×
الولاء والبراء: قالت المُصنِّفة - رحمها الله -: «هذه فصول مهمة شرحت فيها بعض الأدلة المتعلقة بالولاء والبراء في دين الإسلام». - قدَّم للكتاب: فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين - رحمه الله -.

 الولاء والبراء

مها البنيان


 مقدمة الشيخ عبد الله بن جبرين

الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام دينا ووعدنا بالنصر والتمكين والأمن بعد الخوف والاستخلاف في الأرض متى حققنا الإيمان والعمل الصالح وعبادة الله تعالى وحده. وأصلي وأسلم على نبي الرحمة ونبي الملحمة الذي جهر بالدعوة إلى ربه وجاهد في الله حق جهاده حتى أظهر الله دينه على الدين كله وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه.

أما بعد:

فقد تصفحت هذه الورقات وفهمت ما فيها من الأدلة والإشارات مما كتبته إحدى الأخوات المسلمات المؤمنات القانتات التائبات العابدات، وتدعى بالأخت مها البنيان والتي أنهت الدراسة الجامعية ثم انتقلت إلى رحمة الله وعفوه، ولقد دلت كتابتها على سعة اطلاع وبعد فهم وتعمق في التوحيد والعقيدة، فكتبت هذه الفصول وبينت فيها ما يهدف إليه دين الإسلام من الحب والإخاء والموالاة لكل مسلم في أي بقعة من أصقاع البلاد، وأن الأخوة الإسلامية تفرض على كل مسلم أن ينصر إخوانه في الدين ويواليهم ويوصل إليهم كل خير في الدين والدنيا، ويذب عنهم كيد الأعداء ويعلمهم ما ينفعهم في حالهم ومآلهم، كما أن عليه أخذ الحذر من أعدائه الألداء الذين يضمرون الحقد والبغضاء لكل مسلم، وأن على المسلم البعد عن حيلهم والحيطة عن الوقوع في حبائلهم حتى ينجو بدينه وعقيدته فهنالك يعز الله أولياء المؤمنين كما وعدهم تعالى بقوله: }وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ{ ([1]) ولقد صدقهم الله وعده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده وأظهر دينه على الدين كله فما على المسلمين إلا أن يعودوا إلى دينهم القويم ويتمسكوا بتعاليمه حتى يحظوا بالنصر والتمكين ولله عاقبة الأمور وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

23/1/1418هـ

كتبه/ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين


 مقدمة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن أصل الرسالة المحمدية: كلمة التوحيد "لا إله إلا الله محمد رسول الله".

هذه الكلمة مركبة من معرفة ما جاء به الرسول ﷺ‬ علما، والتصديق به عقدا، والإقرار به نطقا، والانقياد له محبة وخضوعا، والعمل به باطنا وظاهرا، وتنفيذه والدعوة إليه بحسب الإمكان، وكماله في الحب في الله والبغض في الله، والعطاء لله، والمنع لله، وأن يكون الله وحده إلاهه ومعبوده والطريق إليه: تجريد متابعة رسوله ﷺ‬ ظاهرا وباطنا.

هذه الكلمة العظيمة بكل مفاهيمها ومقتضياتها قد غابت عن حس الناس اليوم إلا من رحم الله، ومن المفاهيم بل من أهمها موضوع: "الولاء والبراء" ولئن كان هذا المفهوم العقدي المهم قد غاب اليوم عن واقع المسلمين. إلا من رحم ربك. فإن ذلك لا يغير من حقيقته الناصعة شيئا.

ولن تتحقق كلمة التوحيد في الأرض إلا بتحقيق الولاء لمن يستحق الولاء، والبراء ممن يستحق البراء منه. ويحسب بعض الناس أن هذا المفهوم العقدي الكبير يدرج ضمن القضايا الجزئية أو الثانوية ولكن حقيقة الأمر بعكس ذلك.

قال تعالى:

}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ{ [سورة المائدة: آية 51] يقول الشيخ حمد بن عتيق ـ رحمه الله ـ :

"إنه ليس في كتاب الله تعالى حكم فيه من الأدلة أكثر ولا أبين من هذا الحكم ـ أي الولاء والبراء ـ بعد وجوب التوحيد وتحريم ضده".

وتبرز اليوم على الساحة دعوات مشبوهة تنادي بالإخاء والمساواة والاتحاد بين الأمم على اختلاف مشاربها وعقائدها وأهدافها، مع احتفاظ كل ذي دين بدينه، شريطة أن يكون دينا كهنوتيا لا صلة له بالحياة.

وقد ظهرت هذه الدعوات بقوالب وأشكال وعناوين متعددة ربما تتفق في الغايات والأهداف.

وذلك مثل: العالمية، الإنسانية، زمالة الأديان، تقارب الأديان، التعايش مع المسلمين، المجتمع الدولي، وهكذا.

وللأسف الشديد انساق كثير من المسلمين وراء هذه الدعوات فغاب عنهم المفهوم العقدي للولاء والبراء، وبرزت صور موالاة الكفار في أمور شتى منها:

1-            التشبه بهم في اللبس والكلام.

2-            الإقامة في بلادهم وعدم الانتقال منها إلى بلاد المسلمين لأجل الفرار بالدين.

3-            السفر إلى بلادهم لغرض النزهة ومتعة النفس.

4-            التأريخ بتاريخهم خصوصا التاريخ الذي يعبر عن طقوسهم وأعيادهم كالتاريخ الميلادي.

5-            التسمي بأسمائهم ([2]).

إلى غير ذلك من الأمور التي فيها مخالفة لمفهوم عقيدة الولاء والبراء.

لذلك أصبح من الضروري أن يكون لدى كل مسلم علما بهذه العقيدة وبما يحاك ضدها، ليقف الموقف السليم ضد أعداءه ولا ينساق وراء الدعوات المشبوهة. وهذه فصول مهمة شرحت فيها بعض الأدلة المتعلقة بالولاء والبراء في دين الإسلام.

هذا والله أسأل أن ينفعنا بما علمنا ويعلمنا ما ينفعنا ويزيدنا علما نافعا.

الفصل الأول

 تعريفه وأهميته في الكتاب والسنة

الولاء لغة:

يطلق على عدة معان، منها المحبة، والنصرة، والاتباع، والقرب من الشيء والدنو منه.

جاء في لسان العرب: الموالاة. كما قال ابن الأعرابي: أن يتشاجر اثنان فيدخل ثالث بينهما للصلح، ويكون له في أحدهما هوى فيواليه أو يحابيه. ووالى فلان فلانا: إذا أحبه.

والموالاة ضد المعاداة، والولي ضد العدو. قال تعالى: }يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا{ [سورة مريم: 45]. والموالاة من والى القوم. قال الشافعي في قوله ﷺ‬ : «من كنت مولاه فعلي مولاه» أخرجه أحمد والترمذي وقال الألباني: صحيح.

الولي: القرب والدنو. والموالاة: المتابعة ([3]).

الولاء شرعا:

هو موافقة العبد ربه فيما يحبه ويرضاه من الأقوال والأفعال والاعتقادات والذوات، فسمة وليُّ الله هو محبته لما يحب الله. ورضاه بما يرضي الله، وعمله بذلك كله، وميله إليه على وجه الملازمة له([4]).

تعريف البراء لغة:

يطلق على معان كثيرة منها البعد. والتنزه، والتخلص، والعداوة.

قال ابن العربي:

برئ إذا تخلص، وبرئ إذا تنزه وتباعد، وبرئ إذا أعذر وأنذر، ومنه قوله تعالى: }بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ{ [سورة التوبة: 1].

وليلة البراءة يتبرأ القمر من الشمس، وهي أول ليلة من الشهر([5]).

تعريف البراء شرعا:

هو موافقة العبد ربه فيما يسخطه ويكرهه ولا يرضاه من الأقوال والأفعال والاعتقادات والذوات، فسمة البراء الشرعي هو البغض لما يبغضه الله على وجه الملازمة، والاستمرار على ذلك ([6]).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

"الولاية ضد العداوة، وأصل الولاية المحبة والقرب، وأصل العداوة: البغض والبعد، ... والوالي: القريب، فيقال: هذا يلي هذا: أي يقرب منه، ومنه قوله ﷺ‬ : «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت فلأولى رجل ذكر» متفق عليه ([7]).

ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ:

"وأصل الموالاة الحب، وأصل المعاداة البغض، وينشأ عنهما من أعمال القلوب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعاداة، كالنصرة والأنس والمعاونة، وكالجهاد والهجرة ونحو ذلك من الأعمال والولي ضد العدو" ([8]).

 منزلة عقيدة الولاء والبراء من الشرع

لهذه العقيدة مكانة عظيمة في الشرع تتضح من الوجوه التالية:

1- أنها جزء من معنى الشهادة، وهو قولك: "لا إله" من قوله: "لا إله إلا الله" فإن معناها البراء من كل ما يعبد من دون الله كما قال تعالى: }وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ{ [النحل: 36] والطاغوت هو كل ما عبد من دون الله.

2- أنها شرط في الإيمان كما قال ـ سبحانه ـ : }تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ{ [المائدة: 80 - 81].

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذه الآية:

"فذكر جملة شرطية تقتضي أنه إذا وجد الشرط وجد المشروط بحرف "لو" التي تقتضي مع الشرط انتفاء المشروط". فقال: "ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء"، فدل على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويُضاده، لا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب، ودل ذلك على أن من اتخذهم أولياء، ما فعل الإيمان الواجب من الإيمان بالله والنبي، وما أنزل إليه([9])....

3- أن هذه العقيدة أوثق عرى الإيمان، لما رواه أحمد في مسنده عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ‬ : «أوثق عرى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله».

يقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن عبد الوهاب:

"فهل يتم الدين أو يقام علم الجهاد، أو علم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بالحب في الله والبغض في الله، والمعاداة في الله والموالاة في الله، ولو كان الناس متفقين على طريقة واحدة، ومحبة من غير عداوة ولا بغضاء، لم يكن فرقانا بين الحق والباطل، ولا بين المؤمنين والكفار، ولا بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان.

4- أنها سبب لتذوق القلب حلاوة الإيمان، ولذة اليقين، لما جاء عنه ﷺ‬ أنه قال: «ثلاث من وجدهن وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار» متفق عليه ([10]).

5- أنها الصلة التي على أساسها يقوم المجتمع المسلم كما قال ﷺ‬ : «أحب لأخيك ما تحب لنفسك» وقال سبحانه: }إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ{ [سورة الحجرات: 10]([11]).

6- ما ثبت من الأجر لمن اتصف بالحب في الله فقال ﷺ‬ فيما يرويه عن ربه «المتحابون في على منابر من نور يوم القيامة». وقال ﷺ‬ : «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله». ذكر منهم: «رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه»([12]).

7- ما دل عليه الشرع من تقديم هذه الصلة على سواها كما قال سبحانه: }قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ{ [سورة التوبة: 24] ([13]).

8- أنه بتحقيق هذه العقيدة تنال ولاية الله، لما روى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «من أحب في الله وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله فإنما تُنال ولاية الله بذلك»([14]).

9- أن هذه العقيدة هي الصلة الباقية بين الناس يوم القيامة كما قال سبحانه: }إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ{ [سورة البقرة: 166] قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله }وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ{ قال: المودة.

10- أن عدم تحقيق هذه العقيدة قد يدخل في الكفر، قال تعالى: }وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ{ [سورة المائدة: 51] ([15]).

11- كثرة ورودها في الكتاب والسنة يدل على أهميتها، يقول الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله: "إنه ليس في كتاب الله تعالى حكم فيه من الأدلة أكثر ولا أبين من هذا الحكم ـ أي الولاء والبراء ـ بعد وجوب التوحيد وتحريم ضده".

12- النظر إلى الثمرات الحاصلة بالقيام بهذه العقيدة ومنها:

أ- تحقيق أوثق عرى الإيمان، والفوز بمرضاة الله الغفور الرحيم، والنجاة من سخط الجبار - جل جلاله - ، كما قال - سبحانه - : }تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ{ [سورة المائدة، الآيتان: 80 ، 81].

ب- ومن ثمرات القيام بالولاء والبراء: السلامة من الفتن... قال - سبحانه - : }وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ{ [سورة الأنفال، الآية: 73].

يقول ابن كثير: "أي إن تجانبوا المشركين، وتُوالوا المؤمنين، وإلا وقعت فتنة في الناس، وهو التباس واختلاط المؤمنين بالكافرين، فيقع بين الناس فساد منتشر عريض طويل" ([16]).

ج- ومن ثمرات تحقيق هذا الأصل: حصول النعم والخيرات في الدنيا، والثناء الحسن في الدارين، كما قال أحد أهل العلم: "وتأمل قوله ـ تعالى ـ في حق إبراهيم ـ عليه السلام ـ : }فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا{ [سورة مريم، الآيتان: 49 - 50].

فهذا ظاهر أن اعتزال الكفار سبب لهذه النعم كلها، ولهذا الثناء الجميل ـ إلى أن قال ـ فاعلم أن في اعتزال أعداء الله ـ تعالى ـ والتجنب عنهم صلاح الدنيا والآخرة، يدل على ذلك قوله ـ تعالى ـ : }وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ{ [سورة هود، الآية: 113]([17]).

وهذا أمر مشاهد معلوم، فأعلام هذه الأمة ممن حققوا هذا الأصل قولا وعملا، لازلنا نترحم عليهم، ونذكرهم بالخير، ولا يزال لهم لسان صدق في العالمين... فضلا عن نصر الله ـ تعالى ـ لهم، والعاقبة لهم.

فانظر مثلا: إلى موقف الصديق ـ رضي الله عنه ـ من المرتدين، ومانعي الزكاة... عندما حقق هذا الأصل فيهم، فنصره الله عليهم، وأظهر الله ـ تعالى ـ بسببه الدين، وهذا إمام أهل السنة الإمام أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ يقف موقفا شجاعا أمام المبتدعة في فتنة القول بخلق القرآن، فلا يُداهن، ولا يتنازل، فنصر الله به مذهب أهل السنة، وأخزى المخالفين.

وهذا صلاح الدين الأيوبي ـ رحمه الله ـ يجاهد الصليبيين، تحقيقا لهذا الأصل، فينصره الله ـ تعالى ـ عليهم ويكبت القوم الكافرين، والأمثلة كثيرة. فيجب على الدعاة إلى الله ـ تعالى ـ أن يحققوا هذا الأصل في أنفسهم اعتقادا، وقولا، وعملا، وأن تقدم البرامج الجادة ـ للمدعوين ـ من أجل تحقيق عقيدة الولاء والبراء، ولوازمها. وذلك من خلال ربط الأمة بكتاب الله ـ تعالى ـ ، والسيرة النبوية، وقراءة كتب التاريخ، واستعراض تاريخ الصراع بين أهل الإيمان والكفر في القديم والحديث، والكشف عن مكائد الأعداء، ومكرهم "المنظم" في سبيل القضاء على هذه الأمة ودينها، والقيام بأنشطة عملية في سبيل تحقيق الولاء والبراء: الإنفاق في سبيل الله، والتواصل، واللقاء مع الدعاة من أهل السنة في مختلف الأماكن، ومتابعة أخبارهم، ونحو ذلك ([18]).

* * * * *


الفصل الثاني

 عقيدة أهل السنة والجماعة في الولاء والبراء

الولاء والبراء واجب شرعا، بل هو من لوازم الشهادة وشرط ممن شروطها.

قال تعالى: }تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ{ [سورة المائدة، الآيتين: 80 - 81].

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذه الآية: "فذكر جملة شرطية تقتضي أنه إذا وجد الشرط، وجد المشروط بحرف "لو" التي تقتضي مع الشرط انتفاء المشروط، فقال: "ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء" فدل على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويُضاده، ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب. ودل ذلك على أن من اتخذهم أولياء، ما فعل الإيمان الواجب من الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه" ([19]) وقال ﷺ‬ : «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» متفق عليه.

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "على المؤمن أن يعادي في الله ويوالي في الله، فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه ـ وإن ظلمه ـ فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية، قال تعالى: }وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا{ [سورة الحجرات، الآية: 9]. فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبغي، وأمر بالإصلاح بينهم، فليتدبر المؤمن: أن المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك. فإن الله سبحانه وتعالى بعث الرسل، وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله، فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه والإكرام والثواب لأوليائه والإهانة والعقاب لأعدائه.

وإذا اجتمع في الرجل الواحد: خير وشر، وفجور وطاعة، ومعصية وسنة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة كاللص تقطع يده لسرقته، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته. هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم ([20]).

يقول الشيخ حمد بن عتيق: "فأما معاداة الكفار والمشركين فاعلم أن الله سبحانه وتعالى قد أوجب ذلك، وأكد إيجابه، وحرم موالاتهم وشدد فيها، حتى أنه ليس في كتاب الله تعالى حكم فيه من الأدلة أكثر ولا أبين من هذا الحكم بعد وجوب التوحيد وتحريم ضده ([21]).

فالولاء للمؤمنين بمحبتهم لإيمانهم، ونصرتهم، والنصح لهم، والدعاء لهم، وزيارة مريضهم، وتشييع ميتهم وإعانتهم، والرحمة بهم وغير ذلك ([22]). والبراءة من الكفار تكون ببغضهم ـ دينا ـ ومفارقتهم، وعدم الركون إليهم، أو الإعجاب بهم، والحذر من التشبه بهم وتحقيق مخالفتهم شرعا، وجهادهم بالمال واللسان والسنان ونحو ذلك من مقتضيات العداوة في الله ([23]).

 الناس بالنسبة للولاء والبراء على ثلاثة أقسام

أولا: من يستحق الولاء المطلق: وهم المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وقاموا بشعائر الإسلام من القيام بالواجبات واجتناب المحرمات، مخلصين لله الدين.

ثانيا: من يستحق الولاء من جهة، ويستحق البراء من جهة أخرى: فهو المسلم العاصي الذي يهمل في بعض الواجبات، ويفعل بعض المحرمات التي لا يصل تركها إلى الكفر الأكبر، لما رواه البخاري أن عبد الله  بن حمار كان يشرب الخمر فأتي به إلى رسول الله ﷺ‬ فلعنه رجل وقال: وما أكثر ما يؤتي بك، فقال النبي ﷺ‬ : «لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله».

ثالثا: من يستحق البراء مطلقا: وهو المشرك والكافر، سواء كان يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا أو غير ذلك. وهذا الحكم فيمن فعل مكفرا من المسلمين اقتضى ردته، من دعاء غير الله، أو الاستغاثة بغيره، أو التوكل على غيره، أو ترك الصلاة المفروضة، أو أنكر وجود الله، أو سبه أو سبَّ رسوله أو دينه ونحو ذلك ([24]).

 كيف غرست هذه العقيدة في النفوس

 أولا: في العهد المكي:

اختار رسول الله ﷺ‬ دار الأرقم لتلقين من آمن معه أوامر هذا الدين، فكانت هذه الدار هي الملتقى الأول لأولئك القادة العظام، كانت هي الدار التي بدأ يشع منها ذكر الله وتوحيده في الأرض.

فكانت هناك عزلة شعورية كاملة بين ماضي المسلم في جاهليته وحاضره في إسلامه، ونشأت عن هذه العزلة، عزلة في صلاته بالمجتمع الجاهلي من حوله وروابطه الاجتماعية أيضا.

وأخذ القرآن ينزل حسب النوازل والحوادث على ما يشاء الله سبحانه وتعالى لتربية الأمة على أسس العقيدة، فكان الولاء والبراء يزيد كلما ازدادت التكاليف. وكان من الطرق التي سلكها القرآن في عرض هذه العقيدة ضرب المثل.

قال تعالى: }مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ{ [سورة العنكبوت، الآية: 41].

وبتقرير هذه الحقيقة في النفوس كان المؤمنون أقوى من جميع القوى التي وقفت في طريقهم، وداسوا بها على كبرياء الجبابرة في الأرض، ودكوا بها المعاقل والحصون... إن قوة الله وحدها هي القوة وولاية الله وحدها هي الولاية وما عداها فهو واهن ضئيل هزيل، مهما علا واستطال ومهما تجبر وطغى ومهما ملك من وسائل البطش والطغيان والتنكيل ([25]) مكث رسول الله ﷺ‬ في دعوته للناس بالسر ثلاث سنوات وبعد أن فشا ذكر الإسلام في مكة، وتحدث الناس به أمر الله عز وجل رسوله ﷺ‬ أن يصدع بما جاءه منه، وأن يبادئ الناس بأمره، وأن يدعو إليه.

قال تعالى: }فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ{ [الحجر: 94].

وهنا بدأ الابتلاء للمسلمين فماذا فعلوا؟

إنه الصبر على الأذى والهجر الجميل.

قال تعالى: }وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا{ [سورة المزمل، الآية: 10] كان رسول الله ﷺ‬ يأخذهم بالصبر على الأذى والصفح الجميل، وقهر النفس مع أنهم قوم قد رضعوا حب الحرب، وكأنهم ولدوا مع السيف، وهم أمة من أيامها حرب البسوس وداحس والغبراء. وما حرب الفجار ببعيد!!

لكن الرسول ﷺ‬ قهر طباعهم الحربية، وكبح نخوتهم العربية فانقهروا لأمره وكفوا أيديهم وتحملوا من قريش ما تسيل منه النفوس، في غير جبن وفي غير عجز.

بعد الأمر بالصبر والهجر الجميل يذكر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بفعل أبيهم إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ليأخذوا منه أسوة وقدوة فيقول سبحانه: }وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ{ [سورة الزخرف، الآيات: 26 - 28].

وإلى جانب هذا التذكير الرباني، يضرب أيضا المثل المحسوس والملموس في حياة الناس لمن يوزع ولاءه بين أرباب متفرقة، ومن يكون ولاؤه لرب واحد، واتجاه واحد.

}ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ{ [سورة الزمر، الآية: 29]. فقد وضح الله في هذا المثال القرآني حال المشرك الذي لا يؤمن بالله ولا يكون ولاؤه وحبه لله وفي الله بحال العبد الذي تملكه جماعة مشتركون في خدمته لهم لا يمكنه إرضاؤهم أجمعين. وحال الموحد الذي يعبد الله وحده ويوالي في الله وحده، مثله كمثل عبد لمالك واحد قد سلم وعلم مقاصده وعرف الطريق إلى رضاه، فهو في راحة من تشاحن الخلطاء فيه، بل هو سالم لمالكه من غير منازع فيه، مع رأفة مالكه به ورحمته به وشفقته عليه وإحسانه إليه وتوليته لمصالحه، فهل يستوي هذان العبدان؟ لا، إنهما لا يستويان   }الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ{ [سورة النحل، الآية: 75].

وعلى طريقة القرآن في اهتمامه بقضية اليوم الآخر لما لها من أثر عظيم في قضية الإيمان، تجد القرآن الكريم يسوق مشهدا من مشاهد يوم القيامة لمن يكون ولاؤه لغير الله وكيف انقلب هذا الولاء إلى عداء وبغض، ثم كيف أصبحت الخلة عداوة وشحناء. قال تعالى: }رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ{ [سورة فصلت، الآية: 29].

وقال: }الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ{ [سورة الزخرف، الآية: 67].

وقال: }وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا{ [سورة الفرقان: الآيات: 27 - 29].

ثم جاء التصريح الكامل لأعداء الله بأن دينكم باطل لا ندخل فيه، وديننا هو الحق الذي ندين الله به. فلا نعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما نعبد }قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ{ [سورة الكافرون، الآيات: 1 - 6].

قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: ليس في القرآن أشد غيظا لإبليس منها أي سورة الكافرون. لأنها توحيد وبراءة من الشرك.

قال الأصمعي: كان يقال "قل يا أيها الكافرون" و "قل هو الله أحد" المتشقشقتان. أي أنهما تبرءان من النفاق. هذا بالنسبة لموقف المسلمين من أعدائهم.

أما ولاؤهم فيما بينهم، فنقول: إن المصطفى ﷺ‬ قد حرص على غرس ركيزتين أساسيتين في نفوسهم هما:

1-            الإيمان بالله. ذلك الإيمان المنبثق من معرفته سبحانه، وتمثل صفاته في الضمائر وتقواه، ومراقبته، مع اليقظة والحساسية التي بلغت في نفوسهم حدا غير معهود إلا في النادر من الأحوال.

2-            الحب الفياض. والتكافل الجاد العميق، حيث بلغت فيه الجماعة المسلمة مبلغا لولا أنه وقع بالفعل لعد من أحلام الحالمين([26]).

 ثانيا: في العهد المدني:

لما أراد الله إظهار دينه، وإعزاز عبده ورسوله محمد ﷺ‬ ومن معه، أمره بالهجرة لتكون مبدأ فاصلا بين الحق والباطل، وبين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، فكان أول عمل قام به رسول الله ﷺ‬ في المدينة هو بناء المسجد لينطلق منه النداء الرباني "الله أكبر الله أكبر" وليكون هذا المسجد الطاهر هو الملتقى التربوي للأمة الإسلامية يتلقون فيه وحي الله عن رسول الله، ويتعلمون أمور دينهم، وهذا المسجد أيضا هو مكان القيادة العسكرية الإسلامية التي انطلقت للجهاد في سبيل الله، بعد ذلك آخى رسول الله ﷺ‬ بين المهاجرين والأنصار في دار أنس بن مالك، وكانوا تسعين رجلا نصفهم من المهاجرين ونصفهم من الأنصار آخى بينهم على المسئولية والمواساة، يتوارثون بعد الموت دون ذوي الأرحام إلى حين وقعت بدر، فلما أنزل الله عز وجل: }وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ{ [سورة الأحزاب، الآية: 6]. رد التوارث إلى الرحم دون عقد الأخوة.

فكانت هذه المؤاخاة هي الركيزة الأساسية في تكوين مفهوم الأمة المسلمة، أمة التقت على العقيدة في الله، وعاشت لأجل تلك العقيدة وليس لرابطة الدم أو الحسب والنسب، أو الأرض أو اللون أو اللغة، أو الجنس ([27]).

أصبح المؤمنون أولياء بعضهم لبعض، كل منهم يحب أخاه كحبه لنفسه، ويناصره ويجاهد من أجله، ويؤثره على كل قريب وحبيب من مال وأهل أو عشيرة أو ولد     }وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ{ [سورة التوبة، الآية: 71].

أما من ناحية البراء فقد انطلق المؤمنون في سبيل الله وإعلاء كلمة الله، والضرب على يد أعداء الله بقوة لا تعرف الضعف، وعزيمة لا تعرف الوهن. من هنا كان الجهاد في سبيل الله هو أبرز سمات هذا العهد الزاهد، وهو أول صورة من صور البراء والمفاصلة بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان في العهد المدني وبعد الهجرة النبوية، والجهاد وجه جديد من وجوه الثبات على العقيدة، واحتمال المشقات والأذى في سبيل الذود عنها من الأعداء. إن الجهاد في الإسلام. هدفه أن يعبد الله وحده في الأرض، وأن تهيمن شريعته، ويتحرر الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن تأليه البشر إلى ألوهية الواحد الأحد.

ومن هدف الجهاد أيضا إنقاذ المستضعفين في الأرض.

 تفصيل صور البراء من كل طائفة وكيفية جهاد المسلمين لهم

 1- صور البراء من المشركين:

بعد أن قامت الدولة المسلمة في المدينة، كان لابد من اجتثاث شجرة الشرك في مكة وغيرها وقد نزلت سورة التوبة بقتال المشركين.

يقول ابن القيم في زاد المعاد: ثم أذن له في الهجرة، وأذن له في القتال، ثم أمره أن يقاتل من قاتله، ويكف عمن اعتزله ولم يقاتله، ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله، ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام: أهل صلح وهدنة وأهل حرب وأهل ذمة وأمره بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم، وأن يوفي لهم ما استقاموا على العهد، فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم، ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد، وأمر أن يقاتل من نقض عهده ([28]).

ولما نزلت "سورة براءة" نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها، فأمره فيها أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، أو يدخلوا في الإسلام، وأمره فيها بجاهدة الكفار والمنافقين والغلظة عليهم، فجاهد الكفار بالسيف والسنان، والمنافقين بالحجة واللسان.

2- منعهم من دخول المسجد الحرام.

3- منع النكاح بالمشركات.

4- منع إقامة المسلم في دار المشرك.

 البراء من أهل الكتاب:

نجد أن الآيات أخذت تنزل في تقريع أهل الكتاب والتنديد بهم وفضح مخازيهم   }يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ{ [سورة آل عمران، الآيتان: 70 - 71].

إلى غيرها من الآيات الفاضحة لهم، ثم يأتي النص القرآني للرسول ﷺ‬ وللمؤمنين من ورائه. بأن يقولوا لأهل الكتاب أنهم ليسوا على شيء حتى يقيموا شرع الله ويحكموا كتابه }قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ{ [سورة المائدة، الآية: 68].

وهذه الآية الكريمة من أعظم ما بين صورة البراء من أهل الكتاب. ولقد كان جهاد المصطفى ﷺ‬ وأصحابه لأهل الكتاب - بني قينقاع وبني قريظة وبني النضير - صورة واضحة في مفاصلتهم وجهادهم والبراءة منهم.

 البراء من المنافقين:

مفاصلة المنافقين والبراءة منهم تؤخذ من هدي رسول الله ﷺ‬ معهم، وفي ذلك يقول العلامة ابن القيم:

(وأما سيرته ﷺ‬ في المنافقين: فغنه أمر أن يقبل منهم علانيتهم، ويكل سرائرهم إلى الله، وأن يجاهدهم بالعلم والحجة. وأمره أن يعرض عنهم، ويغلظ عليهم، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم، ونهاه أن يصلي عليهم وأن يقوم على قبورهم وأخبر أنه إن استغفر لهم فلن يغفر الله لهم.

ومن أبرز صور البراء منهم ما يلي:

1-   الإعراض عنهم والغلظة عليهم.

2-   النهي عن الصلاة عليهم أو القيام على قبورهم.

3-   لا يقبل لهم عذر في التخلف عن الجهاد، ومن ثم عدم قبولهم فيه مرة أخرى.

4-   عدم الاستغفار لهم.

5-   قطع الموالاة مع الأقارب إذا كانوا معادين لله ولرسوله.

خلاصة القول:

إن الولاء والبراء قد اكتملت صورته الحقيقية في العهد المدني حيث قامت دولة الإسلام الراشدة وأصبحت الأخوة الإيمانية فيها هي الرابطة الحقيقية، ودونها تهدر كل رابطة. وشرع الجهاد للكفار والمشركين ومن نقض عهده، وجاء الأمر بالغلظة على المنافقين والإعراض عنهم. وحصلت البراءة من كل قريب لا يؤمن بالله ورسوله ولا يدين دين الحق ولو كان أبا أو أخا أو غير ذلك مما تعارف الناس عليه أنه رابطة.

التربية المحمدية تؤتي ثمارها:

ظهرت ثمار التربية المحمدية في رجال تربوا على يد القائد الأول للأمة محمد بن عبد الله ﷺ‬ حيث غرس هذه العقيدة في نفوسهم فترجموا هذا الغرس بأعمال قاموا بها لولا أنها وقعت ونقلت إلينا من ثقات لقلنا هي من نسج الخيال.

يروي لنا الإمام ابن إسحاق بعض أحداث غزوة أحد فيقول: وترس دون رسول الله ﷺ‬ أبو دجانة بنفسه، ويقع النبل في ظهره، وهو منحن عليه، حتى كثر فيه النبل. وفي رواية أخرى: "وهو لا يتحرك" الله أكبر ما الذي جعل أبا دجانة رضي الله عنه يترس دون الرسول ﷺ‬ بنفسه، ينحني عليه، ويصبر على النبل الذي يقع في ظهره، ولا يتحرك؟ إنه الولاء، إنه الحب الصادق للحبيب الكريم المصطفى عليه الصلاة والسلام([29]).

وإن تعجب فاعجب من موقف أبي عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه حيث قتل أباه في معركة بدر لأنه كان كافرا محاربا لله ولرسوله، ولم تكن صلة الأبوة لتمنعه دون تنفيذه الولاء والنصرة لله ولرسوله ولدينه وللمؤمنين ([30]).

وتلك امرأة من بني دينار تقابل الجيش الإسلامي بعد قدومه من معركة أحد، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها، فلما نعوا لها، قالت: فما فعل رسول الله ﷺ‬ ؟ قالوا: خير يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت، أرونيه حتى أنظر إليه. فأشير إليها حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل ([31]).

* * * * *


 أحكام الولاء والبراء كثيرة غير محصورة، وفي كل زمان قد تبرز من مظاهر الولاء والبراء ما يحتاج لبيان حكمه واستفادته من أدلة الشرع

وسأتعرض هنا لأبرزها وهي:

1-  أحكام موافقة الكفار والتشبه بهم.

2-  أحكام السفر إلى بلاد الكفار.

3-  حكم التعامل مع الكفار.

4-  الفرق بين عقيدة الموالاة وحسن المعاملة.

 1- أحكام موافقة الكفار والتشبه بهم:

للمسلم في موافقته للكفار ثلاث حالات:

الأولى: الموافقة لهم في الظاهر والباطن فهذا كفر مخرج عن ملة الإسلام.

ثانيا: الموافقة في الباطن دون الظاهر فهذا أيضا كفر مخرج عن الملة إجماعا، لأنه نفاق عقدي أكبر وهو مخرج عن ملة الإسلام.

ثالثا: الموافقة في الظاهر دون الباطن وهي على نوعين:

النوع الأول: أن تكون الموافقة في الظاهر بسبب الإكراه بالضرب والقتل والتعذيب بالفعل، لا بمجرد التهديد، ففي هذه الحالة لا يكفر مادامت الموافق باللسان، والقلب مطمئن بالإيمان كما قال سبحانه: }مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ{ [سورة النحل، الآية: 106].

والنوع الثاني: أن يوافقهم في ظاهره مع مخالفتهم في الباطن لغرض دنيوي، كحب رياسة، وطمع في جاه ومنزلة، ونحو ذلك. وقد اختلف العلماء في كفر من كان هذا حاله على قولين:

القول الأول: أنه يكفر الكفر المخرج عن الملة لظاهر قوله سبحانه: }ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ{ [سورة النحل، الآية: 107] فسماهم كافرين لتقديمهم الدنيا على الدين.

القول الثاني: أنه لا يكفر كفرا مخرجا عن الملة، بل كفرا أصغر، وهو كبيرة من الكبائر، وبناء هذا القول وهو الفرق بين الموالاة والتولي فهو من قبيل التولي، فلا يكون كفرا أكبر ([32]).

ولقد حرص الإسلام على تميز المسلمين ليس في المضمون فحسب وإنما حتى في المظهر العام للمسلم في نفسه وللمجتمع الإسلامي في عمومه.

ولذلك كان النهي عن التشبه بالكفار أحد التكاليف الربانية لهذه العقيدة.

وقد حفل الكتاب والسنة بأدلة كثيرة حول هذه القضية. لأن التشبه بالكفار في الظاهر يورث التشبه بهم في العقيدة، أو مودتهم، ومسايرتهم وموافقتهم على هواهم مما يحدث التميع في حياة المسلم ويجعله إمعة يتبع كل ناعق والله يريد له العزة والكرامة.

وتجتاح العالم الإسلامي اليوم موجة من التبعية الجارفة في كل شيء، ومن ذلك التشبه بالغرب الكافر من قبل ضعاف الإيمان الذين يرون أن ذلك الفعل هو سبيل التقدم والرقي!

وفي هذا يقول الأستاذ محمد أسد:

إن السطحيين من الناس فقط ليستطيعون أن يعتقدوا أنه من الممكن تقليد مدنية ما في مظاهرها الخارجية من غير أن يتأثروا في الوقت بروحها.

يقول الشيخ عبد الله الطريقي:

لو أذن الإسلام بالأخذ عن العدو كل شيء ومتابعته فيما يريد والتشبه به، لتلاشت معالم الإسلام وأحكامه، ولذابت شخصية المسلمين، وحسبك واقع المسلمين في كثير من البلدان الإسلامية.

ولهذا جاء الأمر بالتزام الصراط المستقيم والنهي عن سلوك السبل، قال تعالى:    }وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ{ [سورة الأنعام، الآية: 153].

وجاءت الأوامر الشرعية المتعددة في مخالفة أهل الكتاب والمشركين. منها قوله تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ{ [سورة البقرة، الآية: 104].

وسبب نزول هذه الآية أن اليهود كانوا إذا أرادوا أن يقولوا للرسول ﷺ‬ "اسمع لنا" يقولون راعنا، ويورون بالرعونة وهي الحمق، فجاراهم بعض المسلمين في ترديد هذه الكلمة، فنهاهم عن التشبه بهم في هذه الأقوال.

وورد عن النبي ﷺ‬ أنه قال: «من تشبه بقوم فهو منهم» رواه أحمد، وصححه ابن ماجة. وهذا نهي عن التشبه بهم مطلقا.

وجاء بالأمر بالمخالفة في الأعمال الظاهرة في أحاديث كثيرة منها: قوله ﷺ‬ : «إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم» متفق عليه.

ما بين التشبه والولاء من علاقة

إن الشرع ما ترك خيرا إلا دل الأمة عليه، وما ترك شرا إلا حذر الأمة منه. وحين أمر الشرع الحكيم بمخالفة الكفار ـ في الهدي الظاهر. فإن ذلك لحكم جليلة منها:

1-            إن المشاركة في الهدي الظاهر: تورث تناسبا وتشاكلا بين المتشابهين يقود إلى الموافقة في الأخلاق والأعمال وهذا أمر محسوس، فإن اللابس لثياب الجند المقاتلة ـ مثلا ـ يجد في نفسه نوع تخلق بأخلاقهم، ويصير طبعه مقتضيا لذلك، إلا أن يمنعه من ذلك مانع.

2-            إن المخالفة في الهدي الظاهر: توجب مباينة ومفارقة وتوجب الانقطاع عن موجبات الغضب وأسباب الضلال. والانعطاف إلى أهل الهدى والرضوان، وتحقق ما قطع الله من الموالاة بين جنده المفلحين وأعدائه الخاسرين.

3-            إن مشاركتهم في الهدي الظاهر: توجب الاختلاط الظاهر، حتى يرتفع التميز ظاهرا بين المهديين والمرضيين، وبين المغضوب عليهم والضالين إلى غير ذلك من الأسباب الحكيمة.

هذا إذا لم يكن ذلك الهدي الظاهر إلا مباحا محضا، لو تجرد عن مشابهتهم. فأما إن كان من موجبات كفرهم فإنه يكون شعبة من شعب الكفر، فموافقتهم فيه موافقة في نوع من أنواع ضلالاتهم ومعاصيهم. وهذا أصل ينبغي أن يتفطن إليه ([33]).

السفر إلى بلاد الكفار والإقامة فيها:

للسفر والإقامة في بلاد الكفار حكمان:

أحدهما: جائز. والثاني: محرم.

فالجائز له ثلاث حالات:

الحالة الأولى:

السفر والإقامة لغرض الدعوة إلى الله مع الأمن على الدين، والقدرة على الجهر بشعائر الإسلام بلا معارضة في شيء منها، وأن يكون قادرا على الولاء والبراء. ومن هذه ما هو مستحب كالسفر للجهاد في سبيل الله.

الحالة الثانية:

السفر من أجل التجارة وهو عارف بدينه، آمن عليه، قادر على الجهر بشعائره، قادر على الولاء والبراء.

الحالة الثالثة:

المستضعفون من الرجال والنساء والولدان الذين لا يملكون الهجرة ولا يستطيعونها. ومنها المسلم في بلاد الكفار الذي تحول دون هجرته الظروف السياسية والجغرافية.

والحكم الثاني وهو التحريم وله حالتان:

الحالة الأولى:

أن يسافر لغرض دنيوي ولكنه آمن من الفتنة عالم بدينه لكن لا يستطيع الجهر بالشعائر على سبيل الكمال وعدم المعارضة فهذه كبيرة من كبائر الذنوب.

الحالة الثانية:

سفر إلى بلاد الكفار موالاة لهم، واستحسانا لما هم عليه، فهو كافر الكفر الأكبر المخرج عن ملة الإسلام لظاهر قوله سبحانه: }وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ{ [سورة المائدة، الآية: 51] ([34]).

السفر من أجل التنزه:

إن المعصية إذا جاءت باسم المعصية، واعترف صاحبها بالتقصير فيها، أهون من أن تأتي باسم غير اسم المعصية، يجملها ويزينها. وإن الناظر إلى الصحف والمجلات العربية، فضلا عن الأجنبية، يرى فيها دعوة صريحة خفية، إلى الفجور والفاحشة والخمور. صريحة بأنها سياحة وتفرج وتغيير جو. ولكنها خفية في مغزاها ([35]).

فليتق المسلم الله في أهله وأولاده، بل وفي دينه، فإن النظرة تجلب الخطرة، والخطرة توقع في الفكرة والفكرة توقع في المعصية وقد اشترط العلماء لجواز السفر إلى بلاد الكفر ثلاث شروط:

1-            أن يكون عند الإنسان علم يدفع به الشبهات.

2-            أن يكون عنده دين يدفع به الشهوات.

3-            أن يكون محتاجا إلى ذلك، كعلاج، أو طلب علم لا يوجد في بلاد الإسلام فإن لم تتم هذه الشروط فإنه لا يجوز السفر إلى بلاد الكفار.

وأما السفر للسياحة إلى بلاد الكفار، فهذا ليس بضرورة، وبإمكانه أن يذهب إلى بلاد إسلامية يحافظ أهلها على شعائر الإسلام ([36]).

* * * * *

 2- حكم التعامل مع الكفار

1-            تجوز المعاوضة معهم في عقود البيع والإجارة ونحوها ما دامت المعاوضة والمنفعة والعين مباحة شرعا، وأما ما كان العوض فيه محرما كالخمر ولحم الخنزير، والمنفعة غير مباحة كالفوائد الربوية، والعين غير مباحة كالعنب ليتخذ خمرا، أو ملك العين أو إجارتها لأمر محرم، فذلك محرم شرعا، أو ما يستعين به أهل الحرب منهم على المسلمين.

2-            ويجوز وقفهم أي الكفار على أنفسهم أو غيرهم إذا كان في جهة يجوز الوقف فيها للمسلمين، كالصدقة على الفقراء، وإصلاح الطرق، وإن وقف على ولده بشرط كفرهم بحيث لو أسلموا لم يستحق أولاده شيئا حرم إمضاء وقفه، وإن وقفوا على كنائسهم ومعابدهم حرم ذلك ولم يجز إمضاؤه قضاء لأن في ذلك إعانة لهم على كفرهم.

3-            يصح نكاح المسلم للكتابية اليهودية والنصرانية ولا يصح نكاح المسلمة للكتابي، هذا ويرى بعض أهل العلم حرمة نكاح الكتابية إذا ترتب عليه مفسدة من فتنة المسلم في دينه ونحو ذلك.

4-            يجوز إدانتهم والاستدانة منهم، وتوثيق ديونهم بالرهن.

5-            يجوز تجارة الكفار في بلاد المسلمين فيما هو مباح شرعا، ويؤخذ عشرها خراجا يصرف في المصارف العامة للمسلمين.

6-            تؤخذ الجزية من الكتابي في مقابل حمايته.

7-            في حالة عجز الكتابي عن دفع الجزية تسقط عنه.

8-            يحرم السماح لهم ببناء الكنائس في بلاد المسلمين وما دخل المسلمون بلادهم وهو قائم فيها لا يهدم، لكن يحرم السماح بتجديد بنائه إذا هدم.

9-            يرفع عنهم الحد فيما اعتقدوا حله في دينهم، لكن يحرم جهرهم به.

10-       تقام عليهم الحدود فيما اعتقدوا حرمته في دينهم.

11-       لا يؤذى الذمي والمعاهد في ديار المسلمين مادام قائما بحق ذمته وعهده.

12-       يجوز مصالحتهم إذا كان ذلك يحقق مصلحة عامة للمسلمين، وأرى ولي الأمر الصلح معهم كما قال سبحانه}وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا{ [الأنفال، الآية: 61] لكن يجب يكون الصلح مؤقتا لا مطلقا.

13-       حرمة دم المعاهد والذمي، وماله، وعرضه.

14-       لا يقاتلون إذا كانوا حربيين إلا بعد إنذارهم.

15-       من لم يشارك في المعركة بنفسه أو رأيه أو تخطيط فلا يتعرض له، كالصبيان والنساء، والراهب في صومعته، والشيخ الفاني، والعجوز، والمريض ونحو ذلك.

16-       من هرب من مقاتلتهم فلا يجهز عليه، ويكون ما تركه فيئا.

17-       إذا رأى ولي الأمر إقرارهم على ما بأيديهم من الأرض جاز ذلك، ويدفعون الخراج وتكون أرضهم أرضا خراجية، فإن أبوا سلمت للمسلمين لعمارتها هذا إذا فتحت أرضهم قهرا بحرب لأنها في حكم الغنيمة.

18-       يجوز استرقاق الكفار وسبيهم إذا كانوا حربيين، ولم يكن بيننا وبينهم صلح ([37]).

19-       حكم عيادتهم وتهنئتهم:

روى البخاري في كتاب الجنائز عن أنس رضي الله عنه قال: كان غلام يهودي يخدم النبي ﷺ‬ فمرض فأتاه النبي ﷺ‬ يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: أسلم. فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له: أطع أبا القاسم ﷺ‬ فأسلم، فخرج النبي ﷺ‬ وهو يقول: «الحمد لله الذي أنقذه من النار».

وروي أيضا: قصة أبي طالب حين حضرته الوفاة فزاره النبي ﷺ‬ وعرض عليه الإسلام.

قال ابن بطال: إنما تشرع عيادته إذا رجي أن يجيب إلى الدخول في الإسلام، فأما إذا لم يطمع في ذلك فلا. قال ابن حجر: والذي يظهر: أن ذلك يختلف باختلاف المقاصد، فقد يقع بعيادته مصلحة أخرى.

أما تهنئتهم بشعائر الكفر المختصة بهم فحرام بالاتفاق، وذلك مثل أن يهنئهم بأعيادهم فيقول: عيدك مبارك، أو تهنأ بهذا العيد، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم إثما عند الله، وأشد مقتا من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس وارتكاب الزنا ونحوه.

وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك، ولا يدري قبح ما فعل. فمن هنأ بمعصية، أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه. وقد كان أهل الورع من أهل العلم يتجنبون تهنئة الظلمة بالولايات، وتهنئة الجهال بمنصب القضاء والتدريس والإفتاء تجنبا لمقت الله وسقوطهم من عينه، وإن بلي الرجل فتعاطاه دفعا لشر يتوقعه منهم فمشى إليهم ولم يقل إلا خيرا ودعا لهم بالتوفيق والتسديد فلا بأس بذلك.

ويدخل في هذا أيضا: تعظيمهم ومخاطبتهم بالسيد والمولى وذلك حرام قطعا، ففي الحديث المرفوع: «لا تقولوا للمنافق سيد فإنه إن يك سيدا فقد أسخطتم ربكم عز وجل».

ولا يجوز أيضا تلقيبهم ـ كما يقول ابن القيم ـ بمعز الدولة أو فلان السديد، أو الرشيد أو الصالح ونحو ذلك. ومن تسمى بشيء من هذه الأسماء لم يجز للمسلم أن يدعوه بها، بل إن كان نصرانيا قال: يا نصراني، يا صليبي، ويقال لليهودي، يا يهودي.

ثم قال ابن القيم بالنص:

".... وأما اليوم فقد وفقنا إلى زمان يصدرون في المجالس، ويقام لهم وتقبل أيديهم ويتحكمون في أرزاق الجند، والأموال السلطانية، ويكنون بأبي العلاء، وأبي الفضل، وأبي الطيب، ويسمون حسنا وحسينا وعثمان وعليا! وقد كانت أسماؤهم من قبل: يوحنا ومتى وجرجس وبطرس وعزرا وأشعيا، وحزقيل وحُيي، ولكل زمان دولة ورجال".

وإذا كان هذا كلام العلامة ابن القيم وهو المتوفى سنة 751هـ رحمه الله. فلينظر المسلم اليوم إلى هذا الغثاء الذي هو كغثاء السيل، ينتسبون للإسلام وهم يتبعون أعداء الله في كل صغيرة وكبيرة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلوه، وليست تبعية لهم فحسب بل إنها تبعية بإعجاب وانبهار! فما تمر بأعدائنا مناسبة إلا وتنهال عليهم من كل حدب وصوب بالتهنئة والتبريك ومعسول الأماني!! ([38])

20-       حكم السلام عليكم:

اختلف العلماء في معنى قوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام حين دعا أباه فأبى قال إبراهيم: }سَلَامٌ عَلَيْكَ{ [سورة مريم، الآية: 47].

فأما الجمهور فقالوا: المراد بسلامه المسالمة التي هي المشاركة لا التحية. وقال الطبري: معناه: أمنة مني لك. وعلى هذا لا يبدأ الكافر بالسلام. وقال بعضهم في معنى تسليمه: هو تحية مفارق. وجوز تحية الكافر وأن يبدأ بها قيل لابن عيينة: هل يجوز السلام على الكافر؟ قال نعم. قال الله تعالى: }لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ{ [سورة الممتحنة، الآية: 8].

وقال: }قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ{ [سورة الممتحنة، الآية: 4].

وقال إبراهيم لأبيه }سَلَامٌ عَلَيْكَ{.

قال القرطبي: قلت: والأظهر من الآية ما قاله سفيان بن عيينة وفي هذا الشأن حديثان: فقد روى أبو هريرة أن رسول الله ﷺ‬ قال: «لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروه إلى أضيقه».

وفي "الصحيحين" عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أن النبي ﷺ‬ ركب حمارا عليه إكاف تحته قطيفة فدكية، وأردف وراءه أسامة بن زيد، وهو يعود سعد بن عبادة في بني الحرث بن الخزرج وذلك قبل وقعة بدر، حتى مر في مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان، واليهود، وفيهم عبد الله بن أبي سلول، وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه ثم قال: لا تغبروا علينا، فسلم عليهم النبي ﷺ‬ ـ الحديث ـ .

قال القرطبي:

"فالأول: يفيد ترك السلام عليكم ابتداء، لأن ذلك إكرام والكافر ليس أهله. والثاني: يجوز ذلك. قال الطبري: ولا يعارض ما رواه أسامة بحديث أبي هريرة، فإنه ليس أحدهما خلافا للآخر، وذلك أن حديث أبي هريرة مخرجه العموم، وخبر أسامة يبين أن معناه الخصوص. قال النخعي: إذا كانت لك حاجة عند يهودي أو نصراني فابدأ بالسلام.

فبان بهذا أن حديث أبي هريرة «لا تبدؤهم بالسلام» إذا كان لغير سبب يدعوكم على أن تبدءوهم بالسلام من قضاء ذمام أو حاجة تعرض لكم قبلهم، أو حق صحبة أو جواز أو سفر.

قال الطبري: قد روى عن السلف أنهم كانوا يسلمون على أهل الكتاب وفعله ابن مسعود بدهقان صحبه في طريقه قال له علقمة: يا أبا عبد الرحمن أليس يكره أنه يبدءوا بالسلام؟ قال: نعم. ولكن حق الصحبة.

وقال الأوزاعي: إن سلمت فقد سلم الصالحون قبلك، وإن تركت فقد ترك الصالحون قبلك. وروي عن الحسن البصري أنه قال: إذا مررت بمجلس فيه مسلمون وكفار فسلم عليهم.

قال ابن القيم: إن صاحب هذا الوجه ـ أي من أجاز ابتداءهم بالسلام ـ قال يقال له ـ السلام. فقط بدون ذكر الرحمة، وبلفظ الإفراد.

"أما رد السلام عليهم فاختلف في وجوبه: فالجمهور على وجوبه وهو الصواب. وقالت طائفة: لا يجب الرد عليهم كما لا يجب على أهل البدع والأولى والصواب الأول: والفرق: أنا مأمورون بهجر أهل البدع تعزيرا لهم وتحذيرا منهم بخلاف أهل الذمة".

قلت: ومما يرجح رأي الجمهور في وجوب الرد على أهل الكتاب قوله ﷺ‬ : «إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم: السام عليكم. فقل وعليكم». وقوله ﷺ‬ «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم»([39]).

* * * * *

 3- الفرق بين عقيدة البراء وحسن المعاملة

يقع خلط ولبس عند البعض بين حسن المعاملة مع الكفار غير الحربيين والبراءة منهم، ويتعين معرفة الفرق بينهما، فحسب التعامل معهم أمر، وأما بغضهم وعداوتهم فأمر آخر، وقد أجاد القرافي ـ في "الفروق" عندما فرق بينهما قائلا:

"اعلم أن الله ـ تعالى ـ منع من التودد لأهل الذمة، بقوله: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ .....{ [سورة الممتحنة، الآية: 1]. فمنع الموالاة والتودد، وقال في الآية الأخرى: }لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ ......{ [سورة الممتحنة، الآية: 8]. فلابد من الجمع بين هذه النصوص، وأن الإحسان لأهل الذمة مطلوب، وأن التودد والموالاة منهي عنهما... وسر الفرق أن عقد الذمة يوجب حقوقا علينا لهم، لأنهم في جوارنا، وفي خفارتنا، وذمة الله تعالى ـ وذمة رسوله ﷺ‬ ـ، ودين الإسلام، وقد حكى ابن حزم الإجماع ـ في مراتبه ـ على أن من كان في الذمة، وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح... فيتعين علينا أن نبرهم بكل أمر لا يكون ظاهره يدل على مودات القلوب، ولا تعظيم شعائر الكفر، فمتى أدى إلى أحد هذين امتنع، وصار من قبل ما نهى عنه في الآية، وغيرها. ويتضح ذلك بالمثل، فإخلاء المجالس لهم عند قدومهم علينا، والقيام لهم حينئذ وبداؤهم بالأسماء العظيمة الموجبة لرفع شأن المنادى بها، هذا كله حرام، وكذلك إذا تلاقينا معهم في الطريق، وأخلينا لهم واسعها ورحبها والسهل منها، وتركنا لأنفسنا في خسيسها وحزنها وضيقها كما جرت العادة أن يفعل ذلك المرء مع الرئيس، والولد مع الوالد، فإن هذا ممنوع لما فيه من تعظيم شعائر الكفر، وتحقير شعائر الله ـ تعالى ـ وشعائر دينه، واحتقار أهله، وكذلك لا يكون المسلم عندهم خادما ولا أجيرا يؤمر عليه وينهى.

وأما ما أمر به من برهم من غير مودة باطنة: فهو كالرفق بضعيفهم، وإطعام جائعهم، وإكساء عاريهم، ولين القول لهم على سبيل اللطف لهم، والرحمة لا على سبيل الخوف والذلة، واحتمال إذايتهم في الجوار مع القدرة على إزالته لطفا منا بهم، لا خوفا وتعظيما، والدعاء لهم بالهداية، وأن يجعلوا من آل السعادة، ونصيحتهم في جميع أمورهم.

فجميع ما نفعله معهم من ذلك فليس على وجه التعظيم لهم، وتحقير أنفسنا بذلك ولا مصانعة لهم، وينبغي لنا أن نستحضر في قلوبنا ما جبلوا عليه من بغضنا، وتكذيب نبينا ﷺ‬ ، وأنهم لو قدروا علينا لاستأصلوا شأفتنا، واستولوا على دمائنا وأموالنا، وأنهم من أشد العصاة لربنا ومالكنا ـ عز وجل ـ ، ثم نعاملهم بعد ذلك بما تقدم ذكره امتثالا لأمر ربنا....".

وأما ما يدعى مما يسمى زمالة الأديان والتي يراد بها إذهاب ما في نفس المسلم من العداء للكفر وأهله وعزته بالإسلام، فليس ذلك من حسن المعاملة، بل هو الذوبان في الكفر وأهله، وهو عين الموالاة للكفار كما قال سبحانه: }فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ{ [يونس، الآية: 32] وقال سبحانه: }وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ{ [آل عمران، الآية: 85].

* * * * *

الفصل الرابع

 صورة الولاء والبراء في العصر الحاضر

لاشك أن العالم الإسلامي في العصور المتأخرة قد بلغ دركات الانحطاط والتخلف في كل شيء.

انحطاط في عقيدته حيث ترك ما عليه السلف الصالح وذهب إلى أخذ خزعبلات وحواشي علم الكلام الدخيل والخوض في نقاشات بيزنطية لا تمت للواقع ولا تصلحه بأي حال بل تزيده فسادا وانهيارا.

وانحطاط في التزامه بمقتضيات هذه العقيدة من الجهاد والتميز والعزة، وتخلف في جميع المجالات العلمية وترك مكانة القيادة إلى ذلة التبعية والتقليد.

ومما يؤكد ذلك قول الأستاذ عبد القادر عودة رحمه الله: إن بعض الأقطار تسمي نفسها إسلامية، تبيح للمبشرين من الإنجليز والفرنسيين والإيطاليين والأمريكيين أن ينشئوا مدارس للتبشير بالدين المسيحي في بلادهم حتى تفتن أطفال المسلمين عن دينهم، بل إن بعض الأقطار منع تعليم الدين الإسلامي في المدارس الحكومية وأهمل دراسة التاريخ الإسلامي في الوقت الذي يركز فيه الاهتمام بتدريس تاريخ أوروبا، وتمجيد حضارتها وأنها هي قبلة الرقي والمدنية.

هذا على مستوى الحكومات، أما على مستوى الأفراد فكان على رأس من مثل انحطاط المسلمين في العصر الحاضر ما يسمى بعبد الرحمن الكواكبي: هذا الرجل يعتبر من أسبق الناس ظهورا في الدعوة إلى التفريق بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، وكان في ما قال في كتابه أم القرى "وكفتح أبواب حسن الطاعة للحكومات العادلة والاستفادة من إرشاداتها وإن كانت غير مسلمة، وسد أبواب الانقياد المطلق ولو لمثل عمر بن الخطاب". عليه من الله ما يستحق.

أما محمد عبده: فكما يقول عنه الأستاذ غازي التوبة: قد تجاوز تعاونه مع الإنجليز المحتلين لمصر إلى التعاون مع الجواسيس المستشرقين في إنجلترا نفسها هذا هو عمل الشيخ الذي نعت بمصلح العصر.

أما طه حسين: الذي يقول في كتابه مستقبل الثقافة في مصر: لكن السبيل إلى ذلك. أي الرقي. ليست في الكلام يرسل إرسالا، ولا في المظاهر الكاذبة والأوضاع الملفقة، وإنما هي واضحة بينة ومستقيمة ليس فيها عوج ولا التواء، وهي واحدة فذة ليس لها تعدد، وهي: أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادا، ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها وحلوها ومرها، وما يحب منها وما يكره وما يحمد منها وما يعاب.

}ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ{ [سورة التوبة، الآية: 30].

* * * * *

الفصل الخامس

 أسباب ضعف عقيدة الولاء والبراء

 1- الانحراف العام عن الكتاب والسنة:

إن هذا الانحراف هو الأصل الجامع لكل انحراف وقع فيه المسلمون بعد، فكل الأسباب التي سأذكرها إنما هي أسباب تفصيلية لهذا السبب الأساسي.

فكتاب الله ـ القرآن ـ وسنة رسول الله ﷺ‬ هما المصدران الأساسيان للمنهج الإسلامي ـ ذلك المنهج الكامل الشامل للحياة البشرية، إنما أنزله الله إلى هذه الأرض ليواجه الحياة البشرية ويحكمها وينظمها، ويقيمها على الحق والعدل، ويسيرها ـ بنور الله ـ إلى السعادة في الدنيا والآخرة، ويربطها بخالقها سبحانه وتعالى.

والسنة النبوية كذلك هي التطبيق والهدي العملي، المسلك المبين والشارح للقرآن الكريم يقول الرسول ﷺ‬ : «قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك».

فحين ترك المسلمون بل غالبهم التمسك بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ‬ ونبذوهما وراءهم ظهريا، وقعوا في الذل والعبودية والخزي، والهزائم العسكرية، والفكرية، والمعنوية، والتفرق والشتات والتناحر، والاختلاف، ومن ثم وقعوا في التبعية الولاء والتقليد الأعمى للكافرين والملحدين، كما هي حالهم اليوم ولن يزالوا كذلك حتى يفيئوا إلى الله ويظهروا دينه ويعلو كلمته، ويطبقوا الإسلام منهجا لحياتهم، ويجاهدوا في سبيل الله حتى يكون الدين كله لله ([40]).

 2- ضعف التربية والتوجيه للأجيال الناشئة:

التربية والتوجيه هما الدعامتان الأساسيتان لإعداد الأجيال، وكل أمة من الأمم القوية إنما تربي أجيالها لتقوم بنهضتها وتقود حياتها على ضوء مبادئها، وأديانها، ومعتقداتها، وأهدافها، لا غير.

وكذلك كانت الأمة الإسلامية تربي أجيالها قرونا طويلة على الدين والخلق والفضيلة، والقوة والفتوة والإقدام، وإعدادها للجهاد وأعباء الحياة الصعبة، فكان شبابها ينطلقون من ساحات دور العلم وحلق العلم والذكر متسابقين إلى ساحات ومرابط "رباط" الثغور، حيث كانت تلك تربيتهم وإعدادهم، حتى جاءت القرون المتأخرة، فتقلصت دور العلم وضمرت حلق الذكر والدراسة وقل شأن العلم والتربية، وقل التوجيه السليم والإعداد القوي للأجيال المسلمة، فظهرت أجيال ضعيفة لم ترب على القوة والفتوة والعلم ولم تستطع توجيه من جاء بعدها من أجيال، فأصيبت الأمة الإسلامية بالوهن والانهزامية والتشتيت.

إلى أن برزت نتائج الاكتشافات العلمية الغربية وبدائع الصناعات الحديثة ومظاهر الحياة الأوروبية البراقة والمسلمون على تلك الحال فانبهرت الأجيال المسلمة، من مظاهر الحياة الجديدة، حيث فقدت التربية والتوجيه اللذين يؤهلانها للموقف الإيجابي أمام تلك المظاهر، فوقعت في أسر التقليد والانبهار الأعمى شر وقعة، ولن تخرج من هذا المأزق إلا بالتربية والتوجيه والإعداد الإسلامي القوي ([41]).

 3- التربية والتعليم:

العلم ـ كما يقال ـ سلاح ذو حدين، ومن هذا المنطلق أدرك أعداء الله من جميع الكفار أن صخرة العقيدة الإسلامية لا يمكن النيل منها عن طريق القوة والسلاح فهي قد أدمتهم كثيرا، ولا يستطيعون الصمود أمام هتاف المجاهدين الصادقين في سبيل الله، ولذلك لجأوا إلى وسيلة أخرى هي أخبث في التأثير وأشد في الدهاء. وهذه الوسيلة هي غزو مناهج التربية والتعليم في العالم الإسلامي بأفكار ونظريات وشبهات وشكوك يضفي عليها. كذبا وبهتانا. ثوب التجرد العلمي، والبحث العلمي!!

وسلك أعداء الإسلام في هذا سبيلين:

الأول: السيطرة على التعليم في الداخل.

الثاني: عن طريق الابتعاث إلى الدول الكافرة.

فأما الأمر الأول فيقول عنه القس زويمر: ".... لقد قبضنا أيها الإخوان في هذه الحقبة من الدهر من ثلث القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا على جميع برامج التعليم في الممالك الإسلامية المستقلة، أو التي تخضع للنفوذ المسيحي، أو التي يحكمها المسيحيون حكما مباشرا، ونشرنا في تلك الربوع مكامن التبشير المسيحي والكنائس والجمعيات وفي المدارس الكثيرة التي تهيمن عليها الدول الأوروبية والأمريكية وفي مراكز كثيرة ولدى شخصيات لا تجوز الإشارة إليها، الأمر الذي يرجع الفضل فيه إليكم أولا وإلى ضروب كثيرة من التعاون بارعة باهرة النتائج، وهي من أخطر ما عرف البشر في حياته الإنسانية كلها. إنكم أعددتم بوسائلكم جميع العقول في الممالك الإسلامية إلى قبول السير في الطريق الذي مهدتم له كل التمهيد "إخراج المسلم من الإسلام" إنكم أعددتم نشئا لا يعرف الصلة بالله ولا يريد أن يعرفها، وأخرجتم المسلم من الإسلام ولم تدخلوه في المسيحية وبالتالي: جاء النشء الإسلامي طبقا لما أرده له الاستعمار، لا يهتم بالعظائم ويحب الراحة والكسل، فإذا تعلم فللشهوات، وإذا جمع للشهوات، وإن تبوأ أسمى المراكز ففي سبيل الشهوات يجود بكل شيء".

أجل صدق هذا القس وهو كافر إن هناك جيلا تربى على ثقافة الغرب فخرج لا يعرف الصلة بالله أبدا.

وجاء "دنلوب" المتخرج من كلية اللهوت البريطانية ليرسم سياسة التعليم في مصر، حيث وضع مناهج كفيلة بإخراج النماذج التي عناها القس زويمر "لا تعرف الصلة بالله" ومصداق ذلك إن درس الدين لا يدرس منه إلا نتف يسيرة مثل: إن الإسلام جاء ليبطل عبادة الأوثان ويعبد الله الواحد، ويحرم وأد البنات، وأستاذ هذه المادة يختار من أسن الأساتذة بمظهر رث، ثم تلغى مادة الدين في نهاية العام الدراسي ([42]).

أما مادة التاريخ فكان يخفى على الطالب فيها: أن الإسلام جاء ليحارب الشرك بكل مظاهره ويعطى نبذا عن دراسة صدر الإسلام، وأن مهمة الإسلام تغيير ما كان عليه العرب في جاهليتهم ويركز فيه أيضا على الجانب السياسي والصراع بين الطبقات الحاكمة. أما حياة المجتمع الإسلامي فلا شيء يذكر من ذلك.

وكذلك البطولات الإسلامية والحركات العلمية الإسلامية. كل ذلك يخفى عن الطلاب في الوقت الذي يدرس فيه بتوسع تاريخ أوروبا ونهضتها ورجالها وأبطالها وأنها بلد التقدم والرقي ومهبط المدنية لأن فيها فحما وحديدا!!!

وخلاصة القول أنه كان يلقن الطلاب أن أوروبا هي العملاق الضخم الذي لا يقهر. والإسلام هو القزم الضئيل الذي عليه أن يتعبد لهذا العملاق ليعيش.

وأما السبيل الثاني: وهو الابتعاث إلى الخارج أي إلى الدول الكافرة فقد حقق هذا نتائج ترضي من خطط لها. ذلك أن هذا الابتعاث. في الغالبية العظمى منه. يكسر صفة التميز بين المسلم والكافر، ويجعل ولاء المسلم متذبذبا وهو يرى ما بهر به، ثم إنه يزيد الطالب جهالة بدينه وقيمه ومثله، ويزيده تعلقا بالغرب أو الشرق ويبدأ بتطبيعه بالطابع غير الإسلامي، ثم يصير هذا التطبع ـ مع الزمن ـ طبعا، ثم انسلاخا من حيث يشعر الطالب أو لا يشعر فتجده في لبسه ومأكله ومشربه وكلامه وطريقة تعامله، غربيا، أو شرقيا بل ربما أكثر من ذلك.

وكان من أوائل المبتعثين وأولهم سبقا في خدمة ما أريد له: رفاعة الطهطاوي حيث مكث في فرنسا خمس سنوات من 1826 – 1831م ولما رجع بدأ ينشر كلاما يسمع للمرة الأولى في البيئة الإسلامية مثل: الوطن والوطنية والاهتمام بالتاريخ القديم ليدعم به المفهوم الوطني الجديد، ثم يتحدث عن الحرية وأنها سبيل التقدم وكذلك طالب تقنين الشريعة على نمط المدونات القانونية الأوروبية، ثم يتحدث بكلام كثير وطويل عن المرأة كتعليمها ومنع تعدد الزوجات وتحديد الطلاق واختلاط الجنسين.

إن العالم الإسلامي كله اليوم يسير في تعليمه وتربيته العلمية على النهج الغربي والشرقي بدليل أن كل الجامعات - مثلا - تدرس نظرية فرويد في البحوث النفسية، ونظرية دور كايم في علم الاجتماع، ونظرية ماركس الاشتراكية والشيوعية، ونظرية فريزر في علم مقارنة الأديان.

وينادى بإحياء الجاهليات التي سماها الله في كتابه وسنة رسوله جاهلية: تدرس على أنها حضارة راقية ضاربة في أعماق التاريخ أكثر من سبعة آلاف سنة!!

وكذلك التغني بأمجاد أوروبا ومعرفة "أبطال" حضارتها، وفصل الدين عن الدولة، وأن الدين علاقة بين العبد وربه ولا دخل له في شؤون الحياة... كل ذلك كان ثمارا طبيعيا للغزو الثقافي.

وأخيرا: فإن هذه المناهج التعليمية قد جردت المسلم من ولائه لله ورسوله ودينه وإخوانه المؤمنين ومحت عداواته لأعداء الله، فنشأ جيل لا يعرف الصلة بالله، ولا يقيم ولاءه وانتماءه على أساس عقيدته بل على ما تعلمه وانتسب إليه من المذاهب والانتماءات الجاهلية ([43]).

 4- وسائل الإعلام:

لوسائل الإعلام ـ الكتاب، القصة، الإذاعة، التليفزيون، المجلة، الجريدة، السينما، وأخيرا الفيديو ـ أثر كبير وخطير على جميع طبقات المجتمع وقد أدرك أعداء الإسلام خطورة الوسائل وما لها من تأثير عميق فأحكموا قبضتهم عليها، وبثوا من خلالها ما رسموه لإفساد المسلمين وإخراجهم من إسلامهم.

وجميع هذه الوسائل تحرص ـ وبكل ما أوتيت ـ على فسخ وخلع ولاء المسلم لدينه وإخوانه المؤمنين وتركز بكل قوة على تذويب وتميز المسلم عن غيره، وعلى زعزعة براءته وعداوته للكفار، حيث تحسن للناس: أن البلاد الصناعية هي بلاد الحرية وبلاد التقدم وبلاد العلم والرقي والمدنية وأن الذي يشعر أو يدين بالعداوة الدينية لهذه الشعوب العظيمة هو إنسان لم يعرف روح العصر وروح العلم الذي مزق الحواجز بين الأجناس ووصل القارات وجعل الناس إخوة في الشرق والغرب!! وهي البلاد التي يستطيع الإنسان فيها أن يمارس ما يشاء كيف يشاء!!

ولقد قامت وسائل الإعلام في البلاد الإسلامية. ولا تزال تقوم. بحرب شعواء على الدين الإسلامي وعلى المسلمين ففضلا عن أنها تحسن وتدعو إلى موالاة الكفار: هي أيضا حريصة على نشر الفاحشة في الذين آمنوا.

والمتتبع للصحف الصادرة في أوائل هذا القرن الميلادي يجد فيها صورة صادقة لما نقول فصحيفة المقطم ـ مثلا ـ تجدها موالية للإنجليز، تعمل لحسابهم، وتصور أفعالهم بأنها أفعال إنسانية، حيث أنهم ـ أي الإنجليز ـ لم يقيموا في مصر إلا لرفع الظلم وإحياء العدل، وإليهم وحدهم يرجع الفضل في إنقاذ مصر من كل ما أصابها!! وكذلك كانت مجلة المقتطف تدور كتابتها وآراؤها حول هذا الموضوع.

وقد عملت هذه الصحف والمجلات المأجورة على إماتة الجهاد بمفهومه الإسلامي الصحيح، وتردد ما يقوله أسيادها من أن المسلمين أناس همج يحبون الحروب وسفك الدماء، ولا تتسع صدورهم للتسامح "لأنهم متعصبون"!!

فإذا أرادوا الخروج من هذه الوصمة فعليهم بالتسامح والتحبب للآخرين وتغيير النظرة إليهم، ويجب عليهم أن يبرأوا من ذلك "التراث" الذي يعمق تلك الروح المتعصبة في نفوسهم.

ومن المهام التي عنيت بها وسائل الإعلام: إشاعة الفاحشة، والإغراء بالجريمة والسعي بالفساد في الأرض لخلخلة العقيدة وتحطيم الأخلاق وإذا انهدم الركنان الأساسيان ـ وهما العقيدة والأخلاق ـ فكيف يرجى بعد ذلك قيام بناء سليم ([44]

لهذا اعتمد الكفار المحتلون والمبشرون والمخططات اليهودية الإعلامية التخريبية على أجهزة الإعلام في العالم الإسلامي اعتمادا كبيرا وعلقوا عليها آمالهم بل حققوا بها أهدافهم في حركة التغريب وإفساد الأخلاق لذلك يقول المستشرق جيب "إن الصحافة هي أقوى الأدوات الأوروبية وأعظمها نفوذا في العالم الإسلامي" ([45]).

 5- الاحتلال والتبشير:

لقد بذل الكفار ـ أصحاب الحضارة الغربية الجاهلية ـ مجهودات ضخمة لفرض حياتهم وسيطرتهم على المسلمين ومحو العقيدة الإسلامية من قلوبهم وإبعادها عن واقع الحياة لأنها العقيدة الوحيدة التي تهدد كيانهم، فسلكوا لذلك طريقين:

أحدهما الاحتلال المباشر وما يتبعه من السيطرة السياسية والغزو الفكري والثقافي والاقتصادي.

والثاني: حركة التبشير النصرانية لهدم الكيان الإسلامي من الداخل وبشتى الوسائل والطرق السليمة لغزو الأفكار والقلوب بطريقة سحرية جذابة.

وقد سار هذا الغزو والتبشير بشتى أشكاله ضمن مخطط رهيب ومركز يشتمل على برامج هدامة تشيب الوليد ومنها:

1-            انتشار مئات الآلاف من المبشرين النصارى في كل أقطار العالم الإسلامي المترامي الأطراف وبالأخص البلدان التي يخيم فيها الجهل والفقر والمرض للاهتمام بأحوال هذه الشعوب ومن ثم التأثير على عواطفهم وجذبهم إلى النصرانية، لذلك اهتم المبشرون بأفريقيا وإندونيسيا والهند، وقد اتخذت الإرساليات التبشيرية وسائل كثيرة لتنفيذ برامجها، عن طريق المدارس والمستشفيات وممارسة الطب، ودور النشر والسفارات والهيئات الدولية والجمعيات الخيرية والتجارية المختلفة، ووسائل الإعلام من إذاعة وتلفاز وسينما ومسرح، والمنظمات والبعثات الدولية والعالمية، والشركات الغربية المختلفة التي تعمل في شتى المشاريع والمؤسسات في العالم الإسلامي، وغير ذلك من الوسائل الكثيرة.

2-            فتح المدارس الأجنبية ـ في العالم الإسلامي ـ والإكثار منها على مختلف المراحل الدراسية وإظهارها بمظهر يفوق المدارس الأهلية والوطنية التي يقوم عليها المسلمون ـ إن وجدت ـ والإكثار من الأساتذة ـ المبشرين ـ أو من يخدمهم من غيرهم.

3-            إرسال المبتعثين ـ من أبناء المسلمين ـ إلى دول الغرب للدراسة هناك بشتى أنواع الدراسات ليأتوا. في الغالب. محملين بالسموم الغربية ويتولوا حركة التغريب في بلدانهم، وقد سلكت الدول الغربية أسلوبا عجيبا مع هؤلاء المبتعثين. فالذين ينبغون منهم ويبرزون في تخصصاتهم فإما أن تغريهم بشتى المغريات لتستفيد منهم ويقيموا في الغرب فإن وجدت عند أحدهم إخلاصا لبلاده، ويمكن أن يكون له دور قوي في نهضتها فإن مصيره الاغتيال وإذا قدرت له السلامة فلابد أن تعمل على عرقلة جهوده في بلده أو التضييق عليه حتى يفر من بلاده، كما فعلت الحكومة المصرية أيام عبد الناصر مع كثيرين من المفكرين وعلماء الذرة المصريين!!

4-            عرقلة المشاريع الإنمائية والتعميرية والصناعية في العالم الإسلامي ليظل محتاجا إلى الغرب في كل شيء ويستورد كل شيء، فقد عمل الغربيون الكفار على عدم توفير الدراسات العلمية الكافية في العالم الإسلامي ليظل كذلك يرسل فلذات أكباده ليربيهم الكافر على عينه، فيحارب بهم دينه.

5-            العمل على ترويج الانحراف الخلقي والفكري بشتى الوسائل: بنشر الكتب المضللة والمنحرفة وتشجيعها ودعمها وكذلك دور السينما والتلفاز والإذاعة وتشجيع الكتاب والمحرفين وبث الدعاية لهم.

6-            ترويج المسكرات: والمخدرات ودور البغاء والعهر والفجور وتشجيع العري والميوعة، والتخنث والرقص والاختلاط، بشتى الوسائل المغرية وإغداق الأموال الطائلة لهذا الترويج باسم اللهو البريء حينا والمحرم أحيانا.

7-            السيطرة الاقتصادية: على خيرات العالم الإسلامي وربط المصالح الدولية الاقتصادية بالغرب الكافر ليبقى يستثمر خيرات البلاد والشعوب الإسلامية ويستنزف طاقاتها ويشيع الفقر والبطالة فيها، ويعمل جاهدا على عدم توفير الخدمات الفنية والتكنولوجية من المسلمين أنفسهم.

8-            العمل على إحياء وتمجيد الحضارات الجاهلية القديمة كالفرعونية والبابلية ليقل ولاء المسلمين للإسلام، والحط من قيمة الحضارة الإسلامية.

9-            العمل على إلغاء المحاكم الشرعية والاستغناء عنها بالمحاكم الوضعية، أو إقرار النوعين! ومن ثم الحط من قيمة الشريعة الإسلامية وترويج فكرة عجز الفقهاء المسلمين ـ بل الفقه الإسلامي ـ عن حل المشكلات الحديثة وعرقلة الجهود التي تبذل لتطبيق الشريعة الإسلامية على الحياة والدولة.

10-       القضاء على الكيان الأسري المتين وإفساد المرأة المسلمة لتتربى الأجيال تربية مادية منحرفة، والقضاء على معاني الرجولة، والفضيلة، والحياء والفتوة الإسلامية التي تحلى بها الشباب المسلم قديما.

11-       تطبيق برامج التعليم والتربية الجاهلية التي رسمها الكفار للمسلمين.

12-       ترويج الدعاية للكتابة الغربية الرأسمالية أو الكتلة الشرقية الشيوعية وتمجيد قوادها وأقطابها، والإعجاب بطريقة الحياة فيها، وإشاعة الرعب منها والرغبة إليها والتسابق على صداقتها والتماس رضاها، وأن الحياة والرزق والتوفيق متوقف على اللجوء إليها، والاستعانة بها عند الملمات وباختصار اتخاذها القدوة المثلى كما هو واقع بعض الحكومات في العالم الإسلامي.

13-       وضع بذور المذاهب والأحزاب الهدامة والمنحرفة والعمل على تمكينها من المراكز القيادية في البلاد الإسلامية وتشجيعها وحمايتها، كالاشتراكية والبعثية والقاديانية والبهائية والشيوعية والأحزاب المختلفة لتبقى الأمة في انقسامات سياسية وطائفية تشغلها عن دينها الحق، ولتسير راغمة. في ركب الحضارة الغربية الجاهلية والتقليد الأعمى.

14-       العمل على فصل الدين الإسلامي عن الدولة والحياة وإبعاد القرآن والسنة والدراسات الشرعية عن مناهج التعليم والتوجيه والإعلام أو تقليصها لتبقى مجرد ومضات روحية للبركة.

ثم الحط من علماء الشريعة والاستهتار بهم، وعزلهم عن مراكز القيادة والتأثير في الأمة وتسميتهم "رجال الدين".

15-       بذل كل المحاولات لتشويه التاريخ الإسلامي والحط من شأن الحضارة الإسلامية وإخضاع الأحداث التاريخية الإسلامية للتفسير الغربي الجاهلي ليضعف اتصال الأجيال المسلمة بتاريخها وافتخارها به.

16-       محاربة اللغة العربية "لغة القرآن الكريم" ومحاولة محوها بفرض اللغات الغربية على البلاد الإسلامية المحتلة كما عملت فرنسا الصليبية في الجزائر والمغرب وبريطانيا في الهند وباكستان ([46]).

 6- المستشرقون:

لقد حرص الغربيون ـ بعد نهضتم المادية ـ على دراسة التاريخ والتراث الإسلامي وأحوال العالم الإسلامي في ماضيه وحاضره دراسة تفصيلية وتحليلية، تلفت النظر وتستدعي الوقوف عندها لاستنتاج الدوافع والأهداف من وراء هذا الاهتمام، لاسيما وأن محترفي الاستشراق من أكابر الأساتذة والمفكرين في الغرب، لكنه سرعان ما ينقضي عجبا من هذا الاهتمام عندما نرى الآثار التي تركها هؤلاء المستشرقون في دراساتهم المتعددة إنهم كما قال الله عنهم: }لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ{ [سورة آل عمران، الآية: 118].

إن نتائج دراسة المستشرقين للإسلام والتراث والتاريخ الإسلامي حملت في طياتها السم الزعاف متمثلة في نظراتهم وآرائهم واستنتاجاتهم المنحرفة لأنهم كفار لا يدينون بدين الإسلام، ولما تحمله نفوسهم من حقد وبغضاء للإسلام وأهله ـ كما ذكر الله عنهم ـ ثم ما أثاروه في كتاباتهم حوله من شبهات ودسائس وأكاذيب ومفتريات وطعون وتشويهات، وتلقينهم ذلك الأجيال المسلمة حين كانت لهم الكلمة والسيرة وما كتبوه في ذلك من مؤلفات ونشرات ومقالات من المفكرين والأدباء والمثقفين المسلمين الذين كتبوا في ذلك الكثير، من وجهة نظرهم هم ـ المستشرقين ـ كل ذلك جعل الأجيال المسلمة تنظر لتاريخها وتراثها ودينها نظرة سلبية، وتقف من ذلك موقفا متخاذلا فأصيبت بوصمة الولاء والتبعية للغربيين الكافرين.

وخلاصة القول: إن كل من تأثر بالمستشرقين ـ فكرا ومنهجا ـ لا يمكن أن يكون ولاؤه لدينه وأمته صافيا صادقا كما أن براءه لن يكون وفق التصور الإسلامي الصحيح ([47]).

 7- المذاهب اللادينية:

إن من أخبث وأخطر ما واجه المسلمين في عصرهم الحاضر انتشار المذاهب اللادينية بينهم، حيث أريد لهذه المذاهب الهدامة أن تمحو شريعة الله من الأرض وتقصيها من واقع حياة المسلمين. وتشتت ولاء المسلمين الواحد إلى ولاءات جاهلية متعددة، فإذا انتزع ولاء المسلم لدينه سهل حينئذ تقبله لأي فكر، ورضي بأي وضع يعيش فيه مهما كان في ذلك من التبعية والانهزام.

والهدف الأول والأخير من كل هذه المذاهب الكافرة هو: إخراج المسلم من إسلامه وقطع ولاء المسلم بربه ودينه وإخوانه المؤمنين، ثم العودة إلى روح الجاهلية التي تتمثل في الطاعة والانقياد والخضوع لهذه المذاهب الكافرة ولطواغيتها الذين يخططون لها. والعودة أيضا بالمسلمين إلى جاهلية العرق والنسب والتراب وسائر أنواع النتن التي أمر الله المسلمين بتركها لأنها تنقض عرى الإسلام عروة عروة. وهذا الهدف تتفق عليه كل المذاهب من عقيدة الولاء والبراء ـ سأقتصر على تلك المذاهب التي تبدو فيها صورة منافاتها لهذه العقيدة واضحة جلية، وتناقضها معها أمرا ظاهرا.

ومن ذلك القومية والوطنية، اللتان تحصران الولاء في دائرة الجنس أو التراب فيلتقي فيها مثلا اليهودي العربي والنصراني العربي والمشرك العربي، والبعثي العربي مع المسلم العربي. لأن رابطة القومية تجمعهم!! وهذا أمر يرفضه الدين الحنيف لأن الرابطة فيه هي رابطة العقيدة، فضلا عن أن الوطنية والقومية ضيقتا دائرة الولاء.

ونتيجة لضعف المسلمين وتمكينهم عدوهم من أنفسهم سهل استعمارهم من قبل أرذل خلق الله. وهم اليهود والنصارى ومن جاء بعدهم كالملاحدة الشيوعيين.

وبعد أن تمكن العدو من السيطرة على أرض الإسلام أخذ يبث سمومه ويغرس في نفوس الضعاف والسذج والعملاء حبه ونصرته وموالاته، واستحسان ما هو عليه من باطل وكفر، وهنا نزع الولاء الإسلامي ليحل محله الولاء الجاهلي الكافر.

ومصداق هذا الكلام قول أحد المستشرقين في كتاب "الشرق الأدنى مجتمعه وثقافته" وهو يتحدث عن أسلوب نزع ولاء المسلمين فيقول: "إننا في كل بلد إسلامي دخلناه نبشنا الأرض لنحصل على تراث الحضارات القديمة قبل الإسلام، ولسنا نعتقد بهذا أن المسلم سيترك دينه ولكنه يكفينا منه تذبذب ولائه بين الإسلام وتلك الحضارات".

وبعد أن كان البراء أمرا ملازما للولاء تجاه هذه النعرات الجاهلية أصبح أمرا لا وجود له ـ إلا عند من رحم الله ـ لأن هذه الأفكار كفيلة بغسل فكرة البراء من النفس عند ضعاف الإيمان أو المغالطة عند البعض بأن هذه الأفكار والمذاهب لا تتعارض مع الإسلام! ويقال: ما الذي يمنع المسلم أن يكون مسلما وقوميا أو مسلما علمانيا أو مسلما اشتراكيا.... الخ.

ولما أدرك أعداء الإسلام مدى جدوى وفاعلية هذه الفكرة التي تمسخ المسلم حتى يصبح مخلوقا لا صلة له بالله ـ كما قالوا ـ بدأوا ببث فكرة القومية والوطنية، مبتدئين بتركيا مقر آخر خلافة إسلامية، حيث نشأت هناك: القومية الطورانية وتزعم هذه الدعوة حزب "الاتحاد والترقي" فبدأ "بتتريك" تركيا، وعودة القومية الطورانية متخذين لذلك شعار: الذئب الأغبر الذي هو معبود الأتراك قبل أن يعرفوا الإسلام.

وبهذا "التتريك" أخذت الدولة العثمانية تضغط على العرب، حيث تعطي الأتراك امتيازات خاصة بهم لأنهم ترك! وهذا الفعل فضلا عن كونه يعارض مبدأ العدل الإسلامي هو أيضا مؤشر للعرب أن يتحدوا في قومية جديدة! وهذا هو الذي حصل فعلا.

ولما انتكست العرب وعادت إلى نعرة الجاهلية، فقدت روح التضحية والجهاد، وولت وجهها تجاه اليمين واليسار، حيث اليمين له ألوان وضروب من واشنطن إلى باريس إلى لندن واليسار له ألوان أحمر وأصفر وبينهما بعدما ما بين موسكو وبكين.

ولما وقعت هذه النعرات الجاهلية وقع معها كل باطل وكل شر.

فأما شريعة الله وحكمها وقيامها بما يحتاج إليه البشر لأنها من عند الله وهو العليم سبحانه بما يصلح أحوال البشر. فقد أقصيت وحل محلها قانون البعث العربي الاشتراكي الذي أخذ يردد هذا الشعار.

لا تسل عن ملتي أو مذهبي

أنا بعثي اشتراكي عربي

وكثر التغني بهذه الأمجاد من أجل ذبذبة ولاء المسلم، فهذا حافظ إبراهيم يقول:

أنا مصري بناني من بنى

هرم الدهر الذي أعيى الفنى

ورجعت العراق لعنصرية الآشوريين، وكل بقعة أخذت تنادي بهذه الردة الجديدة.

أما الشعار الوطني الجديد: فهو ما أعلنه سعد زغلول بقوله: الدين لله والوطن للجميع! أي الوطن ليس لله، ثم قال: لا تنادوا بشعارات إسلامية خشية أن يغضب إخواننا الأقباط.

ونادى دعاة القومية الناس بأسلوب ماكر فقالوا: ما المانع من أن يكون المسلم العربي ـ عربيا مسلما ـ ، ثم قالوا: يكون عربيا فقط. أليس الإسلام عربيا؟ إذن ما هو عيب القومية العربية؟ إن العرب إذا ذلوا ذل الإسلام فلنناد بالقومية العربية!!

وهذا كلام غير صحيح لأنه يوم ذل العرب جاء صلاح الدين الكردي، وجاء قطز المملوكي فأنقذوا المسلمين من ذلك الهوان، وانتصر القائدان بقولهما واإسلاماه.

ولم يكن في حسهم ولا في عقيدتهم هذه التفرقة ولا هذه النعرة الجاهلية.

وخلاصة القول في القومية: إنها شرك بالله لأنها بإيجابها العمل لها وحدها. والتضحية والجهاد في سبيلها، وصرف الكره والبراء وما يتبعهما ضد كل خارج عن القومية، وصرف الحب والولاء وما يتبعهما للقوميين ومن والاهم: هي بهذا تكون ندا يعبد من دون الله، لأن ذلك يقوم مقام النفي والبراء والإثبات والولاء وهما ركنا الألوهية، أو العبادة في قول "لا إله إلا الله" فـ "لا إله" نفي وبراء، و "إلا الله" إثبات وولاء لله لا شريك له. والدليل على ذلك قوله تعالى:

}وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ{ [البقرة، الآية: 165].

وليس بعد الحق إلا الضلال. فليحذر كل مسلم على نفسه من الوقوع في هذا الشرك المقنع.

وأما العالمية: أو "الإنسانية" فهي تتفق أيضا مع القومية والوطنية في مناقضة عقيدة الولاء والبراء، ولكن هذا التناقض يتخذ شكلا آخر: هو توسيع دائرة الولاء بحيث يدخل فيها كل الأقوام والأديان والأوطان. وهذا في حقيقة الأمر ضياع للولاء ومسخ للبراء حتى لا يعود المسلم يشعر بالفارق بينه وبين أي كافر في بقاع الأرض.

ويقوم هذا المبدأ على ألفاظ خادعة وموهمة مثل: الحرية والأخوة والعدل والمساواة.

وفي ذلك يقول كالفري: وحينما يصبح في مقدور الجميع الوقوف على كل المعلومات المجردة عن الهوى، وحينما يصبح الجميع أحرارا في تفكيرهم، لهم من الشجاعة ما يجعلهم يتقبلون ما هو خير وعدل وجميل، وعندئذ يكون من المحتمل أن يسود العالم دين واحد. وإني سأكون سعيدا باتباع دين عالمي موحد، تنبع مصادره من حقائق التاريخ، وتشمل مبادئه العدالة الاجتماعية، وتقوم بفضله مظاهر الحب والإخاء على أنقاض الكراهية والخصومة.

وهذا الكلام هدم صريح للإسلام، ومعول هدم لطمس الجهاد الإسلامي الذي يقوم على تحرير الناس من عبودية بعضهم لبعض، ومن انقسامهم إلى "ملأ" وهم السادة الأقوياء و "عبيد"، وهم التابعون الأذلاء إلى جعلهم كلهم عبادا لله.

* * * * *

وختاما نقول:

إن كل المذاهب البشرية القائمة اليوم في الأرض التي لا تستمد وجودها من الكتاب والسنة محادة لله ولدينه وكتابه وسنة رسوله ﷺ‬ وأي تقبل لها أو عمل بمبادئها فإن ذلك موالاة صريحة للكفار، وبراءة صريحة من الإسلام والله قد بين لنا في كتابه العزيز أن من تولى الكفار فهو منهم: }وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ{ [سورة المائدة، آية: 51].

والإسلام هو الدين الذي يجمع ولا يفرق، وهو الذي يجعل الناس في ميزان الإيمان سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربي على عجمي ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى([48]).

حلول وعلاج:

1- تصحيح مفهوم لا إله إلا الله محمد رسول الله. ودعوة الناس إلى فهم هذه الكلمة العظيمة كما فهمها رسول الله ﷺ‬ وأصحابه الأخيار، ومحو ذلك المفهوم الخاطئ الذي يردده المتأخرون وهي أنها مجرد لفظ عار من كل تكليف. مع بيان أن من تكاليفها موالاة المؤمنين والبراءة من الكافرين، وتحكيم شريعة الله واتباع ما أنزله الله والكفر بالآلهة المزيفة والأرباب المتعددة من العرف والهوى والعادات والمتألهين الذي يشرعون للناس بغير ما أنزل الله.

2- تصحيح مفهوم العبادة وأنه مفهوم شامل كامل وليس مجرد شعائر تؤدي بينما نظام الحياة والممات قائم على مناهج وضعها البشر تفصل بين الدين والدولة، وبين الدين والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية.

فالعبادة هي عقيدة وشريعة ونظام حياة. قال تعالى:

}قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ{ [سورة الأنعام، الآية: 162 - 163].

3- تربية الجيل على مناهج الكتاب والسنة: لأن هذا هو الطريق الصحيح الذي به ترجع الأمة إلى ربها ودينها.

4- طرد آثار الغزو الفكري وذلك بتعرية الجاهلية الحديثة، وتمزيق زيفها وبهرجتها فتبين انحرافاتها مع إيجاد البديل الإسلامي الصحيح.

5- تعميق قضية ولاء المسلم للمسلم وانتمائه لإخوانه المؤمنين فقط، وخلع الولاءات الجاهلية من قومية وعرقية ووطنية وعالمية وغيرها فالمسلم أخو المسلم في أي بقعة كانت، دار الإسلام هي دار كل مسلم في جميع أنحاء الأرض.

ومن تاريخنا ما يشهد بكل جلاء على أهمية هذه القضية. فإن امرأة مسلمة أهينت بعمورية فاستغاثت: "وامعتصماه". فقال المعتصم: لبيك أيتها المرأة المسلمة وجهز الجيوش وفتح عمورية ونصر المرأة المؤمنة، ولم يقل إنها في وطن وأنا في وطن بل انطلق من واقع مسؤوليته كخليفة مسلم. كل الأمة المسلمة أمانة في عنقه وهو مسؤول عنها يوم يلقى الله.

ومن هنا فإن نصرة المسلمين المضطهدين في كل بقعة من بقاع الأرض أمر واجب تفرضه هذه العقيدة. ويكون واجب المؤمن ـ حينئذ ـ محبة هؤلاء المسلمين ومناصرتهم باليد واللسان والمال والنصرة في كل موطن ومناسبة.

6- تعميق قضية المعاداة والبراءة من أعداء الله الكفار منهم والمشركين. والمنافقين والمرتدين. وإنه لا يجتمع إيمان في قلب مع حب الكفر وأهله كما قال تعالى: }لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ{ [سورة المجادلة، الآية: 22].

والحرص على تمييز المسلم عن كل وضع وفكر يخالف كتاب الله وسنة رسوله ﷺ‬.

7- التأكيد على قضية عداوة أولياء الشيطان لأولياء الرحمن، فإن هذه العداوة قائمة منذ آدم عليه السلام إلى قيام الساعة فالحزبان لا يلتقيان أبدا لأن حزب الله يريد دعوة الناس إلى عبادة الله، وحزب الشيطان يدعو الناس إلى عبادة الطاغوت وطاعته، وقتال المؤمنين لصدهم عن دينهم.

}وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا{ [سورة البقرة، الآية: 217].

8- بعث الأمل وتقويته في النفوس بقرب نصر الله كما قال ﷺ‬ : «لتقاتلن اليهود فلتقتلنهم حتى يقول الحجر: يا مسلم هذا يهودي فتعال فاقتله»([49]).

* * * * *

 الخاتمة

أحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات وبعد:

فإن طريق الخلاص من هذا الهوان والتبعية التي أصيبت بها أمتنا هو الإسلام ولا شيء غيره أجل فهو دين الله... هو عبادة وصلاة، إيمان وعمل عقيدة وشريعة وهو تجربة تاريخية واقعية ثابتة سامقة.

وهو حلول وإصلاح وبناء، وعمل، وتعمير، وجهاد متواصل يقوم بجهد الإنسان المؤمن.

والإسلام الآن... ومن ثم العالم الإسلامي ـ لا يرجع إليه عزه ومجده إلا برجال، وتضحيات غالية، وجيل يحمله، ومجتمع يقيمه، ودولة تحميه وتجاهد في سبيله، ولا تتاجر به.

أسأل الله سبحانه وتعالى ـ أن يأخذ بأيدي المسلمين جميعا إلى سبيل مرضاته، وأن ينقذهم مما هم فيه إنه على كل شيء قدير.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.



([1]) سورة الحج، الآيتين: 40 – 41.

([2]) الولاء والبراء. الفوزان.

([3]) الولاء والبراء (87 – 88).

([4]) المدخل (191).

([5]) الولاء والبراء.

([6]) المدخل (191).

([7]) الولاء والبراء (12).

([8]) نواقض الإيمان (360).

([9]) المدخل (192).

([10]) المصدر السابق.

([11]) المصدر السابق.

([12]) المصدر السابق.

([13]) المدخل (192).

([14]) المصدر السابق.

([15]) المصدر السابق

([16]) تفسير ابن كثير 2/316.

([17]) من كتاب منهاج الصواب في قبح استكتاب أهل الكتاب ص52. وانظر: أضواء البيان للشنقيطي 2/485.

([18]) من كتاب مباحث في الاعتقاد (55) نصا.

([19]) الإيمان (13 – 14).

([20]) الولاء والبراء (134).

([21]) نواقض الإيمان (359).

([22]) نواقض الإيمان (360).

([23]) نواقض الإيمان (367).

([24]) المدخل لدراسة العقيدة (195).

([25]) في ظلال القرآن، نقلا من كتاب الولاء والبراء (163).

([26]) الولاء والبراء (159) بتصرف.

([27]) الولاء والبراء (89) بتصرف.

([28]) زاد المعاد (159).

([29]) حب النبي ﷺ‬ .

([30]) الولاء والبراء (385).

([31]) الرحيق المختوم (271).

([32]) المدخل (28).

([33]) الولاء والبراء (33).

([34]) المدخل (208).

([35]) أحكام السفر.

([36]) أحكام السفر.

([37]) المدخل (209) بتصرف.

([38]) الولاء والبراء (361).

([39]) أبحاث في الاعتقاد (61).

([40]) التقليد والتبعية (86).

([41]) التقليد والتبعية (86).

([42]) الولاء والبراء (400).

([43]) الولاء والبراء (400).

([44]) الولاء والبراء (409).

([45]) التقليد والتبعية (103).

([46]) التقليد والتبعية (103 – 106).

([47]) التقليد والتبعية بتصرف (107).

([48]) الولاء والبراء (417 – 435) بتصريف.

([49]) الولاء والبراء (475 – 437).