجة والشاب إعجابًا بالأريحية، ثم تطور الأمر إلى الإعجاب بالجسد، ونام الحارس فرتع اللص، فكان لا بد للنار أن تشتعل فتحرق الإخلاص الزوجي وتحرق الطهر والعفاف.
وكانت الزوجة تحب زوجها ولا تطيق عنه صبرًا، فأصبحت تكره لقاءه وتحسب الدقائق والساعات للقاء حبيبها الجديد.
وأراد الشاب أن يتخلص من الزوج نهائيًا، فبيت في نفسه أمرًا...
أظهر إخلاصه وتفانيه للزوج، وأبدى إعجابه بمواهبه ورجولته، وكانت زوجه لا تنفك تطري شهامة الشاب وتحببه لزوجها، فوثق به الزوج وسلمه مقاليد أمره كله.
وفي يوم من الأيام تمارضت الزوجة، فعكفت في شقتها ومعها طفلها، فاستأذن الزوج أن يصاحب صديقه الشاب فجرًا ليستحم في البحر.
وعاد الشاب وحده بعد ساعتين ليعلن للزوجة أن زوجها قد غرق في البحر، وأنه حاول انتشاله فباءت محاولاته بالفشل.
لقد كان البحر خاليًا من الناس فجر ذلك اليوم، وكان البحر مائجًا صاخبًا، وكان الموج يرتفع كالجبال ويهبط كما تهبط الشهب من السماء. وكان الزوج لا يحسن السباحة، ولكن الشاب استدرجه إلى السباحة بعيدًا عن الشاطئ، ثم تركه طعمة للأمواج يستغيث فلا من مجيب، ثم ابتلعته الأمواج إلى الأبد.
كانت الزوجة يتيمة لا معيل لها، وكان الشاب وحيدًا في شقته بعيدًا عن أهله.
وعرض عليها الشاب بحنان ولهفة أن تشاركه شقته ومصيره وأبدى لها استعداده لاحتضان طفلها من أجلها ومن أجل حبهما غير المقدس ووعدها بالزواج.
واستكانت الزوجة للشاب، فآوت إلى شقته واستقرت فيها، وكان طفلها في الرابعة من عمره، يظن أن الشاب أبوه، فيناديه من كل قلبه: بابا.
وطالبته الزوجة بالزواج فماطل أولاً بلطف وتؤدة، ثم بقسوة وعنف، وبعد أشهر تبدل الشاب اللطيف إلى رجل خبيث، فأظهر تذمره منها ومن طفلها، وتعلق قلبه بغيرها من النساء، فأصبح في شقته حاضرًا كالغائب، يأوي إليها في الهزيع الأخير من الليل.
وفي ضحى يوم من أيام الشتاء، كان الشاب يتناول فطوره، وكانت تلك الزوجة تعاتبه وتطالبه بالزواج بها، فأظهر أنيابه السامة، وكشف عن حقيقته التي كان يسترها من قبل، وطالبها بالجلاء عن الشقة لأنه اعتزم الزواج والاستقرار.
وانهمرت دموعها غزيرة، وذكرته بالماضي الحلو الجميل، ولكنه كان كالصخرة الصماء قسوة وعنفًا.
وكان الطفل البريء لا يعرف للدموع معنى الدموع، ولا يفهم ما يدر حوله من أحداث.
وتوسلت الزوجة إلى الشاب طويلاً بدموعها وبذكرياتها دون جدوى.
وكان الطفل يلاعب مسدس الشاب الذي كان إلى جانبه، وكان الشاب في شغل شاغل عنه، وكان يعلم يقينًا أن المسدس خال من العتاد... لأنه كان قد أخرج منه عتاده بعد عودته إلى شقته في الهزيع الأخير من ليلة أمس.
ولكنه كان ثملاً لا يفرق بين النور والظلام، بعيدًا بعقله في تيار الخمر والرذيلة.
وفجأة انطلقت رصاصة من مسدسه واستقرت في الجزء الأسفل من قلب الشاب، فتلوى لحظات ثم سقط عن كرسيه فاقد الوعي.
في هذه اللحظات نطق الشاب بكلمات قليلة كانت آخر ما نطق في حياته، وكان الجيران قد تجمعوا حوله فور سماع إطلاق النار، فقال مخاطبًا الزوجة: «لقد أغرقت زوجك في البحر ليصفو الجو لي معك وحدي».
وجاء الطبيب على عجل، فوجد أن أمر الشاب قد انتهى وأنه فارق الحياة.
طلقة القدر، أطلقها بيد الطفل الصغير، الذي لا يعي، وسيرها مباشرة إلى قلب الشاب.
وما رمى الطفل، ولكن الله رمى... وأُسدل الستار على نهاية شاب مجرم ذهب ضحية أيام الصيف على ساحل البحر العباب، فكانت قصته عبرة لكل منحرف، ولكن هل من معتبر ([14])؟!!!
عاقبة المعاصي والعصاة
قال أبو محمد ابن قتيبة: وحدثني رجل من أصحاب الأخبار أن – أبا جعفر – المنصور سمر ذات ليلة، فذكر خلفاء بني أمية وسيرتهم، وأنهم لم يزالوا على استقامة حتى أفضى أمرهم إلى أبنائهم المترفين ([15])، فكان همهم من عظيم شأن الملك وجلالة قدره قصد الشهوات، وإيثار اللذات، والدخول في معاصي الله عز وجل ومساخطه، جهلاً منهم باستدراج الله تعالى، وأمنًا من مكره تعالى، فسلبهم الله تعالى الملك والعز، ونقل عنهم النعمة.
فقال صالح بن علي لأبي جعفر: يا أمير المؤمنين إن عبد الله بن مروان لما دخل أرض النوبة هاربًا فيمن اتبعه، سأل ملك النوبة عنهم، فأخبر، فركب إلى عبد الله فكلمه بكلام عجيب في هذا النحو لا أحفظه، وأزعجه ([16]) عن بلده، فإن رأى أمير المؤمنين أن يدعو به من الحبس بحضرتنا في هذه الليلة ويسأله عن ذلك.
فأمر المنصور بإحضاره وسأله عن القصة.
فقال: يا أمير المؤمنين قدمت أرض النوبة بأثاث سلم لي فافترشته بها وأقمت ثلاثًا، فأتاني ملك النوبة – وقد خبر أمرنا – فدخل علي رجل طوال، أقنى ([17])، حسن الوجه، فقعد على الأرض ولم يقرب الثياب.
فقلت: ما يمنعك أن تقعد على ثيابنا؟
فقال: إني ملك، وحق على كل ملك أن يتواضع لعظمة الله جل وعز إذ رفعه الله!
ثم أقبل علي فقال لي: لم تشربون الخمور، وهي محرمة عليكم في كتابكم؟
فقلت: اجترأ على ذلك عبيدنا وسفهاؤنا.
قال: فلم تطؤون الزروع بدوابكم، والفساد محرم عليكم في كتابكم؟
قلت: يفعل ذلك جهالنا.
قال: فلم تلبسون الديباج والحرير وتستعملون الذهب والفضة، وهو محرم عليكم؟
فقلت: زال عنا الملك، وقل أنصارنا، فانتصرنا بقوم من العجم دخلوا في ديننا فلبسوا ذلك على الكره منا.
فأطرق مليًا([18])، وجعل يقلب يده وينكت في الأرض، ثم قال: ليس ذلك كما ذكرته، بل أنتم قوم استحللتم ما حرم عليكم، فسلبكم الله العز، وألبسكم الذل بذنوبكم، ولله تعالى فيكم نقمة لم تبلغ نهايتها، وأخاف أن يحل بكم العذاب وأنتم ببلدي، فيصيبني معكم، وإنما الضيافة ثلاثة، فتزودوا ما احتجتم إليه، وارتحلوا عن بلدي.
ففعلت ذلك ([19]).
يمهل ولا يهمل
لم تسمح لزوجها أن يرافق أمه حتى إلى دار العجزة والمسنين. جردتها مما معها، وأعطتها صرة ملابسها وفتحت لها الباب، وقبل أن تخرج نظرت إلى ابنها الذي وقف دون حراك، ودعت الله أن يحرمه الأولاد، حتى لا يصل إلى ما وصلت إليه، ولم تنس أن تسمع صوتها الجريح لزوجته بأن ينزع الله الإيمان من قلبها قبل أن يميتها في الشارع، كما فعلت معها، فلا أهل ولا معارف ولا أقارب فأين السبيل؟
ومرت الأيام ونسي الزوجان الأم في غمار سعادتهما ومرت عشر سنوات ولم تنجب الزوجة، وبعدها أصيب الزوج بمرض خبيث تحمل به فوق طاقته، وكان يبحث عن أمه في أواخر أيامه فلم يجدها فذهب ليلقاها عند ربه ويلقى جزاء عقوقه في الآخرة بعد أن لقيه في الدنيا.
وصحت الزوجة على الحقيقة، والموت يحدث رهبة وعبرة وخاصة إذا كان المصاب في حبيب أو عزيز، ويجعل المرء يعيد حساباته وكأنه يسمع بالموت لأول مرة، مع أنه أقرب إليه من حبل الوريد.
وترى الزوجة في منامها زوجها وهو يتعذب ويعاتبها، وترى حماتها فتستيقظ مذعورة تكلم نفسها، وأصبحت تسمع صوت دعاء حماتها أن ينزع الله الإيمان من قلبها، فكانت تخرج إلى أهلها فتسألهم إن كان عملها سببًا في دخول النار وعدم المغفرة، وتذهب إلى أقاربها وتطلب منهم الفتوى في مغفرة الله أو عذابه، وتطور الأمر فأصبحت تشعر بضيق في صدرها إذا دخلت المنزل، فما أسرع أن تغادره لتدخل إلى بيت آخر تحكي لأهله حكايتها مع حماتها، وصارت تطلب منهم أن يدعوا لها بالمغفرة، وتمسك بيدهم فتضعها على صدرها ليقرؤوا لها سورة: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ [الشرح: 1]، حتى إذا ما انتهت دخلت بيتًا آخر، ثم صارت تحدث أهل البيت بما مر عليها في حياتها من حسن وقبيح أمام الصغار والكبار، فأقفل الناس بيوتهم في وجهها بعد أن اتعظ الكبار بحالتها.
وما زالت تتساءل: هل هي مؤمنة أم كافرة؟ وتركت الصلاة والصوم، فما الفائدة منها وهي كافرة!! إلا انها مؤمنة! وتسارع إلى الأطفال تعطيهم الحلوى والنقود ليقرؤوا لها ويطلبوا لها المغفرة، حاولت التخلص من حياتها دون جدوى. البيوت أقفلت في وجهها. بيتها لم تعد تستطيع الجلوس فيه. تجلس أمام بيتها إلى ساعة متأخرة من الليل. وإذا دخلت لتنام كانت حماتها لها بالمرصاد في الأحلام فتنهض كالملسوعة.
أصبح الأطفال والشارع عماد حياتها، ونظرات الناس الممزوجة بالشفقة والازدراء اعتادت عليها، وما زالت تتساءل ولا تجد جوابًا مقنعًا: هل ذهب إيمانها؟
وتجمع الناس صبيحة يوم على جثة امرأة سقطت ميتة على بعد أمتار من بيتها: إنها هي، صاحبة الأطفال، ومقيمة الشارع.
نظر بعضهم إلى بعض، قال بعضهم: «كما تدين تدان»، وقال آخرون: دعوة المظلوم، ودعا بعضهم: اللهم لا تحرمنا نعمة الإيمان، وآخرهم قال: ما أكثر العبر وما أقل الاعتبار ([20]).
على الباغي تدور الدوائر
قال أبو القاسم إبراهيم بن علي الصفار: خرجت من نصيبين بسيف نفيس، كنت ورثته عن أبي، أقصد به العباس بن عمرو السلمي، أمير ديار ربيعة، وهو برأس عين لأهديه إليه، وأستجديه بذلك.
فصحبني في الطريق شيخ من الأعراب، فسألني عن أمري، فأنست به، وحدثته الحديث، وكنا قربنا من رأس عين، ودخلناها، وافترقنا، وصار يجيئني، ويراعيني، ويظهر لي أنه يسلم علي، وأنه يبرني بالقصد، ويسألني عن حالي. فأخبرته أن الأمير قبل هديتي، وأجازني بألف درهم، وثياب، وأني أريد الخروج في يوم كذا وكذا، فلما كان ذلك اليوم، خرجت عن البلد، راكبًا حمارًا، فلما أصحرت ([21]) إذا بالشيخ على دويبة له ضعيفة، متقلدًا سيفًا.
فقلت: ما تصنع هاهنا؟
فقال: قد قضيت حوائجي، وأريد الرجوع، وصحبتك عندي آثر من صحبة غيرك.
فقلت: على اسم الله.
وما زلت متحرزًا منه، وهو يجتهد أن أدنو منه، وأؤانسه، فلا أفعل، وكلما دنا مني، بعدت عنه، إلى أن سرنا شيئًا كثيرًا، وليس معنا ثالث. فقصر عني، فحثثت الحمار، لأفوته، فما أحسست إلا بركضه، فالتفت، فإذا هو قد جرد سيفه، وقصدني فرميت بنفسي عن الحمار، وعدوت.
فلما خاف أن أفوته، صاح: يا أبا القاسم، إنما مزحت معك، فقف، فلم ألتفت إليه، وزاد في التحريك. وظهر لي ناووس ([22]) فطلبته، وقد كاد الأعرابي يلحق بي، فدخلت الناووس، ووقف وراء بابه، قال: ومن صفات تلك النواويس أنها مبنية بالحجارة، وباب كل ناووس حجر واحد عظيم، قد نقر، وحفف، وملس، فلا تستمكن إليه منه، وله في وجهه حلقه، وليس للباب من داخل شيء تتعلق اليد به، وإنما يدفع من الخارج، فيفتح، فيدخل إليه، وإذا خُرج منه، وجذبت الحلقة، انغلق الباب وتمكن هذا من ورائه، فلم يمكن فتحه من داخل أصلاً.
قال: فحين دخلت الناووس، وقفت خلف بابه، وجاء الأعرابي، فشد الدابة في حلقة الباب، ودخل يريدني، مخترطًا سيفه، والناووس مظلم، فلم يرني، ومشى إلى صدر الناووس، فخرجت أنا من خلف الباب، وجذبته، ونفرت الدابة، فدابته معي، حتى صار الباب مردومًا محكمًا، وحصَّلتُ الحلقة في رزة هناك، وحللت الدابة، وركبتها.
فجاء الأعرابي إلى باب الناووس، فرأى الموت عيانًا: فقال: يا أبا القاسم، اتق الله في أمري، فإنني أتلف.
فقلت: تتلف أنت، أهون علي من أن أتلف أنا قال: فأخرجني، وأنا أعطيك أمانًا واستوثق مني بالأيمان، أن لا أعرض لك بسوء أبدًا، واذكر الحرمة التي بيننا، فقلت: لم ترعها أنت، وأيمانك فاجرة، لا أثق بها في تلف نفسي، فأخذ يكرر الكلام، فقلت له: لا تهذ، دع عنك هذا الكلام، واقعد مكانك، هو ذا أنا أركب دابتك، وأجنب حماري، والوعد بعد أيام بيننا هنا، فلا تبرح عليَّ حتى أجيء، وإذا احتجت إلى طعام، فعليك بجيف العلوج، فنعم الطعام لك.
وأخذت ألهو به في مثل هذا القول. وأخذ يبكي، ويستغيث، ويقول: قتلتني، والله.
فقلت: إلى لعنة الله، وركبت دابته، وجنبت حماري.
ووجدت على دابته شهباء، فصبغتها دهماء، وبعتها لئلا يعرف صاحبها فأطلب بالرجل، واتفق أنه اشتراها رجل من المجتازين، وكفيت أمره وانكتمت القصة.
فلما كان بعد أكثر من سنة، عرض لي الخروج إلى رأس عين، فخرجت في تلك الطريق، فلما لاح لي الناووس ذكرت الشيخ، فقلت: أعدل إلى الناووس، وانظر ما صار إليه أمره، فجئت إليه، فإذا بابه كما تركته. ففتحته، ودخلت، فإذا بالأعرابي قد صار رمة، فحمدت الله، تعالى – على السلامة.
ثم حركته برجلي، وقلت له على سبيل العبث: ما خبرك يا فلان؟ فإذا بصوت شيء يتخشخش، ففتشته، فإذا هميان، فأخذته، وأخذت سيفه وخرجت، وفتحت الهميان، فإذا فيه خمسمائة درهم، وبعت السيف بعد ذلك بجملة دراهم ([23]).
صفعة على الخد الآخر
عشت فتاة يتيمة الأب، ونشأت في بيت يتولى زمامه أخي الأكبر، فوالدتي البسيطة جدًا في تفكيرها جعلت أخي المتحكم الأول في كل أمورنا، ووسيلته في هذا كانت الشدة، وكانت أكثر الكلمات التي تتردد على لسانه هي كلمة «لا»، ورغم أن هذه الكلمة لم تكن تعنيني كثيرًا في البداية، إلا أنني حين وصلت إلى المرحلة الثانوية بدأت أشعر بها... لقد أصبحت كالكابوس بالنسبة لي، فمحاولة خروجي إلى السوق تقابلها كلمة «لا»، وكذلك الأمر إذا استأذنت لزيارة صديقة، وحتى الحديث بالهاتف، بل إن الضحك فيما بيننا كان تصرفًا يستوجب «لا»!
وكانت النتيجة الحتمية لهذا الرفض الدائم لأي شيء أقوم به، أن بدأت أبتعد عن صديقاتي، فلم أعد أشاركهن أي اهتمام، وأصبحت أيامي متشابهة، ولا أمل في التغيير، حتى جاءت كلمة «لا» التي حطمت آخر أمل لي، حين رفض أخي أن أكمل تعليمي الجامعي، وقرر أن اكتفي بشهادتي الثانوية.
لا يمكن أن تتخيلوا قدر الإحباط، بل الصدمة التي أصبت بها، لقد كانت الجامعة هي طموحي وأملي، حاولت كثيرًا أن أثني أخي عن رأيه، وأن أدافع عن حلمي، لكن دون جدوى.
كانت غرفتي هي الملجأ الوحيد لي، وفيها بكيت وصرخت، ولا مجيب، وبدأت تنمو في قلبي بذور الانتقام، وزاد الإصرار داخل نفسي، على ألا أترك هذه «الصفعة» تمر دون رد، وظلت تلك المشاعر متأججة بداخلي تتحين الفرصة للخروج، ولم يكبحها عن ذلك ميول أو هوايات أو طموحات أخرى، بل أصبحت فكرة الانتقام هي شغلي الشاغل، وهاجسي بالليل والنهار.
حتى جاء اليوم الذي انطلقت فيه تلك المشاعر الكامنة، كان ذلك حين تزوج أخي، وحضرت إلى منزلنا زوجته، شابة صغيرة لم تتجاوز الثامنة عشرة، وكان الأمر بالنسبة لها مختلفًا، فلها حرية الخروج مع أسرتها، ولها حرية استعمال الهاتف، كما كانت ترافق أخي للتنزه كل يوم تقريبًا.
وما كانت هذه الحقوق التي تنالها زوجة أخي وأُحرم أنا منها، إلا سببًا في زيادة رغبة الانتقام، وبدلاً من أن أحاول أن اجعل منها سببًا في تغيير حياتي، بدأت أحاول استغلال حقوقها تلك، لأزرع بذور الشك داخل أخي من ناحيتها.
فبدأت تعليقاتي حول مكالمات تليفونية لا ندري من يقوم بها، إلى ملاحظات عن تأخرها خارج البيت رغم اتصال والدتها وسؤالها عنها، وهكذا بدأت أحيك خيوط مؤامرتي الشيطانية حول تلك المسكينة، وبدأت أرى النتائج وألاحظها تزداد كل يوم، فقد بدأت معاملة أخي لها تختلف، وبدأت أرى في عيونها دموعًا تحاول إخفاءها، وكثيرًا ما شاهدت أخي يخرج من المنزل وعيناه تنطقان بمشاعر الضيق الشديد، ها قد بدأت أجني ثمار انتقامي!
قرر أخي أن يزوجني، لم أفاجأ بهذا القرار، بل كنت انتظره بين لحظة وأخرى، لم يكن زوجي في بادئ الأمر بنفس شدة أخي، لكني كنت دائمًا أحس أنه يحاول أن يتغلب على شيء في نفسه، ومع مرور الوقت بدأت الرؤية تتضح، لقد كان شديد الشك في كل تصرف أقوم به بقصد أو بدون قصد، وعرفت بالمصادفة سبب هذا الشك الدائم، فقد كان لزوجي تاريخ حافل من العلاقات مع الفتيات، هذا التاريخ جعله ينظر إلى جميع الفتيات نظرة شك وارتياب، ويضعهن دائمًا موضع اتهام، حتى إنه اشترط على والدته حين بدأت تبحث له عن زوجة، أن تكون من أسرة محافظة لا تسمح لفتياتها بما تمتع به الفتيات هذه الأيام، وكنت أنا الضحية.
وبالتدريج تفاقمت مشكلة زوجي، وتزايدت شكوكه دون أساس، حتى أصبحت حبيسة المنزل مرة أخرى، ولم يكن أمامي إلا الصبر.
وذات يوم كانت ردة فعله أقوى مما احتمل، فقد رن جرس الهاتف أثناء تناولنا طعام الغداء، وبعفويه شديدة ذهبت للرد، فكان نصيبي الإهانة، وسيلاً من الاتهامات أمام جميع أفراد أسرته، فلم أتمالك نفسي وانهرت، وبكيت بشدة، فأخذتني والدته بين ذراعيها، وأنا أبكي حيرتي بين أن أعود لأسرتي مرة أخرى أجر أذيال فشلي، وبين الصبر على زوجي، وتحمل العقاب الذي استحقه لذنب اقترف في حق إنسانة لا ذنب لها، وهما خياران أحلاهما مر ([24]).
المعذبون في الأرض
أنا زوجة وأم لابن وبنت، ومنذ أن بدأت حياتي مع زوجي ونحن نعيش حياة رغدة، وقد استعنت طوال حياتي الزوجية على تربية أولادي بمربيات عديدات، وكانت كل واحدة منهن لا تمكث عندي أكثر من شهرين ثم تفر من قسوة زوجي العدواني بطبعه، فقد كان يتفنن في تعذيب أي مربية تعمل عندنا، ولا أنكر أني شاركته في بعض الأحيان جريمته.
ولما صارت ابنتي في السابعة من عمرها وابني في المرحلة الإعدادية، جاءنا مزارع من معارف زوجي يصطحب معه ابنته الطفلة ذات الأعوام السبعة فاستقبله زوجي بكبرياء وترفع.
قال المزارع البسيط: أنه أتى بابنته لتعمل عندنا مقابل عشرين جنيهًا في الشهر، فوافقنا.
وترك المزارع طفلته فانخرطت في البكاء وهي تمسك بجلباب أبيها، وانصرف الرجل دامع العينين.
بدأت الطفلة حياتها الجديدة معنا، فكانت تستيقظ في الصباح الباكر لتساعدني في إعداد الطعام لطفلي، ثم تحمل الحقائب المدرسية وتنزل بها إلى الشارع وتظل وافقة مع ابنتي وابني حتى يحملهما أتوبيس المدرسة، وتعود إلى الشقة فتتناول إفطارها، وكان غالبًا من الفول بدون زيت، وخبز على وشك التعفن، ثم تبدأ في ممارسة أعمال البيت من تنظيف ومسح وشراء الخضر وتلبية النداءات حتى منتصف الليل فتسقط على الأرض كالقتيلة وتستغرق في النوم، وعند أي هفوة أو نسيان أو تأجيل أداء عمل مطلوب ينهال عليها زوجي ضربًا بقسوة شديدة، فتتحمل الضرب باكية صابرة، ورغم ذلك فقد كانت في منتهى الأمانة والنظافة والإخلاص لمخدوميها، تفرح بأبسط الأشياء.
ورغم اعترافي بأني كنت شريكة لزوجي في قسوته على الخادمات وتفننه في تعذيبهن، إلا أنه كانت تأخذني الشفقة في بعض الأحيان بهذه الفتاة، لطيبتها وانكسارها فأناشد زوجي ألا يضربها، فكان يقول لي: إن هذا «الصنف» من الناس لا تجدي معه المعاملة الطيبة.
واستمرت الفتاة تتحمل العذاب في صمت وصبر، وحتى حين يأتي العيد ويخرج طفلاي مبتهجين تبقى هذه الطفلة المسكينة تنظف وتغسل دون شفقة.
أما أبوها فلم نره إلا مرات معدودة عندما يأتي لأخذ الأجرة، ثم يرسل أحد أقاربه لاستلام أجرتها الشهرية، كما لم تر أمها وأخواتها إلا في ثلاث مناسبات محدودة: الأولى حين مات شقيقها الأكبر، والمرة الثانية حين مرضت مرضًا معديًا وخشينا على طفلينا من انتقال العدوى إليهما فأبعدناها إلى بلدتها، والمرة الثالثة عند وفاة أبيها.
وأنا أبكي الآن كلما تذكرت قسوة عقابنا لها إذا أخطأت أي خطأ، فقد كان زوجي يصعقها بسلك الكهرباء!! وكثيرًا ما حرمناها من وجبة عشاء في ليالي البرد القاسية فباتت على الطوى جائعة، ولا أتذكر أنها نامت ليلة، عدة سنوات طويلة، دون أن تبكي!!
وتقول صاحبة القصة: وسوف تتساءل لماذا تحملت كل هذا العذاب ولم تهرب بجلدها من جحيمكم؟
وأجيبك: إن الفتاة حين قاربت سن الشباب خرجت ذات يوم لشراء الخضروات ولم تعد، فسأل زوجي البواب عنها وعرف أنها كانت تتحدث لفترات طويلة مع شاب يعمل لدى جزار بنفس الشارع، وأنه من المحتمل أن تكون قد اتفقت معه على الزواج حتى ينتشلها من هذه الحياة القاسية.
ولكن لم يمض أسبوع حتى كان نفوذ زوجي قد تكفل بإحضارها من مخبئها، واستقبلناها عند عودتها استقبالاً حافلاً بكل أنواع العذاب، فقام زوجي يصعقها بالكهرباء وتطوع ابني بركلها بعنف، إلا ابنتي فإنها كانت تتألم بما يفعل بهذه الخادمة المسكينة.
وعادت المسكينة لحياتها الشقية معنا واستسلمت لمصيرها، فإذا أخطأت أو أجلت عملاً لبعض الوقت يضربها زوجي ضربًا مبرحًا، وكنا نستمتع ونخرج في الإجازات ونترك لها بقايا طعام الأسبوع، ثم شيئًا فشيئًا بدأنا نلاحظ عليها أن الأكواب والأطباق تسقط من يديها وأنها تتعثر كثيرًا في مشيتها، فعرضناها على الطبيب فأكد لنا أن نظرها قد ضعف جدًا وأنها لا ترى حاليًا ما تحت قدميها أي أنها أصبحت شبه كفيفة، ورغم ذلك لم نرحمها وظلت تقوم بكل أعمال البيت وتخرج لشراء الخضر من السوق، وكثيرًا ما صفعتها إذا عادت من السوق بخضروات ليست طازجة، فأشفقت عليها زوجة البواب فكانت تشتري الخضروات لها حتى تنقذها من الإهانة والضرب.
واستمر الحال هكذا لفترة من الزمن، ثم خرجت الفتاة ذات يوم من البيت بعد أن أصبحت كفيفة تقريبًا ولم تعد مرة أخرى، ولم نهتم بالبحث عنها هذه المرة.
ومضت السنوات فأحيل زوجي للتقاعد وفقد المنصب والنفوذ، وتخرج ابني في الجامعة وعمل وتزوج وسعدنا بزواجه، اكتملت سعادتنا حين عرفنا أن زوجته حامل، وبعد مرور شهور الحمل وضعت مولودها، فإذا بنا نكتشف أنه كفيف لا يبصر، وكانت صدمة قاسية علينا، وتحولت الفرحة إلى حزن، وعرضناه على الأطباء ولكن بلا فائدة. واستسلم ابني وزوجته للأمر الواقع، وأدخلنا حفيدنا حضانة للمكفوفين، وقررت زوجة ابني ألا تحمل خوفًا من تكرار الكارثة.
ولكن الأطباء طمأنوها وشجعوها على الحمل وشجعناها نحن أيضًا، وحملت وأنجبت طفلة جميلة، وزف الطبيب إلينا البشرى بأنها ترى وتبصر كالأطفال، وسعدنا بها سعادة مضاعفة، وبعد سبعة شهور لاحظنا عليها أن نظرها مركز في اتجاه واحد لا تحيد عنه، فعرضناها على أخصائي عيون، فإذا به يصدمنا بحقيقة أشد هولاً وهي أنها لا ترى إلا مجرد بصيص من الضوء وأنها معرضة أيضًا لفقد بصرها، فأصيب زوجي بحالة نفسية فسدت معها أيامه وكره كل شيء ونصحنا الأطباء بإدخاله مصحة لعلاجه من الاكتئاب.
وانقبض قلبي وتذكرت فجأة الكسيرة التي هربت من جحيمنا كفيفة بعد أن أمضت معنا عشر سنوات ذاقت خلالها أهوال الصعق بالكهرباء، والضرب والهوان والحرمان، وساءت نفسي من الجزع، هل هذا عقاب السماء لنا على ما فعلناه بها!
وأصبحت صورة هذه الفتاة اليتيمة التي أهملنا علاجها وتسببنا في كف بصرها تطاردني في وحدتي، وتعلق أملي في عفو ربي عما جنينا في أن أجد هذه الفتاة وأكفر عما فعلناه بها.
وبعد البحث والسؤال عنها علمنا أنها تعمل خادمة بأحد المساجد، فذهبت إليها أحضرتها لتعيش معي ما بقي لي من أيامي، ورغم قسوة الذكريات، فقد فرحت بسؤالي عنها وسعيي إليها لإعادتها، وحفظت العشرة التي لم نحفظها وعادت معي تتحسس الطريق وأنا أمسك بيدها، استقرت الفتاة معنا وأصبحت أرعاها بل وأخدمها هي وحفيدي الكفيفين، وأملي ودعائي لربي أن يغفر لي ما كان، وأن أقول لمن انعدمت الرحمة في قلوبهم: إن الله حي لا ينام فلا تقسوا على أحد فسوف يجيء يوم تندمون على ما فعلتم في قوتكم وجبروتكم ([25]).
أرجو أن يكون في هذه القصة عبرة في معاملة الغير، وخاصة الخدم والعمال ومن على شاكلتهم.
من زرع الإثم حصد الدماء
قال أحد الجنود: خرجت من بعض البلدان في الشام، وأنا على دابة لي، ومعي خرج لي، فيه ثياب ودراهم.
فلما سرت عدة فراسخ، لحقني المساء، وإذا بدير عظيم، فيه راهب في صومعة.
فنزل واستقبلني، وسألني المبيت عنده، وأن يضيفني، ففعلت.
فلما دخلت الدير، لم أجد فيه غيره، فأخذ دابتي، وطرح لها شعيرًا، وعزل رحلي في بيت، وجاءني بماء حار، وكان الزمان شديد البرد، وأوقد بين يدي نارًا، وجاءني بطعام طيب من أطعمة الرهبان، فأكلت، وشربت.
ومضت قطعة من الليل، فأردت النوم، فقلت: ادخل المستراح([26])، قبل أن أنام، فسألته عنه، فدلني على طريقه، وكنا في غرفة.
فلما صرت على باب المستراح، إذا بارية مطروحة، فلما صارت رجلاي عليها نزلت، فإذا أنا في الصحراء، وإذا البارية قد كانت مطروحة على غير تسقيف.
وكان الثلج يسقط في تلك الليلة سقوطًا عظيمًا، فصحت، وقدرت أن الذي استمر علي من غير علمه، فما كلمني.
فقمت وقد تجرح بدني، إلا أني سالم، فجئت، واستظللت بطاق باب الدبر من الثلج.
فما وقفت حينًا حتى جاءتني منها حجارة لو تمكنت من دماغي لطحنته.
فخرجت أعدو، وصحت به، فشتمني، فعلمت أن ذلك من حيلته، طمعًا في رحلي.
فلما خرجت، وقع الثلج علي فعلمت أني تالف إن دام ذلك علي، فولد لي الفكر أن طلبت حجرًا فيه ثلاثون رطلاً وأكثر، فوضعته على عاتقي تارة، وعلى قفاي تارة، وأقبلت أعدو في الصحراء أشواطًا، حتى إذا تعبت، وحميت وجرى عرقي، طرحت الحجر، وجلست أستريح خلف الدير، من حيث يقع لي أن الراهب لا يراني.
فإذا أحسست بأن البرد قد بدأ يأخذني، تناولت الحجر، وسعيت من الدير ولم أزل على هذا إلى الغداة ([27]).
فلما كان قبيل طلوع الشمس، وأنا خلف الدير إذ سمعت حركة بابه، فتخفيت.
فإذا بالراهب قد خرج، وجاء إلى موضع سقوطي، فلما لم يرني دار حول الدير يطلبني، ويقول، وأنا أسمعه: ترى ما فعل الميشوم؟ أظن أنه قدر أن بالقرب منه قرية، فقام يمشي إليها، كيف أعمل، فاتني سلبه، وأقبل يمشي يطلب أثري.
قال: فخالفته إلى باب الدير، وحصلت داخله، وقد مشى هو من ذلك المكان يطلبني حول الدير، فحصلت أنا خلف باب الدير، وقد كان في وسطي سكين، فوقفت خلف الباب، فطاف الراهب، ولم يبعد.
فلما لم يقف لي على خبر، عاد ودخل، فحين بدأ ليرد الباب، وخفت أن يراني، ثرت عليه، ووجأته بالسكين، فصرعته، وذبحته.
وأغلقت باب الدير، وصعدت إلى الغرفة، فاصطليت بنار موقدة هناك، ودفئت، وخلعت عني تلك الثياب، وفتحت خرجي، فلبست منه ثيابًا جافة، وأخذت كساء الراهب، فنمت فيه، فما أفقت إلى قريب من العصر.
ثم انتبهت وأنا سالم، غير منكر شيئًا من نفسي، فطفت بالدير، حتى وقفت على طعام، فأكلت منه، وسكنت نفسي.
ووقعت مفاتيح بيوت الحصن في يدي، فأقبلت أفتح بيتًا بيتًا، فإذا بمال عظيم من عين، وورق، وثياب، وآلات، ورحال قوم، وأخراجهم.
وإذا تلك عادة الراهب كانت مع كل من يجتاز به وحيدًا، ويتمكن منه، فلم أدر كيف أعمل في نقل المال، وما وجدته.
فلبست ثياب الراهب، وأقمت في موضعه أيامًا، أتراءى لمن يجتاز بالموضع من بعيد، فلا يشكون أنني هو، وإذا قربوا مني لم أبرز لهم وجهي، إلى أن خفي خبري.
ثم نزعت تلك الثياب، ولبست من بعض ثيابي، وأخذت جواليق ([28])، فملأتها مالاً، وحملتها على الدابة، ومشيت، وسقتها إلى أقرب قرية، واكتريت فيها منزلاً، ولم أزل أنقل إليها كلما وجدته، حتى لم أدع شيئًا له قدر إلا حصلته في القرية.
ثم أقمت بها إلى أن اتفقت لي قافلة، فحملت على دواب اشتريتها، كل ما كنت قد حصلت في المنزل.
وسرت في جملة الناس بقافلة عظيمة لنفسي، بغنيمة هائلة، حتى قدمت بلدي، وقد حصلت لي عشرات ألوف دراهم ودنانير، وسلمت من الموت ([29]).
رفض الهدنة فأصبح أسيرًا
قال ابن الأثير في تأريخه لأحداث سنة ثلاث وستين وأربعمائة:
وفي هذه السنة خرج أرمانوس ملك الروم في مائتي ألف من الروم والفرنج والغرب والروس والبحناق والكرج([30]) وغيرهم من طوائف تلك البلاد، فجاؤوا في تحمل كثير وزي عظيم، وقصدوا بلاد الإسلام، فوصلوا إلى ملازكرد من أعمال خلاط([31])، فبلغ السلطان ألب أرسلان([32]) الخبر وهو بمدينة خُوي ([33]) من أذربيجان، قد عاد من حلب، وسمع ما فيه ملك الروم من كثرة الجموع، فلم يتمكن من جمع العساكر لبعدها وقرب العدو، فسير الأثقال مع زوجته ونظام الملك إلى همدان، وسار هو فيمن عنده من العساكر وهم خمسة عشر ألف فارس، وجدّ في السير وقال لهم: إنني أقاتل محتسبًا صابرًا، فإن سلمت فنعمة من الله تعالى، وإن كانت الشهادة فإن ابني ملكشاه([34]) ولي عهدي، وساروا، فلما قارب العدو جعل له مقدمة، فصادفت مقدمته عند خلاط مقدم الروسية في نحو عشرة آلاف من الروم، فاقتتلوا، فانهزمت الروسية وأسر مقدمهم، وحمل إلى السلطان فجدع أنفه، وأنفذ بالسلب إلى نظام الملك، وأمره أن يرسله إلى بغداد، فلما تقارب العسكران أرسل السلطان إلى ملك الروم يطلب منه المهادنة، فقال: لا هدنة إلا بالري([35])، فانزعج السلطان لذلك، فقال له إمامه وفقيهه أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري الحنفي: إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان، وأرجو أن يكون الله تعالى قد كتب الخطباء على المنابر، فإنهم يدعون للمجاهدين بالنصر، والدعاء مقرون بالإجابة.
فلما كانت تلك الساعة صلى بهم، وبكى السلطان فبكى الناس لبكائه، ودعا ودعوا معه، وقال لهم: من أراد الانصراف فلينصرف، فما ههنا سلطان يأمر وينهي، وألقى القوس والنشاب، وأخذ السيف والدبوس، وعقد ذنب فرسه بيده، وفعل العسكر مثله، ولبس البياض وتحنط، وقال: إن قتلت فهذا كفني.
وزحف إلى الروم وزحفوا إليه، فلما قاربهم ترجل وعفر وجهه على التراب وبكى وأكثر الدعاء، ثم ركب وحمل، وحملت العساكر معه، فحصل المسلمون في وسطهم، وحجز الغبار بينهم، فقتل المسلمون فيهم كيف شاؤوا وأنزل الله نصره عليه، فانهزم الروم وقتل منهم ما لا يحصى، حتى امتلأت الأرض بجثث القتلى، وأسر ملك الروم.
فلما أحضر ضربه السلطان ألب أرسلان ثلاثة مقارع بيده، وقال له: ألم أرسل إليك في الهدنة فأبيت؟
فقال: دعني من التوبيخ وافعل ما تريد.
فقال السلطان: ما عزمت أن تفعل بي إن أسرتني؟
فقال: أفعل القبيح.
قال له: فما تظن أنني أفعل بك؟
قال: إما أن تقتلني، وإما أن تشهرني في بلاد الإسلام، والأخرى بعيدة وهي العفو وقبول الأموال واصطناعي نائبًا عنك، قال: ما عزمت على غير هذا.
ففداه بألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار، وأن يرسل إليه عساكر الروم أي وقت طلبها، وأن يطلق كل أسير في بلاد الروم، واستقر الأمر على ذلك، وأنزله في خيمة، وأرسل إليه عشرة آلاف دينار يتجهز بها، فأطلق له جماعة من البطارقة، وخلع عليه من الغد.
فقال ملك الروم: أين جهة الخليفة؟ فدل عليها، فقام وكشف رأسه. وأومأ إلى الأرض بالخدمة، وهادنه السلطان خمسين سنة، وسيره إلى بلاده ([36])، وسير معه عسكرًا أوصلوه إلى مأمنه ([37]).
اللهم خذه أخذًا عزيزًا
أعظم الناس وزرًا فرعون الذي ادعى الربوبية والألوهية، وزعم أن الجنة تحت قدمه، فاقترن اسمه بالغضب واللعنة لتعديه وطغيانه، وقد ورثه من لا خلاق له ممن عاش عنيدًا ومات غريبًا أمثال الحاكم بن المعز الفاطمي صاحب مصر، والفاطميون تسموا بهذا الاسم وهو بريء منهم، وفاطمة بريئة منهم، وأبوها - صلى الله عليه وسلم - بريء منهم، واسمهم الحقيقي العبيديون نسبة إلى عبيد بن سعد الجرمي، وهم أول من بنى المساجد على القبور، ودعوا الناس إلى عبادتها، شيدوا للحسين – رضي الله عنه – وبرأه الله منهم ومن شيعتهم ومحبيهم، شيدوا له قبرًا بالقاهرة، ورفعوا عليه قبة عظيمة وبنوا له المسجد المشهور الذي بالقاهرة يقام فيه من الأعمال الشركية ما يغضب الله ورسوله وآل بيته، وكل من في قلبه حب الله ورسوله والإيمان الصحيح. وقد صنف كثير من العلماء السالفين في بيان كذب أولئك العبيدين وبيان نحلتهم الكافرة الفاجرة، وأنهم كانوا يظهرون الرفض ويبطنون الكفر. وممن كتب في ذلك الإمام أبو بكر الباقلاني في كتاب نفيس سماه: «كشف الأسرار وهتك الأستار»، وألف ابن الجوزي كذلك وغيرهم ([38]).
ومن هؤلاء الخلفاء الفجرة الذين يظهرون موالاة آل البيت ويبطنون الكفر الحاكم بن المعز الفاطمي كان جبارًا عنيدًا وشيطانًا مريدًا صفته قبيحة، وسيرته ملعونة، أخزاه الله،كان كثير التلون في أفعاله وأحكامه وأقواله، جائرًا، وقد كان يروم أن يدعي الألوهية كما ادعاها سلفه فرعون لعنه الله، وقد أمر الرعية إذا ذكر الخطيب اسمه على المنبر يوم الجمعة أن يقوم الناس على أقدامهم صفوفًا إعظامًا لذكره واحترامًا لاسمه، وعم ذلك حتى في الحرمين وأمر أهل مصر خصوصًا إذا قاموا عند ذكره أن يخروا سجدًا له، حتى أنه ليسجد بسجودهم من في الأسواق من الرعاع وغيرهم، وكانوا يتركون السجود لله تعالى يوم الجمعة وغيره ويسجدون للحاكم، وأمر الناس بغلق الأسواق نهارًا وفتحها ليلاً ليغير سنة الله تعالى الذي جعل الليل لباسًا والنهار معاشًا، وقد امتثل الناس ذلك دهرًا طويلاً، وكان يطوف بالأسواق على حمار له ومعه غلام له اسمه مسعود ومن وجده قد خالف طاعته أمر العبد مسعود أن يعمل به الفاحشة العظمى، وهذا أمرٌ منكر ملعون لم يسبق إليه، وكانت العامة تبغضه كثيرًا ويكتبون له في الأوراق بالشتيمة البالغة له ولأسلافه في صورة قصص فإذا قرأها ازداد غيظًا وحنقًا عليهم.
ومن أفعاله الشنيعة وكل حياته سوء أنه أمر السودان أن يدخلوا إلى مصر وأن يحرقوها وينهبوا ما فيها من الأموال والمتاع والحريم، فذهبوا وامتثلوا أمره. فقابلهم المصريون وقاتلوهم قتالاً شديدًا حتى قتل المئات من الناس، فاجتمع الناس في الجوامع ورفعوا المصاحف، وجأروا إلى الله عز وجل، واستغاثوا به، فرق لهم الترك والمشارقة وانحازوا إليهم وقاتلوا معهم عن حريمهم ودورهم وتفاقم الحال جدًا، ثم ركب الحاكم لعنه الله ففصل بين الفريقين وما انجلى الأمر حتى احترق من مصر ثلثها، ونهب قريب من نصفها، وسبيت نساء وبنات كثيرات، وفعل معهن الفواحش والمنكرات، حتى أن منهن من قتلت نفسها خوفًا من العار والفضيحة.
قال ابن الجوزي: ثم ازداد ظلم الحاكم حتى عن له أن يدعي الربوبية فصار قوم من الجهال إذا رأوه يقولون يا واحد يا أحد يا محيي يا مميت قبحهم الله جميعًا.
وكان الصالحون يدعون عليه ويسألون الله أن يكفيهم شره، ويرفعون ظلمهم إلى العدل الذي لا يظلم، والقوي الذي لا يُغلب والذي قد وعد بالإجابة إذا استقام العبد على الطريقة المحمدية، فاستجاب الله دعاءهم وانتصر لهم وأخذ هذا الظالم أخذًا عزيزًا.
وقد جعل الله نهايته على يد أخته التي كانت تسكن معه، إذ الحراسة عليه شديدة، وكان يتهمها بالفاحشة، ويسمعها أغلظ الكلام، فتبرمت منه وعملت على قتله، فراسلت أكبر الأمراء أميرًا يقال له ابن دواس فاتفقت معه على قتله ودماره، فجهز ابن دواس من عنده عبدين أسودين شهمين وقال لهما: إذا كانت الليلة الفلانية فكونا في جبل المقطم ففي تلك الليلة يكون الحاكم هناك في الليل لينظر إلى النجوم، وليس معه أحد إلا ركابي وصبي فاقتلاه واقتلاهما معه، فلما كانت تلك الليلة قال الحاكم لأمه علي في هذه الليلة قطع عظيم فإن نجوت منه عمرت نحوًا من ثمانين سنة، ومع هذا فانقلي حواصلي إليك، فإن أخوف ما أخاف أختي، وأخوف ما أخاف على نفسي منها، فنقل حواصله إلى أمه وكان له في صناديق حوالي ثلاثمائة ألف دينار وجواهر أخرى.
فقالت له أمه: لا تخرج في هذه الليلة فوافق على ذلك، ثم خرج ودار حول القصر ورجع ونام إلى قريب من ثلث الليل الأخير، فاستيقظ وقال: إن لم أركب الليلة فاضت نفسي، فثار وركب فرسًا وصحبه صبي وركابي وصعد المقطم فاستقبله العبدان فأنزلاه عن ركوبه، وقطعا يديه ورجليه وبقرا باطنه فأتيه به مولاهما ابن دواس فحمله إلى أخته فدفنته في مجلس دارها، واستدعت الأمراء والأكبار، فبايعوا لولد الحاكم أبي الحسن علي، ولقب بالظاهر لإعزاز دين الله، وقالت للناس: إن الحاكم قال لي يغيب عنكم سبعة أيام ثم يعود، فاطمأن الناس ثم بايعوا ابنه من بعده، وقد فرحوا فرحًا شديدًا لمقتل أبيه وأراحهم الله من شره ([39]).
من قتل يُقتل ولو بعد حين
تم اكتشاف جثة حارس أحد المسارح غارقة في دمائها، كما عثر على زوجته مقيدة بالحبال ومصابة بعدة طعنات موزعة على كل جزء في جسدها، وتم نقلها إلى إحدى المستشفيات وهي بين الحياة والموت.
كثف رجال الأمن جهودهم من أجل القبض على القاتل، ولكن لم تؤد التحريات التي جُمعت إلى شيء. ومر الوقت دون أن يحققوا نتائج تُذكر، وبعد جهود مضنية عثر على بعض قطرات متجمدة من الدماء بقرب غرفة أحد العاملين بالمسرح، ووضع هذا العامل تحت المراقبة الدقيقة.
كانت زوجة الحارس القتيل قد بدأت تتماثل للشفاء، وبدأ رجال الأمن استجواب الزوجة، لكنهم لم يستفيدوا من أقوالها حيث قالت لهم: إن مجهولين هاجموا غرفتهم الصغيرة وطلبوا من زوجها أن يسلمهم النقود، وعندما رفض قتلوه وقيدوها وطعنوها هي الأخرى وهربوا، ولم تتبين ملامحهم وسط الظلام.
ولم يجد رجال الأمن أمامهم إلا القبض على العامل الذي كانت الشبهات تحوم حوله، إلا أن العامل أنكر ارتكابه للجريمة ولا يوجد الدليل القوي للإيقاع به، لذلك أفرج عنه، إلا أن رجال الأمن قاموا بوضع العامل تحت المراقبة الدقيقة، وقاموا بتتبع خطواته.
فدخل المتهم أحد الكازينوهات وكان رجال الأمن يراقبونه، وقبل دخولهم إلى الكازينو خلفه فجأة حدثت مشاجرة بين المتواجدين في الكازينو، وحدثت ضوضاء وجلبة، وذهب رجال الأمن لاستطلاع الأمر وتمكنوا من فض المشاجرة، ولكنهم فوجئوا في النهاية بوجود جثة ملقاة على وجهها في أرضية الكازينو، وعندما اقتربوا من الجثة اكتشفوا أنها جثة العامل المتهم، وكانت دهشتهم بالغة عندما اكتشفوا أنه لقي حتفه إثر تلقيه إصابة قاتلة في رقبته بواسطة إحدى الزجاجات المكسورة، وهي الطريقة نفسها التي قُتل بها حارس المسرح...والغريب أن العامل المتهم لم يكن طرفًا في المشاجرة التي نشبت في الكازينو.
بعد موت العامل القاتل اعترفت الزوجة وقالت: إنها كانت على علاقة آثمة بالعامل القاتل... ولما علم الزوج بهذه العلاقة طعنه العامل بزجاجة خمر فسقط الزوج صريعًا، ثم اتفق العامل مع الزوجة أن يقوم بتقييدها وطعنها لإبعاد الشبهات عنهما وطلب منها أن تروي للشرطة أن مجهولين اقتحموا غرفتهم وقتلوا زوجها وقيدوها وأصابوها، وكان سبب صمت الزوجة، وأنها لم تعترف إلا بعد أن قتل العامل خوفًا من أن يفتضح أمرها وعلاقتها بالعامل، وخوفًا من أن يقتلها إذا ما اعترفت عليه ([40]).
أراد قتل الضيف فقتل ابنه
كان تاجرًا متوسط الثراء، يعمل بشراء الأبقار من العراق أو من إيران، ثم ينتقل بها هو ورجاله مرحلة مرحلة حتى يصل إلى سورية، ولبنان، وقد يصل إلى مصر، ليبيع ما لديه من الأبقار، ثم يشتري أقمشة ومصنوعات أخرى. ويعود بها إلى العراق.
وكان الرجل مسلمًا حقًا: قوامًا صوامًا منفقًا على الفقراء، قائمًا بواجباته نحو ربه ونحو الناس، ورعًا تقيًا نقيًا، ما له ليس له وحده؛ بل للمحتاجين من أقربائه وأهل بلدته ولكل طالب محتاج.
وفي إحدى سفراته بتجارته، هطل ثلج كثير، فسد الطرق، وقتل الأعشاب فماتت أبقاره عدا أربعة منها: فصرف رجاله، وأخذ يتنقل بها من مكان إلى آخر، وكان في نيته أن يصل إلى حلب الشهباء، ليؤدي ما عليه من ديون هناك حسب طاقته، ويطلب تأجيل ما بقي عليه منها إلى العام القادم؛ لأن تجارته في هذا العام لم تربح، وإن مع العسر يسرا.
وفي مساء ذات يوم وصل إلى قرية صغيرة في طريقه من الموصل الحدباء إلى حلب الشهباء، فطرق باب أحد بيوتها، فلما خرج إليه رب الدار، أخبره بأنه ضيف الله، وأنه يريد أن يبيت ليلته في داره، فإذا جاء الصباح سافر إلى قرية أخرى.
ورحب صاحب الدار بضيفه، وأدخل أبقاره إلى صحن داره، وقدم الطعام للضيف والعلف للأبقار.
كان صاحب البيت معدمًا، وكان قد أصابه ما أصاب الناس من هطول الثلج بكثرة ولمدة طويلة، فماتت مواشيه، وتضرر زرعه.
وكان متزوجًا وله ولد واحد في العقد الثاني من عمره، وكان في داره غرفتان: غرفة يأوي إليها هو وزوجه، وغرفة يأوي إليها ولده.
واجتمعت العائلة حول الضيف الجديد، وابتدأ السمر شهيًا طليًا، عرف المضيف من خلاله أن ضيفه يحمل مبلغًا من المال.
وفي الهزيع الثاني من الليل، آوى المضيف مع زوجه إلى غرفتهما، وأوى الضيف إلى غرفة ولد الضيف، فنام الولد على فراشه في الزاوية اليمنى من الغرفة، وآوى الضيف إلى فراشه في الزاوية اليسرى من الغرفة.
وبعد أن سأل المضيف ضيفه عما إذا كان يحتاج إلى شيء ما، واطمأن إلى راحته، وتأكد حتى من وجود الماء لديه، غادر إلى غرفته لينام هو أيضًا.
وفي غرفته همست له زوجه: يا فلان! إلى متى نبقى في عوز شديد؟ هذا الضيف غني، ونحن بأشد الحاجة إلى ماله وأبقاره.
إننا مقبلون على مجاعة لا يستطيع الأغنياء أن يتغلبوا عليها إلا بمشقة بالغة، وسنموت نحن بدون ريب. إننا الآن نأكل يومًا ونجوع أيامًا، فكيف بنا إذا حلت بالقرية المجاعة المترقبة ولا مال عندنا ولا طعام؟
«إن الفرصة سانحة اليوم، ولن تعود مرة أخرى في يوم من الأيام! هلمّ إلى الضيف فاسلبه ماله، وخذ أبقاره، حتى تبقى على حياتنا وحياة ولدنا الوحيد».
وقال لها الرجل: كيف وهو ضيفنا؟! كيف أسلبه ماله وأبقاره؟! كيف يسمح لنا بسلبه؟!
قالت زوجه: «اقتله، ثم نرميه في حفرة قريبة في بطن هذا الوادي ومن يعرف بخبره؟ من!!»
وتردد الرجل، وألحت المرأة، وكان الشيطان ثالثهما، فزين للرجل قول امرأته، وألح هو أيضًا في الإقدام على قتل الضيف... ولكي تقطع المرأة على زوجها داء تردده، ولكي يقطع عليه الشيطان قالت المرأة لزوجها: «إن ما تفعله ضرورة لإنقاذنا من الموت الأكيد، والضرورات تبيح المحرمات».
واقتنع الرجل أخيرًا، وعزم على قتل الضيف وسلب ما لديه من مال ومتاع.
كان الوقت في الثلث الأخير من الليل، وكان كل شيء هادئًا ساكنًا، وكانت الأنوار مطفأة، ولم تكن أنوار المنازل في حينه غير سراج يوقد بالزيت.
وقصد الرجل خنجره، وشحذه، ثم يمم شطر غرفة الضيف وابنه ومن ورائه زوجه تشجعه.
ومشى رويدًا رويدًا، على رؤوس أصابع رجليه، واتجه شطر الزاوية اليسرى من الغرفة حيث يرقد الضيف، وتحسس جسمه حتى تلمس رقبته ثم ذبحه كما يذبح الشاة.
وجاءت إلى الرجل زوجه، وتعاونًا على سحب الجثة الهامدة إلى خارج الغرفة، حيث اكتشفا هناك أنهما ذبحا ابنهما الوحيد.
وشهق الرجل شهقة عظيمة، وشهقت المرأة، فسقطا مغشيًا عليهما. وعلى صوت الجلبة استيقظ الضيف، واستيقظ الجيران، ليجدوا ابن الرجل قتيلاً، وليجدوا أمه وأباه مغشيًا عليهما راقدين إلى جانب الجثة الهامدة على الأرض.
وسارع الضيف وسارع الجيران إلى الرجل وامرأته بالماء البارد يرشونه على وجهيهما، وسارع هؤلاء إلى تدليك جسدي الرجل وامرأته، فلما أفاقا أخذا يبكيان بكاء مرًا، وطلبا إلى الجيران إبلاغ الحادث إلى الشرطة، فجاءت على عجل وألقت القبض على الجانيين.
ما الذي حدث في غرفة نوم الضيف وابن المضيف؟
لقد قام الابن إلى فراش الضيف بعد أن غادر أباه الغرفة، وأخذ الرجلان يتجاذبان أطراف الحديث، وكان الحديث ذا شجون، فطال أمده، حتى نام الولد على فراش الضيف بعد أن غلبه النعاس.
ولم يشأ الضيف أن يوقظ ابن مضيفه، فترك فراشه له بعد أن أحكم عليه الغطاء، ثم آوى إلى فراش ابن المضيف.
وحين قدم المضيف إلى غرفة الضيف وابنه، كان متأكدًا من موضع فراش كل واحد منهما، فذبح ابنه وهو يريد الضيف، فكان كالخارجي الذي أراد اغتيال عمرو بن العاص في عماية الفجر، فاغتال بدله خارجة بن حذافة، فلما علم بالخبر، هتف من صميم قلبه: «أردت عمرًا وأراد الله خارجة...».
ودفن الجيران الولد القتيل، واستقر والده في السجن ([41])...
سوء الخاتمة
قال لي صاحبي: كنت في مصر أثناء أزمة الكويت، وقد تعودت دفن الموتى منذ أن كنت في الكويت قبل الأزمة، وعرفت بين الناس بذلك، فاتصلت بي إحدى العوائل طالبة مني دفن أمهم التي توفيت، فذهبت إلى المقبرة، وانتظرت عند مكان غسل الموتى، وإذا بي أرى أربع نساء محجبات يخرجن مسرعات من مكان الغسل، ولم أسأل عن سبب خروجهن وسرعتهن بالخروج، لأن ذلك أمر لا يعنيني، وبعد ذلك بفترة وجيزة خرجت المرأة التي تغسل الأموات، وطلبت مني مساعدتها بغسل الميتة، فقلت لها: إن هذا الأمر لا يجوز، فلا يحل لرجل أن يطلع على عورة المرأة؛ فعللت لي طلبها بسبب ضخامة جثة الميتة، ثم دخلت المرأة وغسلتها، ثم كفنتها، ثم نادتنا لحمل الجثة، فدخلنا نحو أحد عشر رجلاً وحملنا الجثة لثقلها، ولما وصلنا إلى فتحة القبر وكعادة أهل مصر فإن قبورهم مثل الغرف ينزلون من الفتحة العلوية بسلم إلى قاع الغرفة، حيث يضعون موتاهم دون دفن أو إهالة للتراب، فتحنا الباب العلوي وأنزلنا الجثة من على أكتافنا، وإذا بها تنزلق وتسقط منا داخل الغرفة دون أن نتمكن من إدراكها، حتى أنني سمعت قعقعة عظامها وهي تتكسر أثناء سقوطها، فنظرت من الفتحة وإذا بالكفن ينفتح قليلاً فيظهر شيء من العورة، فقفزت مسرعًا إلى الجثة وغطيتها ثم سحبتها بصعوبة بالغة إلى اتجاه القبلة، ثم فتحت شيئًا من الكفن تجاه وجه الجثة، وإذا بي أرى منظرًا عجيبًا، رأيت عينها قد جحظت، ووجهها قد أسود، فرعبت لهول المنظر، وخرجت مسرعًا لأعلى، لا ألوي على شيء.
بعد وصولي إلى الشقة اتصلت بي إحدى بنات المتوفاة واستحلفتني أن أخبرها بما جرى لوالدتها أثناء إدخالها القبر، فأردت التهرب من الإجابة، ولكنها كانت تصر علي لإخبارها، حتى أخبرتها، فإذا بها تقول لي: يا شيخ عندما رأيتنا نخرج من مكان الغسل مسرعات فإن ذلك كان بسبب ما رأيناه من اسوداد وجه والدتنا، يا شيخ إن سبب ذلك أن والدتنا ما صلت لله ركعة، وأنها ماتت وهي متبرجة.
هذه قصة واقعية تؤكد أن الله سبحانه وتعالى يشاء أن يِرُيَ بعض عباده بعض آثار الخاتمة السيئة على عباده العصاة ليكون ذلك عبرة للأحياء منهم.
إن في ذلك لعبرة لأولي الألباب([42]).
اللهم عليك به
قيض الله للسنة من يحفظها ويخدمها، أبلى شبابه وأفنى عمره من أجلها، وصرف وقته لها، فحفظه الله تعالى في سمعه وبصره ولسانه وقدمه ويده، وفي جميع شؤون حياته، وحفظ له دينه الذي هو عصمة أمره، وحفظ له آخرته التي إليها معاده.
ومن أعظم الناس خدمة للسنة أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري الذي تربى على حلقات القرآن منذ نعومة أظفاره، فحفظه عن ظهر قلب، ثم أخذ يتتبع مجالس العلماء فيجلس فيها ويسمع من أهلها، وأحب الحديث أعظم حب فحفظه وكتبه، وجمعه من مصادر كثيرة، وسأل عنه علماء كُثر. واهتم أعظم الاهتمام بصحة الحديث، فما كان يكتب حديثًا حتى يغتسل ويصلي ركعتين، وقد رزقه الله تعالى القبول في الأرض ونرجو له المحبة في السماء، فتلقت الأمة كتابه الصحيح في الحديث بالقبول، بل واعتبرته أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى.
وقد تعرض هذا الإمام لفتنة كما يفتن أمثاله زيادة في الإيمان، ومضاعفة في الأجر، ورفعة في الدرجة، وتأهيلاً للنفس حتى تصبر على ما هو أعظم من ذلك، وهذه الفتنة هي أن أمير خراسان خلف بن أحمد بن خالد حقد على الإمام البخاري أعظم حقد وتأججت في فؤاده نار الغضب ليفتك به إلا أنه يعلم مكانة الشيخ عند الناس وحبهم له، فعمل على مضايقته والإضرار به، فأخرجه من بلده الذي ولد فيه وتربى على ترابه «بخارى» وطرده عنها ليكون بعيدًا عن أهله، وبعيدًا عن عشيرته، وعن طلابه وأحبابه ومعارفه.
فحزن الإمام البخاري لذلك لأنها جناية ليس لها مبرر، ولأن معارفه الذين يتلقون عنه سيتأثرون بهذا الانقطاع، ويتأثر هو لقلة معارفه في البلد المخرج إليه، فلما غادر بلده رفع يديه إلى السماء في وقت خلوة غفل عنها الكثير ونامت فيها العيون وعجزت فيها القوى إلا قوة الله تعالى ثم أخذ يدعو ويقول: «اللهم عليك به فإنه لا يعجزك». وكأن لسان حاله يقول: أشكو إليك ضعفي وقلة حيلتي أنت ولييِّ من دون الناس، وناصري من دونهم وأنت القادر العظيم فاجعله عبرة لغيره، ومن حكمة الله تعالى أن جولة الباطل مرة، وأما الحق فجولته إلى قيام الساعة، استجاب الله تعالى دعوة هذه الإمام المظلوم ورفعها فوق الغمام وقال: لأنصرنك ولو بعد حين، فما مضى عليها إلا عدة أيام وإذا بهذا الأمير يطرد من الإمارة ويودع السجن وتوضع القيود في قدمه والأغلال في عنقه ويغرب عن أهله في سجن مظلم، كما غرب الإمام عن أهله وقومه، وصودرت أمواله، وأُركب على حمار يُطاف به على البلاد ليشهَّر به بعد تسويد وجهه والتحذير منه، وانقلبت الموازين وأصبح العزيز ذليلاً والذليل عزيزًا، واستمر معذبًا في السجن مدة طويلة حتى مات سنة ثلاث وسبعين ومائتين، قال الإمام ابن كثير: هذا جزاء من تعرض لأهل الحديث والسنن ([43]).
جزاء المرابي
عشت فقيرًا بين أب عامل وأم خادمة، آكل السؤر من الطعام، وألبس الأسمال من الثياب. لما بلغت سن الاحتلام طردني والداي، فقد كنت عبئًا عليهما.
فتركتهما وسافرت إلى بلد آخر لا يعرفني فيه أحد، وغيرت اسمي فقط، أما اسم أبي فكما هو، وعملت فراشًا في إحدى المدارس، فكنت أقف بجانب شباك الصف واستمع لما يقوله المدرس للطلاب، وتعلمت القراءة والكتابة، واشتركت في الامتحان الابتدائي ونجحت، وأكملت دراستي حتى اجتزت المرحلة الثانوية بنجاح، ثم عدت إلى بلدي، وكان والداي قد ماتا، ولم أعرف أحدًا، من إخوتي لأن اسمي تغير، وحصلت على وظيفة وتعرفت من خلالها على مجموعة من الزملاء تعلمت منهم كل رذيلة وشائنة، وصرت مسرفًا مبذرًا حتى اضطررت أن أستدين بالربا وبفائدة فاحشة قد تصل سنويًا إلى ضعف المبلغ الذي أقبضه في أول العام.
ومن جراء ذلك بعتُ مسكني الذي ليس فيه أحد سواي وزوجتي الحبلى، وقد دفعت أصول الدين والفوائد ولم يتبق معي إلا مبلغ قليل لا يكفي مصروف شهرين.
وبعد تفكير عميق قررت أن أكون مرابيًا أقرض المحتاجين بدلاً من أن أقترض من المرابين.
وبدأت بالمال القليل الذي معي أقرض المحتاجين مقابل رهون عينية تضمن لي السداد، وخلال سنتين لا أكثر ملكت الكثير من المال، فاشتريت دارًا كبيرة وتزوجت زوجة ثانية، وتوسعت تجارتي، فافتتحت محلاً في السوق كصرافة ثم كمستورد ومصدر، ولكن العمل الأساسي هو القرض بالربا.
وزادت ثروتي وتبدلت حالتي من فقير يقترض إلى غني يقرض، ورزقت بأبناء وبنات.
وذات يوم طلب مني أحد عملائي بضاعة أرسلتها له في إحدى ناقلاتي، وصمم ابني البكر أن يركب مع البضاعة ليوصلها بنفسه إلى العميل، ولكن الله لمن عصاه بالمرصاد، وكان الطريق على الساحل المجاور، فانقلبت الشاحنة وهلك ابني وذهبت البضاعة ونجا السائق بأعجوبة لم يصبه سوء، وماتت أم ابني جزعًا عندما بلغها موت ولدها.
وبعد أيام شب حريق هائل في مخزن لي ذهب منه أكثر من نصف مالي وأحد أبنائي أيضًا.
وبعد هذا الحادث احترقت بنت لي شابة معقود زواجها بموقد زيت انفجر ثم أصيبت بالشلل.
وتتوالى الحوادث ولا أدري كيف أدفعها، ولقد علمت الآن أن الذي يحدث لي هي ضرائب يجب على كل مراب أن يدفعها، ودعوات أولئك المظلومين الذين اغتصبت أموالهم ([44]).
إن الله عز وجل بالمرصاد لكل ظالم، وإن المرابي حارب الله ورسوله، وإن نهاية المرابي أليمة مهما طال الزمن.
حكمة القدر
طالبة جامعية في عمر الزهور في العشرين من العمر... اجتاحتها عواطف الرومانسية، وغرتها ملذات الحياة.
ذات يوم تعرض لها أحد صعاليك هذا الزمان... بعد أن كان يراقبها منذ فترة وجيزة... فتعرفت إليه... وأخذ هذا الذئب الأجرب يتلاطف معها... فأصبح يحكي لها أجمل ما قاله شعراء الكون... وأخذ يداعبها بكلامه المعسول المحفوف بالسموم، ويتغزل فيها من أطرافها حتى أخمص قدميها... حتى أخذت هذه الطفلة الساذجة تذوب بين ساعديه، وترتمي في أحضانه وتتعطر بالمسك لملاقاته... وتعد الثواني لمجاراته... إلى أن ختم الوضع بينهما بيوم مشؤوم فقط.
فقد أخذ يترقب لها ويترقب حتى فتحت لهما أبواب الجحيم... وأصبحا زانيين ففقدت البنت بعد ذلك مفتاح شرفها وعفتها المصونة... والأهل في خبر كان، لم يعلموا بما كان...مرت الأيام وانقطع هذا الوحش الجاثم عن ملاقاة فريسته. فلقد نال منها ما يشبعه وراح يتصيد فرائس أخرى... أصبحت البنت مثل الخرقة البالية... لا طعام ولا شراب... أهملت حياتها ومستقبلها، وما عاد يهمها سوى كيفية إخفاء هذه الفضيحة وذلك بأن يتقدم هذا الذئب لطلب يدها... مرت أشهر على الحادثة... فبدأت تظهر عوارض الحمل لديها... خافت... وانقلبت بها الأرض رأسًا على عقب فالأهل سوف يلاحظون ذلك – مؤكدًا – خلال الشهر الرابع أو الخامس، فأخذت تلاحق الذئب الشارد من زاوية لزاوية ومن طريق إلى منفذ لكي تخبره بأنها تحمل «جرمه» في بطنها.
أخذ هذا الشاب يتهرب منها ويقول لها: يمكن ألا يكون هذا الطفل طفلي... قد يكون طفل رجل آخر..
وأخذت الفتاة ترجوه وتتذلل إليه، تريد منه أن يتزوجها قبل أن يفضح أمرها... ومن كثرة إلحاحها على رأسه أخذ يفكر بمنحنى آخر، وهو كيف يتخلص من هذه المشكلة التي سببت له صداعًا في رأسه.
خطرت على باله فكرة جهنمية تجعله ينقلب رأسًا على عقب... في نار جهنم...
أرسل في طلب أصدقاء له من نفس عجينته التي ولد عليها... ذئاب... وأخبرهم بأنه يريد منهم التواجد في شاليهه الساعة الرابعة غدًا، وبأنه ستحضر بنت في هذا الشاليه فيريد أن يعتدوا عليها ولا يدعو منها شيئًا فقالوا: سمعًا وطاعة... وإنه لطلب سهل تنفيذه والتحضير له متعة.
اتصل على البنت الضحية وقال لها: أريد تواجدك في الشاليه الساعة الرابعة... فأمي تريد التعرف عليك قبل التقدم لخطبتك ففرحت أشد الفرح.
وقالت: حمدًا وشكرًا لله أن الله هداه عليها. وسيستر عرضها أخيرًا.
وجاء اليوم الموعود...
وفي تمام الساعة الرابعة... شعر أخوها بألم في بطنه واستلزم أخذه للمستشفى وإلا سوف تسوء حالته... فوقعت هي بين نارين... بين الموعد مع أم الحبيب... وبين أخيها الذي أخذ يتلوى من شدة ألمه؟
فخطر في بالها الآتي... اتصلت على أخت حبيبها، وكانت زميلتها في الجامعة وهي لا تعلم شيئًا عن القصة كلها... وقالت لها إن أخوك وأمك ينتظران مجيئي إلى الشاليه فهلا ذهبت بدلاً عني وأخبرتهم بأني لا أستطيع الحضور لأسباب قوية منعتني... فقالت لها: طيب... فذهبت هذه الأخت على عمى بصرها... تحسب بوجود أمها وأخيها في الشاليه، وما أن دخلت ذلك الشاليه... حتى انقض عليها الوحوش وأخذوا يقطعون أشلاءها ويهشمون براءتها وعفتها... ويرمون بها الأرض.
بعد ساعات جاء الذئب الأكبر بعد أن انتظر ما سيفعله أصحابه فدخل وقال لهم: كله تمام يا شباب؟
فقالوا له: بيضنا وجهك.
فقال لهم: «يعطيكم ألف عافية...» وضحكات صوتهم أخذت تهز جدران الشاليه... وأخذ هو يتقدم بخطواته إلى الغرفة التي نفذوا فيها الجريمة البشعة ظنًا منه بأنه سيلاقي البنت التي أهدر شرفها، ليخبرها بأنه ما دام اعتدى عليها أكثر من شاب غيره فهو إذن لن يستطيع – بعد الآن – التقدم لطلب يدها وابتسامة تعلو وجهه..
مسك مقبض الباب وفتحه...
فإذا هي أخته ملقاة في حال يرثى لها... ويبكي لها الأعمى والبصير...؟
أخذ يصيح كالمجنون: ماذا فعلتم أيها الأوغاد؟ ثم انطلق مسرعًا نحو سيارته وتناول مسدسًا وصوبه نحو رأسه فقتل نفسه بعد أن تسبب في ضياع أخته وصاحبتها ([45]) وعلى الباغي تدور الدوائر.
اللهم انصرني هذا اليوم
قال الشيخ سعيد بن مسفر القحطاني – حفظه الله -: أحد الناس ظُلم بشهادة زور على قطعة أرض هي له وملكه، وأراد رجل أن يأخذها؛ لأنها أمام بيته، يريدها موقفًا للسيارات، فذهب وحوطها، فعلم صاحبها وجاء إليه، وقال: «إن هذه الأرض أرضي» قال: ليست لك، فاشتكى صاحب الأرض إلى المحكمة، وأُتي بالظالم فقال له القاضي: هل الأرض لك، قال: نعم، وعندي بينة، فذهب وأتى ببينة كاذبة، ذهب إلى بعض كبار السن وطلب منهم أن يشهدوا معه، وعلمهم حدود الأرض، وأغراهم بأموال، وأن يشهد معهم إذا احتاجوا فحضروا إلى المحكمة (الظالم والشاهدان – وصاحب الأرض المظلوم) ثم أدلى الشاهدان بالشهادة أن الأرض المحدودة من الشمال كذا ومن الشرق كذا ومن الغرب كذا ومن الجنوب كذا هي ملك لفلان – أي الظالم – أبًا عن جد لا ينازعه فيها منازع، ولا يشاركه فيها مشارك، والله على ما نقول شهيد.
فسأل القاضي المظلوم: ويبدو أنه ليس عنده شهود بأن الأرض له – وقال له: هل عندك جرح بهؤلاء الشهود؟ فقال المظلوم: لا ولكن أقول كلمة وهي والله إني أعلم أنه يعلم – أي الله تعالى – أنهم كذابون وأن الأرض لي، ولكن أرادوا أخذها غصبًا ولكني أكلهم إلى رب العالمين، ثم قال له القاضي: هل عندك اعتراض على الصك فقال: لا، ليس عندي أي اعتراض على الصك، ثم نزل المظلوم، وتوضأ ودخل المسجد، وفزع إلى الصلاة، ودعا الله – عز وجل -؛ لأن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجابٌ – وقال في دعائه: «اللهم إنك تعلم أن فلانًا ظلمني، وأخذ الأرض وهي أرضي، وشهد اثنان ظلمًا وزورًا وأنه سوف يبني فيها وأنا أنظر... فإنه سوف يضيق صدري بذلك، اللهم إني أسألك أن تنصرني هذا اليوم، ثم ذهب إلى البيت، ودخل على زوجته مكسور الفؤاد، ثم نام قليلاً.
وأما الظالم والشهود فإنهم خرجوا من المحكمة ومعهم الصك، وقد وعدهم بالغداء وأعطاهم مالاً على شهادتهم له، وركبوا السيارة، وفي إحدى المنعطفات في القرية... مع فرحتهم بأخذ الأرض ظلمًا وعدوانًا إذا بالسيارة تنقلب بسبب سرعتها مع المنعطف أكثر من مرة. ومات الرجل الظالم، ومعه الشاهدان، والله ما أمسوا تلك الليلة إلا في قبورهم، وفي الصباح أخذت زوجة الظالم الصك وذهبت به إلى القاضي وردته إليه، وتبرأت من الأرض وردها القاضي إلى صاحبها»([46]).
نهاية ظالم
زعموا أن ثعلبًا كان يسمى ظالمًا، وكان له جحر يأوي إليه، وكان مغتبطًا به، فخرج يومًا يبتغي ما يأكل، ثم رجع فوجد فيه حية، فانتظر خروجها فلم تخرج، فعلم أنها استوطنته، وذلك أن الحية لا تتخذ جُحرًا، بل إذا أعجبها جُحْر اغتصبته، وطردت من به من الحيوان، ولهذا قيل: فلان أظلم من حية، فهذا ظلمها، ولما رأى ظالم أن الحية قد استوطنت جحره، ولم يمكنه السكنى معها، ذهب يطلب لنفسه مأوى، فانتهى به السير إلى جحر حسن الظاهر حصين، في أرض منيعة ذات أشجار ملتفة وماء معين. فأعجبه وسأل عنه فقالوا: هذا الجحر يملكه ثعلب اسمه مفوض، وأنه ورثه عن أبيه. فناداه ظالم، فخرج إليه ورحب به، وأدخله إلى جحره، وسأله عن حاله فقص عليه خبره مع الحية، فرق له مفوض، وقال له: الموت في طلب الثأر خيرٌ من الحياة في العار، والرأي عندي أن تنطلق معي إلى مأواك الذي أخذ منك غصبًا حتى أنظر إليه، فلعلي اهتدي إلى مكيدة تخلص بها مأواك.
فانطلقا معًا إلى ذلك الجُحر، فتأمله مفوض وقال لظالم: اذهب معي، فبت الليلة عندي لأنظر ليلتي هذه فيما يسنح من الرأي والمكيدة. ففعلا ذلك، وبات مفوض مفكرًا، وجعل ظالم يتأمل مسكن مفوض، فرأى من سعته وطيب هوائه وحصانته، ما اشتد به حرصه عليه، وطفق يدبر الحيلة في اغتصابه ونفي مفوض عنه.
فلما أصبحا قال مفوض لظالم: إني رأيت ذلك الجحر بعيدًا من الشجر والماء، فاصرف نفسك عنه، وهلم أعينك على احتفار جحر في هذا المكان المشتهي. فقال ظالم: هذا غير ممكن؛ لأن لي نفسًا تهلك لبعد الوطن حنينًا، فلما سمع مفوض مقالة ظالم، وما تظاهر به من الرغبة في وطنه قال له: إني أرى أن نذهب يومنا هذا فنحتطب حطبًا ونربط منه حزمتين، فإذا جاء الليل انطلقنا إلى بعض هذه الخيام، فأخذنا قبس نار، واحتملنا الحطب والقبس إلى مسكنك، فنجعل الحزمتين في بابه، وتضرم النار؛ فإن خرجت الحية احترقت، وإن لزمت الجحر قتلها الدخان. فقال له ظالم: هذا نعم الرأي.
فذهبا واحتطبا حزمتين، ولما جاء الليل، انطلق مفوض إلى ظاهر تلك الخيام، فأخذ قبسًا، فعمد ظالم إلى إحدى الحزمتين فأزالها إلى موضع غيبها فيه، ثم جر الحزمة الأخرى إلى باب مسكن مفوض فسده بها سدًا محكمًا، وقدر في نفسه أن مفوضًا إذا أتى الجحر لم يمكنه الدخول إليه لحصانته؛ فإذا يئس منه ذهب فنظر لنفسه مأوى. وكان ظالم قد رأى في منزل مفوض طعامًا ادخره لنفسه، فعول ظالم على أنه يقتات به إن حاصره مفوض وهو من داخل، وأذهله الشره والحرص عن فساد هذا الرأي.
ثم إن مفوضًا جاء بالقبس؛ فلم يجد ظالمًا ولا وجد الحطب، فظن أن ظالمًا قد حمل الحزمتين تخفيفًا عنه، وأنه سبقه إلى مسكنه الذي فيه الحية إشفاقًا على مفوض. فشق ذلك عليه، وظهر له من الرأي أن يبادر إليه، ويلحقه ليحمل معه الحطب، فوضع القبس بالقرب من الحطب، ولم يشعر أن الباب مسدود به لشدة الظلمة، فما أبعد عن الباب إلا وضوء النار وشدة الدخان قد لحقا به، فعاد وتأمل الباب، فرأى الحطب قد صار نارًا، فعلم مكيدة ظالم، ورآه قد احترق من داخل الجُحر، وحاق مكره ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾ [فاطر: 43]؛ فقال: هذا الباحث على حتفه بظلفه.
ثم إن مفوضًا صبر حتى انطفأت النار، فدخل جحره فأخرج جثة ظالم فألقاها، واستوطن جحره آمنًا ([47]).
بشر القاتل بالقتل
قال أبو بكر بن محمد بن عبد الباقي: بلغني أن المعتضد بالله كان يومًا جالسًا في بيت يبنى له، يشاهد الصناع فرأى في جملتهم غلامًا أسود منكر الخلقة شديد المزح يصعد على السلاليم مرقاتين مرقاتين ويحمل ضعف ما يحملونه.
فأنكر أمره فأحضره وسأله عن سبب ذلك.
فلجلج فقال لابن حمدون وكان حاضرًا:
- أي شيء، يقع لك في أمره؟
فقال: ومن هذا حتى صرفت فكرك إليه ولعله لا عيال له فهو خالي القلب؟!
قال: ويحك قد خمنت في أمره تخمينًا ما أحسبه باطلاً أما أن يكون معه دنانير قد ظفر بها دفعة من غير وجهها، أو يكون لصًا يتستر بالعمل في الطين.
فلاحاه ابن حمدون في ذلك فقال:
- علي بالأسود.
فأحضر وقال: مقارع.
فضربه وقرره وحلف إن لم يصدقه ضرب عنقه، وأحضر السيف والنطع ([48]).
وقال الأسود: لي الأمان.
فقال: الأمان إلا ما يجب عليك فيه من حد.
فلم يفهم ما قال وظن أنه قد أمنه.
فقال: أنا كنت أعمل في أتاتين الآجر سنتين، وكنت منذ شهور هناك جالسًا فاجتاز بي رجل في وسطه هميان فتبعته فجاء إلى بعض الأتاتين فجلس وهو لا يعي مكاني فحلَّ الهميان وأخرج منه دينارًا.
فتأملته فإذا كله دنانير فثاورته وكتفته وسددت فمه، وأخذت الهميان وحملته على كتفي وطرحته في نقرة الأتون وطينته.
فلما كان بعد ذلك أخرجت عظامه فطرحتها في دجلة، والدنانير معي يقوى بها قلبي.
فأمر المعتضد من أحضر الدنانير من منزله وإذا على الهميان مكتوب لفلان بن فلان، فنودي في البلدة باسمه فجاءت امرأة فقالت:
- هذا زوجي ولي منه هذا الطفل، خرج في وقت كذا، ومعه هميان فيه ألف دينار فغاب إلى الآن.
فسلم الدنانير إليها، وأمرها أن تعتد، وضرب عنق الأسود، وأمر أن تحمل جثته إلى الأتون ([49]).
([1]) أخرجه البخاري، كتاب الأذان، رقم (755).
([2]) أركد في الأوليين: أطيل فيهما القراءة.
([3]) المغني عن مجالس السوء (1/77، 78).
([4]) معلوم أن التبني لا يجوز في الإسلام.
([5]) البداية والنهاية بتصرف يسير. نقلاً عن: كما تدين تدان ص (30، 31).
([6]) سير أعلام النبلاء، ج4.
([7]) البداية والنهاية ج9.
([8]) البداية والنهاية ج9، صفة الصفوة جزء3، سير أعلام النبلاء جزء 4، صور من حياة الصحابة الجزء الثالث. نقلاً عن: اتق دعوة المظلوم ص(55-58).
([9]) أبق منه: هرب.
([10]) الفرج بعد الشدة للتنوخي (3/393-398).
([11]) شريط بعنوان: حلاوة الإيمان، للشيخ أحمد القطان. نقلاً عن الجزاء من جنس العمل (1/264).
([12]) الجوالق: كيس كبير من صوف أو شعر.
([13]) فراسة المؤمن ص(56-58).
([14]) عدالة السماء (ص64-69).
([15]) في القاموس المحيط: أترفته النعمة: أطغته.
([16]) أي: أخرجه.
([17]) مرتفع أعلى الأنف مع احديداب وسطه.
([18]) مدة طويلة.
([19]) المختار من فوائد النقول والأخبار لمحمد عوامة (3/72-76).
([20]) قطار الزواج والطلاق، رجاء أبو صالح ص(27-29).
([21]) الدخول في الصحراء.
([22]) موضع ينقر في الصخر.
([23]) عجائب القصص، منصور العواجي ص(153-155).
([24]) أسيرة الأحلام، تيسير الزايد ص(50-53).
([25]) جريدة «الأهرام» المصرية، تاريخ 15/1/1991م. نقلاً عن الجزاء من جنس العمل (2/263).
([26]) المستراح: الكنيف.
([27]) الغداة: أول النهار.
([28]) الجواليق والأخراج: أكياس كبيرة.
([29]) الفرج بعد الشدة (3/389-392).
([30]) البجناق: البوشناق، كانوا سكان منطقة الفولغا شرقي روسية، ثم نزحوا إلى منطقة البوسنة والهرسك في يوغوسلافيا اليوم. والكرج: سكان جورجية، وعاصمتها اليوم تفليس.
([31]) تقع ملازكرد شمال بحيرة وان بأرمينية. وخلاط: مدينة مشهورة كانت حاضرة أرمينية.
([32]) ألب أرسلان، ومعناه البطل الأسد، من أشهر سلاطين السلاجقة المسلمين، وهم قبائل تركية، كانت على الوثنية، واقتتلت أول الأمر مع المسلمين ثم اعتنقت الإسلام، وأصبحت من أعظم حماته في القرنين الخامس والسادس الهجريين. اتجه السلاجقة إلى قتال الروم، وخاضوا ضدهم معارك مظفرة، فتحوا فيها معظم آسية الصغرى وجعلوها جزءًا من بلاد المسلمين، كما شاركوا في صد حملات الصليبيين الأولى.
([33]) خوي: مدينة معمورة من مدن أذربيجان، كان جميع أهلها على مذهب السنة، قد ظهر فيها علماء ومحدثون، وتقع أذربيجان وبلاد الكرج (جورجية) وأرمينية على السفوح الجنوبية الغربية لجبال القفقاس وهي اليوم من جمهوريات الاتحاد السوفيتي.
([34]) حكم ملكشاه بعد أبيه ألب أرسلان عشرين سنة كانت من ألمع الحقب.
([35]) من أشهر مدن خراسان، ينسب إليها الإمام فخر الدين الرازي.
([36]) في البداية والنهاية: وسيره إلى بلاده ومعه راية مكتوب عليها «لا إله إلا الله محمد رسول الله».
([37]) بهجة المجالس لأبي عبد الله الأثري (2/139-141).
([38]) تعليق الشيخ عبد العزيز بن باز على فتح المجيد، باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح، البداية والنهاية لابن كثير، جزء 11، حوادث عام 402.
([39]) البداية والنهاية جزء 12. نقلاً عن «اتق دعوة المظلوم» ص(92-94).
([40]) جريدة الأنباء العدد (6983)، الملحق، بتصرف. نقلاً عن: «كما تدين تدان» ص(28، 29).
([41]) عدالة السماء ص(46-51).
([42]) قصص من الواقع ص(62-63).
([43]) البداية والنهاية جزء 11. نقلاً عن «اتق دعوة المظلوم» ص(90-91).
([44]) «من غريب ما سألوني» الجزء الثاني، صفحة 96-98، نقلاً عن «كما تدين تدان» ص(34، 35).
([45]) فتيات ضائعات ص(269-272) بتصرف.
([46]) من عجائب الدعاء، لخالد الربعي ص(87-88).
([47]) كتاب «ثمرات الأوراق» لأبي بكر الحموي ص(209-211).
([48]) النطع: البساط الذي يفرش عند تنفيذ القتل.
([49]) طرائف وأخبار الخلفاء ص(30-32).