×
No Description

 الدرة البهية شرح القصيدة التائية  في حل المشكلة القدرية

لشيخ الإسلام ابن تيمية

شرح العلامة الشيح عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي

غفر الله له ولوالديه وجميع المسلمين

اعتنى به

محمد بن سليمان بن عبد العزيز آل بسام المدرس في المسجد الحرام سابقاً

دار ابن الجوزي

بسم لله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أرجو بها النجاة يوم العرض على الله، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، المصطفى من بريته المبعوث رحمة للعالمين وحجة على من بعث فيهم إلى يوم الدين، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته وتابعيهم أجمعين.

أما بعد؛ فإن شرح القصيدة التائية في القدر لشيخ الإسلام ابن تيمية، قد شرحها شيخنا العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي في آخر حياته وطبعت بعد وفاته، ومع الأسف أنها طبعة محرفة مغلوطة، حيث حرفها الذي علّق عليها مع أنه باعترافه أنه مشروط عليه عدم التعليق.

ولكنه خان الأمانة وأبى إلا أن يتمم مراده في التعليق ويا ليته تعليق صحيح، ولكنه بالعكس ويا للأسف، ثم الطبعات التي بعدها جروا على منواله وتحريفه مع أن موضوعها من أهم المهمات، ونؤمل إن شاء الله أن تكون هذه الطبعة من أصح الطبعات وأوضحها وأحسنها حرفاً وورقاً بعون الله وتوفيقه. حيث أن الموضوع مهم جداً ويحتاج إلى عناية في التصحيح، والمراجعة وقد عنيت بهذه الرسالة وصححت ما في بعض الآيات من الخطأ وعزوتها إلى محلاتها في كتاب الله كما عزوت بعض الأحاديث إلى مخرجيها.

ومن الله نرجو العون والتوفيق إنه نعم المولى ونعم النصير.

وهذه الرسالة سهلة المأخذ واضحة المعنى وهي من أوضح ما كتب في القضاء والقدر نظماً وشرحاً مع الأمثلة التي ختم بها الشارح فصارت درة كاسمها، فرحم الله مؤلفيها وجزاهما عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، ورفع درجاتهما في عليين، وصلى الله وسلم على خير خلقه المصطفى من بريته نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

كتبه الفقير إلى الله في كل الأحوال

محمد بن سليمان بن عبد العزيز آل بسام.


الصفحة الأولى من المخطوطة


الصفحة الأخيرة من المخطوطة


الدرة البهية

شرح

القصيدة التائية



بسم لله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وأشهد أنه الإله الحق الملك المبين وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد المرسلين، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وصحبه، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد؛ فقد طلب مني بعض الإخوان أن أشرح المنظومة التائية في القدر لشيخ الإسلام والمسلمين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، لما فيها من التحقيق العظيم في مسألة القضاء والقدر ولمتانتها وصعوبة فهمها واحتياجها إلى شرح متوسط يوضحها، ويكشف عن معانيها ولكون المقام والموضوع مقاما مهماً جداً، والحاجة بل الضرورة داعية إلى علمه والتحقق به معرفة واعتقاداً.

وهذا النظم قد أتى فيه الشيخ بالعجب العجاب، وبيّن الحق الصريح، وكشف الشكوك والشبهات التي طالما خالطت قلوب أذكياء العلماء، وحيرت كثيراً من أهل العلم والفضلاء. فأجبت هذا السائل لما طلبه، وأرجو الله وأسأله أن يعين على تحقيقه وتوضيحه، فإن التوضيح والبيان خصوصاً في هذا المقام أولى من الاختصار، وذكر الشواهد والأمثلة الموضحة أولى من الاقتصار، وأسأله تعالى أن يجعل الداعي إليه إرادة وجهه الكريم وإرادة النفع للمشتغلين به.

والشيخ رحمه الله وقدس روحه نظمها جواباً لسؤال أورده عليه من قال أنه ذمي ليشبه على المسلمين وليشككهم في أصول الدين، فإن الإيمان بالقضاء والقدر أحد أصول الإسلام ومبانيه العظام.

* * *


وهذا نص السؤال:

أيا علماء الدين ذمي دينكم

تحير دلوه بأوضح حجة

إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم

ولم يرضه مني فما وجه حيلتي

دعاني وسد الباب دوني فهل إلى

دخولي سبيل بيّنوا لي قضيتي

قضى بضلالي ثم قال ارض بالقضا

فهل أنا راض بالذي فيه شقوتي

فإن كنت بالمقضي يا قوم راضيا

فربي لا يرضى بشؤم بليتي

وهل لي رضا ما ليس يرضاه سيدي

    فقد حرت دلوني على كشف حيرتي

إذا شاء ربي الكفر مني مشيئة

فهل أنا عاص باتباع المشيئة

وهل لي اختيار أن أخالف حكمه

فبالله فاشفوا بالبراهين غلتي


هذا آخر السؤال المذكور، وحاصله أنه إيراد على مذهب الجبرية القائلين أن العبد مجبور مقهور على جميع أقواله وأفعاله وأنه لا قدرة له على شيء منها، بل هي عندهم واقعة بغير اختياره، وهذا القول باطل بالكتاب والسنة وباطل بالعقل والحس، كما يأتي إن شاء الله بيانه.

وجميع المسلمين من جميع الطوائف أهل السنة وغيرهم ينكرون هذا المذهب ويتبرؤون منه، فيقول هذا المشبه على المسلمين المشكك لهم بانياً على مذهب الجبرية الذي يتبرؤ منه جميع الطوائف سوى غلاة الجهمية من الجبرية، يقول: إذا كان الله قضى علي بالكفر وقدر علي أن لا أكون مسلماً أو قدر علي المعاصي، وأن لا أكون طائعاً فكيف لي الخلاص من الكفر والمعاصي وكيف أتمكن من الإيمان والطاعة بعدما قضى علي الكفر والمعصية، فهل أكون معذوراً إذا تجرأت على الكفر والفسوق والعصيان، وأنا لا حيلة لي في الانفكاك عنها وكيف أجمع بين الرضى بالقضا وبين الرضى بالمقضي من الكفر والمعاصي فإن الله لا يرضى بالكفر والفسوق والعصيان، فكيف قدرها علي، وهو لا يرضاها هذا حاصل هذا السؤال.

وجواب هذا السؤال على وجه الإجمال بسيط ولله الحمد، فإنه لا يرد على مذهب جمهور طوائف المسلمين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأئمة الهدى المشهود لهم بالعلم والإيمان، بل ولا على مذهب المعتزلة والقدرية والخوارج وغيرهم من أهل البدع فإن الجميع يقولون بما جاء به الكتاب والسنة من إثبات الأصلين:

أحدهما: الاعتراف بأن جميع الأشياء كلها أعيانها وأوصافها وأفعالها بقضاء وقدر لا تخرج عن مشيئة الله وإرادته، بل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.

الأصل الثاني: أن أفعال العباد من الطاعات والمعاصي وغيرها واقعة بإرادتهم وقدرتهم، وأنهم لم يجبروا عليها، بل هم الذين فعلوها بما خلق الله لهم من القدرة والإرادة، ويقولون: لا منافاة بين الأمرين، فالحوادث كلها التي من جملتها أفعال العباد، بمشيئة الله وإرادته، والعباد هم الفاعلون لأفعالهم المختارون لها، فهم الذين اختاروا فعل الخيرات وفعلوها، واختاروا ترك المعاصي فتركوها، والآخرون اختاروا فعل المعاصي وفعلوها، واختاروا ترك الأوامر فتركوها، فاستحق الأولون المدح والثواب واستحق الآخرون الذم والعقاب ولم يجبر الله أحداً منهم على خلاف مراده واختياره، فلا عذر للعاصين إذا عصوا، وقالوا: إن الله قدرها علينا فلنا بذلك العذر. فيقال لهم: إن الله قد أعطاكم المِكْنَة ([1]) والقدرة على كل ما تريدون، وأنتم بزيغكم وانحرافكم أردتم الشر ففعلتموه والله قد حذركم وهيأ لكم كل سبب يصرف عن معاصيه وأراكم سبيل الرشد فتركتموه وسبيل الغي فسلكتموه.

وإذا أردت زيادة إيضاح لهذا المقام فإنه من المعلوم لكل أحد أن كل فعل يفعله العبد وكل كلام يتكلم به فلابد فيه من أمرين: قدرة منه على ذلك الفعل، والقول وإرادة منه، فمتى اجتمعا وجدت منه الأقوال والأفعال.

والله تعالى هو الذي خلق قدرة العبد وإرادة العبد وخالق السبب التام خالق للمسبب، فالله تعالى خالق أفعال العباد والعباد هم الفاعلون لها حقيقة، فهذا الإيراد الذي أورده هذا المشكك وما أشبهه من الإيرادات التي يحتج بها أهل المعاصي بالقدر يجيبونهم بهذا الجواب المفحم، فيقولون: دلت أدلة الكتاب والسنة الكثيرة على أن الله خالق كل شيء وعلى كل شيء قدير، وأن كل شيء بقضاء وقدر، الأعيان والأوصاف والأفعال.

ودلت أيضاً أدلة الكتاب والسنة أن العباد هم الفاعلون لفعلهم حقيقة بقدرتهم واختيارهم فإنه تعالى نسب إليهم وأضاف إليهم كل ما فعلوه من إيمان وكفر وطاعة ومعصية، وأنه تعالى مكنهم من هذا ومن هذا، ولكنه تعالى حبب إلى المؤمنين الإيمان وزينه في قلوبهم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وولى الآخرين ما تولوا لأنفسهم حيث اختاروا الشر على الخير، وأسباب العقاب على أسباب الثواب، وهذا كما أنه معلوم بالضرورة من الشرع فهو معلوم بالحس الذي لا يمكن أحد المكابرة فيه فإن العبد يفرق بين أفعاله التي يقسر ويجبر ويقهر عليها، وبين أفعاله التي يختارها ويريدها ويحب حصولها، فهذا الجواب المجمل.

وأما الجواب المفصل فقد ذكره الشيخ قدس الله روحه فقال:


فصل:

سؤالك يا هذا سؤال معاند

مخاصم رب العرش باري البرية

فهذا سؤال خاصم الملأ العُلَى

قديما به إبليس أصل البلية

ومن يك خصماً للمهيمن يرجعن

على أم رأس هاوياً في الحفيرة

بيّن الشيخ في أول الجواب أن هذا السؤال والإيراد إنما صدر عن رجل معاند مكابر مخاصم لله، فإن هذا السؤال في الحقيقة موجه إلى الله، والسائل قد أورده على ربه، واعترض عليه وزعم أن الله ظالم له، حيث قدر عليه الكفر والمعاصي وعذبه عليه، وكل من عاند الله فحجته داحضة باطلة وهو مخصوم محجوج وهذا السؤال من جنس سؤال إبليس حيث قال: {{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأََقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}} ([2]) فقال: فبما أغويتني، ولم يقل: غويت، وإبليس هو الذي غوى واستكبر عن أمر ربه حيث أمره بالسجود لآدم فقال: {{أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً}{قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأََحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً}} ([3]) فإبليس خاصم الله وباداه بالمعصية واستكبر عن أمره واستكبر على آدم.

فكل من خاصم عن نفسه أو عن غيره في معصية الله فهو وارث إبليس وعنه أخذ هذه الخصومة، فكل من خاصم الحق فُلِجَ وخصم كما أن كل من خاصم بالحق فَلَجَ وغلب. {{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}} ([4]) فكل من نصر الباطل فهو من خصوم الله. ولكن أصناف القدرية الثلاثة هم أحق الناس بهذا الوصف.


فلهذا قال الشيخ:

وتدعي خصوم الله يوم معادهم

إلى النار طرا فرقة ([5]) القدرية

سواء نفوه أو سعوا ليخاصموا

به الله أو ماروا به للشريعة

يشير الشيخ إلى ما رواه ابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من تكلم في شيء من القدر سئل عنه يوم القيامة»، أي سؤال تقريع وتوبيخ وهو كما ذكر الشيخ يشمل طوائف القدرية الثلاث: القدرية النفاة، والقدرية المجبرة، والقدرية المشركين، فكل الطوائف الثلاث خاضوا في القدر خوضاً منحرفاً، وبعضهم أغلظ من بعض، وكلهم عن الصراط ناكبون.

فأما القدرية النفاة فهم الذين يطلق أكثر العلماء عليهم اسم القدرية، وهم الذين ورد فيهم الحديث الذي في السنن ([6]) إن مجوس هذه الأمة المكذبون بأقدار الله، وأكثر المعتزلة على هذا المذهب الباطل، وحقيقة مذهبهم أنهم يقولون: إن أفعال


العباد وطاعاتهم ومعاصيهم لم تدخل تحت قضاء الله وقدره، فأثبتوا قدرة الله على أعيان المخلوقات وأوصافها ونفوا قدرته على أفعال المكلفين، وقالوا: إن الله لم يردها ولم يشأها منهم، بل هم الذين أرادوها وشاءوها وفعلوها استقلالاً بدون مشيئة الله، ويزعمون أنهم بهذا القول ينزهون الله عن الظلم لأنه لو قدر المعاصي عليهم ثم عذبهم عليها لكان ظالماً لهم، وللزم من إثبات قدرة الله على أفعالهم الجبر الذي هو باطل بالشرع والعقل كما تقدمت الإشارة إليه، ولكنهم بهذا القول الباطل ردوا نصوصاً كثيرة من الكتاب والسنة تثبت وتصرح أن جميع أعمال العباد من خير وشر وطاعة ومعصية بقضاء الله وقدره، كما أجمع المسلمون أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.

وسُمُّوا مجوس هذه الأمة لأنهم أشبهوا المجوس الذين أثبتوا خالقا للخير وهو الله، وخالقاً للشر وهو إبليس على زعم المجوس، وهؤلاء القدرية أثبتوا أن الله خالق للعباد لأعيانهم وأوصافهم ولم يثبتوا أنه خالق لأفعالهم، فأخرجوا أفعال العباد عن قدر الله ولم يهتدوا إلى ما اهتدى إليه أهل السنة من أن الله كما أنه الذي خلقهم وخلق ما به يفعلون من قدرتهم وإرادتهم، ثم فعلوا الأفعال المتنوعة من طاعة ومعصية بقدرتهم وإرادتهم التي خلقها الله باتفاق المسلمين، حتى هؤلاء القدرية يثبتون أن قدرة العباد وإرادتهم مخلوقة لله، وحيث وقعت أفعال العباد بقدرتهم وإرادتهم اللتين خلقهما الله في العبد ليتمكن بهما من كل ما يريده من أقواله وأفعاله، وخالق السبب التام خالق للمسبب.


فالعبد المؤمن هو الذي يصلي ويصوم ويتصدق ويحج ويعمل أعمال البر بما مكنه الله وأعطاه من قدرة وإرادة يتمكن بها من أفعال الخير، والعبد الكافر أو الفاجر هو الذي يشرك ويقتل ويزني ويسرق ويعمل أجناس المعاصي بما مكنه الله به وأعطاه من قدرة وإرادة، يفعل بها تلك الأفعال والقدرة والإرادة اللتان أعطاهما الله للعبد هما خير ونعمة وفضل من الله، لكن العبد العاصي هو الذي وجه قواه وأفعاله إلى أعمال الشر فلم يكن له على الله حجة، بل لله عليه الحجة البالغة، نهج الله له طريق الخير فأباه، وسلك بنفسه طريق الشر وارتضاه فلا يلومن بعد ذلك إلا نفسه.

فمن احتج مع ذلك على ربه وقال: إنه قدر عليَّ المعاصي فلا لوم عليَّ، قيل له: هذه حجة أبطلها الله في كتابه حيث قال: {{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}} ([7]) فتضمنت هاتان الآيتان أن الاحتجاج بالقدر على المعاصي باطل من وجوه: منها أن هذا هو احتجاج المشركين، ومنها أن هذا الاحتجاج بالقدر على الشر لم يمنعهم من عذاب الله، حيث قال: {{كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا}} ([8]). ومنها أن الله


وبخهم على ذلك وطالبهم بالبرهان في قوله: {{قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا}} ([9]) فنفى عنهم العلم وأخبر أنهم يتبعون الظن الذي لا يغني عن الحق شيئاً.

ومنها أنه أخبر أن له الحجة البالغة على جميع من تجرأ على معاصيه، فمن احتج بالقدر على المعاصي فهو من أظلم الظالمين، وأيضاً فهذا المحتج بالقدر المقيم لعذر نفسه على ربه هو يكذب نفسه بنفسه، فإنه لو تجرأ عليه أحد بتعدٍّ على ماله أو بدنه أو محبوباته، واعتذر بالقدر لم يقبل عذره، فكيف يقبل عذر نفسه على تجريه على ربه، فالمحتج بالقدر على المعاصي يكذبه الكتاب والسنة والعقل وضميره يكذبه كما ذكرنا، وإنما يقصد باحتجاجه دفع الشنعة عن نفسه. وكانت طائفة القدر في أول أمرهم ينكرون العلم وينكرون القدر فيقولون: إن الله لا يعلم أعمال العباد قبل أن يعملوها ولا تعلقت بها مشيئة الله، فلما شنع عليهم المسلمون وكفروهم بذلك تحللوا عن قولهم الأول، فأثبتوا العلم وأنكروا القدر.

ولهذا كان الأئمة كالإمام أحمد وغيره يقولون: ناظروا القدرية بالعلم، فإن أنكروا العلم كفروا وإن اعترفوا به خصموا، يعني أن القدرية النافين لعلم الله بأفعال عباده جاحدون لنصوص الكتاب والسنة المصرحة بإحاطة علم الله بما كان وما يكون من أعيان وأوصاف وأفعال مما دق وجل، فمن أنكر ذلك فقد كذب الكتاب والسنة صريحاً، وذلك هو الكفر وإن اعترفوا بإحاطة علم الله بكل شيء وبأفعال العباد قبل وقوعها كما هو القول الذي استقر عليه مذهبهم خصموا، ووجه ذلك أنهم يقولون أن أفعالهم لا تتعلق بها مشيئة الله وإرادته وإنما هم مستقلون بها من كل وجه إذا كان هذا قولهم في مشيئة الله مع قولهم أن الله يعلم أعمال العباد قبل أن يعملوها فهذا تناقض محض كيف يعلمها وهو لم يقدرها ولم يردها هذا محال {{أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}} ([10]).

فيلزمهم أحد أمرين إما أن لا يتناقضوا فينفوا الأمرين: علم الله بأفعالهم ومشيئته لها فيتضح كفرهم، وإما أن يرجعوا إلى الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة وأجمع عليه المسلمون وهو أنه كما أنه بكل شيء عليم وبكل شيء محيط فإنه على كل شيء قدير، ومن جملة الأشياء أفعال العباد وطاعاتهم ومعاصيهم فهو تعالى يعلمها إجمالاً وتفصيلاً قبل أن يعملوها، وأعمالهم وأفعالهم داخلة تحت مشيئة الله وإرادته، فقد شاءها منهم وأرادها ولم يجبرهم لا على الطاعات ولا على المعاصي، بل هم الذين فعلوها باختيارهم كما قال تعالى: {{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَوَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}} ([11]) فهذه الآية فيها رد على القدرية النفاة وعلى القدرية المجبرة وإثبات للحق الذي عليه أهل السنة والجماعة، فقوله: {{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ}} ([12]) فأثبت لهم مشيئة


حقيقية وفعلاً حقيقياً، وهو الاستقامة باختيارهم فهذا رد على الجبرية، وقوله: {{وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}} ([13]) أخبر أن مشيئتهم تابعة لمشيئة الله، وأنها لا توجد بدونها، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ففيها رد على القدرية القائلين أن مشيئة العباد مستقلة ليست تابعة لمشيئة الله، بل عندهم يشاء العباد ويفعلون ما لا يشاؤه الله ولا يُقَدِّره.

ودلت الآية على الحق الواضح وهو أن العباد هم الذين يعملون الطاعات والمعاصي حقيقة، ليسوا مجبورين عليها، وإنها مع ذلك تابعة لمشيئة الله كما تقدم كيفية وجه ذلك. والآيات الدالات على هذا كثيرة جداً فهذه إحدى الطوائف الثلاث المخاصمين لله، فإنهم أنكروا عموم مشيئته وقدره، وجحدوا ما قرره الله في كتابه وعلى لسان رسوله من شمول قدره لكل شيء، فزعموا أن أفعال العباد خارجة من هذا العموم.

وأما الطائفة الثانية: فهم الجبرية الذين يقال لهم: القدرية المجبرة وهم غلاة الجهمية الذين إمامهم في هذا وغيره جهم بن صفوان المتفق على بدعته، بل بدعه الخبيثة المتنوعة، فزعموا أن عموم مشيئة الله وعموم إرادته تقتضي أن العبد مجبور على أفعاله مقسور مقهور على أقواله وأفعاله لا قدرة له على شيء من الطاعات ولا على ترك المعاصي، ومع أنه لا قدرة له على ذلك عندهم فهو مثاب معاقب على ما لا قدرة له عليه، وهذا القول من أشنع البدع وأنكرها، وهو مخالف للكتاب والسنة وإجماع الأئمة المهتدين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ومخالف للعقول والفطر ومخالف للمحسوس، وكل قول يمكن صاحبه أن يطرده إلا هذا القول الشنيع، فإنه لا يمكنه أن يعمل به ويطرده كما تقدم أنه لا يعذر من ظلمه وتعدى عليه واعتذر المعتدي بالقدر، فإن الجبري لا يعذره بل يرى اعتذاره بالقدر زيادة ظلم وتهكماً به، فكيف يسلك هذا المسلك مع ربه وهو لا يرتضيه لنفسه من غيره، والمقصود أن هذه الطائفة خالفت المنقول والمعقول.

ونصوص الكتاب والسنة تبطل قولهم، فإن الله نسب أعمال العباد إليهم من الطاعات المتنوعة والمعاصي الكثيرة، كلها يضيفها إلى الفاعلين ويخبر أنهم هم الفاعلون لها ويستحقون جزاءها من خير وشر، فلو كانوا مجبورين عليها لم ينسبها لهم ولم يضفها إليهم بل ينسب الأفعال إلى نفسه حاشاه وتعالى عن ذلك فلا يقال: الله الذي فعل الإيمان والكفر والطاعة والمعصية، بل يقول كل أحد: العبد هو الذي فعلها والله هو الذي قدرها من غير أن يجبره عليها، ويلزم على قول الجبرية أيضاً إسقاط الأمر والنهي لأنه كيف يؤمر وينهى من لا قدرة له على امتثال الأمر واجتناب النهي، ويلزم أيضاً على قولهم إسقاط الحدود عن جميع أهل الجرائم إذ كيف يعاقبون وتقام عليهم الحدود وهم غير قادرين بل مجبورين، فهذا القول الباطل مخالف لجميع أصول الدين وفروعه، ويلزم أيضاً على قول الجبرية تعطيل الأسباب الدنيوية والدينية، وذلك


أن الله تعالى جعل الأسباب موصلة إلى مسبباتها وأمر العباد بسلوك كل سبب نافع لهم في دينهم ودنياهم، فكيف يؤمرون وهم مجبورون غير قادرين.

فالقول بالجبر فيه فساد الدين والدنيا، والذي حملهم على هذا القول مع ظهور فساده ظنهم أنه لا يمكنهم إثبات عموم مشيئة الله وقدره حتى يسلبوا العبد قدرته، وقد غلطوا بهذا الظن فإنه كما تقدم يتمكن العبد من إثبات عموم القدر ومن إثبات أن الأعمال هي أعمال العباد حقيقة لأن الله خلقهم وخلق كل ما فيهم من القوى الظاهرة والباطنة وبقدرتهم وإرادتهم اللتين خلقهما الله ومكن العبد بهما من كل مايريده من خير وشر، فعلوا الأمرين باختيارهم من غير إجبار.

وقد تصل هذه الطائفة وتغلو في القدر حتى يعتقدوا أن معاصيهم طاعات لأنها بمشيئة الله فيشاركون الطائفة الثالثة وهم القدرية المشركون الذين اعتذروا عن شركهم وتحريمهم ما أباح الله بالمشيئة وجعلوا مشيئة الله هي محبته فقالوا: {{ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ }} الآية ([14])، وفي الآية الأخرى: {{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ}} ([15]) فهذه الطوائف الثلاث هم خصماء الله في قضائه وقدره، منهم من نفاه ومنهم من غلا فيه غلواً أوقعه في


الباطل وهدى الله أهل السنة والجماعة لما اختلفوا فيه بإذنه {{وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}} ([16])، فأثبتوا عموم قضاء الله ونفوذ مشيئته في كل شيء وأثبتوا مع ذلك أفعال العباد من الطاعات والمعاصي وقالوا: إنها واقعة باختيارهم ولا حجة للعاصين على الله إذا احتجوا على معاصيهم بقدره بل حجتهم داحضة باطلة وقالوا: إن مشيئة الله غير محبته، فمشيئته تعلقت بكل شيء موجود من خير وشر وطاعة ومعصية، ومحبته خاصة للطاعات وأهلها، كما أخبر بذلك في كتابه وفي سنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم.


ثم قال الشيخ رحمه الله:

وأصل ضلال الخلق في كل فرقة

هو الخوض في فعل الإله بعلة

فإن جميع الكون أوجب فعله

مشيئة رب الخلق باري الخليقة

وذات إله الخلق واجبة بما

لها من صفات واجبات قديمة

مشيئته مع علمه ثم قدرة

لوازم ذات الله قاضي القضية

وإبداعه ما شاء من مبدعاته

بها حكمة فيه وأنواع رحمة

يذكر الشيخ أن أصل ضلال الخلق من جميع فرق الضلال هو الخوض في فعل الرب، وذلك أن جميع الكون، العالم العلوي والسفلي وما فيهن من المخلوقات خلقها لله وأوجدها بمشيئته وقدرته، فإنه تعالى هو الواجب بأسمائه وصفاته القديمة التي لا أول لها لأنه الأول الذي ليس قبله شيء ولم يزل بأسمائه وصفاته كذلك، فإذا كانت أوصافه كلها قديمة واجبة لأنه واجب الوجود فمن لوازم صفاته


اللازمة لذاته العلم المحيط بكل شيء، والقدرة الشاملة لكل شيء والمشيئة العامة لكل موجود، فهو تعالى لم يزل عليما فعالاً لما يريد وأفعاله تعالى وإبداعه لمبتدعاته تابعة لحكمته التي هي وضع الأشياء مواضعها وتنزيل الأمور منازلها، فلم يخلق ولن يخلق شيئاً عبثاً بل خلق المخلوقات وأبدع المبدعات بالحق وللحق، فهي صدرت عن الحق واشتملت على الحق، وكانت غاياتها المقصودة الحق.

فهذا التقرير الصحيح لمذهب أهل السنة والجماعة، وهو الذي دلت عليه الأدلة الكثيرة، فكما أنه تعالى أخبر أنه على كل شيء قدير، وأنه فعال لما يريد، وأنه إذا أراد أمراً قال له: كن فيكون، وأن كل شيء خلقه بقدر، وكل صغير وكبير مستطر، فكذلك قد أخبر أنه الحكيم الذي شملت حكمته كل شيء، وأنه خلق السموات والأرض ومن فيهن بالحق ولم يخلقهما باطلاً، ذلك ظن الذين كفروا {{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ}} ([17]) {{أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً}} ([18]) إلى غير ذلك من الآيات الدالات على الأصلين، وهما عموم مشيئته لكل موجود، وشمول حكمته للخلق والأمر هذا الذي يتعين على المكلفين الاعتراف به واعتقاده.

وأما مذهب الجبرية فإنهم زعموا أن فعل الرب وإبداعه لجميع المبتدعات لغير حكمة بل أوجدها عندهم بمشيئة مجردة وقالوا: إنه لا يسأل عما يفعل، ولا حجة لهم بالآية الكريمة، بل هي حجة عليهم، فإنه لا يسأل عما يفعل لكمال حكمته، فلا يمكن مخلوقاً أن يعترض على الله اعتراضاً صحيحاً في شيء من مخلوقاته، بل لو اجتمعت عقول الخلق من أولهم إلى آخرهم ليقترحوا أحسن من خلقه وإبداعه وتكوينه لعجزت عقولهم وقواهم، وإنما حسب العقول الكاملة أن تدرك حكمة الله وأن تفهمها وما يخفى عليها من الحكم أعظم وأكثر قال تعالى: {{صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}} ([19]) وقال: {{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ}} ([20])] وقال تعالى: {{مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَانِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ}} ([21]) أي نقص وخلوّ من الحكمة {{ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ}} ([22]).

ومن تأمل في المخلوقات وتغلغل فكره في بدائع المصنوعات ورأى ما فيها من الحسن والانتظام والإتقان، وشاهد ما فيها من المنافع التي لا تحصى شهد لله بكمال الحكمة وعموم الرحمة، فتباً لمن زعم أن أفعال الباري صادرة عن محض المشيئة الخالية من الحكمة والرحمة وأنه يرجح مثلاً على مثل بلا معنى ولا سبب مرجح، لقد ضلت أفهامهم حيث أنكروا أظهر الأشياء وأوضحها.


ولهذا قال الشيخ:

ولسنا إذا قلنا جرت بمشيئة

من المنكري آياته المستقيمة

بل الحق أن الحكم لله وحده

له الخلق والأمر الذي في الشريعة

أي إذا قلنا أن جيمع الكائنات جرت بمشيئة الله وإرادته فلسنا ننكر حكمته وآياته المستقيمة الدالة على الغايات المحمودة، بل نجمع بين إثبات الأمرين ونعتقد شمول الأصلين لكل ما خلقه وشرعه، لأنه تعالى له الحكم وحده {{أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ}} ([23]) أي له وصفاً وفعلاً الخلق الشامل لكل مخلوق، والأمر الشامل لجميع الأحكام الشرعية، فكما لا خالق سواه فلا حاكم بين العباد سواه، وكما أن مخلوقاته مملوءة من الحكمة والرحمة فشرعه العظيم أعظم وأعظم، كله حكمة وكله رحمة {{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}} ([24]).

* * *

فلهذا قال:

هو الملك المحمود في كل حالة

له الملك من غير انتقاص بشركة

أي له الملك كله وله الحمد كله لا شريك له في ملكه ولا في حمده، فهو المحمود على ما له من الأسماء الحسنى، وعلى ماله من الصفات الكاملة العليا، وهو المحمود على فضله الشامل ورحمته الواسعة، وعلى عدله وحكمته التي وضع بها الأشياء مواضعها، فيحمد على عدله كما يحمد على فضله، كما قال الشاعر:

ما للعباد عليه حق واجب

كلا ولا سعي لديه ضائع

إن عذبوا فبعدله أو نعموا

فبفضله وهو الكريم الواسع

وقد قرر الشيخ هذا المقام فقال مقرراً مكرراً للمعاني بعبارات مختلفة لأن المقام مهم جداً:

* * *

فما شاء مولانا الإله فإنه

يكون ومالا لا يكون بحيلة

وقدرته لا نقص فيها وحكمه

يعم فلا تخصيص في ذي القضية

أريد بذا أن الحوادث كلها

بقدرته كانت ومحض المشيئة

وما لكنا في كل ما قد أراده

له الحمد حمداً يعتلي كل مدحة

فإن له في الخلق رحمته سرت

ومن حكم فوق العقول الحكيمة

أموراً يحار العقل فيها إذا رأى

من الحكم العليا وكل عجيبة

يعني أنه ما شاء الله كان لا مانع من كونه ووجوده إذا شاءه الله، وما لم يشأ لم يكن فلا يدرك بحيلة ولو اجتمع عليه جميع الخلق، وفي حديث ابن عباس أنه صلّى الله عليه وسلّم قال وأعلم أن الخلق لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ([25]) فقدرة الباري تعالى كاملة لا نقص فيها حدثت جميع الحوادث ووجدت الموجودات بها وبمشيئته، وله في ذلك الخلق والإيجاد كمال الحكمة وسعة الرحمة التي تحار العقول في كثرتها وسعتها وعظمتها، وهو المحمود تعالى على ذلك كله.


ثم قال أيضاً:

فنؤمن أن الله عز بقدرة

وخلق وإبرام لحكم المشيئة

فنثبت هذا كله لإلهنا

ونثبت ما في ذاك من كل حكمة

وهذا مقام طالما عجز الألى

نفوه وكروا راجعين بحيرة

وتحقيق ما فيه بتبيين غوره

وتحرير حق الحق في ذي الحقيقة

هو المطلب الأقصى لرواد بحره

وذا عسر في نظم هذي القصيدة

لحاجته إلى بيان محقق

لأوصاف مولانا الإله الكريمة

وأسمائه الحسنى وأحكام دينه

وأفعاله في كل هذي الخليقة

وهذا بحمد الله قد بان ظاهراً

وإلهامه للخلق أفضل نعمة

وقد قيل في هذا وخط كتابه

بيان شفاء للنفوس السقيمة

كرر المؤلف هذه المعاني بهذه العبارات لما ذكره أن المقام مقام عظيم طالما عجز الذين نفوه ولم يفهموه وبقوا حائرين غير مهتدين، ومسائله العظيمة مستمدة من أسماء الله وأوصافه وأفعاله ومعرفة دينه والتدبر لكتابه، فمن تفقه في الأسماء الحسنى واعترف بما لله من الصفات العليا وعرف أن أفعاله تعالى مشتملة على الحق، والحق غايتها ومقصودها، وتدبر كتاب الله الذي فيه الهدى والشفاء، وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم، من عرف ذلك كله واعترف به جزم جزماً لا تردد فيه بأنه تعالى خلق المخلوقات وأوجدها ودبرها بمشيئة نافذة وحكمة شاملة ورحمة واسعة، وذلك أن عظمة المخلوقات تدل على عظمة خالقها ومبدعها وكمال قدرته، وما فيها من التخصيصات المتنوعة من كل وجه تدل على نفوذ مشيئته وإرادته، وما فيها من الحكم والانتظام والحسن والالتئام والخلق الغريب والإبداع العجيب يدل على شمول علمه وإحاطته وشمول حكمته وحمده، وما فيها من الخيرات الكثيرة والمنافع الغزيرة والصلاح والإصلاح يدل ذلك على سعة رحمته وبره وكرمه وإحسانه، وتحقيق هذه المقامات هو المطلب الأقصى لرواد الحقيقة، ولا سبيل لذلك إلا الاستمداد من كلام الله وكلام رسوله والاستنارة بهداية الأئمة المهتدين ومعرفته وإلهامه للعباد من أجلّ نعم الله عليهم، والقرآن شفاء لما في الصدور من أمراض الشكوك والشبهات والشهوات.

ثم قال الشيخ مجيباً للمعترض:

فقولك لِمْ قد شاء مثل سؤال من

يقول فلِمْ قد كان في الأزلية

وذاك سؤال يبطل العقل وجهه

وتحريمه قد جاء في كل شرعة

يعني رحمه الله أن سؤال السائل واعتراض المعترض بقوله: لِمَ شاء وكيف شاء كُفْرَ الكافرين ووقوع العصيان من العاصين ونحوها من الأسئلة المشابهة لذلك كلها محظورة ممنوعة، لأن الله هو الحاكم ليس محكوماً عليه ولا يلزم أن يبدي لعباده كل حكمة اشتملت عليها مراداته ومفعولاته فقد أخبر عباده بالأمر العام وهو أنه حكيم في كل ما خلق وكل ما شرع، وأما دقائق الخلق وأسرارها وأسرار أفعاله فعنده علمها لا يلزم أن يطلع العباد عليها إلا ما شاء منها، وهذا مثل سؤال السائل: لِمَ قدم الله هذا المخلوق على هذا المخلوق؟ ولِمَ كان المخلوق سابقاً وهذا المخلوق لاحقاً فإنه تعالى لا يسأل عما يفعل؟ وهم يسألون فالعقل والشرع لا يبيح أمثال هذه الأسئلة التي يعترض بها العبد الحقير على الرب العظيم، فإنه محرم في جميع الشرائع حتى وصلت بهم الحال إلى ما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يزال الناس يتساءلون حتى


يقولوا: هذا الله خلق هذا الخلق فمن خلق الله، فمن وجد ذلك فليستعذ بالله من الشيطان ولينته: وفي رواية: «فليقل: آمنت بالله» ([26]) فأمر صلّى الله عليه وسلّم عند هذه الشكوك والأسئلة المحرمة بثلاثة أشياء: بالإيمان بالله، لأن الإيمان الصحيح يدفع هذه الشبهات لعلم العبد المؤمن أنه تعالى الأول الذي ليس قبله شيء، وأنه لا منتهى لأوليته كما لا منتهى لآخريته، وبالاستعاذة بالله من الشيطان الموسوس الموقع لهذه الشكوك والشبهات، وأمره أن ينتهي وأن يعلم أن هذا سؤال باطل شرعاً وعقلاً وهو من باب المكابرة والمباهتة لأنه تعالى واجب الوجود ووجود كل شيء بإيجاده:


وفي الكون تخصيص كثير يدل من

له نوع عقل أنه بإرادة

وإصداره عن واحد بعد واحد

أو القول بالتجويز رمية حيرة

ولا ريب في تعليق كل مسبب

بما قبله من علة موجبية

بل الشأن في الأسباب أسباب ما ترى

وإصدارها عن حكم محض المشيئة

يقول: إن في العالم العلوي والسفلي تخصصات كثيرة جداً تدل دلالة عقلية صريحة أنها بإرادة العزيز الحكيم مثل جعل بعضها عالياً، وبعضها سافلاً، وبعضها كبيراً، وبعضها صغيراً، وبعضها متصلاً بغيره، وبعضها منفصلاً، وبعضها على صفة، وبعضها على صفة أخرى مثل قوله: {{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}} ([27]).

والتخصيصات لا يحيط بها الوصف وكلها تدل على أنها


متعلقة بإرادة الله ومشيئته وأنه الفعال لما يريد ومن الغلط العظيم والحيرة والضلاة قول الفلاسفة أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، فإن هذا باطل شرعاً وعقلاً من وجوه كثيرة ذكرها الشيخ في كتاب «العقل والنقل» وفي «المنهاج» وغيرهما من كتبه، لكن الأمر الذي لا ريب فيه أن كل مسبب لا بد له من سبب، وكل معلوم لابد له من علة موجبة، وكل شيء لابد له من مادة قد خلق منها، ولكن جميع الأسباب تنتظم في قضاء الله وقدره، وهي من القضاء والقدر، ولهذا لما قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: يا رسول الله أرأيت رقي نسترقيها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئاً قال هي من قدر الله ([28]) وثبت في الصحيحين أن الصحابة رضي الله عنهم حين ذكر لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم القدر السابق قالوا: يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا الأول وندع العمل، فقال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة، ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية: {{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}} ([29]) فبين صلّى الله عليه وسلّم أن السعادة والشقاوة وإن كانت مقدرة مفروغاً منها فإن الله قدرها بأسبابها وهو أن الله يسر أهل السعادة لليسرى بما فعلوه من الأسباب الثلاثة وهي قوله: {{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى *


فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}} ([30]) وأن الله يسر أهل الشقاوة للعسرى بما فعلوه من الأسباب الثلاثة وهي قوله: {{وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}} ([31]).

ومشيئته تعالى لا تنافي ما جعله الله من الأسباب الدنيوية والأخروية، فقد أخبر في عدة آيات أنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وفي آيات أخرى أخبر بها بالأسباب التي تنال بها هداية الله ويستحق العبد أن يبقى على ضلاله كقوله: {{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ}} ([32]) وكقوله: {{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}} ([33]) وكقوله: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً}} ([34])، وقوله: {{وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}} ([35])، ونحوها، وقوله في الضلال: {{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}} ([36]) وقوله: {{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا}} ([37])، وقوله: {{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}} ([38]) {{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَانِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}} ([39]).

وهذه الآيات فيها من أسرار القدر في هداية من يهديه وإضلال من يضله ما يشهد لله بكمال الحكمة والحمد، وكذلك أخبر في عدة آيات أنه يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، وفي آيات أخر أخبر عن الأسباب التي تنال بها مغفرة الله مثل قوله: {{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى}} ([40]) والأسباب التي يستحق بها العذاب مثل قوله: {{إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى}} ([41]).

وكذلك أخبر في آيات كثيرة أنه يرزق من يشاء ويوسع الرزق على من يشاء ويقبضه عن من يشاء، وفي آيات أخرى ذكر فيها الأسباب التي ينال بها رزقه مثل قوله: {{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}{وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}} ([42]) وقوله: {{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}} ([43]) كما ثبت في الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله فليصل رحمه ([44]) وكذلك الأسباب المادية مثل قوله تعالى: {{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}} ([45]) وجميع المطالب الدنيوية والأخروية جعل لها أسباباً متى سلكها الإنسان حصل له مطلوبه وقد جمع النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك في كلمة واحدة فقال: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله» ([46])، فقوله: «احرص على ما ينفعك» أي في دينك ودنياك واسلك كل طريق يوصلك إلى هذه المنفعة ولكن لا تتكل على حولك وقوتك بل توكل على الله واستعن به، فمن فعل ذلك فهو عنوان سعادته ونجاحه وإلا فلا يَلْم العبد إلا نفسه.

* * *


وقولك لِمْ شاء الإله هو الذي

أضل عقول الخلق في قعر حفرة

فإن المجوس القائلين بخالق

لنفع ورب مبدع للمضرة

سؤالهم عن علة السر أوقعت

أوائلهم في شبهة الثنوية

يعني أن هذا السؤال الذي مضمونه الاعتراض على الله ومضمونه أيضاً الدخول فيما ليس للعقل سبيل إليه لم يزل يضل عقول الخلق ويلقيهم في الهلاك وهو الذي أوقع المجوس القائلين: إن الخالق اثنان خالق الخير هو الله وخالق الشر هو الشيطان فأشركوا بالربوبية بعد شركهم في الإلهية، فكانوا يعبدون النار ويستحلون المحارم فزاد شرهم على المشركين من جهة استحلال المحارم ومن جهة اعتقادهم أن إبليس خالق الشر فجعلوا رب العالمين اثنين، ولهذا يقال لهم: الثنوية والذي أوقعهم في هذا الشر العظيم الذي لم يصل إليه المشركون هذا السؤال، فقالوا: كيف يخلق الله الشر، فعلينا أن ننزه الله عن خلق الشر فأتوا بهذه الطامة الكبرى والمقالة الشنعاء، يقول الشيخ رحمه الله: فهؤلاء المشككون الذين يقولون: كيف يقدر الله علينا الكفر والمعاصي ويعذبنا على ذلك قد تابعوا في اعتراضهم كل كفار عنيد من المجوس الثنوية وكذلك من هم أعظم منهم شراً وجُرْماً ملاحدة الفلاسفة.


فلهذا قال الشيخ:

وإن ملاحدة الفلاسفة الألى

يقولون بالفعل القديم لعلة

بغواعلة في الكون بعد انعدامه

فلم يجدوا ذاكم فضلوا بضلة

يعني أن ملاحدة الفلاسفة المعطلين لله ولكتبه ورسله المكذبين لهم أوقعتهم عقولهم الفاسدة في الهلاك، حيث حكّموها في البحث عن علة إيجاد هذا الكون، فلم تهتد لذلك لقصورها وتقصيرها، فزعم كثير منهم أن هذا العالم قديم وأنه لم يزل ولا يزال. وبذلك أنكروا وجود الرب العظيم ومن باب أولى أنكروا رسله وكتبه وتضاربت نظرياتهم الفاسدة فضلوا وأضلوا، ولقد صدق عليهم قوله تعالى: {{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}} ([47]) ثم إن هؤلاء الفلاسفة الملاحدة في هذه الأوقات أبطلوا بأنفسهم نظرية أسلافهم، وأحدثوا لهم نظريات متعددة متضاربة مبنية على الخرص والجهل المركب، ولم يزالوا في اضطراب، وهذه حالة كل من ترك الحق واستكبر عنه وتاه بعقله قال تعالى: {{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ}} ([48]).


ولهذا قال الشيخ:

وإن مبادئ الشر في كل أمة

ذوي ملة ميمونة نبوية

لخوضهم في ذاكم صار شركهم

وجاء رؤوس البينات بقترة

يعني: وكذلك الأمم الذين ينتسبون للأنبياء كاليهود والنصارى مبادي شرهم وشركهم جنس هذا السؤال وخوضهم بالباطل، فانحرفوا عن أديان الأنبياء واتبعوا كل شيطان مريد قال تعالى: {{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ}} الآية ([49]) فأخبر أنهم تركوا الإيمان بسيد الرسل محمد صلّى الله عليه وسلّم وأفضل الكتب وتعوضوا عن ذلك بالعلوم الباطلة التي هي السحر ونحوها. فكل من ترك الأمور النافعة ابتلي بالأمور الضارة وكل من زهد بالحق وقع في الباطل وهذا مطرد في كل زمان ومكان وكل أمة:

ويكفيك نقضا أن ما قد سألته

من العذر مردود لدى كل فطرة

فأنت تعيب الطاعنين جميعهم

عليك وترميهم بكل مذمة

وتنحل من والاك صفو مودة

وتبغض من ناواك من كل فرقة

وحالهم في كل قول وفعلة

كحالك يا هذا بأرجح حجة

وهذا كما تقدم إلزام ونقض واضح على من اعتذر عن مخالفته ومعاصيه بالقدر، فإنه في كل فطرة عاقل أن من ذمك ذممته، ومن عابك عبته، ومن ظلمك في نفسك أو مالك عاملته معاملة الظالم، فكيف تعذر نفسك إذا عصيت الله ولا تعذرهم إذا ذموك أو ظلموك، بل تبغضهم وتذمهم وتقابلهم على ظلمهم بما تقدر عليه، وهذا شيء كل أحد يعرفه، فاتضح بهذا أن المحتج بالقدر على المعاصي كما أنه مخالف للشرع والعقل فهو مخالف للفطرة التي فطر عليها كل أحد بل هو مكابر مستهزئ.

ثم أعاد هذه المعاني بذكر أمثلة توضح المقام لكونه من أهم المهمات فقال:

وهبك كففت اللوم عن كل كافر

وكل غويّ خارج عن محجة

فيلزمك الإعراض عن كل ظالم

على الناس في نفس ومال وحرمة

فلا تغضبن يوماً على سافك دماً

ولا سارق مالاً لصاحب فاقة

ولا شاتم عرضاً مصوناً وإن علا

ولا ناكح فرجاً على وجه غية

ولا قاطع للناس نهج سبيلهم

      ولا مفسد في الأرض من كل وجهة

ولا شاهد بالزور إفكاً وفرية

ولا قاذف للمحصنات بزنية

ولا مهلك للحرث والنسل عامداً

ولا حاكم للعالمين برشوة

وكف لسان اللوم عن كل مفسد

ولا تأخذن ذا جرمة بعقوبة

وسهل سبيل الكاذبين تعمدا

على ربهم من كل جاء بفرية

وإن قصدوا إضلال من يستجيبهم

بروم فساد النوع ثم الرياسة

وجادل عن الملعون فرعون إذ طغى

فأغرق في اليم انتقاماً بغصة

وكل كفور مشرك بإلهة

وآخر طاغ كافر بنبوة

كعاد ونمروذ وقوم لصالح

وقوم للوط ثم أصحاب أيكة

وخاصم لموسى ثم سائر من أتى

من الأنبياء محييا للشريعة

على كونهم قد جاهدوا الناس إذ بغوا

ونالوا من العاصي بليغ العقوبة

وإلا فكل الخلق في كل لفظة

ولحظة عين أو تحرك شعرة

وبطشة كف أو تخطي قديمة

وكل حراك بل وكل سكينة

هم تحت أقدار الآلة وحكمه

فما أنت فيما قد أتيت بحجة

هذه الإلزامات التي ذكرها الشيخ في غاية القوة والوضوح يبطل كل واحد منها اعتذار المعتذر بالأقدار، ومثل بأمثلة كثيرة يعرفها كل أحد، لأن كثرة الأمثلة توضح المعاني وتصور المقالات القبيحة بأشنع صورة، ولأنه لو فرض أنه تأول من التزم بها بعض هذه الأمثلة باحتمالات ضعيفة لم يكن له سبيل إلى بقيتها، فالشيخ يقول لهؤلاء المعارضين المعترضين بأقدار الله على المعاصي يلزمكم أن تعرضوا عن كل ظالم للناس في دمائهم وأعراضهم وأموالهم فلا تغضبون على من سفك الدماء وأخذ الأموال بالغصب والسرقة، ولا من شتم الأعراض، ولا على الزناة وقطاع الطريق والمفسدين في الأرض، ولا على قاذف أو شاهد بالزور ولا من سعى في الأرض ليهلك الحرث والنسل، ولا على من حكم بالرشوة وجار في حكمه، بل يجب عندهم كف اللسان عن كل مفسد معتد على الخلق، بل عليك أن تسهل سبيل الكاذبين على ربهم وتعتذر عنهم.

وإن سعوا في إضلال الناس بل وجادل عن أئمة الكفر كفرعون وقارون وهامان وكل مشرك وكافر كعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة وما أشبههم من الكفار المعاندين، بل على قول هؤلاء عليك أن تخاصم جميع الرسل والأنبياء حيث جاهدوا الناس على الإيمان وعاقبوا أهل الجرائم لأن الخلق كلهم في جميع حركاتهم وسكناتهم ولفظاتهم ولحظاتهم تحت أقدار الله، وهذا القول الفظيع الذي يفضي إلى هذه المكابرات والمجاهرة بتكذيب الله ورسله وكتبه حَسْبُ الناظر لهذا القول أن يتصور هذه اللوازم التي هي غاية المشاقة لله ولرسله وفيه فساد الدين والدنيا والآخرة.

***

وهبك رفعت اللوم عن كل فاعل

فعال ردى طرداً لهذي المقيسة

فهل يمكنن رفع الملام جميعه

عن الناس طراً عند كل قبيحة

وترك عقوبات الذين قد اعتدوا

وترك الورى الإنصاف بين الرعية

فلا تضمنن نفس ومال بمثله

ولا يعقبن عادٍ بمثل الجريمة

وهل في عقول الناس أو في طباعهم

قبول لقول النذل ما وجه حيلتي

لما ذكر الشيخ تلك الإلزامات التي لا محيد لهم عنها ألجأهم أيضاً إلى إلزامات أخر، فقال: فلو فرض وقدر أنك أيها المعتذر بالقدر على المعاصي رفعت اللوم عن العاملين لمعاصي الله المتجرئين على محارمه فهل يمكنك طرد ذلك وترك عقوبات المعتدين وترك الحدود عن أهل الجرائم بحيث لا يضمن القاتل نفساً ولا الغاصب والمتلف مالاً ولا ينصف الحكام بين رعاياهم إذا قالوا وادعوا أنهم معذورون بالقدر وهل في عقل أحد أو فطرته قبول قول الواحد من هؤلاء المجرمين: ما وجه حيلتي وأنا معذور، فإني وإن خالفت الشرع فقد وافقت القدر وهل هذا إلا تلاعب محض وتهكم صرف.

* * *


ثم قال الشيخ:

ويكفيك نقضاً ما بجسم ابن آدم

صبي ومجنون وكل بهيمة

من الألم المقضي من غير حيلة

وفيما يشاء الله أكمل حكمة

إذا كان في هذا له حكمة فما

يظن بخلق الفعل ثم العقوبة

فكيف ومن هذا عذاب مولد

عن الفعل فعل العبد عند الطبيعة

كآكل سم أوجب الموت أكله

وكل بتقدير لرب المشيئة

فكفرك يا هذا كسم أكلته

وتعذيب نار مثل جرعة غصة

ألست ترى في هذه الدار من جنى

يعاقب إما بالقضا أو بشرعة

ولا عذر للجاني بتقدير خالق

كذلك في الأخرى بلا مثنوية

يعني أنه يكفيك نقضاً لقولك وإبطالاً له أن الله تعالى

يقضي بحكمته الآلام على غير المكلفين من الصبيان والمجانين والبهائم وهذه الإلزامات من لوازم الطبيعة فلا تنفك الطبائع إلا أن تكون على هذه الصفة تكون صحيحة ومريضة ومرتاحة ومتألمة بحسب ما يعرض للطبيعة من استقامة وانحراف، فإذا كانت أسباب الآلام إذا وجدت تولدت عنها الآلام وترتبت عليها الأسقام، كمن أكل سماً ترتب عليه الهلاك، أو ألقى نفسه في نار أو مهلكة، فكفر الكافرين وإجرام المجرمين بمنزلة من أكل سماً أو قذف نفسه في نار أو مهلكة لابد أن يترتب عليه مقتضاه وأثره، فإذا كنت لا تعذر من أكل سماً أو ألقى نفسه في تهلكة وتنسب هلاكه إلى عمله فالكفر والمعاصي كذلك، بل أبلغ لأن آكل السم والملقي نفسه بالهلكة ربما يعرض بعض العوارض المانعة من الهلاك بخلاف الكفر وتوابعه، فإن آثاره مترتبة عليه قطعاً إلا إذا رفعها العبد بتوبة نصوح.

ومما يؤيد هذا أنك تشاهد في هذه الدار عقوبات الباغين والظالمين والمعتدين، عقوبات يشاهدها كل أحد، إمّا عقوبات قدرية يوقعها الله بالمجرمين كما أهلك الأمم السابقة بالعقوبات المتنوعة وكما يشاهده من سَبَرَ أحوال الخلق وتتبع مجرياتهم، وكيف كانت عواقب الباغين والمجرمين أشنع العواقب، وإمّا بعقوبات شرعية يقتل القاتل ويقطع السارق ويقام الحد بالرجم أو الجلد على الزاني ويجلد الشارب للخمر ويعزر في كثير من المعاصي، وهذه عقوبات قدرية شرعية.

فهل تقول أيها المعتذر عن العاصين بالقدر أن جميع

  هؤلاء قد ظلمهم الله حيث أوقع بهم هذه العقوبات، وحيث أحل بهم المثلات، فإن قلت ذلك فقد بلغت من عداوة الله وعداوة رسله، ومحاربة الله مبلغاً ما بلغه أحد، وإن رجعت إلى الحق، وقلت: إن هذه العقوبات القدرية والشرعية هي عدل الله بين عباده، وهي حكمته التي وضعها موضعها وجعلها في محلها اللائق بها، وليس لهؤلاء الجناة المعاقبين عذر، بل ما أصابهم من مصيبة فبما كسبت أيديهم ويعفو عن كثير، فالرجوع إلى الحق أحق، وبذلك وغيره يتضح بطلان الاعتذار بالقدر عن المجرمين.

*   *   *


    وشبيه بهذا أيضاً قول الشيخ:

وتقدير رب الخلق للذنب موجب

لتقدير عقبى الذنب إلا بتوبة

وما كان من جنس المتاب لرفعه

عواقب أفعال العباد الخبيثة

كخير به تمحي الذنوب ودعوة

تجاب من الجاني ورب الشفاعة

وتقديره للفعل يجلب نعمة

كتقديره الأشياء طراً بعلة

يعني كما جعل الله الذنوب والجرائم أسباباً للعقوبات، فقد جعل الله التوبة وأعمال الخير والدعوات والشفاعات تمحى بها الذنوب وتكشف بها الكروب، فالله تعالى بحكمته ورحمته جعل أعمال العباد خيرها وشرها تترتب عليها آثارها وتحصل موجباتها عاجلاً وآجلاً فكم جلبت أفعال الخير من نعم وكم دفعت من نقم، كذلك أفعال الشر كم حصل بها من عقوبات وكم ترتب عليها من شرور ومصائب، فهذه أمور لابد فيها في قدر الله وفي حكمه الشرعي وحكمه الجزائي الذي يحمد عليه لما فيه من العدل والفضل.

ثم قال الشيخ رحمه الله:

وقول حليف الشراني مقدر

علي كقول الذئب هذي طبيعتي

فهل يرفعن ذم الملوم بأنه

كذا طبعه أم هل يقال لعثرة

أم الذم والتعذيب أوكد للذي

طبيعته فعل الشرور الشنيعة

يعني أن المجرم إذا اعتذر بذلك العذر المردود وقال: إن الذنب مقدر علي فهو مثل قول الذئب والسبع المفترس، ومثل الشرير إذا فعل الشر والعدوان والبغي وقال: هذه طبيعتي فلا لوم علي، فهل يرفع هذا القول عنه الملام والعقاب أم يكون لومه أشد وعقوبته أوكد، لأنه عمل العمل القبيح واتصف بالخلق القبيح، فكان أغلظ جرماً وأشد عقوبة ممن فعل جرماً عارضاً فإنه يرجى له الرجوع والتوبة بخلاف الشرير الذي طبيعته وقوته متوجهة إلى الشرور والمعاصي.

ثم ذكر الشيخ ما ينجي العبد من هذا المأزق الحرج فقال:

فإن كنت ترجو أن تجاب بما عسى

ينجيك من نار الإله العظيمة

فدونك رب الخلق فاقصده ضارعاً

مريداً لأن يهديك نحو الحقيقة

وذلل قياد النفس للحق واسمعن

ولا تعص من يدعو لأقوم شرعة

ودع دين ذي العادات لا تتبعنه

وعج عن سبيل الأمة الغضبية

وما بان من حق فلا تتركنه

ولا تعرضن عن فكرة مستقيمة

ومن ضل عن حق فلا تقفونه

وزن ما عليه الناس بالمعدلية

هنالك تبدو طالعات من الهدى

بتبشير من قد جاء بالحنفية

بملة إبراهيم ذاك إمامنا

ودين رسول الله خير البرية

فلا يقبل الرحمن ديناً سوى الذي

به جاءت الرسل الكرام السجية

وقد جاء هذا الحاشر الخاتم الذي

حوى كل خير في عموم الرسالة

وأخبر عن رب العباد بأن من

غدا عنه في الأخرى بأقبح خيبة

فهذي دلالات العباد لحائر

وأما هداه فهو فعل الربوبة

وفقد الهدى عند الورى لا يفيد من

غدا عنه بل يجري بلا وجه حجة

هذه نصائح نفيسة من نصائح الشيخ مستندة إلى الكتاب والسنة، يقول: إذا كنت أيها العبد تريد نجاتك من عذاب الله والفوز بثوابه فاقصد ربك متضرعاً له آناء الليل والنهار، واسأله أن يهديك الصراط المستقيم، ووطن نفسك للانقياد للحق، واقبله ممن قاله، وكن ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ودع عنك دين العادات والاقتداء بأهل الغضب والضلال، وأكثر من التدبر لكتاب الله وسنة نبيه، ثم ما بان لك من الحق فاتبعه غير مبال بخلاف المخالفين، واجعل كتاب الله وسنة نبيه نصب عينيك وزن بهما أحوالك وأحوال غيرك، فإنهما الميزان العادل غير العائل، فإنك إذا فعلت ذلك حصلت لك تباشير الخير وأمارات السعادة، واتبع ملة إبراهيم حنيفاً مائلاً عن جميع الأديان والبدع إلى دين محمد صلّى الله عليه وسلّم، فإن الله لا يقبل من أحد ديناً سوى الدين الذي ارتضاه لرسله واتباعهم حتى ختمهم بإمامهم وسيدهم محمد صلّى الله عليه وسلّم


الذي جمع الله به وله من المحاسن والكمالات ما لم تجتمع في غيره، وقد أخبر عن ربه أن من اتبعه فهو المهتدي السعيد ومن تولى عنه فهو الضال الطريد.

ثم قال: وهذا الذي بينته في هذه الأبيات فيها الدلالة للحيران والتفاصيل التي يحصل بها الفرقان، والهداية بيد الله لكنه من أقبل على ربه صادقاً وعمل بأسباب الهداية فلابد أن يقبله الله ويسلك به الصراط المستقيم.

وحجة محتج بتقدير ربه

يزيد عذاباً كاحتجاج مريضه

وذلك لأنه عمل في الحقيقة جرمين بل ثلاثة:

أحدها فعله للذنب.

ثانياً: احتجاجه عليه بالقدر، وهو كذب، فإن مضمون الاحتجاج بالقدر يعني أن الله اضطره وألجأه إليه وأكرهه عليه وهو لا يريد الذنب، وهذا كذب صريح، فإن الله مكنه من الترك، بل فتح له كل باب يصده عن الذنب، وقد أبت نفسه الأمارة بالسوء إلا أن توقعه في الذنب فالملام عليه لا على ربه.

ثالثاً: أنه بهذا الاعتذار يمهد لنفسه الإصرار على الذنوب والإقامة على ما يسخط علام الغيوب، فإن هذا الاعتذار يهون عليه كل ذنب كما هو مشاهد.

وأما رضانا بالقضاء فإنما

أمرنا بأن نرضى بمثل المصيبة

كسقم وفقر ثم ذل وغربة

وما كان من مؤذ بغير جريمة

فأمّا الأفاعيل التي كرهت لنا

فلا نص يأتي في رضاها بطاعة

وقد قال قوم من أولى العلم لا رضى

بفعل المعاصي والذنوب الكبيرة

فإن إله الخلق لم يرضها لنا

فلا نرتضي مسخوطه لمشيئة

وقال فريق نرتضي بقضائه

ولا نرتضي المقضي أقبح خصلة

وقال فريق نرتضي بإضافة

إليه وما فينا فنلقى بسخطة

كما أنها للرب خلق وأنها

لمخلوقه كسب كفعل الغريزة

فنرضى من الوجه الذي هو خلقه

ونسخط من وجه اكتساب بحيلة

يعني إذا أورد المورد علينا أنه يجب الرضى بقضاء الله يعني والمعاصي من قضائه فقد أجاب الشيخ بأربعة أجوبة كل واحد منها كاف شاف، فكيف إذا اجتمعت أحدها أن الذي أمرنا أن نرضى به المصائب دون المعايب، فإذا أصبنا بمرض أو فقر أو فاقة ونحوها من حصول مكروه أو فقد محبوب فيجب علينا الصبر على ذلك.

واختلف في وجوب الرضى والصحيح استحبابه لأنه لم يثبت وجوب الأمر به على وجه الوجوب ولتعذره على أكثر النفوس لأن الصبر حبس النفس عن التسخط، واللسان عن الشكوى، والأعضاء عن عملها بمقتضى السخط من نتف الشعر وشق الجيوب وحثو التراب على الرؤوس ونحوها، وذلك واجب مقدور.

وأما الرضى الذي هو مع ذلك طمأنينة القلب عند المصيبة وأن لا يكون فيه تمني أنها ما كانت، فهذا صعب جداً على أكثر الخلق، فلهذا لم يوجبه الله ولا رسوله وإنما هو من الدرجات العالية، وهو مأمور به أمر استحباب.

وأما الرضى بالذنوب والمعايب فلم نؤمر بالرضى بها ولم يأت نص صحيح أو ضعيف في الأمر بها فأين هذا من ذاك.

الجواب الثاني: ما قاله طائفة من أهل العلم أن الله لم يرض لنا أن نكفر ونعصي فعلينا أن نوافق ربنا في رضاه وسخطه قال تعالى: {{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}} ([50]) فالدين موافقة ربنا في كراهة الكفر والفسوق والعصيان مع تركها وموافقته في محبة الشكر والإيمان والطاعة لنا مع فعلها.

الجواب الثالث: أن القضاء غير المقضي فنرضى بالقضاء لأنه فعله تعالى، وأما المقضي الذي هو فعل العبد فينقسم إلى أقسام كثيرة الإيمان والطاعة علينا الرضى بها. والكفر والمعصية لا يحل لنا الرضى بها بل علينا أن نكرهها، ونفعل الأسباب التي ترفعها من التوبة والاستغفار والحسنات الماحية، وإقامة الحد والتعزير على من فعلها، والمباحات مستوية الطرفين.

الجواب الرابع: أن الشر والمعاصي تختلف إضافتها فهي من الله خلقاً وتقديراً وتدبيراً وهي من العبد فعلاً وتركاً، فحيث أضيفت إلى الله قضاء وقدراً نرضى بها من هذا الوجه وحيث أضيفت إلى العبد نسخطها ونسعى بإزالتها بحسب مقدورنا.

فهذه الأجوبة عن الأمر بالرضى بالقضاء قد اتضح أنها لا تدل على شيء من مطلوب المعترض.


ثم قال الشيخ:

ومعصية العبد المكلف تركه

لما أمر المولى وإن بمشيئة

فإن إله الخلق حق مقاله

بأن عبادي في جحيم وجنة

كما أنهم في هذه الدار هكذا

بل البهم في الآلام أيضاً ونعمة

يعني أن معصية العبد تركه لما أمر الله به ورسوله وإن كان ذلك بمشيئة الله، فالله تعالى شاءه وأراده لماله في ذلك من الحكمة، ولعلمه تعالى أن العبد يفعله باختياره ومراغمته لربه، فلا حجة له في ذلك، وقد أخبر الله تعالى: {{إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ}} ([51]) في دار الدنيا ودار البرزخ ودار القرار أما الجنة أو النار بل البهائم في الدنيا، منها ما هو منعم، ومنها ما هو مريض أو مصيبه شيء من الآلام، ولذلك كله أسباب وطرق معروفة يحمد المولى بوضعه الأسباب المنوعة مفضية إلى مسبباتها، ولهذا قرر الشيخ هذا المقام بقوله:

وحكمته العليا اقتضت ما اقتضته من

فروق بعلم ثم أيد ورحمة

يسوق أولي التعذيب بالسبب الذي

يقدره نحو العذاب بعزة

ويهدي أولي التنعيم نحو نعيمهم

    بأعمال صدق في رجاء وخشية

وأمر إله الخلق بيّن ما به

    يسوق أولي التنعيم نحو السعادة

فمن كان من أهل السعادة أثرت

أوامره فيه بتيسير صنعة

ومن كان من أهل الشقاوة لم يُبَلْ

بأمر ولا نهي بتيسير شقوة

ولا مخرج للعبد عما به قضى

ولكنه مختار حسن وسوأة

فليس بمجبور عديم إرادة

ولكنه شاء بخلق الإرادة

يعني أن حكمة الرب العليا اقتضت افتراق العباد بالعلم والجهل والعمل والكسل والنعيم وضده وذلك بحسب عملهم بالأسباب النافعة أو الأسباب الضارة فإن الله دعا إلى دار السلام وبيّن طريقها وأعمال البر الموصلة إليها التي مرجعها إلى ثلاثة أمور تصديق خبر الله ورسوله وامتثال أمر الله وأمر رسوله واجتناب نهيهما وأمر العباد بسلوكها وأخبر بما لهم عنده من الكرامة فمن كان من أهل السعادة يسره لعمل أهل السعادة وحبب إليه الإيمان وزينه في قلبه وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان فسار بحسن طريقه إلى سعادته الأبدية، ومن كان من أهل الشقاوة لم يبال بأمر الله ولا نهيه، بل كذب وتولى فاستحق العذاب بجرمه وذنوبه، بيّن الله له الهدى وأمره بسلوكه فأدبر وتولى فولاه الله ما تولى لنفسه ووكله إليها، ومن وُكِلَ إلى نفسه الأمارة بكل سوء الظالمة الجاهلة فقد هلك وذلك بما كسبت يداه ليس بمجبور على ذلك ولا مكره ولا مقسور بل هو مختار مسرف كفور.


فلهذا قال الشيخ بـ:

ومن أعجب الأشياء خلق مشيئة

بها صار مختار الهدى والضلالة

فقولك هل أختار تركاً لحكمه

كقولك هل أختار ترك مشيئتى

وأختار لا أختار فعل ضلالة

ولو نلت هذا الترك فزت بتوبة

وذا ممكن لكنه متوقف

على ما يشاء الله من ذي المشيئة

يقول الشيخ: إن من أعجب الأشياء أن خلق الله للعبد مشيئة يتمكن بها من كل ما يريد، فيختار بها الهدى إن كان من أهل السعادة، ويختار بها الضلالة إن كان من أهل الشقاوة، والعبد هو الذي يفعل ويعمل ويكسب من غير مانع له عما يريده، فقولك أيها المعترض عليه: هل أختار ترك حكم الله وقدره؟ مثل قولك: هل أختار ترك مشيئتي؟ يعني: فأنت الذي اخترت أفعال المعاصي، فلو زعمت أنك لا تختار ولا تحب فعل الضلالة والغي، فأنت بين أمرين: إمّا أن تكون كاذباً، وهو الواقع لكل من يعترض على المعاصي بالقدر، ولكنه يريد بهذا الكلام دفع الشنعة عليه وقصده معروف، فهو يعرف من نفسه أنه لا يختار ولا يحب أن يترك ما باشره من الكفر والإجرام، فلو فرض وقدر على وجه الإمكان أنه صادق في قوله: إني أختار أن لا أختار فعل الضلالة، وكان ذلك من صميم قلبه صادقاً في ذلك، لو كان الأمر كذلك لكان هذا توبة لأن العبد متى كان له إرادة مصممة على فعل ما يحبه الله، وعلى ترك ما يكرهه الله أقبل بهذه الإرادة إلى الخيرات وانصرف عن السوء والسيئات وكان توبة له من جميع الموبقات، ولكن من وفق لهذه الحال كان أبعد الناس عن الاحتجاج بالقدر، والوصول إلى هذه الدرجة العالية ممكن في حق كل أحد، ولكنه يتوقف على مشيئة الله وإرادته، ومن لجأ إلى الله وأناب إليه وتضرع له هداه الله وشاء منه أن يفعل ما يحبه ويرضاه، وأشار الشيخ إلى هذا الفرق اللطيف بقوله: على ما يشاء الله من ذي المشيئة.

وذو المشيئة هو العبد، وهذا الفرق اللطيف هو أنه إن شاء تعالى أن يعين عبده على فعل ما يحبه ويرضاه وشاء من عبده ذلك الفعل حصل المطلوب، وفاز العبد بكل مرغوب، وإن لم يشأ تعالى إعانة عبده، بل أمره بالخير وأحب منه أن يفعله ونهاه عن الشر وكره له فعله، ولكن لم يشأ من نفسه إعانته بقي العبد على ما اختاره لنفسه من الإقامة على مساخط الله.

قال الشيخ بعدما أجاب بهذه الأجوبة السديدة والمعارف المفيدة.

فدونك فافهم ما أجبت به

معان إذا انحلت بفهم غريزة

أشارت إلى أصل يشير إلى الهدى

ولله رب الخلق أكمل مدحتي

أي: دونك هذه الأجوبة لما سألت عنه سواء كان السؤال سؤال استرشاد أو سؤال اعتراض وعناد كما هو الظاهر من ألفاظ السائل، وفحوى كلامه وهو الذي فهمه الشيخ، فهذه الأجوبة التي تشير وتبين هذا الأصل وهو أصل القدر، الذي هو أحد أصول الإيمان، وقد بيّن الشيخ في تفاصيل جوابه هذا الأصل بياناً شافياً، ووضحه توضيحاً كافياً لا تجد هذا التفصيل وهذا التحقيق في كلام غير هذا الإمام العظيم فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين عموماً وأهل العلم خصوصاً أفضل الجزاء، ورفعه في أعلى درجات الصديقين ونفع بعلومه جميع المسلمين آمين.

خاتمة في ذكر أمثلة منوعة تكشف لك مسألة القضاء والقدر، حيث كان هذا المقام من أهم الأمور وقد حارت فيه أفهام كثير من الأذكياء، ولم يهتد إلى الصواب المحض كثير من العلماء وكثير منهم يأخذ مسائله على وجه التقليد غير مقتنع بوجه يجمع فيه بين الإيمان بشمول القضاء والقدر مع أن


العبد هو الفاعل حقيقة لفعله وهو الممدوح أو الملوم على كسبه مع أن الشيخ رحمه الله في هذا النظم حقق هذا المقام غاية التحقيق وبيّن الهدى فيه من الضلال حتى وضح الطريق، لكن الأمثلة تزيد البصير بصيرة وتزيل عن الشاك الطالب للحق الريب والحيرة، لهذا نقول في ضرب الأمثلة المتعلقة بهذه المسألة العظيمة:

المثال الأول: رجل كان مسرفاً على نفسه كثير الجرأة على المعاصي فقال له صاحبه وهو يناصحه ويحاوره: أما ترتدع عما أنت عليه، أما تتوب إلى ربك وتنيب إليه، أما علمت أن عقابه شديد على العاصين، فقال المسرف دعني أتمتع فيما أريد، فلو شاء الله لهداني ولو أراد لي غير ذلك لما أغواني، فقال له الناصح بهذا الاعتذار الكاذب: ازداد جرمك وتضاعف ذنبك، فإن الله لم يغوك، بل الذي أغواك الشيطان وانقادت له النفس الأمارة بالسوء حيث قال الشيطان مخاطباً لربه: {{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأَُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}} ([52]) فالشيطان دعاك إلى المعاصي فأجبته والله دعاك إلى الهدى فعصيته، بيّن الله لك السعادة وطرقها وسهل أسبابها ورغبك فيها ووضح لك طريق الشقاوة وحذرك من سلوكها واتباع خطوات الشيطان، وأخبرك بما تؤول إليه من العذاب الشديد فرضيت واستبدلت الضلالة بالهدى والشقاوة على السعادة، وجعل لك قدرة وإرادة تختار بهما وتتمكن بهما من كل ما تريد ولم يلجئك إلى فعل المعاصي ولا منعك من


الخير، فسلكت طريق الغي وتركت طريق الرشد فلا تلم إلا نفسك أما سمعت ما يقول الداعي لأتباعه يوم القيامة حيث يقوم خطيباً فيهم: {{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ}} الآية ([53]) فقال المسرف: كيف أستطيع أن أترك ما أنا فيه والله هو الذي قدره علي وهل يمكنني الخروج عن قضائه وقدره، فقال له الناصح: نعم يمكنك الخروج من قَدَرِه بقَدرِه، فالتوبة والإقلاع عما أنت فيه، وأنت تعلم علما لا تشك فيه من قدر الله فارفع قدر الله بقدره.

ثم إن قولك: إن المعاصي الواقعة مني من قدر الله، إن أردت أن الله أجبرك عليها وحال بينك وبين الطاعة، فأنت كاذب وأول من يعلم كذبك نفسك، فإنك تعلم كل العلم أنك لو أردت ترك الذنوب لما فعلتها، ولو أردت إرادة جازمة فعل الواجبات لفعلتها، فلقد أقدمت على المعاصي برغبة منك ومحبة لها وإرادة لا تشك ولا يشك غيرك فيها وتعلم أن قولك: إنها بقضاء الله وقدره دفع للوم عنك، فهل تقبل هذا العذر لو ظلمك ظالم أو تجرأ عليك متجرئ، وقال: إني معذور بالقدر فلا تلمني، أما يزيدك كلامه هذا حنقاً، وتعرف أنه متهكم بك فقال المسرف: بلى هذا الواقع، فقال الناصح: كيف ترضى أن تعامل ربك الذي خلقك وأنعم عليك النعم الكثيرة بما لا ترضى أن يعاملك فيه الناس.


وإن أردت بقولك أنها بقضاء وقدر، بمعنى أن الله علم مني أني سأقدم عليها وأعطاني قدرة وإرادة أتمكن بهما من فعلها، وأنا الذي فعلت المعاصي بما أعطاني ربي من القوى التي مكنني فيها من المعاصي، وأعلم أنه لم يجبرني ولم يقهرني، وإنما أنا الذي فعلت، وأنا الذي تجرأت فقد رجعت إلى الحق والصواب، واعترفت بأن لله الحجة البالغة على عباده.

المثال الثاني: رجل جاء لبعض العلماء فقال له: أحب أن ترشدني إلى أمر يطمئن له قلبي وتقتنع به نفسي من جهة القضاء والقدر، فإني لا أشك أن جميع الحوادث بقضاء الله وقدره، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأعلم مع ذلك أن أفعالي كلها باختياري وإرادتي وأنا الذي عملتها، هذا أمر ضروري لا أشك فيه، وأعتقد أنه لا يشك فيه أحد، ولكن أحب طريقة تهديني إلى كيفية الجمع بين الأمرين.

فقال العالم: الجواب المقنع في هذه المسألة أنك إذا علمت أن الله خلقك وخلق أعضاءك الظاهرة وأعضاءك الباطنة، هذا أمر لا تشك فيه ولا يشك فيه مسلم، ومن أعظم الأعضاء الباطنة أن الله جعلك مريداً لكل ما تحبه، كارهاً لما تبغضه إجمالاً وتفصلاً، وأن الله أعطاك قدرة توقع بها جميع ما تريد فعله، وتنكف بها عما تريد تركه، فأنت تعترف بذلك ولا تستريب فيه وتعرف مع ذلك أنك إذا أردت أمراً من الأمور إرادة جازمة، وأنت تقدر عليه فعلته من دون توقف حتى أن


الأمور المستقبلة التي تريد فعلها إرادة جازمة تقول فيها: سأفعل كذا إن شاء الله كما قال تعالى: {{وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا}{إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}} ([54]) فإذا اعترفت بذلك كله، يعني اعترفت بأنه تعالى خلقك وخلق قواك الظاهرة والباطنة ومكنك من كل ما تريد بما أعطاك من قدرة ومشيئة، وأنت الذي تختار وتفعل أو تترك فقد جمعت بين الأصلين: الاعتراف بعموم قدر الله، وأن أفعالك كلها من كسبك، وأنه إن وفقك للخير فبفضله وتيسيره، وإن لم يوفقك بل وكلك إلى نفسك فلا تلومن إلا نفسك، ومعرفة هذه المقدمات سهلة بسيطة، وبها يحصل لك الاقتناع التام.

ففعلك داخل في عموم قدرة الله وخلقه لأن خالق السبب التام هو الخالق للمسبب والسبب التام قدرتك وإرادتك، والله هو الذي خلقهما وأنت الذي تفعل بهما، وإنما الإشكال الذي لا يمكن حله لبطلان أحد أصليه اعتقادك أنك مجبور على أفعالك، فهذا الذي لا يمكن العبد أن يعترف معه أن الأفعال أفعاله، وهذا يعلم بطلانه بالضرورة كما سبق بيانه، فقال الرجل السائل المسترشد لقد وضحت المسألة وضوحاً لا أشك فيه علمت بأن الله خلقني وخلق جميع أوصافي، وخلق الأسباب التي أتمكن بها من الأفعال، وأنا الذي أفعل وأطيع إن ساعدني الله بتوفيقه، وأعصي وأغفل إن وكلني إلى نفسي.

فقال العالم وأزيدك إيضاحاً وبياناً، لهذا السؤال قال الله


لخيار المؤمنين: {{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ}} ([55]) فلم يقل: ولكن الله أجبركم على الإيمان إلى آخره، ولكنه لما علم تعالى حالة النفس وأنها ظالمة جاهلة أمارة بالسوء لطف بالمؤمنين، وحبب إلى قلوبهم الإيمان وزينه فيها، فانقادت إلى الخيرات باختيارها لما جعل في قلوبهم من هذه الأوصاف الجليلة، ولما كره إليهم الكفر والفسوق والعصيان انصرفوا عنها لكراهتهم لها، وكان هذا لطفاً وكرماً منه.

وأما الآخرون فلم يجعل لهم نصيباً من هذا اللطف فانحرفوا باختيارهم وكانوا هم السبب لأنفسهم، حيث كانت مقاصدهم فاسدة وحيث عرض عليهم الخير فرفضوه، واعترض لهم الشر والغي فاختاروه فولاَّهم ما تولوا لأنفسهم واللوم كله عليهم، والحجة البالغة لله على العباد كلهم: {{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}} ([56]).

وأزيدك إيضاحاً وبياناً: ألست تفرق ويفرق كل أحد بين حركة المرتعش بغير اختياره وبين حركة الباطش، والكاتب باختياره وتعلم أن الأخير فعل العبد حقيقة، والأول مقسور عليه وما أشبه ذلك من الحركات التي من هذا النوع، تفرق بين الحركة الاختيارية والحركة الاضطرارية، فمن ألحق أحد القسمين بالآخر وساواه فهو مختل الشعور.

قال الرجل: جزاك الله خيراً، فلقد أزلت عني كل إشكال واقتنعت بذلك غاية الاقتناع.

المثال الثالث: قضية الرجل الجبري:

كان رجل قد غلا في الجبر والقدر غلواً عظيماً، فكان يعتذر بالقدر عند كل جليل وحقير حتى آلت به الحال إلى الاستهتار وانتهاك أصناف المعاصي، وكلما نصح، وليم على أفعاله جعل القدر حجة له في كل أحواله، وكان له صاحب يعذله وينصحه عن هذه المقالة التي تخالف العقل والنقل والحس، ولا يزيده العذل إلا إغراء، وكان صاحبه ينتظر وينتهز الفرصة في إلزامه بأمور تختص به وتتعلق، وكان هذا الجبري صاحب ثروة، له أموال منوعة قد وكل عليها الوكلاء والعملة، فصادف في وقت متقارب أن جاءه صاحب ماشيته فقال: إن الماشية هلكت وتلفت جميعها لأني رعيتها في أرض جدبة، ليس فيها عود أخضر، فقال له: فعلت ذلك وأنت تعلم أن الأرض الفلانية مخصبة فما عذرك في ذلك، فقال: قضاء الله وقدره، وكان ممتلئاً غضباً قبل ذلك، فزاد غضبه من هذا الكلام واستشاط غضبه وكاد يتقطع من هذا الاعتذار.

وجاءه صاحب البضائع فقال: إني سلكت الطريق المخوف فاقتطع المال قطاع الطريق، فقال له: كيف تسلك هذا الطريق المخوف مع علمك أنه مخوف وتترك الطريق الآمن الذي لا تشك في أمنه، فأجابه بمثل جواب الراعي للماشية وعمل معه الجبري ما عمله مع صاحبه.


ثم جاءه وكيله على تربية أولاده وحفظهم، فقال: إني أمرتهم أن ينزلوا في البئر الفلانية ليتعلموا السباحة فغرقوا، فقال: لِمَ فعلت ذلك وأنت تعلم أنهم لا يحسنون السباحة، والبئر المذكورة تعلم أن ماءها غزير فكيف تتركهم ينزلون فيها وحدهم، وأنت لست معهم، فقال: هكذا قضاء الله وقدره فغضب عليه غضباً لا يشبه الغضب على الأولين، وكاد الغضب أن يقتله، وكل واحد من هؤلاء الذي وكلهم على ما ذكرنا يزداد غضبه عليه إذا قال له: هذا قضاء الله وقدره.

فحينئذٍ قال له صاحبه: يا عجباً لك يا فلان كيف قابلت هؤلاء المذكورين بهذا الغضب البليغ، ولم تعذرهم حين اعتذروا بالقدر، بل زاد هذا الاعتذار في جرمهم عندك، وأنت مع ربك في أحوالك المخجلة قد سلكت مسلكهم وحذوت حذوهم، فإن كان لك عذر فهم من باب أولى أعذر وأعذر وإن أعذارهم تشبه التهكم والاستهزاء، فكيف ترضى أن تكون مع ربك هكذا.

فانتبه الجبري حينئذٍ وصحا بعدما كان غارقاً في غلوه، وقال: الحمد لله الذي أنقذني مما كنت فيه، وجعل لي موعظة وتذكيراً من هذه الوقائع التي وقعت لي، ولمست فيها غلطي الفاحش، والآن أعتقد أن ما حصل لي من نعمة الهداية إلى الحق أعظم عندي من هذه المصائب الكبيرة، كما تحقق فيها قوله تعالى: {{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}} ([57]).

المثال الرابع: تخاصم القدري مع الجبري:

طال الخصام بين قدري يعتقد أن أفعال العباد لا تتعلق بها مشيئة الله، وبين جبري يعتقد ضد ذلك، وأنهم مجبورون على أفعالهم، واقعة بغير اختيارهم لأنهما متباعدان في طرفي نقيض، فاتفقا على التحاكم إلى عالم من علماء أهل السنة يعرفان كمال معرفته، وكمال دينه.

فقال السني ليعرض كل منكما علي مقالته، ولكما علي أن أدقق الحكم بينكما وأن أرد ما مع كل واحد من باطل وأثبت ما معه من الحق.

فقال القدري: أنا أقول: أن الله حكم عدل لا يظلم من عباده أحداً، ومن مقتضى إثباتي لهذا الأصل أنِّي أنزه ربي عن أن تكون الفواحش الواقعة من العباد واقعة بمشيئة الله بل العبد هو الذي تجرأ عليها، وهو الذي فعلها استقلالاً، وأدلتي على هذا جميع النصوص الدالة على أن الله ليس بظالم لعباده مثقال ذرة، وأنه حكم عدل لأن تعلق مشيئته بأفعالهم، ثم تعذيبهم عليها ظلم من جهتين: من جهة إضافتها إلى مشيئته، وظلم من جهة كيف يعذبهم على أمر هو الذي شاءه وقدره، ثم إني لو قلت: إنها واقعة تحت مشيئة الله لأبطلت بذلك أمر الله ونهيه، بل في ذلك إبطال للشرع، فأنا ما رأيت السلامة من هذا المحذور والمحظور إلا بهذه الطريقة العادلة التي يرتضيها كل عاقل منزه لله.

فقال الجبري: أنا أقول أن الله على كل شيء قدير، وأنه خالق كل شيء، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، قضايا


لا يمكن لمسلمٍ أن ينكرها، ولا ينازع فيها، وهذا عموم لا يخرج عنه حادث، ومن أعظم الحوادث أفعال العباد من طاعات ومعاصي وغيرها، فلو أنها خارجة عن قدرة الله ومشيئته لم يكن الله قديراً على كل شيء، ولا خالقاً لكل شيء، ومقتضى ذلك أن العباد مجبورون على أفعالهم غير مختارين لها، لأنهم لو اختاروها وفعلوها حقيقة لخرجت عن مشيئة الله وقدرته، فتعين القول بالجبر، وأنهم مجبورون مقسورون على أفعالهم قد نفذت فيهم مشيئة الله وصرفتهم الإرادة.

وأدلتي على قولي هذا جميع النصوص المثبتة لعموم خلق الله ومشيئته وقدرته، وإني لو قلت: أن العبد فاعل حقيقة لفعله لأخرجت هذا القسم عن مشيئة الله وإرادته.

فقال الحاكم السني: لقد وضح كل واحد منكما مذهبه توضيحاً كاملاً واستدل كل واحد منكما بأدلة لا يمكن المنازعة فيها لكثرتها ووضوحها، ولكن كل واحد منكما لم ينظر المسألة من جميع نواحيها، بل لحظ جانباً وعمي عن الجانب الآخر، وكثير من الأغلاط يأتي من هذا السبب وسأحكم بينكما بحكم يستند على الكتاب والسنة ويستند إلى العقل والفطرة، وسأقنع كل واحد منكما إن كان قصده طلب الحقيقة.

أما أنت أيها القدري فأصبت بقولك: إن أفعال العبيد كلها من كسبهم، وكلها من فعلهم طاعاتها ومعاصيها وغيرها من أفعالهم، وأصبت في استدلالك عليها بأن الله نسبها


وأضافها إليهم، وأصبت في تبريك من قول يلزم منه إسقاط الأمر والنهي وهو الجبر، ولكنك أخطأت خطأً كبيراً، حيث زعمت أن مشيئة الله وقدرته وخلقه لا تعلق لها بأفعال العباد، فنفيت عموم النصوص الدالة على هذا الأصل وظننت أن إثبات عموم الخلق والمشيئة لله ينافي كون الأفعال الصادرة من العباد تكون باختيارهم ومن كسبهم، وهذا الظن غلط محض، بل المؤمن العارف يجمع بين الأمرين يثبت لله تعالى أنه خالق كل شيء من الأعيان والأوصاف والأفعال، وأنه مع ذلك، الأفعال صادرة منهم حقيقة.

وأما أنت أيها الجبري، فلقد أصبت بإثباتك أن الله على كل شيء قدير، وأنه خالق كل شيء، وأنه ما شاء الله كان، ووجب وجوده، وما لم يشأ لم يكن، وأصبت في هذا الاستدلال ولكنك أخطأت خطأ كبيراً، حيث زعمت أن من لوازم إثبات عموم مشيئة الله أن العبد مجبور على أفعاله، لم تقع بمشئته، وظننت أن إثبات عموم القدر يقتضي منك أن تقول هذا القول.

ثم قال السني أيضاً لهما: لقد قال كل منكما قولاً ممزوجاً حقه بباطله وسأحكم بينكما بحكم يتضمن إثبات ما مع كل منكما من حق، وإبطال مع ما كل منكما من باطل، وقد دل على هذا الحكم عدة نصوص، منها قوله تعالى: {{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَوَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}} ([58])


فهذه الآية الكريمة حكمت بينكما فإن الله أثبت للعبد مشيئة، بها يفعل ويسلك الصراط المستقيم أو يدعه باختياره ومشيئته، وأخبر أن مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله غير خارجة عنها، فمشيئة الله عامة لا يخرج عنها شيء، ومع ذلك فالعباد هم الذين يعملون ويطيعون ويعصون، ومع أن هذا هو الذي دلت عليه النصوص الشرعية من الكتاب والسنة فهو الذي يدل عليه العقل والواقع والحس، فإن الله خلق العبد وخلق ما فيه من جميع الأوصاف والقوى، ألستما تعترفان بذلك وكل عاقل يعترف به، قالا: بلى.

قال السني: فإن من جملة أوصاف العبد التي خلقها الله فيه أنه أعطاه قدرة ومشيئة يتمكن بهما من كل ما يريده من خير وشر وطاعة ومعصية، وبهما تقع طاعاته ومعاصيه، وتعلمان أن العبد متى أراد أمر من الأمور التي يقدر عليها فعله بتلك القدرة والإرادة اللتين خلقهما الله فيه، فإذا أوقع العبد بهما فعلاً من أفعاله دخلت تحت عموم قدر الله، لأن خالق السبب التام الذي هو قدرة العبد وإرادته خالق للمسبب، يعني لما يصدر عنهما، وكل منكما يعترف أن الله خالق قدرة العبد ومشيئته كما خلق جميع قواه الظاهرة والباطنة، فإذا اتفقتما على هذا القول، الذي هو الصواب، بما عرف من دلالة النصوص الشرعية عليه، وأنه هو المعقول المحسوس عاد الأمر إلى الوفاق، فليتبرأ كل منكما من الباطل الذي معه، وليعترف بالحق الذي مع صاحبه ليتبرأ الجبري من اعتقاده أن العبد مجبور مقهور على أفعاله، وليعترف أنها واقعة بكسبه وفعله


حقيقة، وليتبرأ لقدري من اعتقاده أن أفعاله غير داخلة تحت مشيئة الله، وغير شامل لها خلق الله وقدره، وليعترف بعموم خلق الله وشمول قدره.

والحمد لله الذي بيّن الصواب ووفق من شاء من عباده لاتباعه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

المثال الخامس: في الآجال والأرزاق:

اعلم أن الآجال والأرزاق كسائر الأشياء، مربوطة بقضاء الله وقدره، فالله تعالى {{يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ}} ([59]) {{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}} ([60]) فهذا أمر لا ريب فيه ولا شك، ومع ذلك فهي أيضاً كغيرها لها أسباب دينية وأسباب طبيعية مادية، والأسباب تبع قضاء الله وقدره، ولو كان شيء سابق القضاء والقدر من الأسباب لسبقته العين لقوتها ونفوذها.

فمن الأسباب الدينية لطول العمر وسعة الرزق لزوم التقوى والإحسان إلى الخلق لا سيما الأقارب كما ثبت في  «الصحيحين» عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره (أي يطيل عمره) فليصل رحمه» وذلك أن الله يجازي العبد من جنس عمله، فمن وصل رحمه وصل الله أجله ورزقه وَصْلاً حقيقياً، وضده من قطع رحمه قطعه الله في أجله وفي رزقه وقال تعالى: {{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}{وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ}} ([61]) ومن الأسباب الدينية لقطع طول العمر البغي، والظلم للعباد، فالباغي سريع المصرع، والظالم لا يغفل الله عن عقوبته، وقد يعاقبه عاجلاً بقصم العمر، ومن الأسباب الدينية لمحق الرزق المعاملات المحرمة بالربا والغش، وأكل أموال الناس بالباطل، فصاحبها يظن بل يجزم أنها توسع عليه الرزق، ولهذا تجرأ عليها، والله تعالى يعامله بنقيض قصده، قال تعالى: {{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}} ([62]) فالمعامل بالربا يمحق صاحبه ويمحق ماله وإن تمتع به قليلاً فمآله إلى المحق والقل، كما أن المتصدق يفتح الله له من أبواب الرزق ما لا يفتحه على غيره، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما نقصت صدقة من مال بل تزيده ثلاثاً» ([63]) وكذلك الغش وأكل أموال اليتامى والأوقاف بغير حق من أكبر أسباب المحق، مع ما على صاحبها من الإثم والعقوبة.

ومن أسباب طول العمر وقصره الطبيعية: الصحة والمرض، فالمعافى من الأسقام والعافية سبب لطول العمر، كما أن الأمراض بأنواعها سبب لقصره، والمسكن والبقعة إذا كانت صحيّة طيبة الهوى صارت من أسباب عافية أهلها وطول أعمارهم والعكس بالعكس، البقاع الردية المناخ والهوى، أو البقاع الوبية سبب لقصر العمر كما هو مشاهد، والتوقي عن المخاطر والتهالك واستعمال الأسباب الواقية فائدتها في طول العمر ظاهرة، والإلقاء بالنفس إلى التهلكة وسلوك المخاطر وكل أمر فيه خطر سبب ظاهر للهلاك والأمثلة في هذا كثيرة.

ومن الأسباب المادية في حصول الرزق وسعته استعمال المكاسب النافعة، وهي كثيرة متنوعة كل أحد يناسب له منها ما يوافقه ويحسنه ويليق بحاله كما قال تعالى: {{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}} ([64]) فيدخل في هذا العمل جميع الأسباب النافعة وكذلك قوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ}} ([65]) إلى غير ذلك من الآيات وكل هذه الأمور تابعة لقضاء الله وقدره فإن الله تعالى قدر الأمور بأسبابها، فالأسباب والمسببات من قضاء الله وقدره، ولهذا لما قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: يا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئاً، قال: «هي من قدر الله» ([66]).

وكذلك الأدعية المتنوعة سبب كبير لحصول المطلوب والسلامة من المرهوب، وقد أمر الله بالدعاء ووعد بالإجابة والدعاء نفسه، والإجابة كلها داخلة في القضاء والقدر.

وقد جمع النبي صلّى الله عليه وسلّم الأمر بالعمل بكل سبب نافع مع الاستعانة بالله، كما ثبت في الصحيح مرفوعاً: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله» ([67])، فهذا أمر بالحرص على الأسباب النافعة في الدين والدنيا مع الاستعانة بالله لأن هذه الاستقامة، وذلك لأن الانحراف من أحد أمور ثلاثة: أما أن لا يحرص على الأمور النافعة، بل يكسل عنها وربما اشتغل بضدها أو يشتغل بها ولكن يتوكل على حوله وقوته، وينظر إلى الأسباب ويتعلق جميع قلبه به وينقطع عن مسببها، أو لا يشتغل بالأسباب النافعة ويزعم أنه متوكل على الله، فإن التوكل لا يكون إلا بعد العمل بالأسباب، فهذا الحديث بيّن به النبي صلّى الله عليه وسلّم الطرق النافعة للعباد.

ولنقتصر على هذا فإنه يحصل به المقصود والله أعلم، وصلى الله على محمد وسلم.

قال ذلك وكتبه عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي غفر الله له ولوالديه وجميع المسلمين وافق الفراغ منه في 3 ربيع الأول سنة 1376. وتم نقله من خط المؤلف بيد الفقير إلى مولاه بكل أحواله محمد بن سليمان البسام في 20 شعبان سنة 1421.

بلغ مقابلة وتصحيحاً على نسخه بخط المؤلف

وذلك بحسب الإمكان بقلم كاتبه وابنه منصور

نسأل الله المغفرة والرحمة وصلى الله على نبينا

محمد وآله وصحبه وسلم وذلك في يوم 6/3/1422هـ




[1] - قوله: «المكنة» هو بكسر الميم وسكون الكاف كما قال ابن مالك في الألفية، وفِعْله لهيئة كجِلْسَة لا كما قال المعلق عن المصباح.

[2] - سورة الأعراف: الآية 16.

[3] - سورة الإسراء: الآيتان 61، 62.

[4] - سورة الإسراء: الآية 81.

[5] -    وفي نسخة معشر.

[6] - في سنن ابن ماجه من طريق جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

[7] - سورة الأنعام: الآيتان 148، 149.

[8] - سورة الأنعام: الآية 148

[9] - سورة الأنعام: الآية 148.

[10] - سورة الملك: الآية 14.

[11] - سورة التكوير: الآية 28.

[12] - سورة التكوير: الآيتان 28، 29.

[13] - سورة التكوير: الآية 29.

[14] - سورة الأنعام: الآية 148.

[15] - سورة النحل: الآية 35.

[16] - سورة البقرة: الآية 213.

[17] - سورة المؤمنون: الآية 115.

[18] - سورة القيامة: الآية 75.

[19] - سورة النمل: الآية 81.

[20] - سورة السجدة: الآية 7.

[21] - سورة الملك: الآية 3.

[22] - سورة الملك: الآية 4.

[23] - سورة الأعراف: الآية 54.

[24] - سورة المائدة: الآية 50.

[25] - أخرجه الإمام أحمد في المسند والترمذي في صحيحه والحاكم في المستدرك.

[26] - أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة بألفاظ مختلفة.

[27] - سورة النور: الآية 45.

[28] - أخرجه الإمام أحمد والترمذي.

[29] - سورة الليل: الآيات 5 ـ 10. والبخاري ومسلم.

[30] - سورة الليل: الآيات 5 ـ 7.

[31] - سورة الليل: الآيات 5 ـ 7.

[32] - سورة المائدة: الآية 16.

[33] - سورة العنكبوت: الآية 69.

[34] - سورة الأنفال: الآية 29.

[35] - سورة التغابن: الآية 11.

[36] - سورة الصف: الآية 5.

[37] - سورة البقرة: الآية 10.

[38] - سورة الأنعام: الآية 110.

[39] - سورة الزخرف: الآية 36.

[40] - سورة طه: الآية 48.

[41] - سورة طه: الآية 48.

[42] - سورة الطلاق: الآيتان 2، 3.

[43] - سورة الطلاق: الآية 4.

[44] - البخاري ومسلم مع اختلاف في ألفاظه.

[45] - سورة الملك: الآية 15.

[46] - رواه مسلم من حديث أبي هريرة.

[47] - سورة غافر: الآية 83.

[48] - سورة ق: الآية 5.

[49] - سورة البقرة: الآيتان 101، 102.

[50] - سورة الزمر: الآية 7.

[51] - سورة الانفطار: الآيتان 13، 14.

[52] - سورة ص: الآيتان 82، 83.

[53] - سورة إبراهيم: الآية 22.

[54] - سورة الكهف: الآيتان 23، 24.

[55] - سورة الحجرات: الآية 7.

[56] - سورة الأنعام: الآية 149.

[57] - سورة البقرة: الآية 216.

[58] - سورة التكوير: الآيتان 28، 29.

[59] - سورة الرعد: الآية 36.

[60] - سورة الأعراف: الآية 34.

[61] - سورة الطلاق: الآيتان 2، 3.

[62] - سورة البقرة: الآية 276.

[63] - صحيح مسلم ومسند أحمد وكلها بدون: «بل تزيده».

[64] - سورة الملك: الآية 15.

[65] - سورة البقرة: الآية 267.

[66] - الترمذي.

[67] - جزء من حديث رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.