×
الرحمة النبوية: دراسة تأصيلية : بحث باللغة العربية، يعتني بإثبات فطرية الرحمة النبوية، وكمالها البشري.

 الرحمة النبوية: دراسة تأصيلية

د. محمد بن عبد الله اللعبون

يهدى ولا يباع

حقوق الطبع متاحة لكل من يريد نشره خيريًّا

يهدى ولا يباع

حقوق الطبع متاحة لكل من يريد نشره خيريًّا

 المقدمة

الحمدُ لله ربّ العالمين، الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم وبارك على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمّد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فموضوع (الرحمة النبوية) من الموضوعات المهمّة؛ دعوةً وتربية، وقد كُتب فيه- بحمد الله- كتابات كثيرة، وغالب تلك الكتابات تدور حول جمع الأمثلة والتطبيقات والنصوص، ولا شك في أهمية ذلك، إلا أن للموضوع زوايا أخرى تحتاج إلى معالجة وإبراز.

وهذا البحث يتناول إحدى تلك الزوايا والمداخل، وهي:

(إثبات فطرية الرحمة النبوية وكمالها البشري).

إذ تفاوُت الناس في الاتصاف بخُلقٍ من الأخلاق، ما بين مستقّلٍ ومستكثر، أمرٌ ظاهر، ووجود أصل الخُلق أمرٌ حسن، يشترك فيه الكثيرون، والتفاضل والتمايز إنما يكون في قوة التخلّق وتأثيره، وثبات الإنسان على مبادئه، والتزامه بأخلاقه، في جميع الأحوال والظروف.

وعليه؛ فإنّ هذا البحث ينطلق من فرضية:

أن خلق (الرحمة) خلق فطري أصيل، في شخصية الرسول   ﷺ، ومكون أساس من مكوناتها، لها تأثير قوي وواضح في تصرفاته ومعاملاته ﷺ .

وأن الرسول ﷺ بلغ الكمال الإنساني في التخلق بها،

وإثبات صدق هذه الفرضية من خلال خمسة محاور:

1- طبيعة مهمّته ﷺ، وعلاقة خُلق الرحمة بنجاحه فيها.

2- حضور خُلق الرحمة في أحواله ﷺ كلها.

3- تأثير خُلق الرحمة في الأخلاق الأخرى.

4- محبته ﷺ للرحمة وأهلها، وتشجيعه عليها.

5- تأثير رحمته ﷺ فيمن حوله والمتعاملين معه.

وبحث موضوع الرحمة، من هذه الزاوية، له أهميةٌ وأولوية؛ تتمثّل فيما يأتي:

أ- أنّ إثبات أنه ﷺ مفطورٌ على الرحمة، وأنها خُلقه الطبيعي، ونال الكمال البشري فيها، يساعد على إقناع الآخرين، ويساهم في اختصار الأمثلة والشواهد التي يحتاج إليها في الاستدلال على عظيم رحمته وشمولها، وفي ردّ اعتراض الخصم بأنّ الأمثلة والشواهد إنما هي جزئية؛ أو وسيلة استخدمت لتحقيق مصالح آنية.

ب- أنّ البحث يهتمّ بأصل الموضوع، ويساهم في اختصار الخطاب؛ فهو يناسب فئةً مهمّة، يستهدفها الحديث عن الرسول ﷺ وأخلاقه( )، وهُم الجماهير الغربيّة، وبخاصة المثقفون منهم، ويذكّر- أيضًا- المهتمين بموضوع نصرة الرسول ﷺ؛ بتضمين هذا الأصل في خطابهم والبناء عليه.

ج- أنّ إثبات فطرية الرحمة وتأصّلها في نفس رسول الله ﷺ؛ فيه بيان فضله على الآخرين، وبخاصة مَن يفتخر بهم بعض أهل الأديان والمذاهب، وكذلك كماله البشري، وهو جانبٌ يساهم في نصرة الرسول ﷺ والدفاع عنه.

وبهدف هذا البحث- الموجز- إلى:

تجلية الرحمة النبوية وإبرازها في: أصالتها وعمقها في تكوينه الشخصي ورسالته ﷺ، وفي سعتها وشمولها لمعانٍ أكثر وأكبر من العطف واللين( )، وفي أهميتها لعمله، وفي تأثيرها الإيجابي عليه ﷺ وفي محيطه، وما ينبني على ذلك من تحفيز على الاقتداء والتأسّي به، وقبل ذلك: زيادة الإيمان به وتعميق الحبّ له ﷺ.

تنبيهات حول منهج البحث:

1- اقتصرتُ على الأحاديث الصحيحة، وحرصت على اختيار ما ورد في الصحيحين، أو أحدهما.

2- إذا كان الحديث من غير الصحيحين لم أتوسع في تخريجه، مراعاةً لمساحة البحث، وإنما اكتفيتُ بالعزو إلى بعض المصادر، ونقل حكم أحد الأئمة.

3- إذا كان هناك اختلاف مؤثّر في الروايات؛ أُورد اللفظ الذي يناسب الموضوع، وأبيّن ذلك عند العزو للمصادر.

4- عزوت أقوال الصحابة- رضي الله عنهم-، والتابعين- رحمهم الله- إلى المصادر المسندة.

6- حرصت على نسبة الأقوال لأصحابها، وعزو ذلك إلى مصادره، وما تصرفت فيه أشرت إلى ذلك بعبارة: «بتصرف».

أسأل اللهَ الكريم: أن يوفقنا لحسن القول والعمل..

والحمد لله ربّ العالمين.

تمهيد: في معنى الرحمة

قال ابن فارس: (رحم): الراء والحاء والميم: أصلٌ واحد، يدلّ على الرقّة والعطف والرأفة( ).

وقال ابن منظور: الرحمة: الرقة والتعطف، والمرحمة مثله، وقد رحمته وترحمّت عليه، وتراحم القوم: رحم بعضهم بعضًا، والرحمة: المغفرة( ).

وحكى ابن سِيدَه: أصل الرحمة: النعمة....، قال الزجاج: وحقيقة الرحمة: الإنعام على المحتاج( ).

وقال الراغب الأصبهاني: الرحمة: رقّة تقتضي الإحسان إلى المرحوم، وقد تُستعمل تارةً في الرقّة المجردة، وتارةً في الإحسان المجرد عن الرقّة( ).

وفي التعريفات: الرحمة: هي إرادة إيصال الخير( ).

يقول الشيخ عبد الرحمن الميداني: «من الأصول الخُلقية وكلُيّاتها العامّة خُلق الرحمة، ولهذا الأصل فروعٌ أخلاقية متعدّدة، منها برّ الوالدين، ومنها صلة الرحم، ومنها إكرام اليتيم، ومنها العطف على الفقراء والمساكين والمرضى والخدم وذوي الحاجات والضعفاء والعجزة وذوي المصائب، ومنها التعاطف بين الإخوان والأصحاب والجيران، وبين المسلمين بوجهٍ عام، ومنها الشفاعة الحسنة، ومنها لين الجانب للناس، ومنها العفو والصفح عن المسيء، ومنها مشاورة رئيس الجماعة وقائدهم وولي أمرهم لأهل المشورة منهم رحمةً بقلوبهم ونفوسهم التي يؤلمها الإهمال والاستبداد، إلى غير ذلك».

ويرى الشيخ عبد الرحمن: أنّ من العسير التوصّل إلى تعريفٍ دقيق للرحمة؛ لأنّ شأن الرحمة كشأن معظم العواطف والانفعالات، إنما تُدرك وتُعرف بظواهرها؛ لا بحقيقة تكوينها.

ويذكر أنّ: «الرحمة ذات مراتب ودرجات، ولها مستويات متفاوتات، قد يصل بعضها إلى أن يشعر الراحم بمثل مشاعر مَن يرحمه تمامًا، في النوع والمقدار» ( ).

المبحث الأول

طبيعة رسالته ومهمته ﷺ

 المبحث الأول: طبيعة رسالته ومهمته ﷺ

أرسل اللهُ رسولَه محمّد ﷺ رحمةً للعالمين، فهو في نفسه رحمة، وشريعته رحمة، ودعوته رحمة، قال سبحانه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107].

يقول الشيخ محمد الطاهر بن عاشور- رحمه الله-: «فجاءت هذه الآية مشتملةً على وصفٍ جامعٍ لبعثة محمّد ﷺ، ومزيتها على سائر الشرائع مزية تناسب عمومها ودوامها، وذلك كونها رحمةً للعالمين... وصيغت بأبلغ نَظْم؛ إذ اشتملت هاته الآية- بوَجَازة ألفاظها- على مدح الرسول عليه الصلاة والسلام، ومدح مُرسله تعالى، ومدح رسالته بأن كانت مظهر رحمة الله تعالى للناس كافة، وبأنها رحمة الله تعالى بخَلْقه...

وتفصيل ذلك يظهر في مظهرين: الأول: تخلّق نفسه الزكية بخُلق الرحمة، والثاني: إحاطة الرحمة بتصاريف شريعته.

فأما المظهر الأول: ... (فقد) فُطر ﷺ على خُلق الرحمة في جميع أحوال معاملته الأمّة؛ لتكون مناسبة بين روحه الزكية وبين ما يُلقى إليه من الوحي بشريعته التي هي رحمة؛ حتى يكون تلقّيه الشريعة عن انشراح نفس؛ أن يجد ما يُوحي به إليه ملائمًا رغبته وخُلقه ... ولهذا خصّ اللهُ محمّدًا ﷺ في هذه السورة بوصف الرحمة، ولم يصف به غيره من الأنبياء، وكذلك في القرآن كله...

وأما المظهر الثاني من مظاهر كونه رحمةً للعالمين: فهو مظهر تصاريف شريعته؛ أي ما فيها من مقوّمات الرحمة العامّة للخلق كلهم؛ لأنّ قوله تعالى: ﴿للْعَالَمِينَ﴾ متعلّق بقوله: ﴿رَحْمَةً﴾...»( ).

ويؤكد الرسول ﷺ هذه الرحمة، في مواقف عديدة، منها:

عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قيل: يا رسول الله؛ ادْعُ على المشركين. قال: (إني لم أُبعث لعّانًا، وإنما بُعثتُ رحمة)( ).

ولمّا أمره اللهُ تعالى بتخيير نسائه في قوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا [28] وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 28–29]، بدأ بعائشة– رضي الله عنها-؛ فقال: (يا عائشة؛ إني أريدُ أن أعرض عليكِ أمرًا، أُحبّ أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبوَيك). قالت: وما هو يا رسول الله؟ فتلا عليها الآية، قالت: أفيكَ- يا رسول الله- أستشير أبوَي؟! بل أختارُ اللهَ ورسولَه والدارَ الآخرة، وأسألُكَ أن لا تخبر امرأةً من نساءك بالذي قلتُ. قال: (لا تسألني امرأةٌ منهنّ إلا أخبرتُها، إنّ اللهَ لم يبعثني مُعنِّتًا ولا مُتعنِّتًا، ولكن بعثني مُعلِّمًا مُيسِّرًا)( ).

ومن أجل تحقّق تلك الرحمة وتمامها؛ جعل اللهُ رسولَه ﷺ ليّنًا رؤوفًا رحيمًا، وامتنّ عليه وعلينا بهذه السجايا، التي هي سببٌ في نجاحه والاجتماع عليه، وفي قبول الحقّ والانقياد له، فقال سبحانه: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران: 159]، وقال سبحانه: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [التوبة: 128].

قال الحسن البصري- رحمه الله-: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ): قال: «هذا خُلق محمّد، نعتَه الله» ( ).

وقال الإمام الربيع بن خثيم- رحمه الله-: (ولَوْ كُنتَ فَظًا غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ): «أي: والله قد طهّره من الفظاظة والغِلظة، وجعلَه رحيمًا قريبًا رؤوفًا بالمؤمنين»( ).

قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور- رحمه الله-: «ودلّ  فعلُ المضيّ في قوله: (لِنتَ): على أنّ ذلك وصفٌ تقرّر وعُرف من خُلقه، وأنّ فطرته على ذلك برحمةٍ من الله؛ إذ خَلَقَه كذلك، و ﴿اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: 124]، فخُلق الرسول مناسبٌ لتحقيق حصول مراد الله تعالى من إرساله، لأنّ الرسولَ يجيء بشريعةٍ يبلّغها عن الله تعالى، فالتبليغ متعيّن لا مصانعةَ فيه، ولا يتأثر بخُلق الرسول، وهو أيضًا مأمورٌ بسياسة أمّته بتلك الشريعة، وتنفيذها فيهم، وهذا عملٌ له ارتباطٌ قويٌّ بمناسبة خُلق الرسول لطباع أمّته؛ حتى يلائم خُلقُه الوسائل المتوسَّل بها لحَمْل أمّته على الشريعة الناجحة في البلوغ بهم إلى مراد الله تعالى منهم ...، أُرسل محمّد ﷺ مفطورًا على الرحمة، فكان لينه رحمةً من الله بالأمّة في تنفيذ شريعته بدون تساهل، وبرفق وإعانة على تحصيلها»( ).

وأما الآية الثانية؛ فيقول ابن كثير- رحمه الله-: «قوله: ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾: أي: يعزّ عليه الشيء الذي يعنت أمّته ويشقّ عليها... وشريعته كلّها سهلة سمحة كاملة، يسيرة على مَن يسّرها الله تعالى عليه، ﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُم﴾: أي: على هدايتكم، ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم»( ).

ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي- رحمه الله-: «يمتنّ [تعالى] على عباده المؤمنين بما بعث فيهم النبي الأمي الذي من أنفسهم، ... وهو ﷺ في غاية النصح لهم، والسعي في مصالحهم ... ﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُم﴾ فيحبّ لكم الخير، ويسعى جهده في إيصاله إليكم، ويحرص على هدايتكم إلى الإيمان، ويكره لكم الشرّ، ويسعى جهده في تنفيركم عنه. ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾: أي: شديد الرأفة والرحمة بهم، أرحم بهم من والديهم»( ).

وهو ﷺ أشفق علينا وأرحم بنا من أنفسنا، وقد ضرب لذلك مثلًا واقعيًّا مشاهدًا، فقال ﷺ: (إنما مَثَلي ومَثَلُ الناس: كمَثَلِ رجل استوقد نارًا، فلمّا أضاءت ما حوله جعل الفَرَاشُ وهذه الدّوابُّ التي تقع في النار يقعن فيها، فجعل ينزِعُهنّ ويَغلِبْنَه فيقتحمن فيها، فأنا آخُذُ بِحُجَزِكم عن النّار، وأنتم تقحّمون فيها!)( ) متفق عليه.

فهذا مثلٌ لاجتهاد نبينا ﷺ في نجاتنا، وحرصه على تخليصنا من الهلكات التي بين أيدينا، ولجهلنا بقدر ذلك، وغلبة شهواتنا علينا( ).

وفي الحديث: ما كان فيه ﷺ من الرأفة والرحمة، والحرص على نجاة الأمّة( ).

ولعظيم نصحه وشفقته؛ فقد جعله الله أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فقال سبحانه: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ....﴾ الآية [الأحزاب: 6]، وذلك لِمَا بذل لهم من النصح والشفقة والرأفة؛ ما كان به أرحم الخلق وأرأفهم، فرسولُ الله أعظم الخلق منّةً عليهم( ).

وهذا ما لمسه الصحابة- رضي الله عنهم- وعايشوه، وشهدوا به، فعن أُميمة بنت رُقَيْقَة- رضي الله عنها–؛ أنها قالت: أتيتُ النبيَّ ﷺ في نِسوَة من الأنصار نبايعه، فقلنا: يا رسول الله؛ نبايعك على أن لا نشرك بالله شيئًا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نأتي بِبُهتانٍ نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيك في معروف، قال: (فيما استطعتنّّ وأطقتنّ)، قالت: قلنا اللهُ ورسولُه أرحمُ بنا، هَلُمّ نبايعك يا رسول الله! فقال رسولُ اللهِ ﷺ: (إني لا أصافح النساء، إنما قولي لمائة امرأةٍ كقولي لامرأةٍ واحدة. أو: مثل قولي لامرأةٍ واحدة)( ).

المبحث الثاني

التزام النبي ﷺ بخلق الرحمة

في أحواله كلها

 المبحث الثاني: التزام النبي ﷺ بخلق الرحمة في أحواله كلها

من أبلغ الدلائل على أنّ رسولَ اللهِ ﷺ مفطور على الرحمة، وأنها خُلقه، كما قال الحسن البصري( )- رحمه الله-، التزامه واستصحابه لهذا الخُلق في أحواله كلها: في الشدّة والرخاء، والقوة والضعف، والرضا والغضب، والصحة والمرض، ومع الجميع: القوي والضعيف، الصغير قبل الكبير، الموافق والمخالف.

ودلائل حضور خُلق الرحمة والتزامه بها في أحواله كلها ﷺ كثيرة جدًّا، منها:

1- في أعظم حال وموقف؛ جمع بين الجلال والأهوال والرغبة والرهبة؛ موقف القيام أمام ذي الجلال للفصل بين الخلائق، في المقام الذي تذهل فيه العقول والقلوب؛ وتتطلع كلُّ نفسٍ لنجاتها: يحدّث الرسولُ ﷺ عن ذلك اليوم فيقول: (يجمع اللهُ يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيدٍ واحد، فيُسمِعُهم الدّاعي، وينفذُهم البصر، وتدنو الشمسُ فيبلغ الناسَ من الغمّ والكرب ما لا يطيقون وما لا يحتملون، فيقول بعضُ الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه؟ ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون مَن يشفع لكم إلى ربّكم؟ فيقول بعضُ الناس لبعض: ائتوا آدم! فيأتون آدم، فيقولون: يا آدمُ؛ أنت أبو البشر، خلقك اللهُ بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربّك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغَنَا؟ فيقول آدم: إنّ ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيتُه، نفسي نفسي! اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح( )...

فيأتوني فيقولون: يا محمّد؛ أنت رسولُ الله، وخاتم الأنبياء، وغفر اللهُ لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربّك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغَنَا؟ فأنطلق، فآتي تحت العرش، فأقع ساجدًا لربي، ثم يفتح اللهُ عليّ، ويُلهمني، من محامده وحسن الثناء عليه، شيئًا لم يفتحه لأحدٍ قبلي، ثم يُقال: يا محمّد؛ ارفع رأسك، سَلْ تُعطَه، اشفع تُشفّع. فأرفع رأسي فأقول يا ربِّ! أُمّتي أُمّتي!...) الحديث( )، متفق عليه.

قال العلامة محمد بن خفيف الفارسي: «انظر: هل وصف اللهُ عزّ وجل أحدًا من عباده بهذا الوصف من الشفقة والرحمة التي وصف بها حبيبه ﷺ؟! ألا تراه في القيامة- إذا اشتغل الناسُ بأنفسهم- كيف يدع حدَثَ نَفْسِه ويقول: (أُمّتي أُمّتي)، يرجع إلى الشفقة عليهم، ويقول: إني أسلمتُ نفسي إليك، فافعل بي ما شئت، ولا تردّني في شفاعتي في عبادك» ( ).

2- في حالةٍ أخرى، تشابه الحالة السابقة، في اللحظات الأخيرة ورسول الله ﷺ يغادر هذه الدنيا، نجد أنّ من أهمّ ما يشغل بالَه ويستأثر باهتمامه؛ فئةٌ ضعيفة، يخشى عليها من الجور أو الإهمال وتضييع الحقوق، عن عليّ- رضي الله عنه- قال: (كان آخرُ كلام رسول الله ﷺ: الصلاةَ الصلاةَ، اتقوا اللهَ فيما ملكت أيمانُكم)( ).

3- وفي موقفٍ آخر؛ نلاحظ فيه قوة حضور الرحمة والشفقة، ودقّة استحضار موجبها، عن صفيّة بنت حُييّ- رضي الله عنها- قالت: كان النبيُّ ﷺ معتكفًا، فأتيتُه أزوره ليلًا، فحدّثتُه، ثم قمتُ لأنقلب، فقام معي ليَقلِبَني، وكان مسكنُها في دار أسامة بن زيد، فمرّ رجلان من الأنصار، فلمّا رأيَا النبيَّ ﷺ أسرعَا، فقال النبيُّ ﷺ: (على رِسْلِكُما، إنها صفيّة بنت حُييّ)!

فقالَا: سبحان اللهِ! يا رسول الله!

قال: (إنّ الشيطانَ يجري من الإنسانِ مجرَى الدّم، وإني خشيتُ أن يقذف في قلوبكما شرًّا)، أو قال: (شيئًا)( ) متفق عليه.

قال القاضي عياض- رحمه الله-: «هو إشفاقٌ منه على أمّته، فقد كان بالمؤمنين رؤوفًا رحيمًا، وخشيتَه من ظنّهم به شيئًا فيهلكوا»( ).

4- وفي موقفٍ اجتمعت فيه رزايا متعددة، تتعلق بشخصه الكريم ﷺ وبأمّته، حيث قُتل عددٌ من قادة المسلمين في غزوة مؤتة، فقد استُشهد حِبُّه زيد بن حارثة، وابن عمّه جعفر بن أبي طالب، وشاعره عبد الله بن رواحة- رضي الله عنهم-؛ ومع شدّة الرزية، وفي غمرة الانشغال بها وبآثارها؛ لا يغفل القلبُ الممتلئ رحمةً وشفقةً عن مراعاة مواطنها وأهلها، فعن عبد الله بن جعفر- رضي الله عنهما- قال: لمّا جاء نعي جعفر حين قُتل قال النبيّ ﷺ: (اصنعوا لآل جعفر طعامًا، فقد أتاهم أمرٌ يشغلهم)، أو: (أتاهم ما يشغلهم)( ).

5- ولأنّ النبي ﷺ مفطور على الرحمة؛ فقد كان معروفًا بالرحمة ومشهودًا له بها حتى قبل البعثة، ففي حديث بدء الوحي ؛ لما رجع الرسولُ ﷺ خائفًا، يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد- رضي الله عنها-، فقال: (زمّلوني زمّلوني)، فزمّلوه حتى ذهب عنه الرَّوْع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: (لقد خَشِيتُ على نفسي)، فقالت خديجة: (كلا والله! ما يُخزيك اللهُ أبدًا، إنك لَتصِلَ الرحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتَقري الضيف، وتُعين على نوائب الحقّ)( ) متفق عليه، فخديجة- رضي الله عنها- تذكّره بأفعاله وخصاله الحميدة، الدالة على عظيم رحمته وإحسانه؛ لتُطمئن قلبَه؛ إذ الجزاء من جنس العمل.

6-      ويؤكد هذا عمّه أبو طالب، في لاميته المشهورة، فيقول:

وأبيض يُستسقَى الغمامُ بوجهِهِ    ثِمَالُ اليتامَى عِصمةٌ للأراملِ( )

وعلى ضوء ما تقدّم:

فإنّ رحمة النبي ﷺ عملٌ فطري طبعي؛ ظاهر في أحواله وتصرفاته ﷺ مع الجميع؛ يراها ويشعر بها كلّ مَن جالسه أو تعامل معه ﷺ( ).

فهذا مالك بن الحويرث- رضي الله عنه- يفد هو ومجموعة من أقرانه، ومع أنهم شباب وضيوف؛ وجلسوا مدّة قليلة، نجد أنّ الذي لفت انتباه مالك ولاحظه- في هذه الفترة الوجيزة- هو رحمة النبي ﷺ، فيقول:

أتينا رسولَ اللهِ ﷺ ونحن شبَبة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان رسول الله ﷺ رحيمًا رقيقًا، فظن أنّا قد اشتقنا أهلَنا، فسألَنا عمّن تركنا من أهلِنا، فأخبرناه، فقال ﷺ: (ارجِعُوا إلى أهلِيكم، فأقيموا فيهم وعلّموهم ومُروهم، فإذا حضرت الصلاةُ فليؤذّن لكم أحدُكم، ثم ليؤمَّكم أكبرُكم)( ) متفق عليه.

* * *

المبحث الثالث

تأثير الرحمة في أخلاقه

وأفعاله ومشاعره ﷺ

 المبحث الثالث: تأثير الرحمة في أخلاقه وأفعاله ومشاعره ﷺ

 أولًا: تأثيرها في أخلاقه ﷺ :

للرحمة صلةٌ وثيقة بعددٍ من الأخلاق، تتضح من خلال التعريفات والدوافع، والرحمة تشتمل وتتضمن- كذلك- معاني الرقّة والعطف والمغفرة والإحسان، وهي عوامل مؤثرة في أخلاقٍ متعددة، وحينما ننظر في سيرة الرسول ﷺ نجد أن تأصُّل خُلق الرحمة في نفسه الكريمة ﷺ عاد بالتأثير الإيجابي على الأخلاق الأخرى، وأضرب لذلك أمثلة:

1- الحِلْم:

قال الإمام الماوردي: «وأسباب الحِلْم الباعثة على ضبط النفس عشرة: أحدها: الرحمة للجهال ...، وقد قيل في منثور الحكم: من أوكد الحِلْم رحمة الجهال»( ).

وهذا السبب يكاد أن يكون هو الأظهر في كثيرٍ من مواقف الحِلْم التي في سيرة الرسول ﷺ، ومن الأمثلة على ذلك:

- عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: (كنت أمشي مع النبي ﷺ وعليه بُردٌ نجرانيٌّ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه جذبةً شديدة، حتى نظرتُ إلى صفحة عاتق النبي ﷺ قد أثّرت به حاشية الرّداء من شدّة جَذْبته، ثم قال: مُر لي من مال الله الذي عندك! فالتفت إليه فضحك، ثم أمر له بعطاء)( ) متفق عليه.

2- الرفق( ):

عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله ﷺ إذ جاء أعرابيٌّ فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله ﷺ: مَهْ مَهْ! قال: قال رسول الله ﷺ: (لا تُزرِموه، دَعُوه)، فتركوه حتى بال، ثم إنّ رسول الله ﷺ دعاه فقال له: (إنّّ هذه المساجدَ لا تصلُحُ لشيءٍ من هذا البول ولا القَذَر، إنما هي لذكر الله عزّ وجل والصلاة وقراءة القرآن)، أو كما قال رسول الله ﷺ، قال: (فأمَرَ رجلًا من القوم، فجاء بدلوٍ من ماء فشنّه عليه)( ) متفق عليه.

فالرسول ﷺ لم يُجمل في منع الصحابة الكرام عن تعنيف الأعرابي بل وضّح مقصدَه، فقال: (لا تُزرِموه) أي: لا تقطعوا عليه بوله؛ لأنّ (حبس البول يحصل لصاحبه ضررًا، فكان فيه زيادة ضرر على تنجيس المسجد بعد وقوعه، فهذا من رفقه ﷺ بأمّته وحُسن نظره لهم)( ).

وفي موقفٍ آخر؛ تخبر أمّ المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- فتقول: كنتُ على بعيرٍ فيه صُعوبة، فجعلتُ أضرِبُه، فقال النبي ﷺ: (عليكِ بالرّفق، فإنّ الرّفق لا يكون في شيءٍ إلا زانَه، ولا يُنزع من شيءٍ إلا شانَه)( )، والأمر بالرفق واضحٌ باعثه، وهو عدم إيذاء هذه الدابّة بالضرب.

3- العفو والصفح:

قال سبحانه وتعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ....﴾ [آل عمران: 159].

والتفريع في قوله: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ﴾ على قوله: ﴿لِنتَ لَهُمْ﴾ الآية؛ لأنّ جميع الأفعال المأمور بها مناسب للين( ).

ومن أعظم المواقف التي تجلّى فيها عظيم عفوه ﷺ موقفه من أهل مكة حينما دخلها فاتحًا، فقد كانوا لا يشكّون في استئصال شأفتهم وإبادة خضرائهم، نظرًا لما فعلوه به وبأصحابه من الأذى والمحاربة، ولكن هل حدث ما توقّعوه، وما يستحقونه؟

عن أبى هريرة قال: (لمّا فتح رسولُ اللهِ ﷺ مكة استعمل رسولُ اللهِ ﷺ الزُّبير بن العوّام على إحدى المُجنِّبتين، وخالد بن الوليد على الأخرى، قال فبَصُر بي رسولُ اللهِ ﷺ في كبكبةٍ فهتف بي، قلتُ: لبيك يا رسول الله! قال: (اهتِفْ لي بالأنصار)، فهتفتُ بهم، فطافوا برسول الله ﷺ كأنهم كانوا على ميعاد، قال: (يا معشر الأنصار؛ إنّ قريشًا قد جمعوا لنا، فإذا لقيتُموهم فاحصدوهم حصدًا، حتى توافوني بالصّفا، الصّفا ميعادُكم)، قال أبو هريرة: فما لقينا منهم أحدًا إلا فعلنا به كذا وكذا، وجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله؛ أبحت خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم! قال رسولُ اللهِ ﷺ: (مَن أغلق بابَه فهو آمن، ومَن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومَن ألقى السلاح فهو آمن)، ولجأت صناديدُ قريش وعظماؤها إلى الكعبة- يعني دخلوا فيها-، قال: فجاء رسول الله ﷺ حتى طاف بالبيت، فجعل يمرّ بتلك الأصنام فيطعنها بِسِيَة القوس ويقول: ﴿جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ [الإسراء: 81]، حتى إذا فرغ وصلّى؛ جاء فأخذ بعَضادَتي الباب، ثم قال: (يا معشر قريش؛ ما تقولون؟) قالوا: نقول: ابن أخٍ وابن عمٍّ رحيمٍ كريم! ثم عاد عليهم القول، قالوا مثل ذلك، قال: (فإني أقول كما قال أخي يوسف: ﴿لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [يوسف: 92])، فخرجوا فبايعوه على الإسلام)( )، ويُلاحظ- هنا- أنّ قريشًا استرحمت الرسولَ ﷺ بالقرابة والرحم وبصفته: (رحيم).

وبالجملة: (ما انتقم رسولُ اللهِ ﷺ لنفسِه في شيءٍ يُؤتي إليه، حتى يُنتهَك من حُرماتِ الله، فينتقم لله)( ) متفق عليه.

 ثانيًا: تأثير الرحمة في أفعاله ﷺ:

كان ﷺ يعمل العمل ودافعُه الرحمة بأصحابه، ويترك العمل، وهو يحبه، خوفًا أن يُفرض أو يُقتدى به فيه، فيشقّّ بذلك على أمّته، والأمثلة على ذلك كثيرة جدًا، منها:

1- عن جابر بن عبد الله : أنّ رسول الله ﷺ خرج إلى مكة، عام الفتح، فصام، حتى بلغ كُراع الغَميم، وصام الناسُ معه، فقيل له: إنّ الناس قد شقّ عليهم الصيام، وإنّ النّاس ينظرون فيما فعلت، فدعا بقَدَحٍ من ماء، بعد العصر، فشرب والناس ينظرون إليه، فأفطر بعضهم وصام بعضهم، فبلغه أنّ ناسًا صاموا، فقال: (أولئك العُصاة)( ).

2- وأعظم من ذلك أنه كان يُقَصِّرُ الصلاة، ويخفّفها إذا سمع بكاء الصبي في المسجد؛ رحمةً به وبأمّه، مع أنّ الصلاة هي قرة عينه ﷺ، وشهود النساء والأطفال للصلاة في المسجد ليس واجبًا، فعن أبي قتادة عن النبي ﷺ قال: (إني لأقوم في الصلاة أريدُ أنّ أطوِّل فيها، فأسمع بكاءَ الصبيّ فأتجوَّز في صلاتي؛ كراهيةَ أن أشقّ علَى أُمّه)( ).

3- عن أبي هريرة : أنّ امرأة سوداء كانت تقمّ المسجد (أو شابًا)، ففقدها رسولُ اللهِ ﷺ، فسأل عنها (أو عنه)، فقالوا: مات. قال: (أفلَا كنتم آذنتُموني!). قال فكأنهم صغّروا أمرَها (أو أمرَه)، فقال: (دُلّوني على قبره)، فدلّوه، فصلّى عليها، ثم قال: (إنّ هذه القبور مملوءةٌ ظُلمة على أهلها، وإنّ اللهَ عزّ وجل يُنوّرُها لهم بصلاتي عليهم)( ) متفق عليه، وسؤال النبي ﷺ عن هذه المسكينة يدل على كمال تفضّله، وحسن تعهّده، وكرم أخلاقه وتواضعه، ورأفته ورحمته، وتنبيهه على أن لا يُحتقر مسلم، ولا يُصغّر أمره( ).

4- وعن أبي هريرة قال: سمعتُ النبيّ ﷺ يقول: (والذي نفسي بيده! لولا أنّ رجالًا من المؤمنين لا تطيبُ أنفسهم أن يتخلّفوا عنّي، ولا أجدُ ما أحملهم عليه، ما تخلّفت عن سريةٍ تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده! لودِدتُ أنّي أُقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أُقتل ثم أحيا ثم أُقتل ثم أحيا ثم أُقتل)( ) متفق عليه.

وقد كان هذا ظاهرًا من حاله ﷺ، حتى قالت عائشة- رضي الله عنها-: (ما خُيّر رسولُ اللهِ ﷺ بين أمرَيْن إلا أخذ أيسرَهما، ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعدَ الناسِ منه، وما انتقم رسولُ اللهِ ﷺ لنفسه؛ إلا أن تُنتهك حُرمة الله؛ فينتقم لله بها)( ).

 ثالثًا: تأثير الرحمة في مشاعر النبي ﷺ وانفعالاته النفسية:

لم يقتصر أثر الرحمة النبوية على أخلاقه وأفعاله ﷺ فقط، بل لعُمقها، وأصالتها في نفسه الكريمة، ظهر أثرها في مشاعره وانفعالاته النفسية، وصارت تُعرف من حاله قبل فعله أو بيانه.

1- أرسلت إحدى بنات النبيّ ﷺ إليه: تدعوه وتخبره أنّ صبيًّا لها أو ابنًا لها في الموت، فقال للرسول: (ارِجع إليها، فأخبرها: أنّ لله ما أخذ وله ما أعطى، وكلُّ شيءٍ عنده بأجلٍ مُسمّى، فمُرها: فلتصبر ولتحتسب)، فعاد الرسول فقال: إنها قد أقسمت لتأتينّها، فقام النبيُّ ﷺ، وقام معه سعدُ بن عبادة ومعاذُ بن جبل... فرُفع إليه الصبيُّ ونفسه تَقْعقَع كأنها في شَنّة، ففاضت عيناه، فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال: (هذه رحمةٌ جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحمُ اللهُ من عباده الرّحماء)( ) متفق عليه.

فقوله: (هذه) أي الدمعة؛ أثر (رحمة)، أي أنّ الذي يفيض من الدمع من حزن القلب، بغير تعمّد من صاحبه ولا استدعاء، لا مؤاخذة عليه( ).

2- تلاحظ أمّ المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- تغيّر حالة النبي ﷺ عند رؤية الغيم، فتقول: (كان إذا رأى غيمًا أو ريحًا عُرف في وجهه)، فقالت: يا رسول الله؛ إنّ الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيتَه عُرف في وجهك الكراهية؟ فقال: (يا عائشة؛ ما يُؤمنّي أن يكون فيه عذاب؟ عُذّب قومٌ بالريح، وقد رأى قومٌ العذابَ فقالوا: هذا عارضٌ ممطرنا)( ) متفق عليه.

3- وفي موقفٍ عجيب؛ اجتمعت فيه مشاعر وانفعالات متعارضة، وظهر فيه أثر الرحمة النبوية في فعله وقوله ومشاعره ﷺ، وقد أحسن الصحابي الجليل جرير بن عبد الله- رضي الله عنه- في وصف الموقف حتى كأننا نشاهده، حيث يقول: كنّا عند رسول الله ﷺ في صدر النهار، قال: فجاءه قومٌ حُفاة عُراة مُجتابي النِّمَار أو العَبَاء، مُتقلّدي السيوف، عامّتهم من مُضَر، بل كلّهم من مُضَر، فتمعّر وجهُ رسولِ الله ﷺ لِمَا رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالًا، فأذّن وأقام، فصلّى، ثم خطب فقال: (﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ إلى آخر الآية ﴿إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1]، والآية التي في الحشر: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ [الحشر: 18]، تصدّق رجلٌ من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بُرّه، من صاع تمره- حتى قال:- ولو بشقّ تمرة).

قال: فجاء رجلٌ من الأنصار بصُرّة كادت كفُّه تعجِزُ عنها؛ بل قد عجَزَت، قال: ثم تتابع الناسُ، حتى رأيت كَومَين من طعامٍ وثياب، حتى رأيتُ وجهَ رسولِ اللهِ ﷺ يتهلّل كأنه مُذهَبَة، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: (مَن سنّ في الإسلام سنّةً حسنةً؛ فله أجرُها وأجر مَن عَمِلَ بها بعدَه؛ من غير أن ينقُصَ من أجورهم شيءٌ، ومَن سنّ في الإسلام سنّةً سيئةً؛ كان عليه وزرها ووزر من عَمِلَ بها من بعدَه؛ من غير أن ينقُصَ من أوزارهم شيء)( )، وشَرْح مواضع الرحمة في هذا الحديث يطول، ولكن تأمّل: كيف كان حاله ﷺ التي دلّت عليها تعابير وجهه الكريم، حينما دخل عليه هؤلاء، وحاله حينما استجاب المسلمون لدعوته.

4- ومع ذلك فإنّ أحيا المشاعر وأعمقها لا تتفجر عنده في هذه المواقف العادية المألوفة فقط، بل كانت عواطفه الرقيقة تتجه نحو القيم العليا، فلقد كان لاهتمامه بنجاة الناس، والآلام التي يحسّها حين يرى ضلالهم، كان لذلك تأثير موجع على نفسه( ).. قال تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ [الكهف: 6]، فهذه معاتبة من الله عزّ ذكره على وَجْده بمباعدة قومه إيّاه فيما دعاهم إليه من الإيمان بالله، والبراءة من الآلهة والأنداد، وكان بهم رحيما)( ).

ويؤيد أنّ حزنه إنما هو رحمة وشفقة– وليس بسبب إيذائهم أو نحوه – ما رواه ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: قالت قريشٌ للنبيّ ﷺ: ادعُ لنا ربّك أن يجعل لنا الصّفا ذهبًا ونؤمن بك. قال: (وَتفعلون؟) قالوا: نعم. قال: (فدعا، فأتاه جبريلُ فقال: إنّ ربّك عزّ وجل يقرأ عليك السلام، ويقول: إنْ شئتَ أصبح لهم الصّفا ذهبًا، فمَن كفر بعد ذلك منهم عذبتُه عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين، وإنْ شئتَ فتحتُ لهم بابَ التوبة والرحمة. قال: بل بابُ التوبة والرحمة)( ) رواه أحمد والحاكم.

فقد اختار ﷺ التأني بهم، مع ما فيه من زيادة التعب والمشقّة عليه، إلا أنه أرجَى لإسلامهم.

المبحث الرابع

محبّته ﷺ للرحمة وأهلها

 المبحث الرابع: محبّته ﷺ للرحمة وأهلها

من دلائل تأصُّل خُلق الرحمة في نفس رسول الله ﷺ محبّته أن ينتشر هذا الخُلق، وسعيه ﷺ في ذلك بقوله وفعله، وكذلك محبته للمتصفين بالرحمة وثناؤه عليهم.. وتتأكد هذه الدلالة إذا استصحبنا قوله تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ [2] كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾  [الصف: 2-3].

والرسول ﷺ (كان خُلقه القرآن)( )، فكلّ ما استحسنه وأثنى عليه ودعا إليه؛ فقد تحلّى به، وكلّ ما استهجنه ونهى عنه؛ تجنّبه وتخلّى عنه( ).

إذًا فالرسول ﷺ حينما يدعو إلى الرحمة ويرغّب فيها؛ فهو أول المبادرين إليها، وسأشير إلى مظهرين من مظاهر محبّته ﷺ للرحمة، هما: الأول: الترغيب فيها، والثاني: محبة أهلها والثناء عليهم.

 أولًا: الترغيب في الرحمة:

وردت نصوصٌ كثيرة جدًّا في الترغيب في الرحمة، بأساليب متنوعة، وطلبًا للاختصار: سأذكر نصوصًا هي كالأصول في باب (الترغيب في الرحمة)، منها:

1- عن عِيَاض بن حِمَار- رضي الله عنه- عن النبيّ ﷺ أنه قال:

(أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطانٍ مقسطٌ متصدّقٌ موفَّق، ورجلٌ رحيمٌ رقيقُ القلب لكلّ ذي قُربى ومسلم، وعفيفٌ متعفّف ذو عيال)( ).

2- ويذكّر الرسولُ ﷺ المؤمنين: أنّ العمل بهذا الخلق فيه مصلحة للجميع، فعن النعمان بن بشير- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ:

(ترى المؤمنين في تراحمِهم وتوادِّهم وتعاطِفهم كمثل الجسد؛ إذا اشتكى عُضوًا تداعى له سائرُ جسده بالسهر والحمّى)( ) متفق عليه.

بوّب عليه الإمامُ ابن حبان- رحمه الله-: (ذكرُ تمثيلِ المصطفى ﷺ المؤمنينَ بما يجب أن يكونوا عليه من الشفقة والرأفة)( ).

3- مَن أراد أن يدخل في رحمة الله؛ فليرحم الخلق: فعن أسامة بن زيد- رضي الله عنه-، عن الرسول ﷺ أنه قال: (وإنما يرحم اللهُ من عباده الرّحماء)( ) متفق عليه.

وعن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما-، عن النبي ﷺ أنه قال: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء، الرحم شُجْنَةٌ من الرحمن، فمَن وصلها وصله الله، ومَن قطعها قطعه الله)( ).

فأتى بصيغة العموم ليشمل جميع أصناف الخَلْق، فيرحم البرّ والفاجر، والناطق والبُهم، والوحوش والطير( ).

 ثانيًا: محبّته للمتصفين بالرحمة وثناؤه عليهم:

1- أبو بكر الصدّيق صديق رسول الله ﷺ قبل البعثة، وأحبّ الناس إليه وأقربهم منه بعد البعثة، ويشبه أن يكون من أسباب ذلك مشابهته للنبي ﷺ في أخلاقه، (خرج أبو بكر مهاجرًا  نحو  الحبشة، حتى إذا بلغ بَرْك الغِمَاد لقيه ابنُ الدَّغِنَةِ، وهو سيّد القارة، فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربّي. قال ابن الدَّغِنَة: فإنّ مثلك لا يخرج ولا يُخرج؛ إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتقري الضيف، وتُعين على نوائب الحقّ، وأنا لك جارٌ، فارجع فاعبد ربك ببلدك)( ).

وما قاله ابن الدَّغِنَة في أبي بكر الصدّيق هو ما وصفت به خديجة- رضي الله عنها- رسولَ اللهِ ﷺ( )، (والأرواحُ جنودٌ مجنّدة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف)( ).

وقد أثنى الرسول ﷺ على أبي بكر فقال: (أرحمُ أُمّتي بأُمّتي أبو بكر)( ).

2- يخطب الرسول ﷺ ابنة عمّه أم هانئ بنت أبي طالب- رضي الله عنها-، وهذا شرفٌ تتمنّاه كلّ امرأة، فبماذا أجابت؟:

قالت: يا رسول الله؛ إني قد كبرتُ، ولي عيال( ).

عندئذ قال رسول الله ﷺ: (خيرُ نساء ركبن الإبل نساءُ قريش، أحنَاه على ولدٍ في صِغَره، وأرعاه على زوجٍ في ذات يده)( ).

3- عن أبي موسى قال: قال رسول الله ﷺ: (إنّ الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قلّ طعام عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوبٍ واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحدٍ بالسَّوِيّة، فهُم منّي وأنا منهم)( ) متفق عليه.

4- ومن محبّته ﷺ للرحماء أنه يقربهم منه في الآخرة، فعن سهل بن سعد عن النبي ﷺ أنه قال: (أنا وكافل اليتيم في الجنّة هكذا)، وقال بإصبعيه السبابة والوسطى( ).

وذلك لما فيه من حُسن الخلافة للأبوين، ورحمة الصغير، وذلك مقصودٌ عظيم في الشريعة( ).

المبحث الخامس

تأثير رحمته ﷺ  في الآخرين

 المبحث الخامس: تأثير رحمته ﷺ في الآخرين

ما خرج من القلب وصل إلى القلب( )، هذه الحكمة تُغني عن الإطالة في بيان قوة تأثير الشيء حينما يكون صادرًا عن طبيعة وجبلّة بلا تكلّف أو ادّعاء.

ولأنّ خُلق الرحمة قد ملأ قلبَ النبيّ ﷺ؛ فقد بلغ تأثيره في الآخرين مبلغًا كبيرًا، ومن أعظم مظاهر ذلك التأثير محبتهم للنبي ﷺ، واجتماعهم عليه، وطاعتهم له، كما قال المولى سبحانه: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾  [آل عمران: 159].

وفي كتب السنّة، وسير الصحابة الكرام- رضوان الله تعالى عليهم-، أمثلة كثيرة، وصور متنوعة، لتأثير رحمته ﷺ.

سأكتفي بنماذج تتعلق بأحد أنواع التأثر، وهو: العمل بخُلق الرحمة وانتشارها، ومنها:

1- الاستجابة والتفاعل الإيجابي مع الرحمة النبوية:

يقول أبو مسعود البدري : (كنتُ أضرب غلامًا لي بالسوط، فسمعتُ صوتًا من خلفي: (اعلم أبا مسعود!) ، فلم أفهم الصوت من الغضب، قال فلمّا دنا منّي إذا هو رسول الله ﷺ، فإذا هو يقول: (اعلم أبا مسعود! اعلم أبا مسعود!)، قال: فألقيتُ السوط من يدي، فقال: (اعلم أبا مسعود؛ أنّ اللهَ أقدرُ عليك منك على هذا الغلام).

ولمّا سمع أبو مسعود تذكير رسول الله ﷺ، ويشبه أن يكون في نبرة صوته وتعابير وجهه ما يدلّ على عظيم الشفقة والرحمة، لم يكتف بإيقاف الضرب، بل رأى أنّ الأمر يستحق أكبر من ذلك، فقال: (لا أضرب مملوكًا بعده أبدًا. وقال: يا رسولَ اللهِ؛ هو حرٌّ لوجه الله).

وهذا ما كان سيأمره به الرسول ﷺ إذ قال: (أمَا لو لم تفعل لَلَفحتك النّار) أو: (لمسّتك النّار)( )؛ فقد كان الحال أسرع من المقال.

قال النبي ﷺ لأبي الهيثم بن التيهان: (هل لك خادم؟) قال رضي الله عنه: لا، قال: (فإذا أتانا سبيٌ فَأتِنَا)، فأُتي النبي ﷺ برأسَيْن ليس معهما ثالث، فأتاه أبو الهيثم، فقال النبي ﷺ: (اختر منهما)، فقال: يا نبيّ الله؛ اختر لي! فقال النبي ﷺ: (إنّ المستشارَ مؤتمنٌ، خُذ هذا؛ فإني رأيتُه يصلّي، واستوص به معروفًا).

فكيف طبّق أبو الهيثم هذه الوصية؟

يقول الراوي: فانطلق أبو الهيثم إلى امرأته، فأخبرها بقول رسول الله ﷺ، فقالت امرأته: ما أنت ببالغ ما قال فيه النبيُّ ﷺ إلا أن تعتقه! قال: فهو عتيق؟( ) فقال النبي: (إنّ اللهَ لم يبعث نبيًّا ولا خليفةً إلا وله بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالًا، ومن يوق بطانة السُّوء فقد وُقي)( ). فاقتنع بكلامها- رضي الله عنها- وأعتقه، وذلك إمّا لأنهما خشيَا أن يقصّر (أبو الهيثم) في تطبيق الوصية، وإمّا لأنهما رأيَا من حال الغلام- في دينه أو بدنه- ما فهمَا منه أنّّ المعروف الذي يستحقه هو العتق، خاصّة أنّ أبا الهيثم طلب من الرسول ﷺ أن يختار له، ثم إنّ رسول الله ﷺ لم يُنكر عليهما ما فعَلَا.

2- وفي تطبيق معاني الرحمة التي أمر بها النبيُّ ﷺ:

عن معاوية بن سُويد قال: لطمتُ مولىً لنا فهربت، ثم جئتُ قُبيل الظهر فصليت خلف أبي، فدعاه ودعاني، ثم قال امتثل منه، فعفَا، ثم قال (أي سويد بن مُقرن): كنّا بني مُقرن على عهد رسول الله ﷺ ليس لنا إلا خادمٌ واحدة، فلطمها أحدُنا، فبلغ ذلك النبيّ ﷺ فقال: (أعتِقُوها) قالوا: ليس لهم خادمٌ غيرُها! قال (فليستخدموها؛ فإذا استغنَوا عنها فليخلُّوا سبيلها)( ).

3- وفي الاقتداء بالرسول ﷺ في رحمته ورفقه:

- عن الأزرق بن قيس قال: كنّا على شاطئ نهرٍ بالأهواز ، قد نضب عنه الماء، فجاء أبو برْزَة الأسلمي- رضي الله عنه- على فرس، فصلّى وخلّى فرسه، فانطلقت الفرس، فترك صلاته وتبعها حتى أدركها فأخذها، ثم جاء فقضى صلاته، وفينا رجلٌ له رأي، فأقبل يقول: انظروا إلى هذا الشيخ! ترك صلاته من أجل فرس! فأقبل فقال: ما عنّفني أحدٌ منذ فارقتُ رسولَ اللهِ ﷺ، وقال: إنّ منزلي مُتراخ، فلو صليتُ وتركتُه لم آت أهلي إلى الليل، وذكر: أنه قد صَحِبَ النبيَّ ﷺ فرأى من تيسيره)( ).

- عن أبي وائل قال: كان عبد الله بن مسعود يذكّر الناس في كلّ خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن؛ لوددتُ أنك ذكّرتنا كلّ يوم! قال عبد الله: (أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أُملَّكم، وإني أتخوّلُكم بالموعظة كما كان ﷺ يتخوّلُنا بها مخافةَ السآمة علينا)( ) متفق عليه.

- هذا مثال من طريقة عبد الله بن مسعود التي وصفها حَبّةُ بن جُوين العرني لعلي بن أبي طالب- رضي الله عنه-، حيث يقول: (كنّا جلوسًا عند عليّ، فذكرنا بعض قول عبد الله وأثنى القوم عليه، فقالوا: يا أمير المؤمنين؛ ما رأينا رجلًا أحسن خُلُقًا، ولا أرفق تعليمًا، ولا أشدّ ورعًا، ولا أحسن مجالسة من ابن مسعود)( ).

- خرج عدي بن حاتم إلى مجلس قومه، فأُقيمت الصلاة، فتقدّم إمامهم، فأطال الصلاة والجلوس، فلمّا انصرف قال عدي: مَن أَمّنا منكم فليُتمّ الركوعَ والسجود؛ فإنّ خلفه الصغير والكبير والمريض وابن السبيل وذا الحاجة. فلمّا حضرت الصلاة تقدّم عديٌّ فأتم الركوع والسجود، وتجوّز في الصلاة، فلمّا انصرف قال: (هكذا كنّا نصلّي خلف النّبي)( ).

- عن معاوية بن الحكم السلمي قال: بينما أنا أصلي مع رسولِ اللهِ ﷺ إذ عطس رجلٌ من القوم، فقلت: يرحمك الله! فرماني القوم بأبصارهم، فقلت وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ؛ ما شأنكم تنظرون إليّ؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلمّا رأيتهم يُصمّتونني لكنّي سكت.

ولما سلّم من الصلاة توقّع أن يأتيه تعنيفٌ أو نحوه، ولكن حصل خلاف ذلك، حيث يقول:

فلمّا صلّى رسول الله ﷺ؛ فبأبي هو وأمي! ما رأيت معلّمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله ما كَهَرني ولا ضربني ولا شتمني، قال: (إنّ هذه الصلاة لا يصلُحُ فيها شيءٌ من كلام النّاس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن)( ).

- ولقد أثّر رفق النبي ﷺ في نفس معاوية بن الحكم- كما يدل عليه كلامه السابق-، وفي معاملته لغيره، إذ حصل في مرّة أن غضب على جارية له فضربها، وشعر عند ذلك أنّ هذا خلاف ما تعلّمه من الرسول ﷺ، فسارع يستشيره في إصلاح ما بدَر منه، فيقول:

كانت لي جارية ترعى غنمًا لي قِبَل أُحد والجَوّانية، فاطلّعت ذات يوم فإذا الذّيب قد ذهب بشاةٍ من غنمها، وأنا رجلٌ من بني آدم، آسف كما يأسفون، لكنّي صككتها صكّة، فأتيتُ رسولَ الله ﷺ، فعظَّم ذلك عليّ، قلتُ: يا رسولَ الله؛ أفلا أُعتقها؟

قال: (ائتني بها)، فأتيته بها.

فقال لها: (أين اللهُ؟).

قالت: في السماء.

قال: (مَن أنا؟).

قالت: أنت رسولُ الله.

قال: (أعتِقها؛ فإنها مؤمنة)( ).

- عن أبي إسحاق السبيعي، قال: كان جرير بن عبد الله في بَعْثٍ بأرمينية، قال: فأصابتهم مخمصة، أو مجاعة، قال: فكتب جريرٌ إلى معاوية: إني سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: (مَن لم يرحم الناسَ لا يرحمه اللهُ عز وجل)، قال: فأرسل إليه، فأتاه، فقال: أأنت سمعتَه من رسول الله ﷺ. قال: نعم! قال: فأقفَلَهم ومتّعهم( ).

إنّ هذه الأمثلة والشواهد.. تُبيّن شيئًا يسيرًا من النجاح الذي حقّقه الرسولُ ﷺ، بقوله وعمله، في نشر خُلق الرحمة وتعميقه في مجتمع الصحابة الكرام- رضوان الله تعالى عليهم-، النجاح الذي أخبر عنه المولى سبحانه فقال:

﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الفتح: 29].

 الخاتمــــــــــــــــة

الحمدُ لله ربّ العالمين الذي جعلنا من هذه الأمّة المرحومة، وامتنّ علينا بنبيّ الرحمة ﷺ.

وبعد هذه الإطلالة المختصرة والممتعة، على بعض أحوال الرسول ﷺ وأعماله.. أختم هذا البحث بذكر أبرز النتائج والتوصيات، وهي:

1- أنّ الرسول ﷺ مفطورٌ على الرحمة، وهي خُلُقه، بدلالة القرآن، والتزامه بها، وظهورها في تصرفاته، وتأثيرها في الآخرين.

2- أنّ الله تعالى أشاد برحمة الرسول ﷺ وامتنّ بها؛ وبيّن أثرها؛ ولذا فبيان هذه الرحمة والحديث عنها أمرٌ مهم، سواء للمسلمين- للاقتداء والمحبّة-، وللكفار .. دعوةً وإعذارًا.

3- تأثير اتصاف الرسول ﷺ بالرحمة موضوعٌ يستحق العناية والإبراز؛ إذ له علاقة بالسيرة والدفاع عن الرسول ﷺ، والدعوة لخُلُق الرحمة، ومحبّة الصحابة الكرام- رضوان الله عليهم-.

4- التجديد في عرض السيرة النبوية ووقائعها؛ من خلال التعريف بشخصية الرسول ﷺ وأخلاقه وأعماله؛ وإبراز جوانب التميّز والعظمة والتأثير فيها، وعدم الاقتصار على السرد التاريخي فقط، تقويةً للمحبّة؛ وتحفيزًا على الاقتداء.

5- أنّ اتصاف الإنسان بالرحمة من أقوى وسائل التأثير في الآخرين؛ فحري بأهل العلم والدعوة، أن يقتدوا بالرسول ﷺ في العمل والتعامل بالرحمة.

والحمدُ لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات.