مشاهدة القيامة
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
- مشاهدة القيامة
- مقدمة
- مشاهدة القيامة
- مراحل القيامة العشر
- أول مرحلة من مراحل الآخرة: الموت.
- المرحلة الثانية: القبر:
- المرحلة الثالثة: استقرار الأرواح في البرزخ:
- المرحلة الرابعة: الفناء الكامل الشامل لهذا الكون:
- المرحلة الخامسة: إعادة الخلق بعد الفناء:
- المرحلة السادسة: الخروج من القبور للبعث والنشور:
- المرحلة السابعة: الحساب:
- المرحلة الثامنة: الميزان:
- المرحلة التاسعة فهي: نصب الصراط:
- المرحلة العاشرة: القنطرة:
- صفة الجنة
- أحْدِثْ توبةً
- الأوقات التي يُندب فيها الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة:
مشاهدة القيامة
عبد الرحمن اليحيى التركي
مقدمة
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، وهو الله في السماوات وفي الأرض، يعلم سركم وجهركم، ويعلم ما تكسبون، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله – صلوات ربي وسلامه عليه – وبعد:
كتبت هذا المبحث اللطيف، في مراحل القيامة؛ تذكرة وتبصرة لكل عبد منيب، وإن الذي يمكن أن يحدثنا عن مشاهدة القيامة وما حوت من أهوال وشدائد هو رجل واحد فقط، ذلكم هو النبي الأمي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا الكلام ليس مستقى من تقولات الناس، أو من تكهنات الكهان، أو رؤية منامية، بل هو الحق اليقين بالوحي الإلهي بواسطة جبريل الأمين على قلب سيد المرسلين – عليه الصلاة والسلام – فتعالوا نلقي نظرة على أرض المحشر وما حوت، يوم القيام والحضور والبعث والنشور، من الأهوال والشرور؛ عسى الله أن يقينا شر ذلك اليوم، ويلقينا نضرة وسرورا.
أخي: لا أحد يستطيع أن يجيبك عن التساؤلات كلها إلا محمد - صلى الله عليه وسلم - الساطع برهانًا والواضح بيانًا، كما ستقرؤه في هذا الكتاب بإذن الله.
وقد سميت هذا المبحث: بمشاهدة القيامة كأنها تبصرها بناظريك – وهو بحق – مشتمل على غالب مراحلها، وهي عشرة مراحل، أُخذت بالاستقراء من الكتاب والسنة بدءًا بالموت والقبر والفناء والبعث والحساب والميزان والصراط والقنطرة ودخول أهل النار النار، وأهل الجنة الجنة، ثم اشتمل على خاتمة في بيان أهمية التوبة؛ إذ هي واجب العمر، والمحصنات الذهبية من كلام شيخنا الطحان – حفظه الله – أصفى من الذهب وأحلى من العسل، وأبرزها خمسة عشر أمرًا.
ومن خصائص هذا المبحث: احتواؤه على الأدلة النقلية والعقلية، وكتابته بروح العصر، والله اسأل أن ينفعني به، وكل من قرأه وسمعه، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وأن لا يحرمني ما بذلت فيه من جهد، هو من فضل ربي علي وإكرامه لي، والحمد لله ربي.
كتبه
عبد الرحمن التركي
أبها: الواديين 20064
* * * *
مشاهدة القيامة
الحمد لله رب السماوات ورب الأرض رب العالمين، وله الملك يوم ينفخ في الصور، يوم القيام من القبور، للبعث والنشور؛ ليفوز الشكور، ويجازي الكفور، فذاك ذنبه مغفور وسعيه مشكور، وذاك قد صار عمله كالهباء المنثور، فهو يدعو بالويل والثبور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، أرسله ربه بشيرًا ونذيرًا، بين يدي عذاب شديد ... أما بعد.
أيها الإخوة في الله: اعلموا أن إقامتنا في هذه الدنيا محدودة، وأيامنا فيها معدودة، فنحن ننتظر الرحيل في هذه الدار صباحًا ومساءً، يقول ابن عمر: «إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء». رواه البخاري. فكم من أهل القبور أشرقت عليهم الشمس فما غربت إلا وهم من أهل القبور فماتوا نهارًا، وكم من أهل القبور غربت عليهم الشمس فما أشرقت عليهم في الصباح إلا وهم من أهل القبور فماتوا ليلاً، وروحك تخرج من جسدك كل يوم وليلة عند المنام، فلا تدري أتعود لك أم لا؟ فأنت تقول إذا نمت: «باسمك الله أموت وأحيا» رواه البخاري.
وهذه الأيام والليالي التي نقضيها في هذه الحياة هي أعمارنا التي نسأل عنها يوم القيامة، كما أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام: «لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه؟ وعن جسده فيم أبلاه؟ وعن علمه فيم عمل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟» رواه مسلم. عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه، فمن أمضى هذه الأيام في طاعة الله فقد فاز، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور، ومن أضاع هذه الأيام في معصية الله ندم حينما لا ينفع الندم.
أيها الإخوة في الله: تعالوا نلقي نظرة على مراحل القيامة العشر.
ولكن قبل الحديث عنها، اعلموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرنا: «أن صلاح أول هذه الأمة بالزهادة واليقين، وهلاك آخرها بالبخل والأمل» رواه ابن أبي الدنيا والطبراني عن ابن عمرو رضي الله عنهما. قال الفضيل – رحمه الله -: جعل الله الشر كله في بيت، وجعل مفتاحه حب الدنيا، وجعل الخير كله في بيت، وجعل مفتاحه الزهد فيها، فإذا كان صلاح أول هذه الأمة في الزهد في الدنيا واليقين، فيا ترى ما هي حقيقة الزهد الشرعية؟؟
الجواب بكل بساطة: هو استصغار الدنيا بجملتها واحتقار جميع شأنها، فمن كانت الدنيا عنده صغيرة حقيرة هانت عليه، ومن هنا قال العلماء: إذا امتلأ القلب بحب الجنة صغرت الدنيا في العين، ويترتب على هذا، أن العبد إذا ابتُلي بمصيبة لا يحزن، وإذا فتحت عليه الدنيا لا يفرح بها، لكن لو كان القلب مليئًا بحب الدنيا فتصبح المصيبة عليه كارثة كبرى، والأموال لو ضاعت فمصيبة عظيمة، وتراه يتعب في الدنيا، ولا يأتيه منها إلا ما كتب له منها، وقد نصح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم حبيبة لما سألت الله: «قد سألت الله لآجال مضروبة وأيام معدودة وأرزاق مقسومة». رواه مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه.
وإذا عُرف هذا، فماذا حصل لنا لما أحببنا الدنيا وبسطت علينا؟ أعرض الناس عن طاعة الله، وقلت رغبتهم فيما عند الله، وأصبح الواحد قنوعًا بصلاة ركعتين لا يذكر الله فيهما إلا قليلاً، قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا﴾ [الإسراء: 83]. فحال الدنيا خطيرة حتى مع طلبة العلم؛ فالعالم إذا ركن للدنيا، فأقل العقوبات له نزع حب العبادة منه، ومن خفي عقوباتهم سلب حلاوة المناجاة، ولذة التعبد؛ ولهذا لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصحابة يتذاكرون الفقر ويتخوفونه فقال: «آلفقر تخافون؟ والذي نفسي بيده لتُصبن عليكم الدنيا حتى لا يزيغ قلب أحدكم إلا هيه» رواه ابن ماجة عن أبي الدرداء رضي الله عنه. فكيف نفرح بشيء خاف علينا منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ والسبب في ذلك أن النعم يصاحبها الحسد والكبر، فالفقير يحسد الغني والغني يتكبر على الناس، فالدنيا تأخذ القلوب بنظرتها والعيون بحلاوتها، فماذا بقي للآخرة؟ ففي الحديث الصحيح: «إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها؛ فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء» رواه مسلم عن أبي سعيد رضي الله عنه.
فأمرنا بالحذر من أمرين: الأمر الأول: الدنيا؛ لأنها رأس كل خطيئة، وسبب كل نقص وأساس كل شر ومنبع كل فساد، وحبها يجر للغفلة، ومن فرح بالدنيا لا يفرح بالله وبمناجاته؛ لأن همّ الرجل مع قرة عينه، ومن هنا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وجعلت قرة عيني في الصلاة» رواه أحمد والنسائي عن أنس رضي الله عنه. فمن قرت عينه بالدنيا لم يفرح بطاعة الله.
والأمر الثاني: النساء؛ لأنهن حبائل الشيطان وشراك الفتن؛ قد يسببن قطيعة الرحم أو عقوق الوالدين، أو منع فعل الخير، أو يكن مائلات ملهيات لضعفاء الإيمان.
قال بعض الحكماء: شر ما فيهن عدم الاستغناء عنهن، فما طابت الحياة إلا بهن، وقالوا: فتش عن كل جناية تجد للمرأة فيها إصبعًا – وهذا في العموم – ولا يخلو عصر من نساء فاضلات لهن اليد الطولى في تشييد المحامد؛ أنجبن صالحين مصلحين، لكنهن قلة، ثبت في معجم الطبراني «المرأة الصالحة مثل الغراب الأعصم» قيل: وما الأعصم يا رسول الله؟ قال: «الذي إحدى رجليه بيضاء». قال الجوهري: يُضرب هذا الغراب مثلاً لكل شيء يعز وجوده.
وثبت في مسند الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – قال: كنا بمر الظهران أثناء الحج أو العمرة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا نحن بغربان كثيرة، فيها غراب أعصم أحمر المنقار والرجلين فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يدخل الجنة من النساء إلا مثل هذا الغراب في الغربان»
قلت: ولو نظرنا إلى عدد النساء الصالحات المصليات المتحجبات بالنسبة لعدد المتبرجات والفاجرات والكافرات، لوجدنا أن المرأة الصالحة مثل الغراب الأعصم الذي يعز وجوده.
وعودًا على بدء: فإذا أراد الله بعبد خيرًا نزع منه حب الدنيا، وقذف في قلبه حب الآخرة، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ﴾ [ص: 46].
وقال سبحانه: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾ [الحجرات: 7].
فإذا امتلأ القلب بحب الآخرة والإقبال عليها، صغرت في عينه الدنيا وبعد عنها، ومع الأسف الشديد أننا نرى ونسمع من يغبط الكفار والفجار إذا فتحت لهم الدنيا وهم يعلمون أن الله أعطاهم للشقاء ﴿فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [التوبة: 55]؛ لأن النعيم نعيم الروح والقلب لا نعيم البدن، وسنة الله لا تتغير ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ [طه: 124].
ولكن ليس معنى الزهد في الدنيا: الفقر والجوع، وأن نترك الدنيا بالكلية، يقول بعض العلماء: أن الإسلام لا يقول كونوا فقراء، ولا يقول كونوا جياعًا، أو عيشوا في الزوايا المظلمة، عاكفين على أنفسكم منطوين عليها، بل الإسلام يقول لنا ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ [القصص: 77].
وفي الحديث: «المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف وفي كل خير» رواه مسلم، وفي الحديث – أيضًا - «اليد العليا خير من اليد السفلى» رواه أحمد والبخاري ومسلم عن حكيم بن حزام رضي الله عنه؛ وفي الأثر «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا».
فينبغي لنا أن نأكل من أحسن شيء، وأن نلبس من أحسن شيء وأن نتفوق في الحياة، ولكن يكون القلب مليئًا بحب الجنة والآخرة، ولكن الناس مع الأسف الشديد، لا يزهدون في الدنيا، ولكنهم يزهدون في الآخرة، ينسون أن لهذا الكون إلهًا، وبعد الدنيا آخرة؛ فتراهم يركضون مسرعين، ولا يدرون لماذا يركضون وإلى أين المسير؟ لهؤلاء أقول: قفوا قليلاً، واعلموا أنكم مثل مسافر الصحراء، يكد راحلته مسرعًا يريد أن يقطع أكبر قدر ممكن، ولكنه نسي الغاية.
فقفوا قليلاً وانظروا هل أنتم على الطريق الصحيح؟ أم أنكم في ضلال؟ لعلكم تمشون إلى حيث لا ظل ولا عشب ولا ماء بل إلى الضياع، وهؤلاء زهدوا في الآخرة من غير أن يزهدهم أحد.
يقول الله ﴿وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ﴾ [الرعد: 26].
* * * *
مراحل القيامة العشر
وإذا عُرف هذا فتعالوا نشاهد مراحل القيامة العشر
عشر مراحل للمؤمن وثماني مراحل للكافر
أول مرحلة من مراحل الآخرة: الموت.
الموت الذي غاب عن بالنا، فالموت باب وكل الناس داخله، الموت كأس وكل الناس شاربه، الموت لغز ليس له حل، الموت حقيقة لا تُحُّل، وطلسم لا يُفكُّ، وليس له حل غير أن يكون عند الواحد منا رصيد من الإيمان والاستعداد له، فقد أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أكثروا من ذكر هادم اللذات يعني الموت» رواه الترمذي عن أبي سعيد. وسمي الموت هادمًا؛ لأن العبد يرى ساعة الموت جميع لذاته تنهدم أمام عينيه لذة لذة.
عندك الشهوة التي ضيعتك في الدنيا وأنت شاب، أو الشهوة التي ضيعتك رغم أنك متزوج، سوف تراها تنهدم أمام عينك، ساعة الفراق عندما التفت الساق بالساق وأيقنت أنه الفراق، ودنت ساعة الخروج حيث لا مفر ولا مهرب إذ أن الله كتب الفناء على الجميع فقال الله سبحانه: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ [العنكبوت: 57]، وكلمة ذائقة لا بد أن يذوق كل عضو منك ألم وسكرات الموت، ألم تسمع كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن للموت سكرات، اللهم أعني على سكرات الموت» رواه البخاري.
يقول عمر رضي الله عنه: «كل يوم يقال مات فلان، مات فلان، وسيأتي اليوم الذي يقال مات عمر». يقول الحسن بن آدم – رحمه الله - «إنما أنت بضعة أيام إذا ذهب بعضك فقد ذهب كلك فما أسرع الملتقى» فَضَحَ الموت الدنيا فلم يترك لذي لب فرحًا، والسؤال كيف فضح الموت الدنيا؟ انظر إلى بطاقتك الشخصية فيها اسمك واسم أبيك وجدك، أين جدك؟ قد لا تعرفه ولا أثر له، حتى أنه قد محي من السجلات، وسيأتي عليك يوم تُمحى أنت من السجلات، وقد أشار إلى هذا المعنى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «لا يبقى على وجه الأرض بعد مائة سنة ممن هو عليها اليوم أحد» رواه البخاري ومسلم عن جابر وابن عمر – رضي الله عنهم -.
قبل مائة سنة لم يكن منا أحد موجود، وبعد مائة سنة لا يوجد منا أحد، وفي الحديث: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك» رواه الترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة – رضي الله عنه – والقليل لا حكم له.
كان أبو الدرداء – رضي الله عنه – يخطب فيقول: «لقد كان من قبلكم جمعوا كثيرًا، وبنوا شديدًا، وأمّلوا بعيدًا ،فأصبح جمعهم بورًا ،وبنيانهم قبورًا ،وآمالهم غرورًا».
يا أيها الناس: إن المشكلة الموت صعبة؛ إذ أنك تنتقل من عالم تعرفه إلى عالم لا تدري ماذا سيحصل لك فيه.
هل أنت متخيل أول لحظة تقف فيها على الموت، عندما تنتهي علاقتك بالدنيا؟
إن العبد إذا نزل به الموت فهو كالعامل الذي انتهى من عمله، وينتظر الأجرة، فإن كان أحسن في العمل فسيأخذ الأجرة كاملة، وقد يزاد عليها، وإن أساء فليس له شيء وسيُطرد، وقس عليه الموت.
هنالك يثبت الله الذين آمنوا، ويضل الله الظالمين، أما تثبيت المؤمنين عند الخروج من الدنيا، فيقول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث البراء: «أن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة» رواه أحمد، ثم ذكر كيف يكون حال المؤمن في الاحتضار.
1- يبشر بالجنة والمغفرة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [فصلت: 30].
2- «يرى ملائكة الرحمة، بيض الوجوه، بيض الثياب، معهم أكفان من الجنة وحنوط من الجنة، ويجلسون منه مد البصر». حديث البراء الطويل عند أحمد.
3- يجيء ملك الموت، فيجلس عند رأسه فيقول: «أيتها الروح الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان» حديث البراء المشهور عند أحمد، فإذا سمعت الروح هذه البشارة اشتاقت إلى لقاء الله فتخرج سهلة.
4- تُسلّ روحه كما تُسلّ القطرة من فيّ السقا، وفي رواية: «كما تخرج الشعرة من العجين» عند الترمذي، وهذا كناية عن سهولة خروج روح المؤمن، ثم لا تدعها ملائكة الرحمة في يد ملك الموت طرفة عين.
5- «تخرج منه رائحة كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض» رواه أحمد من حديث البراء الطويل.
6- يُصعد بالروح إلى السماء، فتفتح لها أبواب السماء، حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة، فيقول الله: «اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض في جسده» حديث البراء الطويل عند أحمد، وهذا كله خاص بالروح الطيبة الطاهرة من المؤمنين المتقين؛ ولهذا فإن المؤمن إذا جاءه الموت، بدأت معه رحلة الراحة وانتهى العناء، وفي الحديث: «تحفة المؤمن الموت» رواه الطبراني بسند جيد. يقول الحسن: عرس المتقين يوم الممات.
أما ذو الروح الخبيثة من الكافرين والفاجرين، وعند ابن ماجة: «أو رجل السوء»، ففي الحديث: «وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة» حديث البراء الطويل عند أحمد، فذكر كيف يكون حال النزع بالنسبة لذي الروح الخبيثة من أهل الكفر والإجرام عند الخروج من الدنيا، وتخيل لو جاءك ملك الموت وأنت تجمع حرامًا، أو رائحتك دخان أو خمر أو أثر الزنا في وجهك أو في عينيك. ﴿فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ﴾ [يس: 50]. فكيف يكون حال النزع بالنسبة للفاجر والكافر؟
1- يُبشّر بالعذاب: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾ [الأنعام: 93].
2- يرى ملائكة العذاب على مد البصر، «سود الوجوه سود الثياب، معهم أكفان من النار وحنوط من النار» حديث البراء الطويل عند أحمد.
3- يجيء ملك الموت فيقعد عند رأسه ثم يقول: «أيتها الروح الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب» رواه أحمد، فإذا سمعت هذه البشارة تفرقت في جسده، وهي كناية عن شدة الخوف والفزع، وكأنها تريد الهرب.
4- تُنزع روحه نزعًا شديدًا، «كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، ثم لا تدعها ملائكة العذاب في يد ملك الموت طرفة عين» رواه أحمد، والمقصود بنزعها كما ينزع الصوف: كناية عن شدة النزع، وصعوبة خروج الروح من جسد الكافر والفاجر.
5- «تخرج منه أخبث رائحة وجدت على ظهر الأرض».
6- يُصعد بروحه إلى السماء، فلا تُفتح لها الأبواب فيقول الله: «اكتبوا كتاب عبدي في سجين في الأرض السفلى» رواه أحمد.
فالعبد الكافر والفاجر، إذا جاءه الموت، بدأت معه رحلة العناء وانتهت الراحة.
المرحلة الثانية: القبر:
وفي الحديث «ما رأيت منظرًا إلا والقبر أفظع منه» رواه الترمذي عن عثمان رضي الله عنه ،هناك تبدأ حياة الجد، وتنتهي حياة اللعب، ويُحصّل ما في الصدور، ويبدأ السؤال والحساب، فما أن يُوضع العبد في القبر، حتى يقف أمام ملائكة يعرفون اسمه ونسب، ويعرفون قوله وعمله، وما إن يرى الملائكة حتى يصيبه الرُّوع والفزع، فيُجلسانه وهو مرعوب خائف.
يقول زين العابدين:
ومنكر ونكير ما أقول لهم | وقد هالني أمرهم و أفزعني | |
وأجلسوني وجدّوا في سؤالهم | مالي سواك إلهي من يثبتني |
مواقف الآخرة مواقف صعبة، يفزع فيها البر والفاجر، ثم بعدها تأتي رحمة الله للمؤمن؛ ولهذا ورد في الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فرغ من دفن الميت، وقف عليه وقال: «استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يُسأل» رواه أبو داود عن عثمان رضي الله عنه.
فهل أنت متخيل وأنت في القبر، تُسال عن أسئلة القبر الثلاثة؟ أسئلة سهلة وبسيطة في الظاهر، لكن والله لن تستطيع أن تجيب عليها وتردّ عليها، إلا إذا عشت مع الله، أما إذا كنت مشغولاً بالدنيا والمسلسلات والأغاني والملاهي، وكانت المرأة مشغولة بالموضة والزينة، فسوف يضيعكم الله، كما ضيعتموه، وينساكم كما نسيتموه، فلقد ورد في الحديث: «أن من الناس من يقال له في القبر: من ربك؟ فيقول: لا أدري. ما دينك؟ فيقول: لا أدري. من نبيك؟ فيقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلت مثل ما يقولون»، لكنه ما صلى ولا صام، فما تنفعه بشيء.
وإذا عرف هذا كله، فكيف يكون حال المؤمن في القبر؟ لا شك أنه يكون في روضة من رياض الجنة؛ بسبب أعماله الطيبة في حياته.
فكيف يا تُرى يكون نعيم القبر على المؤمن؟ ففي الحديث: «ثم يأتيه ملكان فيجلسانه، فيقولان: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان: ما هذا الرجل الذي بُعِث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله، فيقولان: وما يدريك؟ فيقول: قرأت كتاب الله وآمنت وصدقت، فينادي المنادي من السماء: أن قد صدق عبدي» رواه أحمد عن البراء رضي الله عنه.
فما إن ينتهي من الإجابة عن الأسئلة الثلاثة، حتى ينادي المنادي من السماء: أن صدق عبدي، ثم ينقلب عليه القبر روضة من رياض الجنة، ويكون نعيمه في عدة أمور:
1- ينادي المنادي: «أن أفرشوه من الجنة، وافتحوا له بابًا في الجنة وألبسوه من الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها» حديث البراء الطويل.
2- يُفسح له في قبره مدّ البصر وقيل: سبعون ذراعًا.
3- يُنّور له في قبره ففي الحديث: «ويفسح له سبعون ذراعًا ثم ينور له فيه» رواه الترمذي زاد: «ويُنّور له كالقمر ليلة البدر».
4- يَرى مقعده في الجنة: «ثُم يفتح له باب من الجنة، فيقال: هذا مقعدك منها، وما أعد الله لك فيها، فيزداد غبطة وسرورًا، وذاك مقعدك من النار لو عصيت الله» رواه الطبراني.
5- «يأتيه عملُه الطيب في صورة رجل حسن الثياب، حسن الوجه، طيب الرائحة، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الطيب، فيقول: يا رب أقم الساعة؛ حتى أرجع إلى أهلي ومالي» ثم يقال له: «نم نومة العروس لا يوقظه إلا أحب أهله إليه، حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك» رواه الترمذي زاد ابن حبان: «فيزداد غبطة وسرورًا، فيعاد الجلد إلى ما بدا منه، وتجعل روحه في نسم طائر يعلق في أشجار الجنة».
لطيفة: قال الشيخ عبد العزيز – رحمه الله -: ورد في الحديث «نسمة المؤمن: طائر يعلق في شجر الجنة، حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه». رواه أحمد، ومعنى يُعلّق أي يأكل وعند مسلم: «أرواح الشهداء في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل».
أما حال الكافر والفاجر أو المنافق في القبر: فينقلب عليه حفرةً من حفر النار؛ بسبب رداءة أعماله، وتقصيره في حقوق الله، ففي حديث البراء المشهور: «ثم يأتيه ملكان، فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري، قال: فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري». وفي حديث أسماء عند أحمد «سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته فينادي منادٍ من السماء: أن كذب عبدي» ثم ينقلب عليه القبر حفرة من حفر النار، ويكون عذابه في عدة أمور:
1- «فيُنادي المنادي أن أفرشوه من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له بابًا من النار، فيأتيه من حَرَّها وسَمُومها» حديث البراء الطويل.
2- «يضيق عليه في القبر، حتى تختلف أضلاعه» رواه الترمذي.
3- يُملأ قبره ظلمة، ففي الحديث عند الترمذي: «أنا بيت الظلمة، وبيت الوحدة، وبيت الدود». وعند مسلم: «إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم».
4- يُسلّط عليه ثعابين وعقارب: «وتسلط عليه عقارب وتنانين، لو نفخ أحدهم على الدنيا ما أنبتت شيئًا، تنهشه حتى يُفضي به للحساب» رواه الطبراني في الأوسط، وورد عند الترمذي بسند حسن: «وسُلّط عليه تسعة وتسعون تنينًا» وفي رواية: «سبعة وسبعون» وفي رواية: «تنينين» قال العلماء: وذلك بحسب الإجرام.
5- يرى مقعده من النار، ومقعده في الجنة لو أطاع الله، فيزداد حسرة.
6- «يأتيه عمله في صورة رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: من أنت؟ فوجهك لا يأتي بخير، فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: يا رب، لا تقم الساعة».
المرحلة الثالثة: استقرار الأرواح في البرزخ:
﴿وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [المؤمنون: 100] والبرزخ هو الفاصل بين الدنيا والآخرة: أو ما بين الموت إلى البعث، وأهله يشرفون منه على الدنيا والآخرة، وأطلق على البرزخ عذاب القبر أو نعيمه؛ باعتبار غالب أحوال الخلق فإذا جاء البعث، جمع الله أجساد الناس من بطون السباع والحيوانات، وبطن الأرض، ومن ذرته الرياح، لكن لا بد من عذاب القبر أو نعيمه في البرزخ، سواء دُفن أو احترق أو أكلته السباع.
أخرج البخاري عن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعًا: «أن رجلاً قال لبنيه لما حضرته الوفاة: أي بني، لم أدخر عند الله خيرًا، فإذا أنا متّ فأحرقوني، حتى إذا صرتُ فحمًا فاسحقوني، فإذا كان في يوم ريح عاصف فذرّوني فيها، فأخذ مواثيقهم، فذرّي بعضه في البحر، وبعضه في البر؛ علّه ينجو من ذلك، فأمر الله البحر فقال: اجمع ما فيك، وأمر البر فجمع ما فيه، ثم قال: قم فإذا هو قائم بين يدي الله، فسأله: ما حملك على ما فعلت؟ قال: خشيتك يا رب، وأنت أعلم، أو فرقًا منك، فما تلافاه أن رحمه».
فعناصر العالم كلها منقادة لله، لا يستعصى عليه منها شيء، وعليه: فمن مات فقد دخل البرزخ من وقت الموت إلى البعث.
وفي هذه المرحلة تفنى الأجساد كلها ما عدا عجْب الذنب، ففي الحديث: «كل ابن آدم يأكله التراب، إلا عجْب الذنب، منه خلق، ومنه يركب يوم القيامة» رواه مسلم، ما عدا الأنبياء والشهداء ومن شاء الله من عباده الصالحين. وفي الترمذي في قصة أصحاب الأخدود: «إن الغلام الذي قتله الملك دفن فيذكر أنه في زمن عمر أُخرِج فإذا إصبعه على صدغه، كما وضعها حين قتل، وجرحه يثعب دمًا».
ورغم طول حياة البرزخ، فإنها تكون على المؤمن كما بين صلاة الظهر والعصر، ففي الحديث: «نم نومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه» رواه الترمذي، وأما الكافر والفاجر، فإذا قال: هاه، هاه، لا أدري، «يضرب بمطارق من حديد، حتى تختلف أضلاعه، فلا يزال فيها معذبًا، حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك» رواه الترمذي.
المرحلة الرابعة: الفناء الكامل الشامل لهذا الكون:
وذلك إذا أراد الله أن يدمر هذا الكون، «أرسل ريحًا من قبل الشام» وفي رواية: «من قبل اليمن ألين من الحرير، فلا تدع أحدًا في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته» رواه مسلم، فيبقى شرار الناس، يتهارجون تهارج الحمر، عليهم تقوم الساعة.
«ثم ينفخ في الصور، فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتًا ورفع ليتًا، فأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله، فيصعق ويصعق الناس» رواه مسلم ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ﴾ [الزمر: 68].
والصور عبارة عن «قرن ينفخ فيه كهيئة البوق، كل دارة منه كما بين السماء والأرض، وفيه ثقوب بعدد أرواح العباد، وكّل به إسرافيل، فهو شاخصٌ ببصره نحو العرش، ينتظر متى يؤمر بالنفخ» ذكره ابن كثير في البداية.
قال ابن كثير في البداية: «ويأمر الله إسرافيل بنفخة الصعق، فينفخ نفخة الصعق، فيصعق أهل السموات وأهل الأرض إلا من شاء الله، فإذا هم قد خمدوا، جاء ملك الموت الجبار عزّ وجلّ فيقول: يا رب قد مات أهل السموات والأرض إلا من شئت، فيقول الله وهو أعلم: من بقي؟ فيقول: بقيتَ أنت الحي الذي لا يموت، وبقيت حملة العرش، وبقي جبريل وميكائيل وإسرافيل، فيقول: ليمت جبريل وميكائيل وإسرافيل، فيموتون، ويأخذ حملة العرش الصور من إسرافيل ثم يأتي ملك الموت الجبار، فيقول: قد مات جبريل وميكائيل وإسرافيل فيقول الله: من بقي؟ فيقول: بقيت أنت الحي الذي لا يموت، وبقيت أنا وحملة العرش، فيقول الله ليمت حملة العرش، ثم يقول الله: من بقي؟ فيقول بقيت أنت الحي الذي لا يموت، وبقيت أنا، فيقول الله: أنت خلق من خلقي، خلقتك لما أردت فمُت، فيموت، فإذا لم يبق إلا الله الواحد القهار، كان آخرًا كما كان أولاً» رواه الطبراني والبيهقي وغيره.
فإذا لم يبق أحد إلا الله، يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول:« أنا الملك، أين الملوك؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ »رواه مسلم عن ابن عمر رضي الله عنه، زاد «حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل، حتى أقول: أساقط هو برسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟» وفي بعض الروايات «أين الملوك؟ أين أبناء الملوك؟ أين الجبابرة؟ أين من أكل رزقي وعبد غيري؟» رواه السمرقندي.
هذه الأحاديث تدل على أن الله يُفني جميع خلقه ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ [الرحمن: 26، 27].
المرحلة الخامسة: إعادة الخلق بعد الفناء:
وهي نفخة البعث ﴿ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾ [الزمر: 68]، ﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ﴾ [النازعات: 13، 14] نفخة واحدة، والكل واقف، أما كيف يكون البعث والنشور؟ ففي الحديث: «ثُم يرسل الله مطرًا كأنه الطّل من تحت العرش» وفي رواية «كمني الرجال أربعين يومًا، حتى يكون الماء اثني عشر ذراعًا، ثم يأمر الله الأجساد فتنبت نبات البقل، حتى إذا تكاملت أجسادهم، أمر الله إسرافيل بنفخة البعث، فإذا نفخ، تخرج الأرواح كأنها النحل من الصور تتوهج، قد ملأت السموات والأرض، فيقول الله تعالى: وعزتي وجلالي لترجعن كلّ روح إلى البدن الذي كانت تعمره في الدنيا، فتدخل على الأجساد في قبورها، فتدب فيها كما يدب السمّ في اللّديغ، فتحي الأجساد وتنشق عنهم الأجداث، فيخرجون سراعًا إلى مقام الحشر» انظر البداية ج1 يقول الله تعالى: ﴿ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ﴾ [ق: 44].
المرحلة السادسة: الخروج من القبور للبعث والنشور:
وذلك يوم الحضور؛ ليفوز الشكور، ويُجازي الكفور، فذاك ذنبه مغفور وسعيه مشكور، والآخر قد صار عمله كالهباء المنثور، ويدعو بالويل والثبور.
وفي الحديث: «يُحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء، كقرصة النقي» رواه مسلم، أي خالصة البياض، زاد البيهقي: «تبدل الأرض أرضًا بيضاء كالفضة، لم يُسفك عليها دم حرام، ولم يعمل عليها خطيئة قط» ولا يكون لابن آدم إلا موضع قدميه، وهذه الأرض ليس فيها معلم لأحد، فلا زرع ولا جبل.
يقول الله تعالى: ﴿ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ نفخة واحدة والكل واقف، يقول الله: ﴿وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ وفي حديث أبي رزين العقيلي قال: يا رسول الله، فما يفعل بنا ربنا إذا لقيناه؟ قال: «تعرضون عليه بادية صفحاتكم لا يخفى عليه منكم خافية».
فالحشر شديد، والأمر صعب، والعرق شديد، والجمع كبير، والأنفاس متقطعة، والشمس قريبة، وسوف ترى تغيرات كونية، واضطرابات نفسية، فسوف يرى الإنسان من تغير الكون ما لا عهد له به، ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ﴾ [النازعات: 6-8] أي خائفة، حيث يرى الأرض ترتج وتزلزل، فيقول: ما لها؟ ويرى السماء تمور مورًا، ويرى الجبال تسير سيرًا، ويصاب الكون بخلخلة عنيفة، فتنحل روابطه، وتتناثر الكواكب، هناك يرى الناس المخلوقات العظيمة تنهد وتنهار، فكيف يكون حال المخلوق الضعيف في وسط الخوف والفزع والقلق بعد أن كان يزعم أنه سيد الكون؟ ويتطاول على خالقه فعندما يشاهد هذه الأهوال، يفقد صوابه ويصبح كالفراش المبثوث، في حمقه وقلة عقله، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، هنالك يتساءل الإنسان: أين المفرّ؟ وبهذا يتبين عجز الخلائق وضعفهم، وكمال سلطان الواحد القهار، وفي هذا اليوم سوف تأتي الملائكة التي لا تعصي الله، لا تتكلم من هيبة الله ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا * ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ﴾ [النبأ: 38-39].
وفي هذا اليوم ﴿تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ [الحج: 2] فتعالوا نشاهد الحشر لحظةً لحظة، وكيف يكون حال الفاجر والبر، والكافر والمؤمن، يا ترى كيف يكون حالنا، وأنا أذكر لك هذا؛ حتى تتحرك الخشية في قلبك، أنا لا أريد أن أخوفك فقط، بل سوف أذكر لك رحمة الله بالمؤمنين يوم القيامة؛ حتى تسلك طريق المؤمنين، وتكون من الآمنين يوم القيامة.
«فإذا نفخ في الصور نفخة البعث، فلا تدع على ظهر الأرض من مصرع قتيل، أو مدفن ميت إلا شقّت القبر عنه حتى يستوي جالسًا» رواه أحمد، وينقسم الناس إلى صنفين: صنف يقول: ﴿مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا﴾ [يس: 52] وصنف يقول: ﴿هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ﴾ [يس: 52] ويخرجون حفاةً عراةً غرلاً خائفين ﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ﴾ [القلم: 43] وهذا ينبئ أنهم يخرجون من القبور في كرب شديد، تخيل وأنت تحت الأرض آلاف السنين، ثم تخرج حافيًا عاريًا، وتنفض التراب عن رأسك وشعار الكلّ نفسي نفسي.
تذكر يوم ماتت أمك، أو أعز عزيز عليك، كيف كان حزنك؟ ثم قدّر الله لك أن تقابلهم بعد آلاف السنين، كيف يكون شوقك إليهم؟ يقول الله ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ [عبس: 34-37] وهذا فرار التبري، نجانا الله من أهوال ذلك اليوم، وهذا هو مشهد فرار الإنسان من أقرب الناس إليه؛ بسبب ضياع الحقوق هنالك، لا مال ولا ولد ينفع، ولا صديق يشفع، ولا فرح واقع، ولا رجاء طامع، ولا حسنة تزاد، ولا سيئة تحذف، ولا حياة تعاد.
كيف يحشر الناس إلى أرض المحشر؟ يُحشرون أفواجًا، منهم من يكون مثل الذرّ يطؤهم الناس بأقدامهم، قالوا: من هم يا رسول الله قال: «هؤلاء المتكبرون في الدنيا» رواه البزّار لأن كبرياء الدنيا وغطرستها تحت الأقدام يوم القيامة.
ومنهم من يحشر وجسده يشتعل ناراً، وهؤلاء المجرمون ﴿سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ﴾ [إبراهيم: 50].
وصنف يحشرون كالمجانين، وهم أكلة الربا، وصنف يحشرون مشلولين، وهم الذين لا يعدلون بين زوجاتهم: «يحشر وشقة ساقط» رواه أحمد، وصنف يحشر ينبح كالكلب، وهي النائحة، وصنف يحشر ومكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله «وهو من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة» رواه ابن ماجة، وصنف أعمى، وصنف يحشر على وجهه أصم أبكم أعمى، وصنف يحشر ونورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، وصنف يحشر وفدًا، وصنف يحشر على نوق رحلها ذهب، وصنف يمشي، وصنف يسحب على وجهه.
يا ترى كم نقف في العرصات؟ مائة سنة؟ أو خمسمائة سنة؟ لا. إنه يوم واحد مقداره خمسون ألف سنة، ففي الحديث «كيف بكم إذا جمعكم الله في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، لا تأكلون أكلة، ولا تشربون شربة، حفاة عراةً غرلاً» تكاد الأعناق تنقطع من الظمأ، والأقدام لا تكاد تحملك، إنه يوم لا جلوس فيه ولا راحة.
يقول ابن مسعود: «يحشر الناس يوم القيامة أجوع ما كانوا قط، وأظمأ ما كانوا قط، وأعرى ما كانوا قط، وأنصب ما كانوا قط».
وتصور موقفهم حفاةً عراةً خائفين، مع جوع وظمأ وتعب ونصب، إنه اليوم الذي ما ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بكى وقال: «والله لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرًا، ولضحكتم قليلاً» وفي هذا الجو الرهيب، ستأتي جهنم – يقودها أكثر من أربعة مليارات من الملائكة العظام، وإنها إذا انفلتت من أيديهم لم يقدروا على إمساكها؛ لعظم شأنها، فتُجرّ بأزمّتها، ومجيؤها ليس للعذاب، بل للعرض: «يؤتي بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها» رواه مسلم، تأتي يوم القيامة، وبعضها يأكل بعضًا: ﴿تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ﴾ [المرسلات: 32].
قال ابن مسعود رضي الله عنه: أما إنها لا ترمي مثل الجبال، بل مثل المدائن والحصون؛ لأن أهل النار الرجل ضرسه مثل جبل أحد. فإذا رأت الناس من مسيرة مائة سنة، فارت وشهقت إلى الخلائق: ﴿إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا﴾ [الفرقان: 12] فتزفر وتكاد تتقطع من الغيظ، فلا يبقى نبي ولا صديق إلا برك على ركبتيه، وعند عبد الرزاق: فلا يبقى ملك ولا نبي إلا خرّ ترعد فرائصه.
﴿وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً﴾ [الجاثية: 28] وشعار الكلّ: نفسي نفسي ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمتي أمتي» ويخرج من النار عنق يتكلم بلسان فصيح، وعينان تبصران به، يقول: «وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلهًا آخر، وبالمصورين» رواه الترمذي وصححه – فحذار من التصوير إلا لمضطر – فيلتقط هذا العنق هؤلاء الثلاثة من بين أهل الموقف، كما تلتقط الدجاجة الحبة، فيقذفهم في غمرات النار.
﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ * وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ﴾ [الشورى: 44، 45] لكن كيف يكون حال المؤمن؟ ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [الأنبياء: 101-103].
ومع هذا كله، ستدنو الشمس من رؤوس الخلائق يوم القيامة، ويخوض الناس في العرق على أنواع مختلفة، ويزاد في حر الشمس عشر سنين، ويكون الناس في قلق وعرق وأرق، واختلفت الأقدام من كثرة الزحام، وانقطعت الأعناق من العطش، وكلٌّ على قدر عمله، ففي الحديث: «تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق، حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا» قال: وأشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى فيه، رواه مسلم.
فيخوض الناس في العرق على أنواع مختلفة، فالخلق مُلْجَمون في العرق، فأما المؤمن فهو عليه كالزحمة، وأما الكافر فيتغشاه الموت، وما معك هنالك إلا ظل اليوم، يومَ لا ظل إلا ظله، فالناس بين مستظل بظل العرش، وبين من قد صهرته الشمس.
ولكن أمامك سبع فرص:
1- «إمام عادل» طيب ذهبت عليك هذه الفرصة! تأتيك فرصة أخرى.
2- «شاب نشأ في عبادة الله» وهذه فرصة لكل شاب، وبعض المرضى يقول: أنا أكره أهل الدين، أتدري لماذا؟ لأنه منافق! ألم تسمع لقوله - صلى الله عليه وسلم - «أوثق عرى الإيمان الحب في الله» رواه البخاري.
3- «ورجل قلبه معلق بالمساجد»، لكن انظر ... قال: قلبه، ولم يقل: بدنه.
4- «رجلان تحابا في الله»، اجتمعا عليه وتفرقا عليه، فابحث عن أهل الدين وامش معهم، حتى تفوز بشفاعتهم يوم القيامة.
5- «رجل دعته امرأته ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله»، لكن المصيبة فيمن يجري وراء المعصية، فضلاً عن التورع عنها.
6- «ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه»، ففي الحديث: «كل عين باكية يوم القيامة، إلا ثلاث: عين غضت عن محارم الله، وعين سهرت في سبيل الله، وعين خرج منها مثل رأس الذباب من خشية الله عز وجل». رواه الأصبهاني عن أبي هريرة – رضي الله عنه – انظر الترغيب للمنذري.
7- الله ...! لو ذهبت هذه الخصلة وأنت لم تجد فرصة من هذه السبع الخصال: «رجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – وهذه الخصلة السابعة، فيمكنك أن تبحث عن مسكين، وتتصدق عليه ثم تهرب ما يراك أحد، ومن تأمل أهل هذه الخصال السبع، يجد أنه اجتمع فيهم خصلتان: الإخلاص، ومخالفة الهوى.
وهناك فرص غير السبع، كالتنفيس عن معسر، وكافل اليتيم، والتاجر الصدوق وغيره.
ويوم القيامة يوم عسير، يقول الله: ﴿فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ﴾ [سورة المدثر: 9]
ما أحد يساعدك، ولو كان أقرب قريب، ولا يساعدك إلا عملك، وإذا اشتد الكرب والغمّ يوم القيامة يأتي الناس الأنبياء، ويقولون: من يشفع لنا عند ربنا، فيطلبون تعجيل الحساب، حتى يرتاحوا من هول الموقف، ولو أدى ذلك إلى دخولهم النار، وكل نبي يقول من آدم إلى نوح، إلى إبراهيم، إلى موسى، إلى عيسى – عليهم السلام - «لست لها، إن الله قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله»، حتى ينتهي الأمر إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - فيقول: «أنا لها» رواه البخاري ومسلم يقول الشيخ حافظ – رحمه الله -:
فليس منهم من نبي نالها | حتى يقول المصطفى أنا لها |
فيسجد تحت العرش، فيقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «فأحمد الله بمحامد لم يحمده بها أحد قبلي، لا أحسنها الآن»، فيشفع الشفاعة العامة في أن يحاسب الله العباد، ورغم طول هذا اليوم وصعوبته، فتعالوا نرى كيف يكون حال المؤمن يوم القيام’، قال الصحابة – رضوان الله عليهم -: يا رسول الله، يوم مقداره خمسون ألف سنة ما أطوله! فقال - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيده إنه ليخفف على كل مؤمن ومؤمنة، حتى يكون أهون عليه من الصلاة المكتوبة يصليها في الدنيا» رواه أحمد والبيهقي، بسند حسن، فطول يوم القيامة يكون على الكافر، ويخفف على المؤمن.
بقي أمرْ نحب أن ننبه عليه: أن العباد يكتسون قبل الحساب؛ لأنهم عراة. فأول من يكسى من العباد، إبراهيم – عليه السلام – ثم يكسى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - حلة حبرة عن يمين العرش، وإن (بدئ بإبراهيم عليه السلام – وثني بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فقد أُتى بحلة لا يقوم لها البشر، لينجبر التأخير بنفاسة الكسوة) قاله الحليمي، ثم يُكسى المؤذنون المحتسبون، ثم صالحو المؤمنين، وصاحب القرآن، «يجيء صاحب القرآن يوم القيامة، فيقول القرآن: يا رب حلّه فيلبس تاج الكرامة ثم يقول: يا رب زده، فيلبس حلة الكرامة، ثم يقول: يا رب ارض عنه، فيرضى عنه، فيقال له: ارق وارق وتزاد بكل آية حسنة» رواه الترمذي وحسنه.
أما من علم ابنه القرآن، «فيلبس والده يوم القيامة تاجًا ضوؤه أحسن من ضوء الشمس» رواه أبو داود، وهذه فرصة للآباء، في أن يحرصوا على تعليم أبنائهم القرآن، في حلقات التحفيظ، التي تشكو من قلة الطلبة، وكذلك الشهداء، ومن ترك اللباس تواضعًا، ومن عزّى مصابًا: «ما من مؤمن يعزي مصابًا بمصيبة إلاّ كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة» رواه ابن ماجة، ثم بقية العباد، كلّ حسب إيمانه.
ويا ترى، كيف يكون حال النّساء الكاسيات العاريات؟
وفي حديث الرؤيا: «ثم عرض عليّ الناس، وعليهم قمص، منهم من يصل إلى ثدييه، ومنهم من إلى سرته، ورأيت عمر يجرّ قميصه» رواه البخاري، قالوا: فما أولته؟ قال: «الدين ولباس التقوى، ذلك خير».
المرحلة السابعة: الحساب:
ونؤمن بالحساب، والسائل فيه: من لا تخفى عليه خافية، وأحصى الكلام والنجوى، والمسؤول: عبد حقير معه ذنوب وتقصير، يوم يأتي فريدًا، حتى يقام بين يدي الله – عز وجل – إله الأولين والآخرين، ويسأل العبد عن كل حركة وكل سكنة، وإذا عرفت هذا، فإليك قواعد الحساب – الست – حتى تعرف كيف يحاسب العباد يوم القيامة، وتعرف حقوقك قبل أن تحاسب.
1- لا ظلم اليوم، فهو يوم القصاص، يوم يقتص الله من الظالم للمظلوم؛ لأنهمن الممكن في الدنيا أن يظلم الناس بعضهم بعضًا، لكن يوم القيامة لا ظلم فيه ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7، 8]، فالظلم ظلمات يوم القيامة، وقد وصف الله حال الظالمين عند الموت ويوم القيامة وبين يديه في القرآن، وهو يوم تُسأل فيه عن كل إنسان عاملته، يقول أبو مسعود البدري – رضي الله عنه -: بينا أنا أضرب مملوكًا لي إذ رجل ينادي من خلفي، «اعلم يا أبا مسعود، اعلم يا أبا مسعود»، فالتفت فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «والله لله أقدر عليك منك على هذا» قال: فحلفت لا أضرب مملوكًا لي أبدًا. رواه أحمد، وفي بعض الروايات «احلم أبا مسعود» وفي الحديث: «يا رسول الله إن لي أعبد يشتمونني ويؤذونني فأضربهم، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: إن كان ضربك لهم أكثر من شتمهم، فسيأخذون من حسناتك، وإن كان شتمهم لك أكثر من ضربهم فستأخذ من حسناتهم» رواه أحمد.
2- لا أحد يُؤخذ بذنب أحد: ﴿وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام: 164] لكن هذه الآية لها استثناء، من أضلّ أحدًا في الدنيا، أو تسبب في غوايته حمل وزره من غير أن ينقص من أوزار الذين يضلونهم بغير علم، فمثلاً: لو خرجت امرأة متبرجة إلى الساحل أو السوق، فكلّ من قلّدها، أو فُتن بها، ستلقى الله بوزره وإثمه، وأي شخص يُعلّم أصحابه الدخان أو المعاصي، سيحمل أوزارهم من غير أن ينقص من أوزارهم شيء، هل هناك أحد يريد أن يكون منهم؟ فمن ابتُلي فليستتر بستر الله، ولا يجاهر بالمعاصي.
3- الحساب كتابة: ﴿وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [الإسراء: 13، 14]، وفي الحديث: «يُحشر الناس يوم القيامة حفاةً عراةً» فقلت: يا رسول الله واسوءتاه! ينظر بعضنا إلى بعض؟ قال: «شُغل الناس» قلت: ما شغلهم؟ قال: «نشر الصحائف، فيها مثاقيل الذر ومثاقيل الخردل» رواه الطبراني بسند صحيح.
فما تستطيع أن تنكر شيئًا، وكله لقطع حجة معتذر أو منكر وإظهار عدل الله سبحانه وتعالى.
4- أن الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بواحدة، بل قد تضاعف الحسنات إلى سبعمائة ضعف، وقد تضاعف أضعافًا كثيرة والسيئة واحدة.
5- تُبدّل السيئات إلى حسنات لمن تاب وآمن وعمل صالحًا، ففي الحديث: «إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولاً، رجل يُؤتى به يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، فيعرض عليه صغارها، ويُخبأ عنه كبارها، فيقال: عملتَ يوم كذا وكذا كذا وكذا، وهو مقرّ ليس ينكرها، وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تُعرض عليه، فيُقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة. فيقول: إن لي ذنوبًا لا أراها هاهنا» فلقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحك حتى بدت نواجذه». رواه مسلم عن أبي الدرداء رضي الله عنه.
6- الشهود، وهم الأرض التي أقلّت، والسماء التي أظلّت، والأذن التي سمعت، والعين التي نظرت، والألسنة التي نطقت، وهم كما يلي:
1- الملائكة: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 18] حتى الغمزة، والتفاتة السخرية، وحتى نظرة العين، يجد العبد مثاقيل الذر، ومثاقيل الخردل.
2- شهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته: ﴿وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ [النساء: 41]. وقف رسول الله في حجة الوداع وأشهد الله من فوق السبع الطّباق أنه أدى الأمانة فقال: «يا أيها الناس إنكم موقوفون ومسؤولون عني، فماذا أنتم قائلون؟ فقالوا: نشهد أنك بلّغت وأديت ونصحت، فرفع إصبعه إلى السماء وقال: اللهم اشهد اللهم اشهد» ألم يبلغك الرسول - صلى الله عليه وسلم - بصلاة الفجر؟ ألم يبلغك بغض البصر؟ ألم يبلغ النساء صفة نساء أهل النار الكاسيات العاريات؟ فقال: «صنفان من أهل النار لم أرهما» وذكر النساء الكاسيات العاريات. رواه مسلم.
3- شهادة الأرض، والأيام والليالي بما عمل فيها وعليها، فإن سجد لله شهدت له بالسجود، وإن عصى الله شهدت عليه بالمعصية، فمثلاً لو خرج رجل للعمرة شهدت له كل أرض يمرّ عليها، فكان الصحابة يسجدون في أماكن كثيرة؛ حتى تشهد لهم، فقلّلوا من الأماكن التي تشهد عليكم، وإياكم وسفر المعصية.
4- شهادة الجوارح: ﴿لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [فصلت: 21].
وإذا تأملت هذه الشهود وتعددها، هنالك تبدأ الحقائق، ويخرس كل ناقص، وينكشف كل مستور، ويظهر كل مجهول، وتقف كل نفس أمام ما أحضرت، بعدها يبدأ الحساب، فلان ابن فلان؛ ليقوم للعرض على الله، فتنخلع القلوب له فتأتي الملائكة؛ لتأخذك، بل تصور حال من يؤخذ بناصيته! وتصور حالك هنالك! كم من فاحشة نسيتَها فتذكر؟ وكم من ساعة ضيعتها على منكر؟ وكم من ليلة قضيتها في ملهى؟ وكم من فلوس أنفقتها في المعاصي؟ وكم من صلاة ضيعتها؟ وكم من امرأة أفسدتها؟ وكم من حقوق للعباد نسيتها أو تناسيتها؟ وكم من أسرار تسمعتها بغير إذن أهلها: ﴿وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾ [الزمر: 47]، وفي الحديث: «ما منكم من أحد إلا سيكلّمه ربه يوم القيامة، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر عن أيمن منه فلا يرى إلاّ ما قدّم، ثم ينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدّم، فينظر بين يديه فلا يرى إلاّ النار، فاتقوا النار ولو بشقّ تمرة، فمن لم يجد، فبكلمة طيبة» رواه البخاري ومسلم عن عدي بن حاتم – رضي الله عنه – فيا ليت شعري، بأي قدم يقف العبد بين يدي الله! وبأي لسان يجيب؟ وبأي قلب يعقل ما يقول! وبأي وجه تلقاه! وبأي عذر تعتذر؟ اللهم ارحم ذلّ مقامنا بين يديك، وعظيم تقصيرنا يا رب.
فمن الناس من يُقدم على الله قدوم الغائب المسافر على أهله، ومن الناس من يقدم على الله قدوم السجين الهارب وقد قبض عليه، يقول علي – رضي الله عنه - «إني لأعرف أقوامًا تسقط وجوههم خجلاً يوم تُعرض مصائبهم على الله» فهناك مواقف تُسأل فيها عن حقوق الله، ومواقف تُسأل فيها عن النّعم، ومواقف تُسأل فيها عن المظالم.
فأما حقّ الله فهو دينه، وأعظم شيء بُعثت به الرسل توحيد الله، فيؤتى بالرسل – عليهم السلام – ويقيمهم الله أمام الخلائق، فيقول ماذا أجبتم قالوا: لا علم لنا، فلا يستطيع الأنبياء أن يتكلموا من هيبة الله.
أمّا ديوان النعم، فيذكر الله لك النعمة، ثم يسألك ماذا صنعت تجاه هذه النعمة؟ ثم يسألك هل قصدت به وجهه؟ وهذا من أصعب ما يكون. يقول قتادة رضي الله عنه – إن الله سائل كل ذي نعمة فيما أنعم عليه، وأضرب لك مثلاً بحديث: «أول من تُسعّر بهم النار: المقاتل والقارئ والمتصدق، الذين يراؤون بأعمالهم، أولئك أول خلق الله تُسعّر بهم النار يوم القيامة، فيسأله الله ويعرّفه نعمته عليه يقول له: ماذا عملت؟ فيقول: قاتلت فيك، قال له: كذبت من أجل يقال عنك جريء، وكذلك القارئ والكريم» رواه مسلم، وحديث: «أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة: أن يقال له: ألم أصح لك جسمك؟ وأرويك من الماء البارد؟» رواه الترمذي، ولله المثل الأعلى، فلو أن شخصًا صنع معك معروفًا ثم أخطأت معه، لقال لك: ألم أصنع معك كذا؟ فعندها يخجل العبد، لكن لو لم يصنع معك معروفًا لهان عليك، فكيف ولله المثل الأعلى، ما من نَفَسٍ تتنفسه إلا ولله عليك فيه نعمة.
ثمّ بعد ديوان النعم، يتبعه سؤال الخير والشر، ثم يسأل عن حقوق العباد، وعن كل إنسان عامله، فيُسأل عن أبنائه وزوجته، وعن الجيران والناس يقول الله: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾ [الزمر: 31] قال الزبير – رضي الله عنه – يا رسول الله، أيكرّر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نعم ليكررن عليكم حتى يُؤدّى إلى كل ذي حق حقه» قال الزبير «فوالله إن الأمر لشديد» رواه الحاكم وصححه البيهقي.
وعند أحمد بسند حسن: «ليختصمن كل شيء يوم القيامة حتى الشاتان فيما انتطحتا فأول من يختصم يوم القيامة الرجل وامرأته» رواه ابن أبي الدنيا، وعند أحمد بسند جيد «أول خصمين يوم القيامة جاران».
وعلى كل فأنواع الحساب ثلاثة:
1- من يدخل الجنة بغير سابقة حساب ولا عذاب، وهم من حقق التوحيد، فمن حققه ضمن الله له الجنة، لكن بشرط عدم خلط هذا التوحيد بشرك، فمن خلّط ضاع عليه الضمان، ففي الحديث: «ابن آدم! لو لقيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لقيتك بقرابها مغفرة» رواه الترمذي، فمن لقي الله بتوحيد خالص سالم من الشوائب دخل الجنة بغير حساب.
2- من يُحاسب حسابًا يسيرًا، وهؤلاء أصحاب اليمين.
3- ومن الناس من يشدّد عليه الحساب، ومن نُوقش الحساب هلك، فإذا أراد الله أن يشدّد عليك الحساب، يقول لك مثلاً: وضوء الصلاة، لماذا أسرفت فيه؟ هل هو حلال أو حرام؟ هل تحرّيت مواضع الوضوء أو لا؟ ولو سئل عن وجهه وعن حدوده، وأصابعه، فقد يكون قصّر، وفي الحديث: «ويل للأعقاب من النار» وهل صلّى في الوقت أم لا؟ وكله هين على الله، وقد يقول قائل: متى يأتيني الدور؟ يقول الله تعالى: ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ [لقمان: 28]، وقال سبحانه: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾ [القمر: 54].
المرحلة الثامنة: الميزان:
﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء: 47] وفي الحديث: «يوضع الميزان يوم القيامة فلو وزن فيه السماوات والأرض لوسعت، فتقول الملائكة: يا رب لمن يزن هذا؟ فيقول الله: لمن شئت من خلقي، فتقول الملائكة: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك!» رواه الحاكم عن سلمان – رضي الله عنه – وقالت عائشة – رضي الله عنها -: يا رسول الله هل يذكر الحبيب حبيبه يوم القيامة؟ فقال: «أما عند ثلاث فلا يذكر أحد أحدًا، عند الميزان حتى يميل أو يخف فلا، وعند تطاير الكتب حتى يُعطى كتابه بيمينه أو شماله فلا، وعند الصراط حتى يعلم أينجو أم لا فلا» رواه الحاكم والآجري.
أما الحكمة من وجود الميزان مع علم الله بما سيؤول إليه حال المكلفين فهو امتحان للخلق بالإيمان بذلك، هل يؤمنون به أو لا؟ وكذلك الإعلام بأن الله لا يظلم أحدًا، وإقامة الحجة عليهم، وتعريف العباد، والتنويه بإظهار أعمال السعداء وإن كانت راجحة؛ لإظهار شرفهم على رؤوس الأشهاد، والتنويه بسعادتهم ونجاتهم، وأما الكفار فتوزن أعمالهم، وإن لم تكن لهم حسنات تنفعهم، فلإظهار شقائهم وفضيحتهم على رؤوس الخلائق.
فمن ثقلت حسناته على سيئاته ولو بزوانة دخل الجنة، ومن كانت سيئاته أثقل ولو بزوانة دخل النار، إلا أن يغفر الله، ومن استوت حسناته وسيئاته فهو من أهل الأعراف.
بقي أمر نحب أن نُنّوه عليه، ما الذي يوزن في الميزان يوم القيامة؟
ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الذي يوزن يوم القيامة ثلاثة أمور: يوزن العامل، والعمل، والصحائف.
أما وزن العمل، ففي الحديث: «أن ابن مسعود كان دقيق الساقين فجعلت الريح تلقيه، فضحك القوم منه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مم تضحكون؟ قالوا يا نبي الله من دقة ساقيه قال: والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد» رواه أحمد بسند قوي، وعند البخاري: «إنه ليأتي الرجل العظيم السّمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة».
أما وزن العمل، ففي الحديث: «والحمد لله تملأ الميزان» رواه مسلم، قال ابن كثير في النهاية: دلالة على أن العمل نفسه يوزن، وعند ابن أبي الدنيا: «أثقل شيء في الميزان حسن الخلق».
أما وزن الصحائف، كما في حديث البطاقة: «يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً، كلّ سجل مدّ البصر، ثم يقول الله له: أتنكر من هذا شيئًا؟ أظلمتك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول الملك: ألك عذر أو حسنة؟ فيبهت الرجل! فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى إن لك حسنة واحدة، لا ظلم عليك اليوم»، فيخرج بطاقة – وفي رواية – بطاقة مثل الأنملة، فيها «أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله»، فيقول: «أخبروه»، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول: «إنك لا تظلم»، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، قال: فتطيش السجلات وتثقل البطاقة، ولا يثقل شيء مع اسم الله. رواه أحمد بسند صحيح، والحاكم عن ابن عمرو.
فبعد الميزان ينادي المنادي: «من كان يعبد شيئًا فليتبعه!» فمن كان يعبد الشمس فمع الشمس وإلى النار، ومن كان يعبد القمر فمع القمر وإلى النار، ومن كان يعبد الطواغيت فمع الطواغيت وإلى النار، ومن كان يعبد الصليب فمع الصليب وإلى النار، وأصحاب كل آلهة فمع آلهتهم، حتى لا يبقى إلا من كان يعبد الله، من برّ أو فاجر: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آَلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [الأنبياء: 98، 99] وخلاصة الأمر، أنه يمثّل لكل قوم ما كانوا يعبدون، فيمثّل لصاحب الصليب صليبه، وصاحب التصاوير تصاويره، وصاحب النار ناره، وإلى النار، أمّا من كان يعبد عيسى والعزيز فيقول الله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾ [الأنبياء: 101]».
كيف يساق أهل النار إلى النار، وأهل الجنة إلى الجنة؟
أما كيف يساق أهل النار إليها؟ فيساقون رجالاً ونساءً سوق الدواب وقطعان الغنم، كما يساق المجرم زجرًا وضربًا، ولهم بكاء وصراخ، وغمرات وحسرات، ولا يدرون إلى أي جهة يتوجهون بهم، وهذا أصعب ما يكون على الإنسان أن يقاد إلى جهة لا يعلمها: ﴿يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا﴾ [الطور: 13] فيساقون زمرًا يلعن بعضهم بعضًا، ويتأذى بعضهم ببعض، وذلك أبلغ في الخزي والفضيحة من أن يساقوا واحدًا واحدًا، فإذا قربوا منها، فتحت أبوابها، فتلفح وجههم النار، على بعد مائة سنة، فكيف إذا وقفوا على أبوابها، وفُتّحت تلك الأبواب فيستقبلهم اللهب من شدة الحرارة، هنالك لا يتقدمون مع الضرب الشديد، فتدفعهم الملائكة دفعًا شديدًا: ﴿يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا﴾ فيخرجون مكبكبين على وجوههم، يقول الله: ﴿فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ﴾ [النمل: 90] فيهوى سبعين خريفًا قبل أن يصل إلى قعرها، فإذا وقعوا في النار زاد لهبها واشتعالها؛ لأنهم حطبها، فإذا تكاملوا في تلك الدركات أغلقت تلك الأبواب السبعة.
ولك أن تتصور حال أهل الموقف بعد أن وققوا في أرض المحشر خمسين ألف سنة بلا طعام ولا شراب، يقول الله: ﴿وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا﴾ [مريم: 86].
ومن العجائب ... وقفت على أناس يرقصون، فعرضت عليهم هذه الآية، وقلت لهم: ما معنى وردًا؟ فقال أحدهم: «وردا، وردا» فقلت: لا، معنى وردًا أي عطاشا يساقون إلى النار على أشد عطش، فإذا دخلوا النار طلبوا ماء يشربون، وفي هذا يقول الله: ﴿وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ﴾ [الكهف: 29] يعني ماءً غليظًا أسود حارًا منتنًا، إذا أراد أن يشربه وقرّبه من وجهه شواه حتى تسقط فروة وجهه فيه، فيدفعه ولا يريد أن يشربه، فتضربه الملائكة بمقامع من حديد على رأسه، ويصب من فوق رؤوسهم الحميم، لأن هنالك ملائكة غلاظاً شداداً، غلاظ: أي ليس في قلوبهم رحمة يتولون تعذيبهم، وشداد: أي أعطاهم الله قوةً، فهم في منتهى القوة ولا يعصون الله، فيجبرونه على شرب الماء ﴿وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ﴾ [محمد: 15].
أما أول من يكسى حلة من النار: فهو إبليس، والعري خير لهم؛ ففي الحديث: «إن أول من يكسى حلة من النار إبليس، فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلف، وذريته من بعده، وهو ينادي: يا ثبوراه، ويقولون: يا ثبورهم حتى يقفوا على النار فيقال لهم: ﴿لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا﴾ [الفرقان: 14]» رواه أحمد والبيهقي بسند صحيح، عن أنس – رضي الله عنه -.
أما أبوابها: فهي سبعة أبواب: ﴿لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ﴾ [سورة الحجر: 44]
وهذه الأبواب بعضها فوق بعض، كما ثبت عن علي رضي الله عنه وهي: «جهنم والسعير ولظى والحطمة وسقر والجحيم والهاوية وهي أسفلها» قاله ابن عباس – رضي الله عنه – عند ابن أبي حاتم، ولم يثبت إلا أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، وما عداه لم يثبت.
يقول ابن الجوزي في بستان الواعظين:
النار منازل أهل الكفر كلهم | طبقاتها سبع مسودة الحفر | |
جهنم ولظى من بعدها الحطمة | ثم السعير وكل هول في سقر | |
من بعد ذاك جحيم ثم هاوية | تهوي بهم أبدًا في حر مستعر | |
سوداء مظلمة غبراء موحشة | نزاعة للشوى لواحة للبشر | |
فيها العقارب والحيات قد جُمعت | جلودها كالبغال الدهم والحمر | |
لها إذا ما غلت فورٌ يقلبهم | فهم ما بين مرتفع فيها ومنحدر |
أما صفة أبوابها: فحديد وهي مغلقة: ﴿إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ﴾ [الهمزة: 8] ولهذا قال الله سبحانه: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ [الزمر: 71]، وهذا يدل على أنها مغلقة؛ لأنها سجن ودار عقوبة، فأبوابها أفظع شيء وأشد حرًا وأعظم غمّا.
أما سعة أبوابها: فما بين البابين سبعون عامًا، ففي الحديث: «إن للنار سبعة أبواب، ما منهن بابان إلا ويسير الراكب بينهما سبعين عامًا» رواه الطبراني والحاكم عن أبي رزين العقيلي، زاد وهب بن منبه: «كل باب أشد حرًا من الذي فوقه».
«أما جدرانها، فغليظة غلظ جدارها أربعة جدر، كثافة كل جدار أربعون سنة». رواه الترمذي.
أما أول من تسعّر به النار من عصاة الموحدين فثلاثة: «أمير مُسلّط، وذو ثروة من مال يمنع حق الله في ماله، وفقير مختال» رواه الترمذي، وهؤلاء جمعوا بين الظلم والبخل والكبر.
وورد أن الملائكة أسرع إلى فسقة القرّاء قبل المشركين، ففي الحديث: «الزبانية أسرع إلى فسقة القراء منهم إلى عبدة الأوثان، فيقولون: يبدأ بنا قبل عبدة الأوثان؟ فيقال لهم: ليس مَنْ علم كمن لم يعلم!» رواه الطبراني.
لكن ورد في أحاديث عدة: «خروج عنق من النار يوم القيامة» يتكلم بلسان طلق ذلق، وعينان تبصران، وتقول: وكّلت بثلاثة: بمن جعل مع الله إلهًا آخر، وبكل جبّار عنيد، وأصحاب التصاوير، فينطلق بهم إلى النار قبل سائر الناس بخمسمائة سنة. رواه الترمذي، ذكره الإمام ابن رجب.
أما حُزن أهلها: فليس كالأحزان! فلك أن تتصور وتتأمل هذه الآيات؛ لتستشعر عظم الندامة والحسرة والحزن الذي هم فيه، يقول الله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ﴾ [الحاقة: 25-29] أعدها مرات وكرات؛ لتستشعر عظم المصيبة التي وقعوا فيها عياذًا بالله من مواقف الخزي والندامة.
أما صفة أهل النار الذين هم أهلها: فيقول وهب بن منبه – رحمه الله تعالى -: «إن أهل النار الذين هم أهلها، هم في النار لا يهتدون ولا ينامون ولا يموتون. يمشون على النار، ويجلسون على النار، ويشربون من صديد النار، ويأكلون من زقوم النار، لحافهم نار، فرشهم نار، قميصهم نار، وتغشى وجههم النار» رواه ابن أبي الدنيا، ثم بكى وهب حتى سقط مغشيًا عليه.
وأشد ما قاله الشعراء في النار ما قال ابن المبارك:
تهوي بسكانها طورًا وترفعهم | إذا رَجُوا مَخْرجَا من غمّها قُمعوا |
أدنى أهل النار عذابًا في النار: ففي الحديث: «إن أدنى أهل النار عذابًا، ينتعل بنعلين من نار يغلي دماغه من حرّ نعليه، ما يرى أن أحداً أشدّ منه عذابًا، وإنه لأهونهم عذابًا» رواه مسلم، قيل: إنّه أبو طالب.
أمّا أهل النار من عصاة الموحدين، ففي الحديث: «وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زبر له، الذين هم فيكم تبع لا يبغون أهلاً ولا مالاً، والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دقّ إلا خانه، ورجل لا يُصبح ولا يُمسي إلا وهو يخادعك على أهلك ومالك، والبخيل، والكذاب، والشنظير الفاحش» رواه مسلم، عن عياض.
أما الأول: فهو صاحب النفس الساقطة ليس له همّ في الدنيا والآخرة سوى شهوة فرجه وبطنه.
وأما الثاني: أي لا يقدر على خيانة وإن كانت يسيرة إلا بادر إليها.
وأما الثالث: فهو المخادع، وفي الحديث عن ابن مسعود – رضي الله عنه -: «والمكر والخداع في النار» رواه الطبراني في الكبير والصغير، وإسناده جيد.
أما الرابع: شكّ الراوي، «الكذب والبخل» لكن عند أحمد: الكذب أو البخل، قيل عدّهما واحدًا، وكلاهما ينشأ عن الشح، ومعنى الشحّ، أخذ المال بغير حقه، والبخل منعه من حقه، وينشأ عن الشحّ الكذب والمخادعة.
أما الخامس: فمعناه سيئ الخلق. ذكره الإمام ابن رجب.
وفي الحديث: «ألا أخبركم بأهل النار: كلّ عتل جواظ مستكبر» رواه البخاري عن حارثة بن وهب، فأهل النار يمتازون بصحة الجسم وقوته، وكثرة المال والتنعم بشهوات الدنيا، والتكبر والتعاظم على الخلق. ذكره ابن رجب رحمه الله.
متى يكتشف العبد خطورة هذا الكلام؟ إذا كشف الغطاء: ﴿لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ [ق: 22] ورفع الاختبار، ونزعت من قلبه محبة الدنيا ورأي الآخرة أمامه، الجنة ونعيمها، والنار وجحيمها، وعلم أنه لن يدخل الجنة إلا بعمل صالح، ولا ينجو من النار إلاّ بذلك، طلب الرجعة: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾ [المؤمنون: 99-100]، هناك يقول الله: ﴿وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا﴾ [المنافقون: 11] فتجتمع عليه سكرة الموت وحسرة الفوت، قالوا لعبد الملك بن مروان: كيف تجدك؟ قال: أجدني كما قال الله: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ﴾ [الأنعام: 94] هنالك يترك القصر المشيد، ويترك الأموال في البنوك، ويترك الزوجات والأبناء، ففي هذه الساعة، والله لا تكون الحسرة على زهر الدنيا بل، يتمنى لو يمدّ في عمره ولو دقيقة؛ لعله يزيد حسنة، أو يمحو سيئة، والخيار لك، ولكل نبأ، مستقر ،وسوف تعلمون.
المرحلة التاسعة فهي: نصب الصراط:
ثم ينتهي الناس بعد مفارقتهم مكان الموقف إلى الظلمة، دون الصراط، عند الجسر، قالت عائشة – رضي الله عنها - «أين يكون الناس يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسموات؟ فقال: هم في الظلمة دون الجسر، وذلك عندما يتفرق العباد عن موقف الحساب» ففي البخاري: «ويتبع كل من كان يعبد إلهًا إلهه، حتى لا يبقى إلا من كان يعبد الله من برّ أو فاجر، فيقول الله لهم: هل بينكم وبين ربكم علامة تعرفونها؟ فيقولون: الساق، فيكشف عن ساقه: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ﴾ [القلم: 42] ويسجد له كل مؤمن، ويبقى كل من كان يسجد رياء وسمعة، ويجعل الله ظهره طبقة واحدة، كلّما أراد أن يسجد خرّ إلى قفاه» رواه البخاري، ثم تقسّم الأنوار بعد السجود، فيعطي كلّ إنسان منهم، من مؤمن ومنافق نورًا يتبعه، فمنهم من نوره مثل الشمس، ومنهم من مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، ومنهم يضيء له تارة ويطفئ تارة أخرى، فإذا وصل المنافقون الجسر، ذهب الله بنورهم، فلمّا رأى المؤمنون ذلك أشفقوا فقالوا: «ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا ذنوبنا» ذكره القرطبي.
بعدها ينصب الصراط على متن جهنم، وهو أدق من الشعرة، وأحدّ من السيف، دحض مزلّة، يتكفأ، بجنبتيه كلاليب من نار وحسك تخطف بها، وترسل الأمانة والرحم على جنبتي الصراط: «فالزالّون والزالّات يومئذ كثير» رواه البيهقي وابن كثير في التفسير، زاد القرطبي: «وأكثر من يزلّ النساء» وفي بعض الآثار: إن طوله مسيرة خمس عشرة سنة، «فيمر المؤمنون كالطرف وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب، فناج مسلّم، ومخدوش مرسل، ومكردس في النار» رواه مسلم.
ولك أن تتصور من تزل قدمه فيسقط، كم يهوي؟ سمع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وجبة، فقال: «أتدرون ما هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا حجر أُرسل في جهنم منذ سبعين عامًا حتى انتهى الآن إلى قعرها» رواه مسلم، وورد أن وزن هذه الصخرة بعشر خلفات سمان (الترغيب) للمنذري.
من أراد من المؤمنين أن يسرع على الصراط، فلا يحدث في الدين ففي الحديث: «علم الناس سنتي وإن كرهوا ذلك، وإن أحببت أن لا توقف على الصراط طرفة عين حتى تدخل الجنة، فلا تحدثن في دين الله حدثًا برأيك» رواه الحافظ الوائلي في الإيمان، وابن كثير في النهاية، وقال القرطبي: إسناد غريب، والمتن حسن.
المرحلة العاشرة: القنطرة:
إن أهل الإيمان إذا جاوزوا الصراط، حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيُهذبون، وينقّون من بقايا بقيت عليهم، قصّرت بهم عن دخول الجنة، ولم توجب لهم دخول النار، حتى إذا هذّبوا ونقّوا، أذن لهم بدخول الجنة، ففي الحديث: «يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقصّ لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذّبوا ونقّوا أذن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده، لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا» رواه البخاري.
ففي هذه القنطرة يؤخذ لبعضهم من بعض ظلماتهم في الدنيا، ويدخلون الجنة وليس في قلوب بعضهم على بعض غلّ. لأن الله جعل دخول الجنة موقوفًا على الطيب والطهارة، فلا يدخلها إلا طيب، يقول الله: ﴿طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾ [الزمر: 73]، فالجنة لا يدخلها خبيث؛ لأنها دار الطيبين.
صفة الجنة
أما صفة الجنة، فهي مفاجأة بجميع المقاييس، فتعالوا نتفرج على الجنة وما فيها من النعيم والسرور، بعدما مررنا على المراحل العشر، وبعدما عرفنا الدنيا وحقيقتها، وأنا أريد من كل واحد أن يقول: أنا أريد الجنة، ويجعلها شعاره الأبدي.
وأحسن ما قاله الشعراء في الجنة:
فحلّت سويدا القلب لا أنا باغيًا | سواها ولا عن حالها أتحول |
أما أول من يدخل الجنة:
فهو نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ففي الحديث: «آتى باب الجنة يوم القيامة فاستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك» رواه مسلم عن أنس رضي الله عنه.
أما صفة أبواب الجنة:
فهي من ذهب، ففي الحديث: «وينتهون إلى باب من أبوابها فإذا حلقة حمراء على صفائح الذهب، فيضربون الحلقة بالصفيحة» رواه ابن أبي الدنيا عن علي – رضي الله عنه.
أما سعة أبوابها:
فبين كلّ بابين، سبعون عامًا، ففي الحديث: «وإن للجنة ثمانية أبواب، ما منهن بابان إلا ويسير الراكب بينهما سبعين عامًا» رواه أحمد، كما في حديث لقيط الطويل والطبراني، أما ما بين مصراعي الباب، فمسيرة أربعين سنة، ففي الحديث «ما بين مصراعين من مصاريع الجنة، مسيرة أربعين سنة ،وليأتين عليها يوم وهو كظيظ من الزحام» رواه مسلم وأحمد، وعددها ثمانية أبواب كما سبق، وسيأتي عليها يوم من الأيام وهي كظيظة من الزحام، حتى إن الأكتاف لتكادُ تنخلع، جعلنا الله ممن يزاحم على تلك الأبواب.
أما ريح الجنة:
فيوجد من مسيرة خمسمائة عام، وإن تشأ فمسيرة أربعين عامًا، وكذا روي سبعين عامًا، وكلّها وردت بحسب عمل الإنسان، يقول أنس بن النضر – رضي الله عنه -: «واهًا للجنة، إني لأجد ريحها من دون أحد، ونظر إلى المدينة وقال: اللهم لا ترجعني إليها، ورفع يديه، ثم قال: اللهم أسألك ليلة ليُلها في الدنيا، ونهارُها في الجنة»، هل تجد أنت ريح الجنة؟ أم عندك زكام؟! فوجد أنس بن النضر وفيه ثمانون طعنة، ووجدوه شهيدًا تحت جبل أحد، هل مرت بك-عمرك- نسمة فقلت: مثل ما قال أنس، واهًا للجنة! أو تذكرت الجنة، أنا أريد أن تكون الجنة على بالك دائمًا.
أما أول زمرة تدخل الجنة:
وجوههم كالبدر ليلة التمام، ففي الحديث: «أول زمرة تدخل الجنة على صورة البدر ليلة التمام» رواه البخاري، هل تخيلت القمر الذي ينّور للكرة الأرضية؟ أيّ دنيا تكون أعزّ عليكم من الجنة؟ فإن قال قائل: يا ترى ما هي أعمالهم؟ فالجواب ببساطة، ورد في الحديث: «ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفًا أو سبعمائة ألف (شكّ الراوي) متماسكون، آخذ بعضهم بعضًا، لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم، وجوههم على صورة القمر ليلة البدر» رواه الشيخان، من حديث سهل رضي الله عنه – فخاض الصحابة فيهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «هم الذين لا يكتوون، ولا يتطيّرون، ولا يسترقون، وعلى ربهم يتوكلون» رواه البخاري.
فإن قال قائل: هذه سهلة! لن أكتوي، ولن أتطير، وأنا منهم، فالجواب: ليست بهذه البساطة، معناه: أنك تحقق التوكل على الله – عز وجل – فلا يتعلق قلبك بغير الله، اللهم لا تعلق قلوبنا بأحد سواك.
أما فرح أهل الجنة إذا أخذوا كتابهم:
فتأمل هذه الآيات، وكأنه يلوّح لأهل الموقف بفلاحه: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ﴾ [الحاقة: 19-22].
أما كيف يعرف أهل الجنة منازلهم في الجنة:
فالواحد يدخل الجنة وهو يعرف منزله أشد من معرفة بيته في الدنيا، فلا يدخل غريبًا ما يدري أين منزله: (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) [سورة محمد: 6]
أما وصف أهل الجنة:
«لا يبصقون فيها، ولا يتغوطون فيها، ولا يتمخطون فيها، آنيتهم وأمشاطهم الذهب والفضة، ورشحهم المسك، لكل واحد منهم زوجتان، يرى مخّ ساقها من وراء اللحم من الحسن» رواه البخاري.
أما أهل الجنة:
ففي الحديث: «أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال» رواه مسلم، وعند النسائي «ألا أخبركم بنسائكم من أهل الجنة، الودود الولود التي إذا غضب أو غضبت، جاءت حتى تضع يدها في يد زوجها، ثم تقول: لا أذوق غمضًا حتى ترضى» عن ابن عباس – رضي الله عنه -.
فهم ثلاثة أصناف:
الأول: سار في سلطانه بالعدل، ثم ارتقى إلى درجة الفضل.
والثاني: لم يخص رحمته بقرابته، بل يرحم المسلمين.
والثالث: محتاج فعفّ، وهو أحد نوعي الجود، أعني العفة.
وفي الحديث: «ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف، لو أقسم على الله لأبره» رواه البخاري، عن حارثة بن وهب، فضعف البدن والاستضعاف في الدنيا من قلة المال والسلطان مع الإيمان هو جماع الخير، ولهذا يقال: «من العصمة أن لا تجد» ذكره ابن رجب – رحمه الله -.
وفي قصة عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – مع أبي حازم، حين رآه خليفة وقد شحب لونه وتغير حاله، فقال له: «ألم يكن ثوبك نقيًا، ووجهك وضيًا، وطعامك شهيًا، ومركبك وطيًا، فقال له عمر بن عبد العزيز: ألم تخبرني عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن من ورائكم عقبة كؤودًا لا يجوزها إلا كل ضامر مهزول» انظر البداية والنهاية ج10.
أما أذان أهل الجنة الذي يؤذنون به:
فأربعة مطالب، تلغي مشاكل الدنيا «يُنادي المنادي: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدًا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدًا، وإن لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبدًا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدًا» رواه مسلم، مشاكل الدنيا: مرض وموت وفقر وهرم، لكن كيف تُقاس دنيا بدار قال الله تعالى فيها: ﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ﴾ [الحجر: 46]. سلام من كل آفة، وأمان من كل خوف.
أما أدنى أهل الجنة منزلة:
وما فيهم دني؛ لأنه ليس في الجنة نقصان، بل هو آخر واحد يدخل الجنة، وآخر واحد يخرج من النار، ففي الحديث: «إني لأعلم آخر أهل النار خروجًا منها، وآخر أهل النار دخولاً الجنة، رجل يخرج من النار حبوًا، فتلفحه النار مرة، ويحبو مرة، فإذا جاوزها، التفت إليها وقال: تبارك الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله شيئًا ما أعطاه أحدًا من الأولين والآخرين، فيقول الله له: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها فيُخيّل إليه أنها ملأى فيقول: يا رب وجدتها ملأى، فيقول: اذهب فادخل فيها، فيأتيها فيُخيّل إليه أنها ملأى، فيرجع، فيقول: يا رب وجدتها ملأى؛ قد نزل الناس منازلهم، وأخذوا أخذاتهم، فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب، فيقال له: ذلك لك، ومثله ومثله ومثله ومثله ومثله، فيقول في الخامسة: رضيت يا رب، فيقول: لك هذا، وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك، ولذت عينك» رواه مسلم.
وورد أن أدنى أهل الجنة منزلة، ليسير في ملكه ألفي سنة ما يقطعه، فإن قلت: من يقطعها؟ ففي الحديث: «إن أدنى أهل الجنة منزلة لرجل ينظر في ملكه ألفي سنة، يرى أقصاه كما يرى أدناه، ينظر إلى أزواجه وسرره وخدمه» رواه أحمد والطبراني، عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أما أعلى أهل الجنة، من ينظر إلى الله بالغداة والعشي، وهم من غرس الله كرامتهم بيده.
أما بناء الجنة:
فلبنة من ذهب، ولبنة من فضة، فإن قال قائل: أريد أن اشتري مترين في الجنة! فيا ترى بكم هي؟ فالجواب: متران بركعتين، بصلة أرحام، ببر الوالدين، بحسن جوار.
وفي الختام: الجنة مفاجأة بجميع المقاييس، ففي الحديث: «إن في الجنة لسوقًا يأتونها كل جمعة، فتهب ريح الشمال، فتحثو في وجوههم وثيابهم، فيزدادون حسنًا وجمالاً» رواه مسلم، زاد الإمام الترمذي: «ثم ينادي المنادي: يا أهل الجنة، إن الله يستزيركم، فتعد نجائب يركبون عليها، حتى يأتوا سوق الجنة، فيأتون وقد أُعدّت لهم كراسي، فتوضع لهم منابر من نور، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من زبرجد، ومنابر من ذهب، ويجلس أدناهم، وما فيهم دنيء على كثبان المسك والكافور، وما يرون أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلسًا»، يعني: ليس كل واحد يجلس بمزاجه، لكن يرضى بما أعطاه الله، قال أبو هريرة – رضي الله عنه -: يا رسول الله، هل نرى ربنا؟ قال: «نعم، ولا يبقى أحد في ذلك المجلس إلا ويحاضره الله محاضرة، حتى أنه ليقول للرجل منكم: ألا تذكر يا فلان يوم عملت كذا وكذا، يذكره بعض غدراته في الدنيا، فيقول: بلى يا رب ألم تغفر لي؟ فيقول: بلى وبمغفرتي لك بلغت منزلتك هذه، فبينما هم كذلك، إذ غشيتهم سحابة من فوقهم فأمطرت عليهم طيبًا لم يجدوا مثل ريحه شيئًا أبدًا، ثم يكشف الجبار الحجاب فما أعطوا لذة منذ أن خلقوا، أحب إليهم من لذة النظر إلى وجهه الكريم»، اللهم نسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك.
يا لله ...! سوف نرى ربنا الذي نعبده، ونرى ربنا الذي خلقنا ورزقنا، ومن كل بلاء حسن أبلانا، فالسابق إلى صلاة الجمعة هو المقدم هناك في صفوف الجنة يوم المزيد على كراسي الذهب، يقول ابن القيم:
سبق بسبق والمؤخَّر ههنا | مُتأخَّرٌ في ذلك الميدان | |
والأقربون إلى الإمام فَهُمْ أولو | الزلفى هناك، فههنا قربان |
والله ما تزينت الجنة لأمة مثلما تزينت لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ولكن يا للأسف! ثمّ لا تجد لها عاشقًا يدفع المهر، صحيح أن هناك أناسًا دفعوا المهر، ولكن هناك أناس يصرفون أعمارهم وأنفاسهم في الكلام الفارغ، وفيما لا طائل وراءه، وما أحسن ما قاله ابن القيم:
يا سلعة الرحمن لست رخيصة | بل أنتِ غاليةٌ على الكسلان | |
يا سلعةَ الرحمن ليس يَنالُها | في الألْفِ إلا واحدٌ لا اثنانِ | |
يا سلعةَ الرحمن ماذا كُفْؤها | إلا أُولو التقوى مع الإيمانِ | |
يا سلعةَ الرحمن سُوقك كاسدٌ | بينَ الأراذل سفلة الحيوان | |
يا سلعة الرحمن أين المُشتري | فلقدْ عُرضتِ بأيْسَرِ الأثْمانِ | |
يا سلعةَ الرحمن هل من خاطبٍ | فالمهر قبل الموت ذو إمكان | |
يا سلعة الرحمن لولا أنها | حُجبتْ بكل مَكَارهِ الإنسان | |
ما كان عنها قط من متخلفٍ | وتعطلتْ دارُ الجزاءِ الثاني | |
لكنّها حُجبتْ بكل كريهةٍ | ليُصدّ عنها المبطل المتواني |
وفي الحديث: «ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة» رواه الترمذي؛ وفي الحديث أيضًا: «ألا هل مشمر للجنة؛ فإن الجنة لا خطر لها، هي ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وثمرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، في مقام أبدًا، في دار سليمة، وفاكهة وخضرة وحبرة ونعمة، في محلة عالية بهية» قالوا: نعم يا رسول الله، نحن المشمرون لها، فقال: «قولوا: إن شاء الله». قال القوم: إن شاء الله؛ رواه ابن ماجة وابن حبان والبيهقي والبزار، عن أسامة بن زيد – رضي الله عنه – وهو في الترغيب.
وإذا تبين هذا كله، فلقد جربنا وجرب غيرنا، فلم نجد في حياتنا أعون على قهر النفس وعصيان الشهوة، وأجمع للقلب الشارد الملتفت، وأضمّ للهمّ المنتشر، وأحدث للقناعة، وأطرد للشيطان، وأبعد عن كثير من الفتن، وأضبط لأمر الدين بالجملة: من سماع أخبار الجنة، فلله الحمد على ما يسّر من هذا المبحث اللطيف وأعان عليه، ورزق من الصبر، وأوزع من الشكر، فله الحمد أولاً وآخرًا وظاهرًا وباطنًا حمدًا لا ينفد ولا يبيد، كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك يا رب.
* * * *
أحْدِثْ توبةً
وإن كان بقي لنا من وصية أخيرة، فهي التوبة، فإن قال قائل: أتوب من ماذا؟ ما عندي ذنوب، أنا والحمد لله ما عملت ذنوبًا كبيرة حتى أتوب منها، أو يقول لك: أنت رأيتني أعصي الله؟ إذًا: نحن نحتاج في البداية إلى تشخيص الداء لنصف الدواء، هل صحيح أننا نحتاج إلى توبة؟ تعالوا نحاسب أنفسنا قليلاً، أنت تقول: أنا رجل محترم، أنا ما عملت كبائر، أقول لك: لا ... عندك كبائر، لكنك قد لا تشعر بها!! طيب الناس الذي لا يصلون أليست هذه كبيرة؟ وهناك شباب لا يصلون! وهناك بنات لا يصلين! وما ينقمون على الله إلا أن أغناهم الله! أليست هذه كبائر؟
وما رأيك فيمن يجمع الصلوات من غير عذر؟ ففي الحديث: «من جمع بين الصلاتين من غير عذر فقد أتى بابًا من أبواب الكبائر» رواه الترمذي والحاكم، عن ابن عباس – رضي الله عنهما – وهناك ناس لهم عشر سنوات أو أكثر لا يصلون الفجر أصلاً! فهل نحن نحتاج إلى التوبة من أجل الصلوات التي تُترك؟ أم من أجل الصلوات التي نتهاون في أدائها؟
وهل نحن نحتاج للتوبة من أجل عقوق الوالدين؟ تُرى دمعة الألم أو الحزن بسبب الولد أو البنت، هل هي في ميزان السيئات أم الحسنات؟ أو إغلاق الباب في وجه أحد الوالدين أليس هو عظيما جد عظيم؟ كيف نتخيل أنه لا ذنوب لدينا؟ ثبت عند أحمد ومسلم «أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أنا قبّلت فأعرض عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - واحمر وجهه، فأنزل الله قوله ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود: 114]» فمن أجل قبلة واحدة، يحتاج إلى صلوات كثيرة؛ حتى تكفر هذه السيئة.
إذًا نحن نحتاج للتوبة؛ من أجل تقصيرنا في حقوق الله، أو قطيعة الأرحام أو سوء الجوار، أو ضياع حقوق الأولاد والبنات، أو تساهل بعض النساء في الحجاب، تخيلي أيتها المرأة، لو أن كل واحد ينظر إليك، كم يُكتب عليك من سيئات وأنت متبرجة أو منتقبة، هو تكتب عليه سيئة، وأنت سيئة! وما من رجل يفتن بك إلا لقيت الله بتلك الفتنة، بل كم تمرين على أناس في الساحل، أو في السوق، وكم تكسبين من سيئات، تسود بها صحيفتك في تلك الأماكن، التي ترفع فيها رايات الشيطان، أعني الأسواق.
ونحن نحتاج للتوبة؛ من أجل تقصيرنا في شكر نعم الله الغادية والرائحة: بيت وسيارة وأولاد، وأمن وأمان، وصحة وعافية، ثم لا نشكو من جوع ولا ظمأ، ولا عري ولا خوف: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ [النحل: 53] يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم ما أصبح بي من نعمة، أو بأحد من خلقك، فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر» رواه أبو داود وحسنه الحافظ ابن حجر – في الفتوحات الربانية.
ونحن نحتاج للتوبة من الغفلة التي نحن واقعون فيها: وهي من أصعب الأشياء، فلو قُدّر لك إن حصل بينك وبين شخص خلاف وإساءة إليه، تجد أنك تحرص على الاعتذار له، لكن لو أسأت لشخص ولم تشعر بإساءتك له، فكيف تعتذر، ومن هنا: الغفلة أخطر من المعاصي، فإن قيل: الغفلة من ماذا؟ قلنا: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ﴾ [الأنبياء: 1-3] يعني إن الناس مشغولون بسكرة العيش: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ [الحجر: 3]. يصعب عليهم صلاة ركعتين، ولكنه يمكن أن يسهر، أو يقف أمام الملهيات ساعات.
وإذا عرف هذا، فماذا يريد الله منا؟ ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾ [النساء: 27] وهي المقصودة في قوله – سبحانه وتعالى -: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور: 31]. قال العلماء: هذه الآية اشتملت على ثلاثة أمور:
1-أنه يجب على كل مؤمن التوبة؛ لأن الله أمر بها، وأوامره واجبة.
2- أنها لا تختص بالعصاة وحدهم، بل تشمل الجميع، الصالح والطالح؛ لأنها تشمل الذنوب وغيرها، فالمذنب يحتاج إلى التوبة، والصالح يحتاج أيضًا للتوبة؛ حتى يُثبتّه الله، ويستمر على طاعة ربه، لأن الاستغفار سبب للرحمة، يقول الله تعالى: ﴿لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [النمل: 46] فالاستغفار والتوبة، سبب لتكفير الذنوب، وستر العيوب، وسبب للرحمة.
لأن الذنب على الذنب على الذنب، يتراكم حتى يُعمي القلب، ومن هنا أخبرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله سبعين مرة» وكان يلهج بالاستغفار والتوبة صباحًا ومساءً، ليلاً ونهارًا، وفي كل مجلس، وهو أطهر مخلوق، وكان يستغفر إذا استفتح الصلاة، وإذا ركع، وإذا سجد، وبين السجدتين، وقبل السلام.
وإذا كان نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - الطيب الطاهر يطلب المغفرة، فماذا نقول نحن؟ وإني أقول كما قال طلق بن حبيب: إن حقوق الله أعظم من أن يقوم بها العباد وإن نعم الله أكثر من أن تحصى، أو يقوم بشكرها العباد، ولكن أصبحوا تائبين، وأمسوا تائبين.
فنحن بين نعمة لا تشكر، أو ذنب لا يستغفر منه، والذنوب تورث الذل، وتسلط الأعداء، وتوجب الفتن، وإن النجاة منها بهذه الكلمات الصادقات، يقول شيخنا الشنقيطي – حفظه الله -: وإن أصدق توبة على وجه الأرض: هي التوبة النصوح، وسميت نصوحًا لأنه لا غشّ فيها، وهي ما جمعت أربعة أمور:
1- ندم القلب: فالله رضي منك الندم والحزن على ما صنعت، مقابل المغفرة.
2- الإقلاع عن الذنب: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 135] لأن شرط التوبة الاستغفار مع عدم الإصرار.
3- العزم على عدم العودة إلى الذنب: مع صلاح حال الجوارح والأركان.
فأمّا ندم القلب، فلا يحركه إلا الله، وإذا تحرك الندم في القلب، جاءت رحمة الله علاّم الغيوب، فتحرّك اللسان بالاستغفار، ولهذا لما صدق قوم يونس – عليه السلام – وفقدوا نبيهم وعاينوا العذاب، خرجوا إلى الصعدات يجأرون إلى الله فلمّا علم الله منهم صدق التوبة والندامة، كشف عنهم العذاب.
4- ومن تمام التوبة: رد الحقوق إلى أهلها.
وإن أحلى أيام الحياة، يوم تحسّ أنك قريب من الله، ويوم يتوب الله عليك، ولهذا، لما جاء كعب بن مالك – رضي الله عنه – ودخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: «يا كعب أبشر بخير يوم منذ ولدتك أمك تاب الله عليك».
فالتوبة يحتاجها الجميع، كما كان يفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن البعض قد يغتر بصلاته، أو بصلاحه، أو بهدايته، ويظن أن التوبة خاصة بالمعرضين، ووالله إن التوبة يحتاجها الطائع قبل العاصي.
وقد ذكر شيخنا المبارك، بقية السلف، أبو حمزة عبد الرحيم الطحان حفظه الله ورعاه وجعل أعالي الفردوس مأواه – ذكر المحصّنات، وقال: هي كثيرة وأبرزها خمسة عشر أمرًا وأنها تُجمع في أمرين: تخلية وتحلية.
أما التخلية، فأبرزها سبعة، وهي بعدد أبواب النار، وأما التحلية فهي ثمانية، وهي بعدد أبواب الجنة، وعليه فالتخلية هي التخلي عن الرذائل والتحلية هي التحلي بالفضائل، أمّا فضائل وفيها دنسٌ فلا يصلح أبدًا، وهذا مثل من يتطيب وعنده في بدنه روائح كريهة، فخير له من الطيب لو غسل بدنه؛ لأنه مهما طيّب نفسه، فالقذر سيغلب، لكن الأحلى والأجمل أن يتخلى عن الأوساخ، ثم يتطيب، ولذا يقال: التخلية قبل التحلية؛ لأن الدين يقوم على اجتنابٍ وامتثال، فتكتسب الخيرات، وتجتنب المنكرات؛ لأن من لم يفعل ذلك كان كمن يبني قصرًا ويهدم مصرًا، يقول بعض العتاة: أنا مسلم ماركسي يعني أنه موحد وملحد، كيف هدىً وردىً! فضيلة ورذيلة! لكن الدين الحق أن تجتنب كل رذيلة، وتكتسب كل فضيلة.
وعلى كل حال، فالتخلية أبرزها سبعة أمور وهي بعدد أبواب النار:
1- حفظ الخطرات: لأن من لم يشغل نفسه بالحق شغلته بالباطل، فإذا غفل قلبك صار فيه الشيطان، فكثرت فيه الأوهام.
2- حفظ اللحظات: وكثرة النظر الحرام من أعظم أسباب قساوة القلب، وقد أخبرنا ربنا أن الإنسان مسؤول عن بصره ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 36].
3- حفظ اللفظات: ففي الحديث: «من اتقى الله كلّ لسانه ولم يشف غيظه» يقول شيخنا: والله لو أن الواحد يدفع على كلامه مالاً لكفّ عن كثير من الهذيان، لكن لما أصبح كلامنا لا يكلفنا، إلا حماقة نُسأل عنه أمام الله غدًا، أكثرنا منه وأطلقنا ألسنتنا.
4- حفظ الخطوات: فكلّ من يخطو خطوة، فإما أن تكون لله أو لغير الله، إما لله، أو لنفسه، أو للشيطان، ومن هنا سأل أهل الإيمان الله أن يجعل مدخلهم مدخل صدق، ومخرجهم مخرج صدق، فمن كان مدخله ومخرجه صادقًا وجعل الله له لسان صدق، كان له عند الله يوم القيامة قدم صدق.
قال العلماء: من حفظ هذه الأربع: الخطرات، ومحلها القلب؛ اللفظات ومحلها اللسان؛ النظرات ومحلها البصر؛ الخطوات ومحلها الرجلان؛ فمن حفظ هذه الأربع فهو صديق.
5- حفظ السمع: فإياك وسماع الحرام؛ فإنه حرام، سواء باشرته بنفسك، أو شاركت فيها باستماعك، قال عمر لمولاه «نزّه سمعك عن استماع الخناء، كما تنزه لسانك عن القول به، فإن المستمع شريك القائل» قلت: وليس من شرط سماع الحرام فقط، أن تسمع أغنية، بل قد تسمع غيبة، أو نميمة أو غيرها.
6- حفظ البطن: أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام، أن الإنسان لا يوصف بصفة الحياء على وجه التمام، إلا إذا ابتعد عن أكل الحرام، وأكل الحلال وحفظ بطنه. فقد ثبت في مسند أحمد والترمذي، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «استحيوا من الله حق الحياء» فقال الصحابة: كلّنا نستحي من الله والحمد لله، فقال: «ليس ذاك» أي ليس دعوى ولا كلام، فقال: «إنما الحياء من الله حق الحياء: أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وأن تذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا».
لأن الجنة تحتاج إلى احتياط واحتراز، وحزم في طاعة الله، تريد قصورًا في جنات رب العالمين، لبنة من ذهب ولبنة من فضة، ولا تجد مشقة، ولا شدة فلا بد من حفظ الجوارح.
7- حفظ الفرج: والمراد به: حفظه مطلقًا فلا يجوز كشفه، ولا أن تقع في الحرام، وفي الحديث: «إنما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى» رواه أحمد والبزار، عن أبي برزة.
بعد أن تتخلى عن هذه الأمور السبعة، تحرص على أن تتحلى بهذه الأمور الثمانية، وهي بعدد أبواب الجنة:
1- كثرة الاستعاذة من الشيطان: لأن كلّ باب خير مغلق، حتى يفتحه الله وييسره، والشيطان قعد للإنسان بالرصد، فلا يطلب باب خير إلا قفله في وجهه وزهده فيه، إلا أن يفتحه الله له، فلا معين على الخير غير الله. وهل يستطيع عبد أن يعمل بغير توفيق الله؟
وطرق إضلال الشيطان للإنسان سبعة: الشرك، والبدعة، والكبائر، والصغائر، وإشغاله بالمباحات، وإشغاله بالمفضول عن الفاضل. فإن عجز تسلط عليه بشياطين الإنس والجن. قال ابن الجزري:
شيطاننا المُغوي عدوّ فاعتصمْ | بالله منه والتجئْ وتعوذ | |
وعدوُّك الإنسي دار ودادَه | تملُكْه وادفعْ بالتي فإذا الذي |
2- كثرة قراءة القرآن: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: 9] قلت: قال العماد المقدسي في الطبقات: أكثر من قراءة القرآن، ولا تتركه فإنه يتيسر لك الذي تطلبه على قدر ما تقرأ؟ قال الراوي: وقد جربت ذلك فكنت إذا قرأت القرآن تيسر لي كتابة الحديث، وإذا لم أقرأ لم يتيسر لي.
وقال شيخنا محمد المختار: نخشى أن نخرج من الدنيا ولسنا من أهل القرآن، وقيام الليل، وما خشعتْ قلوبنا عند سماعه، أسأل الله العظيم أن يُحي قلوبنا بالقرآن العظيم.
3- أن يكثر من ذكر الله على الدوام: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 41] فضد الذكر النسيان، قلت: ورتب الله على الإكثار من ذكره الهداية، فقال سبحانه: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [النور: 43].
4- كثرة الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فهي من أجلّ القربات وأحسنها، وقد صلى الله عليه وملائكته تشريفًا له وتكريمًا، فيجب علينا معرفة منزلته؛ حتى نوقره ونجله، ونتقرب إلى الله بحبه.
يقول شيخنا محمد المختار: سلْ نفسك كم تصلي عليه في يومك وأسبوعك؟ بل إن البعض يجلس في مجلس العلم ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يسلم وممكن أن يسلم بقلبه، وأقل ما فيها المخالفة.
بقي تنبيه: لا تصلي عليه مباشرة بل قل اللهم صلّ وسلم وبارك عليه، هذا اختصارًا والأفضل الوارد كالتشهد الأخير.
فوائد الصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم -:
إن من أكثر من الصلاة عليه، أخرجه الله من الظلمات إلى النور، وتأتي الصلاة من الله على نبيه بمعنى الثناء عليه في الملأ الأعلى، والصلاة من الله على عباده بمعنى الرحمة، ومن الملائكة بمعنى الدعاء، ثبت في مسند أحمد والأربعة: «من صلّى عليّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا».
الأوقات التي يُندب فيها الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة:
1- في الصباح والمساء: ثبت عند الإمام الطبراني بسند رجاله ثقات، عن أبي الدرداء – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من صلى علي حين يصبح وحين يمسي عشرًا أدركته شفاعتي يوم القيامة».
2- الصلاة عليه في أي موطن: أو في أي مجلس نجلس فيه، ثبت في مسند أحمد والترمذي عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وما جلس قوم لم يذكروا الله، ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترةً وأمرهم إلى الله، إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم».
3- الصلاة عليه يوم الجمعة: قال شيخنا الشنقيطي: إن كثرة الصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة أفضل من قراءة القرآن، لا من حيث الجنس، ولكن من جهة المتابعة للنبي - صلى الله عليه وسلم -. فقد ثبت في مسند أحمد وأبي داود عن أوس بن أوس – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أكثروا عليّ من الصلاة يوم الجمعة؛ فإن صلاتكم معروضة عليّ فيه» فقال الصحابة: يا رسول الله كيف تعرض عليك وقد أرمت أو أَرمت عظامك؟ يعني: بليت، فقال: «إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء».
ألا تستحي أن تُعرض صلاتك على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنت قليل البضاعة يوم الجمعة، أو قليل العدد؟ إن حفظ حقّ النبي - صلى الله عليه وسلم - حفظ للدين، ومع الأسف، هذه السنة مهجورة عند الكثير من الناس، قال الإمام أحمد: «تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - تعظيم لله، إن موسى – عليه السلام – ضرب بعصاه البحر فانفلق، فكان كل فرق كالطود العظيم، وأعظم منه من تفجرّ الماء من بين أصابعه، من بين اللحم والدم، فصدر عنه ألف وخمسمائة، قال جابر: لو كنا مائة ألف لوسعنا».
5- الحرص على طلب العلم: جاء رجل إلى ابن عمر – رضي الله عنه – فقال له: علمني شيئًا أنال به خيرًا، فقال له: تفقه في دين الله، فأعاد عليه السؤال، فقال له: تفقه في دين الله، فقال السائل: ما أراه فهم، فأعاد عليه السؤال، فقال له: ويحك تفقه في دين الله، ينفعك القليل من العمل. رواه الخطيب؛ لأن من عَبَد الله على جهل كان ما يفسد أكثَر ممّا يصلح.
وفي الحديث: «من سلك طريقًا يلتمس به علمًا سهّل الله له به طريقًا إلى الجنة» رواه البخاري، من حديث سهل، ثبت عند الطبراني، عن حذيفة – رضي الله عنه - «فضل العلم خير من فضل العبادة، وخير الدين الورع» قال كاتب هذه الأسطر: لأن للعلم بركات، وللملك لمات، فأرجو لمن تعلم أن يقوده العلم إلى ثمراته، وأن يحول بينه وبين خطوات الشيطان.
6- الإكثار من الصوم: ثبت في مسند أحمد عن أبي أمامة – رضي الله عنه – قال أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: مُرني بعمل يدخلني الجنة فقال: «عليك بالصوم فإنه لا عدل له».
ومن فوائد الصوم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرشد إليه خصوصًا العاجز عن النكاح، ففي الصحيحين، عن ابن مسعود – رضي الله عنه - «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغضّ للبصر، وأحفظ للفرج، فإن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء» فجمع هذا الحديث حكمين وحكمتين.
7- الوضوء: فإنه من خصال الإيمان الخفية، فهو سلاح المؤمن، وشطر الإيمان، ولا يحافظ عليه إلا مؤمن.
8- لزوم جماعة المسلمين: والمراد بجماعة المسلمين الحقّ وأهله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119] ومن هنا، فإن من مصلحة المسلمين في دينهم ودنياهم اعتصامهم بحبل الله، يقول شيخنا محمد المختار: يحتاج المسلم زمان الفتن إلى وصية عظيمة مهمة، ألا وهي: الثبات على الحق، فلا يبالي بهذه الفتن مهما اشتدت، وإننا كل يوم نردد مئات المرات «الله أكبر» فهو أكبر وأعظم من كل شيء، وكلمة الله نافذة، ولا شك أن هذه الفتن تقرّح القلوب، لكن لا تثنيك عن العمل لأن الله يحب في الفتن أولي العزم، والعزمُ لا يأتي إلا بالصبر.
تمّت هذه المحصنات لشيخنا المبارك، ختم الله له، ولشيخنا محمد المختار بخاتمة السعداء، وبلّغنا وإياهم دار السعداء، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
دعاء نفيس
يقول العبد الخاضع الذليل، والعبد الحقير راجي رحمة ربه الكريم: تمت هذه الرسالة بحمد الله وتوفيقه، اللهم أنت المتفضل علينا بهذا العلم، فمن نحن حتى نقوم بهذا العمل لولا فضلك أولاً وآخرًا وظاهرًا وباطنًا، اللهم يا مالك الملك، يا من بيده خزائن كل شيء، أسألك أن تفتح أمامنا أبواب رحمتك، وظنّنا بك يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين، أن تغفر ذنوبنا، وتستر عيوبنا.
اللهم لا تفضحنا على رؤوس الأشهاد، وأدخلنا الجنة برحمتك، والله ما عندنا عمل يؤهلنا لدخول جنتك، ولا تقوى أبداننا على نارك، وقد وحّدناك وآمنا بك ونسألك أن تحفظنا من الشرك بك كلّه، وإذا لقيناك على التوحيد ومعنا رجاؤنا برحمتك، فأرجى ما عندنا توحيدنا بربنا، ورجاؤنا برحمة خالقنا، اللهم إنك قلت أنا عند حسن ظن عبدي بي.
اللهم إنا نحسن الظنّ بك أن تلقّينا من رحمتك وعفوك وإحسانك ومغفرتك، فوق ما نأمل ونرجو، واصرف عنا برحمتك من الشر والبلاء والأذى فوق ما نخاف ونحذر.
اللهم اجعل أعز اللحظات وأسعدها لحظة الخروج من الدنيا والمصير إليك.
اللهم لا تخرجنا من هذه الدنيا إلا بالرَّوْح والريحان، والرحمة والغفران، وأن تكون راضيًا عنا غير غضبان يا رحمان.
اللهم إنا نسألك ونحن ما زلنا في هذه الدنيا، وقبل المصير إليك، أن ترحمنا في تلك المنازل، إذا انقطع عنا القريب والبعيد، وأن تعيذنا من فتن القبور، ومن أهوال البعث والنشور.
اللهم الطف بنا إذا ضمتنا اللحود، وهجم على الأجساد الدود.
اللهم إني أعهد إليك في هذه الدنيا وقبل المصير إليك في تلك المنازل، أن تذكرنا فيها بالرحمة الواسعة.
اللهم إنا نسألك بعزتك وجلالك، وعظمتك وكمال إحسانك، أن لا تكلنا إلى أعمالنا، وأن تعاملنا بالحلم والرحمة.
اللهم أقل فيها عثراتنا، وآمن فيها روعاتنا، واسبغ علينا فيها شآبيب الرحمات، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.
اللهم ارحم فيها غربتنا ووحشتنا.
اللهم إنا نسألك بعظمتك أن تثقل موازيننا يوم العرض عليك، وأن ترحم ذلّ مقامنا، وعظيم تقصيرنا، وأن تعيذنا من فتن تلك القبور والمنازل، وأن تكون بنا برًا رحيمًا.
اللهم إنك أبرّ وأرحم، وأحلم من أن تأخذنا بذنوبنا وعيوبنا، يا أكرم من سُئل، ويا أوسع من أعطى، لا إله إلا أنت سبحانك، لا نحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.
وكتبها
عبد الرحمن بن يحيى التركي
حررت في 14/2/1425ﻫ