سيرة الخلفاء الراشدين : علي بن أبي طالب رضي الله عنه
ترجمات المادة
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ولي المتقين، وناصر المستضعفين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد.
فها هي الصفحة الأخيرة من صفحات الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، نعيش فيها مع رابع الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأول من أسلم من الصبيان، وأقرب الخلفاء نسبًا من رسول الله ﷺ، فهو ابن عمه، ويلتقي معه في جده عبد المطلب.. وهو زوج ابنته فاطمة بنت محمد ﷺ إنه أبو الحسن.
علي بن أبي طالب t
*أحد العلماء المشهورين، والزهاد المعروفين، والخطباء المذكورين، بطل الأبطال، وفارس الفرسان، ومجندل الشجعان، وحامل الراية يوم خيبر لتأديب كل جبان!
في كفالة النبي ﷺ
*تربى علي بن أبي طالب t في بيت النبي ﷺ وذلك قبل النبوة، فقد روى ابن إسحاق عن مجاهد بن جبر قال: كان من نعمة الله على علي بن أبي طالب أن قريشًا أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثيرة، فطلب النبي ﷺ من العباس- وكان من أيسر بني هاشم – أن يخففا عن أبي طالب من عياله، فيأخذ كل واحد منهما واحدًا من عيال أبي طالب، فوافق العباس، فانطلقا حتى أتيا أبا طالب، فعرضا عليه الأمر، فقال لهما أبو طالب: إذا تركتما لي عقيلاً فاصنعا ما شئتما.
*فأخذ رسول الله ﷺ عليًا فضمه إليه، وأخذ العباس جعفر، فلم يزل عليُّ مع رسول الله ﷺ حتى بعثه الله نبيًا، فاتبعه عليٌّ وآمن به وصدقه.
إسلامه t
*قال t بعث رسول الله ﷺ يوم الاثنين، وأسلمت يوم الأربعاء، فهو أول من أسلم من الصبيان حيث كان في الثامنة من عمره يوم أسلم.
*ولصغر سنه، ووجوده في بيت النبي ﷺ تربى علي بن أبي طالب t على محاسن الأخلاق، فلم تكن له صبوة، ولم يعبد صنمًا، ولم يشرب خمرًا، ولم يعرف طريق اللهو والخنا.
ينام في فراش النبي ﷺ
*وفي يوم الهجرة نام علي بن أبي طالب t في فراش النبي ﷺ مع علمه بخطورة ذلك، فالكفار خلف الباب يحملون سيوفهم، وقد عزموا على قتل صاحب هذا الفراش، ولكن حياته t لم تكن بأعز عليه من حياة رسول الله ﷺ.
تأدية الأمانات
*ولما هاجر عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، أمر عليًا أن يقيم بعده بمكة حتى يؤدي عنه أمانة الودائع والوصايا التي كانت عند النبي ﷺ، ثم يلحقه بأهله، ففعل([1]).
مشاهده t
*شهد علي t بدرًا، وكانت له اليد البيضاء فيها، وشهد أحدًا، وكان على الميمنة ومعه الراية بعد مصعب بن عمير، وشهد يوم الخندق، فقتل يومئذ فارس العرب، وأحد شجعانهم المشاهير:
عمرو بن ود العامري. وشهد الحديبية، وبيعة الرضوان، وشهد خيبرًا، وكانت له بها مواقف هائلة، ومشاهد طائلة، ففتح الله على يديه، وقتل مرحبًا اليهودي.
*وشهد عمرة القضاء، وفيها قال له النبي ﷺ: «أنت مني وأنا منك» [رواه البخاري].
*وشهد الفتح وحنينًا والطائف، وقاتل في هذه المشاهد قتالاً كثيرًا، واعتمر من الجعرانة مع رسول الله ﷺ
*وبعثه رسول الله ﷺ أميرًا وحاكمًا على اليمن، ومعه خالد بن الوليد، ثم وافى رسول الله ﷺ عام حجة الوداع إلى مكة، وساق معه هديًا، وَأَهَلَّ كإهلال النبي ﷺ فأشركه في هديه، واستمر على إحرامه، ونحرا هديهما بعد فراغ نسكهما.
هل أوصى النبي ﷺ لعلي بالخلافة
*لما مرض رسول الله ﷺ قال العباس لعلي y: سل رسول الله ﷺ فيمن الأمر بعده؟ فقال: والله لا أسأله، فإنه إن منعناها، لا يعطيناها الناس بعده أبدا.
*والأحاديث الصحيحة الصريحة دالة على أن رسول الله ﷺ لم يوص إليه ولا إلى غيره بالخلافة، بل لوح بذكر الصديق، وأشار إشارة مفهمة ظاهرة جدا إليه.
*وأما ما يفتريه كثير من الجهلة والقصاص الأغبياء من أنه أوصى إلى علي بالخلافة، فكذب وبهت وافتراء عظيم، يلزم منه خطأ كبير، من تخوين الصحابة، وممالأتهم بعده على ترك إنفاذ وصيته، وإيصالها إلى من أوصى إليه، وصرفهم إياها إلى غيره، لا لمعنى ولا لسبب.
*وكل مؤمن بالله ورسوله، يتحقق أن دين الإسلام هو الحق؛ يعلم بطلان هذا الافتراء، لأن الصحابة كانوا خير الخلق بعد الأنبياء، وهم خير قرون هذه الأمة، التي هي أشرف الأمم في الدنيا والآخرة بنص القرآن، وإجماع السلف والخلف ولله الحمد([2]).
*كما أن الزعم بأن عليًا t قد أوصى له النبي ﷺ بالخلافة فَلِمَ لم يطالب بها؟ بل كان وزيرًا ومستشارًا للخلفاء من قبله وَزَوَّجَ وتزوج من بعضهم, فهذا فيه اتهام له بالسكوت عن الحق والضعف في طلبه، وحاشاه ذلك وهو الفارس الشجاع والمقدام الذي لا يهاب الصدع بكلمة الحق.
موقفه t من خلافة من قبله
*ثم لما مات رسول الله ﷺ كان علي من جملة من غسله وكفنه وولي دفنه.. ولما بويع الصديق يوم السقيفة، كان علي من جملة من بايع بالمسجد، وكان بين يدي الصديق كغيره من أمراء الصحابة، يرى طاعته فرضًا عليه وأحب الأشياء إليه.
*فلما توفي أبو بكر، وقام عمر في الخلافة بوصية أبي بكر إليه بذلك، كان علي من جملة من بايعه، وكان معه يشاوره في الأمور.
*فلما طعن عمر، وجعل الأمر شورى في ستة أحدهم علي، ثم خلص منهم بعثمان وعلي، فقدم عثمان على علي، فسمع وأطاع، فلما قتل عثمان يوم الجمعة عدل الناس إلى علي فبايعوه.
*وقد امتنع علي من إجابتهم إلى قبول الإمارة، حتى تكرر قولهم له، وفر منهم إلى حائط بني عمرو بن مبدول، وأغلق بابه، وجاء الناس، فطرقوا الباب وولجوا عليه، وجاؤوا معهم بطلحة والزبير، فقالوا له: إن هذا الأمر لا يمكن بقاؤه بلا أمير، ولم يزالوا به حتى أجاب t([3]).
فضائله t
*لعلي بن أبي طالب t فضائل كثيرة ومناقب عظيمة، حتى قال إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله: ما ورد لأحد من أصحاب رسول الله من الفضائل ما ورد لعلي. وهذا يدل على محبة أهل السنة لعلي وآل البيت، حيث إنهم حفظوا هذه الأحاديث ورووها كما سمعوها من النبي ﷺ لم يكتموا شيئًا منها، ومن الأحاديث في فضائله t.
*الأول: علي شهيد: عن أبي هريرة t أن رسول الله ﷺ كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير، فتحركت الصخرة، فقال رسول الله ﷺ: «اهدأ، فما عليك إلا نبي، أو صديق، أو شهيد».
*الثاني: علي في الجنة: وقال ﷺ: «أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة..» الحديث [رواه أحمد وصححه الألباني].
*الثالث: لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق: عن علي t قال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إنه لعهد النبي ﷺ الأمي إلى أنه «لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق» [رواه مسلم].
*الرابع: منزلة علي من النبي ﷺ عن سعد بن أبي وقاص: أن رسول الله ﷺ خلف علي بن أبي طالب في غزوة تبوك. فقال: يا رسول الله! تخلفني في النساء والصبيان؟ فقال: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، غير أنه لا نبي بعدي» [متفق عليه].
*الخامس: آل النبي ﷺ عن سعد بن أبي وقاص t قال: لما نزلت هذه الآية: }فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ{ [آل عمران:61]، دعا رسول الله ﷺ عليًا وفاطمة، وحسنًا وحسينًا، فقال: «اللهم هؤلاء أهلي» [رواه مسلم].
*السادس: علي يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله عن سهل بن سعد t أن رسول الله ﷺ قال يوم خيبر: «لأعطين الراية غدًا رجلا يفتح الله علي يديه، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله» فبات الناس يدوكون([4]) أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله ﷺ كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: «أين علي بن أبي طالب؟»فقيل: يشتكي عينيه. قال: «فأرسلوا إليه» فأتي به، فبصق رسول الله ﷺ في عينيه، ودعا له، فبرئ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، ففتح الله عليه [متفق عليه].
*السابع: علي من قضاة العدل: عن علي t قال: بعثني رسول الله ﷺ إلى اليمن، فقلت: يا رسول الله! إنك تبعثني إلى قوم هم أسن مني لأقضي بينهم. قال: «اذهب فإن الله تعالى سيثبت لسانك، ويهدي قلبك» [رواه أحمد والنسائي في الخصائص].
*الثامن: أنت مني وأنا منك عن البراء بن عازب t أن النبي ﷺ قال لعلي: «أنت مني وأنا منك» [رواه البخاري].
*وعن حبشي بن جنادة عن النبي ﷺ قال: «علي مني، وأنا من علي، ولا يؤدي عني إلا أنا أو علي» [رواه أحمد والترمذي وحسنه الألباني].
في ثناء الصحابة والسلف عليه
*قال عمر بن الخطاب t: علي أقضانا، وكان t يتعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن، يعني عليا.
*وعن ابن عباس قال: إذا حدثنا ثقة عن علي الفتيا لا نعدوها، أي لا نتجاوزها.
*وأخرج ابن سعد عن سعيد بن المسيب قال: لم يكن أحد من الصحابة يقول: سلوني، إلا علي بن أبي طالب!
*وقال ابن مسعود: أفرض أهل المدينة وأقضاها علي.
*وعن عائشة رضي الله عنها قالت: إنه أعلم من بقي بالسنة.
*وقال مسروق: انتهى علم أصحاب رسول الله ﷺ إلى عمر وعلي وابن مسعود.
*وقال عبد الله بن عباس: كان لعلي ما شئت من ضرس قاطع في العلم، وكان له القدم في الإسلام، والصهر برسول الله ﷺ، والفقه في السنة، والنجدة في الحرب، والجود في المال.
*وقال عمر بن الخطاب t: لقد أعطي علي ثلاث خصال، لأن تكون لي خصلة منها أحب إليَّ من حمر النعم فسئل: ما هي؟
فقال: تزويجه ابنته، وسكناه في المسجد، والراية يوم خيبر.
*وقال علي t: والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيم نزلت، وأين نزلت، وعلى من نزلت، إن ربي وهب لي قلبًا عقولاً ولسانًا ناطقًا.
من أخبار علي t
*كان t يكنس بيت المال، ثم يصلي فيه، رجاء أن يشهد له أنه لم يحبس فيه المال عن المسلمين.
زهده t
*لما ولي علي الخلافة لم يتغير عن الزهد في الدنيا، بل إنه رفض أن يسكن قصر الخلافة، فولى عنه مدبرًا وهو يقول: قصر الخبال هذا، لا أسكنه أبدًا.
*قال جرموز: رأيت عليا وعليه قطريتان – ثياب خشنة منسوبة إلى قطر – إزار إلى نصف الساق، ورداء مشمر، ومعه درة له يمشي بها في الأسواق، يأمرهم بتقوى الله وحسن البيع، ويقول: أوفوا الكيل والميزان([5]).
عدله t
*افتقد علي درعًا وهو بصفين، فوجدها عند يهودي، فحاكمه فيها إلى قاضيه شريح وجلس بجنبه، ثم ادعى عليه بها، فأنكر اليهودي، فطلب شريح البينة من علي. فأتي بقنبر مولاه والحسن. فقال له شريح: شهادة الابن لأبيه لا تجوز، وحكم بالدرع لليهودي. فقال اليهودي عند ذلك: أمير المؤمنين قدمني إلى قاضيه، وقاضيه قضى عليه!! أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله وأن الدرع درعك يا أمير المؤمنين، فوهبها له علي t.
وصف ضرار بن ضمرة له
*قال معاوية t لضرار بن ضمرة: صف لي عليًا. فقال: اعفني. فقال: أقسمت عليك بالله. فقال:
كان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من لسانه.
يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل وظلمته. كان والله غزير الدمعة، طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن
وكان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، ويأتينا إذا دعوناه. ونحن والله مع تقريبه إيانا، وقربه منا، لا نكاد نكلمه هيبة له.
يعظم أهل الدين، ويقرب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله.
وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، قابضًا على لحيته، يتململ تململ السليم- أي اللديغ – ويبكي بكاء الحزين ويقول: يا دنيا غري غيري، ألي تعرضت أم إليَّ تشوفت، هيهات هيهات، قد باينتك ثلاثًا لا رجعة فيها، فعمرك قصير، وخطرك كبير. آه آه من قلة الزاد، وبعد السفر ووحشة الطريق.
فبكى معاوية وقال: رحم الله أبا الحسن؛ كان والله كذلك([6]).
مقتله t
*لما طال النزاع بين علي ومعاوية رضي الله عنهما قرر ثلاثة نفر من الخوارج أن يقتلوا عليًا ومعاوية وعمرو بن العاص y.
*فأما صاحب علي فهو عبد الرحمن بن ملجم قبحه الله وقد ساعده علي ذلك شبيب بن عجرة الأشجعي قبحه الله وغيره.
*فلما كانت ليلة الجمعة السابعة عشرة من رمضان سنة أربعين، استيقظ علي t سحرًا، ثم دخل عليه المؤذن فقال: الصلاة. فخرج علي من الباب ينادي؛ أيها الناس! الصلاة الصلاة وكان الخبيثان يختبئان له، فشد عليه شبيب فضربه بالسيف، فوقع سيفه بالباب، ثم ضربه ابن ملجم بسيفه، فأصاب جبهته إلى قرنه، ووصل دماغه، وهرب. أما شبيب فدخل منزله، فدخل عليه رجل من بني أمية فقتله.
*وأما ابن ملجم فشد عليه الناس من كل جانب حتى استطاعوا الإمساك به، فجاؤوا به إلى علي t، فنظر إليه، وقال: النفس بالنفس، إن أنا مت فاقتلوه كما قتلني، وإن سلمت رأيت فيه رأيي.
*فأمسك وأوثق، وظل علي حيا الجمعة والسبت، وتوفي ليلة الأحد، فأمر الحسن بضرب عنق ابن ملجم.
رضي الله عن علي بن أبي طالب وأرضاه اللهم إنا نشهدك على حبه وحب جميع الخلفاء الراشدين وسائر صحابة نبيك أجمعين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
***