×
هذا الكتيب يبين معنى الكبر، وأسبابه وأنواعه، وآفاته، وآثاره، وعلاماته، وعلاجه.

 الكبر

زاهر بن محمد الشهري


 مقدمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم أجمعين. أما بعد:

فقد وردت آيات وأحاديث كثيرة في ذم الكبر والنهي عنه، وبيان أنه من أخلاق الكفار والفراعنة، وأن التواضع من أخلاق الأنبياء والصالحين، ولخطورة هذا الداء العضال – الكبر – واتصاف بعض الناس به لضعف إيمانهم، واهتمامهم بالمظاهر دون أن تكون القلوب موضع العناية التامة. ونتج من هذا الإهمال كثرة الأمراض في القلوب وتشعبت وأعضلت، وصعب شفاؤها. وقل أطباؤها، ومن وصل إلى هذا الحد فهو في خطر عظيم.

لذا رأيت أن أكتب عن الكبر مُجليًا معناه، مبينًا أسبابه، وأنواعه، وآفاته، وآثاره، وعلاماته، وعلاجه.

وهي لا تعدو أن تكون إشارات في كلمات، ووقفات لمن أراد النجاة من هذا اخلق السيء.

والله تعالى حسبي ونعم الوكيل

كتب

أبو محمد

زاهر بن محمد الخشرمي الشهري

ص.ب: 73690 - الخبر: 31952

 تعريف الكبر

الكبر بكسر الكاف وسكون الباء.

والكبر والتكبر والاستكبار متقارب. فالكبر الحالة التي يختص بها الإنسان من إعجابه بنفسه، وذلك أن يرى نفسه أكبر ن غيره.

والتكبر يأتي على وجهين:

أحدهما: أن تكون الأفعال الحسنة زائدة على محاسن الغير، ومن ثم وصف سبحانه وتعالى بالمتكبر.

والثاني: أن يكون متكلفًا لذلك متشبعًا بما ليس فيه، وهو وصف عامة الناس نحو قوله: ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ﴾ [غافر: 35].

والمستكبر مثله ([1]). وقد عرفه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «الكبر بطر الحق وغمط الناس»([2]).

 أسباب الكبر

لا يتكبر إلا من استعظم نفسه، ولا يستعظمها إلا وهو يعتقد لها صفة من صفات الكمال تميزه عل الغير وهي سبعة أسباب:

 1- العلم:

فما أسرع الكبر إلى بعض العلماء وطلاب العلم الذين لم يمنحوا نور التوفيق منه إلى غيرهم. فيستعظم نفسه ويستحقر الناس، ويستجهلهم، ويستخدم من خالطه منهم، وقد يرى نفسه عند الله تعالى أعلى وأفضل منهم فيخاف عليهم أكثر مما يخاف على نفسه، ويرجو لنفسه أكثر مما يرجو لهم. وسبب كبره بالعلم أمران:

أ- أن يكون اشتغاله بما يسمى علمًا، وليس علمًا في الحقيقة، فإن العلم الحقيقي ما يعرف به العبد ربه ونفسه. وهذا يورث الخشية والتواضع دون الكبر قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28].

ب- أن يخوض في العلم وهو خبيث الدخيلة، رديء النفس، سيئ الأخلاق، فإنه لم يشتغل أولاً بتهذيب نفسه، وتزكية قلبه بأنواع المجاهدات فبقي خبيث الجوهر، فإذا خاض في العلم صادف العلم من قلبه منزلاً خبيثًا فلم يطب ثمره، ولم يظهر في الخير أثره.

ولهذا قيل العلم ثلاثة أشبار، من دخل في الشبر الأول: تكبر، ومن دخل في الشبر الثاني: تواضع، ومن دخل في الشبر الثالث: علم أنه ما يعلم. فيا طلاب العلم تواضعوا واعلموا أن حجة الله على أهل العلم آكد. وشأن العلم أن يوجب مزيد الخوف والتواضع فكلما تحملت الأشجار بالثمار مالت أغصانها إلى الأرض ليجني منها المحتاجون ما لذ وطاب.

 2- الكبر بالعمل والعبادة:

وليس يخلو عن رذيلة الكبر، واستمالة قلوب الناس، كحال العباد فترشح منه الكبر في الدين والدنيا، أما في الدنيا فهو أنهم يوقعون ذكرهم بالورع والتقوى وتقويمهم على سائر الناس وكأنهم يرون عبادتهم منة على الخلق.

وأما ما في الدين فهو أن يرى الناس هالكين ويرى نفسه ناجيًا، وهو الهالك تحقيقًا مهما رأى ذلك. قال - صلى الله عليه وسلم -: «إذا سمعتم الرجل يقول هلك الناس فهو أهلكهم» وإنما قال ذلك لأن هذا القول منه يدل على أنه مزدر بخلق الله، مغتر بالله، آمن من مكره، غير خائف من سطوته، وكيف لا يخاف؟ ويكفيه شرًا احتقاره لغيره.

وبعض العباد إذا استخف به مستخف أو آذاه مؤذ، استبعد أن يغفر الله له، ولا شك في أنه صار ممقوتًا عند الله، وذلك لعظم قدر نفسه عنده وهو جهل. وقد ينتهي الحمق والغباوة ببعضهم إلى أن يتحدى ويقول: سترون ما يجري عليه، وإذا أصيب بنكبة زعم أن ذلك من كراماته، وأن الله ما أراد إلا الانتقام له مع أنه يرى طبقات من الكفار يسبون الله ورسوله. وعرف جماعة آذوا الأنبياء صلوات الله عليهم، فمنهم من قتلهم، ومنهم من ضربهم، ثم إن الله أمهل أكثرهم ولم يعاقبهم في الدنيا، بل ربما أسلم بعضهم، فلم يصبه مكروه في الدنيا ولا في الآخرة أفيظن هذا الجاهل المغرور أنه أكرم على الله من أنبيائه؟! وأنه قد انتقم له بما لم ينتقم لأنبيائه به؟! ولعله في مقت الله بإعجابه وكبره وهو غافل؟.

فهذه عقيدة المغترين. وأما الأكياس من العباد فيقولون ما كان يقوله بعض السلف بعد انصرافه من عرفات: «كنت أرجو الرحمة لجميعهم لولا كوني فيهم» فانظر إلى الفرق بين الرجلين؛ هذا يتقي الله ظاهرًا وباطنًا، وهو وجل على نفسه مزدرٍ لعمله.

وذاك يضمر من الرياء والكبر والغل ما هو ضحكة للشيطان به. ثم إنه يمتن على الله بعمله.

ومن آثار الكبر في العابد أن يعبس وجهه كأنه متنزه عن الناس مستقذر لهم، وليس يعلم المسكين أن الورع ليس في الجبهة حتى تُقطب، ولا في الرقبة حتى تُطأطأ، ولا في الذيل حتى يُضم، إنما الورع في القلوب فقد كان - صلى الله عليه وسلم - أكرم الخلق وأتقاهم وكان أوسعهم خلقًا وأكثرهم بشرًا وتبسمًا وانبساطًا كما قال تعالى: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: 215].

 3- الكبر بالحسب والنسب:

فالذي له نسب شريف يستحقر من ليس له ذلك النسب، وإن كان أرفع منه عملاً وعلمًا، وقد يتكبر بعضهم فيأنف من مخالطة الناس ومجالستهم، وقد يجري على لسانه التفاخر به، فيقول لغيره: من أنت ومن أبوك؟ فأنا فلان بن فلان، ومع مثلي تتكلم!! قيل لرجل عظيم الكبر: ألا تأتي الخليفة.

قال: أخشى ألا يحمل الجسر شرفي.

وقيل له: ألا تلبس فإن البرد شديد.

قال: حسبي يدفئني.

فمن يعتريه الكبر من جهة النسب فليداو قلبه، بمعرفة أن هذا جهل من حيث إنه تعزَّز بكمال غيره ولذلك قال الشاعر:

لئن فخرت بآباء ذوي نسب

لقد صدقت ولكن بئس ما ولدوا

ومن كان خسيسًا، فمن أين تجبر خسته بكمال غيره، وليداوي قلبه كذلك بمعرفة نسبه الحقيقة أعني: أباه وجده، فإن أباه القريب نطفة، وجده البعيد تراب. وقد عرف الله تعالى نسبه فقال:

﴿وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ﴾ [السجدة: 7، 8]. فإذا كان أصله من التراب وفصله من النطفة فمن أين تأتيه الرفعة؟! فهذا هو النسب الحقيقي للإنسان، ومن عرفه لا يتكبر بالنسب.

 4- الكبر بالجمال:

وأكثر ما يجري بين النساء ونحوهن، ويدعو ذلك إلى التنقص والثلب والغيبة وذكر عيوب الناس.

ودواؤه أن ينظر المتكبر إلى باطنه نظر العقلاء، ولا ينظر إلى الظاهر نظر البهائم، ومهما نظر إلى باطنه رأى من القبائح ما يكدر عليه تعززه بالجمال، إذ خلق من أقذار ووكل به في جميع أجزائه الأقذار، وسيموت فيصير جيفة أقذر من سائر الأقذار، وجماله لا بقاء له، بل هو في كل حين يتصور أن يزول بمرض أو سبب من الأسباب كحرق أو قرحة أو برص أو تشويه، فكم من وجوه جميلة قد قبحت بهذه الأسباب. فمعرفة ذلك تنزع من القلب داء الكبر بالجمال لمن أكثر تأملها:


يا مظهر الكبر إعجابًا بصورته

انظر خلاك فإن النتن تثريب

لو فكر الناس فيما في بطونهم

ما استشعر الكبر شبان ولا شيب

هل في ابن آدم مثل الرأس مكرمةً

بأربع هو في الأقذار مضروب

أنف يسيل وأذن ريحها سهك ([3])

والعين مرفضة ([4]) والثغر ملعوب ([5])

يا ابن التراب ومأكول التراب غدًا

أقصر فإنك مأكول ومشروب

 5- التكبر بالمال:

وأكثر ما يجري بين أرباب الدنيا من المناصب والمتاجر وغيرها، فيستحقر الغني الفقير ويتكبر عليه. وكل هذا تكبر بمعنى خارج عن ذات الإنسان، وهو من أقبح الكبر، فإن المتكبر بماله أو عقاره لو ذهب ماله أو انهدم عقاره أو تلف لعاد في لحظة ذليلاً من أذل الخلق. ولو تأمل هذا المتكبر لرأى في اليهود والنصارى وغيرهم من الكفرة من يزيد عليه في المال والتجمل والثروة، فأف لشرف يسبقه به يهودي ونحوه، ويأخذه سارق في لحظة فيعود صاحبه ذليلاً حقيرًا مفلسًا!

 6- التكبر بالقوة وشدة البطش والكبر به على أهل الضعف:

وينبغي لمن كانت هذه حاله أن يعلم أن القوة لله جميعًا، ويعلم ما سلط عليه من العلل والأمراض، وأنه لو أصابه عود يسير ودخل في لحمه لأقلق راحته، وأقض مضجعه، ولو وجع أصبع أو عرق من عروق بدنه لتألم وصار أعجز من كل عاجز، وأذل من كل ذليل، وأن البعوضة والجرثومة الدقيقة إذا سلطت عليه أهلكته، وإن حمى ساعة تحلل من بدنه ما لا ينجبر بالمدة الكثيرة.

فمن كان هذه حاله فلا يليق به الكبر، ثم من البهائم ما هو أقوى بكثير منه، وأي افتخار وتعاظم في صفة يسبقه فيها الحمار والبغل، والثور، والفيل. وصدق الشاعر:

ولا تمشي فوق الأرض إلا تواضعًا

فكم تحتها قوم همو منك أرفع

وإن كنت في عز رفيع ومنعةٍ

فكم مات من قوم همو منك أمنعُ

 7- التكبر بالاتباع والأنصار والعشيرة والأقارب. ويقال لها: كثرة الشعبية:

وهذا تكبر بأمر خارج عن ذات الإنسان، وكل متكبر بأمر خارج عن ذاته فهو من أجهل الخلق.

فيا أخي:

تواضع إذا ما نلت في الناس رفعة

فإن رفيع القوم من يتواضع

 أنواع الكبر

الكبر أنواع ثلاثة:

الأول: الكبر على الله تعالى. وهو أفحش أنواع الكبر، لأن الإنسان الضعيف المخلوق من ماءٍ مهين، الذي يصرعه أضعف الحيوانات إذا سلطه الله عليه، لا يليق به ولا يحل له أن يتكبر على من خلقه وأوجده ومنه يستمد بقاءه ويحتاج إليه في كل لحظة وفي كل حركة وسكون.

ومن جهل قدر به فهو من بهيمة الأنعام أو أضل، كما أخبر الله عمن استكبروا عليه وعلى رسله، وكيف يجهل الإنسان قدر إلهه القادر القاهر الذي أبدع العالم على أحسن إحكام وأدق تكوين وله سبحانه في كل جزء من خلقه شاهد واضح الدلالة، وحجة ظاهرة البيان، تدل على أنه هو ذلك الصانع الذي ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11] فمن تكبر على الله فلم يؤمن بذاته وصفاته، أو استكبر عن عبادته فإنه سيرى نتيجة كبريائه ذلاً وصغارًا وعذابًا أليمًا يوم البعث والنشور، فضلاً عما يصيب كثيرًا من المتكبرين عن عبادة الله من الانتقام الدنيوي، كما وقع للنمرود وفرعون وغيرهم من المتكبرين ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر: ].

ومن صور المتكبرين على الله تعالى ما روي أن رجلاً كان جالسًا في طريق فمرت به امرأة فقالت: يا عبد الله كيف الطريق؟

فقال: يا هناة.. أمثلي يكون من عبيد الله؟

وخطب رجل آخر في الناس، فلما انتهى من خطبته قال له بعض الناس:

أكثر الله من أمثالك. فقال لهم: لقد كلفتم الله شططًا؛ أي أمرًا بعيدًا أو مشقًا! نعوذ بالله تعالى من حاله.

وآخر أضل راحلته فالتمسها فلم يجدها فقال: إن لم يرد الله إلى راحلتي لا صليت له صلاة أبدًا، فالتمسها الناس فوجدوها فقالوا له: قد رد الله عليك راحلتك فصلِّ، فقال: إن يميني يمين مصرًا. كأنه يهدد الله. نعوذ بالله من الخذلان.

فاحذر يا أخي أن تستكبر عن عبادة الله فإن الكبر ينافي حقيقة العبودية، وكل من استكبر عن عبادة الله لابد أن يعبد غيره فإن الإنسان يتحرك بالإرادة. فمن لم يكن الله معبوده ومنتهى حبه وإرادته بل استكبر عن ذلك فلابد أن يكون له مراد محبوب يستعبده غير الله. فيكون عبدًا لذلك المراد المحبوب: إما المال، وإما الجاه، وإما الصور، وإما ما يتخذه إلهًا من دون الله كالشمس والقمر والكواكب والأوثان وقبور الأنبياء والصالحين، أو من الملائكة والأنبياء الذين يتخذهم أربابًا، أو غير ذلك مما عبد من دون الله.

بل الاستقراء يدل على أنه كلما كان الرجل أعظم استكبارًا عن عبادة الله كان أعظم إشراكًا بالله؛ لأنه كلما استكبر عن عبادة الله ازداد فقره وحاجته إلى المراد المحبوب الذي هو المقصود: مقصود القلب بالقصد الأول، فيكون مشركًا بما استعبده من ذلك.

الثاني: الكبر على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن يمتنع من الانقياد له تكبرًا وجهلاً وعنادًا كما حكى الله ذلك عن كفار مكة حيث قالوا: ﴿لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: 31]، وقال تعالى مبينًا حال المستكبرين من دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم -: ﴿وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا﴾ [الفرقان: 41].

ولما انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف، عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم وهم إخوة ثلاثة، فجلس إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعاهم إلى الله، وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام، والقيام على من خالفه من قومه. فقال له أحدهم: هو يمرط [يمزق] ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك.

وقال الآخر: أما وجد الله أحدًا يرسله غيرك!

وقال الثالث: والله لا أكلمك أبدًا، لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطرًا من أن أراد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك.

ومن الإستكبار على النبي - صلى الله عليه وسلم - ما نسمعه ونقرأه من الإستهانة بسنته والزعم أنها قشور لا تناسب العصر، وردها بالعقل. فعندما تأمر أحدهم بإعفاء لحيته، وعدم إسبال ثوبه، والأكل باليمين وغيرها، يصيح في وجهك قائلاً: الدين ليس في اللحية والثوب والأكل باليمين هذه أمور هينة.. هذه قشور وغيرها من الكلمات التي قد تخرج قائلها من الإسلام.

وإلى هؤلاء وأمثالهم نقول لهم: يا أيها المتكبرون قفوا واستمعوا إلى إياس بن سلمة بن الأكوع يحدثنا أن أباه حدثه أن رجلاً آكل عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشماله – نعم بشماله – فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كل بيمينك» قال: لا أستطيع. قال: «لا استطعت ما منعه إلا الكبر».

فما كان جزاؤه.. وما عاقبة استكباره عن الأكل باليمين؟

قال الراوي: فما رفعها إلى فيه.

لقد شلت يده لمخالفته سنة واحدة فقط وهي الأكل باليمين، فكيف بمن يخالف السنن الكثيرة، بل ويرد الواجبات الشرعية – تكبرًا – بزعمه أنها قشور لا تناسب القرن الحالي والتطور والتقدم!!

الثالث: التكبر على العباد بأن يستعظم نفسه ويحتقر غيره، ويزدريه، فيأبى على الانقياد له أو يترفع عليه. ويأنف من مساواته، وهذا من شر الرذائل وأسوء الصفات؛ لأن فيه منازعة لله في صفة لا تليق إلا بجلاله، فهو كعبد أخذ تاج ملك وجلس على سريره فما أعظم استحقاقه للمقت، وأقرب استعجاله للخزي ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يقول الله: العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني واحدًا منهما عذبته».

فالعظمة والكبرياء من خصائص الربوبية.

والتكبر على العباد لا يليق إلا به تبارك وتعالى، فمن تكبر عليهم فقد جنى عليه، إذ من استذل خواص غلمان الملك منازع له في بعض أمره وإن لم يبلغ قبح من أراد الجلوس على سريره.

ونصيب المتكبر على الناس أن يزدروه ويحتقروه ويمتهنوه ويمقتوه، ويعملوا خلاف ما يفهمون أنه يحبه منهم حتى يَدعوه يغلي من معاملتهم غيظًا وحقدًا، ولو أمكن الناس أن يجعلوا المتكبر دائمًا في غموم وهموم لما تأخروا عن ذلك، فالناس لهم كرامة يفعلون بمن يكرهونه من أجل أنه يحتقرهم ويمتهن كرامتهم، ويرى نفسه فوقهم فهم يدركون أنه لئيم لا يتواضع إلا إذا أهنته، ولا يعرف نفسه إلا إذا احتقرته وعاملته مثل معاملته، وإنه ينطبق عليه قول الشاعر:

في الناس من لا يرتجي نفعه

إلا إذا مس بأضرار

كالعود لا تطمع في ريحه

إلا إذا أحرق بالنار

 آفات الكبر

للكبر آفات عظيمة جمعها النبي - صلى الله عليه وسلم - في كلمتين جامعتين وهي قوله: «الكبر بطر الحق وغمط الناس»([6]).

الآفة الأولى: بطر الحق، أي رده.

إن مَن سمع الحق مِن عبد من عباد الله واستنكف عن قبوله وتشمر لجحده، فما ذاك إلا للترفع والتعاظم، واستحقاره غيره، حتى يأبى أن ينقاد له، وذلك سر أخلاق الكافرين والمنافقين.

فكل من يتضح له الحق على لسان أحد، ويأنف من قبوله أو يناظر للغلبة والإفحام، لا ليغتنم الحق إذا ظفر به، فقد شاركهم في هذا الخلق، وكذلك من تحمله الأنفة على عدم قبول الوعظ ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ﴾ [البقرة: 206].

الآفة الثانية: غمط الناس:

أي ازدراؤهم واستحقارهم، فكل من رأى أنه خير من أخيه، واحتقر أخاه وازدراه، ونظر إليه بعين الاستصغار، فقد تكبر ونازع الله تعالى في حقه.

 آثار الكبر

للكبر آثار تظهر على الجوارح في المشي والقيام والجلوس والأقوال والحركة والسكون وغيرها فمن ذلك:

1- أن المتكبر إن سمح بممشاه مع الناس يكون متقدمًا عليهم حريصًا جدًا أن يكونوا كلهم خلفه، وقد كان عبد الرحمن بن عوف لا يعرف من بين عبيده إذ كان لا يظهر في صورة ظاهرة.

2- المتكبر إن جلس مع الناس ورضي أن يكونوا جلساءه، تجده محتفظًا بصدر المجلس مستقلاً به، ويستنكف من جلوس غيره بالقرب منه، ويسره أن يصغوا إلى كلامه، ويؤلمه كلام غيره، وتجده ينتظر من الناس أن يتلقوا كلامه بالقبول والتصديق. ورضي الله عن عمر بن الخطاب حيث قال: رأس التواضع أن ترضى بالدون من المجلس.

3- من آثار الكبر تصغير الخد، والنظر شزرًا. وهو نظر الغضبان بمؤخر عينه.

4- ومن آثار الكبر ما يظهر في صوت المتكبر ونغمته وصيغة كلامه في الإيراد. وقد قيل لأحمق تكبر وقام ساخطًا على أستاذه لماذا قمت؟ فقال: دخلت ولم يحترمني، وجلست فلم يكرمني، ولم يدر من أنا واستشهد بقول الشاعر:

ولو كان إدراك الهدى بتذلل

رأيت الهدى أن لا أميل إلى الهدى

5- ومن آثار الكبر ما يظهر في مشية المتكبر وتبختره وحركاته.

عن أبي بكر الهذلي قال: بينما نحن مع الحسن إذ مر عليه ابن الأهتم يريد المنصور وعليه جباب خز، قد نضد ([7]) بعضها فوق بعض على ساقه وانفرج عنها قباؤه وهو يمشي ويتبختر، إذ نظر إليه الحسن نظرة فقال: أف أف، شامخ بأنفه، ثاني عطفه، مصعِّر خده، ينظر في عطفيه. أي حميق ينظر في عطفيه في نعم غير مشكورة ولا مذكورة، غير المأخوذ بأمر الله فيها، ولا المؤدي حق الله منها. والله أن يمشي أحدهم طبيعته يتلجلج تلجلج المجنون في كل عضو منه نعمة وللشيطان بها لعنة، فسمعه ابن الاهتم فرجع يعتذر إليه، فقال لا تعتذر إلي وتب إلى ربك، أما سمعت قول الله تعالى: ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا﴾ [الإسراء: 37].

6- ومن آثار الكبر أن لا يتعاطى المتكبر شغلاً في بيته. وهو خلاف التواضع وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كما روت عائشة في مهنة أهله يعني خدمتهم.

روى أن عمر بن عبد العزيز أتاه ليلة ضيف وكان يكتب، فكاد السراج يطفأ. فقال الضيف: أقوم إلى المصباح فأصلحه؟ فقال: ليس من كرم الرجل أن يستخدم ضيفه. قال: أفأنبه الغلام؟ فقال: هي أول نومة نامها. فقام فأخذ البطَّة فملأ المصباح زيتًا، فقال الضيف: قمت أنت بنفسك يا أمير المؤمنين! فقال: ذهبت وأنا عمر            و رجعت وأنا عمر ما نقص مني شيء. وخير الناس من كان عند الله متواضعًا.

7- ومن آثاره أن لا يحمل متاعه إلى بيته ولو كان لا يثقله.

وهو خلاف التواضع. قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: لا ينقص الرجل الكامل من كماله ما حمل من شيء إلا عياله.

وقال ثابت بن مالك: رأيت أبا هريرة أقبل من السوق يحمل حزمة حطب وهو يومئذ خليفة لمروان، فقال: أوسع الطريق للأمير يا ابن مالك.

وقال أصبغ بن نباته: كأني أنظر إلى عمر - رضي الله عنه - معلقًا لحمًا في يده اليسرى وفي يده اليمنى الدرة يدور في الأسواق حتى دخل رحله.

8- ومن آثاره إمالة العقال إلى الجبهة أو إلى جانب الرأس فخرًا وتكبرًا وبطرًا. ولسان حال من هذا فعله يقول: ها أنا ذا فاعرفوني!!

قد عرفناك يا أحمق مقتك الله ومقتك الصالحون.

9- ومن آثاره إسبال الثياب مع التفاخر بها، والتزين والتجمل بذلك للشهرة والمخيلة.

وأما طلب التجمل لذاته في غير سرف ولا مخيلة فليس من الكبر، والمحبوب الوسط من اللباس الذي لا يوجب شهرة بالجودة ولا بالرداءة وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير سرف ولا مخيلة»([8]).

حكى أن مطرف بن عبد الله بن الشخير نظر إلى المهلب بن أبي صفرة وعليه حلة يسحبها ويمشي الخيلاء. فقال مطرف للمهلب: يا عبد الله ما هذه المشية التي يبغضها الله ورسوله فقال المهلب: أما تعرفني وتنهاني مما رأيت. فقال: بل أعرفك، أولك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة وحشوك فيما بين ذلك بول وعذرة.

فلا تمشي يومًا في ثياب مخيلة

فإنك من طين خلقت وماء

ولله نعماء علينا عظيمة

ولله إحسان وفضل عطاء

وما الدهر يومًا واحدًا في اختلافه

وما كل أيام الفتى بسواء

ازور قبور المترفين فلا أرى

بهاءً وكانوا قبل أهل بهاء

عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأذني هاتين يقول: «من جر إزاره، لا يريد بذلك إلا المخيلة، فإن الله لا ينظر إليه يوم القيامة»([9]). وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بينما رجل يمشي قد أعجبته جمته وبرداه، إذ خسف به الأرض، فهو يتجلجل في الأرض حتى تقوم الساعة»([10]).

10- ومن آثاره أن المتكبر يحب قيام الناس له أو بين يديه.

روى عن علي بن أبي طالب أنه قال: من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى رجل قاعد وبين يديه قوم قيام.

وقال أنس - رضي الله عنه -: لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له لما يعلمون من كراهته لذلك.

11- ومن آثاره أن لا يتواضع بالاحتمال إذا سُب وأوذي وأخذ حقه، فذلك هو الأصل.

12- ومنها أن لا يزور غيره، وإن كان يحصل من زيارته خير لغيره في الدين وهو ضد التواضع.

13- ومنها أن المتكبر لا يبدأ من لقيه بالسلام، وإن رد عليه رأى أنه قد بالغ في الأنعام عليه.

قال عمر - رضي الله عنه -: رأس التواضع أن تبدأ بالسلام على من لقيت من المسلمين.

14- ومنها أن المتكبر يعامل غيره معاملة الاستئثار لا الإيثار ولا الإنصاف، ذاهب بنفسه تيهًا.

15- ومنها أنه لا يرى لأحد عليه حقًا، ويرى حقوقه على الناس، ولا يرى فضلهم عليه ويرى فضله عليهم. فلا ينطلق لهم وجهه، ولا يسعهم خلقه.

وفي الجملة فآثار الكبر كثيرة يجمعها أن المتكبر لا يقدر على أن يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه، ولا يقدر على التواضع. وهو رأس أخلاق المتقين، ولا يقدر على ترك الحقد، ولا يقدر أن يدوم على الصدق ولا يقدر على ترك الغصب، ولا يقدر على كظم الغيظ، ولا يقدر على ترك الحسد.

 علاج الكبر

ذكر العلماء للكبر علاجًا مع ما سبق تضمينه في الصفحات السابق ومن ذلك:

أولاً: أن يعرف الإنسان ربه ويعرف نفسه، فإنه إذا عرف ربه حق المعرفة علم أنه لا تليق العظمة والكبرياء إلا بالله، وإذا عرف نفسه علم أنه ضعيف ذليل لا يليق به إلا الخضوع لله والتواضع والذلة. قال الله تعالى: ﴿قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ﴾ [عبس: 17-22] وقال تعالى: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾ [الإنسان: 1].

وفي الآيات الإشارة إلى أول خلق الإنسان وإلى آخر أمره وإلى وسطه.

أما أوله فهو أنه لم يكن شيئًا مذكورًا وقد كان في حيز العدم دهورًا، ثم خلقه العزيز الحكيم من تراب، ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم جعله عظامًا، ثم كسا العظام لحمًا.

فمن كان هذا أوله، وهذا أحواله، فمن أين له البطر والأشر والكبرياء والخيلاء؟ وهو الضعيف الحقير بالنسبة إلى قدرة الباري جل وعلا وأما آخره فهو الموت، ومعناه أنه يسلب روحه وسمعه وبصره وعلمه وقدرته وحسه وإدراكه وحركته، فيعود كما كان جمادًا لا يبقى إلا شكل أعضائه وصورته فيه ولا حركة. ثم يوضع في هذا التراب فيصير جيفة منتنًا، كما كان في الأول نطفة مذرة، تبلى أعضاؤه وتتفتت أجزاؤه، وتنخر عظامه، ويصير رميمًا رفاتًا ويأكل الدود أجزاءه. ويكون جيفة يهرب منه كل حيوان ويستقذره كل إنسان، وليته بقي كذلك، لا بل يحييه الله تعالى بعد طول البلى، ليقاسي شديد البلاء، فيخرج من قبره إلى أهوال القيامة، فينظر إلى قيامه قائمة، وسماء مشققة منفرجة، وأرض مبدلة، وجبال مسيرة، ونجوم منكدرة، وشمس منكسفة، وأحوال مظلمة، وملائكة غلاظ شداد، وجهنم تزفر، وجنة ينظر إليها المجرم فيتحسر، ويرى صحائف منشورة فيقال: «اقرأ كتابك» فيه جميع عمله من أوله إلى آخره ﴿يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ﴾ [القيامة: 13].

فما لمن هذا حاله والتكبر والتعظم؟ بل ماله وللفرح فضلاً عن البطر؟! فقد ظهر له أول حاله ووسطه، ولو ظهر آخره – والعياذ بالله تعالى – ربما اختار أن يصير مع البهائم ترابًا، ولا يكون إنسانًا يسمع خطابًا أو يلقى عذابًا، فمن هذا حاله في العاقبة – إلا أن يعفو الله عنه وهو على شك من العفو – فكيف يفرح ويبطر، وكيف يتكبر ويتجبر، حقًا يكفيه ذلك حزنًا وخوفًا وإشفاقًا ومهانة وذلاً.

ثانيًا: التواضع لله بالفعل، ولسائر الخلق بالمواظبة على أخلاق المتواضعين المتبعين لطريقة سيد المرسلين.

وإليك طرفًا من تواضعه - صلى الله عليه وسلم - فقد جاءته امرأة فقالت: إن لي إليك حاجة. فقال: «اجلسي في أي طريق المدينة شئت أجلس إليك».

وكان عليه الصلاة والسلام يعود المريض، ويشهد الجنائز، ويركب الحمار، ويجيب دعوة العبد، وكان يطعم الطعام، ويفشي السلام، ويحسن الجوار، ويوقر ذا الشيبة، ويصلح بين الناس، وكان يجلس حيث ينتهي به المجلس، ويكره القيام له، ويقعد الأطفال في حجره، ويفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه، ويردف خلفه، ويضع طعامه على الأرض ويقول: «إنما أنا عبد أكل كما يأكل العبد» وكان يسلم على الصبيان ويلاعبهم وربما حملهم على ظهره الشريفة عليه الصلاة والسلام.

فيا أخي.. ليكن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدوتك وأسوتك، وتشبه بالسلف الصالح في تواضعهم.

تواضع تكن كالنجم لاح لناظرٍ

على صفحات الماء وهو رفيع

ولا تك كالدخان يعلو بنفسه

إلى طبقات الجو وهو وضيع

خرج عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى الشام ومعه أبو عبيدة فأتوا على مخاضة وعمر على ناقة له فنزل وخلع خفيه فوضعهما على عاتقه وأخذ بزمام ناقته فخاض، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين أنت تفعل هذا ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك، فقال: أوه، لو يقول هذا غيرك أبا عبيدة جعلته نكالاً لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله.

وكان سلمان الفارسي أميرًا بالمدينة فاشترى رجل من عظمائها شيئًا فمر به سلمان فحسبه علجًا. فقال: تعالى فاحمل هذا، فحمله سلمان فجعل يتلقاه الناس ويقولون: أصلح الله الأمير، نحن نحمل عنك، فأبى أن يدفع إليهم. فقال الرجل في نفسه: ويحك إني لم أسخِّر إلا الأمير فجعل يعتذر إليه ويقول لم أعرفك أصلحك الله. فقال: انطلق فذهب به إلى منزله ثم قال: لا أسخِّر أحدًا أبدًا.

فهؤلاء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان خلقهم التواضع، وكانوا أعزاء عند الخلق، وعند الملائكة، وعند الله سبحانه وتعالى.

إذا شئت أن تزداد قدرًا ورفعة

فلن وتواضع واترك الكبر والعجب

والعاقل إذا رأى من هو أكبر سنًا منه تواضع له، وقال: سبقني إلى الإسلام. وإذا رأى من هو أصغر سنًا منه تواضع له، وقال: سبقته بالذنوب، وإذا رأي من هو مثله عدَّه أخًا. ولا يجب استحقار أحدٍ، لأن العود المنبوذ ربما انتفع به فحك الرجل به أذنه.

ثالثًا: التأمل في عاقبة الكبر السيئة ومن ذلك:

أ- أنه سبب لصرف صاحبه عن فهم آيات الله تعالى، والاهتداء بها كما في قوله تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ [الأعراف: 146].

ب- أنه سبب لسوء الخاتمة. وتأمل معي هذه القصة التي وقعت لجبلة بني الأيهم الغساني ملك غسان وكيف أن الكبر أوصله إلى الردة عن الدين الإسلامي. فإنه أسلم فركب في خلق كثير من قومه إلى المدينة واستقبله عمر بن الخطاب ورحب به وأدنى مجلسه، وشهد الحج مع عمر. فبينما هو يطوف بالكعبة إذا وطئ إزاره رجل من بني فزارة، فانحل الإزار فغضب جبلة، إذ كان حرسه وجنوده يفسحون له الطريق فلا يعرف الزحام، فلما رأى إزاره على الأرض مد يده إلى الفزاري ولطمه لطمة شديدة هشمت أنفه، وقيل: قلع عينه بتلك الضربة. فشكاه الفزاري إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فاستدعى عمر جبلة، وسأله عن صحة قول الفزاري، فاعترف جبلة بذلك فقال له عمر: أقده من نفسك. قال: كيف وأنا ملك وهو سوقة من عامة الناس؟ قال له عمر: إن الإسلام جمعك وإياه فلست تفضله إلا بالتقوى، فهي ميزان الإسلام بين الناس.

فقال جبلة: قد كنت أظن أن أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية، فقال عمر: دع ذا عنك، فإن لم ترضى، أقدته أنا وأعطيته حقه منك قال: إذًا أخرج من الإسلام وأتنصر كما كنت. قال: إن تنصرت ضربت عنقك؛ لأنك مرتد.

فأخذ جبلة يفكر في أمره وأخذته العزة بالإثم، فلما رأى الجدَّ من عمر قال: سأنظر في أمري هذه الليلة، فانصرف من عند عمر، فلما ادلهم الليل ركب في قومه ومن أطاعه وسار إلى الشام، ودخل بلاد الروم، واستأذن على هرقل فأذن له فلما دخل عليه أعلن النصرانية بين يديه، وترك الإسلام، فرحب به هرقل وفرح بذلك، ومات جبلة على النصرانية.

رابعًا: معرفة ما أعده الله للمتكبرين في الآخرة من الوعيد الشديد:

عن حارثة بن وهب الخزاعي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضاعف لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جوَّاظ مستكبر»([11]).

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تحاجت الجنة والنار. فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين»([12]).

وعن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان، ويساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس، تعلوهم نار الأنيار، يسقون من عصارة أهل النار. طينة الخبال».

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم» وفي رواية: «ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل ([13]) مستكبر»([14]).

والنصوص في بيان عاقبة الكبر الأخروية كثيرة.

خامسًا: أن صاحب الكبر لا يحبه الله تعالى كما في قوله: «لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين».

سادسًا: الدعاء: بأن يعيذك الله تعالى من الكبر والتعاظم والخيلاء فإن من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء» (صحيح الجامع 1298).

وقد استعاذ موسى u من المتصف بالكبر ولا يستعاذ إلا مما هو شر ﴿وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ﴾ [غافر: 27].

وسل العياذ من التكبر والهوى

فهما لكل الشر جامعتان

وهما يصدان الفتى عن كل طر

ق الخير إذ في قلبه يلجان

فتراه يمنعه هواه تارةً

والكبر أخرى ثم يجتمعان

والله ما في النار إلا تابع

هذين فاسأل ساكني النيران

اللهم إنا نعوذ بك من الكبر والتعاظم والبطر والخيلاء، ونسألك التواضع في غير مذلة، والعزة في غير كبر.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.


ذكر بعض المراجع لمن أراد مزيد الفائدة

1- تهذيب موعظة المؤمنين للشيخ جمال الدين القاسمي.

2- الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيتمي.

3- الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي.

4- صفة الصفوة لابن الجوزي.

5- موارد الظمآن لدروس الزمان لعبد العزيز السلمان.

6- مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية.

7- تنبيه الغافلين للعالم الفقيه السمرقندي.

8- الروح لابن القيم.

9- الأعمال بالخواتيم لسعد بن سعيد الحجري.

10- روضة العقلاء ونزهة الفضلاء لابن حبان البستي.



([1]) انظر: فتح الباري، 10/ 600.

([2]) انظر ص21.

([3]) سهك: كريه.

([4]) مرفضة: سائلة.

([5]) ملعوب: ذو لعاب.

([6]) رواه مسلم برقم 131.

([7]) وضع.

([8]) صحيح الجامع (4505).

([9]) رواه مسلم رقم (2085).

([10]) رواه مسلم (2088).

([11]) رواه البخاري (الفتح 6071).

([12]) رواه البخاري (4569).

([13]) العائل: الفقير.

([14]) رواه مسلم (107).