هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى
ترجمات المادة
التصنيفات
الوصف المفصل
هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى
آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (16) هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى تأليف الإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (691 هـ - 751 هـ) تحقيق عثمان جمعة ضميرية إشراف بكر بن عبد الله أبو زيد دار عطاءات العلم - دار ابن حزم
(المقدمة/1)
رَاجَعَ هَذا الجزْء مُحَمَّدْ أَجْمَل الإصْلَاحِي سُعُود بنْ عبْد العزيز العريفي عَبد الله بن محمَّد القَرني
(المقدمة/3)
مقدمة التحقيق
الحمد لله الذي خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون. والحمد لله الذي لا يؤدَّى شكرُ نعمة من نِعَمه إلا بنعمةٍ منه توجب على مؤدِّي ماضي نعمه بأدائها: نعمةً حادثة يجب عليه شكره بها. أحمده حمدًا كما ينبغي لكرم وجهه وعزِّ جلاله، وأستعينه استعانة من لا حول له ولا قوة إلا به، وأستهديه بهداه الذي لا يضل من أنعم به عليه، وأستغفره لما أزلفت وأخَّرت: استغفار من يقرُّ بعبوديته، ويعلم أنه لا يغفر ذنبه ولا ينجيه منه إلا هو. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، بعثه والناس صنفان: (أحدُهما): أهل كتاب بدَّلوا من أحكامه، وكفروا بالله، فافتعلوا كذبًا صاغوه بألسنتهم، فخلطوه بحق الله الذي أنزل إليهم. فذكر تبارك وتعالى لنبيه من كفرهم، فقال: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران/ 78]. وقال تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء/ 51 - 52]. (وصِنْفٌ): كفروا بالله فابتدعوا ما لم يأذن به الله، ونصبوا بأيديهم
(المقدمة/5)
حجارةً وخُشُبًا وصورًا استحسنوها، ونبزوا أسماءً افتعلوها، ودعوها آلهةً عبدُوها. فأولئك العرب. وسلكت طائفةٌ من المعجم سبيلهم في هذا، وفي عبادة ما استحسنوا، فذكر الله لنبيه - صلى الله علَيه وسلم - جوابًا من جواب بعضهم إذ قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) } [الزخرف/ 22]. فلما بلغ الكتاب أجَلَه، فحقَّ قضاء الله بإظهار دينه الذي اصطفى: فتح أبواب سماواته برحمته، فكان خيرتُه المصطفى لوحيه، المنتخبُ لرسالته المفضل على جميع خلقه: محمدًا عبدَه ورسوله، فصلى الله عليه كما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون، وصلى عليه في الأولين والآخرين، أفضل وأكثر وأزكى ما صلى على أحدٍ من خلقه وسلم (1) . وبعد: فإن الله -سبحانه وتعالى- بعث رسله، وأنزل كتبه وشرائعه، ليقوم الناس بالقسط والعدل، وختم الله تعالى هذه الشرائع برسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - التي اختصها الله تعالى باسم "الإسلام"، فكانت هي الدين الكامل، والنعمة التامة، وجعلها مهيمنة على سائر الأديان، موجهة للناس كافة. وقد وسعت البشريةَ كلَّها بدعوتها إلى التوحيد، وحملت مشعل النور إلى العالمين، وأعادت للإنسان حريته وكرامته، وأرست دعائم الحضارة التي تقوم على الإيمان والأخلاق، والعلم والعمل، والحق والعدل، كما عُنيت بتحديد العلاقات مع أهل الأديان الأخرى، الذين عاشوا في __________ (1) اقتباس من افتتاحية كتاب "الرسالة" للإمام الشافعي رحمه الله.
(المقدمة/6)
ظلها، ينعمون بالأمن والأمان، ويتمتعون بحقوقهم كاملة غير منقوصة. ولكنَّ أولئك القوم -من وثنيين وكتابيين وغيرهم- وقفوا من هذه الدعوة ومن نبيِّها وأتباعه موقف العداء والصدود والتآمر، منذ فجر هذه الدعوة؛ فنازلوها في ميدان القتال بالسلاح والسِّنان، وفي ميدان الفكر بالجدال وإلقاء الشبهات، والدعاية المغرضة الكاذبة، وبآلتُّهم الظالمة الجائرة، وفي ميدان الاقتصاد والاجتماع بالحصار والإنفاق للصدِّ عن سبيل الله، وفي ميدان السياسة بنقض العهود والمواثيق، وبالتآمر ومكر الليل والنهار. وقد حكى الله تعالى في كتابه الكريم موقف القوم وعداءهم للإسلام والمسلمين، وتحالفهم جميعًا لتحقيق مآربهم ومخططاتهم، ثم جاء الواقع التاريخي العمليُّ -في القديم والحديث- يؤكد ذلك ويصدِّقه. وما خبر الحروب الصليبية عنا ببعيد، تلك الحروب الغاشمة، التي كان مبدؤها ذلك الصراع المبكر بين المسلمين والرومان، ومن صورها الأخيرة: محاربة المسلمين والعدوان عليهم في فلسطين، وفي سائر البلاد التي تقاسمها المستعمرون الفرنسيون والإنجليز والإيطاليون والهولنديون. . وفي الأيام الأخيرة العدوان الهمجي على المسلمين في البوسنة والهرسك، وفي الشيشان، وفي الفلبين، وفي تايلند، وفي الهند، وفي كشمير، وفي الصومال، وفي أفغانستان، وفي العراق. وقبل ذلك: حرب الإبادة الجماعية في الاتحاد السوفيتي، وفي الهند، وفي كشمير أيضًا، وفي يوغوسلافيا وفي الحبشة وغيرها من الأصقاع التي يسيطر فيها غير المسلمين، أو يتغلبون فيها عليهم، سواء
(المقدمة/7)
أكانوا أقلية أو أغلبية أو أكثرية. وفي العصور السالفة: محاكم التفتيش في إسبانيا بعد سقوط دولة المسلمين في الأندلس، وحرب التتار وهجومهم على دار الإسلام والخلافة الإسلامية، وتآمر النصارى الصليبيين والمغول ... (1) . وفي العصر الحديث: يتعاون أهل الكتاب مع الملحدين أيضًا في المعسكر الشيوعي، ليواجهوا الإسلام، وليضربوا كلَّ حركة إسلامية صادقة؛ فهم يتناسون كلّ خلاف يمكن أن يقوم بينهم إذا ما واجهوا الإسلام والمسلمين، فهم دائمًا متعاونون ضدنا، ومع ذلك يحاولون الخداع بالشعارات الزائفة والدعاوى العريضة الكاذبة (2) . __________ (1) يقول المستشرق الأمريكي (جون. ل. لامونت): "فرحت أوربا، وهللت لانتصارات المغول، ولما كان المغول -بصورة عامة- مسالمين للنصارى، ولما كان بينهم عدد كبير من النساطرة ... فقد اعتبر البابا وحكام أوربا الغربية المغول حلفاء لهم في صراعهم المشترك ضد الإسلام، وكان البابا يحلم طوال سنوات عديدة بإنشاء حلف عظيم بين المغول وأوربا يسحق الدولة الإسلامية سحقًا. .). انظر بحث الكاتب المذكور عن "الحروب الصليبية والجهاد" في كتاب "دراسات إسلامية" بقلم مجموعة من المستشرقين، ترجمة د. أنيس فريحة وزملائه من أساتذة الجامعة الأمريكية في بيروت، ص (135). وراجع بتوسع: "الشخصية الدولية في القانون الدولي العام والشريعة الإسلامية" د. محمد كامل ياقوت، ص (255) وما بعدها، "الدعوة إلى الإسلام" تأليف توماس أرنولد، ترجمة د. حسن إبراهيم حسن، ص (256 - 266)، "في ظلال القرآن" للأستاذ سيد قطب، ص (1608 - 1610)، "منهج الإسلام في الحرب والسلام" عثمان جمعة ضميرية، ص (50 - 55). (2) قال الرئيس الأمريكي الأسبق (ريتشارد نيكسون) حين عاد من جولة قام بها في أفغانستان لدراسة الأحوال هناك، فسأله الصحفيون: ماذا وجدت هناك؟ فقال: =
(المقدمة/8)
ومن قبل هذا كلِّه: التحالف الوثني اليهودي في عهد النبي - صلى الله علَيه وسلم - في غزوة الأحزاب، والتآمر اليهودي النصراني في حروب الرِّدَّة ... (1) . وإذا كانت الحروب العسكرية، ليست الميدان الوحيد للنزال والصراع، وليست الوسيلة المضمونة للغلبة على المسلمين، ولا الأداة المشروعة في المواثيق الدولية؛ فإنَّ هناك ميدانًا آخر للنزال، وهو ميدان الفكر والإعلام، والدعاية والمعلومات، فليكنْ ذلك وسيلة مأمونةً ومضمونة في التشويه والتشويش والتشكيك! وهذه الصورة الجديدة للحرب الفكرية والصراع الحضاري -رغم __________ = وجدت أن الخطر هو الإسلام! ويجب أن نصفي خلافاتنا مع روسيا في أقرب وقت، فروسيا -على أي حال- بلد أوروبي، والخلاف بيننا وبينها قابل للتسوية، أما الخلاف الذي لا يقبل التسوية فهو الخلاف بيننا وبين الإسلام". انظر: "رؤية إسلامية لأحوال العالم المعاصر" للأستاذ محمد قطب، ص (161). (1) في حركة الردة عن الإسلام بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - تكونت أحلاف من القبائل التي يكثر فيها عناصر يهودية أو نصرانية وهاجموا المسلمين، ولكن أبا بكر -رضي الله عنه- ردّهم وكسر شوكتهم، فقامت هذه القبائل بالانتقام من المسلمين في قبائلهم وقتلوهم دون شفقة أو رحمة؛ فبعضهم حرق حيًّا وبعضهم الآخر ألقي من أعلى الصخور الشاهقة ... فكانت هذه الأحلاف في حقيقتها مؤامرة يهودية نصرانية مستغلة الوثنية، متقنعة بحركة الردة من قبل الأعراب. انظر: "تاريخ الدعوة الإسلامية في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين" د. جميل عبد الله المصري، ص (244 - 250). وراجع: "تاريخ الطبري": 3/ 244 وما بعدها. ومسألة التحالف الوثني الكتابي (اليهودي والنصراني) جديرة بالدراسة والوقوف عندها، والتاريخ شاهد على ذلك، والواقع المعاصر يؤيده، رغم الدعاوى والشعارات التي يحاولون إطلاقها للتعمية والتدليس والخداع.
(المقدمة/9)
كل ما يقال عن التسامح والتعايش والحوار- اتخذت صورًا متعددة وأشكالًا مختلفة، وتذرعت بوسائل متنوعة. وهذا كله يهدف إلى إضعاف الشعور الديني والحمية الدينية عند المسلمين، مما يؤدي إلى تفرُّقهم، ويسهِّل السيطرة عليهم، في مجال الفكر والثقافة، وفي مجال السياسة والاقتصاد. وفي الوقت نفسه يسهِّل الطريق أمام المنصِّرين والعلمانيين، ويتعاون الجميع على الطعن في الإسلام، وفي القرآن الكريم، وفي النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعوته، ثم في أصحاب النبي -رضوان الله عليهم- الذين حملوا هذا الدين. وهذا الذي تقدم -وغيره كثير- يوجب على علماء الإسلام ومفكِّريه وقادته أن يقوموا بواجب الدعوة إلى هذا الدين، وعندئذ يبيِّنون حقيقته وأحكامه، ويردُّون الشبهات التي يثيرها الحاقدون والجاهلون والمُغْرِضون من الأعداء الظاهرين المستعلنين وغير الظاهرين المتخفِّين والمتسترين. وقد قام هؤلاء العلماء بواجبهم -في القديم والحديث- وكان من بينهم الإمام العلامة أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب، ابن قيِّم الجوزية المتوفى سنة (751)، وكتابه "هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى" يقف شاهدًا ناطقًا على قيامه -رحمه الله- بهذا الواجب، فكان من الخير أن ينال من العناية ما يستحق من الدراسة والإخراج، كي يستمر النفع به إن شاء الله تعالى. هذا، وسنقدم بين يدي نصِّ الكتاب فقرات تتناول بداية الحوار مع أهل الكتاب، وأهم الكتب والمؤلفات التي كانت ثمرة لهذه الحوارات والمجادلات، ثم علاقة الإسلام باليهودية والنصرانية، ويتخلل ذلك بعض
(المقدمة/10)
الملاحظات حول البشارات وما يتصل بذلك. ثم نوجز مكانة الكتاب وموضوعه ووصف مخطوطاته، وطريقة العمل فيه. وأسأل الله تعالى أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه، موافقًا لشرعه، متقبَّلًا عنده، وأن ينفع به كما نفع بأصله. والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين. الطائف: في 1/ محرم/ 1429 هـ كتبه عثمان بن جمعة ضميرية
(المقدمة/11)
أولًا: الحوار مع أهل الكتاب
بدأ الحوار مع أهل الكتاب منذ فترة مبكرة في تاريخ الإسلام، تعود إلى عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد حفل القرآن الكريم بمناقشة أهل الكتاب والردِّ عليهم. فاليهود الذين عاصرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة بعد الهجرة، وقد كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج ببعثة نبي جديد؛ هم الذين كفروا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وناصبوه العداء منذ اللحظة الأولى، وتنوعت وسائلهم في الصدِّ عن الدعوة والمماطلة والجدال وإلقاء الشبهات وإثارة الحرب الفكرية والنفسية، ونقض العهود والمواثيق. وكان القرآن الكريم يتولى مناقشتهم والردَّ عليهم وبيان مؤامراتهم، كما أوضح تحريفهم لكتبهم، ورسم صورةً صادقة لطبيعتهم ونفسيتهم. وبعد أن خرج اليهود من الجزيرة العربية، قاموا بدور كبير في عدائهم لهذا الدين -ومنهم من دخل فيه ظاهرًا وهم على حقد وضغينة- وقد بدأ اتصالهم بالمسلمين لإثارة الفتنة، فكان لعبد الله بن سبأ دوره في الفتنة في عهد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- ثم تتابعت مظاهر الفتنة في نشر فكرة الإمام المعصوم والوصية والرجعة التي تلقفتها عنهم الفرق الباطنية، وأثاروا الجدل بين المسلمين حول الذات الإلهية والصفات، وهم الذين عرف عنهم التشبيه والتجسيم، كما هو مكتوب في كتبهم، وقد انتقلت هذه الأفكار إلى التراث الإسلامي فيما عرف باسم "الإسرائيليات" في كتب التفسير والحديث. وأثاروا أيضًا بين المسلمين الجدل حول الجبر والاختيار وغير ذلك
(المقدمة/13)
من أمور العقيدة، وعندئذ قام المسلمون بالردّ على مفتريات اليهود وشبهاتهم وناقشوا عقائدهم، واتخذوا لذلك منهجًا يقوم على النظر والدليل. وأما النصارى؛ فقد بدأ الجدل بينهم وبين المسلمين في الحبشة أولًا، عند الهجرة الأولى للمسلمين، في حقيقة المسيح، وفي الكلمة، وفي غير ذلك من مسائل تدور حول العقيدة الإسلامية في المسيح. ثم جاء وفد نصارى نجران إلى المدينة وجادلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأن عيسى عليه السلام، وقد دعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المباهلة. قال الله تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران/ 61]. ثم وصل الإسلام إلى الشام والعراق ومصر، فبدأت النصرانية تنازعه نزاعًا فكريًا شديدًا. وثار الجدل حول طبيعة المسيح وحول مسائل الألوهية، وفكرة الجوهر والعَرَض، والأقانيم الثلاثة والوحدانية، وفكرة الخطيئة والصَّلب. وبلغ الجدل ذروته من الشدة بعد "يوحنا الدمشقي" (طبيب الأمويين الذي وضع للنصارى أصول الجدل مع المسلمين) على يد نصراني آخر هو "يوحنا النقيوسي" المصري الذي رحل إلى الحبشة وبدأ يرسل رسائله إلى أقباط مصر، يحاول فيها مناقشة العقائد الإسلامية، والحيلولة دون اعتناقهم الإسلام في عهد الدولة العباسية (1) . __________ (1) انظر: "نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام"، د. علي سامي النشار: (1/ 61 - 62).
(المقدمة/14)
وكان لعلماء المسلمين مناقشات لمذاهب النصارى، وجدال معهم ومع اليهود، كما تقدم، فتركوا لنا تراثًا ضخمًا في هذا المجال يتمثل فيما كتبه أئمة أعلام نقدًا وردًا، فقد نقدوا ما عند القوم من تحريف وتغيير وتبديل، وبيَّنوا ذلك أحسن بيان، وردُّوا على الشبهات التي أثاروها حول القرآن والنبي - صلى الله عليه وسلم - ودين الإسلام، وأقاموا عليهم الحجة، وتباينت مناهجهم وأساليبهم في ذلك. وحسبنا أن نشير هنا إشارات موجزة إلى تلك الجهود في الجدال مع اليهود والنصارى، والرد على كتبهم وتحريفهم وما يتصل بذلك من بيان فضل الإسلام وخصائصه عند المقارنة والموازنة (1). وذلك بعرض سريع لأهم الأعلام الذين كتبوا في ذلك ومؤلفاتهم منذ العصور الأول إلى عصرنا الحاضر. أ - ومن أوائل الكتب والرسائل في ذلك من المصادر القديمة: 1 - "رسالة الهاشمي إلى الكندي"، يدعوه فيها إلى الإسلام. وقد نشرت لأول مرة في لندن عام 1880 م بعناية أ. تيان. ثم أعيد نشرها أيضًا سنة 1885 وسنة 1912 م، كما نشرت في القاهرة مرتين عام 1895 م __________ (1) كانت المجادلات من الجانب الإسلامي في العادة تسمى "ردًّا على النصارى" مثلًا، وليس معنى ذلك أن هؤلاء قد هاجموا الإسلام بالضرورة فانبرى المسلمون للردّ عليهم. وإنما هو فنّ "كلامي" قد يندرج ضمن باب التوحيد في المؤلفات العقدية عمومًا، وقد تخصص له كتب أو رسائل مفردة. والغرض في كلتا الحالتين: دحض عقائد النصارى. وكثيرًا ما يكون موجهًا إلى المسلمين في الدرجة الأولى لتثبيت عقيدتهم وتحذيرهم من ضلال النصارى وتضليلهم، وإن احتوى على الدعوة إلى اعتناق الإسلام. وقد تكون بعض هذه المؤلفات أيضًا ردًّا على هجوم النصارى أو اليهود. انظر: "الفكر الإسلامي في الرد على النصارى"، د. عبد المجيد الشرفي ص (14).
(المقدمة/15)
و 1912. واحتوت هذه الطبعات كلها بالإضافة إلى رسالة الهاشمي على رسالة الكندي إلى الهاشمي يرد بها عليه ويدعوه إلى النصرانية. ولا نعرف اسم المؤلفين إلا من خلال ما ذكره البيروني في "الآثار الباقية" ويفيد أنهما: عبد الله بن إسماعيل الهاشمي، وعبد المسيح بن إسحاق الكندي. 2 - "الدِّين والدولة في إثبات نبوة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -" لعلي بن ربّن الطبري (توفي بعد 1855)، وهو أبو الحسن علي بن سهل بن ربّن الطبري، أسلم على يد المعتصم، وكتابه هذا أول كتاب وصلنا في الجدل الإسلامي المسيحي من تأليف نصراني نسطوري أسلم، وطبع الكتاب سنة 1322 هـ في مطبعة المقتطف بمصر، ثم نشر أيضًا في تونس مصورًا عن طبعة أوربية. وصدرت طبعة أخرى في بيروت 1393 هـ بتحقيق عادل نويهض. وتكررت طباعته بعد ذلك. 3 - "الرد على النصارى" لترجمان الدين القاسم بن إبراهيم الحسني الرسّي (توفي نحو 246 هـ) وهو مؤسس مذهب القاسمية في الفقه ومن دعائم المدرسة الزيدية الشيعية. ونشر هذا الرد في مجلة الدراسات الشرقية في روما، سنة 1921 م، حققه أ. دي ميتو. وترجمه إلى الإيطالية. 4 - "مقالة في الرد على النصارى" كتبها أبو يوسف، يعقوب بن إسحاق الكندي (توفي سنة 252 هـ) وصل منها مقتطفات أثبتها يحيى بن عدي ليرد عليها. وقد نشرها أ. بيريني سنة 1920 م في مجلة الشرق المسيحي في أربع صفحات. 5 - "الرد على النصارى" للجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر (توفي 255 هـ) وهي رسالة نشرها يوشع فنكل ضمن (ثلاث رسائل للجاحظ)، القاهرة، 1328 هـ، وأعيد طبعها سنة 1332 هـ، ونشرها عبد السلام
(المقدمة/16)
هارون في "رسائل الجاحظ" سنة 1979 م وحققها الدكتور محمد عبد الله الشرقاوي مع دراسة تحليلية، القاهرة، 1405 هـ. وقدم الأستاذ الدكتور إبراهيم عوض دراسة حول الرسالة بعنوان "مع الجاحظ في رسالة الرد على النصارى" ونشرها في القاهرة بمكتبة زهراء الشرق، 1419 هـ. 6 - "الكتاب الأوسط في المقالات" لأبي العباس عبد الله بن محمد الأنباري الناشئ الأكبر، ويعرف كذلك بابن شرشير (توفي 293 هـ) وقد وجدت مقتطفات من هذا الكتاب عند ابن العسال النصراني نشرها المستشرق يوسف فان غس في بيروت، 1971 م مع كتابه "مسائل الإمامة". 7 - "الرد على النصارى" لأبي عيسى محمد بن هارون الورَّاق (توفي 297 هـ) ذكره ابن النديم في "الفهرست"، وله نسخ مخطوطة في مكتبات باريس والفاتيكان والقاهرة. 8 - "أوائل الأدلة" لأبي القاسم البلخي الكعبي (توفي 319 هـ) ومنه مقتطفات ضمن كتاب الفيلسوف اليعقوبي في رده عليها. ونشرها بولس سباط في القاهرة، 1929 م. 9 - "كتاب التوحيد" لأبي منصور الماتريدي (توفي 333 هـ) وفيه عرض لآراء النصارى والرد عليها، وبذل قصارى جهده في بيان فساد العقيدة النصرانية التي تجعل المسيح إلهًا. 10 - "جواب على رسالة راهب فرنسا إلى المقتدر بالله حاكم سرقسطة" تأليف أبي الوليد الباجي (توفي 373 هـ). تحقيق د. محمد عبد الله الشرقاوي، طبع الرئاسة العامة لإدارات البحوث والإفتاء والدعوة والإرشاد بالرياض.
(المقدمة/17)
11 - "رسالة الحسن بن أيوب إلى أخيه علي بن أيوب" (توفي نحو 378 هـ)، ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أنه كان من علماء النصارى وأسلم على بصيرة بعد الخبرة بكتبهم ومقالاتهم، ونقل في "الجواب الصحيح" نبذًا من هذه الرسالة. 12 - "الرد على اليهود" تأليف محمد بن عبد الرحمن المصري (توفي 380 هـ) ذكره في كشف الظنون. 13 - "الإعلام بمناقب الإسلام" لأبي الحسن العامري (توفي 381 هـ) وهو محاولة للتوفيق بين العقل والدين أو الفلسفة والشريعة، وكذلك مقارنة بين الإسلام واليهودية والنصرانية حتى تتبين فضيلة الإسلام عليها، وهو ليس خاصًا بالرد على النصارى، لكنه يتناول ذلك تبعًا. وطبع بتحقيق الدكتور أحمد عبد الحميد غراب في القاهرة، 1967 م. 14 - "التمهيد" لأبي الطيب الباقلاني (توفي 403 هـ) خصص الباب الثالث منه للكلام على النصارى والرد عليهم. وقد طبع أكثر من مرة. 15 - "تثبيت دلائل النبوة" للقاضي عبد الجبار بن أحمد الهَمَذاني (توفي 415 هـ) تعرض فيه لعقائد النصارى وردّ عليهم في كثير من القضايا الاعتقادية، والكتاب مطبوع في بيروت بتحقيق الدكتور عبد الكريم عثمان. وللقاضي أيضًا كتاب "المغني" وكتاب "شرح الأصول الخمسة" وفيهما أيضًا كلام عن النصارى في جملة فصول وكلاهما مطبوع في القاهرة. 16 - "الفصل في الملل والأهواء والنِّحل" للإمام أبي محمد علي بن أحمد، المعروف بابن حزم الظاهري (توفي 456 هـ). وله طبعات كثيرة، ونشره محققًا الدكتور محمد إبراهيم نصر، والدكتور عبد الرحمن عميرة، دار عكاظ بجدة، 1402 هـ.
(المقدمة/18)
17 - "شفاء العليل في الرد على من حرَّف الإنجيل" لإمام الحرمين أبي المعالي الجُويني (توفي 478 هـ)، تحقيق د. أحمد حجازي السقا، نشر الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالرياض 1404 هـ. 18 - "الرد الجميل لإلهيَّة عيسى بصريح الإنجيل" لحجة الإسلام الغزالي (توفي 505 هـ) تحقيق روبيرشدياق، وترجم المقدمات التي كتبها شدياق وحققه وقدم له وعلق عليه الدكتور عبد العزيز حلمي، ونشره مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، القاهرة 1393 هـ. وحققه أيضًا عبد الله الشرقاوي، 1406 هـ. 19 - "نفخ الروح والتسوية" للغزالي أيضًا، تحقيق أحمد حجازي السقا، مكتبة المدينة المنورة بالقاهرة 1399 هـ. 20 - "بذل المجهود في إفحام اليهود" للسموأل بن يحيى بن عباس المغربي (توفي نحو 570 هـ) تحقيق عبد الوهاب طويلة، نشر دار القلم بدمشق 1989 م. 21 - "إفحام اليهود وقصة إسلام السموأل ورؤياه النبي - صلى الله عليه وسلم -" تقديم وتحقيق د. محمد عبد الله الشرقاوي، نشر إدارة الرئاسة العامة للبحوث بالرياض 1986 م. 22 - "كتاب الداعي إلى الإسلام" تأليف كمال الدين أبي البركات عبد الرحمن بن الأنباري النحوي (577 هـ) تحقيق سعيد باعجوان، بيروت، 1409 هـ. 23 - "بين الإسلام والمسيحية" كتاب أبي عَبِيْدة الخزرجي (المتوفى
(المقدمة/19)
582 هـ) حققه وقدم له د. محمد شامة، القاهرة 1972 م. ونشره الدكتور عبد المجيد الشرفي بعنوان "مقامع الصلبان" في الشركة التونسية 1975 م. 24 - "النصيحة الإيمانية في فضيحة الملة النصرانية" تأليف نصر بن عيسى بن سعيد المتطبب (توفي 589 هـ) كان نصرانيًا فأسلم. بحث فيه مذاهب النصارى واعتقاداتهم واضطرابهم في ذلك، وردّ عليهم قولهم بألوهية عيسى عليه السلام، وعرض لدلائل نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - في التوراة والإنجيل. حققه الدكتور محمد عبد الله الشرقاوي، القاهرة 1406 هـ. 25 - "مناظرة في الرد على النصارى" لأبي عبد الله فخر الدين محمد بن عمر الرازي (توفي 606 هـ)، تحقيق د. عبد المجيد النجار، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1986 م. 26 - "تخجيل من حرَّف الإنجيل" تأليف صالح بن الحسين الجعفري (توفي 668 هـ) تحقيق محمود عبد الرحمن قدح، مكتبة العبيكان، 1419 هـ. 27 - "الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة" للقَرافي، أبو العباس أحمد بن إدريس القرافي (توفي 684 هـ). جمع فيه الشبهات التي يوردها أهل الكتاب والأسئلة التي يوردونها، وردَّ عليها، وتناول قضايا في النصرانية، وجمع البشارات الدالة على نبوة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -. طبع بمطبعة الموسوعات بالقاهرة سنة 1322 هـ على هامش "الفارق بين المخلوق والخالق"، ثم طبع بتحقيق د. بكر زكي عوض، مكتبة وهبة بالقاهرة، الطبعة الثانية سنة 1407 هـ. 28 - "أدلة الوحدانية في الرد على النصرانية" للقرافي أيضًا، تحقيق
(المقدمة/20)
عبد الرحمن دمشقية. 29 - "منظومة في الردِّ على النصارى واليهود" لمحمد بن سعيد بن حماد الأبوصيري (توفي 696 هـ). تحقيق أحمد حجازي السقا، القاهرة 1399 هـ. 30 - "الرد على اليهود" تأليف علاء الدين علي بن محمد عبد الرحمن الباجي الشافعي (ت 714 هـ). ذكره في كشف الظنون. 31 - "الانتصارات الإسلامية في كشف شبهة النصرانية" تأليف سليمان بن عبد القوي الطوفي (ت 716 هـ) تحقيق سالم محمد القرني، طبع في مكتبة العبيكان بالرياض. 32 - "الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح" لشيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هـ)، وهو كتاب ضخم في أربع مجلدات، طبع في القاهرة بمطبعة المدني ثم صور عنها عدة مرات، وحقق في الرياض وطبع في سبع مجلدات. 33 - "تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب" لأبي محمد عبد الله الترجمان الميُورَقي (ت 832 هـ). طبعة دي إيبلزا في حوليات الجامعة التونسية عام 1975 م. وطبع في روما سنة 1971 م، وفي القاهرة 1895 م. ثم حققه الأستاذ عمر وفيق الداعوق لنيل درجة الماجستير من جامعة أم القرى بمكة المكرمة، وطبع في بيروت 1408 هـ. 34 - الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن دين الإسلام واثبات نبوة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام" للقرطبي (ت 927 هـ) حقق قسم منه سنة 1970 م لنيل الدكتوراة وقسم آخر منه 1981 م في ستراسبورغ، ثم نشره كاملًا أحمد حجازي السقا في القاهرة 1980 م. 35 - "البحث الصريح في أيِّما هو الدين الصحيح" للشيخ زيادة بن يحيى الرسِّي
(المقدمة/21)
(القرن الحادي عشر) تحقيق سعود الخلف، طبع الجامعة الإسلامية 1423 هـ. 36 - "قبس الأنوار في الرد على النصارى" تأليف عبد الله العمري الطرابلسي (توفي 1152 هـ). ذكره في "إيضاح المكنون". 37 - "منحة القريب المجيب في الرد على عُبَّاد الصليب" للشيخ عبد العزيز بن حمد بن ناصر آل معمَّر (توفي 1244 هـ). طبع في القاهرة سنة 1358 هـ، ثم نشرته دار ثقيف للنشر والتأليف بالطائف، الطبعة الثانية، 1398 هـ. 38 - "المنتخب الجليل من تخجيل من حرَّف الإنجيل" لأبي الفضل المالكي المسعودي (توفي 942 هـ) طبع بمطبعة التمدن بمصر 1322 هـ، وحققه رمضان الصفناوي مع آخرين، دار الحديث بالقاهرة، 1418 هـ. 39 - "إظهار الحق"، للشيخ رحمة الله العثماني الهندي (توفي 1308 هـ)، وله طبعات كثيرة، وحققه الدكتور محمد أحمد ملكاوي، طبع ونشر الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء بالرياض، 1410 هـ. 40 - "الفارق بين المخلوق والخالق" تأليف عبد الرحمن الباجه جي زاده (توفي 1330 هـ) طبع بالقاهرة 1323 هـ. ثم أعيد طبعه فيها مصورًا عنها بدار الكتاب الإسلامي. ثم نشر في عمان بالأردن بمكتبة دار عمار. ب - ومن الكتب المعاصرة: كتب كثير من العلماء المعاصرين بحوثًا وردودًا على النصارى واليهود، وفندوا شبهاتهم، وفي الجامعات والمعاهد رسائل جامعية في هذا لها أهميتها. وفي هذه الفقرة إشارة إلى بعض هذه الكتب والمؤلفات: 1 - الأب فوكو في مواجهة الإسلام، للأستاذ علي مراد، دار
(المقدمة/22)
المنشورات العربية، بيروت. 2 - الأجوبة الجليّة في دحض الدعوات النصرانية، محمد بن علي عبد الرحمن الدمشقي الطيبي. 3 - الأدلة العقلية في الردِّ على المسيحية، محمد أحمد الحنفي، طبع القاهرة. 4 - أدلة اليقين، رد على كتاب (ميزان الحق)، عبد الرحمن الحريري، مطبعة الإرشاد، القاهرة. 5 - إزالة الأوهام في الرد على كتاب (ينابيع الإسلام) لبعض النصارى، تأليف الشيخ أحمد بن محمد علي الشاهرودي. 6 - الاستشراق والتبشير وصلتهما بالإمبريالية العالمية، إبراهيم خليل أحمد، مكتبة الوعي العربي، القاهرة 1982 م. 7 - إسرائيل والتلمود: دراسة تحليلية، للأستاذ إبراهيم خليل أحمد، مكتبة الوعي العربي، القاهرة 1403 هـ. 8 - الإسلام والديانات السماوية، للأستاذ محمد حسين الذهبي، طبع دار الإنسان في القاهرة 1979 م. 9 - الإسلام والرد على اللورد كرومر، محمد توفيق صدقي، نشر تباعًا في جريدة المؤيد - بمصر. 10 - الإسلام والرد على منتقديه، للشيخ محمد عبده حسن خير الله المصري، مطبعة السعادة بمصر. 11 - الإسلام والمسيحية في الميزان, شريف محمد هاشم، مؤسسة الوفاء بيروت - لبنان.
(المقدمة/23)
12 - الإسلام ومستر سكوت، للشيخ علي أحمد الجرجاوي طبع بمصر. 13 - أصول النصرانية في الميزان, محمد سيد أحمد المسير، طبع دار الطباعة المحمدية الأزهر، القاهرة 1988. 14 - أضواء على المسيحية، متولي يوسف شلبي، عام 1968 م. 15 - الأناجيل بين انقطاع السند وتناقض المتن، محمد عبد الله الشرقاوي، الرياض 1403 هـ. 16 - الأناجيل: دراسة مقارنة، أحمد طاهر، دار المعارف بمصر. 17 - البرهان الصحيح في بشائر النبي والمسيح، أحمد أفندي ترجمان، طبع بمصر مطبعة المنار سنة 1329. 18 - التحريف والتناقض في الأناجيل الأربعة، سارة حامد العبادي رسالة ماجستير بجامعة أم القرى بمكة المكرمة، طبع عام 1428 هـ. 19 - تناقض العهدين للسيد محمد مهدي الموسوي القزويني، مطبوع في العراق. 20 - تنزيه الأنبياء: في الرد على النصارى، للشيخ مصطفى حسين البغدادي. 21 - تهافت قضية التجسد في العقيدة النصرانية، ليلى زكي قطب، دار الكتاب الجامعي القاهرة 1987 م. 22 - التوراة بين الوثنية والتوحيد، للأستاذ سهيل ديب دار النفائس - بيروت، الطبعة الثانية 1405 هـ. 23 - الجواب الفسيح لما لَفَّقَه عبدُ المسيح، رد على أكاذيب عبد المسيح الكندي، لنعمان محمود الآلوسي، طبع في لاهور سنة 1252.
(المقدمة/24)
24 - جوهر الإيمان في صحيح الأديان (1 - 2)، صلاح العجماوي، 1409 هـ. 25 - حديث مع الدعاة، مناظرة دينية مع بعض الدعاة البروتستانتية في بغداد، محمد علي هبة الدين. 26 - حوار بين مسيحي ومسلم، محمد فؤاد الهاشمي، دار الرسالة - القاهرة 1984 م. 27 - حوار عقائدي بين مسلم ونصراني، ترجمة وإعداد محمد عبد الله، عالم المعرفة للنشر والتوزيع بجدة. 28 - حول القرآن الكريم والكتاب المقدس، هاشم جودة، مطبعة الأمانة بمصر 1404 هـ. 29 - رد مفتريات على الإسلام، عبد الجليل شلبي الكويت 1402 هـ. 30 - الردود القرآنية على الكتب المسيحية، علي نقي بن أبي الحسن اللكهنوي الهندي. 31 - رسالة في الرد على مسيو هانتو, للشيخ محمد عبده المصري طبعت بمصر المحميّة. 32 - السؤال العجيب في الرد على أهل الصليب، نظم الشيخ أحمد بن علي المليجي مطبعة التمدّن بمصر سنة 1322 هـ. 33 - سلاسل المناظرة الإسلامية بين شيخ وقسيس، عبد الله العلمي، 1309 هـ.
(المقدمة/25)
34 - شبهات النصارى وحجج الإسلام لمحمد رشيد رضا، مطبعة المنار في القاهرة. 35 - الشهاب الثاقب (في أحقية الدين الإسلامي وإبطال غيره) للعلامة السيد محمود بن يوسف الحسيني التبريزي. 36 - شهادة الإنجيل على أن عيسى عبد الله ورسوله ... عبد الرحمن عبد الخالق، الكويت 1414 هـ. 37 - الصَّلب وهم أم حقيقة، أحمد ديدات، دار المنار بالقاهرة 1410 هـ. 38 - صواعق الرحمن في الرد على اليهود وإثبات تحريف توراتهم، للسيد أحمد بن زين العابدين. 39 - العقائد الوثنية في الديانة المسيحية، للأستاذ محمد طاهر التنير، طبع بالقاهرة وبالكويت. 40 - عقيدة الصَّلب والفدا، لمحمد رشيد رضا، مطبعة المنار بمصر. 41 - عقيدتا التثليث والصلب وموقف الإسلام منهما، يونس نوري، رسالة ماجستير بجامعة أم القرى بمكة المكرمة لعام 1403 هـ. 42 - القول المبين في الرد على المبشرين، محمد طلعت، مطبعة التقدم العلمية القاهرة 1330. 43 - الكتاب المقدس تحت المجهر، للأستاذ عودة مهاوش الأردني، طبع دار أنصاريان بإيران 1412.
(المقدمة/26)
44 - كفاية الطالبين لرد شبهات المبشرين، محمد عبد السميع، طبع في مطبعة أبي الهول بمصر سنة 1330. 45 - كنتُ نصرانيًا، للأستاذ واصف الراعي، دار الراية للطباعة والنشر، الرياض المملكة العربية السعودية 1987 م. 46 - لسان الصدق رد على كتاب (ميزان الحق لأحد النصارى) للشيخ علي بن عبد الله البحراني طبع في القاهرة سنة 1320. 47 - مجد المسيح (في تنزيهه عن الألوهية والمعبودية كما تزعمه النصارى) لحسين قلي الداغستاني، طبع في بغداد 1324. 48 - محاضرات في النصرانية للأستاذ محمد أبو زهرة، دار الكتاب العربي، القاهرة 1961 م. 49 - محمد في الكتاب المقدس، البرفسور القسيس دافيد بنجامين كلداني طبع دار الضياء للنشر والتوزيع في قطر 1985 م. 50 - مسألة صلب المسيح بين الحقيقة والافتراء، أحمد ديدات، دار الفضيلة بالقاهرة 1409 هـ. 51 - المسيح الدجال. . قراءة سياسية في أصول الديانات الكبرى: رد على النصارى، سعيد أيوب، دار الهادي، بيروت 1991. 52 - المسيح في مصادر العقائد المسيحية، أحمد عبد الوهاب، مكتبة وهبة بمصر 1398 م. 53 - المسيح في المفهوم المعاصر، عصام الدين حفني، دار الطليعة بيروت، 1979 م.
(المقدمة/27)
54 - موقف الإسلام من كتب اليهود والنصارى للأستاذ مصطفى الرفاعي اللبّان، طبع المطبعة السلفية، بالقاهرة 1353. 55 - النصرانية والإسلام، محمد عزت الطهطاوي، دار الأنصار بالقاهرة 1977 م. 56 - نظرة في كتب العهد الجديد وعقائد النصرانية، محمد توفيق صدقي، مطبوع في مصر. 57 - يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء، رؤوف شلبي، دار الاعتصام، 1400 هـ. 58 - يد الارتباط في الرد على الأقباط، عبد العزيز جاويش، المطبعة اليوسفية، القاهرة. 59 - اليهود في القرآن والسنة، د. محمد أديب الصالح، دار الهدى، الرياض، 1413 هـ.
(المقدمة/28)
ثانيًا: علاقة الإسلام بالشرائع الأخرى
شاء الله عز وجل أن تكون رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتمة الرسالات السماوية، والتي اختصت عرفًا بمدلول كلمة "الإسلام" كما أن كلمة "اليهودية" أو "الموسوية" تخص شريعة موسى، عليه السلام، وما اشتق منها، وكلمة "النصرانية" أو "المسيحية" تخص شريعة عيسى عليه السلام وما تفرع عنها. وهذه الرسالة التي أنزلها الله على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بلغت ذروة الكمال، وجاءت دعوة إنسانية عالمية، لا تخاطب قومًا بأعيانهم، ولا جنسًا بذاته، رضيها الله تعالى للناس دينًا، فكانت هي "الدين" الكامل الذي أتمَّ الله تعالى به علينا نعمته {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة/ 3]. وبعد أن كان الموكب الكريم من الرسل والأنبياء -عليهم السلام- يرفع راية التوحيد، ويهتف كلٌ بقومه: {يَاقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [نوح/ 2] , {يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف/ 59] جاء خاتم النبيين وجامع كلمة المرسلين فجمع الرايات كلها تحت راية واحدة، وجعل ينادي الناس جميعًا: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة/ 21] , {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [النساء/ 174] , {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ} [إبراهيم/ 52] , بل هو بلاغ لكل من بلغه خبره وانتهى إليه أمره في عصره وفي سائر العصور إلى يوم القيامة: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام/ 19] , والجن والإنس في
(المقدمة/29)
هذا الخطاب والبلاع سواء (1) {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الأنعام/ 130، الرحمن/ 33]. وقد فصّل الله تعالى في القرآن الكريم سمات هذه الدعوة العالمية العامة، وعرضها على أعين الناس في كثير من آياته، فقال تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) } [الأعراف/ 158] , {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ/ 28] , {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النساء/ 170] , {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان/ 1]. وأشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلى عموم بعثته وعالمية دعوته فقال: "أُعطيت خمسًا لم يعطهنَّ أحد قبلي: كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود، وأُحلّت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض طيِّبة وطهورًا ومسجدًا، فأيّما رجل أدركته الصلاة صلّى حيث كان، ونُصرت بالرُّعب بين يدي مسيرة شهر، وأُعطيت الشفاعة" (2) . __________ (1) للإمام ابن تيمية رسالة عنوانها "إيضاح الدلالة في عموم الرسالة" في الفتاوى (19/ 9 - 65)، وقد نشرها الشيخ محمد منبر الدمشقي في المجلد الثاني من "مجموعة الرسائل المنيرية". وانظر أيضًا: "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" (1/ 166) وما بعدها. (2) أخرجه البخاري (1/ 436) في التيمم، ومسلم واللفظ له (1/ 370) كتاب =
(المقدمة/30)
وقال عليه الصلاة والسلام: "فُضِّلت على الأنبياء بست: أُعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرُّعب، وحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورًا ومسجدًا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون" (1) . خاتم النبيين: ومن ثم كان محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء والمرسلين، وكانت رسالته خاتمة الرسالات: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب/ 40]. ويصور الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - ختم رسالته للرسالات السابقة، وكيف أتمَّ البناء الذي تعاقبت عليه رسل الله الكرام، فيقول: "مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بني بيتًا، فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية [من زواياه] فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلَّا وضعت هذه اللبنة؟ فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين" (2) . ودعوته ناسخة للرسالات السابقة: وإذا كان محمد - صلى الله عليه وسلم - قد أرسل من عند الله تعالى بدين بلغ ذروة الكمال الذي لا كمال بعده، وتوجه الخطاب فيه للعالمين كافة، وختم __________ = المساجد وفي رواية أخرى بلفظ "وأُرسلت إلى الخلق كافة". (1) أخرجه مسلم (1/ 371) في المساجد. (2) أخرجه البخاري (6/ 558) في المناقب، ومسلم (4/ 1790) في الفضائل. ولأبي الأعلى المودودي كتاب ختم النبوة في ضوء الكتاب والسنة، وللندوي: النبي الخاتم.
(المقدمة/31)
الله به الرسالات، فإن النتيجة المنطقية اللازمة لهذا الكمال ولتمام النعمة أن تنقطع صلة الإنسانية عن سائر الرسالات والنبوات السابقة في طاعتها واتباعها، مع الإيمان بأصولها المنزلة - لا بما آلت إليه بعد التحريف على يد الأتباع. فكل ما جاء به الأنبياء السابقون وعرضوه على الإنسانية ودَعَوْها إلى اتّباعه، قد نُسخ برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وما من شك أن الإيمان بنبوتهم وصدق دعوتهم على وجه الإجمال لازم لابد منه، إذ ما كانوا إلا دعاة إلى الإسلام، وما التصديق بدعوتهم إلا تصديق بالإسلام، ولكن مع ذلك انقطعت بهم صلة الإنسانية في طاعتها واتباعها فعلًا، وإنما ارتبطت برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وتعليمه وأسوته الحسنة؛ لأن الذي يقتضيه المبدأ: أولًا: أن لا تعود الإنسانية بحاجة إلى المنسوخ بعد أن جاءها الكامل. وثانيًا: أنه قد لعبت يد التحريف والإهمال بسيرة وتعاليم الأنبياء السابقين (1) مما لم يعد من الممكن، لأجله، أن تتبعهم الإنسانية فعلًا. ومن هنا، فإن القرآن الكريم حيثما يأمر بطاعة الرسول واتباع أحكامه وأوامره، لا يأتي بكلمة "الرسول" و"النبي" إلا معرّفتين بالألف __________ (1) اقرأ -إن شئت- "إظهار الحق" للشيخ رحمة الله العثماني 207 - 298، "الرسالة الخالدة" للسيد سليمان الندوي 41 - 68، "المسيح في مصادر العقائد المسيحية" للمهندس أحمد عبد الوهاب 77 وما بعدها، "محاضرات في النصرانية" للشيخ محمد أبي زهرة 77 وما بعدها، "الجواب الصحيح" لابن تيمية (1/ 362 وما بعدها و 2/ 3 - 27).
(المقدمة/32)
واللام- لتكونا خاصتين بمحمد - صلى الله عليه وسلم - (1) . يقول الله تعالى مثلًا: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) } [آل عمران/ 132] , ويقول: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء/ 59] , ويقول أيضًا: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء/ 80]. والقرآن الكريم مهيمن على الكتب السابقة: وكذلك فإن القرآن الكريم قد جعله الله تعالى مهيمنًا على ما سبقه من الكتب السماوية، وهو كلمة الله الأخيرة لهذه البشرية، التي يجب أن يفيء إليها الناس كلهم حتى يكونوا مؤمنين، ومن ثم فكل اختلاف يجب أن يُرد إلى هذا الكتاب ليفصل فيه، سواء كان هذا الاختلاف في التصور الاعتقادي بين أصحاب الديانات السماوية، أو في الشريعة التي جاء هذا الكتاب بصورتها الأخيرة، أو كان هذا الاختلاف بين المسلمين أنفسهم، قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة/ 48]. وكما استعمل الله تعالى كلمتي "الرسول" و"النبي" معرفتين عند الأمر بطاعتهما، لتكون خاصة بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ودالة على كماله، كذلك جاء لفظ "الكتاب" في هذه الآية للدلالة على القرآن الكريم الدلالة نفسها، فهو الكتاب الكامل الجدير بأن يسمى كتابًا، وأن ينصرف إليه معنى __________ (1) انظر: "الإحكام في أصول الأحكام" - لابن حزم (2/ 732 - 743)، "كشف الأسرار" للبخاري (3/ 158 - 162)، "الحضارة الإسلامية" للمودودي 192 - 196، "الأسفار المقدسة في الأديان السابقة" د. علي عبد الواحد وافي 87 - 92.
(المقدمة/33)
الكتاب الإلهي الكامل الصادق عند الإطلاق، لحيازته جميع الأوصاف الكمالية لجنس الكتاب السماوي، وتفوّقه على بقية أفراده، بعد أن استعمل في الآيات السابقة لهذه الآية لفظ التوراة والإنجيل للكتابين اللذين أنزلهما الله على موسى وعيسى عليهما السلام (1) . ليظهره على الدين كله: وقد أخبر الله سبحانه ووعد بإظهار هذا الدين على سائر الأديان فقال: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) } [التوبة/ 33]. فالله تعالى يُعلي هذا الدين ويرفع شأنه على جميع الأديان بالحجة والبرهان والهداية والعرفان، والعلم والعمران، وكذا السيادة والسلطان، ولم يكن لدين من الأديان مثل هذا التأثير الروحي والعقلي والمادي والاجتماعي والسياسي إلا للإسلام (2) . ولقد صح عن النبي عليه الصلاة والسلام الوعد بإظهار الدين ونصره والتمكين لأهله (3) ، وقد تحقق هذا الوعد الصادق بإذن الله. دعوة أهل الكتاب للإيمان بمحمد: ولأجل هذا فإن الله تعالى يأمر بالإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وطاعته واتباع شريعته، حتى الأمم المؤمنة برسالة نبي من الأنبياء السابقين فإن القرآن __________ (1) انظر: "الظلال" (6/ 902)، "تفسير أبي السعود" (2/ 67)، "تفسير المنار" لرشيد رضا (6/ 410). (2) انظر تفسير المنار لرشيد رضا (10/ 175). (3) ذكر الإمام ابن كثير جملة من هذه الأحاديث في التفسير (2/ 250 - 251).
(المقدمة/34)
يوجه إليها هذا الخطاب أيضًا، يقول الله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة/ 15 - 16]. تهديد ووعيد .. ثم يأتي التهديد والوعيد الشديد لمن يعرض منهم عن الإيمان بما نزل الله تعالى على محمد - صلى الله عليه وسلم - {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [النساء/ 47]. وتأتي سورة البينة لتقرر ما كان عليه أهل الكتاب والمشركون الذين كفروا برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - من الانحراف عن دين الله ومنهجه، وتقرر أنهم كانوا يُعلِّقون تحولهم وانفكاكهم عما هم عليه من الانحراف والكفر على بينة واضحة؛ هي بعثة نبي جديد، تكون سبب هدايتهم وتحويلهم عما هم عليه من ضلال وانحراف. ولكن عندما جاءتهم الهداية ممثلة بالكتاب المنزل: القرآن الكريم، والنبي المرسل، محمد - صلى الله عليه وسلم - كفروا بهما، واستمروا على كفرهم وانحرافهم، فاستحقوا أن يدمغهم القرآن الكريم بأنهم {هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة/ 6] أما الذين آمنوا وصدقوا، في مقابل أولئك الذين كفروا فأولئك: {هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة/ 7 - 8].
(المقدمة/35)
وجاءت أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - تبين هذا المعنى، وتوجب على كل من يسمع به أن يؤمن به ويتبعه، ويترك ما كان من شريعة سابقة انتهى العمل بها بعد مجيء محمد خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة - يهودي أو نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار" (1) . ومؤمن أهل الكتاب، الذي يتبع محمدًا - صلى الله عليه وسلم - له أجره مرتين، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب، آمن بنبيه وأدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - فآمن به واتبعه وصدّقه، فله أجران، وعبد مملوك أدّى حق الله تعالى وحق سيده، فله أجران. ورجل كانت له أمة فغذاها فأحسن غذاءها، ثم أدَّبها فأحسن أدبها، ثم أعتقها وتزوجها، فله أجران" (2) . وعندما ينزل عيسى عليه السلام في آخر الزمان بين يدي الساعة، ينزل حاكمًا بشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فما عذر أهل الكتاب في عدم إيمانهم به واتباعهم له - صلى الله عليه وسلم -؟ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "والذي نفسي بيده ليوشكنّ أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا مقسطًا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية (3) ، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد" (4) . __________ (1) أخرجه مسلم (1/ 134) في الإيمان. (2) أخرجه البخاري (1/ 190) في العلم، ومسلم (1/ 134 - 135) في الإيمان. (3) أي لا يقبلها, ولا يقبل من الكفار إلا الإسلام، ومن بذل الجزية منهم لم يكفّ عنه، بل لا يقبل إلا الإسلام أو القتل. (4) أخرجه البخاري (4/ 414) في البيوع، ومسلم (1/ 135 - 136) في الإيمان.
(المقدمة/36)
مواقف إيجابية حكاها القرآن الكريم:
ولكن فريقًا من أهل الكتاب، من الذين فتح الله قلوبهم للحق والإيمان, وأبصارهم للهدى والنور، فأدركوا حقيقة الدعوة التي انتظروها والنبي الذي كانوا يستفتحون به، هذا الفريق قد آمن فعلًا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - واتبعه، ولِمَ لا يؤمنون؟ وقد قامت الأدلة كلها على صدق هذا النبي، بعد أن بشرت به كتبهم ورأوا أعلام نبوته - صلى الله عليه وسلم - وقد حكى الله تعالى ذلك وسجَّله فقال: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} (1) [الإسراء/ 107 - 109] , وقال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} (2) [القصص/ 52 - 55] ... في آيات كثيرة في هذا المعنى، وسيأتي بعضها أيضًا في مناسبات أخرى. وحفظها الواقع التاريخي: وحفظ لنا الواقع التاريخي تصديق ذلك، بإسلام أكثر أهل العقول والأحلام والعلوم ممن لا يحصيهم إلا الله، من أولئك الذين عرفوا الحق من أهل الكتاب، فرقعة الإسلام إنما انتشرت في الشرق والغرب بإسلام أكثر الطوائف، فدخلوا في دين الله أفواجًا، حتى صار الكفار معهم تحت __________ (1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 153 - 154)، ابن كثير (3/ 69). (2) انظر: البغوي مع الخازن (5/ 147)، وابن كثير (3/ 394 - 395).
(المقدمة/37)
المذلة والصَّغار، والذين أسلموا من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين أكثر من الذين لم يسلموا، وإنما بقي منهم أقل القليل، وقد دخل في دين الله من ملوك الطوائف ورؤسائهم في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلق كثير (1) ". وفي العصر الحديث: وفي العصور الحديثة، نجد أمثلة كثيرة على ذلك، من أولئك الذين يدخلون في دين الإسلام ولا يستكبرون عن عبادة الله، وهم من المقدّمين في قومهم النصارى أو اليهود؛ فيهم علماء دينهم، ورجال الدولة والسياسة، وفيهم العلماء ورجال الفكر الثاقب، وفيهم الكتاب والأدباء والمصلحون والوعاظ ورجال الاجتماع وغيرهم .. (2) . لا يتحقق إيمان اليهود والنصارى إلا بإيمانهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -: ولا يتحقق أصلًا إيمان اليهود والنصارى إلا بإيمانهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - واتباعه في دينه الذي أنزله الله، وإلا فما هم بمؤمنين ولا مسلمين، فاليهود الذين آمنوا بموسى عليه السلام وصدقوا بكتابه، وآمنوا بالرسل قبله كانوا مسلمين لله حتى أنزل الله شريعة عيسى، فوجب عليهم -ليحققوا إيمانهم- أن يؤمنوا به ويتبعوه وينفكّوا عن الشريعة السابقة، وكل من اليهود والنصارى عند بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - -وجب عليهم- ليكونوا __________ (1) انظر فيما سيأتي ص (55) وما بعدها من نص المؤلف رحمه الله. (2) انظر أمثلة عن هؤلاء وتراجمهم في كتاب: "لماذا أسلمنا" وهو مجموعة مقالات لنخبة من رجال الفكر عن سبب إسلامهم، ترجمة مصطفى جبر، وكتاب: رجال ونساء أسلموا تأليف كامل عرفات العش.
(المقدمة/38)
مسلمين أن يؤمنوا بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ورسالته، فإن لم يفعلوا فما هم بمؤمنين ولا مسلمين، وذلك أنهم أنكروا نبوة رسول من عند الله تعالى ورفضوا الإيمان برسالة أنزلها الله تعالى. الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - شرط للإيمان بنبوة الأنبياء جميعًا: فالإيمان بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - شرط للإيمان بنبوة الأنبياء جميعًا عليهم السلام، إذ لا يمكن الإيمان بنبي من الأنبياء أصلًا مع جحود نبوة محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن جحد نبوته فهو لنبوة غيره من الأنبياء أشد جحدًا. وهذا يتبين بوجوه: الوجه الأول: أن الأنبياء المتقدمين بشَّروا بنبوته، وأمروا أممهم بالإيمان به، فمن جحد نبوته فقد كذّب الأنبياء قبله فيما أخبروا به، وخالفهم فيما أمروا وأوصوا به من الإيمان به. والتصديق به لازم من لوازم التصديق بهم، وإذا انتفى اللازم انتفى ملزومه قطعًا، وبيان الملازمة هي الوجوه الكثيرة التي تلي هذا مباشرة، وهي تفيد بمجموعها القطع على أنه - صلى الله عليه وسلم - قد ذكر في الكتب الإلهية على ألسن الأنبياء. الوجه الثاني: أن دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - هي دعوة جميع المرسلين قبله، من أولهم إلى آخرهم، فالمكذب بدعوته مكذبٌ بدعوة إخوانه كلهم، وهذا التكذيب كفر، فوجب الإيمان بدعوته عليه السلام واتباعه. الوجه الثالث: أن الآيات والبراهين التي دلت على صحة نبوته وصدقه -عليه الصلاة والسلام- أضعاف أضعاف آيات من قبله من الرسل (1) ، فليس لنبي من الأنبياء آية توجب الإيمان به إلا ولمحمد - صلى الله عليه وسلم - __________ (1) اقرأ في دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام: الجزء الرابع من الجواب الصحيح =
(المقدمة/39)
مثلها أو ما هو في الدلالة مثلها، وإن لم يكن من جنسها، فآيات نبوته عليه الصلاة والسلام أعظم وأكبر، والعلم بنقلها قطعي، لقرب العهد وكثرة النّقلة واختلاف أمصارهم وأعصارهم واستحالة تواطئهم على الكذب، فالعلم بآيات نبوته كالعلم بنفس وجوده وظهوره، فإذا جاز القدح في ذلك كله، فالقدح في وجود عيسى وموسى وآيات نبوتهما أشد جوازًا، وإن امتنع القدح فيهما وفي آيات نبوتهما فامتناعه في محمد - صلى الله عليه وسلم - وآيات نبوته أشدّ (1) . ولو لم يظهر محمد لبطلت نبوة الأنبياء: ولو لم يظهر محمد - صلى الله عليه وسلم - لبطلت نبوة سائر الأنبياء، فظهور نبوته تصديق لنبواتهم وشهادة لها بالصدق، فإرساله من آيات الأنبياء قبله، وقد أشار الله سبحانه إلى هذا المعنى بعينه في قوله: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات/ 37] فإن المرسلين بشروا به وأخبروا بمجيئه، فمجيؤه هو نفس صدق خبرهم، فكان مجيؤه تصديقًا لهم، إذ هو تأويل ما أخبروا به، ولا تنافي بين هذا وبين القول الآخر: إن تصديقه المرسلين شهادته بصدقهم وإيمانه بهم، فإنه صدقهم بقوله ومجيئه، فشهد بصدقهم بنفس مجيئه، وشهد بصدقهم بقوله، ومثل هذا قول المسيح فيما حكاه الله تعالى في القرآن الكريم عنه: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف/ 6] فإن التوراة لما بشرت به __________ = لابن تيمية، "تثبيت دلائل النبوة" للقاضي عبد الجبار بن أحمد، "دلائل النبوة" للبيهقي، و"أعلام النبوة" للماوردي. و"إظهار الحق" للشيخ رحمة الله. وسيذكر المصنف رحمه الله طائفة من الأدلة. (1) انظر فيما سيأتي كلام المصنف هذا في ص (429) وما بعدها.
(المقدمة/40)
وبنبوته كان نفس ظهوره تصديقًا لها، ثم بشَّر برسول يأتي من بعده، فكان ظهور الرسول المبشر به تصديقًا له، كما كان ظهوره تصديقًا للتوراة، فعادة الله في رسله: أنّ السابق يبشر باللاحق، واللاحق يصدق السابق، فلو لم يظهر محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يبعث لبطلت نبوة الأنبياء قبله (1) . عهد وميثاق ... ومن حكمة الله سبحانه أنه ما بعث نبيًا إلا وقد أخذ عليه وعلى أتباعه العهد أن يؤمنوا بالنبي الذي يأتي بعده ويصدقوه وينصروه {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران/ 81 - 82] فقد أخبر الله تعالى أنه أخذ الميثاق من أنبيائه بتصديق بعضهم بعضًا، وأخذ الأنبياء على أممهم وأتباعهم الميثاق بنحو الذي أخذ عليها ربها من تصديق أنبياء الله ورسله بما جاءتها به؛ لأن الأنبياء عليهم السلام أرسلوا بذلك إلى أممهم، ولم يدّع أحد ممن صدّق المرسلين أن نبيًا أُرسل إلى أمة بتكذيب أحد من أنبياء الله عز وجل وحججه في عباده، بل كلها -وإن كذب بعض الأمم بعضَ أنبياء الله بجحودها نبوته- مقرّة بأنّ مَنْ ثبتت صحة نبوته -فعليها الدينونة بتصديقه، فذلك ميثاق مقرٌّ به جميعهم (2) . فمهما آتى الله أحدَهم من كتاب وحكمة وبلغ أي مبلغ، ثم جاء رسول من بعده لابد أن يؤمن به وينصره، ولا يمنعه ما هو فيه من العلم __________ (1) ص (371 - 372) فيما سيأتي. (2) تفسير الطبري (6/ 557) بتحقيق محمود شاكر.
(المقدمة/41)
والنبوة من اتباع من بُعث بعده ونصرته، وها قد بعث الله تعالى محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، وجاء مصدقًا لما بين يديه من الكتاب (1) ، وقد أخذ الله الميثاق والعهد على أهل الكتاب أن يؤمنوا به، فوجب الوفاء بذلك الميثاق والعهد، واكتفى -سبحانه- بذكر الأنبياء في الآية لأن العهد على المتبوعين عهد على الأتباع، ولأنه إذا وجب على الأنبياء الإيمان به ونصره فوجوب ذلك على من اتبعهم أولى وأحرى. وهذا هو معنى ما روي عن علي بن أبي طالب وابن عباس -رضي الله عنهما- حيث قالا: ما بعث الله نبيًا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق: لئن بعث الله محمدًا وهو حي ليؤمِننَّ به ولينصرنَّه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته: لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنُنَّ به ولينصُرُنّه (2) . بشارات الكتب السابقة بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام: وليس لأهل الكتاب أي عذر في عدم إيمانهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وقد __________ (1) والمراد بالتصديق لما معهم -مع مخالفة شرعه عليه الصلاة والسلام لشرعهم- حصول الموافقة في التوحيد والنبوات وأصول الشرائع، فأما تفاصيلها، وإن وقع الخلاف فيها، فذلك في الحقيقة ليس بخلاف, لأن جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام متفقون على أن الحق في زمان موسى عليه الصلاة والسلام ليس إلا شرعه، وأن الحق في زمان محمد عليه الصلاة والسلام ليس إلا شرعه، فهذا وإن كان يوهم الخلاف إلا أنه في الحقيقة وفاق. وكذلك كان ظهوره عليه الصلاة والسلام على ما هو مطابق لوصفه في كتبهم -كما سيأتي- تصديقًا لما معهم. انظر: "تفسير الفخر الرازي" (8/ 131). (2) انظر: "تفسير الطبري" (6/ 555 - 556)، ابن كثير (1/ 376)، "روح المعاني" (3/ 209)، البغوي (1/ 313)، "الرد على المنطقيين": 451.
(المقدمة/42)
بشرت كتبهم بنبوته وأشارت إلى ذلك (1) ، نجد هذا حكاية عنهم في القرآن الكريم، ونجد له شاهدًا من الواقع التاريخي منذ عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويتفق هذا كله مع نصوص كتبهم التي يعتمدون هم عليها، سواء في العهد القديم أو الجديد. وإليك شيئًا من البيان لذلك كله: حكى الله تعالى ذلك في القرآن الكريم: أما القرآن الكريم، فقد حكى الله تعالى: أن التوراة والإنجيل قد احتوى كل منهما على إشارات إلى بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - ونبوته وصفته وصفة أصحابه. فقال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف/ 157]. وهم يعلمون صدقه -عليه الصلاة والسلام- وصدق الكتاب الذي أنزل عليه: فترى علماءهم الصادقين يقرُّون بذلك، وإنهم ليعلمون أنه الحق من ربهم فيصدقونه، وإذا تلا عليهم الآيات تراهم يخرون للأذقان سُجَّدًا: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة/ 83] {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء/ 107 - 109]. __________ (1) ساق الإمام ابن القيم اثني عشر وجهًا تدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - مذكور في الكتب المتقدمة، ومنها البشارات بنبوته في كتبهم. انظر فيما سيأتي ص (109) وما بعدها.
(المقدمة/43)
وهذه صفته عليه الصلاة والسلام وصفة أصحابه عندهم، في كتبهم، كما حكاها الله تعالى في القرآن الكريم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح/ 29]. وحكى الله تعالى بشارة عيسى عليه السلام بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فقال: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصف/ 6]. وتجمعت هذه الشواهد كلها لتعطي أهل الكتاب علمًا يقينيًا بمعرفة نبوته - صلى الله عليه وسلم -: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام/ 20]. ولكن فريقًا منهم يكتمون هذا الحق والعلم اليقيني مع علمهم بأنه حق، وفي هذا ما فيه من البشاعة والجحود، فقال الله تعالى عنهم: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة/ 146]. وبعد شهادة الله تعالى ليس هناك شهادة، فهو سبحانه أصدق القائلين وخير الشاهدين. ولهذه البشارات شواهد سجلها التاريخ: ولتقوم الحجة على أهل الكتاب أكثر نستدعي شهودًا منهم -وهم أولئك الذين سجّل التاريخ شهاداتهم واعترافاتهم بأنهم ينتظرون نبيًا
(المقدمة/44)
سوف يبعثه الله، وقد بشرت به كتبهم، فقد سبقت آنفًا الإشارة إلى عدد من رؤساء النصارى الذين أسلموا في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام لمّا بلغتهم دعوته, لأنهم عرفوها أولًا وعرفوا نبيها من كتبهم التي بشرت به، فما كانوا يرجمون الغيب، بل يعترفون بحقٍّ وجدوه مجسدًا في كتبهم (1) . فهذه شهادتهم القولية، وتلك شهادتهم الواقعية، اتفقتا معًا على تأكيد ما نجد من إشارات إلى بعثته عليه الصلاة والسلام في كتبهم التي بين أيديهم اليوم، رغم كل ما أصابها من تحريف وتزوير، ورغم الكتمان لكثير منها. ملاحظات بين يدي البشارات: ونقدم بين يدي هذه البشارات التي ساقها المصنف -رحمه الله- بعض الملاحظات المتعلقة بهذه البشارات وطبيعتها وتفسيرها: 1 - مع إيماننا بأن ما بين أيدي أهل الكتاب من اليهود والنصارى من الكتب ليس هو الكتاب الذي أنزله الله تعالى وحيًا على موسى وعيسى عليهما السلام، ورغم ما وقع فيهما على أيدي الأتباع من كتمان وتحريف -فهم يلبسون الحق بالباطل ويخلطونه به بحيث لا يتميز الحق من الباطل- ويكتمون الحق ويخفونه ويحرِّفون الكلم عن مواضعه لفظًا ومعنى، ويلوون ألسنتهم بالكتاب ليلبسوا على السامعين اللفظ المنزل بغيره (2) -رغم هذا كله- فإن إشارات كثيرة لا تزال بين طيَّات هذه الكتب، __________ (1) انظر فيما سيأتي ص (55) وما بعدها من كلام المصنف رحمه الله تعالى. (2) قال الله تعالى حكاية عنهم: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ =
(المقدمة/45)
تحمل النبوءات والبشارات بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وكأن الله تعالى أبقاها ليخزيهم ويظهر ما هم عليه من باطل، ولتقوم عليهم الحجة من كتبهم التي يقدسونها, ولما كثرت هذه البشارات وما استطاعوا كتمانها كلها أخذوا يحرفون فيها ويؤولونها تأويلات باردة ليصرفوها عن معناها الحقيقي الدالّ على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وليجعلوا بعضها خاصًا بعيسى عليه السلام! 2 - هذه البشارات على نوعين: منها ما يكون إشارات مجملة -غالبًا- ولا تنطق باسمه - صلى الله عليه وسلم - واسم بلده مثلًا، بل تذكر صفته ونعته ونعت أمته ومخرجه، وشيئًا من صفات دعوته ورسالته وثمراتها، ويكون في هذا أبلغ دلالة على المطلوب من ذكره باسمه الصريح، فإن الاشتراك قد يقع في الاسم فلا يحصل به التعريف والتمييز، ولا يشاء أحد، يسمى بهذا الاسم، أن يدعي أنه هو إلا فعل، إذ الحوالة إنما وقعت على مجرد الاسم، وإن كان هذا الإخبار مجملًا غير واضح عند العوام من الناس فإنه يصير عند الخواص جليًا بواسطة القرائن التي تحف به وقد يبقى خفيًا عليهم أيضًا لا يعرفون صدقه إلا بعد ادعاء النبي اللاحق أن النبي المتقدم أخبر عنه وظهر صدق ادعائه بظهور علامات النبوة والمعجزات على يديه. ومن هذه البشارات ما يكون تفصيلًا تامًا بالاسم الصريح للنبي __________ = وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران/ 71] , {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} [المائدة/ 15] , {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء/ 46, المائدة/ 13] , {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران/ 78].
(المقدمة/46)
وبلده ... الخ، وهذا يتفق مع ما حكاه الله تعالى على لسان بعض أنبيائه، في القرآن الكريم من البشارة بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وسيأتي أمثلة على كلا النوعين -إن شاء الله تعالى-. 3 - قد يدَّعي بعض أهل الكتاب أنهم ما كانوا ينتظرون نبيًا آخر غير عيسى وإيلياء، ولذلك -بزعمهم- لا تنطبق البشارات على محمد، عليه الصلاة والسلام، إذ عيسى عندهم خاتم الأنبياء. وهذا زعم باطل وادعاء لا أصل له، بل كانوا ينتظرون نبيًا جديدًا غيرهما؛ يدل على ذلك ما جاء في إنجيل يوحنا: "وهذه هي شهادة يوحنا حين أرسل اليهود من أورشليم كهنةً ولاويين ليسألوه: من أنت؟ فاعترف ولم ينكر، واعترف: إني لست أنا المسيح، فسألوه: إذن ماذا، أإيلياء أنت؟ فقال: لست إياه. فسألوه: أنت النبي؟ فأجاب: كلا. فقالوا له: من أنت؟ لنعطي جوابًا للذين أرسلونا، ماذا تقول عن نفسك؟ قال: أنا صوت صارخ في البرية، قوِّموا طريق الرب كما قال أشعياء النبي" (1) . فعلماء اليهود المعاصرون لعيسى عليه السلام سألوا يحيى عليه السلام أولًا: هل أنت المسيح؟ ولما أنكر سألوه: أنت إيلياء؟ ولما أنكر سألوه: أنت النبي؟ أي النبي المعهود الذي أخبر به موسى، فعلم أن هذا النبي كان منتظرًا قبل المسيح وإيلياء، وكان مشهورًا بحيث لم يكن محتاجًا إلى ذكر الاسم، بل الإشارة إليه كافية. وإذا كانوا ينتظرون نبيًا آخر غير عيسى وإيلياء، فيعلم من هذا قطعًا __________ (1) إنجيل يوحنا، الفصل الأول، رقم 19 - 23 طبع الكاثوليكية بيروت، ص 155.
(المقدمة/47)
أن عيسى عليه السلام ليس خاتم الأنبياء، ثم إنهم يعترفون بنبوة الحواريين وبولس! بل بنبوة غيرهم أيضًا، فكيف يكون عيسى خاتم الأنبياء -بزعمهم- (1) . 4 - الأخبار والبشارات التي نقلها المسيحيون في حق عيسى عليه السلام لا تصدق عليه، بناء على تفاسير اليهود وتأويلاتهم لها, ولذلك فهم ينكرونه أشد الإنكار. وعلماء المسيحية لا يلتفتون إلى تفسيرات اليهود في هذا الشأن وتأويلاتهم، ويفسرونها بحيث تصدق على عيسى عليه السلام. ولئن كانت هذه التأويلات بنظر المسيحيين غير صحيحة وغير لائقة، كذلك تأويلات المسيحيين في الإخبارات التي هي في حق محمد - صلى الله عليه وسلم - مردودة غير مقبولة، وسيظهر أن الإخبارات أو البشارات التي ستأتي في حق محمد - صلى الله عليه وسلم - أظهر صدقًا من تلك التي نقلها الإنجيليون في حق عيسى عليه السلام (2) . ومن هنا قال الإمام ابن القيم -رحمه الله- فالمسلمون يؤمنون بالمسيح الصادق الذي جاء من عند الله بالهدى ودين الحق، الذي هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. والنصارى إنما تؤمن بمسيح دعا إلى عبادة نفسه وأمه، وأنه ثالث ثلاثة، وأنه الله وابن الله، وهذا هو أخو المسيح الكذاب، لو كان له وجود. فإن المسيح الكذاب يزعم أنه الله. والنصارى -في الحقيقة- أتباع هذا المسيح، كما أن اليهود ربما ينتظرون خروجه، وهم يزعمون أنهم ينتظرون النبي الذي __________ (1) راجع: إظهار الحق للشيخ رحمة الله 505 - 507. (2) إظهار الحق للشيخ رحمة الله 507 - 508.
(المقدمة/48)
بُشِّروا به (1) ، فالنصارى آمنوا بمسيح لا وجود له، واليهود ينتظرون المسيح الدجال! 5 - من عادة أهل الكتاب، سلفًا وخلفًا، أنهم يترجمون -غالبًا- الأسماء في تراجمهم ويوردون بدلها معانيها، وتارة يزيدون شيئًا بطريق التفسير في الكلام، دون إشارة إلى هذه الزيادة. وهذا يجعل الأسماء المترجمة محرفة وغامضة، وفي كتبهم شواهد كثيرة على ذلك، فلا عجب، إذن، أن يحرفوا ويبدلوا اسم النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، بلفظ آخر، بحيث يخل ذلك بالاستدلال، جريًا على عادتهم السالفة وعنادًا وجحودًا. ولذلك لم تكن النسخ المتداولة لكتبهم متفقة، إذ قد يوجد في نسخة ما لا يوجد في غيرها، ومن هنا نجد نقولات من تراجم كتبهم التي كانت متداولة في العصور السالفة، نقلها علماء أعلام من المسلمين ليحاجّوا أهل الكتاب، قد لا نجدها موافقة في بعض الألفاظ أو في كثير منها للتراجم المشهورة الآن، بسبب ذلك التغيير في الترجمة والتحريف فيها. فمثلًا، ناقش الإمام ابن حزم النصارى ونقل نصوصًا كثيرة عنهم من الأناجيل، في كتابه "الفصل في الملل والأهواء والنِّحل". ليبين تضاربها وتناقضها مع بعضها، وكذلك فعل شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم، والإمام الغزالي والقرطبي، وأبو عبيدة الخزرجي، وغيرهم من العلماء، نقلوا نصوصًا من كتب النصارى قد لا نجدها موافقة في ألفاظها للإنجيل الموجود عندهم حاليًا وبالطبع لو أن أحدًا من أولئك العلماء المسلمين قد غيّر أو كذب فيما نقل لبيّن النصارى __________ (1) هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى لابن القيم ص (384).
(المقدمة/49)
ذلك وردوه (1).
علاقة الإسلام بالأديان الأخرى:
عرفنا فيما سبق أن الإسلام بمعناه العام هو دين الأنبياء جميعًا، عليهم الصلاة والسلام، فإذا أخذنا كلمة الإسلام بهذا المعنى "نجدها لا تدع مجالًا للسؤال عن العلاقة بين الإسلام وبين سائر الأديان السماوية، إذ لا يُسأل عن العلاقة بين الشيء ونفسه، فهنا وحدة لا انقسام فيها ولا اثنينية". ولكن السؤال هنا عن الإسلام بمعناه الخاص، وهو الدين الذي أنزله الله تعالى على محمد - صلى الله عليه وسلم -، أي العلاقة بين المحمدية وبين الموسوية والمسيحية: وللإجابة على هذا السؤال ينبغي أن نقسم البحث إلى مرحلتين (2): المرحلة الأولى: في علاقة الشريعة المحمدية بالشرائع السماوية السابقة، وهي في صورتها الأولى لم تبعد عن منبعها, ولم يتغير فيها شيء بفعل الزمان ولا بيد الإنسان. __________ (1) انظر: "إظهار الحق"، ص (511 - 518)، "الفصل في الملل والأهواء والنحل" لابن حزم: 2/ 69 - 75. (2) عن (الدين) للدكتور محمد عبد الله دراز 175 - 176، وعنه لخصنا هذه الفقرة بكاملها، وهي في أصلها بحث أعده -رحمه الله- لإلقائه في الندوة العالمية للأديان التي عقدت في لاهور بالباكستان في جمادى الآخرة سنة 1377 هـ وانظر في تقويم هذه الندوة، وندوة أخرى عقدت في أعقابها في كراتشي: ثلاث مقالات للشيخ محمد أبي زهرة في مجلة لواء الإسلام، السنة الثالثة عشرة.
(المقدمة/50)
وهنا يعلمنا القرآن الكريم: أن كل رسول يرسل، وكل كتاب ينزل، قد جاء مصدقًا ومؤكدًا لما قبله، فالإنجيل مصدِّق ومؤيد للتوراة، والقرآن مصدِّق ومؤيد للإنجيل والتوراة، ولكل ما بين يديه من الكتاب. إذ هناك تشريعات خالدة لا تتبدل ولا تتغير بتغير الأصقاع والأوضاع. وهناك تشريعات أخرى جاءت موقوتة بآجالٍ طويلة أو قصيرة، فهذه تنتهي بانتهاء وقتها، وتجئ الشريعة التالية بما هو أوفق وأرفق بالأوضاع الناشئة الطارئة. وقد جاء القرآن الكريمِ فغيّر الله تعالى فيه بعض الأحكام التي جاءت في التوراة والإنجيل، وقوفًا بها عند وقتها المناسب وأجلها المقدّر لها في علم الله سبحانه وتعالى، وما كان فيها من الأحكام صحيحًا موافقًا لقواعد السياسة الدينية لا يغيّره، بل يدعو إليه ويحث عليه. وما كان سقيمًا قد دخله التحريف فإنه يغيره بقدر الحاجة، وما كان حريًا أن يزاد فإنه يزيده على ما كان في الشرائع السابقة (1) . وعلى هذا، فإن الإسلام قد اعترف بالشرائع السابقة كما نزلت على الرسل السابقين، على أنها شرائع، وديانات توحيد في الذات والصفات والألوهية، فالله سبحانه وتعالى واحد أحد، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وهو المتفرد بالعبادة، وهو الخالق لكل شيء، العليم بكل شيء، السميع البصير اللطيف الخبير، الموصوف بكل صفات الكمال المنزه عن كل صفات النقص. فالنصرانية التي اعترف بها القرآن الكريم هي التي تعتبر المسيح عليه السلام عبدًا لله ورسولًا من عنده، ليس إلهًا ولا ابن إله، وهي التي يقول __________ (1) "حجة الله البالغة" للدهلوي (1/ 90 - 91، و 122 - 133).
(المقدمة/51)
الله تعالى على لسان نبيها عليه السلام: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة/ 117]. والنصرانية التي اعترف بها القرآن الكريم هي التي تبشر كتبها بالنبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وتطالب الذين حضروا دعوته من بعدها: أن يؤمنوا بها، كما جاء في القرآن الكريم على لسان المسيح عليه السلام. واليهودية التي اعترف بها الإسلام هي التي جاء بها موسى عليه السلام، ديانة توحيد، تؤمن بالله وباليوم الآخر، ولا تبيح قتل النبيين، والتي توجب الإيمان بالكتب التي اشتملت على بيانها الشريعة المطهرة، وتؤمن برسل الله أجمعين. وفيها إيمان بالله تعالى وطاعة له وعبودية خالصة، وتنزيه للرسل عن المعاصي وعصمتهم من الخطايا. تلك هي الديانات التي يعترف بها الإسلام، ويقرها ويمدحها القرآن الكريم ويمدح معتنقيها، قبل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام، إذ هي الإسلام الذي أنزله الله. فلما جاءت شرعة محمد كانت هي الرسالة الخاتمة وهي الإسلام الذي ينبغي أن يفيئ إليه الجميع ليكونوا مسلمين حقًّا. المرحلة الثانية: أما المرحلة الثانية ففي بحث العلاقة بين الشريعة المحمدية والشرائع السماوية، بعد أن طال عليها الأمد، فنالها من التغيير والتحريف والتبديل والكتمان ما كان كفيلًا بتحويلها عن أصلها من ديانة توحيد إلى ديانات وثنية لا تمت إلى أصلها المنزل إلا بخيط أوهى من خيط العنكبوت أو بنسبة لا حقيقة لها. وهنا نرى أن القرآن الكريم قد أضاف إلى موقفه منها في المرحلة
(المقدمة/52)
الأولى صفة أخرى وهو أنه جاء مهيمنًا على كتبها وشريعتها -وقد سبق ذلك آنفًا- أي حارسًا وأمينًا عليها، ومن شأنه ألا يكتفي بتأييد ما فيها من حق وخير، بل عليه، فوق ذلك، أن يحميها من الدخيل الذي عساه أن يضاف إليها بغير حق، وأن يبرز ما تمس إليه من الحقائق التي عساها أن تكون قد أخفيت منها. وهكذا كان من مهمة القرآن الكريم أن يتحدى من يدّعي وجود تلك الإضافات التي اخترعوها في تلك الكتب: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران/ 93]. وبالتالي فالإسلام لا يعترف بدعوة ترفع عيسى عليه السلام إلى مرتبة الألوهية وتنحرف عن التوحيد الخالص لتعتنق التثليث وتؤمن بالخطيئة والكفارة والصلب ... متأثرة بالوثنية التي كانت سائدة وقت نشر النصرانية في الدولة الرومانية (1) ، ثم هي تنكر نبوة نبي بعثه الله تعالى __________ (1) لبيان مدى تأثر النصرانية بالإفكار الوثنية وكيفية تسرب هذه الأفكار إليها وانحراف النصارى عن أصل عقيدة التوحيد راجع بالتفصيل: "الأصول الوثنية للمسيحية" تأليف أندريه نايتون، ترجمة سميرة الزين، ص (17) وما بعدها، "العقائد الوثنية في الديانة النصرانية" تأليف محمد طاهر التنير، ص (35) وما بعدها، "العلمانية" للشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي 27 - 123، "المسيحية: نشأتها وتطورها" لشارل جنيبر ترجمة د. عبد الحليم محمود ص 101 وما بعدها، "حقيقة التبشير بين الماضي والحاضر" للمهندس أحمد أحمد عبد الوهاب، ص 41 وما بعدها. وهو كتاب حافل بالنصوص والوثائق من مراجع غربية نصرانية، "محاضرات في النصرانية" للشيخ محمد أبي زهرة 29 وما بعدها. "مقارنة الأديان: المسيحية" للدكتور أحمد شلبي 90 - 160، "ماذا =
(المقدمة/53)
وبشرت به كتبها أصلًا، كما لا يعترف بدعوة يزعم أهلها في حق الله ما يزعمون من كذب وإفك وكفر، ويصفون أنبياء الله -عليهم الصلاة والسلام- بما تقشعر منه الأبدان وترتجف له القلوب. ومَنْ وصف الله سبحانه بالإفك لا يستغرب منه أي كفر بعد. __________ = خسر العالم بانحطاط المسلمين" لأبي الحسن الندوي 36 - 40.
(المقدمة/54)
ثالثًا: كتاب "هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى" يحتل كتاب "هداية الحيارى" مكانة بارزة في المكتبة الإسلامية بين الكتب التي تهدف إلى الدفاع عن الإسلام وردِّ الشبهات التي أثارها اليهود والنصارى، وحاولوا بها التلبيس على بعض المسلمين، كما تهدف أيضًا إلى مناقشة أهل الكتاب وبيان تحريفهم لكتبهم وتأويلهم الفاسد لنصوصها، وفي هذا وذاك دعوة لأهل الكتاب كي يثوبوا إلى الحق والهدى، فهي دعوة إلى الإسلام الذي لا يقبل الله تعالى من الناس غيره. وقد سبق كثير من العلماء قبل ابن القيم -رحمه الله- في الكتابة في هذا الموضوع -كما تقدم- ثم جاء علماء آخرون من بعده، فكتبوا أيضًا مؤلفات وردودًا كثيرة، وكان كتاب "هداية الحيارى" واسطة العقد، استفاد من كتب ومصادر سابقة، وأفاد منه مؤلفون جاؤوا بعده، فتأثر بمن سبقه وأثَّر فيمن جاء بعده، وفي كلتا الحالتين كان للكتاب منهجه وأسلوبه المتميز. موضوع الكتاب وسبب تأليفه: أبان المصنف -رحمه الله- في مقدمة كتابه (1) أن من بعض حقوق الله تعالى على العلماء أن يردُّوا على من يطعن في كتاب الله تعالى، ويطعن في رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ودينه؛ وقد أورد بعض الكفار الملحدين مسائل على بعض المسلمين، فلم يصادف عنده ما يشفيه، وظنَّ المسلمُ أنَّ جواب ذلك هو الضرب لمن يورد ذلك، مما يعزز دعوى غير المسلمين __________ (1) انظر ص (20) وما بعدها.
(المقدمة/55)
أن الإسلام إنما قام وانتصر بالسيف لا بالكتاب! فقام المصنف -رحمه الله- بواجب الردِّ العلمي المستفيض على ذلك الكافر الملحد، بأدلة من الكتاب الكريم ومن السنة النبوية ومن الواقع التاريخي وألزمه الحجة من كتبه التي يؤمن بها، وذلك لأن دين الإسلام إنما قام بالكتاب الهادي، ونفذه السيف الماضي، كما يقول المصنف -رحمه الله-. ولذلك وضع المصنف كتابه "هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى"، وجعله قسمين اثنين: (القسم الأول) في أجوبة المسائل التي أوردها من أشار إليهم المصنف، وهم بعض الكفار الملحدين. وقد استغرق هذا القسم معظم فصول الكتاب. (القسم الثاني) في تقرير نبوة نبينا محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - بجميع أنواع الدلائل. فجاء الكتاب -كما يقول المصنف أيضًا- كتابًا ممتعًا مُعْجبًا، لا يسأم قاريه، ولا يملُّ الناظر فيه؛ فهو يصلح للدنيا والآخرة، وَلزيادة الإيمان ولذة الإنسان، يعطي القارئ ما يشاء من أعلام النبوة وبراهين الرسالة وبشارات الأنبياء بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وفيه أيضًا دراسة للأديان وتمييز صحيحها وفاسدها، وكيفية فسادها بعد استقامتها، كما يتضمن جملة من فضائح أهل الكتابين وما هم عليه، وأنهم أعظم الناس براءة من أنبيائهم وأبعدهم عنهم، وتخلّل ذلك أبحاثٌ علمية كثيرة قد لا توجد في سواه.
(المقدمة/56)
أسلوب الكتاب وطريقته:
يجد الدارس لكتاب "هداية الحيارى" أن المؤلف سلك منهجًا وصفيًا استقرائيًا نقديًا مقارنًا. فهو منهج وصفي يستند إلى التحليل باستقراء الجزئيات وتصنيفها وترتيبها، مع التوثق والتأكُّد من صحة نسبة الأقوال ومناقشتها، وما يكتنفها من شروح وتفسيرات. وهو أيضًا منهج استنباطي يستخدم القواعد الأصولية واللغوية، وينطلق من الجزئيات إلى الحقائق العامة. وهو كذلك منهج مقارن يقابل الآراء والأقوال ببعضها ويوازن بينها، ولا يهمل المنهج التاريخي في كثير من المواضع، وبذلك كان المنهج والطريقة التي سلكها المصنف منهجًا متكاملًا وطريقة في البحث شاملة. وامتاز أسلوب الكتاب بالوضوح في العبارة، والبعد عن الجفاف والتعقيد الذي يصادفه القارئ في مثل هذه المباحث الجدلية والردود، كما امتاز بقوة الحجة والدليل، وتنوع وسائل الاستنباط، وذلك ما جعله يسدُّ منافذ الهرب من إقامة الحجة والدليل على مَنْ أثار الشبهات وأورد المسائل والطعون التي كانت سببًا لتأليف هذا الكتاب. ونجد في الكتاب أيضًا استطرادات تدعو إليها أحيانًا المناسبة، وفي هذا فائدة للقارئ، وإن كانت أحيانًا تقطع سلسلة الأفكار المتتابعة، وتفصل بين فقرات الموضوع الواحد المتكامل. نسبة الكتاب لمؤلفه وتسميته: إن نسبة الكتاب لابن القيم ثابتة من طرق، فقد جاءت النسخ الخطية كلها مصرِّحة بذلك، كما أن المصنف -رحمه الله- صرَّح باسم كتابه هذا
(المقدمة/57)
في بعض كتبه الأخرى، وذكر فيها بعض مسائله (1). كما جاءت نسبة الكتاب أيضًا في بعض المصادر التي ترجمت للمصنف مثل "كشف الظنون" لحاجي خليفة، و"هدية العارفين" للبغدادي (2). أما تسمية الكتاب؛ فقد جاء اسمه كاملًا في المخطوطات التي اعتُمِدت في التحقيق، كما جاء الاسم في المصادر وهو "هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى"، كما نصَّ عليه المصنف أيضًا في مقدمته. وهذا يشير إلى أن ما نجده أحيانًا في بعض النسخ الخطية من مغايرة لهذا العنوان إنما هو تصحيف أو اختصار، كالذي جاء في نسخة مكتبة أياصوفيا في موضع واحد منها "كتاب الحيارى .. "، وفي نسخة مكتبة الحاج بشير آغا في إستانبول: "هداية الخيارى ... ".
مصادر الكتاب:
اعتمد المصنف -رحمه الله- جملة من المصادر التي لها قيمتها العلمية، وقد تنوعت ما بين كتب في التفسير كالطبري، وفي الحديث كالصحاح والسنن والمسانيد وغيرها مما نقل عنها، وفي السيرة النبوية والشمائل والدلائل، مثل "سيرة ابن إسحاق"، و"سيرة ابن هشام"، و"دلائل النبوة" للبيهقي، ولأبي نُعَيْم، ولقوَّام السنة. ونقل عن ابن قتيبة من كتابه الذي لا يزال مخطوطًا وهو "أعلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التوراة والإنجيل"، وكذلك كتب الطبقات وتراجم الصحابة مثل "طبقات ابن سعد" و"الاستيعاب" لابن عبد البر، "والتاريخ الكبير" للبخاري، وكان __________ (1) انظر مثلًا: "أحكام أهل الذمة": (1/ 267 - 269) مع تعليق المحقق، "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان": (2/ 330 - 333). (2) انظر: "كشف الظنون": (2/ 2030)، "هدية العارفين" (2/ 158).
(المقدمة/58)
لكتب الأدب والشعر نصيب حيث استشهد بنصوص منها. كما اعتمد مجموعة من المصادر المتخصصة في موضوع البحث مثل "بذل المجهود في إفحام اليهود" للسموأل، وكتاب "بين الإسلام والمسيحية" لأبي عَبيدة الخزرجي، وكتاب "الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح" لشيخه ابن تيمية، وقد أفاد منه كثيرًا، ويبدو أنه كان واسطة للنقل عن كتاب "تاريخ ابن البطريق" فيما جاء عن النصرانية وتاريخها ومذاهبها والمجامع التي عقدوها. وأما النصوص التي نقلها عن "العهد القديم والجديد"، فهي تدل على أن ذلك من مصادره أيضًا. وقد يكون اعتمد على بعض المصادر فنقل عنها بالواسطة. والله أعلم. هذا، وقد أشرت في حواشي الكتاب إلى مواضع النقل من تلك المصادر سواء المطبوعة أو المخطوطة. صلة "هداية الحيارى" بكتاب "الجواب الصحيح": لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-كتاب ضخم هو "الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح"، كتبه ردًا على "الرسالة القبرصية" التي كتبها بولص الراهب أسقف صيدا الأنطاكي، وهو من أعظم الكتب في الجدل مع النصارى والردِّ على شبهاتهم، ونقض أصولهم المحرَّفة، وفي الدفاع عن الإسلام أمام هجوم النصارى. يقول فيه الشيخ محمد أبو زهرة -رحمه الله-: "جمع بين المناقشة الخصبة المنتجة؛ والعلم الصحيح العميق، فهو من ناحية: مرجع في بابه، وحقائق علمية صادقة عميقة؛ ومن ناحية أخرى: جدل ومناظرة جيدة محكمة عميقة ... وابن تيمية في هذا الكتاب مدافع، وليس بمهاجم؛ ولكنه -كدأبه في الجدل- يهدم حجة خصمه، ويفلّ سيفه الذي يشهره عليه، ثم يغير عليه في قوة
(المقدمة/59)
وشدة، وإن كانت مناقشته في هذا الكتاب هادئة في جملتها، ومهما يكن الباعث على الكتاب من ردِّ هجومهم، فقد كان في دفاعه مهاجمًا؛ لأن خير الدفاع ما كان هجومًا" (1). ويلتقي كتاب "الهداية" لابن القيم مع كتاب "الجواب الصحيح" لشيخه ابن تيمية، في أن كلًا منهما كتب للرد على ما أثاره بعض النصارى وما طعنوا به، وفي أن كلا الكتابين فيهما -مع الدفاع عن الإسلام- هجوم على المعتقدات الباطلة، وإقامة للحجة على أصحابها بطرق شرعية وعقلية وإلزامية. وبهذا اتفق موضوع الكتابين ومنهجهما العام. ولا ضير في أن يستفيد المصنف من كتاب شيخه في مواضع كثيرة من كتابه، وأن ينقل عنه بعض النصوص، وهذا واضح في مواضع كثيرة، ولكن هذا لا يعني أن "الهداية" مختصر من "الجواب الصحيح" أو تلخيص له، كما قد يتراءى لبعضهم، فإن في كلٍّ منهما مباحث ليست في الآخر، والدراسة المتأنية للكتابين تؤيد ذلك وتؤكده. هذا، ويبقى بعد ذلك: أن كل كتاب له شخصيته أو طابعه الذي يميزه، وأن كتابًا قد لا يغني عن كتاب، وإن كان يكمل ما فيه ويلتقي معه في مباحث كثيرة أو قليلة (2). والله أعلم. الطبعات السابقة للكتاب: حظي هذا الكتاب باهتمام الناشرين والباحثين، فبعد أن تعددت __________ (1) انظر: "ابن تيمية" للشيخ محمد أبو زهرة، ص (514 و 516). (2) انظر أيضًا: "هداية الحيارى" مقدمة الدكتور محمد أحمد الحاج، ص (163 - 165).
(المقدمة/60)
نسخه الخطية في مكتبات العالم بما يدل على الاهتمام والعناية به، وجدنا الاهتمام به أيضًا مع بداية حركة الطباعة. فقد طبع أولًا في الهند باسم "هداية الحيارى من اليهود والنصارى" ولم يعرف تاريخ طبعه، فيما أشار إليه كتاب "معجم المطبوعات العربية في شبه القارة الهندية". وطبع في مصر بمطبعة التقدم عام (1323 هـ) بهامش كتاب "الفارق بين المخلوق والخالق" وهي الطبعة التي صورتها دار الكتاب الإسلامي لإحياء التراث بمصر، دون تاريخ. كما طبع في العام نفسه طبعة مستقلة لأول مرة في مصر، ويذكر أنه طبع سنة 1333 هـ مستقلًا. وتوالت طبعاته، فطبع في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عام 1396 هـ، وطبع مع "مجموعة التوحيد" بمصر ثم الرياض، وفي عام 2003 م ثم طبعته مكتبة الفتح للإعلام العربي بالقاهرة، وفيها أيضًا طبعته المكتبة القيمة. ونشرته دار الكتب العلمية في بيروت عام 1415 هـ، وحققه أحمد حجازي السقا ونشرته المكتبة القيمة في القاهرة سنة (1399 هـ). وحققه محمد أحمد الحاج مع دراسة عن الكتاب ونال به درجة الدكتوراه من جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض، ونشرت هذه الرسالة دار القلم بدمشق في طبعتها الأولى 1416 هـ. وقد يكون هناك طبعات أخرى، وحسبنا الإشارة هنا إلى أنه ليس من غرضنا في هذه الفقرة استيعاب كل الطبعات ولا دراستها أو نقدها ونحو ذلك، فقد أدَّت دورًا طيبًا، وفيها أو في بعضها جهد مشكور، وعلى بعضها ملاحظات، ولا يخلو عمل علمي من ملاحظات أو مؤاخذات، أو من خلاف في وجهات النظر في التحقيق والإخراج.
(المقدمة/61)
النسخ الخطية للكتاب: أشار بروكلمان إلى النسخ الخطية للكتاب (1) فذكر أنه: مخطوط في ليدن (2024)، ويني جامع (761) وأياصوفيا (2243)، وجاريت (1518)، وبريل ثانٍ (976)، وتونس الزيتونة (4/ 436/ 291). وهناك مخطوطات أخرى لم يذكرها بروكلمان. والذي تحصّل من المخطوطات أثناء العمل على تحقيق الكتاب هو النسخ الآتية: أولًا: النسخة المحفوظة في مكتبة الحاج بشير آغا في استانبول (تركيا)، وهي برقم (413)، وقد أصبحت هذه المكتبة ضمن المكتبة السليمانية. وتقع في (154) ورقة، في كل ورقة (25) سطرًا، وفي أولها فهرس يقع في (4) ورقات، بخط نسخ جيد، والفهرس بخط فارسي، من خطوط سنة (1144 هـ). وفي صفحة العنوان تملك الحاج بشير آغا بتاريخ سنة (1151 هـ)، وختم المكتبة ورقم التصنيف وختم الوقفية. وبآخرها هذه العبارة: "تمَّ الكتاب بعون الله تعالى. الحمد لله على التمام، والصلاة والسلام على نبيه وأصحابه الكرام. سوَّده أضعف الأنام السيد عثمان القريمي ... سنة أربع وأربعين ومائة وألف". وقد رمزت لهذه النسخة بالحرف (غ). ثانيًا: نسخة مكتبة أيا صوفيا في إستانبول أيضًا، ورقمها (2223)، وتقع في (154) ورقة، في كل صفحة (25) سطرًا. وقبل صفحة العنوان __________ (1) "تاريخ الأدب العربي" القسم السادس، ص (421).
(المقدمة/62)
فهرس للفصول بصفحة واحدة، وهي بخط نسخ معتاد، وعلى صفحة العنوان أختام ووقفية السلطان محمود خان، وكاتبه أحمد شيخ زاده بأوقاف الحرمين الشريفين. وليس على النسخة اسم الناسخ ولا تاريخ النسخ، وتنتهي بهذه العبارة: "تم الكتاب بعون الملك الوهاب". وعلى هامشها استدراكات وتصحيحات. ورمزت لها بالحرف (ص). ثالثًا: نسخة مكتبة يني جامع (الجامع الجديد) في إستانبول أيضًا، وهي التي أشار إليها بروكلمان -كما سبق- وقد آلت جميع كتبها إلى المكتبة السليمانية بإستانبول، وهي تحمل الرقم (761)، وتقع في (194) ورقة، وقد كتبت بخط نسخ جيد، وفي بعض صفحاتها تعليقات أو تصويبات يسيرة. وكان الفراغ من كتابتها في التاسع والعشرين من شهر رمضان المبارك سنة (1066 هـ) على يد قاسم بن محمد الرومي بلدًا والمصري موطنًا. وعلى هذه النسخة أختام ووقفية. وقد رمزت لها بحرف (ج). رابعًا: نسخة مكتبة جامعة برنستون بأمريكا، وهي التي أشار إليها بروكلمان (جاريت - 1518). وتقع في (405) صفحة، وهي مكتوبة بخط الرقعة، وخطها جيد. وبهامشها وبين السطور بعض التعليقات وعزو نصوص العهد القديم والجديد لمواضعها، وتتضمن أيضًا فهرسًا لموضوعات الكتاب. وكان الفراغ من كتابتها ليلة الجمعة في 21 ربيع الأول سنة (1275 هـ)، وناسخها هو مصطفى رشدي بن أحمد فليوزي. ورمزت لهذه النسخة بالحرف (ب). خامسًا: نسخة دار الكتب المصرية بالقاهرة، ورقمها (21369 س)
(المقدمة/63)
في الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة، وتقع في (146) ورقة، وكتبت بخط نسخ جيد، دون تاريخ ولا اسم ناسخ. وفيها بعض التصويبات وشرح بعض الكلمات بحواشيها. ورمزت لها بالحرف (د). منهج التحقيق: وأما منهج التحقيق والعمل في هذه النشرة أو الطبعة للكتاب؛ فإنه يقوم على أصولٍ اتفق عليها علماء التحقيق، وخلاصة ذلك أن يبذل المحقق عناية خاصة بالمخطوط لتقديمه صحيحًا، كما وضعه مؤلِّفه. وتكاد كلمة المحققين والمعنيين بالتراث تُجمِع على أنَّ الجهود التي تبذل في كل مخطوط يجب أن تتناول تحقيق عنوان الكتاب، ثم تحقيق اسم المؤلف، ونسبة الكتاب إلى مؤلفه، ثم تحقيق متن الكتاب ونصِّه. وبذلك يفارق التحقيقُ الشرحَ والتعليق، وإن كان هذا الأمر قد اختلط على بعضهم فجعل التحقيق مجالًا واسعًا للشروحات والتعليقات والتعقبات الكثيرة. ولذلك انصرفت العناية إلى مقابلة النسخ الخطية للكتاب، وإثبات ما يراه المحقق صوابًا في المتن، ثم الإشارة إلى العبارات الأخرى المخالفة في الحواشي، وقد يخالف اجتهاد بعض القراء ذلك، وأظن الأمر يسيرًا في هذا، واتبعت في ذلك طريقة النص المختار، إذ ليس بين النسخ الخطية ما يصلح لاعتماده نسخة أصلية نعتبرها أمًا نقابل عليها سائر النسخ. ثم كان من المناسب ضبط كثير من الكلمات والنصوص، وتخريج الأحاديث الشريفة والآثار تخريجًا إجماليًا، مع الاقتصار على الصحيحين أو أحدهما إن كان الحديث فيهما. وأما النصوص التي نقلها
(المقدمة/64)
المصنف -رحمه الله- فقد أُعيدت إلى مصادرها المطبوعة أو المخطوطة، ما عدا جملة منها، لم نستطع الرجوع إلى أصلها المخطوط. وكان من المنهج الاختصار في التعليق أو الشرح إلا ما كان ضروريًا. وكذلك انصرفت العناية إلى طريقة توزيع النص وحُسْن تنسيقه، والاهتمام بعلامات الترقيم، والفهارس التي تيسِّر الإفادة من الكتاب. وهنا أخصّ بالشكر الجزيل الدكتور محمد أجمل الإصلاحي الذي قام بعمل جميع فهارس الكتاب (اللفظية والعلمية). وليس هذا بأفضل الممكن، ولكنه جهد المُقِلِّ، وقد يحتاج إلى مزيد من التحسين والتجويد والتصويب والتعديل، رغم ما بذله المحقق والمراجعون -جزاهم الله خيرًا- شأن كل عمل بشري. ولكل مجتهد نصيب. ويبقى أن أشير هنا إلى وجود الكثير من الكلمات أو العبارات باللغة العِبريّة ربما وقع فيها تحريف أو تصحيف لم يعرف وجه صوابه. أسأل الله تعالى أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه، موافقًا لشرعه، متقبلًا عنده. والحمد لله رب العالمين.
(المقدمة/65)
نماذج من المخطوطات
(المقدمة/67)
الورقة الأولى من نسخة بشير آغا (غ)
(المقدمة/69)
الورقة الأخيرة من نسخة بشير آغا (غ)
(المقدمة/70)
الورقة الأولى من نسخة أياصوفيا (ص)
(المقدمة/71)
الورقة الأخيرة من نسخة أياصوفيا (ص)
(المقدمة/72)
الورقة الأولى من نسخة يني جامع (ج)
(المقدمة/73)
الورقة الأخيرة من نسخة يني جامع (ج)
(المقدمة/74)
الورقة الأولى من نسخة برنستون (ب)
(المقدمة/75)
الورقة الأخيرة من نسخة برنستون (ب)
(المقدمة/76)
الورقة الأولى من نسخة دار الكتب المصرية (د)
(المقدمة/77)
الورقة الأخيرة من نسخة دار الكتب المصرية (د)
(المقدمة/78)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الحمدُ لله الذي رضي لنا الإسلام ديْنًا، ونصب لنا الدِّلالة على صحته برهانًا مبينًا، وأوضحَ السَّبيلَ إلى معرفته واعتقاده حقَّا يقينًا، ووعدَ منْ قام بأحكامه وحفظ حدودَهُ أجرًا جسيمًا، وذخر لمن وافاه به ثوابًا جزيلًا وفوزًا عظيمًا، وفرض علينا الانقياد له ولأحكامه، والتمسك بدعائمه وأركانه، والاعتصام بعراهُ وأسبابه. فهو دينُه الذي ارتضاه لنفسه ولأنبيائه ورسله وملائكة قدسه، فبه (2) اهتدى المهتدون، وإليه دعا الأنبياءُ والمرسلون (3). {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83]. فلا يقبل من أحد دينًا سواه من الأولين والآخرين: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]. شهد بأنَّه دينُه قَبْلَ شهادة الأنام، وأشادَ به (4) ورَفَعَ ذِكْرَهُ، وسمَّى به أهلَه وما اشتملت عليه الأرحامُ، فقال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 18، 19]. __________ (1) في "د" بعد البسملة: "وبه نستعين". (2) في "ب، ج": "فيه". (3) في "غ": "المرسلين". (4) "وأشاد به" ساقط من "ج".
(1/3)
وجعل أهلَه همُ الشهداءُ على النَّاس (1) يومَ يقومُ الأشهاد، لِمَا فضَّلهم به من الإصابة في القول والعمل والهَدْي والنيَّة والاعتقادِ، إذْ كانوا أحقَّ بذلك وأهلَه في سابق التقدير، فقال: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78]. وحَكَمَ -سبحانه- بأنَّه أحسنُ الأديانِ، ولا أحسنَ من حُكْمهِ ولا أصدقَ منه قِيلًا، فقال: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125]. وكيف لا يميِّز مَنْ له أدنى عقلٍ يرجع إليه بين دينٍ قام أساسُه وارتفع بناؤه على عبادةِ الرحمن، والعملِ بما يحبُّه ويرضاه مع الإخلاص في السِّر والإعلان، ومعاملةِ خلقه بما أَمَرَ به من العَدْلِ والإحسانِ، مع إيثارِ (2) طاعتهِ على طاعةِ الشيطان (3) . وبين دينٍ أُسِّس بُنيانُهُ على شَفَا جُرُفٍ هارٍ فانهار بصاحبه (4) في النَّار؛ أُسِّس على عبادة النِّيران، وعَقْدِ الشَّرِكَةِ بين الرَّحمنِ والشَّيطان، __________ (1) ساقط من "ج". (2) في "غ، ج، ب": "وإيثار". (3) في "غ": "السلطان". (4) في "ج": "بأصحابه".
(1/4)
وبينه وبين الأوثان (1) . أو دينٍ أُسِّس بنيانُه على عبادة الصُّلْبان والصُّوَر المدهونة في الشُقُوفِ والحيطان، وأنَّ ربَّ العالمين (2) نزل عن كرسى عظمته فالتَحَمَ بِبَطْنِ أنثى، وأقام هناك مدةً من الزمان، بين دم الطَّمْث في ظلمات الأحشاء تحت ملتقى الأعكان (3) ، ثم خرج صَبيًّا رضيعًا، يشبُّ شيئًا فشيئًا، ويبكي ويأكل ويشرب، ويبول وينام، ويَتقلَّب مع الصبيان، ثم أُوْدع في المكتب بين صبيان اليهود يتعلَّم ما ينبغي للإِنسان. هذا؛ وقد قُطِعَتْ منه القُلْفَةُ حين الختان، ثم جعل اليهودُ يطردونه ويشرِّدونه (4) من مكانٍ إلى مكان، ثم قبضوا عليه وأحَلُّوه أصناف الذلِّ والهَوَان، فعقدوا على رأسه من الشوك تاجًا من أقبح التيجان، وأركبوه قصبةً ليس لها لِجَامٌ ولا عِنَانٌ، ثم ساقوه إلى خشبة الصَّلْب مصفوعًا مبصوقًا في وجهه، وهم خَلْفَه وأمامَه وعن شمائله وعن الأيمان، ثم أركبوه ذلك المركب الذي تقشعرُّ منه القلوب مع الأبدان، ثم شُدَّت بالحبال يَداهُ والرِّجْلان (5) ، ثم خالطها (6) تلك المسامير التي تكسر __________ (1) في "ب": "الأديان". (2) في "غ": "وأن ربك رب .. ". وفي "ج، ب" زيادة: "جل جلاله وتنزهت صفاته عما قيل وما يقال من جميع الشهادات". (3) الأعْكان جمع عكنة، وتجمع أيضًا على "عُكَن". والعكنة: الطيُّ في البطن من السِّمَن. (4) في "غ": "يشددونه". (5) في "ب، ج، ص": "مع الرجلان". وفي "غ": "مع الرجال". (6) في "ب، ج، ص": "خالطهما".
(1/5)
العظام وتمزق اللُّحْمَانَ، وهو يستغيثُ: يا قومِ ارحَمُونِي! فلا يرحمُه منهم إنسانٌ. هذا؛ وهو مدبِّر (1) العالم العلويِّ والسفلي الذي يسأله مَنْ في السموات والأرض كلَّ يوم هو في شأن! ثم مات ودفن في التراب تحت صُمِّ الجَنَادل (2) والصَّوَّان، ثم قام من القبر، وصعد إلى عرشه ومُلكه (3) بعد أن كان ما كان. فما ظنك بفروع هذا أصلُها الذي قام عليه البنيان! أو دينٍ أُسِّس بنيانُه على عبادة الإله المنحوت (4) بالأيدي بعد نحت الأفكار من سائر أجناس الأرض (5) على اختلاف الأنواع والأصناف والألوان، والخضوع له والتذلل والخرور سجودًا على الأذقان، لا يؤمن مَنْ يدين به بالله ولا ملائكته، ولا كتبه ولا رسله، ولا لقائه يوم يجزى المسيء بإساءته والمحسن بِالإِحسان (6) . أو دين الأمَّة الغَضَبيَّة الذين انسلخوا من رضوان الله كانسلاخ الحيَّة من قِشرها (7) ، وبَاؤوا بالغَضَب والخِزْي (8) والهَوانِ، وفارَقُوا أحكاَمَ التوراةِ ونَبَذُوها وراءَ ظهورَهم، واشتروا بها القليل من __________ (1) في "ج": "يدير". (2) هي الحجارة العظيمة القاسية. والصوَّان: نوع من الحجارة الصلبة. (3) ساقط من "ج". (4) في "غ": "المصنوع المنحوت .. ". (5) ساقط من "غ". (6) في "ص": "بإحسانه". (7) في "ص": "فراها". (8) في "ج": "والحر".
(1/6)
الأثمان (1) ، فرحل عنهم التوفيقُ وقَارَنَهُمُ (2) الخِذْلاَنُ، واستبدلوا بولايةِ الله وملائكته ورسله وأوليائه ولايةَ الشيطان. أو دينٍ أُسِّس بنيانه على أنَّ ربَّ العالمين وجود مُطْلَقٌ في الأذهان، لا حقيقةَ له في الأعيان، ليس بداخلٍ في العَالَمِ ولا خارجٍ عنه، ولا متَّصل به ولا منفصلٍ عنه، ولا محايثٍ ولا مباينٍ له، ولا (3) يَسمع، ولا يَرى، ولا يعلم شيئًا من الموجودات ولا يفعل ما يشاء، لا حياة له، ولا قدرة، ولا إرادة، ولا اختيار، ولم يخلق السموات والأرض في ستة أيام، بل لم تزل السموات والأرض معه، وجودها مقارن لوجوده، لم يُحْدِثْها بعد عدمها، ولا له قدرة على إفنائها بعد وجودها، ما أنزل (4) على بشرٍ كتابًا، ولا أرسل إلى الناس رسولًا، فلا شرع يتبع، ولا رسول يطاع، ولا دار بعد هذه الدار، ولا مبدأ للعالم ولا معاد، ولا بعث ولا نشور، ولا جنة ولا نار، إن هي إلا تسعة أفلاك وعشرة عقول، وأربعة أركان وأفلاك تدور، ونجوم تسير، وأرحام تدفع، وأرض تبلع، و {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24]. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ضدَّ له ولا ندَّ له، ولا صاحبة له، ولا ولد له، ولا كفؤ له، تعالى عن إفك المبطلين، وخَرْص (5) __________ (1) في "غ": "الأيمان". (2) في "ج، غ، ص": "وقاربهم". (3) في "غ": "لا". (4) في "خ": "ما أنزل الله .. ". (5) في "ج، ب": "وخوض".
(1/7)
الكاذبين، وتقدَّس عن شرك المشركين، وأباطيل الملحدين. كَذَبَ العادلون به سواه، وضَلُّوا ضلالًا بعيدًا، وخسروا خسرانًا مبينًا: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) } [المؤمنون: 91، 92]. وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، وصفوتُه من خلقه وخِيرتُه من بَرِيَّتِه، وأمينُه على وَحْيهِ، وسفيرُه (1) بينه وبين عباده. ابتعثه بخير مِلَّة وأحسن شِرْعة، وأظهر دلالة وأوضح حُجَّة، وأبْيَنِ برهانٍ إلى جميع العالمين: إنسهم وجنَّهم، عَرَبهم وعَجَمِهم، حاضرِهم وبَادِيهم؛ الذي بشَّرتْ به الكتب السالفة، وأخبرتْ به الرُّسل الماضية، وجرى ذكره في الأعصار، في القرى والأمصار والأمم الخالية، ضُرِبَتْ لنبوَّتِهِ البشائرُ مِنْ عهد آدم أبي البشر، إلى عهد المسيح ابن البشر، كلَّما قام رسولٌ أُخذ عليه الميثاقُ بالإيمان به والبشارة بنبوَّته، حتى انتهت النبوَّةُ إلى كَلِيْم الرحمن، موسى بنِ عِمْرَانَ، فأذَّن بنبوَّته على رؤوس الأشهاد بين بني إسرائيل، مُعْلِنًا بالأذان: "جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران" (2) إلى أن ظهر المسيح ابن مريم، عبدُ الله ورسولُه، وروحُه وكلمتُه التي ألقاها إلى مريم فأذَّن بنبوَّته أذانًا لم يؤذّنْه أحدٌ مثلُه قَبْلَه (3) . فقام في بني إسرائيل مقامَ الصَّادق النَّاصح -وكانوا لا يُحبُّون __________ (1) في "غ": "وسفيرته". (2) سفر تثنية الاشتراع؛ فصل (33) فقرة (2). (3) في "غ": "قبلُ".
(1/8)
النَّاصحين- فقال: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصف: 6]. تالله لقد أذَّن المسيح أذانا سَمِعه (1) البادي والحاضر، فأجابه المؤمنُ المصدِّق، وقامت حُجَّةُ الله على الجاحد الكافر. الله أكبر الله أكبر عما يقول فيه المبطلون. ويصفه به الكاذبون، وينسبه إليه المفترون والجاحدون. ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا نِدَّ له ولا كُفْؤ له، ولا صاحبةَ له، ولا وَلَدَ له (2) ، بل هو الأحدُ الصَّمَدُ الذي لم يَلِدْ، ولم يُوْلَدْ، ولم يكن له كُفُوًا أحدٌ. ثم رفع صوته بالشهادة لأخيه وأَوْلى النَّاس به؛ بأنه عبد الله ورسوله، وأنه أركون (3) العالَم، وأنه روحُ الحق الذي لا يتكلم من قِبَل نَفْسهِ، إنما يقول ما يقال له، وأنه يخبر (4) الناس بكل ما أعدَّ الله لهم، ويسوسهم بالحق، ويخبرهم بالغيوب ويجيئهم بالتأويل، ويوبِّخ العالَم على الخطيئة، ويخلِّصهم من يد الشيطان، وتستمرّ شريعته وسلطانه إلى آخر الدَّهْر، وصرَّح في أذانه باسمه ونَعْتِه وصِفَتِه وسيرته حتى كأنهم ينظرون إليه عيانًا (5) . ثم قال حيَّ على الصلاةِ خلفَ إمام المرسلين وسيِّدِ ولد آدَمَ __________ (1) في "ص": "أسمعه"، وفي "ب": "أسمع". (2) في "ج، غ" زيادة: "ولا والد له". (3) في "ب": "أركان"، وفي "غ": "اركعون". والأركون هو العظيم. (4) في "غ": "يجيء". (5) انظر: العهد الجديد، يوحنا: 16/ 7 - 14.
(1/9)
أجمعين، حيَّ على الفلاح باتباع مَنِ السعادةُ في اتِّباعهِ، والفلاِحُ في الدخول في زمرة أشياعه، فأذَّن وأقام وتولَّى وقال: "لستُ أدَعُكم كالأيتام، وسأعود وأصلي وراء هذا الإمام، هذا عهدي إليكم، إنْ حفظتموه دام لكم المُلْكُ إلى آخر الأيام" (1) . فصلَّى اللهُ عليه منْ ناصع بشَّرَ برسالة أخيه -عليهما أفضل (2) الصلاة والسلام- وصدَّق به أخوه، ونزّهه عما قال فيه وفي أمِّه أعداؤه المغضوبُ عليهم من الإفك والباطل وزُوْرِ الكلام، كما نزَّه ربَّه وخالقه ومُرْسِلَه عمَّا قال فيه المثلِّثةُ عُبَّاد الصليب، ونسبوه إليه من النَّقْص والعَيْبِ والذّمِّ. أما بعد: فإنَّ الله -جلَّ ثناؤهُ وتقدَّست أسماؤه وتبارك اسمُه وتعالى جَدُّه ولا إله غيره- جعلَ الإسلامَ عصمةً لمن لجأ (3) إليه، وجُنَّةً لمن استمسك به وعضَّ بالنواجذ عليه، فهو حَرَمُه الذي مَنْ دخله كان من الآمنين، وحِصْنُهُ الذي من لجأ إليه كان من الفائزين، ومَنِ انقطع دونه كان من الهالكين، وأبى أن يقبل من أحد دينًا سواه -ولو بذل في المسير إليه جهده واستفرغ قواه (4) - فأظهره على الدِّين كلِّه حتى طبَّق مشارقَ الأرض ومغاربَها، وسار مَسِيْرَ الشَّمس في الأقطار، وبَلَغَ إلى حيث انتهى اللَّيلُ والنَّهار. __________ (1) انظر: يوحنا: 14/ 15 - 19. (2) ساقط من "ص". (3) في "ص": "يلجأ". (4) في "ب، ج": "قوله".
(1/10)
وعَلَتِ الدعوةُ الإسلاميَّة وارتفعت غايةَ الارتفاع والاعتلاء، بحيث صار أصلها ثابتًا، وفرعها في السماء، فتضاءلت لها جميع الأديان، وخَرَّت (1) تحتها الأممُ منقادةً بالخضوع والذلِّ والإذعانِ، ونادى المنادي بشعارها في جوِّ السماء بين الخافِقَيْن: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صارخًا بالشهادتين، حتى بطلت دعوة الشيطان، وتلاشت (2) عبادة الأوثان، واضمحلَّت عبادة النيران، وذل (3) المثلِّثة عُبَّاد الصُّلْبان، وتقطَّعت الأمةُ الغضبيَّة في الأرض كتقطُّع السَّراب في القِيْعَان. وصارت كلمة الإسلام العليا، وصار له في قلوب الخلائق المثل الأعلى، وقامتْ براهينُه وحججُه على سائر الأمم في الآخرة والأولى، وبلغت منزلتُه في العُلَى والرفعة (4) الغايةَ القُصْوى، وأقام لدولته (5) ومصطفيه أعوانًا وأنصارًا، نشروا ألويتَهُ وأعلامَهُ، وحفظوا من التغيير والتبديل حدودَهُ وأحكامَهُ، وبلَّغوا إلى نظرائهم -كما بلَّغ إليهم مَنْ قَبْلَهُم- حلالَه وحرامَهُ، فعظَّموا شعائره، وعلَّموا شرائعه، وجاهدوا أعداءه بالحجة والبيان حتى اسْتَغْلَظَ وَاسْتَوَى على سُوْقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ ويَغِيظُ الكُفَّارَ. وعلا بنيانُه المؤسَّسُ على تقوى من الله ورضوان، إذْ (6) كان بناء __________ (1) في "ب، غ، ص": "وجرت". (2) في "غ": "تداشت". (3) بهامش "ب" عن نسخة أخرى: "وذلت". (4) في "ب، ج، غ": "العلو والدفعة". (5) في "ب، ج": "له وإليه". (6) في "ب": "إذا".
(1/11)
غيره مؤسَّسًا على شفا جُرُفٍ هارٍ، فتبارك الذي رفع منزلته، وأعلى كلمتَه، وفخَم شأنَه، وأشاد بنيانَه، وأذلَّ مُخَالفيه ومُعَانديه، وكَبَتَ من يُبْغِضه ويُعادِيه، ووسمهم بأنَّهم شَرُّ الدوابِّ، وأعدَّ لهم -إذا قدموا عليه- أليمَ العقاب (1) ، وحكم لهم بأنهم أضلُّ سبيلًا من الأنعام، إذِ استبدلوا الشركَ بالتوحيد، والضلالَ بالهدى، والكفرَ بالإسلام، وحكم -سبحانه- لعلماء الكفر وعباده حكمًا يشهد ذوو العقول بصحته ويرونه شيئًا حسنًا، فقال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا} [الكهف: 103 - 106]. فصل (2) فأين يذهب مَنْ تولَّى عن توحيد ربّه وطاعته، ولم يرفع رأسًا بأمره ودعوته، وكذَّب رسولَه وأعرضَ عن متابعته، وحادَ عن شريعته، ورَغِبَ عن ملَّتِه واتَّبع غير سُنَّتِه، ولم يستمسك (3) بعهده، ومكَّن الجهلَ من نفسه، والهوى والعنادَ من قلبِه، والجحودَ والكفرَ مِنْ صَدْرهِ، والعصيانَ والمخالفةَ مِنْ جوارحه، فقد قابل خبر الله بالتكذيب، وأمْرَهُ بالعصيان، ونهيَه بالارتكاب، يَغْضَبُ الربُّ وهو راضٍ، ويرضى وهو غضبان، يحبُّ ما يبغض، ويبغض ما يحبُّ، ويوالي من يعاديه، ويعادي من __________ (1) في هامش "ب": "العذاب". (2) زيادة في "غ، وب". (3) في "ج": "يتمسك".
(1/12)
يواليه (1) ، يدعو إلى خلاف ما يرضى، وينهى عبدًا إذا صلَّى، قد اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ، وَأَضَلهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ فأصمَّه وأبكمه وأعماه، فهو ميِّت الدارين، فاقد السَّعادتين، قد رضي بخزي الدنيا وعذاب الآخرة، وباع التجارة الرابحة بالصفقة الخاسرة (2) ؛ فقَلْبُه عن ربه مصدود (3) ، وسبيل الوصول إلى جنته ورضاه وقربه عنه مسدود، فهو وليُّ الشيطان وعدوُّ الرَّحمن، وحليف الكفر والفسوق والعصيان. رضي المسلمون بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمدِ رسولًا، ورضي المخذولُ بالصَّليب والوثنِ إلهًا، وبالتَّثليث والكفر دِيْنًا، وبسبيل الضَّلال والغضب سبيلًا. أَعصى النَّاس للخالق الذي لا سعادة له إلا في طاعته، وأَطْوَعُهم للمخلوق الذي ذهاب دنياه وأخراه في طاعته، فإذا سُئِل في قبره: من ربُّك وما دينُك ومن نبيُّك؟ قال: آه، آه، لا أدري. فيقال: لا دَرَيْتَ، ولا تَلَيْتَ، وعلى ذلك حَييْتَ، وعليه متَّ وعليه (4) تُبْعثُ إن شاء الله تعالى. ثم يُضْرَمُ عليه قبرُه ناَرًا، ويضيق عليه كالزُّجِّ في الرُّمح إلى قيام الساعة (5) . __________ (1) في "ص": "يوليه". (2) في "ب": "مخاسرة" وفي هامشها: "الخاسرة". (3) في "ب": "لصدود". وصححت في الهامش. (4) ساقط من "غ". (5) إشارة إلى أحاديث نبوية واردة في ذلك، أخرجها البخاري في الجنائز، باب عذاب القبر: 3/ 232، ومسلم في الجنة وصفتها: 4/ 2200، وأبو داود في السنة، باب المسألة في القبر: 7/ 139، والترمذي في الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر: 4/ 181، وغيرهم.
(1/13)
فإذا بعثر (1) ما في القبور وحُصِّل ما في الصُّدور (2)، وقام الناس لربِّ العالمين، ونادى المنادي: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس: 59]. ثم رفع لكل عابد (معبوده الذي كان) (3) يعبده ويهواه، وقال الربُّ تعالى وقد أنصت له الخلائق: أليس عدلًا مني أن أولِّي كلَّ إنسان منكم ما كان في الدنيا يتولاه؟ = فهناك يعلم المشرك حقيقة ما كان عليه، ويتبين (4) له سوء منقلبه وما صار إليه، ويعلم الكفار أنهم لم يكونوا أولياءه، إنْ أولياؤه إلا المتقون {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105]. فصل ولما بعث الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - كان أهل الأرض صنفين: أَهْلُ كتابٍ (5)، وزنادقة (6) لا كتاب لهم، وكان أهلُ الكتاب أفضلَ الصِّنْفَيْن، وهم نوعان: مغضوبٌ عليهم وضالُّون. __________ (1) في "ج، ب": "بعث". (2) في "ج، ب" زيادة: "وإن ربهم بهم يومئذ لخبير". (3) في "ج، ب": "ما كان .. ". (4) في "غ": "ويبين". (5) في "ب، غ، ج": "الكتاب". (6) في "غ": "زنادق". وأصل الزندقة هو القول بأزلية العالم. وأطلقت على الزرادشتية والمانوية وغيرهم من الثنوية، ثم أطلقت على كل شاكٍّ أو ضال أو ملحد. والزنديق أيضًا: الذي لا يؤمن بالآخرة ولا بوحدانية الخالق. انظر: "لسان العرب": 1/ 147، "المصباح المنير": 1/ 256.
(1/14)
فالصنف الأول: الأمة (1) الغضبيَّة، هم "اليهود"، أهلُ الكذب والبَهْتِ والغَدْر والمَكْر والحِيَل، قَتَلَةُ الأنبياءِ وأَكَلَةُ السُّحْت -وهو الربا والرِّشا- أخبثُ الأمم طويَّةً، وأرداهم سجيَّةً، وأَبْعَدُهُمْ مِنَ الرحمة، وأقربُهم من النِّقمة (2) ، عادتُهم البغضاء، ودَيْدَنُهم (3) العداوةُ والشحناء، بيت السِّحْر والكذب والحِيَل، لا يرون لمن خالفهم في كفرهم وتكذيبهم الأنبياءَ حرمةً، ولا يَرْقُبون في مؤمن إلًّا ولا ذِمَّةً. ولا لمن وافقهم عندهم حقٌّ ولا شفقةٌ، (ولا لمن شاركهم عندهم عدلٌ ولا نَصَفَة) (4) ولا لمن خالطهم طمأنينة ولا أمَنَة، ولا لمن استعملهم عندهم نصيحة. بل أخبثهم أعقلهم، وأحذقهم أغشُّهم، وسليم الناصية (5) -وحاشاه أن يوجد بينهم- ليس بيهوديٍّ على الحقيقة، أضيق الخلق صدورًا، وأظلمهم بيوتًا، وأنتنهم أفنيةً، وأوحشهم سجيةً (6) ، تحيَّتُهم لعنةٌ ولقاؤهم طِيَرَةٌ، شِعَارُهُم الغَضَبُ ودِثَارُهُم المَقْتُ. فصل والصنف الثاني المثلِّثة: أمةُ الضَّلال وعُبَّاد الصَّليب، الذين سَبُّوا الله الخالق مَسَبَّةً ما سَبَّهُ إيَّاها أحدٌ من البشر، ولم يُقِرُّوا بأنَّه الواحدُ الأحَدُ الفرد الصَّمَدُ، الذي لم يلد ولم يُوْلَدْ ولم يكن له كُفُوًا أحد، ولم يجعلوه __________ (1) في "ب، ج، غ": "فالأمة" وليس فيها: "فالصنف الأول". (2) تصحفت في "غ" إلى: "النعمة". (3) في "غ، ص": "دينهم". (4) ساقط من "غ". (5) في "ب، ج، غ": "الناحية". (6) في "غ": "شحنة" وفي "ب": "سحنة".
(1/15)
أكبر من كل شيء، بل قالوا فيه ما {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم: 90]. فقل ما شئت في طائفةٍ أصلُ عقيدتها أنَّ الله ثالث ثلاثة، وأنَّ مريم صاحبته، وأنَّ المسيح ابنُه، وأنَّه نزل عن كرسيِّ عظمته، والتحم ببطن الصَّاحبة، وجرى له ما جرى إلى أن قُتِلَ وماتَ ودُفِنَ؛ فدينُها (1) عبادةُ الصُّلْبَانِ، ودعاءُ الصور المنقوشة بالأحمر والأصفر في الحيطان، يقولون في دعائهم: يا والدة الإله ارزقينا، واغفري لنا وارحمينا. فدينُهم شُرْبُ الخمورِ وأكلُ الخنزير، وتَرْكُ الختان، والتَّعبُّدُ بالنجاسات، واستباحةُ كلِّ خبيثٍ من الفيل إلى البعوضة. والحلالُ ما حلَّله القَسُّ (2) والحرام ما حرَّمه، والدِّينُ ما شرعه، وهو الذي يغفر لهم الذنوب، وينجِّيهم من عذاب السعير. فصل فهذا حال من له كتاب؛ وأمَّا مَنْ لا كتاب له: فهو بين عابد (أوثان، وعابد) (3) نيران، وعابد شيطان، وصابئٍ حيران، يجمعهم الشِّركُ وتكذيبُ الرُّسل، وتعطيلُ الشَّرائع، وإنكارُ المعادِ وحشرِ الأجسادِ، لا يدينون للخالق بدين، ولا يعبدونه مع العابدين، ولا يوحِّدونه مع الموحِّدين. __________ (1) في "ب": "فَدِيَتُها". (2) ساقط من "ص". والقَسّ والقسِّيس: عالم النصارى ورئيسهم في الدين، وهو الآن في مرتبة بين الأسقف والشمَّاس، وجمعه: قساوسة وقساقِسة وقسِّيسون. (3) ساقط من "غ".
(1/16)
وأُمَّةُ المَجُوسِ منهم؛ تستفرش (1) الأمَّهات والبنات والأخوات -دَعِ (2) العَمَّاتِ والخالات- دينُهم الزَّمْر، وطعامُهم الميتة، وشرابهم الخمَر، ومعبودهم النَّار، ووليُّهم الشيطان، فهم أخبثُ بني آدم نِحْلةً، وأرداهم مذهبًا، وأسْوَؤهُم اعتقادًا. وأما زنادقة الصَّابئَةِ ومَلَاحِدَةُ الفلاسفة؛ فلا يؤمنون بالله ولا ملائكته ولا كتبه ولا رسله ولَا لقائه، ولا يؤمنون بمبدأ ولا معاد، وليس للعالَم عندهم ربٌّ فَعَّال (3) بالاختيار لما يريد قادرٌ على كلِّ شيء، عالمٌ بكلِّ شيء، آمرٌ ناهٍ، مُرْسِلُ الرُّسل، ومنزل الكتب، ومثيب المحسن، ومعاقب المسيء، وليس عند نظارهم إِلا تسعة أفلاك، وعشرة عقول، وأربعة أركان، وسلسلة ترتبت فيها الموجودات، هي بسلسلة المجانين أشْبَهُ منها بمجوزات العقول. وبالجملة: فدينُ الحنيفيَّة -الذي لا دين لله غيره بين هذه الأديان الباطلة التي لا دين في الأرض غيرها- أخفى من السُّهَا (4) تحت السَّحاب. وقد نظر الله إلى أهل الأرض فَمَقَتَهُمْ عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب (5) . فأطْلَعَ اللهُ شمسَ الرسالة في حَنَادِسِ (6) تلك الظُّلَم __________ (1) في "ب، ص": "يستخرش". (2) في "ب، ج": "والعمات". (3) تصحفت في "غ" إلى: "فقال". (4) كوكب صغير خفي الضوء، يمتحن به الناس أبصارهم. (5) جزء من حديث أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها برقم (2865): 4/ 2197 - 2198. (6) تحندسَ الليلُ: أظلم. والحِنْدسِ: الليلِ الشديد الظلمة. والحنادس تطلق على =
(1/17)
سراجًا منيرًا، وأنْعَمَ بها على أهل الأرض نعمةً لا يستطيعون لها شُكورًا، وأشرقتِ الأرضُ بنورها أكْمَلَ الإشراق، وفاض ذلك النور (1) حتى عمَّ النواحيَ والآفاق، واتَّسَقَ قمر الهدى أتَمَّ الاتِّساق، وقام دين الله الحنيفُ (2) على ساق. فلله الحمدُ الذي أنقذَنَا بمحمَّدِ - صلى الله عليه وسلم - من تلك الظُّلمات، وفتح لنا به باب الهدى فلا يُغْلَق إلى يوم الميقات، وأرانا في نوره أهْلَ الضلال وهم في ضلالهم يتخبَّطون، وفي سكرتهم يَعْمَهُونَ وفي جهالتهم يتقلَّبون، وفي رَيْبِهم يتردَّدُون، يؤمنون: (ولكن بالجبت والطاغوت يؤمنون) (3) ، ويعدلون: ولكن بربِّهم يعدلون، ويعلمونَ، ولكن: ظاهرًا من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون، ويسجدون، ولكن للصَّليب والوثن والشمس (4) يسجدون، ويمكرون وما يمكرون إلَّا بأنفسهم وما يشعرون. {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]. {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 151]. __________ = ثلاث ليالٍ مظلمة من آخر كل شهر. (1) ساقط من "ب، غ". (2) في "غ": "الخفيف". (3) ما بين القوسين ساقط من "غ". (4) في "ص، ج": "للشمس".
(1/18)
والحمد لله الذي أغنانا بشريعتهِ التي تدعو إلى الحكمة والموعظة الحسنة، وتتضمن الأمْرَ بالعدل والإحسان، والنهيَ عن الفحشاء والمنكر والبغي، فله المِنَّةُ والفضل على ما أنعم به علينا وآثَرَنا به على سائر الأمم، وإليه الرغبة أن يُوزِعَنَا شُكْرَ هذه النعمة، وأنْ يفتحَ لنا أبواب التَّوبةِ والمغفرةِ والرَّحمة. فأحبُّ الوسائل إلى المحسن (1) التوسُّلُ إليه بإحسانه، والاعترافُ له بأنَّ الأمر كلَّه محضُ فضلِه وامتنانهِ. فله علينا النِّعمة السَّابغةُ (2) كما له علينا الحُجَّةُ البالغة، نبوءُ بنعَمِهِ علينا، ونبوء بذنوبنا وخطايانا وجَهْلِنا وظُلْمِنا وإسْرَافِنا في أمرنا؛ فهذه بضاعتنا التي لدينا، لم تُبْقِ (3) لنا نِعَمُه وحقوقُها وذنُوبنا حسنة (نرجو بها) (4) الفوزَ بالثَّواب والتخلُّصَ من أليم العقاب. بل بعض ذلك يستنفِدُ (5) جميع حسناتنا، ويستوعبُ كلَّ طاعتنا (6) . هذا لو خلصت من الشوائب، وكانت خالصةً لوجهه، واقعةً على وَفْقِ أمره (7) ، وما هو والله إلا التعلُّقُ بأذيال عفوه وحُسْنُ الظنِّ به، واللجوء (8) منه إليه، والاستعاذةُ __________ (1) في "غ"، "أتى الحَسَن". (2) في "غ": "السابقة". (3) في "ب، ص": "يبق". (4) في "ب، ص": "يزكو لها". (5) في "ب": "يستنقذ" ثم صححت بالهامش. (6) في "ج، ص": "طاعاتنا". (7) في "ب": "مراده" تصحيحًا بين السطرين. (8) في "ب، غ، ج": "اللَّجأ .. ".
(1/19)
به منه والاستكانة والتذلُل بين يديه، ومدُّ يد الفاقة والمَسْكَنَةِ إليه، بالسؤال والافتقار إليه في جميع الأحوال. فمَنْ أصابته نفحةٌ من نَفَحَاتِ رحمته، أو وَقَعتْ عليه نظرةٌ من نظرات رأفته: انتعشَ من بين الأموات، وأَنَاخَتْ بفنائِهِ وفودُ الخيرات، وترحَّلت (1) عنه جيوش الهموم والغموم والحسرات. وإذا نَظَرْتَ إليَّ نَظْرَةَ رَاحِمٍ ... في الدَّهْرِ يومًا إنَّني لَسَعِيْدُ فصل ومن بعض حقوقِ الله على عبده رَدُّ الطَّاعنين على كتابه ورسوله ودينه ومجاهدتهم بالحُجَّةِ والبيانِ، والسَّيف والسِّنَانِ، والقلبِ والجنانِ، وليس وراء ذلك حبَّة خَرْدَلٍ من الإيمان (2). وكان انتهى إلينا مسائل، أوردها بعض الكفَّار الملحدين على بعض المسلمين، فلم يصادف عنده ما يَشْفِيهِ، ولا وقع دواؤه على الدَّاء الذي فيه، وظن المسلمُ أنَّه (بضربه يداويه) (3)، فَسَطا به ضربًا وقال: هذا هو الجواب! فقال الكافر: صدق أصحابنا في قولهم: إنَّ دين الإسلام إنما قام بالسيف لا بالكتاب. __________ (1) في "ص، د": "ترجلت" بالمعجمة. (2) ساقط من "ج". (3) في "غ": "يطهره به برواية". وفي "ب": "يضره به بدوائه".
(1/20)
فتفرَّقا وهذا ضارب، وهذا مضروب، وضاعتِ الحُجَّةُ بين الطَّالب والمطلوب. فشمَّر (1) المجيب ساعد (2) العَزْم، ونهض على ساق الجدِّ، وقام لله قيامَ مستعينِ به، مفوِّضٍ إليه، مُتكلِ (3) عليه في موافقة مرضاته، ولم يَقُلْ مقالةَ العجزة الجهَّال: إنَّ الكفار إنما يُعَامَلُون بالجلاَد دون الجدَال. وهذا فرارٌ من الزحف، وإخلادٌ إِلى العجز والضعَف و (قد أمَر الله بمجادلة) (4) الكفار بعد دعوتهم إقامةَ للحُجَّة وإزاحةً للعذر {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42]. والسَّيفُ إنما جاء مُنَفذًا للحُجَّة، مقوّمًا للمُعَانِد (5) ، وحدًّا للجاحد، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25]. فدينُ الإسلام قام بالكتاب الهادي، ونفَّذه السَّيفُ الماضي (6) . __________ (1) تحرفت في "غ" إلى: "فثمَّن". (2) في "ج": "ساعة" (3) في "غ": "متوكل". (4) في "غ، ص، ب": "فمجادلة". وبهامش "ب" أيضًا: "وقد أمر ... ". (5) تحرفت في "ج" إلى: "للعابد". (6) في "ج، ب، غ": "الناصر".
(1/21)
فَمَا هُوَ إلَّا الوَحْيُ أَوْ حَدُّ مُرْهَفٍ ... يُقِيْمُ ضُباهُ (1) أَخْدَعَي كلِّ مَائِلِ فَهذَا شِفَاءُ الدَّاءِ مِنْ كُلِّ عَاقلٍ ... وهذا دَوَاءُ الدَّاءِ مِنْ كُلِّ جَاهِلِ (2) وإلى الله الرَّغبة في التوفيق، فإنَّه الفاتح من الخير أبوابَهُ، والميسِّر له أسبابه. (وقد وضعت هذا الكتاب) (3)، وسميته: "هداية الحيارى (4) في أجوبة اليهود والنصارى". وقسمته قسمين: (القسم الأول) في أجوبة المسائل. (القسم الثاني) في تقرير نبوة محمد (5) - صلى الله عليه وسلم - بجميع أنواع الدلائل. فجاء -بحمد الله ومَنِّه وتوفيقه- كتابًا مُمْتِعًا مُعْجِبًا، لا يسأمُ قارِيه، ولا يَمَلُّ النَّاظر فيه؛ فهو كتابٌ يصلح للدُّنيا والآخرة، ولزيادة الإيمان، ولذة الإنسان، يعطيك ما شئتَ من أعلام النبوَّة وبراهين الرسالة، وبشارات الأنبياء بخاتمهم (6)، واستخراجِ اسمه الصَّريح من كتبهم، وذِكْرِ نعتِه وصفته وسيرتِه من كتبهم، والتمييزِ بين صحيح الأديان __________ (1) في "ج، ب، غ": "ضياؤه". (2) البيتان لأبي تمام في ديوانه: 2/ 42. (3) ساقط من "ج، ب، غ". (4) في "غ": "الخيارى" بالخاء المعجمة. (5) في "د": "سيدنا ومولانا محمد .. ". (6) في "غ": "بخاتمتهم".
(1/22)
وفاسدِها، وكيفيَّة فسادِها بعد استقامتها، وجملةً من فضائح أهل الكتابَيْن، وما هم عليه، وأنهم أعظم النَّاس براءةً من أنبيائهم، وأنَّ نصوص أنبيائهم تشهد بكفرهم وضلالهم، وغير ذلك من نُكَتٍ بديعة لا توجد في سواه. والله المستعانُ وعليه التُّكْلانُ، فهو حَسْبُنَا ونِعْمَ الوكيلُ.
(1/23)
القسم الأول أجوبة المسائل
(1/25)
فنقول: (أمَّا المسألة الأُولى) وهي قول السائل: (قد اشتهر عندكم بأنَّ أهل الكتابَيْن ما مَنَعَهُمْ من الدُّخول في الإسلام إِلَّا الرِّيَاسةُ والمَأْكَلَةُ لا غير) = فكلامُ جاهلٍ بما عند المسلمين (وبما عند الكفَّار) (1). أمَّا المسلمون؛ فلم يقولوا: إنَّه لم يمنعْ أهلَ الكتاب مِنَ الدُّخول في الإسلام إلا الرِّياسةُ والمأكلة لا غير. وإن قال هذا بعضُ عوامِّهم، فلا يلزم جماعتَهم. والممتنعون (2) من الدخول في الإسلام من أهل الكتابين وغيرهم جزءٌ يسير جدًّا بالإضافة إلى الدَّاخلين فيه منهم، بل أكثر الأُمم دخلوا في الإسلام طوعًا ورَغْبَةً واختيارًا، لا كرهًا ولا اضطرارًا، فإن الله -سبحانه وتعالى- بعث محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رسولًا إلى أهل الأرض، وهم خمسة أصناف، قد طبقوا الأرض: يهود، ونصارى، ومَجُوسٌ، وصَابِئَة (3)، ومشركون. وهذه الأصناف هي التي كانت قد استولت على الدنيا من مشارقها إلى مغاربها. فأمَّا اليهود؛ فأكثر ما كانوا باليمن وخَيْبَر والمدينةِ وما حولها، وكانوا بأطراف الشام مُسْتَذَلِّين مع النَّصارى، (وكان منهم بأرض فارس فرقة مستذلَّة مع المجوس) (4)، وكان منهم بأرض المغرب (5) فِرْقَةٌ، وأعزَّ ما كانوا بالمدينة وخيبر، وكأن الله سبحانه قد قطَّعهم في الأرض __________ (1) في "ج": "والكفار". (2) في "غ": "والمنتفعون". (3) في "ب": "صابئية". (4) ساقط من "غ". (5) في "غ": "الغرب" وفي "ص": "العرب".
(1/27)
أُممًا وسلبهم المُلْكَ والعِزَّ. وأمَّا النصارى؛ فكانوا طَبَقَ (1) الأرض؛ فكانت الشَّام كلُّها نصارى، وأرضُ المغرب كان الغالب عليهم النصارى، وكذلك أرض مِصْرَ، والحَبَشَةِ، والنُّوْبَةِ، والجزيرة، والمَوْصِل، وأرضِ نَجْرَانَ وغيرها من البلاد. وأما المجوس؛ فهم أهل مملكة فارس وما اتَّصل بها. وأمَّا الصَّابِئَةُ (2) ؛ فأهلُ حَرَّانَ، وكثيرٌ من بلاد الروم. وأما المشركون؛ فجزيرةُ العربِ جميعُها، وبلادُ الهندِ، وبلاد التُّرك وما جاورها. وأديان أهل الأرض لا تخرج عن هذه الأديان الخمسة. ودينُ الحُنَفَاءِ لا يعرف فيهم البتَّة. وهذه الأديان الخمسة كلُّها للشيطان، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره: الأديان ستة، واحد للرحمن، وخمسة للشيطان (3) . وهذه الأديان الستة مذكورةٌ في آية الفصل، في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ __________ (1) في "غ": "أطبق". (2) في "ب": "الصابئية". (3) انظر: "تفسير الطبري": (9/ 120) (طبعة دار الكتب العلمية)، وقال السيوطي في "الدر المنثور": (6/ 16): "أخرجه عبد بن حميد، وابن المنذر، عن قتادة".
(1/28)
أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج: 17]. فلما بعث الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - استجاب له، ولخلفائه بعده، أكثرُ أهل (1) الأديان طوعًا واختيارًا، ولم يُكْرِه أحدًا قط على الدين، وإنما كان (يقاتل من يحاربه ويقاتله، وأما من سالمه وهادنه: فلم) (2) يقاتله ولم يُكْرِهْهُ على الدخول في دينه، امتثالًا لأمر ربِّه -سبحانه- حيث يقول: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]. وهذا نفيٌ في معنى النهي، أي لا تكْرِهُوا أحدًا على الدِّين. نزلت هذه الآية في رجال من الصحابة كان لهم أولاد قد تهوَّدوا وتنصَّروا (3) قبل الإسلام، فلما جاء الإسلام أسْلَمَ الآباءُ وأرادوا إكراهَ الأولاد على الدِّين، فنهاهم اللهُ -سبحانه- عن ذلك حتى يكونوا هم الذين يختارون الدخول في الإسلام (4) . والصحيح أَنَّ الآية على عمومها في حقِّ كلِّ كافرٍ. وهذا ظاهرٌ على قول من يجوِّز أخْذَ الجزية من جميع الكفار، فلا يُكْرَهُونَ على الدخول في الدِّين، بل إمَّا أن يدخلوا في الدين، وإما أن يُعْطُوا الجزية، كما يقوله أهل العراق وأهل المدينة، وإن استثنى هؤلاء بعضَ عَبَدَةِ الأوثان. __________ (1) ساقط من "ج، ب". (2) ساقط من "غ". (3) في "غ": "أو تنصروا". (4) انظر الروايات في: "سنن أبي داود"؛ كتاب الجهاد، باب الأسير يكره على الاسلام: (4/ 20)، "تفسير الطبري": (5/ 409 - 410)، "تفسير البغوي": (1/ 271 - 272)، "تفسير النسائي": (1/ 273 - 276).
(1/29)
ومَنْ تأمَّل سيرة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - تبيَّن له أنه لم يُكْرِهْ أحدًا على دينه قط، وأنه إنما قاتل من قاتله. وأما من هَادَنَهُ: فلم يُقاتِلْه مادام مقيمًا على هدنته لم ينقض عهده، بل أمره الله تعالى أن يَفيَ لهم بعهدهم (1) ما استقاموا له، كما قال تعالى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة: 7]. ولما قَدِمَ المدينةَ صالح اليهودَ، وأقرَّهم على دينهم، فلما حاربوه ونقضوا عهده وبدؤوه بالقتال قاتلهم؛ فمنَّ على بعضهم، وأجلى بعضَهم، وقتل بعضهم (2) . وكذلك لما هادن قريشًا عشر سنين لم يبدأهم بقتالٍ حتى بدؤوا هم بقتاله ونقضوا عهده، فعند ذلك غزاهم في ديارهم (3) . وكانوا هم يغزونه قبل ذلك، كما قصدوه يوم أُحُدٍ، ويوم الخَنْدَقِ، ويوم بَدْرٍ أيضًا، هم جاؤوا لقتاله، ولو انصرفوا عنه لم يقاتلهم. والمقصود: أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يُكْرِهْ أحدًا على الدخول في دينه البتة، وإنما دخل الناسُ في دينه اختيارًا وطوعًا؛ فأكثر أهل الأرض دخلوا في دعوته لما تبيَّنَ لهم الهدى وأنَّه رسولُ الله حقًّا. فهؤلاء أهل اليمن، كانوا على دين اليهوديَّة أو أكثرهم، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذٍ لمَّا بعثه إلى اليمن: "إنك ستأتي قومًا أهل كتاب فليكنْ __________ (1) في "غ": "بعدهم". (2) انظر الروايات في: "صحيح البخاري": (6/ 329)، "صحيح مسلم" (3/ 1387 - 1388)، "أنساب الأشراف" للبلاذري: (1/ 286). (3) انظر: "صحيح البخاري": (5/ 312) و (329 - 333)، "صحيح مسلم": (3/ 1409 - 1413)، "مسند الإمام أحمد": (4/ 322 - 326).
(1/30)
أوَّلَ ما تدعوهم إليه شهادةُ أن لا إله إلا الله" وذكر الحديث (1) . ثم دخلوا في الإسلام من غير رغبة ولا رهبة. وكذلك مَنْ أسلم من يهود المدينة، وهم جماعة كثيرون غير عبد الله (بن سلام) (2) مذكورون في كتب السِّيَر والمغازي؛ لم يُسْلِموا رغبةً في الدنيا، ولا رهبةً من السيف، بل أسلموا في حال حاجة المسلمين وكثرة أعدائهم ومحاربة أهل الأرض لهم من غير سَوْطٍ ولا نَوْطٍ (3) ؛ بل تحملوا معاداة أقربائهم وحرمانهم نفعهم بالمال والبدن مع ضعف (4) شوكة المسلمين وقلة (5) ذات أيديهم، فكان أحدهم يعادي أباه وأمه وأهل بيته وعشيرته، ويخرج من الدنيا رغبة في الإسلام (6) لا لرياسة ولا مال، بل ينخلع من الرياسة والمال ويتحمل أذى الكفار؛ مِنْ ضربهم وشتمهم وصنوف أذاهم، ولا يصرفه ذلك عن دينه. فإنْ كان كثير من الأحبار والرُّهْبَان والقِسِّيسِينَ ومَنْ ذكره هذا السائل قد اختاروا الكفر = فقد أسلم جمهور أهل الأَرض من فِرَقِ الكفَّار ولم يَبْقَ إلا الأقلُّ بالنسبة إلى من أسلم. __________ (1) قطعة من حديث أخرجه البخاري في المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن: (8/ 64)، ومسلم في الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين برقم (109): (1/ 439). (2) ساقط من "غ". (3) من غير ضربٍ لهم ولا تعليق. (4) ساقط من "ب، غ". (5) في "ج": "مع قلة". (6) في "ب، ج": "دين الإسلام".
(1/31)
فهؤلاء نصارى الشام كانوا ملء (1) الشام ثم صاروا مسلمين إلا النادر، فصاروا في المسلمين كالشعرة السوداء في الثور الأبيض. وكذلك المجوس كانت أمةً لا يُحْصِي (2) عدَدَهُمْ إلا الله فأطبقوا على الإسلام لم يتخلَّفْ منهم إلا النادر، وصارت بلادهم بلاد إسلام، وصار مَنْ لم يُسْلِم منهم تحت الجزية والذلة (3) . وكذلك اليهود أسلم أكثرهم ولم يَبْقَ منهم إلا شِرْذِمَةٌ قليلة مقطَّعة في البلاد. فقول هذا الجاهل؛ (إن هاتين الأمتين لا يحصي عددهم إلا الله كفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -) = كذبٌ ظاهر وبَهْتٌ مبين، حتى لو كانوا كلُّهم قد أجمعوا على اختيار الكفر لكانوا في ذلك أُسوةَ قومِ نوحٍ، وقد أقام فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعوهم إلى الله ويريهم من الآيات ما يقيم حجة الله عليهم، وقد أطبقوا على الكفر (4) إلا قليلًا (5) منهم كما قال تعالى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود: 40]. وهم كانوا أضعافَ أضعافِ هاتين الأُمتين الكافرتين أهلِ الغضب وأهل الضَّلال. __________ (1) في "ب، ج": "أهل". (2) في "ب": "تحصى". (3) ساقط من "ج". (4) في "ب": "اختيار الكفر". (5) في "غ": "قليل".
(1/32)
وعادٌ (1) أَطبقوا على الكفر، وهم أمة عظيمة عقلاء، حتى (2) استؤصلوا بالعذاب. وثمودُ (3) أطبقوا جميعهم على الكفر بعد رؤية الآية العظيمة التي يؤمن على مثلها البشر، ومع هذا فاختاروا الكفر على الإيمان، كما قال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17]. وقال تعالى: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت: 38]. فهاتان أُمَّتَان عظيمتان من أكبر الأُمم قد أَطْبَقَتَا على الكفر مع البصيرة، فأمة الغضب والضَّلال إذا أطْبَقَتَا على الكفر فليس ذلك بِبِدْعٍ. وهؤلاء قوم فرعون مع كثرتهم قد أطبقوا على جحد نبوة موسى مع تظاهر الآيات الباهرة آيةً بعد آية؛ فلم يؤمن منهم إلا رجل واحد كان يكتم إيمانه. وأيضًا، فيقال للنصارى: هؤلاء اليهود مع كثرتهم في زمن المسيح حتى كانوا ملء (4) بلاد الشام كما قال تعالى: __________ (1) في "ب، ج": "وقوم عاد". (2) في "ب، ج، غ": "حين". (3) في "ب، ج": "وقوم ثمود". (4) في "غ": "ملأوا".
(1/33)
{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف: 137]. وكانوا قد أطبقوا على تكذيب المسيح وجحدوا نبوته، وفيهم الأحبار والعُبَّاد والعلماء حتى آمن به الحَوَارِيُّون. فإذا جاز على اليهود -وفيهم الأحبار والعُبَّاد والزُّهَّاد وغيرهم- الإطباقُ على جَحْدِ نبوَّة المسيح والكفر به -مع ظهور آيات صدقه كالشمس- جاز عليهم إنكار نبوة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، ومعلومٌ أنَّ جواز ذلك على أُمَّة الضلال الذين هم أضلُّ من الأنعام -وهم النصارى- أَوْلَى وأَحْرَى. فهذا السؤال الذي أَوْرَدَهُ هذا السائلُ واردٌ بعينه في حقِّ كلِّ نبيٍّ كذَّبَتْهُ أمةٌ من الأمم. فإنْ صوَّبَ هذا السائلُ رأيَ تلك الأمم (1) كلِّها فقد كفر بجميع الرسل، وإنْ قال: إنَّ الأنبياء كانوا على الحقِّ وكانت تلك الأمم -مع كثرتها ووفور عقولها- على الباطل فلأنْ (2) يكون المكذِّبون بمحمد - صلى الله عليه وسلم - -وهم الأقلون الأذلون الأرذلون من هذه الطوائف- على الباطل أَوْلَى وأحرى. وأي أمة من الأمم اعْتبَرْتَهَا وجدتَ المصدِّقين بنبوة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - جمهورَهَا، وأقلُّها وأراذلُها (3) هم الجاحدون لنبوَّته. فرقعة الإِسلام قد اتَّسعتْ في مشارق الأرض ومغاربها غايةَ الاتِّساع __________ (1) في "ب": "الأمة". (2) في "ب، ص، ج": "فلئن". (3) في "ج، غ": "رذالها".
(1/34)
بدخولِ هذه الأمم في دينه (وتَصديقِهم برسالته، وبقي مَنْ لم يدخلْ منهم في دينه، وهم من كلِّ أمةٍ أقلُّها) (1) . وأين يقع النصارى المكذِّبون برسالته اليومَ من أمة النصرانيَّةِ الذين كانوا قبله؟! وكذلك اليهودُ والمجوسُ والصَّابِئَةُ؛ لا نسبة للمكذِّبين برسالتهِ بعد بَعْثِهِ إلى جملة تلك الأمة قبل بَعْثهِ. وقد أخبر -تعالى- عن الأمم التي أطبقت على تكذيب الرسل ودمَّرها الله -تعالى- فقال تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 44]. فأخبر عن هؤلاء الأمم أنهم تطابقوا على تكذيب رسلهم وأنه عمَّهم بالإهلاك. وقال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات: 52 - 53]. ومعلوم قطعًا أنَّ الله -تعالى- لم يهلك هذه الأُممَ الكثيرةَ إلا بعد ما تبيَّن لهم الهدى، فاختاروا عليه الكفْرَ، ولو لم يتبيَّنْ لهمُ الهدى لم يُهْلِكْهُمْ، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59]. وقال تعالى: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا __________ (1) ساقط من "ب".
(1/35)
آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 98]. أي فلم يكن قريةٌ آمنت فنفعها إيمانُها إلَّا قوم يونس. ومعلوم قطعًا أنَّه لم يُصَدَّقْ نبيٌّ من الأنبياء من أولهم إلى آخرهم، ولم يتبعه من الأُمم ما صُدِّقَ محمدُ بنُ عبدِ الله - صلى الله عليه وسلم -. والذين اتَّبعوه من الأمم أضعاف (1) هاتين الأمتين المكذِّبتين مما لا يحصيهم (إلا الله) (2) ، ولا يستريب من له مُسْكة من عقل أنَّ الضلال (3) والجهل والغيَّ وفساد العقل إلى من خالفه وجحد نبوته أقرب منه إلى أتباعه ومَنْ أقرَّ بنبوته. وحينئذ فيقال: كيف جاز على هؤلاء الأمم -التي لا يحصيهم (4) إلا الله الذين قد بلغوا مشارق الأرض ومغاربها على اختلاف طبائعهم وأغراضهم وتباين مقاصدهم- الإطباقُ على اتِّباع من يكذب على الله (وعلى رسله، و) (5) على العقل، ويحلُّ ما حرَّمَ الله (ورسُلُه، ويحرِّم ما أحلَّه الله ورسلُه. ومعلوم أنَّ الكاذب على الله) (6) في دعوى الرسالة (7) هو شَرُّ خلقِ الله وأفْجَرُهم (8) وأظلمهم وأكذبهم. __________ (1) في "ج": "أضعاف أضعاف". (2) ساقط من "ج". (3) في "غ": "الفساد". (4) في "غ": "يحصيها". وجاءت العبارة هكذا في جميع النسخ: "التي لا ... ". (5) في "غ": "بلا وقوف". (6) ساقط من "غ". (7) ساقط من "غ". (8) في "غ": "وفاجرهم".
(1/36)
ولا يشكُّ مَنْ له أدنى عقلٍ أن إطباقَ أكثر الأمم على متابعة هذا النبيِّ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وخروجَهم عن ديارهم وأموالهم، ومعاداتهم آباءهم وأبناءهم وعشائرهم في متابعته، وبذلهم نفوسهم بين يديه = من أمحل المحال، فتجويز اختيارِهم الكُفْرَ بعد تَبَيُّنِ الهدى على شرذمة قليلة حقيرة لها أغراض عديدة من هاتين الأمتين أوْلى من تجويز ذلك على المسلمين الذين طبقوا مشارق الأرض ومغاربها، وهم أَعْقَلُ الأمم وأكملُها (1) في جميع خصال الفضل. وأين عقول عُبَّادِ العجل وعُبَّاد الصَّليب الذين أضحكوا سائر العقلاء على عقولهم ودلُّوهم على مبلغها بما قالوه في معبودهم من عقول المسلمين؟!!. وإذا جاز اتِّفاقُ أمةٍ -فيها من قد ذكره هذا السائل- على أنَّ ربَّ العالمين وخالقَ السمواتِ والأَرَضِيْن نزل عن عرشه وكرسيِّ عظمتِه ودخل في بطن امرأةٍ في محل الحيض والطمث عِدَّةَ شهور ثم خرج من فرجها (2) طفلًا يمصُّ الثدي ويبكي، ويكبر شيئًا فشيئًا، ويأكل ويشرب ويبول، ويصحُّ (3) ويمرض، ويفرح ويحزن، ويَلَذُّ ويألم، ثم دبَّر حيلةً على عدوه إبليس بأنْ مكَّن أعداءَه اليهود من نفسه، فأمسكوه وساقوه إلى خشبتين يصلبونه عليهما، وهم يجرُّونه إلى الصلب، والأَوباشُ والأرذال (4) قدَّامه وخلفه وعن يمينه وعن يساره، وهو يستغيث ويبكي __________ (1) في "غ": "أعقلها". (2) في "غ": "خرجها". (3) في "ب، ج": "يصيح". (4) في "غ": "الأراذل".
(1/37)
فقرَّبوه (1) من الخشبتين، ثم توَّجُوه بتاج من الشوك، وأوجعوه (2) صفعًا، ثم حملوه على الصليب وسَمَرُوا يديه ورِجْليْه وجعلوه بين لصين (3) ، وهو الذي اختار هذا كلَّه لتتمَّ له الحيلة على إبليس ليخلِّص آدم وسائر الأنبياء من سجنه، ففداهم بنفسه حتى خلصوا من سجن إبليس. وإذا جاز اتِّفاقُ هذه الأُمةِ -وفيهم الأحبار والرُّهْبَان والقِسِّيسُون والزُهَّاد والعُبَّاد والفقهاء ومن ذكرتم- على هذا القول في معبودهم وإلهِهِم حتى قال قائلٌ منهم وهو من أكابرهم عندهم: "اليد التي (4) خلقت آدم هي التي باشرت المسامير ونالت الصَّلْب"، فكيف لا يجوز عليهم الاتِّفاقُ على تكذيب مَنْ جاء بتكفيرهم وتضليلهم، ونادى سرًّا وجهرًا بكَذِبِهِمْ على الله وشَتْمِهمْ له أقْبَحَ شتمٍ، وكذبهم على المسيح، وتبديلهَم دينه، وعادَاهمِ وقاتَلَهم، وبرَّأهم من المسيح وبرَّأه منهم، وأخبر أنهم وَقُودُ النَّار وحصَبُ جهنَّم، فهذا أحد الأسباب التي اختاروا لأجلها الكُفْرَ على الإيمان. وهو من أعظم الأسباب! فقولكم: إنَّ المسلمين يقولون إنهم لم يمنعْهُمْ من الدخول في الإسلام إلا الرِّيَاسة والمأكلة لا غير = كذبٌ على المسلمين. بل الرياسة والمأكلة من جملة الأسباب المانعة لهم من الدخول في الدين. __________ (1) في "ص، غ": "فقدموه". (2) في "ج": "صفعوه". (3) إشارة إلى ما جاء في إنجيل متى: إصحاح (27): أن اليهود صلبوه ومعه لصَّان واحد عن يمين وواحد عن يسار. وانظر فيما سيأتي ص (252). (4) في "غ": "الذي".
(1/38)
وقد نَاظَرْنَا (1) -نحن وغيرُنَا- جماعةً منهم، فلما تبين لبعضهم فَسَادُ ما هم عليه قالوا: لو دخلنا في الإسلام لَكُنَّا من أقلِّ المسلمين لا يُؤْبَهُ لنا، ونحن مُتَحَكِّمون في أهل ملَّتِنا، في أموالهم ومناصبهم، ولنا بينهم أعظم الجاه! وهل مَنَعَ فرعونَ وقومَهُ من اتِّباع موسى إلا ذلك؟!. والأسباب المانعة من قَبُول (2) الحقِّ كثيرة جدًّا. فمنها: الجهل به، وهذا السبب هو الغالب على أكثر النفوس، فإن من جهل شيئًا عاداه وعادى أهله. فإِنِ انْضَافَ إلى هذا السبب بُغْضُ مَنْ أَمَرَهُ بالحقِّ ومُعاداتُهُ له وحَسَدُهُ كان المانع من القَبُول أقوى. فإنِ انْضَاف إلى ذلك إِلْفُهُ وعادتُه ومَرْبَاهُ على ما كان عليه آباؤه ومن يحبُّه ويعظِّمه: قَوِيَ المانعُ. فإنِ انْضافَ إلى ذلك توهُّمُه أنَّ الحقَّ الذي دُعِيَ إليه يحول بينه وبين جاههِ وعزهِ وشهواتِه وأغراضهِ: قويَ المانعُ من القَبول جدًّا. فإنِ انْضَاف إلى ذلك خوفُه من أصحابه وعشيرته وقومه على نفسه وماله وجاهه، كما وقع لهرقل ملك النصارى بالشام على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - = ازداد المانع من قَبُول الحقِّ قوةً، فإنَّ هِرَقْلَ عرف الحقَّ وهَمَّ __________ (1) في "غ": "ناظر". (2) في "ب": "قبل" وفي "ج": "قول".
(1/39)
بالدخول في الإسلام فلم يُطَاوِعْهُ قومُه، وخافَهمْ (1) على نفسه فاختار الكفر على الإسلام بعد ما تبيَّن له الهدى، كما سيأتي ذكر قصته إن شاء الله تعالى (2) . ومِنْ أعظم هذه الأسباب: الحَسَدُ؛ فإنه داءٌ كامنٌ في النَّفْسِ، ويرى الحاسدُ المحسودَ قد فُضِّل عليه، وأُوْتِيَ ما لم يُؤْتَ نظيرُهُ فلا يَدَعُهُ الحَسَدُ أن ينقاد له ويكونَ من أتباعه. وهل مَنَعَ إبليسَ من السجود لآدم إلا الحَسَدُ؟! فإنَّه لما رآه قد فُضِّل عليه ورُفِعَ فوقه غَصَّ بريقه واختار الكفر على الإيمان بعد أن كان بين الملائكة. وهذا الدَّاء هو الذي منع اليهودَ من الإيمان بعيسى ابن مريم، وقد علموا عِلْمًا لا شَكَّ فيه أنَّه رسولُ الله جاء بالبيِّنات والهدى؛ فحَمَلَهُمُ الحَسَدُ على أنِ اختارُوا الكُفْرَ على الإيمان، وأطبقُوا عليه، وهُمْ أمةٌ فيهم الأحبارُ والعلماء والزهَّاد والقُضَاة والملوك والأُمراء. هذا؛ وقد جاء المسيح بحكم التوراة ولم يأت بشريعةٍ (3) تخالفها، ولم يُقاتِلْهُمْ، وإنما أتى بتحليل بعض ما حُرِّمَ (4) عليهم تخفيفًا ورحمةً وإحسانًا، وجاء مكمِّلًا لشريعةِ التوراة، ومع هذا فاختاروا كلُّهم الكفرَ على الإيمان. __________ (1) في "غ": "خالفهم". (2) انظر فيما سيأتي ص (76) وما بعدها. (3) في "ج": "بشرعة". (4) في "ج": "ما حرم الله .. ".
(1/40)
فكيف يكون حالُهم مع نبيٍّ جاء بشريعةٍ مستقلَّةٍ ناسخةٍ لجميع الشرائع، مُبَكِّتًا لهم بقبائحهم، ومناديًا على فضائحهم، ومُخْرِجًا لهم من ديارهم، وقد قاتلوه وحاربوه، وهو في ذلك كلِّه يُنْصَرُ عليهم ويَظْفَرُ بهم، ويعلُو (1) هو وأصحابُه، وهم معه دائمًا في سَفَالٍ. فكيف لا يملك الحسدُ والبغيُ قلوبَهُمْ؟! وأين يقع حالهم معه من حالهم مع المسيح وقد أطبقوا على الكفر به من بعد ما تبين لهم الهدى! وهذا السبب -وحده- كافٍ في ردِّ الحق؛ فكيف إذا انْضَاف إليه زَوَالُ الرِّياسَاتِ والمَآكلِ كما تقدَّم؟! وقد قال المِسْوَرُ بنُ مَخْرَمَةَ -وهو ابن أخت أبي جهل- لأبي جهل: يا خالي هل كنتم تتهمون محمدًا بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقال! يا ابن أختي! والله لقد كان (2) محمد فينا وهو شاب يُدْعى الأمين، فما جرَّبنا عليه كذبًا قط. قال: يا خال! فما لكم لا تَتَّبعُونَهُ؟! قال: يا ابن أختي تنَازَعْنَا نحن وبنو هاشمٍ الشَّرَفَ، فأطعَمُوَا وأطعَمْنَا، وسَقَوا وسَقَيْنَا، وأجَارُوا وأَجَرْنَا، حتى إذا تجاثينا على الرُّكَب وكُنَّا كَفَرَسَي رِهَانٍ قالوا: مِنَّا نبيٌّ. فمتى نُدْرِك مثلَ هذه!! وقال الأَخْنَسُ بن شريق يوم بدر لأَبي جهل: يا أبا الحكم! أخْبِرْني عن محمدٍ: أصادقٌ هو أم كاذب، فإنه ليس هاهنا من قريش أحدٌ غيري وغيرك يسمع كلامنا؟ فقال أبو جهل: ويحك! والله إنَّ محمدًا لصادق، وما كَذَبَ محمدٌ قَطُّ، ولكن إذا ذهبتْ بنو قُصَيّ باللواء والحجابةِ __________ (1) في "ب، ج": "يعلم". (2) في "ب، ج": "كان فينا".
(1/41)
والسقايةِ والنبوَّةِ فماذا يكون لسائر قريش (1) ؟!. وأما اليهود؛ فقد كان علماؤهم يعرفونه (2) كما يعرفون أبناءهم، قال ابن إسحاق (3) حدَّثني عاصمُ بنُ عُمَرَ بنِ قتادةَ عن شيخٍ من بني قُرَيْظَةَ. قال: هل تدري عمَّ كان إسلام أسدٍ وثعلبةَ ابْنَي سَعْيَةَ، وأسد بن عُبَيْد؟ -لم يكونوا من بني قُريظةَ ولا النَّضير، كانوا فوق ذلك-، فقلت: لا. قال: فإنه قدم علينا رجل من الشام من اليهود يقال له ابن الهَيَّبَان فأقام عندنا. والله ما رأينا (رجلًا يصلي) (4) خيرًا منه، فقدم علينا قبل مبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسنتين، فكنا إذا قَحِطْنَا وقلَّ علينا المَطَرُ نقول: يا ابن الهَيَّبان اخْرُجْ فاسْتَسْقِ لنا، فيقول: لا والله حتى تُقَدِّموا أمام مَخْرَجِكم صدقةً، فنقول: كم؟ فيقول: صاعًا من تمر، أو مُدَّيْن من شعير. فنخرجُه، ثم يخرج إلى ظاهر حَرَّتِنا ونحن معه نستسقي. فوالله ما يقوم من مجلسه حتى يمرّ السحابُ ونُسْقى، قد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاثة. فحَضرَتْهُ الوفاة واجتمَعْنَا إليه، فقال: يا معشرَ يهود! أترون ما أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟ __________ (1) انظر: "تفسير الطبري": (11/ 333) "تفسير البغوي": (2/ 18 - 19)، "أسباب النزول" للواحدي، ص (249)، "السيرة النبوية" لابن هشام: (1/ 316). (2) في "غ": "يعرفوننا". (3) "السيرة النبوية": (1/ 213)، وانظر: "الطبقات الكبرى": (1/ 160)، "دلائل النبوة" لأبي نعيم: (1/ 181). (4) في "السيرة": "رجلًا قط لا يصلي الخمس"، وفي "ب، ج": "رجلًا قط يصلي الخمس".
(1/42)
قالوا: أنت أعلم! قال: فإني إنما خرجت أتوقَّعُ خروجَ نبيٍّ قد أظل زمانُه، هذه البلاد مُهَاجَرهُ. فاتَّبعُوه ولا يسبقنَّ إليه غيرُكم إذا خرج يا معشر اليهود؛ فإنه يبعث بسَفكَ الدِّماء وسَبْي الذَّرَارِي والنساء مِمَّنْ يخالفه فلا يمنعكم ذلك منه، ثم مات. فلما كانت الليلة التي فُتِحَتْ فيها قريظةُ، قال أولئك الثلاثةُ الفِتْيَةُ -وكانوا شبانًا أحداثًا-: يا معشر اليهود، واللهِ إنَّه للذي ذكر لكم ابنُ الهَيَّبَان، فقالوا: ما هو به. قالوا: بلى والله، إنه لصفته (1) ، ثم نزلوا وأسلموا وخلَّوا (2) أموالهم وأهليهم (3) . قال ابن إسحاق: وكانت أموالهم في الحصن مع المشركين، فلما فُتِحَ رُدَّتْ عليهم (4) . وقال ابن إسحاق: حدَّثني صالحُ بنُ إبراهيم بنِ عبد الرحمن بنِ عَوْفٍ عن محمودِ بنِ لَبيْد (5) ، قال كان بين أبياتنا (6) يهوديٌّ، فخرج على نادي قومه بني عبد الأَشْهَل ذات غداةٍ، فذَكَرَ البعثَ والقيامةَ والجنَّةَ والنَّار والحسابَ والميزان، فقالَ ذلكَ لأصحاب وثنٍ، لا يَرَوْنَ أنَّ بعثًا كائنٌ (7) بعد الموت؛ وذلك قُبَيْلَ مبعث النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. __________ (1) في السيرة: "لهو بصفته". (2) في السيرة: "أحرزوا". (3) أخرجه ابن إسحاق في "السيرة": (1/ 213). (4) المصدر نفسه. (5) في السيرة: "عن محمود بن لبيد عن سلمة بن وقش قال ... ". (6) في "ب، ج، غ": "أبنائنا". (7) في "غ": "كائنًا".
(1/43)
فقالوا: ويحك يا فلان! وهذا كائن أنَّ الناس يُبْعَثُونَ بعد موتهم إلى دارٍ فيها جنَّةٌ ونارٌ يُجْزَوْنَ بأعمالهم؟! قال: نعم، والذي يُحْلَف به لوددت أَنَّ حَظِّي من تلك النار أن توقدوا أعظم تَنُّورٍ في داركم فتحمونه ثم تقذفوني فيه، ثم تطبقون عليَّ، وأَنِّي أنجو من النار غدًا. فقيل: يا فلان! ما علامة ذلك؟ قال: نبيٌّ يُبْعَثُ من ناحيةِ هذه البلاد، وأشار بيده نحو مكةَ واليمن. قالوا: فمتى نراه؟ فرمى بطَرْفِهِ فرآني -وأنا مضطجع بفناء باب أهلي، وأنا أَحْدَثُ القوم- فقال: إنْ يَسْتنفِد هذا الغلام عُمرَهُ يُدْرِكْهُ. فما ذهب الليل والنهار حتى بعث اللهُ رسولَه - صلى الله عليه وسلم - وإنه لحيٌّ بين أَظْهُرِنَا، فآمنَّا به وصدَّقْنَاه، وكفر به بغيًا وحسدًا، فقلنا: يا فلان ألستَ الذي قلتَ ما قلتَ وأخبرتنَا به؟! قال: ليس به (1) . قال ابن إسحاق: وحدَّثني عاصمُ بنُ عُمَرَ بن قَتَادةَ قال: حدَّثني أشْيَاخٌ منّا، قالوا: لم يكن أحدٌ من العرب أعلمَ بشأنَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منَّا، كان معنا يهود، وكانوا أهل كتاب، وكنَّا أصحابَ وَثَنٍ، وكنَّا إذا بَلَغْنَا منهم ما يكرهون قالوا: إنَّ نبيًّا مبعوثًا الآن، قد أظلَّ زمانُه، نتبعه فنقتلكم (2) قَتْلَ عاد وإرم، فلما بعث الله عزّ وجلّ رسوله - صلى الله عليه وسلم - اتَّبَعْنَاه، __________ (1) "السيرة النبوية" لابن هشام: (1/ 213)، وأخرجه الإمام أحمد في "المسند": (3/ 467)، والحاكم: (3/ 417)، وأبو نعيم في "الدلائل": (1/ 74 - 75). وانظر: "مجمع الزوائد": (8/ 230). (2) في "ب، ج، غ": "فيقتلكم".
(1/44)
وكَفَرُوا به. ففينا وفيهم أنزل الله -عزّ وجلّ-: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89] (1) . وذكر الحاكم وغيره عن ابن أبي نَجيْح عن عليٍّ الأزْدِيّ، قال: كانت اليهود تقول: اللهمَّ ابعثْ لنا هذا النبيَّ يَحكم بيننا وبين الناس (2) . وقال سعيد بن جبير عن ابنِ عباسٍ -رضي الله عنهما-: كانت يهود خَيْبَرَ تقاتل غَطَفَانَ، فكلما (3) التَقَوا هزمت يهود خيبر، فعاذت اليهود بهذا الدعاء، فقالت: اللهمَّ إئَا نسألك بحقِّ محمدٍ النبيِّ الأمِّيِّ الذي وَعَدْتنَا أنْ تُخْرِجَه لنا في آخِر الزمان إلَّا نَصَرْتنَا عليهم. قال: فكانوا إذا التَقَوا دَعَوا بهذا الدعاء، فهزَموا غَطَفَانَ، فلما بُعث النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كفروا به (4) ، فأنزل اللهُ -عزّ وجلّ-: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 89]. يعني بك يا محمد {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}. "يَسْتَفْتِحُوْنَ" أي: يستنصرون. وذكر الحاكم وغيره: أنَّ بني النَّضِيْر لما أُجْلُوا من المدينة، أقبل __________ (1) أخرجه ابن إسحاق. انظر "السيرة النبوية": (1/ 214). (2) انظر: "المستدرك" للحاكم: (2/ 262). (3) في "ص": "فلما". (4) أخرجه الحاكم في "المستدرك": (2/ 263) والبيهقي في "الدلائل": (2/ 76). وقال الحاكم: هو غريب. وقال الذهبي: في السند عبد الملك بن هارون، وهو متروك هالك.
(1/45)
عمرو بن سعد (1) فأطاف بمنازلهم فرأى خرابها، ففكَر ثم رجع إلى بني قُرَيْظَةَ فوجدهم في الكنيسة، فنفخ في بُوْقِهِم فاجتمعوا، فقال الزُّبَيْرُ بنُ بَاطَا: يا أبا سعيد أين كنتَ منذ اليوم فلم نَرَكَ؟ -وكان لا يفارقُ الكنيسة وكان يَتَألَّهُ في اليهودية- قال: رأيت اليوم عِبَرًا اعتبرنا بها، رأيت إخواننا قد جلوا بعد ذلك العزِّ والجَلَد والشَّرَف الفاضل والعقل البارع، قد تركوا أموالهم ومَلَكَها غيرُهم، وخرجوا خروجَ ذلٍّ، ولا -والتوراة- ما سُلِّط هذا على قوم قَطُّ لله بهم حاجة. وقد أوقع قبل ذلك بابن الأشْرَفِ (في عزة بنيانه) (2) في بيته آمنًا، وأوقع بابن سُنَيْنَةَ، سيِّدِهم، وأوقع ببني قَيْنُقَاع فأجلاهم (3) وهم جلُّ اليهود، وكانوا أهل عدة وسلاح ونجدة، فحصرهم النبيُّ عليه السلام، فلم يخرج إنسانٌ منهم رأسَهُ حتى سَبَاهُم، فكُلِّم فيهم فتركهم على أن أجلاهم من يَثْرِبَ، يا قوم قد رأيتم ما رأيتم فأطيعوني وتعالَوا نَتَّبِعْ محمدًا، فوالله إنكم لتعلمون أنَّه نبيٌّ وقد بَشَّرَنَا به وبأمره: ابنُ الهَيَّبان وأبو عمرو بن حوَّاس، وهما أعلم اليهود، جاءا من بيت المقدس يتوكفان قُدُومَهُ، وأَمَرَانَا باتِّباعه، وأَمَرَانَا أنْ نُقْرِئَه منهما السَّلامَ، ثم ماتا على دينهما ودَفنَّاهُمَا بحَرَّتِنَا، فأسكت القوم (4) ، فلم يتكلَّمْ منهم متكلِّمٌ. فأعاد هذا الكلامَ ونحوه وخوَّفهم بالحرب والسِّبَاء والجلاء. فقال الزُّبَيْرُ بن بَاطَا: قد -والتوراةِ- قرأت صفته في كتاب التوراة __________ (1) في "ج": "سعد بن باطا". والصواب: سُعْدَى. (2) في "ب، ج": "في غيره ببنائه". (3) في "ب، ج": "فجلاهم". (4) في "غ": "اليوم".
(1/46)
التي أُنزلتْ على موسى، ليس في المثاني التي أَحْدَثْنَا. فقال له كعب بن أسد: ما يمنعك يا أبا عبد الرحمن من اتِّباعه؟ قال: أنت. قال: ولِمَ؟ فوالتوراة ما حُلْتُ بينَك وبينَه قط! قال الزبير: بل أنتَ صاحبُ عَهْدِنَا وعَقْدِنَا؛ فإنِ اتَّبَعْتَهُ اتَّبَعْنَاهُ، وإن أَبَيْتَ أَبَيْنَا. فأقبل عمرو بن سعد على كعب فذكر ما تقاولا في ذلك إلى أنْ قال كعبٌ: ما عندي في ذلك إلا ما قلتُ، ما تطيبُ نفسي أنْ أصير تابعًا (1) . وهذا المانع هو الذي مَنعَ فرعونَ من اتِّباع موسى، فإنه لما تبيَّن له الهدى عزم على اتِّباع موسى -عليه السلام- فقال له وزيرُه هامان: بينا أنت إلهٌ تُعْبَد تصبح تَعْبُد ربًّا غيرك (2) ؟! قال: صدقتَ. وذكر ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر، قال: حُدِّثْتُ عن صَفِيَّةَ بنت حُيَيّ أنها قالت: كنت أَحَبَّ ولد أبي إليه وإلى عَمِّي أبي ياسر، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة غَدَوا عليه، ثم جاءا من العشي، (فسمعت عمي) (3) يقول لأبي أهو هو؟ قال: نعم والله، قال أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم، قال فما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت (4) . فهذه الأُمّةُ الغضبيَّةُ معروفة بعداوة الأنبياء قديمًا. __________ (1) في "ج": "تبعًا" وانظر: "السيرة النبوية" لابن هشام: (2/ 54 - 56)، "الطبقات الكبرى": (1/ 159)، "الدلائل" لأبي نعيم: (1/ 79) وما بعدها. (2) في "ج": "تعبد غيرك ربًّا". (3) في "ج": "فسمعته". (4) أخرجه ابن إسحاق في "السيرة": (1/ 518)، والبيهقي في "الدلائل": (2/ 533)، وأبو نعيم: (1/ 77 - 78). وانظر "البداية والنهاية": (4/ 524 - 525).
(1/47)
وأسلافُهم وخيارهم قد أَخْبَرَنا الله -سبحانه- عن أذاهم لموسى، ونَهانَا عن التشبُّه بهم في ذلك فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) } [الأحزاب: 69]. وأما خَلَفُهم: فهم قَتَلَةُ الأنبياء؛ قتلوا زكريا وابنه يحيى وخَلْقًا كثيرًا من الأَنبياء، حتى قتلوا في يومِ سبعينَ نبيًّا وأقاموا السوق في آخر النهار كأنهم لم يصنعوا شيئًا (1) . واجتمعوا على قتل المسيح وصَلْبِه، فصانَهُ الله من ذلك وأكرمه أن يُهِيْنَه على أيديهم، وألقى شَبَهَهُ على غيره فقتلوه وصلبوه، ورَامُوا قَتْلَ خاتَمِ النبيِّيْن مرارًا عديدة والله يعصمه منهم. ومَنْ هذا شأنهم لا يكبر عليهم اختيار الكفر على الإيمان لسبب من الأسباب التي ذَكَرْنَا بعضها، أو سببين أو أكثر. وقد ذكرنا اتِّفاق أمة الضَّلال وعُبَّاد الصليب على مَسَبَّة ربِّ العالمين أقبح مَسَبَّة، على ما يُعْلَم بطلانه بصريح (2) العقل، فإنْ خَفِيَ عليهم أنَّ هذا مَسَبَّةٌ لله وأنَّ العقل يحكم ببطلانه وبفساده من أول وَهْلة: لم يكثر على تلك العقول السخيفة أنْ تَسُبَّ بشرًا أرْسَلَه الله، وتجحدَ (3) نبوَّتَه، وتُكَابِرَ ما دَلَّ عليه صريحُ العَقْلِ من صِدْقه وصحَّةِ رسالته. فلو قالوا فيه ما قالوا لم يَبْلُغْ بعضَ قولهم في ربِّ الأرض والسموات الذي صاروا به __________ (1) انظر: "تفسير الطبري": (6/ 285)، "تفسير البغوي": (1/ 335)، "الدر المنثور" للسيوطي: (2/ 168). (2) في "ج": "تصريح". (3) في "ج": "يجحدوا" وفي "ب": "يجحد".
(1/48)
ضُحْكَةً بين جميع أصناف بني آدم. فأمَّةٌ أطبقت على أنَّ الإلَهَ الحقَّ -سبحانه عما يقولون- صُلِبَ وصُفِع وسمر ووضع الشَّوك على رأسه ودفن في التراب، ثم قام في اليوم الثالث وصعد وجلس (1) على عرشه يُدَبِّر أمر السموات والأرض = لا يكثر عليها أن تُطْبِقَ على جحد نبوة مَنْ جاء بسَبِّها ولَعْنِها ومحاربتِها وإبداءِ معايبها، والنداءِ على كُفْرِهَا بالله ورسولَه، والشهادةِ على براءة المسيح منها ومعاداته لها، ثم قاتَلَها وأذلَّها، وأخْرَجَهَا من ديارها، وضرب عليها الجزْيَةَ، وأخبر أنَّها من أهل الجحيم خالدةً مخلَّدة، لا يغفر الله لها، وأنهَا شَرٌّ من الحمير؛ بل هي شَرُّ الدوابِّ عند الله. وكيف ينكَرُ لأمةٍ أطْبَقَتْ على صَلْب معبودِها وإلهِهَا، ثم عَمَدَتْ إلى الصليب فعَبَدَتْهُ وعظَّمَتْه، وكان ينبغيَ لها أنْ تحرق (2) كلَّ صليبٍ تقدر على إحراقه، وأنْ تهينَهُ غايةَ الإهانةِ؛ إذْ صُلِب عليه إلهُهَا الذي يقولون تارةً: إنَّه الله، وتارةً يقولون: إنه ابنه، وتارةً يقولون: ثالثُ ثلاثةٍ، فجحدتْ حقَّ خالِقِهَا، وكَفَرَتْ به أعْظَمَ كُفْرٍ، وسبَّتْه أقْبَحَ مَسَبَّةٍ = أن تجحدَ حقَّ عبدِه ورسولهِ وتَكْفُرَ به. وكيف يكثر على أمة قالتْ في ربّ الأرض والسموات: إنه ينزل من السماء ليكلِّم (3) الخلق بذاته، لئلا يكون لهم حُجَّةٌ عليه، فأراد أن يقطع حُجَّتَهم بتكليمه (4) لهم بذاته لترتفع المعاذير عمَّن ضيَّع عهده بعد ما __________ (1) في "غ": "وأُجلس". (2) في "غ": "تخرق". (3) في "غ": "عليهم". (4) في "ب، ج": "بتكاليمه".
(1/49)
كلَّمه بذاته، فهبط بذاته من السماء، والتحم (1) في بطن مريم، فأخذ منها حجابًا، وهو مخلوقٌ من طريق الجسم، وخالقٌ من طريق النفس، وهو الذي خلق جسمَه (2) وخَلَق أُمَّه، وأمُّه كانت من قبله بالنَّاسوت، وهو كان من قبلها باللَّاهُوت، وهو الإله التَّام، والإنسان التَّام، ومن تمام رحمته -تبارك وتعالى! (3) - على عباده: أنَّه رضي بإراقة دمه عنهم على خشبة الصليب، فَمَكَن أعداءَه اليهودَ مِنْ نَفْسِه ليتمَّ سخطه عليهم، فأخذوه، وصلبوه وصفعوه، وبصقوا في وجهه، وتوَّجوه بتاجٍ من الشَّوْك على رأسه، وغار دمُهُ (4) في إصبعه لأنه لو وقع منه شيء إلى الأرض لَيَبِسَ كلُّ ما كان على وجهها، فنَبَتَ (5) في موضع صَلْبِه النُّوَّارُ (6) . ولما لم يكن في الحكمة الأزليَّة أنْ ينتقم الله مِنْ عَبْدِه العاصي الذي ظَلَمَه أو استهانَ بِقَدْره؛ لاعتلاء منزلة الربِّ وسقوطِ منزلة العَبْد = أراد -سبحانه- أن ينتصف من الإنسان الذي هو إلهٌ مِثْلُه، فانتصف من خطيئة آدم بصلب (عيسى المسيح الذي هو إلهٌ مساوٍ له في الإلهيَّة، فصلب ابن الله) (7) -الذي هو الله- في الساعة التاسعة من يوم الجمعة. هذه ألفاظُهم في كتبهم!!. __________ (1) في "غ": "وتلحم". (2) في "غ": "حشمه". (3) هكذا في السياق، وهذا تهكم من المؤلف بأولئك الذين قالوا تلك المقالة. (4) في "غ، ص": "وفار". (5) في "غ": "فثبت". (6) في "غ": "النور". والنُّوّار كالنَّور: زهر النبت. (7) ساقط من "غ".
(1/50)
فأمةٌ أَطْبَقَتْ (1) على هذا في معبودها، كيف يكثر عليها أن تقول في عبده ورسوله: إنَّه ساحرٌ وكاذبٌ، وملك مسلَّط ونحو هذا؟!!. ولهذا قال بعض ملوك الهند: أمَّا النصارى؛ فإن كان أعداؤهم من أهل الملل يجاهدونهم بالشَّرْع فأنا أرى جهادَهُمْ بالعقل، وإنْ كنَّا لا نرى قتالَ أحدٍ، لكني أستثني هؤلَاء القومَ من جميع العالم؛ لأنهم قصدوا مُضَادَّة العقلِ، وناصَبُوه العداوةَ، وشَذُّوا عن جميع مصالح العالم الشرعيَّة والعقليَّة الواضحةِ، واعتَقَدُوا كل مستحيلٍ ممكنًا، وبَنَوا من ذلك شرعًا لا يؤدِّي إلى صلاحِ نوعٍ من أنواع العالم؛ ولكنه يصير العاقلُ إذا شرع به أَخْرَقَ، والرشيدُ سفيهًا، والحَسَنُ قبيحًا، والقبيحُ حَسَنًا؛ لأن من كان في أصل عقيدته التي جرى نشؤه عليها: الإساءة إلى الخلاق والنيل منه، وسبّه أقْبَحَ مسبَّةٍ، ووصفه بما يغيِّر صفاتِه الحُسْنَى، فأخْلِقْ به أن يستسهل الإساءةَ إلى مخلوق، وأنْ يصفَه بما يغيِّر صفاتِه الجميلة! فلو لم تجب مجاهدةُ هؤلاء القوم إلا لعموم إضرارهم الذي (2) لا تحصى وجوهه، كما يجب قَتْلُ الحيوان المؤذي بطبعه = لكانوا أهلًا لذلك (3) . والمقصود: أن الذين اختاروا هذه المقالة في ربِّ العالمين على تعظيمه وتنزيهه وإجلاله ووصفه بما يليق به = هم الذين اختاروا الكُفْرَ __________ (1) في "ج": "طبقت". (2) في "ب، ج": "التي". (3) قال هذا الكلام أحد ملوك الهند لما ذكرت له الملل الثلاثة. انظر: "بين الإسلام والمسيحية: رسالة أبي عبيدة الخزرجي" تحقيق محمد شامة، ص (123 - 124).
(1/51)
بعبده ورسوله وجَحْدَ (1) نبوَّته. والذين اختاروا عبادة صورٍ خَطُّوها بأيديهم في الحيطان مزوَّقةً بالأحمر والأصفر والأزرق؛ لو دنت منها الكلاب لَبَالَتْ عليها، فأعْطَوْها غايةَ الخضوع والذلِّ والخشوع والبكاء، وسألوهَا المغفرةَ والرَّحمةَ والرِّزقَ والنَّصر = هم الذين اختاروا التكذيب بخاتم الرُّسل على الإيمانِ به وتصديقهِ واتِّباعِه. والذين نزَّهوا مطارنتهم وبتاركتهم عن الصاحبة والولد، ونحلوهما (2) للفرد الصمد = هم الذين أنْكَرُوا نبوَّة عبدِهِ وخاتمِ رسله. والذين اختاروا صلاةً، يقوم أَعْبَدُهُمْ وأزهدُهُمْ إليها والبَوْلُ على ساقه (3) وأفخاذِه، فيستقبلُ الشَّرْقَ، ثم يُصَلِّبُ على وجهه، ويعبد الإله المصلوب، ويستفتح الصلاة بقوله: يا أبانا أنت الذي في السموات تقدس اسمك وليأت (4) ملكك، ولتكن إرادتك في السماء مثلها في الأرض، أعْطِنَا خبزنا الملائِم لنا (5) . ثم يحدِّث مَنْ هو إلى جانبه، وربما سأل عن سعر الخمر والخنزير وعمَّا كسب في القمار وعمَّا طبخ في بيته. وربما أحدث وهو في صلاته، ولو (6) أراد لَبَالَ في موضعه إن أمكنه، ثم يدعو تلك الصورة __________ (1) في "ج": "وجحدوا". (2) في "ج": "ونحلوها". (3) في "ج": "ساقيه". (4) في "ب، ج": "وآيات". (5) إنجيل متى: (6/ 9 - 13). (6) في "ب، ج": "وهو لو ... ".
(1/52)
التي هي صنعة يد الإنسان! فالذين اختاروا هذه الصَّلاةَ على صلاةِ مَنْ إذا قام إلى صلاته طَهَّر أطرافَه وثيابَهُ وبدنَهُ من النَّجاسة، واستقبل بيتَه الحرامَ، وكبَّر الله وحمده وسبَّحه، وأثْنَى عليه بما هو أهلُه، ثم ناجاه (1) بكلامه المتضمِّن لأفضل (2) الثَّناء عليه وتحميده وتمجيده وتوحيده، وإفراده بالعبادة والاستعانة وسؤاله أجَلَّ مسؤول -وهو الهداية إلى طريق رضاه التي خصَّ بها مَنْ أنعم الله عليه دون طريق الأُمَّتَيْن المغضوبِ عليهم وهم اليهود، والضَّالين وهم النصارى- ثم أعطى كل جارحةٍ من الجوارح حظَّها من الخشوع والخضوع والعبودية، مع غاية الثناء والتمجيد لله ربِّ العالمينِ، لا يلتفت عن معبوده بوجهه، ولا قلبه، ولا يكلِّم أحدًا كلمة، بل قد فزَغ قَلْبَهُ لمعبوده وأقبلَ عليه بقلبه ووجهه، ولا يُحْدِث في صلاته، ولا يجعل بين عينيه صورة مصنوعة يدعوها ويتضرَّع إليها. فالذين اختاروا تلك الصلاةَ -التي هي في الحقيقة استهزاءٌ بالمعبود لا يرضاها المخلوق لنفسه فضلًا أن يرضى بها الخالق- على هذه الصلاة التي لو عُرِضَتْ على من له أدنى مُسْكَةٍ مِنْ عقل لظهر له التفاوت بينهما = هم الذين اختاروا تكذيبَ رسولهِ وعَبْدِه على الإيمان به وتصديقه!! فالعاقل إذا وَازَنَ بين ما اختاروه ورغبوا فيه، وبين ما رغبوا عنه = تبيَّن له (أنَّ القوم) (3) اختاروا الضلالة على الهدى، والغيَّ على الرَّشاد، __________ (1) في "ج": "ثم نجاه". (2) في "ب، ج": "لا لفضل". (3) في "ج": "أنهم".
(1/53)
والقبيح على الحسن، والباطل على الحق، وأنهم اختاروا من العقائد أَبْطَلَها، ومن الأعمال أَقْبَحَها، وأطبقَ على ذلك أساقفتُهُم وبتاركتهم ورهبانهم فضلًا عن عوامِّهِمْ وسَقَطِهِمْ. فصل ولم يقل أحد من المسلمين: إن من ذكرتم من صغير وكبير، وذكر وأنثى، وحُرٍّ وعبد، وراهب وقِسِّيس، كلهم تبيَّن له الهدى. بل أكثرهم جُهَّال بمنزلة الدوابِّ السَّائمة، معرضون عن طلب الهدى، فضلًا عن تبيينه لهم، وهم مقلِّدون لرؤسائهم وكبرائهم وعلمائهم -وهم (1) أقل القليل وهم الذين اختاروا الكفر على الإيمان بعد تَبَيُّن الهدى. وأيُّ إشكال يقع للعقل في ذلك؟ فلم يزل في الناس من يختار الباطل؛ فمنهم من يختاره جهلًا وتقليدًا لمن يُحْسِنُ الظنَّ به، ومنهمٍ من يختاره (مع علمه ببطلانه كبرًا وعُلُوًّا، ومنهم من يختاره طمعًا ورغبةً في مأكلٍ أو جاهٍ أو رياسةٍ، ومنهم من يختاره) (2) حَسَدًا وبَغْيًا، ومنهم من يختاره محبة في صورة وعِشْقًا، ومنهم من يختاره خشيةً، ومنهم من يختاره راحةً ودَعَةً. فلم تنحَصِرْ أسبابُ اختيارِ الكُفْرِ في حُبِّ الرِّيَاسةِ والمَأْكَلَةِ لا غير (3). __________ (1) في "غ": "وهو". (2) ساقط من "غ، ج". (3) "لا غير" من "ب" فقط.
(1/54)
فصل وأما المسألة الثانية وهي قولكم: هَبْ أنَّهم اختاروا الكفر لذلك، فهلَّا اتَّبع الحقَّ مَنْ لا رياسةَ له ولا مأكلة، إمَّا اختيارًا وإمَّا قهرًا؟ فجوابه من وجوه: (أحدها): أنَّا قد بَيَّنَّا أنَّ أكثر مَنْ ذكرتم قد آمن بالرَّسول وصدَّقَهُ اختيارًا لا اضطرارًا، وأكثرُهم أُولو العقولِ (1) والأحلامِ والعلومِ، ممن لا يُحْصِيهم إلا الله؛ فرقعة الإسلام إنما انتشرتْ في الشرق والغرب بإسلام أكثر الطوائف، فدخلوا في دين الله أفواجًا حتى صار الكفار (2) معهم تحت الذلة والصغار. وقد بينَّا أنَّ الذين أسلموا من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين أَكثرُ من الذين لم يُسْلِمُوا، وأنَّه إنما بقي منهم أقلُّ القليل، وقد دخل في دين (3) الإسلام من ملوك الطوائف ورؤسائهم، في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، خلقٌ كثير. وهذا مَلِكُ النَّصارى على إقليم الحبشة في زمن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، لما تبيِّن له أنَّه رسولُ الله آمن به، ودخل في دينه، وآوى أصحابَهُ ومَنَعَهُمْ من أعدائهم. __________ (1) في "ج": "العقل". (2) في "ج": "الكافر". (3) ساقط من "ب، ج".
(1/55)
وقصَّتُه أشهر مِنْ أنْ تذكر؛ ولما ماتَ أَعْلمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه بالسَّاعة التي تُوفِّي فيها وبينهما مسيرة شهر، ثم خرج بهم إلى المصلَّى وصلَّى عليه (1) . فروى الزُّهْرِيُّ عن أبي بكْرِ بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ الحارث بنِ هشام المَخْزُومِيِّ، عن أم سَلَمَةَ، زوج النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالت: لما نزلنا أرضَ الحبشة جاوَرْنَا بها خيرَ جارِ النجاشيَّ، أَمِنَّا على ديننا، وعَبَدْنَا الله لا نُؤْذَى ولا نَسْمع شيئًا نكرهه، فلمَّا بلغ ذلك قريشًا ائتمروا (2) على أن يبعثوا إلى النجاشيِّ هدايا (3) مما يُسْتَطْرَفُ (4) من متاع مكةَ، وكان من أعجب ما يأتيه (5) منها الأُدُم (6) ، فجمعوا له أُدُمًا كثيرًا، ولم يتركوا من بَطَارِقَتِهِ بطْرِيْقًا إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك مع عبد الله بن أبي ربيعةَ المخَزوميِّ وعمرو بنِ العاص، وأمروهما أمرهم، وقالوا لهما: ادفعا (7) إلى كل بطْرِيقٍ هديَّتَه قبل أن تكلموا النجاشيَّ فيهم، ثم قَدِّموا إلى النجاشي هدَاياه، ثم سلوه أن يُسَلِّمَهم إليكم قبل أن يُكلِّمهم. __________ (1) أخرجه البخاري في الجنائز، باب الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه: (3/ 116)، ومسلم في الجنائز، باب التكبير على الجنازة: (2/ 656 - 657). (2) في "ج": "استمروا". (3) في "غ": "هديًا". (4) في "ج": "استظرفوا". (5) في "ج": "رأيته". (6) في "ج": "الأديم" وهو الجلد المدبوغ، والجمع: أَدَم وأُدُم، بفتحين وضمتين أيضًا وهو القياس مثل بَريد وبُرُد. (المصباح المنير). (7) في "ج": "ادفعوا".
(1/56)
قالت: فخَرجَا فَقَدِمَا على النَّجاشيِّ، ونحن عنده بخير دار، وعند (1) خير جوار، فلم يَبْقَ من بَطَارِقَتِهِ بطْرِيْقٌ إلا دفعا (2) إليه هديَّته قبل أن يُكلِّما النَّجاشيَّ. ثم قالا لكل بِطْرِيْقٍ: إنه قد صبأ (3) إلى بلد الملك منَّا غِلْمان سُفَهَاء فَارَقُوا دينَ قومهم، ولم يَدْخلُوا في دينكم، وجاؤوا بدين مُبْتَدَعٍ، لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بَعَثنَا إليك فيهم أشرِافُ قومهم (من آبائهمَ، وأعمامهم، وعشائرهم) (4) لتردَّهم إليهم، فإذا كلَّمْنَا المَلِكَ فيهم فأشِيْرُوا عليه بأن يسلِّمهم إلينا ولا يكلِّمهم، فإنَّ قومهم أعلى بهم عينًا (5) ، وأعلم بما عابوا عليهم. فقالوا: نعم. ثم إنهما قَرَّبا هداياهم إلى النَّجاشيِّ فقبلها منهم، ثم كلَّماه فقالا له: أيها الملك، إنَّه قد صبا إلى بلدك منَّا غِلْمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين مُبْتَدَعٍ، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بَعَثنَا إليك فيهم أشرافُ قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردَّهم (6) إليهم، فهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه. قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبدِ الله بنِ أبي ربيعةَ وعمرو بنِ العاص من أن يسمع النَّجاشيُّ كلامَهُمْ. فقالت بطارقته حوله: صدقوا أيها الملك، قومُهم أعلى بهم عينًا، __________ (1) ساقط من "غ". (2) في "ب، ج": "دفعنا". (3) أي خرج هؤلاء إلى بلد. وصبأ: خرج من دين إلى دين. (4) ساقط من "ب، ج". (5) أي أعلم بهم. (6) في "ج": "ليردوهم".
(1/57)
وأعلم بما عابوا عليهم. فأَسْلِمْهم (1) إليهما لِيرُدّاهم إلى بلادهم وقومهم. قالت (2) : فغضب النَّجاشيُّ، ثم قال: لاها الله إذَنْ لا أُسْلِمُهم إليهما و (لا أكاد - أقوام جاوروني) (3) ونزلوا ببلادي واختاروني على مَنْ سواي- حتى أدعوهم فأسألهم عمَّا يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلَمْتُهُمْ إليهما وَرَددْتُهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك مَنَعْتُهم منهما، وأحْسَنْتُ جوارهم ما جَاوَرُوني. قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فدعاهم، فلما جاءهم رسولُه اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما عَلِمْنَا، وما أَمَرَنَا به نبيُّنَا - صلى الله عليه وسلم - كائنًا في ذلك ما هو (4) كائن، فلما جاؤوه -وقد دعا النَّجاشيُّ أسَاقِفَتَهُ فنشروا مصاحفهم حوله- سألهم فقال: ما هذا الدِّين الذي فارقْتُمْ فيه قومَكم ولم تدخلوا في ديني ولا دين أحد من هذه الأُمم. قالت: وكان الذي كلَّمَه جَعْفَرُ بنُ أبي طالبٍ، فقال له: أيها الملك! كُنَّا قومًا أهلَ جاهليةٍ، نعبد الأصنامَ، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونُسِيءُ الجوار (5) ، يأكل القويُّ منَّا الضعيفَ، فكنَّا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا منا، نعرف نَسَبَه وصِدْقَه وأمانته __________ (1) في "ج": "فسلِّمهم". (2) في "غ": "قال". (3) في السيرة لابن هشام: "ولا يُكاد قوم جاوروني". (4) في "ج، ب": "بما هو". (5) في "ج": "الجار".
(1/58)
وعَفافَه (1) ، فدعانا إلى الله لنوحِّدَه ونَعْبُدَه ونخلعَ ما كنّا نَعبد نحن (2) وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمَرَنَا بصدقِ الحديث، وأداءِ الأَمانة، وصلةِ الرَّحم، وحُسْنِ الجوار، والكفِّ عن المحارم والدماء، ونَهانَا عن الفَواحِش، وقَوْلِ الزُّور، وأَكْلِ مالِ اليتيم، وقَذْفِ المُحْصَنَة، وأَمَرَنَا أنْ نعبدَ الله لا نشركَ به شيئًا، وأمَرَنا بالصَّلاةِ والزكاة والصيام (3) . -قالت: فعدَّد عليه أمورَ الإسلام- فصدَّقْنَاه وآمَنَّا به واتَّبعناه (4) على ما جاء به؛ فَعَبَدْنَا الله وحده، ولم نُشْرِكْ به شيئًا، وحرَّمْنَا ما حرَّم علينا، وأحْلَلْنَا ما أحلَّ لنا، فَعَدَا علينا قومُنا فعذَّبونا وفَتَنْونا عن ديننا لِيَرُدُّونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله عز وجلَّ، وأنْ نَسْتَحِلَّ ما كنَّا نَستحلُّ من الخبائث، فلما قَهَرُونَا وظَلَمُونا وشَقُّوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلدك، واخترناك على مَنْ سواك، ورَغِبْنَا في جوارك، ورَجَوْنَا أنْ لا نُظْلم عندك أيها الملك. قالت: فقال له النَّجاشيُّ: هل معك ممَّا جاء به عن الله من شيء؟ قالت: فقال له جعفر: نعم. فقال له النجاشيُّ: فَاقْرَأه عليَّ، فقرأ عليه صدرًا من {كهيعص} [مريم/ 1]. قالت: فبكى -واللهِ- النجاشيُّ حتى أَخْضَلَ (5) لحيَتَهُ، وبَكَتْ __________ (1) في "ج": "وعفته". (2) ساقطة من "ج". (3) في "ب، ج" زيادة: "والحج من استطاع إليه سبيلًا". (4) في "غ": "وابتغاء". (5) أي بلّلها بالدمع من البكاء.
(1/59)
أساقِفَتُهُ حتى أَخْضَلُوا (1) مصاحفَهم حين سمعوا ما تُلِيَ (2) عليهم، ثم قال النجاشيُّ: إنَّ هذا والذي جاء به موسى لَيَخْرج من مِشْكاةٍ واحدة، انطلِقُوا فوالله لا أُسْلِمُهم (3) إليكم أبدًا ولا أكاد. قالت أمُّ سَلَمَةَ: فلما خرجنا من عنده قال عمرو بن العاص: والله لآتينَّه غدًا أعيبهم عنده بما أستأصل به خَضْراءَهم (4) . قالت: فقال عبدُ الله بنُ أبي ربيعةَ -وكان أتقى الرجلين فينا-: لا تَفْعلْ، فإنَّ لهم أرحامًا، وإن كانوا قد خالَفُونا. قال: والله لأُخبِرَنَّه أنَّهم يزعمون أنَّ عيسى ابنَ مريمَ عَبْدٌ. قالت: ثم غدا عليه من الغد فقال له: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى ابن مريمَ قولًا عظيمًا، فأرْسِلْ إليهم فاسْألْهُمْ عمَّا يقولون فيه. قالت: فأرَسل إليهم فسألهم عنه. قالت: ولم ينزل بنا مثلُها. فاجتمع القوم فقال بعضُهم لبعضٍ: ما تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول -والله- فيه ما قال اللهُ عزَّ وجلَّ، وما جاء به نبيُّنا كائنًا في ذلك ما هو كائن. فلما دخلوا عليه قال لهم: ما تقولون في عيسى ابنِ مريم؟ __________ (1) في "غ": "أخضوا". (2) في "ج": "ماتلا". (3) في "ج": "لا أسلمتهم". (4) شجرتهم التي منها تفرَّعوا. والمراد: أستأصل سوادهم.
(1/60)
فقال له جَعْفَرُ بنُ أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبيُّنا: هو عَبْدُ الله ورسولُه ورُوحُه وكَلِمَتُه التي ألقَاها إلى مَرْيَمَ العذراء البَتُول (وروحٌ منه) (1) . فضرب النَّجاشيُّ يده إلى الأرض فأخذ منها عودًا ثم قال: ما عدا عيسى بنُ مريمَ ما قلتَ (2) هذا العُودَ، فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: وإنْ نخرتم، (وإن نخرتمِ) (3) والله، اذهبوِا فأنتم سُيُومٌ بأرضي -"والسيوم" الآمنون- مَنْ سَبَّكُمْ غرِمَ، مَنْ سَبَكُمْ غرِمَ، ما أُحبُّ أنَّ لي دَبْر ذهبٍ وأنِّي آذيتُ رجلًا منكم -"والدَّبْر" بلسان الحبشة: الجبل- رُدُّوا عليهما هداياهما، ولا حاجة لي بها، فوالله ما أخذ اللهُ مني الرّشوة حين ردَّ عليَّ مُلْكي، فآخُذَ الرِّشوة فيه، وما أطاعَ النَّاسَ فيَّ فأطيعَهُمْ فيه. قالت: فخرجا من عنده مَقْبُوحَيْن مردودًا عليهما ما جاؤوا به، وأَقَمْنَا عنده بخير دار مع خير جار. (قالت: فوالله إنَّا لَعَلى ذلك، إذْ نزل به رجلٌ من الحبشة ينازعه في مُلْكِهِ) (4) . قالت: فوالله ما عَلِمْتُنَا حَزِنَّا حُزْنًا قَطُّ كان أشدَّ مِنْ حُزْنٍ حَزِنَّاه عند ذلك، تَخَوُّفًا أن يَظْهَر [ذلك الرجل] (5) على النجاشيِّ، فيأتي رجلٌ لا __________ (1) ساقط من "ج". (2) في "ب، ج": "قلته". (3) ساقط من "غ". (4) ساقط من "غ". (5) زيادة من "السيرة" لابن هشام.
(1/61)
يعرف مِنْ حَقِّنا ما كان النجاشيُّ يعرف منه. قالت: فسار النَّجاشيُّ -وبينهما عرضُ النِّيل- فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ رجلٌ يخرج حتى يحضر وقعةَ القوم حتى يأتيَنَا بالخبر؟ قالت: فقال الزُّبير: أنا -وكان من أحدث القوم سنًّا- قالت: فنفخوا له قِرْبَةً فجعلها في صدره، ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النِّيْل التي بها مُلْتَقَى القوم، ثم انطلق حتى حضرهم. قالت: ودعونا الله للنَّجاشيِّ بالظهور على عدوِّه والتمكين له في بلاده. فاستوسق (1) له أمر الحبشة (2) ، فكنَّا عنده في خير منزلٍ حتى قَدِمْنَا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3) . فلما كان شهر ربيع الأول سنةَ سبع من الهجرة كتب رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى النَّجاشيِّ كتابًا يدعوه فيه إلى الإسلام، وبعثَ به مع عمرو بنِ أميَّةَ الضَّمْريِّ (4) ، فلما قُرئ عليه الكتاب أسلم، وقال: لو قدرت علي أنْ آتيَهُ لأتَيْتُه. وكتب إليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يزوِّجه أمَّ حَبيْبةَ بنتَ أبي سفيان ففعل وأصدقَ عنه أربعمائة دينار، وكان الذي تولَّىَ التزويج خالدُ بنُ __________ (1) أي اجتمع له الأمر في حكم الحبشة، وفي "ب": "فاستوثق"، وهو كذلك في "السيرة" لابن هشام. (2) في "ب، غ": "النجاشي بالحبشة". (3) انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام: (1/ 334 - 338)، "السيرة لابن إسحاق" تحقيق محمد حميد الله، ص (194 - 197)، "المسند": (1/ 201 - 203)، "دلائل النبوة" للبيهقي: (1/ 301) "مجمع الزوائد": (6/ 27). (4) في "غ": "الضميري".
(1/62)
سعيدِ بنِ العاص بنِ أميَّة (1) . وكتب إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبعث إليه (2) من بقي عنده من أصحابه ويحملهم ففعل، فقدموا المدينة فوجدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر، فشخصوا إليه فوجدوه قد فتح خيبر، فكلَّم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين أن يُدْخِلُوهم في سهامهم ففعلوا. فهذا مَلِكُ النصارى (3) قد صدق رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وآمن به واتَّبعه. وكم مثلُه ومَنْ هو دونه ممَّن هداه الله من النصارى قد دخل في الدين، وهم أكثر بأضعاف مضاعفة ممن أقام على النصرانية؟ قال ابن إسحاق (4) : وقدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة عشرون رجلًا أو قريبًا من ذلك من النَّصارى، حين بلغهم خبرُه من الحبشة، فوجدوه في المسجد، فجلسوا إليه وكلَّموه، وقبالتهم رجالٌ من قريش في أنديتهم حول الكعبة، فلما فرغوا من مسألة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمَّا أرادوا دعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الله، وتلا عليهم القرآن فلما سمعوه فاضتْ أعينُهم من الدمع، ثم استجابوا له وآمنوا به وصدَّقوه، وعرفوا منه ما كان يُوصَفُ لهم في كتابهم من أمره، فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جَهْل ابنُ هشام في نَفَرٍ من قريش، فقالوا لهم: خيَّبَكم الله من رَكْبٍ؟! بعثكم من وراءكم من أهل دينكم تَرْتَادُون لهم لتأتوهم بخبر الرجل، فلم تطمئنَّ (5) __________ (1) "السيرة النبوية" لابن هشام: (1/ 334) وما بعدها. (2) ساقط من "ب". (3) في "ص": "النصرانية". (4) "السيرة النبوية": (1/ 391). (5) في "ب، غ، ص": "تظهر".
(1/63)
مجالسُكُم عنده حتى فارقتم دينكم وصدَّقتموه بما قال؟! ما نعلم رَكْبًا أحمق منكم -أو كما قالوا-. فقالوا لهم: سلامٌ عليكم، لا نجادلكم، لنا ما نحن عليه، ولكم ما أنتم عليه، لم نَأْلُ من أنْفُسِنا خيرًا. ويقال: إنَّ النَّفَر (1) من النَّصارى من أهل نَجْرانَ. ويقال: فيهم نزلتْ {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا} إلى قوله: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 52 - 55]. وقال الزُهْريُّ: ما زلت أسمع من علمائنا أنَّهنَّ نَزَلْنَ في النَّجاشيِّ وأصحابه. قال ابن إسحاق (2) : ووفد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفد "نَصَارى نَجْرَانَ" بالمدينة، فحدَّثني محمدُ بنُ جَعْفَر بنِ الزُّبير، قال: لما قَدِم وَفْد نَجْرانَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، دخلوا عليه مسجدَه بعد العصر، فحانت صلاتهم، فقاموا يُصلُّون في مسجده، فأراد النَّاس مَنْعَهُم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دَعُوهُمْ" فاستقبلوا المَشْرقَ فصلَّوا صلاتهم، وكانوا ستين راكبًا، منهم أربَعَةٌ وعشرون (3) رجلًا من أشرافهم، منهم ثلاثةُ نَفَرٍ إليهم يؤول أمرهم: "العَاقِبُ": أمير القوم وذو رأيهم وصاحب مشورتهم، والذي لا __________ (1) في "ب، ج": "الوفد". (2) "السيرة النبوية": (1/ 575). وانظر: "تفسير البغوي": (3/ 446 - 447)، "البداية والنهاية": (7/ 270). (3) في "السيرة النبوية": "أربعة عشر" وذكر ابن كثير في "تاريخه": (7/ 270) الروايتين عن ابن إسحاق. وراجع: "فتح الباري": 8/ 94.
(1/64)
يَصْدُرُونَ إلا عن رأيه وأمره، واسمُه عَبْدُ المَسِيْحِ. "والسيِّد" ثِمَالُهم (1) وصاحب رَحْلِهم (2) ومجمعهم. "وأبو حارثة بنُ عَلْقَمَةَ": أُسْقُفُهُمْ وحِبْرُهم وإمامهم وصاحب مِدْرَاسِهِمْ (3) ، وكان أبو حارثةَ قد شَرُفَ فيهم ودَرَس كتبهم، وكانت ملوك الرُّوم من أهل النَّصرانيَّة قد شرَّفوه وموَّلوه وأخْدَموه، وبَنَوا له الكنائس، وبسطوا عليه الكرامات، لِمَا بلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم. فلما وجَّهوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نَجْرَانَ، جلس أبو حَارثةَ على بَغْلَةٍ له (4) متوجِهًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإلى جنبه (5) أخٌ له يقال له: كُرْزُ بنُ عَلْقَمَةَ، يسايرُه إذْ عثرتْ بغلةُ أبي حارثةَ، (فقال له كُرْزٌ: تَعِسَ الأبْعَدُ -يريد رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -- فقال له أبو حارثة) (6) : بل أنتَ تَعِسْتَ. فقال: ولِمَ يا أخي؟! فقال: والله إنه لَلنَّبِيُّ الذي كنَّا ننتظرُه. فقال له كُرْزُ: فما يَمنعُك من اتِّباعه وأنت تعلم هذا؟ فقال: ما صنَع بنا هؤلاء القومُ؛ شرَّفونا وموَّلونا (7) وأكرمونا، وقد أَبَوْا إلا خلافَه، ولو فَعَلْتُ (نَزَعوا منَّا كلَّ ما تَرى) (8) . فأصر (9) عليها أخوه كُرْزُ بنُ عَلْقَمةَ حتى أسْلَمَ بعد ذلك. __________ (1) في "ب، غ": "يمالهم". (2) في "غ": "رحلتهم". (3) في "ب، ج، غ": "مداراهم". والمدراس: الموضع الذي يدرس فيه كتاب الله. ومنه مدراس اليهود. والمدراس أيضًا: دارس كتب اليهود. (4) ساقطة من "ص، غ، ج". (5) في "ب، ج": "جانبه". (6) ساقط من "غ". (7) في "ب، ج، غ": "تولَّونا" وفي "ص": "تولوه". (8) في "غ": "نزعوها منا، كل كرامة". (9) في "السيرة النبوية": "فأضمر".
(1/65)
فهذا وأمثالُه من الذين مَنَعَتْهُمُ الرِّياسة والمَأكْل من اختيار الهدى، وآثَروا دينَ قومِهم. وإذا كانَ هذا حالَ الرؤساء المتبوعين -الذين هم علماؤهم وأحبارهم- كان بَقيَّتُهم تَبَعًا لهم. وليس بمُسْتَنْكَرٍ أنْ تمنع الرِّياسةُ والمناصبُ والمآكلُ الرؤساءَ، ويمنع الأتباَعَ تقليدُهم. بل هذا هو الواقع، والعقلُ لا يَسْتَشْكِلُه. فصل وكان من رؤساء النَّصارى الذين دخلوا في الإسلام -لما تبيَّن أنه الحق-: الرَّئيسُ المُطَاعُ في قومه "عَدِيُّ بنُ حاتم الطائي"، ونحن نذكر قصته، رواها الإمام أحمد، والترمذيُّ، والحاكم، وغيرهم (1). قال عَدِيُّ بنُ حاتم: أتيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهو جالسٌ في المسجد، فقالَ القومُ: هذا عديُّ بنُ حاتمٍ. وجئت بغير أمانٍ ولا كتابٍ، فلما دُفِعْتُ إليه أخذ بيدي، وقد كان قال قبل ذلك: "إني لأرجو أن يجعلَ اللهُ يدَه في يدي". قال: فقام لي، فَلَقِيَتْهُ امرأةٌ وصبيٌّ معها فقالا: إنَّ لنا إليك حاجةً. فقام معهما حتى قضى حاجتهما، ثم أخذ بيدي حتى أتى بي داره، فألقَتْ __________ (1) رواها الإمام أحمد في "المسند": (4/ 378 - 379)، والترمذي في التفسير: (5/ 204) وقال: "هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث سماك بن حرب"، وصححه الحاكم في "المستدرك": (4/ 518 - 519). وانظر: "سيرة ابن هشام" (2/ 343) مع الروض الأُنُف، "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي: (2/ 66)، "طبقات ابن سعد": (1/ 322).
(1/66)
له الوليدةُ وسادةً، فجلس عليها، وجلستُ بين يديه، فحَمِدَ الله وأثنى عليه. ثم قال: "ما يُفِرُّك أنْ تقولَ لا إله إلا الله، فهل تعلم من إلهٍ سوى الله؟ " قال: قلت: لا، ثم تكلَّم ساعةً. ثم قال: ("إنما يُفِرُّك أنْ يُقال: الله) (1) أكبر، وتَعْلَمُ أنَّ شيئًا أكبر من الله؟! ". قال: قلت لا. قال: "فإنَّ اليهود مغضوبٌ عليهم وإنَّ النصارى ضُلَّالٌ". قال: قلت: فإنّي حَنِيْفٌ مُسْلمٌ. قال: فرأيتُ وجهه ينبسطُ (2) فَرَحًا. قال: ثُمَّ أَمرَ بي فأنْزِلْتُ عند رجلٍ من الأنصار جعلتُ أغْشَاهُ -آتيه- طَرَفَي النَّهار، قال فَبَيْنَا أنا عنده عشيةً إذْ جاءه قومٌ في ثيابٍ من الصُّوف من هذه النِّمار. قال: فصلَّى وقام فحثَّ عليهم، ثم قال: "ولوْ بِصَاعٍ، ولو بنصفِ صاعٍ، ولو بقَبْضةٍ، ولو ببعضِ قبضةٍ، يَقِي أحدُكم وجهَهُ حَرَّ جهنَّمَ أو النَّارِ، ولو بتمرةٍ، ولو بشِقِّ تمرةٍ، فإن أحدَكم لاقِي الله وقائلٌ له ما أقول لكم: أَلَمْ أجعلْ لك سَمعًا وبَصَرًا؟ فيقولُ: بلى، فيقول: ألم أجعلْ لك مالًا وولدًا؟ فيقولُ: بلى. فيقول: أين ما قدَّمْتَ لنفسك؟! فينظر قُدَّامه __________ (1) في "غ": "أما تقرّ أن الله". (2) في "غ": "يبسط".
(1/67)
وخَلْفَهُ وعن يمينه وعن شمالِه ثمَّ لا يجد شيئًا يَقِي وجهَهُ حرَّ جهنَّمَ، لِيَقِ أحدُكم وجهَه النَّار ولو بشِقِّ تمرة، فإنْ لم يجدْ فبكلمةٍ طيِّبةٍ، فإنّي لا أخاف عليكم الفَاقَةَ، فإن الله ناصرُكُمْ ومُعْطِيْكُم حتّى تَسِيْرَ الظَّعِيْنَةُ فيما بين يَثربَ والحِيْرَةِ أو أكثر، ما يُخَافُ على مَطِيَّتِهَا السَّرَقُ" (1) . قال: فجعلتُ أقولُ في نفسي: فأين لُصُوصُ طيّ؟. وكان عَدِيٌّ مطاعًا في قومه بحيث يأخذ المِرْبَاعَ (2) من غنائمهم. وقال حَمَّادُ بنُ زيدٍ، عن أيُّوبَ، عن محمدِ بنِ سِيْرِيْنَ، قال: قال أبو عُبَيْدَةَ ابنُ حُذَيْفَةَ (3) ، قال عديُّ بن حاتم: بعث الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فكرهته أشدَّ ما كرهتُ شيئًا قط، فخرجتُ حتى أتيتُ أقصى أرض العرب مما يلي الرُّوم، ثم كرهت مكاني أشدَّ مما كرهتُ مكاني الأول، فقلتُ: لو أَتَيْتُهُ فسمعتُ منه، فأتيتُ المدينةَ فَاسْتَشْرَفَنِي النَّاسُ، وقالوا جاء عديُّ ابنُ حاتمٍ الطَائي!؛ جاء عديُّ بنُ حاتمٍ الطَّائي! فقال: "يا عديَّ بنَ حاتمٍ الطَائي) (4) ، أسْلِمْ تَسْلَمْ"، فقلت: إنّي على دينٍ. قال: "أنا أعلم بدينِك منكَ" قلت: أنتَ أعلم بديني مني؟! قال: "نعم"، قال هذا ثلاثًا، قال: "ألستَ رَكُوسِيًّا"؟ (5) قلتُ: بلى، قال: __________ (1) في "غ": "الشرف" وهو تصحيف. وفي "ج": "السَّوق". (2) المرباع: ربع الغنيمة. (3) في "البداية والنهاية": (7/ 296): "عن رجل". (4) ساقط من "غ". (5) أي تدين بالركوسية، وهي مذهب بين النصارى والصابئين.
(1/68)
"ألست تَرْأسُ قومَك"؟ قلتُ: بلَى، قال: "ألستَ تأخذ المِرْبَاعَ؟ " قلت: بلَى، قال: "فإنَّ ذلك لا يحل لك في دينك". قال: فوجدتُ بها عليَّ غضاضةً. ثم قال: "لعلَّه أنْ يمنعَك أنْ تُسْلِمَ أنْ ترى عندنا خَصَاصةً، وترى النَّاس علينا إِلْبًا واحدًا، هل رأيتَ الحِيْرَةَ"؟ قلتُ: لم (1) أَرَهَا، وقد علمتُ مكانَها، قال: "فإن الظَّعِيْنَةَ سترحلُ من الحِيْرَة تطوفُ بالبيت بغير جوارٍ، وليفتحنَّ الله علينا كُنُوزَ كِسْرَى بنِ هُرْمُزَ". قلت: كِسْرَى بنِ هُرْمُزَ؟ قال: "كنوزُ كِسْرَى بنِ هُرْمُزَ، ولَيفِيْضُ المالُ حتَى يهتمَّ (2) الرَّجُلُ مَنْ يقبلُ منه صَدَقَتَهُ". قال: فقد رأيتُ الظَّعِيْنَةَ ترحل مِنَ الحِيْرَةِ بغير جوارٍ، وكنت في أوَّلِ خيلٍ أغارتْ على المَدَائِنِ. وواللهِ لتكونَنَّ الثالثةُ؛ إنَّه حديثُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد كان "سَلْمَانُ الفَارِسِيُّ" من أعلم النصارى بدينهم، وكان قد تيقَّن خروجَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَدِمَ المدينةَ قبل مبعثه، فلما رآه عرف أنَّه هو النبيُّ الذي بشَّر به المسيح، فآمن به واتَّبعه، ونحن نسوق قِصَّتَه: قال ابن إسحاق (3): حدَّثني عاصمُ، عن محمودٍ، عن ابن عبَّاس -رضي الله عنهما- قال: حدَّثني سَلْمانُ الفارسيُّ مِنْ فيه، قال: كنت رجلًا فارسيًا من أهل أصْبَهَان من قريةٍ يُقَال لها جَيّ، وكان أبي دِهْقَان __________ (1) في "ج": "قلت: لا لم .. ". (2) في "غ، ج": "يهمّ". (3) "السيرة النبوية": (1/ 214) وما بعدها.
(1/69)
قَرْيته، وكنتُ أحبَّ خَلْقِ الله إليه، لم يزل حُبُّه إيَّاي، حتى حبسني في بيتٍ كما تُحْبَسُ الجاريةُ، فاجتهدت في المجوسيَّة حتى كنت قَطِنَ (1) النَّار التي نوقدها لا نتركها تخبو ساعةً. وكانت لأبي ضيعةٌ عظيمة، فشُغِل في بُنْيانٍ له يومًا، فقال: يا بنيَّ إنِّي قد شُغِلْت في بُنْياني هذا اليوم عن ضيعتي، فاذهبْ إليها فاطَّلِعها (2) . وأمَرَني فيها ببعض ما يريد، ثم قال لي: ولا تحتبس عنِّي؛ فإنك إن احتبستَ عنّي كنتَ أهمَّ إليَّ مِنْ ضيعتي، وشَغَلتَنِي عن كلِّ شيء من أمري. فخرجت أريد ضيعتَه التي بعثني إليها، فمررت بكنيسةٍ من كنائس النَّصارى، فسمعتُ أصواتَهم فيها وهم يصلُّون، وكنت لا أدري ما أمر الناس، لحَبْس أبي إيَّايَ في بيته، فلما سمعتُ أصواتهم دخلتُ عليهم أنظر ما يصنعون، فلما رأيتُهم أعجَبَتْنِي صلاتُهم، ورغبتُ في أمرهم، وقلتُ: هذا -والله- خيرٌ من الذي نحن عليه. فوالله ما بَرِحْتُهُم حتى غربتِ الشَّمسُ، وتركتُ ضيعتَه فلم آتِهَا، ثم قلت لهم: أين أصلُ هذا الدِّين؟ قالوا: بالشام. فرجعت إلى أبي وقد بعثَ في طلبي، وشغلتُه عن عمله كلِّه، فلما جئتُه قال: يا بنيَّ أين كنت؟ ألم (3) أكن عهدتُ إليك ما عهدتُ؟ قلت: يا أبتِ (4) مررت بأناسٍ يصلُّون في كنيسةٍ لهم فأعجبني ما رأيتُ من دينهم، فوالله ما زلتُ حتى غربتِ الشمسُ. قال: أي بنيَّ! ليس في ذلك __________ (1) أي: خادمها وخازنها. (2) في "ج، غ": "فأطلقها". (3) في "ج، غ": "لم". (4) في "غ": "يا أبة".
(1/70)
الدِّين خيرٌ، دينُك ودينُ آبائك خيرٌ منه، فقلت له: كلا والله، إنه لخيرٌ من ديننا. قال (1) : فخافني، فجعل في رِجْلي قيدًا، ثم حَبَسَنِي في بيته. وبعثتُ إلى النَّصارى فقلت لهم: إذا قَدِم عليكم ركب من الشام فأخْبِرُوني بهم، فقَدِمَ عليهم تجَّارٌ من النَّصارى، فأخبروني، فقلت لهم: إذا قَضَوا حوائجهم. وأرادوا الرَّجعةَ إلى بلادهم فآذِنُوني بهم. قال: فلما أرادوا الرجعة أخبروني بهم فألقيتُ الحديد من رجلي، ثم خرجت معهم حتى قَدِمْتُ الشَّامَ، فلما قَدِمْتُها قلت: مَنْ أفضلُ أهلِ هذا الدِّين عِلْمًا؟ قالوا: الأُسْقُفُّ في الكنيسة. فجئتُه فقلت له: إنِّي قد رغبتُ (2) في هذا الدِّين، وأحببتُ أن أكون معك فأخدمك في كنيستك، وأتعلَّم منك، وأصلِّي معك. قال: ادخُلْ، فدخلت معه. فكان رَجُلَ سَوْءٍ، يأمرهم بالصدقة ويرغِّبهم فيها، فإذا جمعوا إليه شيئًا منها اكتنزه لنفسه ولم يُعْطِهِ المساكينَ، حتى جمع سَبْع (3) قِلاَلٍ من ذهب ووَرِقٍ، فأبغضتُه (4) بُغْضًا شديدًا لِمَا رأيتُه يصنعُ. ثم مات واجتمعت النصارى ليدفنوه، فقلت لهم: إنَّ هذا كان رجل سَوْءٍ يأمركم بالصدقة ويرغِّبكم فيها، فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ولم يُعْطِ المساكينَ منها شيئًا. فقالوا لي: وما عِلْمُك بذلك؟ قلت: أنا أدلُّكم على كنزه؛ فأريتُهُم موضِعَه فاستخرجوا سَبْعَ قِلاَلٍ مملوءةً ذهبًا ووَرِقًا، فلمَّا رأوها قالوا: والله لا نَدْفِنُه أبدًا، فصلبوه ورمَوْه بالحجارة!! __________ (1) ساقط من "ب، ص". (2) في "ب" بالهامش: "أحببت". (3) ساقط من "ج". (4) في "ب" بالهامش: "فبغضته".
(1/71)
وجاؤوا برجل آخر فجعلوه مكانه، فما رأيت رجلًا يصلِّي (1) أرى أنَّه أفضلُ منه، ولا أزهدُ في الدنيا، ولا أرغبُ في الآخرة، ولا أدأبُ ليلًا ولا نهارًا منه، فأحببته حُبًّا لم أحبَّه شيئًا قبله (2) . فأقمت معه زمانًا ثم حضَرَتْهُ الوفاة، فقلت له: يا فلان؛ إنّي قد كنت معك وأحببتُك حُبًّا لم أحبَّه شيئًا قبلك، وقد حضرك (3) من أمر الله ما ترى، فإلى مَنْ تُوصِي بي؟ وبِمَ تأمرني؟ فقال: أي بنيَّ والله ما أعلم أحدًا على ما كنت عليه، ولقد هلك الناس وبدَّلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلًا بالمَوْصِل، وهو فلانٌ، وهو على ما كنت عليه. فلما مات وغُيِّب، لحقتُ بصاحب الموصل، فقلت له: يا فلان إنَّ فلانًا أوصاني عند موته أنْ ألْحَقَ بك، وأخبرني أنَّك على أمره، فقال: أقِم عندي، فأقمتُ عنده، فوجدتُه خيرَ رجلٍ على أمر صاحبه، فلما حَضرَتْه الوفاةُ، قلت له: يا فلان إنَّ فلانًا أوصى بي إليك وأمرني باللُّحوق بك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلى مَنْ تُوصِي بي؟ وبِمَ تأمرني؟ قال: يا بنيَّ والله ما أعلم رجلًا على مثل ما كُنَّا عليه إلا رجلًا بنَصِيْبِيْن، وهو فلانٌ فألْحَقْ به. فلما مات وغُيِّب لحقت بصاحب نَصِيْبِيْنِ، فأخبرته خبري وما أمَرَني به صاحبي، فقال: أقِمْ عندي، فأقمتُ عنده، فوجدتُه على أمر صاحبه، فأقمت مع خيرِ رجلٍ، فوالله ما لبث أن نزل به الموتُ، فلمَّا حُضِرَ قلت له: يا فلان إنَّ فلانًا أوصى بي إلى فلانٍ، ثم أوصى بي فلانٌ إليك، فإلى __________ (1) في "غ، ج": "لا يصلي الخمس ... ". (2) في "غ": "قبل "وفي "ج": "قبلك". (3) ساقط من "ج". وفي "غ": "حضرتك".
(1/72)
من تُوصِي بي؟ وبِمَ تأمرني؟ فقال: يا بنيَّ! والله ما أعلمه بقي أحدٌ على أَمْرِنا آمرك أن تأتيَه إلا رجلًا (1) بِعَمُّورِيَّة من أرض الروم، فإنَّه على مثل ما نحن عليه، فإنْ أحْبَبْتَ فَأتِهِ. فلما مات وغُيِّب لحقت بصاحب عَمُّوريَّة فأخبرتُه خبري، فقال: أقم عندي. فأقمتُ عند خيرِ رجلٍ على هَدْي أصحابه وأمْرِهِم، فاكتسبت حتى كانت لي بُقَيْرات (2) وَغُنَيْمَة، ثم نزل به أمر الله، فلما حُضِر، قلت له: يا فلانُ إنّي كنت مع فلانٍ فأوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلانٌ إليك، فإلى من توصي بي؟ وبمَ تأمرني؟ قال: يا بنيَّ والله ما أعلمه أصبح على (مثل ما كُنَّا عليه) (3) أحدٌ من الناس آمرك أن تأتِيَهُ، ولكنَّه قد أظلَّ زمان نبيٍّ مبعوثٍ بدينِ إبراهيمَ، يخرج بأرضِ العرب، مُهَاجَره (4) إلى أرضٍ بين حَرَّتَيْنِ، بينهما نخل، به علاماتٌ لا تخفى؛ يأكل الهديَّة ولا يأكل الصدقة، بينَ كتفيه خاتَمُ النُّبوَّة، فإنِ استطعتَ أن تلحق بتلك البلادِ فافعلْ، ثم مات وغُيِّبَ. فمكثتُ بعَمُّوريَّةَ ما شاء الله أن أمكث، ثم مرَّ بي نَفَرٌ مِنْ كَلْب تُجَّار، فقلت لهم: احملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بُقَيْراتي هذه وغُنيْمَتي هذه؛ قالوا: نعم. فاعْطَيْتُهمُوها فحملُوني معهم، حتى إذا بلغوا وادي القُرَى ظلموني، فباعوني من رجل يهوديٍّ، فكنت عنده، فرأيتُ النَّخْلَ فرجوت أن يكون البلد الذي وَصَفَ لي صاحبي، ولم يَحِقَّ في نفسي، __________ (1) في "ب": "رجل". (2) في "ج": "بقيرات وعبد .. ". (3) في "غ": "مثل ما عليه". (4) في "ج": "مهاجرًا".
(1/73)
فبينا أنا عنده، إذْ قَدِمَ عليه ابنُ عمٍّ له من بني قُرَيْظَةَ من المدينة، فابتاعني منه، فحملني إلى المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتُها فعرفتُها بصفة صاحبي، فأقمتُ بها. وبُعِثَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقام بمكةَ ما أقام، لا أسمع له بذِكْرٍ، مع ما أنا فيه من شغل الرِّقِّ، ثم هاجر إلى المدينة، فوالله إنّي لفي رأس عَذْقٍ لسيِّدي أعمل فيه بعض العمل، وسيّدي جالس تحتي، إذْ أقبل ابنُ عمٍّ له حتى وقف عليه، فقال: يا فلان، قاتل الله بني قَيْلَةَ (1) والله إنهم الآن لمجتمعون معنا (2) على رجلٍ قَدِم عليهم من مكةَ اليومَ، يزعمون أنّه نبيٌّ. فلما سمعتُها أخذتني العُرَوَاءُ (3) حتى ظننتُ أنِّي ساقطٌ على سيِّدي، فنزلت عن النخلة فجعلت أقولُ لابنِ عمِّه ذلك: ما تقول؟ فغضب سيِّدي فلَكَمَنِي لكمةً شديدةً، ثمَّ قال: مالَكَ ولهذا؟ أقْبِلْ على عَمَلِكَ! فقلت: لا شيء، إنما أردتُ أن أستثبته عمَّا قال. وقد كان عندي شيءٌ جمعته، فلما أمْسَيْتُ أخذتُه ثم ذهبت به إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وهو بقُبَا، فدخلتُ عليه، فقلت له: إنَّه قد بلغني أنِّك رجل صالح ومعك أَصحابٌ لك غُرَبَاء ذوو حاجة، وهذا شيء كان عندي للصدقة، فرأيتكم أحقَّ به من غيركم، فقرَّبْتُهُ إليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: "كُلُوا"، وأمسك فلم يأكل. فقلت في نفسي: هذه واحدة. __________ (1) بنو قيلة هم الأوس والخزرج. قال ابن إسحاق: قيلة بنت كاهل بن عذرة بن سعد بن قضاعة، وهي أم الأوس والخزرج. (2) في "السيرة النبوية": "بقباء". وهو الصواب. (3) في "غ": "عرواء". والعرواء: الرّعدة من البرد والانتفاض، فإن كان مع ذلك عَرَقٌ فهي الرُّحَضَاء.
(1/74)
ثم انصرفتُ عنه فجمعتُ شيئًا، وتحوَّل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ثم جئتُه به، فقلت: إني قد رأيتك لا تأكلُ الصَّدقة، وهذه هديةٌ أكرمْتُك بها. فأكلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمَرَ أصحابَه فأكلُوا معه. فقلت في نفسي: هاتان اثنتان. ثم جئت رسول الله وهو بِبَقِيْع الغَرْقَد، قد تَبعَ جنازةَ رجلٍ من أصحابه، وعليَّ شَمْلَتَانِ لي، وهو جاَلس في أصحابه، فسلَّمْتُ عليه، ثم استَدَرْتُ أنظر إلى ظهره، هل أرى الخاتَم الذي وصف لي صاحبي؛ فلما رآني - صلى الله عليه وسلم - اسْتَدْبَرْتُه (1) عرف أنِّي أستَثْبِتُ في شيءٍ وُصِفَ لي، فألقى الرِّدَاء عن ظهره، فنظرتُ إلى الخاتَم فعرفتُه، فأكْبَبْتُ عليه أُقبِّله وأبكي، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تحوَّلْ"، فتحوَّلتُ فجلست بين يديه، فقصصت عليه حديثي كما حدَّثْتُك يا ابْنَ عبَّاس، فأعجبَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسمع ذلك أصحابُه. ثم شغل سلمانَ الرقُّ حتى فاته مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بَدْرٌ وأُحُدٌ، قال سلمان: ثم قال لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كاتِبْ يا سَلْمَانُ" فكاتبتُ صاحبي على ثلاثمائةِ نخلةٍ أحْيِيْها له بالفَقِير، وأربعينَ أوقيَّةً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أعِيْنُوا أخاكم" فأَعانُونِي بالنَّخْل؛ الرجل بثلاثين وَدِيَّة (2) ، والرجل بعشرين وَدِيَّة، والرجل بخمسة عشر، والرجل بعشر، يعينني الرجل بِقَدْر ما عنده، حتى اجتمعتْ لي ثلاثُمائة وَدِيَّة، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: __________ (1) في "غ": "أستدير به". (2) الوَدِيَّة هي واحدة الوَدِيِّ، أي: صغار النخل، "النهاية في غريب الحديث والأثر": (5/ 170).
(1/75)
"اذهبْ يا سَلْمَانُ فَفَقِّرْ لها (1) ، (فإذا فرغتَ فَأْتِنِي أكنْ أنا أضعها بيدي". فَفَقَّرْتُ) (2) ، وأعانني أصحابي حتى إذا فرغتُ جئتُه فأخبرتُه، فخرج معي إليها، فجَعَلْنا نقرِّب إليه الوَدِيَّ ويضعُه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بيده حتى فرغت، فوالذي نَفْسُ سلمانَ بيده ما ماتت منها وَدِيَّة واحدة، فأدَّيت النخل وبقي عليَّ المال، فأُتِيَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل بيضة الدَّجَاجة من ذهبٍ، من بعض المعادن، فقال: "ما فعل الفارسيُّ المكاتَب" فدُعِيْتُ له، فقال: "خُذْ هذه فَأدِّها (3) ممَّا عليك يا سَلْمَانُ" فقلت: وأين تقع هذه يا رسول الله مما عليَّ؟! قال: "خذها فإنَّ الله سيؤدِّي بها" فأخذتُها فوزنت منها لهم، والذي (نفسي بيده) (4) ، أربعينَ أوقيَّةً فأوفيتُهم (5) حقَّهم، فشهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخَنْدَقَ، ثم لم يَفُتْنِي معه مَشْهَدٌ (6) . __________ (1) أي احفر لها لتغرسها. يقال: فَقَر الأرضَ فَقْرًا: حَفرها. وفَقَّر مبالغة في "فَقَر"، فَقَر الفسيلةَ: حفر لها حفرة تُغرس فيها. انظر: "المعجم الوسيط" مادة "فقر". (2) ساقط من "غ". (3) ساقط من "غ". (4) في "ب": "نفس سليمان". (5) في "ب": "وفّيتهم". (6) أخرجه ابن إسحاق في "السيرة": (1/ 214) وما بعدها، والإمام أحمد: (5/ 441 - 443)، وأبو نعيم في "الدلائل": (1/ 258 - 264)، وابن سعد: (1/ 153 - 155). قال الهيثمي: "رواه أحمد والطبراني في الكبير بأسانيد، وإسناد الرواية الأولى عند أحمد والطبراني رجالها رجال الصحيح غير محمد بن إسحاق وقد صرَّح بالسماع. وإسناد الثانية انفرد بها أحمد ورجالها رجال الصحيح غير عمرو بن أبي قرة الكندي وهو ثقة". انظر: "مجمع الزوائد": (9/ 336)، "البداية والنهاية": (3/ 508 - 515).
(1/76)
فصل وكان مَلِكُ الشَّام أحد أكابر علمائهم بالنصرانية (هِرَقْل)، قد عرف أنَّه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حقًّا، وعزم على الإسلام، فأبى عليه عُبَّادُ الصَّليب، فخافهم (1) على نفسه، وضنَّ بِمُلْكِهِ مع علمه بأنَّه سَيُنْقَلُ عنه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمَّتِهِ. ونحن نسوقُ قِصَّتَه. ففي "الصحيحين" من حديث عبدِ الله بنِ عبَّاسٍ، أنَّ أبا سفيان أخبره مِنْ فِيْه إلى فِيْهِ، قال: انطلقتُ في المُدَّةِ التي كانت بيني وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فَبَيْنَا أنا بالشَّام إذْ جِيءَ بكتاب رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هِرَقْلَ، وقد كان دِحْيَةُ بنُ خَلِيفَةَ جاء به، فدفعه إلى عظيم بُصْرَى (2)، فدفعه عظيم بُصْرى إلى هِرَقْلَ، فقال هِرَقْلُ: هل هاهُنَا أحدٌ مِنْ قومِ هذا الرَّجُل الذي يزعُم أنَّه نبيٌّ؟ قالوا: نعم. قال: فدُعِيْتُ في نَفَرٍ من قريشٍ، فدخلنا على هِرَقْل، فأجْلَسَنَا بين يديه، وأجلسوا أصحابي خَلْفِي، فدعا بِتَرْجُمَانِهِ فقال: قلْ لهم: إني سائلٌ هذا عن الرَّجل الذي يَزْعُمُ أنَّه نبيُّ، فإَنْ كَذَبَنِي فكذِّبوه، فقال أبو سفيان: وَايْمُ اللهِ! لولا مَخَافَةُ أنْ يُؤْثَرَ عليَّ الكَذِبُ لَكَذَبْتُ (3). ثم قال لتَرْجُمَانِه: سَلْهُ كيف حَسَبُه فيكم؟ قال: قلت: هو فينا ذو حَسَبٍ. قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا. قال: فهل كنتم تتَّهمونه بالكَذِب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا، قال: ومَنِ اتَّبعَه؟ __________ (1) في هامش "ب": "فأخافهم". (2) في "ج": "بصيرى". (3) ساقط من "غ".
(1/77)
أشرافُ الناس أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: لا، بل يزيدون، قال: فهل يرتدُّ أحدٌ منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سَخْطَةً له؟ قال: قلت: لا، قال: فهل قاتلتموه؟ قلتُ: نعم، قال: فكيف كان قتالُكم إيَّاهُ؟ قال: قلت: تكونُ الحربُ بيننا وبينه سِجَالًا، يُصِيب منَّا ونُصِيب منه، قال: فهل يَغْدِرُ؟ قلت: لا، ونحن منه في مُدَّةٍ ما ندري ما هو صانِعٌ فيها. قال: فوالله! ما أمْكَنَنِي من كلمةٍ أُدْخِلُ فيها شيئًا غيرَ هذه. قال: فهل قال هذا القولَ أحدٌ قَبْلَه؟ قلت: لا. قال لترجمانه: قل له: إنِّي سألتُك عن حَسَبهِ، فزعمتَ أنِّه فيكم ذو حَسَبٍ، وكذلك الرُّسُل تُبْعَثُ في أحساب قومها. وسألتك: هل كان في آبائه مَلِكٌ؟ فزعمتَ أنْ لا، فقلتُ: لو كانَ في آبائه مَلِكٌ لقلتُ: رجلٌ يطلب مُلْكَ آبائه. وسألتُك عن أتْبَاعه أضعفاؤهم أم أشرافهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم، وهم أتباع الرُّسل. وسألتُك: هل كنتم تَتَّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أن لا، فقد عرفتُ أنَّه لم يكن لِيَدَعَ الكَذِبَ على النَّاس ثم يذهبَ فيكذبَ على الله عز وجل. وسألتُك: هل يرتدُّ أحدٌ منهم عن دينه بعد أن يدخله سَخْطَةً له؟ فزعمتَ أن لا، وكذلك الإيمانُ إذا خالطتْ بشاشَتُه القلوبَ. وسألتُك هل يزيدونَ أم ينقصونَ؟ فزعمتَ أنَّهم يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يَتِمَّ.
(1/78)
وسألتُك: هل قَاتَلْتُمُوه؟ فزعمتَ أَنكم قاتلتموه فتكون الحربُ بينكم وبينه سِجَالًا، ينال منكم وتنالون منه، وكذلك الرُّسل تُبْتَلَى، ثم تكونُ لها العاقبةُ. وسأَلتُك: هل يَغْدِرُ؟ فزعمتَ أنه لا يَغْدِر، وكذلك الرُّسل لا تَغْدِرُ. وسألتُك هل قال هذا القولَ أحدٌ (قبله؟ فزعمت أنْ لا، فقلتُ: لو قال هذا القولَ أحدٌ مِنْ) (1) قبله قلتُ: رجل ائتمَّ بقولٍ قيل قَبْلَه. ثم قال: فَبِمَ يأمرُكم؟ قلتُ: يأمرنا بالصَّلاةِ والزكاةِ والصِّلَة والعَفافِ. قال: إنْ يكَن ما تقولُ حَقًّا إنَّه لنبيٌّ، وقد كنتُ أعلم أنَّه خارجٌ، ولكن لم أكنْ أظنُّه منكم، ولو أعلم أنّي أخْلُصُ إليه لأَحْبَبْتُ لقاءَه (2) ، ولو كنتُ عنده لغَسَلْتُ عن قَدَمَيْهِ، ولَيَبْلُغَنَّ مُلْكُه ما تحتَ قَدَمَيَّ. ثم دعا بكتاب رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأه، فإذا فيه: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من محمدٍ (رسول الله) (3) إلى هِرَقْلَ عظيمِ الرُّوم، سلامٌ على من اتَّبَعَ الهدى. أما بعد؛ فإنِّي أدعوك بدِعَايةِ الإسلام، أسْلِمْ تَسْلَمْ، أَسلمْ يُؤْتِك الله أجرَك مرَّتَيْنِ، وإن تولَّيْتَ فإنَّ عليك إثم الأَرِيْسِيِّيْنَ" (4) __________ (1) ساقط من "غ". (2) في "ج": "لقاه". (3) في "ج": "عبد الله ورسوله". (4) المراد بهم الفلاحون والزراع. ومعناه: إن عليك إثم رعاياك الذين يتبعونك وينقادون بانقيادك. وقيل: المراد بهم فرقة من النصارى هم أتباع "أريوس" المصري الذي نادى بالتوحيد والقول بأن عيسى عليه السلام نبيُّ الله وليس ابنًا له كما يزعم النصارى، وبقيت هذه الفرقة ظاهرة حتى حكمت المجامع النصرانية ضد أريوس، ثم غلبت عقيدة التثليث. انظر "شرح النووي على مسلم": (12/ 109 - 110)، "مشكل الآثار" للطحاوي: (5/ 231 - 234).
(1/79)
و {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]. فلما فَرَغَ (1) من قراءة الكتاب ارتفعتِ الأصواتُ عنده، وكَثُرَ اللَّغَطُ، وأُمِرَ بنا فَأُخْرِجْنَا (2) ... ثمِ أَذِن هِرَقْلُ لعظماء الرُّوم في دَسْكَرَةٍ (3) له بحِمْصَ، ثم أمر بأبوابها فَغُلِّقت، ثم اطَّلعَ فقال: يا مَعْشَرَ الرُّوم! هل لكم في الفلاح والرُّشْد وأنْ تَثْبُتَ مملكتكم (4) فتُبَايعُوا هذا النبيَّ؟ فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرٍ الوَحْشِ إلى الأبواب، فوجدوهاَ قد غُلِّقَتْ، فلما رأى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ وأيِسَ من الإيمان قال: رُدُّوهم عليَّ، فقال: إنِّي قلتُ مقالتي آنِفًا أختبرُ بها شِدَّتكم على دينكم، فقد رأيتُ، فسجدوا له ورَضُوا عنه (5) . فهذا ملك الروم، وكان من علمائهم أيضًا، عرف وأقرَّ أنَّه نبيٌّ، وأنَّه سيملك ما تحت قدميه، وأحبَّ الدُّخِولَ في الإسلام فدعَا قومَه إليه، فولَّوا عنه معرضين كأنهم حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فرَّتْ من قَسْوَرَةٍ، فمنعه من الإسلام الخوفُ على مُلْكِه ورياسته، ومَنَعَ أشْبَاهَ (6) الحمير ما منع الأُممَ قبلَهم. __________ (1) في "ب، ج، ص": "فلما قرأه وفرغ". (2) في الرواية هنا كلام طواه المصنف اختصارًا. (3) الدَّسكرة: بناء يشبه القصر حوله بيوت، ويكون عادة للملوك. والدسكرة أيضًا: القرية. قال الأزهري: أظنها معرَّبة. "المصباح المنير"، ص (194). (4) في "ب": "يثبت لكم ملككم". (5) أخرجه البخاري في بدء الوحي: (1/ 31 - 33)، وفي الجهاد: (8/ 126)، ومسلم في الجهاد: (3/ 1393 - 1397). (6) في "ج": "الأشباه".
(1/80)
فصل ولما عرف "النَّجاشِيُّ"، ملكُ الحبشة، أنَّ عُبَّاد الصليب لا يخرجون (عن عبادة) (1) الصليب إلى عبادة الله وحده: أسلَمَ سِرًّا، وكان يكتم إسلامه بينهم، هو وأهل بيته، ولا يمكنُه مجاهرتُهم. ذكر ابنُ إسحاقَ أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل إليه عَمْرو بنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ (2) -رضي الله عنه- بكتابه (3) يدعوه إلى الإسلام، فقال له عمرو: يا أصْحَمَةُ! عليَّ (4) القولُ وعليك الاستماع؛ إنَّك كأنك في الرِّقةِ علينا منّا، وكأنَّا في الثِّقة بك منك، لأنَّا لم نظنَّ بك خيرًا قط إلا نِلْنَاهُ، ولم نَخَفْكَ على شيءٍ قطُّ إلا أمِنَّاه، وقد أَخَذْنَا الحُجَّةَ عليك مِنْ فِيْك، الإنجيل بيننا وبينك شاهد لا يُرَدُّ، وقاضٍ لا يجور، وفي ذلك موقع الحزِّ وإصابة المَفْصِل، وإلا فأنت في هذا النبيِّ الأُميِّ كاليهود في عيسى ابنِ مريمَ، وقد فرَّق النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - رُسُلَه إلى الناس، فرَجَاك لِمَا لم يَرْجُهُمْ له، وأمنك على ما خافهمِ عليه؛ لخيرٍ (5) سالف وأجير مُنْتَظَرٍ، فقال النجاشي: أشهدُ بالله إنّه للنَّبِيّ الأميّ الذي ينتظره أَهْلُ الكتاب، وأنَّ بشارة موسى براكب الحمار كبشارةِ عيسى براكب الجَمَلِ، وإن العِيَانَ ليس بأشْفَى من الخَبَرِ (6). __________ (1) في "ج": "من عباد". (2) ساقط من "ج، ص"، وفي "ب، غ": "الضميري". (3) في "ب، غ، ج": "مكانه". (4) في "ج، غ": "إنَّ عليّ". (5) في "د، ص": "لخبر". (6) أخرجه ابن إسحاق. انظر: "السيرة النبوية": (2/ 607).
(1/81)
قال الوَاقِديُّ: وكتبَ (رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -) (1) : "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من محمدٍ رسولِ الله إلى النَّجاشِيِّ مَلِكِ الحَبَشَةِ: سَلْمٌ أنت؛ فإني أحمدُ إليك الله الذي لا إله إلا هو، المَلِكُ القُدُّوس، السَّلامُ المؤمنُ المُهَيْمِنُ، وأشهدُ أنَّ عِيْسَى ابنَ مَرْيَمَ روحُ الله وكلمتُه ألقاها إلى مريمَ البَتُول الطيِّبةِ الحَصِيْنَةِ، حملتْ بعيسى، فخلقه من رُوحه ونفخه، كما خلق آدم بيده، وإني أدعوك إلى الله وَحْدَه لا شريكَ له، والموالاةِ على طاعتِه، وأَنْ تَتَّبعَنِي وتُؤْمنَ بالذي جاءني؛ فإنّي رسولُ الله إليك، وإنّي أدعوكَ وجنودَكَ إلى الله -عزَّ وجل- وقد بلَّغْتُ ونصحتُ، فاقْبَلوا نصيحتي، والسَّلامُ على من اتَّبعَ الهدى" (2) . فكتب إليه النَّجَاشيُّ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إلى محمدٍ رسول الله، من النَّجاشيِّ أصحمة، سلامٌ عليك يا نبيَّ الله من الله وبركاتُ، الله الذي لا إله إلا هو، أمَّا بعد: فلقد بَلَغَنِي كتابُك فيما ذكرتَ مِنْ أَمْرِ عيسى، فوربِّ السماء والأرض إنَّ عيسى لا يزيد على ما ذكرتَ ثُفْرُوقًا، إنِّه كما ذكرتَ، وقد عَرَفْنَا ما بعثتَ به إلينا، وقد قَرَّبْنَا ابنَ عمِّك وأصحابَهُ، فأشهدُ أنِّك رسولُ الله صادقًا مصدَّقًا، وقد بايعتُك وبايعتُ ابنَ عمِّك، وأسْلَمْتُ على يديهِ للهِ ربِّ العالمينَ (3) . "والثُّفْروقُ" عِلاقة تكون بين النواة والتمرة. __________ (1) في "ج، غ": "إليه". (2) انظر: "زاد المعاد" (3/ 689). (3) انظر: "الروض الأنف" للسهيلي: (1/ 215 - 216)، "تاريخ الطبري": (2/ 652 - 654).
(1/82)
فصل وكذلك مَلِكُ دين النَّصرانيَّة بمصرَ؛ عَرَفَ أنَّه نبيٌّ صادقٌ، ولكنْ مَنَعَهُ مِن اتِّباعه مُلْكُه وأنَّ عُبَّاد الصَّليبِ (لا يتركون عبادةَ الصَّليب) (1). ونحن نسوق حديثَه وقِصَّتَه. قال الوَاقِدِيُّ: كتب إليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من محمَّدٍ بن عبد الله، إلى المُقَوْقِس عظيمِ القِبْطِ، سلامٌ على من اتَّبع الهدى، أما بعد: فإنّي أدعوكَ بداعيةِ (2) الإسلام، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، أسْلِمْ يُؤْتكَ اللهُ أجْرَك مَرَّتين، فإنْ تولَّيْتَ (فإنَّ عليك) (3) إِثْمَ القِبْطِ {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} " [آل عمران/64] وختم الكتاب. فخرج به حَاطِبٌ، حتى قَدِمَ عليه الإسْكَنْدَرِيَّة، فانتهى إلى حاجبهِ، فلم يلبث (4) أنْ أوصل (5) إليه كتابَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال حاطبٌ للمُقَوْقِس لمَّا لَقِيَهُ: إنَّه قد كان قِبَلَكَ رجلٌ يزعُم أنّه الرَّبُّ الأعلى فَأخَذَهُ اللهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى، فانتقَمَ به، ثم انتقم منه، فاعتبِرْ بغيرِكَ، ولا يعتبر بك غيرُك. __________ (1) ساقط من "غ". (2) في "زاد المعاد" للمصنف: "بدعاية". (3) في "ب": "فعليك". (4) في "ج، ص": "يلبثه". (5) في "ب" بالهامش: "وصَّل".
(1/83)
قال: هاتِ، قال: إنَّ لنا دينًا لن نَدَعَه إلا لِمَا هو خيرٌ منه وهو الإسلام الكافي به اللهُ فَقْدَ ما سِواه، إنَّ هذا النبيَّ دَعَا النَّاسَ فكان أشدَّهم عليه قريشٌ وأعْدَاهُمْ له يهودُ، وأقْرَبَهُمْ منه النَّصارى، ولَعَمْرِي ما بشارةُ موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمَّدٍ، عليهم أفضل الصلاة والسلام، وما دعاؤنا إيَّاك إلى القرآنِ إلا كدعائِكَ أهْلَ التوراةِ إلى الإنجيل، وكلُّ نبيٍّ أدرك قومًا فهم من أُمَّتِه، فالحقُّ عليهم أنْ يُطيعوه، فأنتَ مِمَّنْ أدرك هذا النبيَّ، (ولسنا ننهاك) (1) عن دين المسيحِ، ولكنَّنا نأمُرُك به. فقال المُقَوْقِسُ: إنِّي قد نظرتُ في أمر هذا النبيِّ، فرأيتُه لا يأمر بمَزْهُودٍ به، ولا ينهى عن مرغوبٍ عنه، ولم أجِدْه بالسَّاحر الضَّالِّ، ولا اَلكاهنِ الكاذب، ووجدتُ معه آلة (2) النُّبوَّةِ؛ من إخْراج (3) الخَبءِ والإخبار بالنَّجْوَى، ووَصَفَ لحاطب أَشياء من صفة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وقال: القِبْطُ لا يُطَاوعُونَنِي في اتَّباعهِ، ولا أُحبُّ أنْ تعلمَ بمُحَاوَرتِي إيَّاك، وأنا أَضِنُّ (4) بمُلْكِي أنْ أفارِقَهُ (5) ، وسيظهرُ على بلادي (6) ، وينزل بساحتي (7) هذه أصحَابُه من بعده، فارجع إلى صاحبك. وأخذ كتابَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فجعله في حُقٍّ من عاجٍ، وختم عليه، ودفَعَهُ __________ (1) في "ب" بالهامش: "ولست أنهاك". (2) في "زاد المعاد": "آية". (3) في "ج": "أخرج". (4) في "ج، غ": "أظن". (5) في "ج": "فارقه". (6) في "ج": "البلاد". (7) في "ج": "بساحتنا".
(1/84)
إلى جاريةٍ له، ثم دعا كاتبًا له يكتب بالعربية، فكتبَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، لمحمدِ بنِ عبدِ الله، مِنَ المقوقسِ عظيمِ القِبْطِ، سلامٌ عليك، أمَّا بعد: فقد قرأتُ كتابك وفهمتُ ما ذكرتَ فيه، وما تدعو إليه، وقد علمتُ أنَّ نبيًّا بقي، وكنت أظنُّ أنه يخرج بالشام، وقد أكرمتُ رسولَك وبعثتُ إليك بجَارِيَتَيْنِ لهما مكانٌ في القِبْط عظيمٌ، وبكسوةٍ، وأهديتُ إليك بَغْلَةً لتركَبها. والسلام عليك. (ولم يَزِدْ) (1). والجاريتان: مَارِيَةُ، وسِيْرِيْن. والبغلة: دُلْدُل، وبقيَتْ إلى زمن معاوية. قال حاطب: فذكرتُ قولَه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "ضَنَّ الخبيثُ بملكه، ولا بقاء لملكه" (2). فصل وكذلك ابنا الجُلَنْدَى، مَلِكَا عُمَانَ وما حولَها، مِنْ ملوك النَّصَارى، أسْلَمَا طوعًا واختيارًا، ونحن نذكر قصَّتَهما وكتابَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إليهما، وهذا لفظه: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من محمَّدِ بنِ عبد الله إلى جَيْفَرٍ وعَبْدٍ ابْنَي الجُلَنْدَى، سلام على مَنِ اتَّبع الهدى، أمَّا بعد: فإنّي أدعوكما بدَاعيةِ الإسلام، أسْلِمَا تَسْلَما، فإني رسولُ الله إلى الناسِ كافةً لأنْذِرَ مَنْ كانَ حيًّا __________ (1) ساقط من "ج". (2) انظر: "طبقات ابن سعد": (1/ 260)، "تاريخ الطبري": (2/ 645 - 646)، "نصب الراية" (4/ 423 - 424)، "مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي" د. محمد حميد الله، ص (135 - 139).
(1/85)
ويَحِقَّ القولُ على الكافرين، وإنَّكما إنْ أَقْرَرْتُما بالإسلام وَلَّيْتُكُما مَكَانَكُما (1) ، وإنْ أَبَيْتُمَا أنْ تُقِرَّا بالإسلام فإنَّ مُلْكَكُما زائلٌ عنكما، وخَيْلِي تَحُلُّ بسَاحَتِكُما، وتَظْهَرُ نُبُوَّتي على مُلْكِكُمَا". وختم الكتابَ وبعث به مع عَمْرو بنِ العاص. قال عمرو: فخرجت حتى انتهيتُ إلى عُمَان، فلما قَدِمْتُها انتهيتُ إلى عَبْدٍ (2) -وكان أحلم الرَّجُلَيْن وأسْهَلَهُما خُلُقًا- فقلتُ: إنّي رسولُ رسولِ الله إليك وإلى أخيك. فقال: أخي المُقَدَّمُ عليَّ بالسِّنِّ والمُلْك، وأنا أُوْصِلُك إليه حتى يقرأَ (3) كتابَك. ثم قال لي: وما تدعو إليه؟ قلت: أدعوك إلى الله وحدَه لا شريكَ له، وتخلعَ ما عُبِدَ من دونه، وتشهدَ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه. قال: يا عَمْرو! إنَّك سيِّدُ قومِكَ، فكيف صَنَعَ أبوك فإنَّ لنا فيه قدوةً؟ قلتُ: مات ولم يؤمن بمحمَّدٍ، ووَدِدْتُ أنَّه كان أسْلَمَ وصدَّقَ به. وكنتُ أنا على مِثْل رأيه حتى هدانِي اللهُ للإسلام. قال: فمتى تَبعْتَه؟ قلت: قريبًا، فسألني أين كانَ إسلامي؟ فقلتُ: عند النَّجاشيِّ، وأخَبرته أنَّ النجاشيَّ قد أسْلَمَ. قال: فكيف صنع قومه بِمُلْكِه؟ قلت: أقرُّوه. قال: والأساقِفَةُ والرُّهْبَانُ؟ قلت: نعم. __________ (1) سقط من "ج". (2) في "ب، غ": "عبيد". (3) في "ج، غ": "تقرأ".
(1/86)
قال: انظُرْ يا عَمرو ما تقولُ، إنِّه ليس خصلةٌ في رجل أفْضَحَ له من كَذِبٍ، قلتُ: ما كذبتُ، وما نَسْتَحِلُّه في ديننا. ثم قال: ما أرى هِرَقْلَ عَلِمَ بإسلام النَّجاشيَ! قلتُ: بلى، قال: بأيِّ شيءٍ علمتَ ذلك؟ قلت: كان النّجاشيُّ يُخْرِج له خَرَاجًا، فلمّا أسْلَمَ وصدَّق بمحمَّدٍ قال: لا والله، لو سألني درهمًا واحدًا ما أعطيتُهُ، فبلغ هِرَقْلَ قولُه، فقال له نياق (1) أخوه: أتَدَعُ عبدك لا يُخْرِجُ لك خراجًا ويدينُ دينًا مُحْدَثًا؟ قال هرقل: رجلٌ رغب في دينٍ، واختاره لنفسه، ما أصنع به، والله لولا الضَّنُّ (2) بملكي لصنعتُ كما صَنَعَ. قال: انظر ما تقول يا عَمْرو؟ قلت: والله لقد صَدَقْتُكَ. قال عَبْدٌ (3) : فأخْبِرْني ما الذي يأمرُ به وينهى عنه؟ قلت: يأمر بطاعة الله -عزَّ وجلَّ- وينهى عن معصيته، ويأمر بالبِرِّ وصلةِ الرَّحِم، وينهى عن الظُّلم والعُدْوانِ، وعن الزِّنا وشُرْبِ الخمر، وعن عبادةِ الحَجَر والوَثَنِ والصَّليب. فقال: ما أحسن هذا الذي يدعو إليه! لو كان أخي يُتَابعُني لركبنا حتى نؤمنَ بمحمّدٍ ونصدِّقَ به، ولكنّ أخي أضنُّ بملكه مِنْ أَنْ يَدَعَه (4) ويصير دينًا (5) . قلت: إنَّه إنْ أسْلَمَ ملَّكَهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على قومِه؛ فأخذ الصدقة من __________ (1) في "ج، غ": "يناق". (2) في "غ": "الظن". (3) في "ج": "عنك". (4) في "ج": "يدعيه". (5) في "زاد المعاد": "ذنبًا". وقوله: دينًا، أي: تابعًا خاضعًا لغيره.
(1/87)
غنيِّهم فردَّها على فقيرهم. قال: إنَّ هذا لَخُلُقٌ حَسَنٌ، وما الصَّدَقَةُ؟ فأخبرتُه بما فَرَضَ رسولُ الله من الصَّدَقاتِ في الأموال حتى انتهيتُ إلى الإبل، فقال: يا عمرو، ويُؤخَذُ من سَوَائِمِ مواشينا التي ترعى الشَّجر وتَرِدُ المياه؟ فقلت: نعم، فقال: والله ما أرى (قومي في) (1) بُعْدِ دارهم وكثرة عددهم يطيعون بهذا، قال: فمكثتُ ببابه أيامًا وهو يَصِلُ إلى أخيه فيخبره كلَّ خبري. ثم إنه دعاني يومًا، فدخلتُ عليه، فأخذ أعوانُه بِضَبُعيَّ، فقال: دَعُوه فأرسلْتُ، فذهبتُ لأجلِسَ فأبَوا أنْ يَدَعُوني أجلسُ، فنظرتُ إليه، فقال: تكلَّمْ بحاجتِكَ، فدفعتُ إليه الكتابَ مختومًا، ففضَّ خَاتَمَهُ، فقرأه (حتى انتهى إلى آخره، ثم دفعه إلى أخيه فقرأه) (2) مِثْلَ قراءتِهِ إلا أنّي رأيتُ أخاه أرقَّ منه، ثم قال: ألاَ تخبرني عن قريشٍ كيف صنعتْ؟ فقلتُ: اتَّبعوه؛ إمَّا راغِبٌ في الإسلام، وإما مقهور بالسيف، قال: ومن معه؟ قلت: الناس قد رغبوا في الإسلام، واختاروه على غيره، وعَرَفوا بعقولهم -مع هدي الله إيَّاهم- أنَّهم كانوا في ضلالٍ، فما أعْلَمُ أحدًا بقي غَيْرَك في هذه الحَرَجَةِ، وإِنْ أنت لم تُسْلِمْ اليومَ وتَتَّبعْه يُوطِئْك الخيلَ، ويبيد خَضْرَاءَكَ، فأسْلِمْ تَسْلَمْ، ويَسْتَعْمِلْك على قومك ولا تدخلُ عليك الخيلُ والرِّجال. قال: دَعْنِي يومي هذا، وارجعْ إليَّ غدًا، فرجعتُ إلى أخيه فقال: يا عمرو، إنّي لأرجو أن يُسْلِمَ إن لم يضنَّ (3) بملكه. __________ (1) ساقط من "غ". (2) ساقط من "ب" واستدركه في الهامش من نسخة أخرى. (3) في "غ": "يظن".
(1/88)
حتى إذا كان الغدُ أتيتُ إليه، فأبى أن يأذنَ لي، فانصرفتُ إلى أخيه، فأخبرتُه أنّي لم أَصِلْ إليه، فأوصلني إليه، فقال: إني فكَّرتُ فيما دعوتَنِي إليه، فإذا أنا أضْعَفُ العرب إنْ ملُّكْتُ رجلًا ما في يدي، وهو لا تَبْلغ خيلُه هاهنا، وإنْ بلغتْ خيلُه ألْفَتْ قتالًا ليس كقتال مَنْ لاَقى، قلتُ: وأنا خارجٌ غدًا. فلما أيقن بمخرجي (1) خَلا به أخُوه فقال: ما نحنُ فيما قد ظهر عليه، وكلُّ مَنْ أرسل إليه قد أجابه، فأصبحَ فأرسلَ إليَّ فأجاب إلى الإسلام هو وأخوه جميعًا، وصدَّقا النبي - صلى الله عليه وسلم -، وخلَّيا بيني وبين الصَّدقة وبين الحُكْمِ فيما بينَهم، وكانا لي عَوْنًا على من خَالَفَنِي (2) . وكتب النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى هَوْذَةَ بنِ عليّ الحَنَفِيّ، صاحب اليَمَامَة: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من محمدٍ رسولِ الله إلى هَوْذَةَ بن عليٍّ، سلامٌ على مَنِ اتَّبَعَ الهدى، واعلَمْ أنَّ ديني سيظهرُ إلى مُنْتَهَى الخُفِّ والحافِرِ، فأسْلِمْ تَسْلَمْ أجعلْ (3) لك ما تحتَ يَدِك". وكان عنده أرْكُون دمشقَ -عظيمٌ من عظماء النَّصارى- فسأله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ وقال: قد جاءني كتابه يدعوني إلى الإسلام. فقال له الأركون: لِمَ لا تجيبُهُ؟ فقال: ضَنِنْتُ بديني، وأنا مَلِكُ قومي، إن اتَّبعْتُهُ لم أَمْلِك، قال: بلى والله، لئن اتَّبعتَه (4) لَيُمَلَكَنَّك، وإنَّ الخِيْرَةَ لك في __________ (1) في "ب": "بخروجي". (2) في "غ": "خالفه". (3) في "ج": "وأجعل". (4) في "غ": "ابتعته".
(1/89)
اتَباعِهِ، وإنه لَلنَّبِيّ العربيُّ الذي (1) بَشَّرَ به عيسى ابنُ مريم، واللهِ إنَّه لمكتوبٌ عندنا في الإنجيل (2). فصل وذكر الواقديُّ أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ شُجَاعَ بنَ وَهْب إلى الحارث بنِ أبي شَمِر، وهو بغوطةِ دمشقَ، فكتب إليه مَرْجعَهُ من الحُدَيْبيَة: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من محمَّدٍ رسولِ الله، إلى اَلحارث ابن أبي شمر، سلامٌ على من اتَّبع الهدى واَمن به وصدَّقَ، وإني أدعوكَ إلى أنْ تؤمنَ بالله وحدَهُ، لا شريك له، يَبْقَى لك مُلْكُكَ" وختم الكتاب. فخرج به شُجَاعُ بنُ وَهْب، قال: فانتهيتُ إلى حاجبه، فوجدتُه (3) يومئذٍ وهو مشغولٌ بتهيئة الأنْزَالِ والألْطاف لقيصر، وهو جاءِ من حِفصَ إلى إيليا -حيث كشف الله عنه جنود فارس- شكرا لله -عزَّ وجلَّ- قال: فأقمتُ على بابه يومين أو ثلاثةً، فقلت لحاجبه: إنّي رسولُ رسولِ الله إليه، فقال حاجبه: لا تصلُ إليه حتى يخرجَ يومَ كذا وكذا، وجعل (4) حاجبُهُ -وكان روميًّا اسمه مُري- يسألني عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وما يدعو إليه، فكنت أحدِّثُه فيرقُّ حتى يَغْلِبَهُ البكاء، ويقول: إنّي قرأتُ في الإِنجيل، وأجدُ صفةَ هذا النبيِّ بعينه. فكنتُ أُراه يخرج بالشَّام، فأراه قد (2) __________ (1) ساقط من "ب, غ". (2) انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد: (1/ 262)، "مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة"، د. محمد حميد الله، ص (156 - 157)، "المصباح المضيّ في كتَّاب النبيّ الأميِّ .. " لابن حديدة: (2/ 297 - 298). (3) في "غ": "فأجده"، وفي "ب": "فأخذه". (4) ساقط من "غ".
(1/90)
خرج بأرض العرب (1) ، فأنا أُومِنُ به وأصدِّقُه، وأنا أخاف (2) من الحارث بن أبي شمر أنْ يقتلني. وقال شُجَاعٌ: فكان هذا الحاجب يُكْرِمُني ويُحْسِنُ ضيافتي، ويُخْبِرُني عن الحارث باليأس منه، ويقول: هو يخاف قيصر، قال: فخرج الحارث يومًا وجلس، فوضع التَّاج على رأسه، فأذِنَ لي عليه، فدفعتُ إليه كتاب رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأه، وقال: مَنْ يَنْتَزِعُ منِّي مُلْكِي؟! أنا سائرٌ إليه ولو كان باليمين جئتُه، عليَّ بالناس! فلم يزل جالسًا يعرض حتى الليل، وأمر بالخيل (أن تُنْعَلَ) (3) ، ثم قال: أخْبِرْ صاحبك ما ترى. وكتب إلى قيصر يخبره خَبَري فصادفَ قيصر بإيليا، وعنده دِحْيَةُ الكَلْبيُّ، قد بعثه إليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما قرأ قيصر كتابَ الحارثِ، كتب إليه أَنْ لا تَسِرْ (4) إليه، وتَلَهَّ عنه، ووَافِني (5) بإيلياء. قال: ورجع الكتاب وأنا مقيمٌ، فدعاني، وقال: متى تريدُ أن تخرجَ إلى صاحبكَ؟ قلت: غدًا، (فأمر لي) (6) بمائةِ مثقالٍ ذهبًا، ووصلني مُري بنفقةَ وكسوة، وقال: اقرأْ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مِنّي السلامَ وأخْبِرْه أنّي مُتَّبِعٌ دِيْنَهُ. __________ (1) في "ج": "القرظي"، وفي "غ": "غيرها". (2) في "ج": "خايف". (3) في "ج": "بأن تحدّ". (4) في "ج": "تشر". (5) في "ج": "ووافاني". و"إيلياء" -بالمد والتخفيف- هي مدينة بيت المقدس، وقد تشدَّد الثانية وتُقْصر الكلمة. وهو معرَّب. انظر: "النهاية" لابن الأثير: (1/ 85). (6) في "ج": "فأمرني".
(1/91)
قال شُجاعٌ: فقدمتُ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. فأخبرتُه فقال: "بَادَ مُلْكُهُ" وأقْرَأْتُه من مُري السَّلامَ، وأخبرتُه بما قال. فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "صَدَق" (1). فصل ونحن إنما ذكرْنَا بعضَ ملوكِ الطَّوائفِ الذين آمنوا به، وأكابر علمائهم وعظمائهم، ولا يمكننا حَصْرُ مَنْ عداهم (2)، وهم (جمهورُ أهل الأرض، ولم يتخلَّفْ عن متابعته إلا الأقَلُّون) (3)، وهم: إمَّا مُسالِمٌ له قد رَضِي بالذلَّة والجزية والهوان، وإمَّا خائفٌ منه؛ فأهْلُ الأرض معه ثلاثةُ أقسامٍ: مسلمون (4) ومُسَالِمُونَ له، وخَائِفُونَ مِنْه. ولو لم يسلم من اليهود في زمنه إلا سَيِّدُهم على الإطلاق وابنُ سيِّدِهم، وعالمُهم وابنُ عالمهم باعترافهم له بذلك وشهادتهم: عَبْدُ اللهِ ابنُ سَلَامٍ، لكان في مقابلة كلِّ يهوديً على وجه الأرض. فكيف وقد تابعه على الإسلام من الأحبار والرهبان مَنْ لا يُحْصي عدَدَهُمْ إلا الله؟! ونحن نذكر قصة عبد الله بن سلام: فروى البخاريُّ في "صحيحه" من حديث عبدِ العزيز بنِ صُهَيْبٍ، عن أنس بن مالكٍ، قال: أقْبَلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، فقالوا: جاء نبيُّ الله، فَاسْتَشْرَفُوا ينظرون، إذْ سمع به عبدُ الله بنُ سَلَامٍ، وهو في نخلٍ لأهله يَخْتَرِفُ لهم منه، فَعَجِلَ أنْ يضع الذي يَخْتَرِفُ لهم فيها، فجاء __________ (1) انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد: (1/ 261)، "المصباح المضيّ" لابن حديدة: (2/ 261 - 262)، "مجموعة الوثائق السياسية"، ص (126). (2) في "غ": "عدائهم". (3) ما بين القوسين ساقط من "ب" واستدركه من نسخة أخرى. (4) في "ب، ص": "مسلمون له".
(1/92)
وهي معه، فسمع من نبيِّ الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم رجع إلى أهله، فلما خَلاَ نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - جاء عبدُ اللهِ بنُ سلامٍ، فقال: أشهد أنَّك نبيُّ الله حقًّا، وأنَّك جئتَ بالحقِّ، ولقد عَلِمَتِ اليهودُ أنِّي سَيِّدُهُم وابنُ سيِّدِهم وأعْلَمُهُمْ وابنُ أعْلَمِهِمْ (1) ، فَادْعُهُمْ فاسألْهُمْ عنِّي قَبْلَ أن يعلموا أنّي قد أسلمتُ، فإنهم إنْ يعلمُوا أنِّي قد أسلمتُ قالوا فيَّ ما ليس فيَّ. فأرسل نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم فدخلوا عليه، فقال لهم نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا مَعْشَرَ اليهود ويلكم! اتَّقُوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو إنَّكم لتعلمونَ أنّي رسولُ الله حقًّا، وأنّي جِئْتُكُم بحقٍّ، أسلمُوا". قالوا: ما نعلمه، فأعادها عليهم ثلاثًا وهم يُجِيْبُونَه كذلك. قال: "أيُّ (2) رجلٍ فيكمِ عبدُ الله بنُ سلام؟ " قالوا: ذاك سَيِّدُنا وابنُ سيِّدِنا، وأعْلَمُنَا وابنُ أعْلَمِنَا. قال: "أفرأَيْتُم إنْ أسْلَم؟ " قالوا: حاشى لله، ما كان لِيُسْلِم. فقال: "يا ابنَ سلامٍ اخْرُجْ عليهم" فخرج إليهمِ فقال: يا مَعْشَرَ اليهود، ويلكم، اتَّقُوا الله! فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتَعْلَمُون أنِّه رسولُ الله حقًّا، وأنَّه جاء بالحقِّ، فقالوا: كَذَبْتَ، فَأخرَجَهُمُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - (3) . وفي "صحيح البخاريِّ" أيضًا من حديث حُمَيْدٍ، عن أنسٍ، قال: سمع عبدُ الله بنُ سلامٍ بقدوم رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في أرضٍ له، فأتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنّي سائِلُك عن ثلاثٍ، لا يعلمُهُنَّ إلا نبيٌّ، ما أولُ أشراطِ __________ (1) في "ج": "عالمهم". (2) في "ج، غ": "فأيّ". (3) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار، باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة: (7/ 249 - 250).
(1/93)
الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما يَنْزِعُ الولدُ إلى أبيهِ أو إلى أمِّهِ؟ قال: "أخْبَرَنِي بهنَّ جبريلُ آنفًا" قال: جبريل؟ قال: "نعم" قال (1) : ذاك عدو اليهود من الملائكة، قال: ثم قرأ هذه الآية: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 97]. أما أول أشراطِ الساعة فنارٌ تخرج على النَّاس من المشرِق إلى المغربِ، وأمَّا أول طعام يأكلُه أهلُ الجنة فزِيَادَةُ كَبِدِ الحُوْتِ، وإذا سَبَقَ ماءُ الرجَلِ ماءَ المرأةِ نَزَعَ (الولدُ إلى أبيه) (2) ، وإذَا سبقَ ماءُ المرأة ماءَ الرَّجل نَزَعَ الولدُ إلى أمِّه. فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنِّك رسولُ الله، إنَّ اليهود قومٌ بُهُتٌ، وإنَّهم إنْ يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بَهَتُوني (3) ، فجاءتِ اليهودُ إليه، فقال: "أيُّ رجلٍ فيكم عبدُ الله بنُ سلام؟ " قالوا: خيرُنَا (4) وابنُ خيرِنَا، وسيِّدُنا وابنُ سيِّدِنا، قال: "أرأيتم إِنْ أسْلَمَ عبد الله بنُ سلامٍ؟ " قالوا (5) : أعاذه الله من ذلك، فخرج عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنَّ محمدًا رسولُ الله، قالوا: شَرُّنا وابنُ شَرِّنا، وانتقصوه، قال: هذا الذي كنتُ أخاف يا رسولَ الله (6) . وقال ابن إسحاقَ: حدَّثني عبدُ الله بن أبي بكرٍ، عن يحيى بن __________ (1) في "ب": "قالوا". (2) ساقط من "غ". (3) في "ب": "بهتوا". (4) في "ب": "حبرنا". (5) في "غ": "قال". (6) أخرجه البخاري في التفسير، باب قوله تعالى "من كان عدوًّا لجبريل": (8/ 165)، وفي مواضع أخرى.
(1/94)
عبد الله، عن رجلٍ من آل عبد الله بن سلامٍ، قال: كان من حديث عبد الله بن سلام حين أسلم وكان حَبْرًا (1) عالمًا فقال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعَرَفْتُ صفتَهُ واسْمَه وهيئته والذي كنا نَتَوَكَّف له، فكنت مُسِرًّا لذلك صامتًا عليه، حتى قَدِمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ، فلما قدم نزل معنا في بني عمرو بن عوف، فأقبل رجلٌ حتى أخبر بقُدُومِهِ، وأنا في رأس نخلةٍ لي أعمل فيها، وعمتي خالدةُ بنتُ الحارث تحتي جالسة، فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كبَّرت، فقالت لي عمتي حين سمعت تكبيري: لو كنتَ سمعت بموسى بنِ عِمْرانَ ما زدتَ (2) . قال: قلت لها: أيْ عَمَّة، هو والله أخو مُوسى بنِ عِمْرَانَ، وعلى دينِه، بُعِث بما بُعِث به، فقالت: يا ابن أخي أهو النبيُّ الذي كنا نُبَشَّر به أنه يُبْعث مع نَفْسِ السَّاعة؟ قال: قلت لها: نعم، قالت: فذاك إذًا. قال: ثم خرجتُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلمت، ثم رجعت إلى أهل بيتي فأمَرْتُهُمْ فأسلَمُوا، وكتمتُ إسلامي من اليهود. ثم جئتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: إنَّ اليهود قوم بُهُتٌ وإنِّي أُحبُّ أن تُدْخِلَني في بعض بيوتك تُغَيِّبَنِي عنهم، ثم تسألهم عنِّي كيف أنا فيهم، قبل أن يعلموا بإسْلامي، فإنَّهم إنْ عَلِمُوا بذلك بَهتُوني وعَابُوني، قال: فأدْخَلَني بعضَ بيوته، فدخلوا عليه فكلَّموه وسألوه، فقال لهم: "أيُّ رجل عبدُ اللهِ بنُ سلامٍ فيكم؟ " قالوا: سيِّدُنا وابنُ سيِّدِنا، وحَبْرُنا وعَالِمُنَا. قال: فلما فرغوا من قولهم خرجتُ عليهم، فقلتُ لهم: يا معشر اليهود! اتَّقُوا الله، واقْبَلُوا ما جاءكم به، فوالله إنَّكم لتعلمون أنِّه رسولُ __________ (1) في "غ": "خيِّرًا". (2) في "ج، غ": "زاد".
(1/95)
الله، تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة باسمه (1) وصفته، فإنّي أشهد أنَّه رسول الله، وأُوْمِنُ به وأصدِّقُه وأعرفه. قالوا: كذبتَ، ثم وقعوا فيَّ، فقلتُ: يارسولَ الله أَلمْ أُخْبِرْك أنِّهم قومٌ بهتٌ أهلُ غدرٍ وكذبٍ وفجورٍ؟! قال: فأظهرتُ إسلامي، وأسلمَ أهلُ بيتي، وأسلمتْ عَمَّتي، ابنةُ الحارث، فَحَسُنَ إسلامها (2) . وفي "مسند الإمام أحمد" وغيره، عنه قال: لما قَدِمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ وانجَفَلَ النَّاس قِبَلَهُ، فقالوا: قَدِمَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فجئت في النَّاس لأنظر إلى وجهه، فلما رأيتُ وجهه عرفت أنَّ وجهه ليس بوجه كذّاب، فكان أول شيءٍ سمعته منه أن قال: "يا أيُّها الناس أطْعِمُوا الطعام، وأفْشُوا السَّلامَ، وصِلُوا الأَرْحَامَ، وصَلُّوا والناسُ نِيَامٌ، تدخلوا الجنَّة بسلامٍ" (3) . فعلماء القوم وأحبارهم، كلُّهم كانوا كما قال الله عز وجل: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة/ 146، الأنعام/ 20] فمنهم من آثر الله ورسولَه والدارَ الآخرة، ومنهم من آثر الدنيا وأطاعَ داعِيَ الحسد والكِبْر. __________ (1) في النسخ "اسمه". والمثبت من ابن إسحاق. (2) "السيرة النبوية" لابن هشام: (1/ 516) وما بعدها، مسند الإمام أحمد: (5/ 451)، "دلائل النبوة" للبيهقي: (2/ 528 - 529)، "طبقات ابن سعد": (1/ 236)، "مجمع الزوائد" (9/ 326). (3) أخرجه الإمام أحمد: (5/ 451)، والترمذي في صفة القيامة، باب فضل صلاة الليل: (7/ 187 - 188) وقال: "حديث حسن صحيح"، والدارمي في الصلاة: (1/ 340)، والبيهقي: (2/ 502)، وابن أبي شيبة: (8/ 536)، وعبد بن حميد، ص (496).
(1/96)
وفي "مغازي موسى بن عقبة" عن الزُّهْرِيِّ، قال: كان بالمدينة مَقْدَمَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أوثانٌ تعبدها (1) رجال من أهل المدينة، لا يتركونها، فأقْبَلَ عليهم قومُهم وعلى تلك الأوثان فهدموها. وعَمَدَ أبو ياسر بنُ أخطب، أخو حُيَيّ بنِ أخطب، وهو أبو صفيةَ زوج النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فجلس إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فسمع منه وحادثه ثم رجع إلى قومه، وذلك قبل أن تُصْرَفَ القِبْلَةُ نحو المسجد الحرام، فقال أبو ياسر: يا قوم (2) ، أطِيْعُوني، فإنَّ الله -عزَّ وجلَّ- قد جاءكم بالذي كنتم (3) تنتظرونَ، فاتَّبِعُوه ولا تُخالِفُوه (4) . فانطلقَ أخوه حُيَيّ حين سمع ذلك -وهو سيد اليهود يومئذ وهما من بني النَّضِيْر- فأتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فجلس إليه -وسمع منه، فرجع إلى قومه وكان فيهم مطاعًا- فقال: أتيتُ مِنْ عند رجل -والله- لا أزال له عدوًّا أبدًا. فقال له أخوه أبو ياسر: يا ابنَ أمي، أطِعْنِي في هذا الأمر، ثمِ اعْصِنِي فيما شئتَ بعده، لا تَهْلِك! قال: لا والله، لا أطيعك. واسْتَحْوذَ عليه الشَّيطانُ، فاتَّبَعَهُ قومُه على رأيه (5) . وذكر ابن إسحاقَ، عن عبد الله بنِ أبي بكرٍ، عمَّن حدَّثه عن صفيةَ بنتِ حُيَيّ أنها قالت: لم يكن من ولد أبي وعمي أحدٌ أحبَّ إليهما مِنّي، لم ألقَهُمَا في ولدٍ قطُّ إلا أخذاني دونَه، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قُبَاء نزل __________ (1) في "ب": "تعبدونها". (2) في "ج": "قومي". (3) ساقط من "ب". (4) في "غ": "تخافوه". (5) انظر: "البداية والنهاية" لابن كثير: (4/ 525) (تحقيق د. التركي)، "دلائل النبوة" للبيهقي: (2/ 533).
(1/97)
في بني عَمْرو بنِ عوف، فغدا إليه أبي وعَمِّي أبو ياسر بنُ أخْطَب مُغَلِّسِيْنَ، فوالله ما جاءا إلا مع مغيب الشمس، فجاءا فَاتِرَيْن كَسِلَيْنِ (1) ساقِطَيْن، يمشيانِ الهُوَيْنَا، فَهَشِشْتُ إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما نظر إليَّ واحدٌ منهما، فسمعتُ عمِّي أبا ياسرٍ يقول لأبي: أهُوَ هوَ؟ قال: نعم والله، قال: تعرفه بِنَعْتِهِ وصفتِه؟ قال: نعم والله. قال: فماذا في نفسك منه؟ قال: عَدَاوَتُه -واللهِ- ما بَقِيْتُ (2) . قال ابن إسحاق: وحدَّثني محمدُ بنُ أبي (3) محمَّدٍ، مولى زيد بن ثابت، عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، وعِكْرمَةُ عن ابنِ عبَّاسٍ، قال: لما أسلم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن شعية (4) ، وأسد بن شعية، وأسيد بن عبيد، ومن أسلم من اليهود فآمنوا وصدقوا ورغبوا في الإسلام، قال مَنْ كَفَرَ من اليهود: ما آمن بمحمَّدٍ، ولا اتَّبعه إلا شِرَارُنا، ولو كانوا من خيارنا ما تركُوا دينَ آبائهم وذهبوا إلى غيره، فأنزل الله -عزَّ وجلَّ- في ذلك (5) : {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 113، 114]. __________ (1) في "ب" بالهامش: "كلّين". (2) "السيرة النبوية": (1/ 518) وانظر: "دلائل النبوة" للبيهقي: (2/ 533)، ولأبي نعيم الأصبهاني: (1/ 77). (3) ساقط من "غ". (4) في "السيرة": "سعية"، وفي "الدلائل" للأصبهاني: "سُعْنَةَ". (5) "السيرة النبوية" مع "الروض الأنف": (2/ 26)، "طبقات ابن سعد": (1/ 160)، "دلائل النبوة" لأبي نعيم: (1/ 81)، "دلائل النبوة" لقوّام السنة: (4/ 1237).
(1/98)
فصل قال السائل (1): مشهورٌ عندكم (في الكتاب والسنة أنَّ نبيَّكم كان مكتوبًا عندهم) (2) في التوراة والإنجيل، لكنَّهم مَحَوْهُ عنهما لسبب الرِّياسةِ والمأْكلَةِ. والعقلُ يستشكل ذلك، أفكُلُّهم اتَّفقُوا على مَحْوِ اسمهِ من الكتب المنزَّلة من ربِّهم، شرْقًا وغربًا وجنوبًا وشمالًا؟! هذا أمرٌ يستشكله (3) العقلُ أعْظَمَ مِنْ نَفْيِهِمْ بألسنتهم؛ لأنَّه يمكن الرجوعُ عمَّا قالوا بألسنتهم. والرجوعُ عمَّا مَحَوا أبْعَدُ! والجواب: أنَّ هذا السؤال مبنيٌّ على فَهْمٍ فاسد، وهو أنَّ المسلمين يعتقدون (أنَّ اسم النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الصريحَ، وهو محمد بالعربية، مذكورٌ في التوراة والإنجيل -وهما الكتابان المتضمِّنان لشريعتين، وأنَّ المسلمين يعتقدون) (4) أنَّ اليهود والنصارى في جميع أقطار الأرض محوا ذلك الاسمَ، وأسْقَطُوه جملةً من الكتابَيْن وتَواصَوا بذلك بُعْدًا وقُرْبًا وشرقًا وغربًا. وهذا لم يَقُلْه عالمٌ من علماء المسلمين، ولا أخبر اللهُ -سبحانه- به في كتابه عنهم، ولا رسولُه ولا بَكَّتَهُمْ (5) به يومًا من الدَّهر، ولا قاله أحدٌ من الصَّحابة ولا الأئمة بَعْدَهُمْ، ولا علماءُ التفسير، ولا المُعْتَنُونَ بأخبار الأُمم وتواريخِهِمْ. __________ (1) في المطبوع: "أما المسألة الثالثة فهي قول السائل". (2) ساقط من "غ". (3) في "غ": "يستشكل". (4) ما بين القوسين ساقط من "غ". (5) في "غ": "يكتم".
(1/99)
وإنْ قُدِّرَ (1) أنِّه قاله بعض عوامِّ المسلمين؛ يقصد به نَصْرَ الرَّسول، فقد قيل: الصَّدِيْق الجاهلُ يضرُّ أكثر مما يضرُّ العدوُّ العاقل. وإنما أُتِيَ هؤلاء من قلَّة فَهْمِ القرآن، وظنُّوا أنَّ قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف: 157]. = دلَّ على الاسم الخاص بالعربية في التوراة والإنجيل المخصُوصَيْن، وأنّ ذلك لم يوجد البَتَّة. فهذه ثلاث مقامات (2) : أما المقام الأول: فالربُّ سبحانه إنما أخبر عن كَوْنِ رسولهِ مكتوبًا عندهم -أي الإخبار عنه وصفته ومخرجه ونعته- ولم يُخْبِرْ بأنَّ صريح اسمِه العربيّ مذكورٌ عندهم في التوراة والإنجيل. وهذا واقعٌ في الكتابَيْن -كما سنذكر ألفاظهما (3) إن شاء الله- وهذا أبْلَغُ مِنْ ذِكْره بمجرد اسمهِ، فإنَّ الاشتراك قد يقع في الاسم فلا يحصل التعريف والتمييز، ولا يشاء أحدٌ، يُسمَّى بهذا الاسم، أنْ يَدَّعي أنه هو: إلا فَعَلَ، إذِ الحوالةُ إنما وقعتْ على مجرَّد الاسم، وهذا لا يحصل به بيانٌ ولا تعريفٌ ولا هدًى، بخلاف ذِكْرِه بنعتِه وصفتِه وعلاماتِه ودعوته، وصفةِ أمَّتِه، ووقت مخرجه، ونحو ذلك، فإنَّ هذا يعيِّنُه ويُمَيِّزُه ويحصر نَوْعَه في شخصِهِ. وهذا القدر مذكورٌ في التوراة والإنجيل وغيرهما من النبوءات التي __________ (1) في "غ": "قدِّر له". (2) ذكر المصنف هنا المقام الأول، ولم يذكر المقامين الآخرين، ولعلهما ما سيأتي من وجوه العلم بأنه - صلى الله عليه وسلم - مذكور في كتبهم، ص (109) وما بعدها. (3) في "غ": "ألفاظها".
(1/100)
بأيدي أهل الكتاب -كما سنذكرها- ويدلُّ عليه وجوه: (الوجه الأول): أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أحرص الناس على تصديقه، واتِّباعِهِ، وإقامة الحجة على مَنْ خالفه وجَحَدَ نبوَّته، ولاسيما أهل العلم والكتاب، فإنَّ (1) الاستدلال عليهم بما يعلمون بطلانه قطعًا لا يفعله عاقل، وهو بمنزلة مَنْ يقول لرجلٍ (2) : علامةُ صِدْقي أنَّك فلانُ بن فلانٍ وصَنْعَتُك (3) كيتَ وكيتَ، وتُعْرَفُ بِكَيْتَ وكيتَ، ولم يكن الأمر كذلك، بل بضدِّه. فهذا لا يصدُر ممَّنْ له مُسْكَةُ عقلٍ، ولا يصدِّقه أحدٌ على ذلك، ولا يَتَّبعُه أحدٌ على ذلك، بل يَنْفِرُ العقلاء كلُّهم عن تصديقه واتِّباعِهِ. والعادةُ تُحِيْلُ سكوتَهم عن الطَّعن عليه والردِّ والتهجين لقوله. ومن المعلوم بالضَّرورةِ: أنَّ محمدَ بنَ عبدِ الله -صلوات الله وسلامه عليه- نادى مُعْلِنًا في هاتين الأمَّتين اللَّتين هما أعلم الأمم في الأرض قبل مبعثه، بأنَّ ذِكْره ونَعْتَه وصفَته بعيِبه، عندهم في كتبهم، وهو يتلو ذلك عليهم ليلًا ونهارًا، وسرًّا وجهارًا في كلِّ مجمع، وفي كلِّ نادٍ، يدعوهم بذلك إلى تصديقه والإيمانِ به؛ فمنهم من يصدِّق (4) ويؤمن به، ويخبر بما في كتبهم من نعته وصفته وذكره كما سيمر بك إن شاء الله. وغايةُ المكذِّب الجاحدِ أنْ يقولَ: هذا النَّعْتُ والوصفُ حقٌّ، ولكن لستَ أنت المراد به بل نبيٌّ آخر! __________ (1) في "غ": "وإن". (2) في "غ": "الرجل". (3) في "ب": "وصفتك". (4) في "غ": "يصدقه".
(1/101)
وهذا غاية ما يمكنه من المكابرة، ولم تُجْدِ عليه هذه المكابرة إلا كشفه عورته وإبداءه الفضيحة بالكذب والبُهْتَان. فالصفات (1) والنعوت والعلامات المذكورة عندهم منطبقة عليه حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ، بحيث لا يشكُّ من عرفها ورآه أنَّه هو، كما عرفه قَيْصَرُ وسَلْمَانُ بتلك العلامات المذكورات التي كانت عنده من بعض علمائه، وكذلك هِرَقْلُ عَرَفَ نُبوَّتَه بما وُصِفَ له من العلامات التي سألَ عنها أبا سفيان، فطابقت ما عنده، فقال: إنْ يَكُنْ ما تقولُ حقًّا فإنَّه نبيٌّ، وسيملك ما تحت قدميَّ هاتين. وكذلك مَنْ قدَّمْنَا ذكرهم من الأحبار والرُّهبان الذين عرفوه بنعته وصفته كما يعرفون أبناءهم. قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146]. وقال في موضع آخر: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 20]. ومعلومٌ أنَّ هذه المعرفة إنما هي بالنَّعتِ والصِّفَةِ المكتوبةِ عندهم التي هي (2) منطبقة عليه، كما قال بعض المؤمنين منهم: والله لأَحَدُنا أعرفُ به من ابنه، إنَّ أحدنا لَيَخْرجُ من عند امرأته، وما يدري ما يحدثُ بعده. ولهذا أثنى الله سبحانه على من عَرَفَ الحقَّ منهم، ولم يستكبر عن اتِّباعه، فقال: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ __________ (1) في "غ": "فإن الصفات". (2) ساقط من "غ".
(1/102)
مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [المائدة: 82 - 86]. قال ابنُ عبَّاسٍ: لما حضرَ أصحابُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بين يدي النَّجاشيِّ وقرأوا القرآن، سمع ذلك القِسِّيْسُونَ والرُّهبان فانحدرتْ دموعهم مما عَرَفُوا من الحق فقال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} الآيات (1) . وقال سعيد بن جبير: بعث النَّجاشيُّ من خيار أصحابه ثمانين رجلًا إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقرأ عليهم القرآن، فَبَكَوا ورَقُّوا، وقالوا نعرفُ -والله-، فأسلموا وذهبوا إلى النَّجاشيِّ فأخْبَرُوه فأسْلمَ، فأنزل الله فيهم: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ} الآيات (2) . وقال السُّدِّيُّ: كانوا اثني عَشَرَ رجلًا؛ سبعةً من القسيسين وخمسةً من الرُّهبان، فلما قرأ عليهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - القرآنَ بَكَوا وقالوا: {رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}. قال ابن عباس: هم محمدٌ وأمَّتُه، وهم القوم الصالحون الذين __________ (1) أخرجه الطبري: (7/ 1 - 3)، والبغوي: (1/ 703). (2) انظر: "تفسير البغوي": (1/ 703 - 704).
(1/103)
طمعوا أن يُدْخِلَهم الله فيهم (1) . والمقصود: أنَّ هؤلاء الذين عرفوا أنه رسول الله بالنَّعت الذي عندهم، فلم يملكوا أعينَهُم من البكاء وقلوبَهُم من المبادرة إلى الإيمان. ونظيرُ هذا: قولُه -سبحانه-: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا* (109) } [الإسراء: 107 - 109]. قال إمامُ التفسير مُجَاهِدٌ: هم قومٌ من أهل الكتاب، لما سمعوا القرآنَ خَرُّوا سُجَّدَا وقالوا: {سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} (2) . كان الله -عز وجل- وعد على ألسنة أنبيائه ورسله أَنْ يبعثَ في آخر الزمان نبيًّا عظيمَ الشأن، يَظْهرُ دِيْنُه على الدِّين كلِّه، وتنتشرُ دعوتُه في أقطار الأرض، وعلى رأسِ أمته تقومُ الساعةُ. وأهْلُ الكتابَيْنِ مجمعون على أنَّ الله وَعَدَهُم بهذا النبيِّ، فالسُّعداء منهم عرفوا الحقَّ فآمنوا به واتَّبعوه، والأشقياء قالوا: نحن ننتظره ولم يبعث بعد (رسولًا، فالسُّعداء) (3) لَمَّا سمعوا القرآنَ من الرسولِ عَرَفُوا أنَّه النبي الموعودُ به، فخرُّوا سُجَّدًا لله، إِيمانًا به وبرسوله، وتصديقًا بوعده الذي أنجزه، فرأوه عِيَانًا فقالوا: {سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا}. وذكر يونُسُ بنُ بُكَيْر، عن سَلَمَةَ بن عبد يَسُوع، عن أبيه، عن جدِّه __________ (1) انظر: "تفسير البغوي": (1/ 704). (2) انظر: "تفسير الطبري": (15/ 181)، "زاد المسير": (5/ 97). (3) في "غ": "رسول الله".
(1/104)
-قال يونس: وكان نصرانيًّا فأسْلَمَ- أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى أهل نَجْرَانَ: "بسم إله إِبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ، من محمَّدٍ النبيِّ رسولِ الله إلى أُسقفِّ نَجْرَانَ وأهلِ نجرانَ؛ سِلْمٌ أنتم، إنِّي أحمدُ إليكم إله إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ. أما بعد: فإني أدعوكم إلى عِبَادةِ اللهِ مِنْ عِبَادَةِ العِبَادِ، وأدْعُوكم إلى ولايةِ الله من ولايةِ العباد، فإنْ أَبَيْتُمْ فالجزيةُ، فإن أبيتم فقد آذَنْتُكُمْ بحربٍ من الله (1) ، والسلام". فلما أتى الأُسْقُفَّ الكتابُ فقرأه فَظِعَ به (2) ، وذعره ذُعْرًا شديدًا، فبعث إلى رجلٍ من أهل عُمَان (3) يقال له: شُرَحْبِيْلُ بنُ وَدَاعَة، وكان من همدان، ولم يكن أحدٌ يُدعَى إلى مُغضِلَةٍ قَبْلَه؛ فدفع الأسقفُّ كتابَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى شُرَحْبيْل فقرأه، فقال الأسقفُّ: ما رأيك يا أبا مريم، فقال شُرَحْبيْل (4) : قد عَلمتَ ما وعد الله إبراهيمَ في ذريَّة إسماعيل من النبوَّة، فماَ نأمن من أن يكون هذا هو ذاك الرَّجل، ليس لي في النبوة رأيٌ، لو كان أمرًا من الدنيا أشرتُ عليك فيه برأي، وجهدت لك. فقال الأسْقُف: تنحَّ فَاجْلِسْ، فتنحَّى فجلسَ ناحيةً. فبعث الأسقف إلى رجلٍ من أهل نجران، يقال له: (عبد الله بنُ شُرَحْبِيل، وهو من ذي أَصْبَح من حِمْيَر، فأقرأه الكتابَ وسأله الرأيَ فيه، فقالَ لَه مِثْلَ قولِ شُرَحْبيل، فأمره الأُسقف فتنحَّى. __________ (1) من "ب". (2) في "ب": "قطع به". (3) في "زاد المعاد": "من أهل نجران". (4) في "ب، غ": "شرحيل". وهي كذلك فيما سيأتي من المواضع كلها.
(1/105)
ثم بعث إلى رجلٍ من أهل نجرانَ) (1) ، يقال له: جبار بن فيض، من بني الحارث بن كعب، فأقرأه الكتابَ وسأله عن الرأي فيه، فقال له مِثْلَ قولِ شرحبيل وعبدِ الله، فأمره الأُسقف فتنحَّى ناحيةً. فلما اجتمع الرأي منهم على تلك المقالة جميعًا أمر الأُسقفُّ بالنَّاقوس فَضُرِب به، ورُفِعَتِ المسُوحُ (2) بالصَّوامع -وكذلك كانوا يفعلون إذا فزعوا بالنهار، وإذا كان فزعهم ليلًا ضرب بالناقوس ورفعت النيران في الصوامع- فاجتمع أهل الوادي، أعلاه وأسفله وطوله مسيرةَ يومٍ للراكب السريع، وفيه ثلاثة وسبعون قريةً، وعشرون ومائة ألف مقاتل؛ فقرأ عليهم كتاب رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وسألهم عن الرأي فيه، فاجتمع رأيُ أهلِ الرّأي منهم على أنْ يبعثوا شُرَحْبِيْلَ بن وداعةَ الهَمْدَانيّ، وعبدَ الله بنَ شرحبيل، وجبارَ بنَ فيضٍ، فيأتونه بخبرِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. فانطلق الوفد حتى إذا كانوا (3) بالمدينة وضعوا ثياب السَّفر عنهم، ولبسوا حُلَلًا لهم يجرُّونها، مِنْ حِبَرَةٍ، وخواتيمَ الذهبِ، ثم انطلقوا حتى أتَوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسلَّموا عليه، فلم يردَّ عليهمَ السلام، وتصدَّوا لكلامه نهارًا طويلًا فلم يكلِّمهم وعليهم تلك الحُلَلُ والخواتيمُ الذهبُ فانطلقوا يبتغون عثمانَ بن عفَّان، وعبدَ الرَّحمنِ بن عوف، وكانا معرفةً لهم، كانا يبعثان العِيْرَ إلى نَجْرَانَ في الجاهليَّة فيشترى لهما من بُرِّها وتمرِها، فوجدوهما في ناسٍ من المهاجرين والأنصار في مجلسٍ، فقالوا: يا عثمان ويا عبد الرحمن، إنَّ نبيَّكم كتب إلينا بكتابٍ فأقْبَلْنا __________ (1) ساقط من "غ". (2) في "ب": "السرج" وفي "غ": "الشرج". (3) في "غ": "كان".
(1/106)
مجيبينَ له، فأتيناه فسلَّمنا عليه فلم يردَّ سلامَنَا، فتصدَّيْنَا لكلامه نهارًا طويلًا، فأعيانا أن يكلِّمنا، فما الرأيُ منكما: أنعودُ، أم نَرْجعُ إليه؟ فقالا لعليِّ بنِ أبي طالبٍ، وهو في القوم: ما ترى يا أبا الحَسَنِ في هؤلاء القوم؟ فقال عليٌّ لعثمان وعبدالرحمن: أرى أنْ يضعوا حُلَلَهم هذه وخواتِيْمَهم، ويلبسوا ثيابَ سَفَرِهم، ثم يعودون إليه. ففعل وفد نجرانَ ذلك، ووضعوا حُلَلَهم وخواتيمَهم، ثم عادوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلَّموا عليه فردَّ عليهم سلامهم، ثم قال: "والذي بعثني بالحقِّ لقد أتَوْني المرةَ (1) الأولى وإنَّ إبليس لَمَعَهُمْ". ثم سألهم وسألوه، فلمِ تزل به وبهم المسألة حتى قالوا له: ما تقولُ في عيسى، فإنَّا نحبُّ أن نَعْلَمَ ما تقول فيه؟ فأنزل الله -عز وجل-: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 59 - 61]. فأبوا أن يُقِرُّوا بذلك. فلما أصبحَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغد، بعد ما أخبرَهم الخبرَ، أقبل مشتملًا على الحَسَنِ والحُسَيْن في خميلةٍ له، وفاطمةُ تمشي عند ظهره، إلى الملاعَنَةِ، وله يومئذ عِدَّة نسوةٍ، فقال شُرَحْبِيْل لصاحبه: يا عبد الله بن شرجبيل ويا جبار بن فيض، لقد علمتما أنًّ الوادي إذا اجتمع أعلاه وأسفله لم يَرِدُوا ولم يَصْدُرُوا إلا عن رأيى، وإنّي -والله- أرى أمرًا مُقْبِلًا، والله لئن كان هذا الرجل ملِكًا مبعوثًا فكنا أولَ العرب طعن في __________ (1) في "غ": "المدة".
(1/107)
عينه وردَّ عليه أمرَه: لا يذهبُ لنا من صدره ولا من صدور قومه حتى يصيبنا (1) بجائحةٍ، وإنَّا لأدْنَى العرب منهم جوارًا، ولئن كان هذا الرجل نبيًّا مرسلًا فَلَاعَنَّاهُ = لا يبقى على وجه الأرض منَّا شعرةٌ ولا ظُفُر إلا هلَكَ. فقال له صاحباه: فما الرأيُ يا أبا مريم؟ فقد وَضَعَتْكَ الأمور على ذراِع فهاتِ رأيك. فقال: رأي أنْ أُحَكِّمَهُ، فإِنّي أرى الرَّجلَ لا يحكم شَططا أبدًا، فقالا له: أنت وذاك، فَلَقِيَ شرحبيلُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إنِّي قد رأيتُ خيرًا من مُلاعَنَتِكَ. فقال (2) : "ما هو"؟ قال شرحبيل: حَكَّمْتُك اليومَ إلى الليل، وليلتك إلى الصباح؛ فمهما حَكَمْتَ فينا فهو جائز، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لعلَّ وراءك أحدًا يُثَرِّبُ عليك"؟ فقال له شرحبيل: سَلْ صَاحِبَيَّ فسألهما، فقالا: ما نَرِدُ الموارد، ولا نَصْدُرُ المصادِرَ إلا عن رأي شُرَحْبِيْل. فرجعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يُلَاعِنْهم، حتى إذا كان الغد أتَوْه، (فكتب لهم كتابَ صلحٍ ومُوَادَعَةٍ، فقبضوا كتابهم وانصرفُوا) (3) إلى نجرانَ، فتلقَّاهم الأُسْقُفُّ ووجوه نجران على مسيرةِ ليلةٍ من نجران (4) ، ومع الأُسقف أخٌ له من أمه وهو ابن عمه من النسب، يقال له: أبو علقمة، فدفع الوَفْدُ كتابَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الأُسقف، فبينا هو يقرؤه وأبو علقمة معه وهما يسيران، إذْ كَبَتْ بأبي علقمةَ ناقَتُه، فَتَعَّسَ، غير أنَّه لا يَكْنِي عن __________ (1) في "غ": "يصيّرنا". (2) في "غ": "فقالوا". (3) ساقط من "غ". (4) "من نجران" ساقطة من "غ".
(1/108)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له الأُسقفُّ عند ذلك: قد -واللهِ- تَعَّسْتَ نبيًّا مُرْسَلًا، فقال له أبو علقمة: لا جَرَمَ -والله- لا أحُلُّ عنها عَقْدًا حتى آتِيَهُ، فضرب وجه ناقته نحو المدينة وثنَى الأسقفُ ناقته عليه، فقال له: افهف عنِّي، إنما قلتُ هذا (مخافةَ أن يبلغِ) (1) عني العربَ أنَّا (2) أُخِذْنَا حُمْقةً أو نَخَعْنا لهذا الرَّجل بما لم تنخعْ به العربُ، ونحن أعزُّهم وأجمعهم دارًا، فقال له أبو علقمة: والله لا أُقيلك ما خرج (3) من رأسك أبدًا، ثم ضرب ناقته يقول: إِلَيْكَ تَعْدُو قَلِقًا وَضِيْنُهَا ... مُعْتَرِضًا في بَطْنِهَا جَنِيْنُهَا مُخَالِفًا دِيْنَ النَّصارَى دِيْنُهَا حتى أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فلم يزل معه حتى اسْتُشْهِدَ بعد ذلك (4). وإذا عُرِفَ هذا؛ فالعلم (5) بأنَّه - صلى الله عليه وسلم - مذكورٌ في الكتب المتقدِّمة، يُعْرَفُ من وجوهٍ متعدِّدَةٍ: (أحدها): إِخبارُ مَنْ قد ثبتت نبوَتُه قطعًا بأنَّه مذكورٌ عندهم في كتبهم؛ فقد أخبر به مَنْ قام الدليلُ القطعيُّ على صِدْقِه، فيجب تصديقُه فيه؛ إذْ تكذيبه -والحالة هذه- ممتنعٌ لذاته. هذا لو لم يُعْلَمْ ذلك إلا من __________ (1) في "غ": "ليبلغ". (2) في "غ": "فإنهم إن يروا". (3) في "غ": "خرع". (4) أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى": (1/ 164 - 165) والبيهقي في "الدلائل": (5/ 485) وما بعدها، وانظر: "زاد المعاد" للمصنف (3/ 549) وما بعدها، "السيرة النبوية" لابن كثير: (1/ 101) وما بعدها. (5) في "ب، ص": "فاعلم" وتحتها: "فالعلم".
(1/109)
مُجَرَّدِ خَبَرِهِ، فكيف إذا تطابقت الأدلة على صحة ما أخبر به؟ (الوجه الثاني): أنِّه جعل الإخبارَ به مِنْ أعظم أدلَّ صِدْقِه وصِحَّةِ نبوَّته. وهذا يستحيلُ أن يَصْدُرَ إلا مِنْ واثقٍ كلَّ الوثوق بذلك، وأنِّه على يقينٍ جازمٍ به. (الثالث): أنَّ المؤمنين به من الأحبار والرُّهْبَانِ الذين آثَرُوا الحقَّ على الباطل صدَّقوه في ذلك وشَهِدُوا له بما قالَ. (الرابع): أنَّ المكذِّبين والجَاحِدِيْنَ لنبوَّته، لم يُمْكِنْهُم إنكارُ البِشَارةِ والإخبار بنبوَّة نبيٍّ عظيمِ الشَّأنِ، صفتُه كذا وكذا، وصفةُ أمَّتِهِ ومخرجه وشأنه، لكن جحدوا أنْ يكونَ هو الذي وقعتْ به البشارةُ وأنه نبيٌّ آخر غيره، وعَلِمُوا -هم والمؤمنون به من قومهم- أنَّهم ركبوا مَتْنَ المكابَرَةِ وامْتَطَوا غَارِبَ البَهْتِ. (الخامس): أنَّ كثيرًا منهم صرَّح لخاصَّتِهِ وبِطَانَتِه بأنِّه هُوَ هُوَ بعيِنهِ، وأنَّه عازمٌ على عَدَاوَته ما بَقِيَ -كما تقدم-. (السادس): أنَّ إخْبارَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بأنَّه مذكورٌ في كتبهم، هو فَرْدٌ من أفراد إخباراته بما عِنْدَهُم في كتبهم من شأن أنبيائهم وقومهم، وما جرى لهم، وقَصَصِ الأنبياء المتقدِّمين وأُممهم، وشأنِ المبدأ والمعاد، وغيرِ ذلك مما أخبرتْ به الأنبياءُ. وكل ذلك مما يعلمونَ صِدْقَه فيه ومُطابَقَتَهُ لِمَا عندهم، وتلك الإخباراتُ أكثر من أن تُحْصَى، ولم يكذِّبوه يومًا واحدًا في شيء منها، وكانوا أحْرَصَ شيءٍ على أن يظفروا منه بكَذْبةٍ واحدةٍ، أو غلطةٍ، أو سهوٍ، فينادون بها عليه، ويجدونَ بها السبيلَ إلى تنفيرِ النَّاس عنه. فلم
(1/110)
يقلْ أحدٌ منهم يومًا من الدهر: إنه أخبر بكذا وكذا في كتبنا وهو كاذبٌ فيه، بل كانوا يصدِّقونه في ذلك، وهم مصرُّون على عدم اتِّباعِهِ. وهذا من أعظمِ الأدلَّةِ على صدقه فيما أخبرَ بهِ لو لم يعلم إلا بمجرَّدِ خبرِهِ. (السابع): أنِّه أخبر بهذا لأعدائه من المشركين الذين لا كتاب عندهم، وأخبر به لأعدائه من أهل الكتاب، وأخبر به لأتْبَاعِه؛ فلو كان هذا باطلًا لا صِحَّةَ له = لكانَ ذلك تسليطًا للمشركين أنْ يسألوا أهلَ الكتاب فيُنْكِرُونَ ذلك، وتسليطًا لأهل الكتابِ على الإنكار، وتسليطًا لأتْبَاعهِ على الرُّجوع عنه والتكذيبِ له بعد تصديقِه. وذلك ينقض الغَرَضَ المقصودَ بإخباره من كلِّ وجهٍ، وهو بمنزلة رجلٍ يُخْبِر بما يَشْهَدُ بكَذِبهِ ويجعلُ إخبارَه دليلًا على صِدْقه، وهذا لا يصدر من عاقلٍ ولا مجنون. فهذه الوجوه يُعْلَمُ بها صدق ما أخبر به وإن لم يعلم وجوده من غير جهة أخباره، فكيف وقد عُلِمَ وجود ما أخبر به؟! (الثامن): أنَّه لو قُدِّر أنهم لم يَعْلَمُوا بشارةَ الأنبياءِ به وإخْبَارَهُمْ بنعتِهِ وصفَتِهِ = لم يلزم أنْ لا يكونوا ذَكَرُوه وأخْبَرُوا به وبشَّروا بنبوته؛ إذْ ليس كلُّ ما قاله الأنبياءُ المتقدِّمونَ وَصَلَ إلى المتأخرين وأحاطُوا (1) به عِلْمًا. وهذا مما يُعْلَمُ بالاضْطِرارِ، فكم من قولٍ قد قاله موسى وعيسى، ولا عِلْمَ لليهود (2) والنَّصارى به، فإذا أخْبَرَ به مَنْ قام الدليلُ القطعيُّ على صدقه، لم يكن جهلُهم به مُوجِبًا لردِّه وتكذيبِهِ. __________ (1) في "غ": "حاطوا". (2) في "غ": "عَلِم اليهودُ".
(1/111)
(التاسع): أنَّه يمكن أن يكون (1) في نُسَخٍ غيرِ هذه النُّسَخِ التي بأيديهم فأزُيْلَ من بعضها، ونُسِخَتْ هذه مِمَّا أُزِيْلَ منه. وقولهم: "إنَّ نسخ التوراة متفقة في شرق الأرض وغربها" = كَذِبٌ ظاهرٌ؛ فهذه التوراة التي بأيدي النَّصارى تُخالِفُ التوراةَ التي بأيدي اليهود، والتي بأيدي السامرةِ تُخالِفُ هذه وهذه. وهذه نُسَخُ الإنجيلِ يخالفُ بعضُها بعضًا ويناقِضُه. فدعواهم: أنَّ نُسَخَ التوراةِ والإنجيلِ متَّفِقَةٌ شرقًا وغربًا = من البَهْتِ والكَذِب الذي يروِّجونه على أشباه الأنْعَامِ، حتى إن هذه التوراة التي بأيدي اليهود فيها من الزيادة والتَّحريف والنُّقصان ما لا يخفى على الرَّاسخين في العِلْم، وهم يعلمون قطعًا أنَّ ذلك ليس في التوراةِ التي أنزلَها اللهُ على موسى، ولا في الإنجيل الذي أنزَلَهُ على المسيح. وكيف يكون في الإنجيل -الذي أُنزل على المسيح- قِصَّةُ صَلْبِه، وما جرى له، وأنه أصابه كذا وكذا، وصُلِبَ يومَ كذا وكذا، وأنه قام من القبر بعد ثلاث، وغير ذلك ممَّا هو من كلام شيوخ النَّصارى، وغايته أن يكونَ من كلام الحَوَاريِّيْنَ خلطوه بالإنجيل، وسَمَّوا الجميعَ إنجيلًا؟. وكذلك (2) كانت الأناجيلُ -عندهم- أربعةً، يخالف بعضها بعضًا. ومِنْ بَهْتِهِم وكَذِبِهمْ قولُهم: إنَّ التوراة التي بأيديهم وأيدي اليهود والسامرة سواءٌ. __________ (1) ساقطة من "غ، ص، ب". (2) في "غ": "ولذلك".
(1/112)
والنصارى لا يُقِرُّون أنَّ الإنجيل مُنَزَّل من عند الله على المسيح، وأنَّه كلام الله، بل كلُّ فِرَقِهِمْ مجمعون (على أنَّ أربعة تواريخ ألَّفَها أربعةُ رجالِ معروفون) (1) في أزمانٍ مختلفةٍ، ولا يعرفون الإنجيلَ غير هذا. إنجيلٌ ألَّفهُ مَتَّى تلميذ المسيح، بعد تسع سنين من رفع المسيح، وكُتِبَ بالعبرانيَّةِ في بلد "يهوذا" بالشام. وإنجيل ألَّفهُ مَرْقُس الهارُونِيُّ، تلميذ شَمْعُون، بعد ثلاثٍ وعشرين سنة من رفع المسيح، وكَتبَهُ باليونانيَّة في بلاد أنطاكِيَة من بلاد الرُّوم، ويقولون: إن شمعون المذكور هو ألَّفه ثم مُحِيَ اسمُه من أوله، ونُسِبَ إلى تلميذه مَرْقُس. وإنجيلٌ ألَّفَهُ لُوْقَا الطبيب الأنطاكيُّ، تلميذ شمعون، بعد تأليف مَرْقُس. وإنجيل ألَّفَهُ يُوحَنّا (2) تلميذ المسيح، بعد ما رُفِعَ المسيح ببضعٍ وستين سنة، كتبه باليُونَانِيَّة. وكلُّ واحدِ من هذه الأربعة يسمُّونه: الإنجيل، وبينها من التَّفاوُتِ والزيادة والنقصانِ ما يعلَمُه الواقفُ عليها. وبين توراةِ السَّامِرَةِ واليهود والنَّصارى من ذلك ما يعلمه من وَقَفَ عليها. فدعوى الكاذبِ الباهتِ: أنَّ نُسَخَ التوراة والإنجيل متفقةٌ شرقًا __________ (1) ساقط من "غ" واستدركه في الهامش. (2) في "غ": "يُحَنّا".
(1/113)
وغربًا بُعْدًا وقُرْبًا = مِنْ أعْظَمِ الفِرْيَةِ والكذب. وقد ذكر غيرُ واحدٍ من علماء الإسلام ما بينها من التفاوت والزيادة والنقصان والتناقض لمن أراد الوقوف عليه (1) ولولا الإطالةُ وقَصْدُ ما هو أهمُّ منه، لذكَرْنَا منه طَرَفًا كبيرًا. وقد وبَّخَهُم اللهُ -سبحانه- وبَكَّتَهم، على لسان رسوله، بالتحريفِ والكتمان والإخفاء، فقال -تعالى-: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 71]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 174]. وقال تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15، 16]. وأمَّا التَّحْريْفُ: فقد أخبر -سبحانه- عنهم في مواضِعَ متعدِّدة، __________ (1) تقدم فيما سبق طائفة من الكتب في ذلك، ينظر ص (32) وما بعدها من المقدمة.
(1/114)
وكذلك لَيُّ اللِّسانِ بالكتاب ليَحْسبَهُ السَّامع منه وما هو منه. فهذه خمسة أمور: "أحدها": لَبْسُ الحقِّ بالباطل، وهو خَلْطُه به بحيث لا يتميَّزُ الحقُّ من الباطل. "الثاني": كِتْمَانُ الحقِّ. "الثالث": إخفاؤه. وهو قريبٌ من كِتْمَانِهِ. "الرَّابع": تحريفُ الكَلِمِ عن مواضعه. وهو نوعان: تحريفُ لفظِهِ، وتحريفُ مَعْنَاهُ. "الخامس": لَيُّ اللِّسان به، ليلبَّس على السَّامع اللفظ المُنَزَّل بغيره. وهذه الأمور إنما ارتكبوها لأغراضِ لهم دعتهم إلى ذلك، فإذا عَادَوا الرسولَ وجحدوا نبوَّته وكذَّبوه (1) وقاتَلُوه؛ فهم إلى أن يجحدوا نَعْتَهُ وصِفَتَهُ ويكتمُوا ذلك ويزيلوه (2) عن مواضعه ويتأوَّلوه على غير تأويله = أقْرَبُ بكثير. وهكذا فعلوا، ولكنْ لكثرةِ البشارات وتنوُّعها غابوا (3) عن كتمانها وإخفائها فصاروا إلى "تحريف التأويل"، وإزالة معناها عمَّن لا تصلُح لغيره، وجعلها لمعدومٍ لم يخلقه الله، ولا وجودَ له البَتَّةَ. (العاشر): أنَّه استشهد على صحة نبوَّتِه بعلماء أهل الكتاب، وقد __________ (1) في "غ": "كذبوا". (2) في "غ": "ويزيلونه". (3) في "غ": "غلبوا".
(1/115)
شهد له عُدُولُهُمْ، فلا يقدح جَحْدُ الكَفَرةِ الكاذبينَ المعاندينَ بعد ذلك. قال تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43]. وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف: 10]. وقال تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران: 199]. وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 82 - 83]. وقال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [القصص: 52 - 54]. وإذا شَهِدَ واحدٌ من هؤلاء لم يوزن به مِلْءُ الأرض من الكَفَرَةِ، ولا تُعَارَضُ شهادتُهُ بجحود مِلْءِ الأرض من الكُفَّار، كيف والشاهد له من علماء أهل الكتاب أضعافُ أضعاف المكذِّبينَ له منهم؟!! وليس كلُّ مَنْ قال من أشباه (1) الحمير -مِنْ عُبَّاد الصليب- وأمة __________ (1) ساقط من "غ".
(1/116)
الغضب: إنه من علمائهم = فهو كذلك. وإذا كان أكثر من يَظُنُّ عوام المسلمين أنه من علمائهم ليس كذلك، فما الظنُّ بغيرهم؟! وعلماءُ أهلِ الكتاب، إنْ لم يدخل فيهم مَنْ لم يعملْ بعِلْمه، فليس علماؤهم إلا من آمن به وصدَّقه، وإن دخل فيهم مَنْ عَلِمَ ولم يعمل (1) -كعلماء السوء- لم يكن إنكارُهم لنبوَّتِهِ قادحًا في شهادة العلماء العاملين بعلمهم. (الحادي عشر): أنِّه لو قُدِّرَ أنِّه لا ذِكْرَ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بنَعْتِه ولا صفته ولا علامته (2) في الكتب التي بأيدي أهل الكتاب اليوم: لمَ يلزَمْ من ذلك أنْ لا يكونَ مذكورًا في الكتب التي كانت بأيدي أسلافهم وَقْتَ مبعثه، ولا تكون اتَّصلتْ على وجهها إلى هؤلاء، بل حرَّفَها أولئك، وبدَّلُوا وكَتَمُوا، وتواصَوا وكَتَبُوا ما أَرادُوا، وقالوا: هذا من عند الله. ثم اشتهرت تلك الكتب وتناقلها خَلَفُهمْ عن سَلَفِهِمْ،، فصارت المُغَيَّرةُ المبدَّلة هي المشهورة، والصحيحةُ بينهم خفيَّةً جدًّا، ولا سبيل إلى العلم باستحالة ذلك، بل هو في غاية الإمكان؛ فهؤلاء السَّامرة غَيَّروا مواضع من التوراة! ثم اشتهرت النُّسَخُ المغيَّرة عند جميعهم، فلا يعرفون سواها، وهُجرَتْ بينهم النُّسَخُ الصحيحة بالكلية، وكذلك التوراة التي بأيدي النَّصارَى. وهكذا تُبَدَّلُ الأديان والكتب، ولولا أنَّ الله سبحانه تولَّى حِفْظَ __________ (1) في "ب، ص": "يعلم". (2) في "ج": "علامته".
(1/117)
القرآن بنفسه وضمن للأمة أنْ لا تجتمع (1) على ضلالة = لأصابه ما أصابَ الكتبَ قَبْلَهُ، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) } [الحجر: 9]. (الثاني عشر): أنه من الممتنع أن تخلوَ الكتبُ المتقدِّمةُ عن الإخبار بهذا الأمر العظيم الذي لم يَطْرُقِ العالَمَ، من حين خلق إلى قيام الساعة، أمرٌ أعظم منه، ولا شأنٌ أكبر منه، (فإنَّ العلم به طبَّقَ) (2) مشارق الأرض ومغاربها، واستمرَّ (على تعاقب) (3) القرون وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ومثل هذا النبأ العظيم لابُدَّ أن تتطابق الرُّسل على الإخبار به. وإذا كان الدجَّال -رجل كاذب يخرج في آخر الزمان، وبقاؤه في الأرض أربعين يومًا- قد تطابقت الرسل على الإخبار به، وأنذر به كلُّ نبيٍّ قومَه من نوح إلى خَاتَمِ الرُّسل (4) ، فكيف تتطابق (5) الكتب الإلهية من أولها إلى آخرها على السكوت عن الإخبار بهذا الأمر العظيم الذي لم يطرق العالَمَ أمرٌ أعظم منه ولا يطرقه أبدًا؟. هذا ما لا يسوَّغه عَقْلُ عاقلٍ، وتأباه حِكْمةُ أحكم الحاكمين، بل الأمر بضدِّ ذلك، وما بعث الله -سبحانه- نبيًّا إلا أخذ عليه الميثاق بالإيمان بمحمَّدٍ وتصديقِهِ، كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ __________ (1) في "غ": "تجمع". (2) في "ب، ج، ص، غ": "فإنه قلب العالم وطبَّق". (3) في "ب، ص": "على العالم على تعاقب .. ". (4) في "ج": "النبيين"، وفي "ب، ص": "خاتم الأنبياء وخاتم الرسل". (5) في "ج": "مطابقة".
(1/118)
جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81]. قال ابن عباس: ما بعث الله من نبيٍّ إلا أخذ عليه الميثاق لئن بُعِثَ محمد وهو حيٌّ لَيُؤْمِنَنَّ به، ولَيَنْصُرنَّه، وأمرَهُ أن يأخذ الميثاق على أمته؛ لئن بُعِثَ محمدٌ وهم أحياء لَيُؤْمِنُنَّ به وَلَيُتَابِعُنَّه (1). فصل فهذه الوجوه على تقدير عدم العلم بوجود نعته وصفته والخبر عنه في الكتب المتقدمة. ونحن نذكر بعضَ ما وَرَدَ فيها من البشارة به ونعته وصفته وصفة أمته، وذلك يظهر من وجوه: (الوجه الأول): قولُه تعالى في التوراة: "سأُقيم لبني إسرائيلَ نبيًّا من إخوتهم مِثْلَكَ أجعلُ كلامي في فِيْه، ويقول لهم ما آمره به. والذي لا يقبل قَولَ ذلك النبيِّ الذي يتكلم باسمي. أنا أنتقم منه ومن سِبْطِهِ" (2). فهذا النصُّ ممَّا لا يمكن أحدًا منهم جحدُه وإنكارُه، ولكن لأهل الكتاب فيه أربعة طرق: "أحدها": حَمْلُه على المسيح، وهذه طريقة النصارى. وأمَّا اليهود فلهم فيه ثلاثة (3) طرق: __________ (1) انظر: "تفسير الطبري": "6/ 556"، "تفسير البغوي": (1/ 376 - 377). (2) انظر: العهد القديم، سفر التثنية، الإصحاح (18/ 15). (3) في "غ": "ثلاث". وهذه الطرق الثلاثة، تكمل ما سبق عن طريقة النصارى فتكون كلها أربعة.
(1/119)
"أحدها": أنه على حذف أداة الاستفهام. والتقدير: أَأُقِيم لبني إسراِئيل نبيًّا من إخوتهم؟! أي: لا أفعل هذا، فهو استفهامُ إنكارٍ (1) حُذِفَتْ منه أداة الاستفهام. "الثاني": أنه خبرٌ ووَعِيْدٌ، ولكن المراد به شَمَوِيْل النبيّ؛ فإنه من بني إسرائيل، والبشارة إنما وقعتْ بنبيٍّ من إخوتهم، وإخوةُ القومِ هم بنو أبيهم، وهم بنو إسرائيل (2) . "الثالث": أنِّه نبيٌّ يبعثه الله في آخر الزمان، يقيم به مُلْكَ اليهود، ويعلو به شأنهم، وهم ينتظرونه إلى (3) الآن (ويسمُّونه المنتظر) (4) . وقال المسلمون: البشارةُ صريحةٌ في النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - العربي الأُمِّيِّ محمدٍ بنِ عبد الله -صلوات الله وسلامه عليه- لا يحتمل غيرَهُ، فإنها إنما وقعتْ بنبيٍّ من إخوة بني إسرائيل لا من بني إسرائيل أنفُسِهمْ، والمسيحُ من بني إسرائيل، فلو كان المراد بها هو المسيح لقال: أُقيمُ لهم نبيًّا من أنفسهم، كما قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 164]. وإخوةُ بني إسرائيل هم بنو إسماعيل، ولا يعقل (5) في لغةِ أمةٍ من الأُمم أنَّ بني إسرائيل هم إخوة بني إسرائيل، كما أنَّ إخوة زيدٍ لا يدخل فيهم زيدٌ نفسُهُ. __________ (1) في "غ": "إنكاري". (2) انظر: "بذل المجهود" للسموأل، ص (76 - 77). (3) ساقطة من "غ". (4) من المصرية فقط، وساقط من سائر النسخ. (5) في "غ": "يقول".
(1/120)
وأيضًا: فإنه قال: "نبيًّا مثلك"، وهذا يدلُّ على أنّه صاحبُ شريعةٍ عامةٍ مثل موسى، وهذا يُبْطِلُ حَمْلَه على شمويل من هذا الوجه أيضًا. ويبطُل حَمْلُهُ على يوشع من ثلاثةِ أوجهٍ: "أحدها": أنه من بني إسرائيل لا من إخوتهم. "الثاني": أنه لم يكن مِثْل موسى، وفي التوراة (التي بأيديهم) (1) : "لا يقوم في بني إسرائيل مثل موسى" (2) . "الثالث": أن يوشع نبيٌّ في زمن موسى، وهذا الوعد إنما هو بنبيٍّ يقيمه الله بَعْد موسى. وبهذه الوجوه الثلاثة يبطُل حملُه على هارون، مع أنَّ هارون توفي قبل موسى، ونبَّأه الله مع موسى في حياته. ويبطل ذلك من وجه "رابع" أيضًا: وهو أنَّ في هذه البشارة أنه يُنْزِلُ عليه كتابًا يَظْهر للناس (3) مِنْ فيه، وهذا لم يكن لأحدٍ بعد موسى غير النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وهذا من علامات نبوته التي أَخبرتْ بها الأنبياءُ المتقدِّمون، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 192 - 197]. فالقرآنُ نَزلَ على قلب رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وظهر للأمة من فيه. __________ (1) ساقط من "ب، ج، ص". (2) انظر: سفر التثنية، الإصحاح (34)، فقرة (10). (3) في "غ": "الناس".
(1/121)
ولا يصحُّ حمل هذه البشارة على المسيح باتفاق النَّصارى، لأنها إنما جاءت بواحدٍ من إخوة بني إسرائيل، وبنو إسرائيل وإخوتُهم كلُّهم عبيد ليس فيهم إله، والمسيح عندهم إلهٌ معبود، وهو أجلُّ عندهم مِنْ أنْ يكون من إخوة العبيد. والبشارة وقعتْ بعبدٍ مخلوقٍ يقيمه الله من جملة عبيده وإخوتهم، وغايتُه: أن يكون نبيًّا لا غاية له فوقها، وهذا ليس هو المسيح عند النَّصارى. وأما قولُ المحرِّفين لكلام الله: إنَّ ذلك على حذف ألف الاستفهام، وهو استفهام إنكار، والمعنى: لا أُقيم لبني إسرائيل نبيًّا = فتلك عادةٌ لهم معروفة في تحريفِ كلام الله عن مواضعه، والكذب على الله، وقولهم لما يُبَدِّلونَه ويحرِّفونه: هذا من عند الله. وحَمْلُ هذا اَلكلام على الاستفهام والإنكار غاية ما يكون من التحريف والتبديل (1). وهذا التحريفُ والتبديلُ من معجزات النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (التي أخبر بها عن الله؛ من تحريفهم وتبديلهم، فأظهر الله) (2) صِدْقَه في ذلك لكل ذي لُبٍّ وعقل، فازداد إيمانًا إلى إيمانه، وازداد الكافرون رِجْسًا إلى رِجْسهم. (الوجه الثاني) (3): قال في التوراة في السِّفْرِ الخامس: "أقْبَلَ الله من سِيْنَا، وتجلَّى من سَاعِيْر، وظهر من جبال فَارَانَ، ومعه رَبَواتُ الأطْهَارِ __________ (1) انظر: "تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب"، للمهتدي أبي محمد عبد الله الترجمان الميورقي، ص (260 - 264). (2) ساقط من "غ". (3) تقدم الوجه الأول في ص (119). وانظر: "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" لابن تيمية: (5/ 199) وما بعدها، "بذل المجهود في إفحام اليهود" للسموأل بن يحيى المغربي، ص (67 - 74).
(1/122)
عن يمينه" (1). وهذه متضمِّنةٌ للنبوَّات الثلاثة: نبوة موسى، ونبوة عيسى، ونبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -. فمجيئه من "سِيْنَا" -وهو الجبل الذي كلَّم الله عليه موسى ونبَّأه عليه- إخبارٌ عن نبوَّته. وتجلِّيه من ساعير هو مظهر المسيح من بيت (2) المقدس، "وساعير" قرية معروفة هناك إلى اليوم، وهذه بشارة بنبوَّة المسيح. "وفاران" هي مكة. وشبَّه -سبحانه- نبوةَ موسى بمجيء الصُّبْح، ونبوةَ المسيح بعدها بإشراقه وضيائه، ونبوةَ خاتم الأنبياء بعدهما باستعلاء الشمس وظهور ضوئها في الآفاق. ووقع (3) الأمر كما أخبر به سواء، فإنَّ الله -سبحانه- صَدَعَ بنبوةِ موسى لَيْلَ الكفر، فأضاء فجرُه بنبوتِه، وزاد الضياءُ والإشراقُ بنبوَّةِ المسيح، وكَمُلَ الضِّياءُ واسْتَعْلَنَ، وطبَّق الأرضَ بنبوة محمدٍ -صلوات الله وسلامه عليهم-. وذِكْرُ هذه النبوَّات الثلاثة -التي اشتملت عليها هذه البشارة- نَظِيْرُ ذِكْرهَا في أول سورة {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)} [سورة التين: 1 - 3]. فذَكَر أمكنةَ هؤلاء الأنبياءِ وأرضَهم التي خرجوا منها. والتِّيْن وَالزَّيْتُوْنُ: المراد بهما منبتُهما وأرضُهما، وهي الأرض المقدَّسة التي __________ (1) العهد القديم، سفر التثنية، الإصحاح (33) فقرة (2). (2) في "غ": "البيت". (3) ساقط من "غ".
(1/123)
هي مَظْهَرُ المسيح. وَطُورُ سِينِيْنَ: الجبل الذي كلَّم الله عليه موسي، فهو مظهر نبوَّتِه. وهذا البَلَدُ الأَمِيْنُ: مكة (1) حَرَمُ الله وأمْنُه، التي هي مظهر نبوَّة (2) محمدٍ -صلوات الله وسلامه عليهم-. فهذه الثلاثة نظير تلك الثلاثة سواء. قالت اليهود: "فاران" هي أرض الشام، وليست أرض الحجاز. وليس هذا ببدْعٍ من بَهْتِهم وتحريفهم، وعندهم في التوراة: إن إسماعيل لمَّا فارق أباَه سكن في بَرِّيَّةِ فَارانَ. هكذا نطقتِ التوراةُ (3) ، ولفظُها: "وأقام إسماعيلُ في بَرِّيَّةِ فَارانَ، وأنكَحَتْهُ أمُّه امرأةً من جُرْهُم" (4) . ولا يشكُّ علماء أهلِ الكتاب أنَّ فَاران مسكنٌ (5) لآل إسماعيل. فقد تضمنت التوراةُ نبوةً تنزل بأرض فَاران، وتضمنتْ نبوةً تنزل علي عظيم من ولد إسماعيل، وتضمنتِ انتشارَ أمته وأتباعِهِ حتي يملؤوا السَّهْل والجبلَ -كما سنذكره إن شاء الله تعالي-. ولم يَبْقَ بعد هذا شبهةٌ أصلًا: أنَّ هذه نبوةُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - التي نزلتْ بفاران علي أشرفِ ولد إسماعيل حتي ملأتِ الأرضَ ضياءً ونورًا، وملأ __________ (1) في "غ": "مثله". (2) ساقطة من "غ". (3) سفر التكوين، الإصحاح (21)، فقرة (21). وانظر: "تحفة الأريب" للترجمان، ص (265 - 266). (4) في "غ": "أهل مصر". (5) في "غ": "سكن".
(1/124)
أتباعُه السَّهلَ والجبلَ. ولا يكثر علي الشعب الذي نطقت التوراة بأنَّهم عَادِمو الرأي والفَطَانة أَنْ ينقسموا إلي جاهلٍ بذلك، وجاحدٍ مكابِرٍ معاندٍ، ولفظُ التوراة فيهم: "إنهم لشعبٌ عادمُ الرّأي، وليس فيهم فِطَانة" (1). ويقال لهؤلاء المكابرين: أيُّ نبوةٍ خرجتْ من الشام فَاسْتَعْلَتِ (2) استعلاءَ ضياءِ الشّمس، وظهرتْ فوقَ ظهور النبوَّتَيْن قبلها؟ وهل هذا إلا بمنزلة مكابرةِ مَنْ يري الشمس قد طلعت من المشرق فيغالط ويكابر، ويقول: بل طلعت من المغرب!!. (الوجه الثالث): قال في التوراة -في السِّفر الأول-: "إن المَلَك ظهر لِهَاجَرَ أمِّ إسماعيل، فقال: يا هاجر مِنْ أين أقبلتِ؟ وإلي أين تُرِيْدِينَ؟ فلما شرحت له الحال، قال: ارجعي، فإنّي سأكثِّر ذرِّيَّتَك وزَرْعَكِ حتي لا يُحْصَوْنَ كثرةً، وها أنتِ تَحْبَلينَ وتَلِدينَ ابنًا أسمِّيه (3) إسماعيل، لأن الله قد سمع تذلُّلَك وخضوعَك وولدك يكون وحشيَّ الناس وتكون يده علي الكلِّ، ويَدُ الكلِّ مبسوطة إليه بالخضوع" (4). وهذه بشارةٌ تضمنتْ أَنَّ يدَ ابنِها علي يد كل الخلائق، وأنَّ كَلِمَتَهُ العليا، وأنَّ أيدي الخَلْق تحت يده. فمَنْ هذا الذي ينطبق عليه هذا الوصف سوي محمد بن عبد الله -صلوات الله وسلامه عليه-؟! __________ (1) سفر التثنية، الإصحاح (32)، فقرة (28). (2) في "غ": "فاستعلنت". (3) في "غ": "لتسمّيه". (4) سفر التكوين، الإصحاح (16)، فقرة (7 - 12). وانظر: "أعلام رسول الله المنزلة علي رسله" لابن قتيبة، لوحة (2).
(1/125)
وكذلك في السِّفْر الأول من التوراة: "إنَّ الله قال لإبراهيم: إني جاعلٌ ابنَك إسماعيلَ لأمةٍ عظيمة؛ إذْ هو مِنْ زَرْعِكَ" (1) . وهذه بشارة بمن جُعِلَ مِنْ ولده لأمة عظيمةٍ، وليس هو سوي محمد بن عبد الله الذي هو من صميم ولده، فإنه جعل لأمة عظيمة، ومَنْ تدبَّر هذه البشارةَ جزم بأنَّ المراد بها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن إسماعيل لم تكن يدُه فوق يد إسحاق قط، وكانت (2) يَدُ إسحاق مبسوطةً إليه بالخضوع. وكيف يكون ذلك وقد كانت النبوَّة والمُلْكُ في إسرائيل (3) والعيص، وهما ابنا إسحاق، فلما بُعِثَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وانتقلت النبوَّةُ إلي ولد إسماعيل، ودانت له الأُمم، وخضعت له الملوك، وجعل خلافة الملك إلي أهل بيته إلي آخر الدهر، وصارت أيديهم فوق أيدي الجميع مبسوطةً إليهم بالخضوع؟ وكذلك (في التوراة) (4) -في السفر الأول-: "إنَّ الله تعالي قال لإبراهيم: إنَّ في هذا العام يولد لك وَلَدٌ اسمُه إسحاق. فقال إبراهيم: ليت إسماعيل هذا يحيا بين يديك يمجِّدك. فقال الله تعالي: قد استجبتُ لك في إسماعيل، وإنّي أباركه وأيمنه (5) وأعظّمه جدًّا جدًّا بما قد استجبتُ فيه، وإني أُصيِّره إلي أمةٍ كثيرة، وأعطيه شعبًا جليلًا" (6) . __________ (1) سفر التكوين، الإصحاح (12) فقرة (17). (2) في "غ": "ولا كانت". (3) في "غ": "ولد إسرئيل". (4) ساقطة من "غ". (5) في "غ": "وأعظمه". (6) انظر: سفر التكوين: (17/ 1 - 8).
(1/126)
والمراد بهذا كله: الخارجُ من نسله، فإنه هو الذي عظَّمه الله جدَّا جدَّا، وصيَّره إلي أمة كثيرة، وأعطاه شعبًا جليلًا، ولم يأتِ مِنْ صُلْب إسماعيل مَنْ بُورك وعُظِّم وانطبقت عليه هذه العلامات غيرُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمَّتُهُ ملؤوا الآفاق، وأَرْبَوا في الكثرة على نسل إسحاق (1). (الوجه الرابع): قال (في التوراة) (2) -في السفر الخامس-: "قَالَ موسي لبني إسرائيلَ: لا تُطِيعُوا العَرَّافِيْنَ ولا المُنَجِّمِينَ، فسيقيم لكم الربُّ نبيًّا من إخوتكم مِثْلي، فأطيعوا ذلك النبيَّ" (3). ولا يجوز أنَّ يكون هذا النبيُّ الموعود به من أنْفُس بني إسرائيل، لما تقدم أنَّ إخوة (4) القوم ليسوا أنْفُسَهم، كما تقول: بَكْرٌ وتَغْلِب (ابنا وائل، ثم تقول تغلب إخوة بكر، وبنو بكر) (5) إخوة بني تغلب، فلو قلتَ: إخوة بني بكر بنو بكر، كان مُحَالًا, ولو قلتَ لرجلٍ: ايْتِني برجلٍ من إخوة بني بكر بن وائل، لكان الواجب أنْ يأتِيَك برجلٍ من بني تغلب بن وائل، لا بواحد من بني بكر (6). (الوجه الخامس) (7): ما في الإنجيل أن المسيح قال للحواريين: __________ (1) وانظر في هذه البشارة أيضًا: "تحفة الأريب" ص (258 - 260). (2) ساقطة من "غ". (3) سفر التثنية، الإصحاح (18)، الفقرات (9 - 13). (4) في "غ": "إمرة". (5) ساقط من "غ". (6) انظر: "بذل المجهود في إفحام اليهود" للسموأل بن يحيي، ص (75 - 86). (7) انظر: "الجواب الصحيح" لابن تيمية: (5/ 284 - 318)، "أعلام رسول الله المنزلة علي رسله" لابن قتيبة لوحة (5)، "تحفة الأريب" للترجمان، ص (266 - 269).
(1/127)
"إنّي (1) ذاهبٌ وسيأتيكم الفَارقليط روحُ الحق، لا يتكلَّم من قِبَلِ نفسهِ، إنما هو كما يقال له، وهو يشهد عليَّ وأنتم تشهدون؛ لأنَّكُمْ معي من قبل الناس، وكلُّ شيء أعدَّه الله لكم يُخْبِرُكم به" (2) . وفي إنجيل يُوحنّا: "الفارقليط (3) لا يَجيْئكم ما لم أذهبْ، وإذا جاء وَبَّخَ العالَم علي الخطيئةِ، ولا يقول من تلقاء نفسه، ولكنَّه ممَّا يسمع به، ويكلِّمُكم ويَسُوسُكم بالحقِّ، ويخبركُم بالحوادثِ والغُيوبِ" (4) . وفي موضعٍ آخر: "إن الفارقليط روح الحقِّ الذي يرسله أبي بِاسْمِي، وهو يعلِّمكم كلَّ شيء" (5) . وفي موضعٍ آخر: "إنّي سائلٌ له أن يبعث إليكم فارقليطًا آخر يكون معكم إلى الأبد، وهو يعلِّمكم كل شيء" (6) . وفي موضع آخر: "ابنُ البَشَرِ ذاهبٌ، والفارقليط من بعده يجيء لكم بالأسرار، ويفسِّر لكم كل شيء، وهو يشهد لي كما شهدتُ له، فإني أجيئكم بالأمثال، وهو يأتيكم بالتأويل" (7) . __________ (1) في "غ": "أنا". (2) العهد الجديد، إنجيل يوحنا، الإصحاح (14)، الفقرات (10 - 13). (3) في "ص": "البار قليط" وهي كذلك في سائر المواضع. وفي الترجمات الحديثة: "المعزّي". (4) العهد الجديد، يوحنا: (14/ 7 - 12). (5) الموضع نفسه (14/ 16). (6) الموضع نفسه: (16/ 25). (7) يوحنا: (15/ 17).
(1/128)
قال أبو محمد ابنُ قتيبةَ (1) : وهذه الأشياء -علي اختلافها- متقاربة، وإنما اختلفت لأنَّ مَنْ نَقَلَهَا عن المسيح - صلى الله عليه وسلم - في الإنجيل من الحوارِيِّيْنَ عِدَّةٌ. "والفارقليط" -بلغتهم-: لفظ من ألفاظ الحمد؛ إمَّا أحمد، أو محمد (2) ، أو محمود، أو حامد، أو نحو ذلك. وهو في الإنجيل الحبشي "بن نعطيس" (3) . وفي موضع آخر: "إنْ كنتم تُحبُّوني فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الأب أن يُعْطِيَكم فارقليطًا آخر، يثبت معكم إلي الأبد، ويتكلَّم بروح الحقِّ الذي لم يُطِقِ العالَمُ أن يقبلوه؛ لأنهم لم يعرفوه. ولستُ أدَعُكُم أيْتَامًا، إني سآتيكم عن قريب" (4) . وفي موضع آخر: "ومَنْ يُحِبُّني يحفظُ كلمتي وأَبي يُحِبُّه، وإليه يأتي وعنده يتخذ المنزل، كلَّمْتكم بهذا لأني لست عندكم مقيمًا، والفارقليط روح الحق الذي يرسله أبي هو يعلِّمكم كلَّ شيء، وهو يذكركم كلما قلت لكم، استودعتكم سلامي، لا تقلقْ قلوبُكم ولا تَجْزَعْ، فإني منطلقٌ وعائد إليكم، لو كنتم تحبوني كنتم تفرحون بمعني الأب، فإنْ ثبتَ كلامي فيكم كان لكم كلُّ ما تريدون" (5) . وفي موضع آخر: "إذا جاء الفارقليط الذي أبي أرسله، روح الحق الذي مِنْ أبي يشهد لي، قلت لكم حتي إذا كان تؤمنوا ولا __________ (1) انظر: "أعلام رسول الله" لابن قتيبة الموضع السابق. (2) ساقط من "غ". (3) في "غ، ص": "برنعطيس". (4) إنجيل يوحنا: (14/ 15 - 18). (5) إنجيل يوحنا: (16/ 20 - 24).
(1/129)
تَشُكُّوا (1) فيه" (2) . وفي موضع آخر: "إنَّ لي كلامًا كثيرًا أريد أن أقوله لكم، ولكنكم لا تستطيعون حَمْله، لكن إذا جاء روح الحقِّ ذاك يرشدكم إلي جميع الحقِّ؛ لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلَّم بما يسمع، ويخبركم بكلِّ مَا يأتي، ويعرِّفكم جميعَ مَا للأب" (3) . وقال يوحنا: قال المسيح: ("إنَّ أركون العالم سيأتي وليس لي شيء" (4) . وقال مَتّى) (5) : قال المسيح: "ألم تَرَوا أنَّ الحجر الذي أخره البنَّاؤون صار أُسًّا للزاوية من عند الله، كان هذا وهو عجيب في أعيننا، ومِنْ أجل ذلك أقولُ لكم: إن ملكوت الله سيؤخذ منكم، ويُدْفَع إلي أمة أخري تأكل ثمرتها، ومَنْ سقط علي هذا الحجر ينشدخ، وكلُّ من سقط هو عليه يمحقُهُ" (6) . وقد اختُلِفَ في "الفارقليط" في لغتهم، فذكروا فيه أقوالًا ترجع إلي ثلاثة (7) : __________ (1) في "غ": "تشركوا". (2) إنجيل يوحنا: (14/ 29). (3) إنجيل يوحنا: (16/ 12 - 14). (4) إنجيل يوحنا: (14/ 30). (5) ساقط من "غ". (6) إنجيل متي: (21/ 42 - 44). (7) وانظر ما كتبه البرفسور عبد الأحد داود في كتابه "محمد في الكتاب المقدس" ص (207) وما بعدها.
(1/130)
أحدها: أنَّه الحامد والحمَّاد، أو الحمد كما تقدم، ورجَّحتْ طائفةٌ هذا القولَ. وقالوا: الذي يقوم عليه البرهان في لغتهم أنه الحمد، والدليل عليه: قول يُوشع: "مَنْ عَمِل حسنةً يكون له فارقليط جيِّد"، أي: حَمْد جيِّد. والقول الثاني -وعليه أكثر النصاري-: أنَّه المخلِّص، والمسيح نفسه يسمُّونه: المخلِّص. قالوا: وهذه كلمة سريانية معناها المخلِّص (1) . قالوا: وهو بالسريانية" فاروق" فَجُعِل "فارق". قالوا و"ليط" كلمة تزاد (2) ، ومعناها كمعني قول العرب: رجل هو، وحجر هو، وفرس هو. قالوا: فكذلك معني (ليط) في السريانية. وقالت طائفة أخري من النَّصاري: معناه بالسريانية: المعزِّي. قالوا: وكذلك هو في اللسان اليوناني. ويعترض علي هذين القولين بأنَّ المسيح لم تكن لغته سريانية ولا يونانية بل عبرانية. وأُجيب عن هذا بأنَّه يتكلم بالعبرانية، والإنجيل إنما نزل باللغة العبرانية وترجم عنه بلغة (3) السِّريانية والرُّومية واليونانية وغيرهما. وأكثر النصاري علي أنه: المخلِّص، والمسيح نفسه يسمُّونه المخلِّص، وفي الإنجيل الذي بأيديهم أنه قال: "إنما أتيت لأخلِّص العالم" (4) . __________ (1) ساقط من "ص". (2) في "غ": "يراد بها". (3) في "غ" "باللغة". (4) إنجيل يوحنا: (12/ 47).
(1/131)
والنصاري يقولون في صلاتهم: "لقد ولدت لنا مخلِّصًا" (1) . ولما لم يمكن النصاري إنكار هذه النصوص حرَّفُوها أنواعًا من التحريف. فمنهم من قال: هو روح نزلت علي الحواريين. ومنهم من قال: هو ألسنٌ ناريَّة نزلت من السماء علي التلاميذ، ففعلوا بها الآيات والعجائب. ومنهم من يزعم أنَّه المسيح نفسه، لكونه جاء بعد الصَّلْب بأربعين يومًا، وكونِهِ قام مِنْ قبره. ومنهم من قال: لا يُعْرَف ما المراد بهذا الفارقليط ولا يتحقق لنا معناهُ. ومَنْ تأمَّل ألفاظَ الإنجيل وسياقَها: عَلِمَ أنَّ تفسيره بـ"الروح" باطلٌ. وأبْطَلُ منهُ: تفسيرُه بـ"الألسن الناريَّة"، وأبطل منهما: تفسيره بـ"المسيح"؛ فإنَّ روح القدس ما زالت تنزل علي الأنبياء والصالحين قبل المسيح وبعده، وليست موصوفة بهذه الصفات، وقد قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22]. وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لحسان بن ثابت لَمَّا كان يهجو المشركين: "اللهمَّ __________ (1) رسالة يوحنا الأولى: (4/ 14).
(1/132)
أيِّدْهُ برُوح القُدُسِ" (1) وقال: "إنَّ رُوحَ القُدُسِ معك ما زلتَ تنافحُ عن نبيِّه" (2) . وإذا كان كذلك، ولم يسمِّ أحدٌ هذه الروحَ "فارقليطًا" عُلِمَ أنَّ الفارقليط أمرٌ غير هذا. وأيضًا: فمثل هذه الرُّوح لا زالت يؤيَّد بها الأنبياءُ والصَّالحون، وما بشَّر به المسيحُ ووعدَ به أمرٌ عظيم يأتي بعده أعظمُ من هذا. وأيضًا: فإنَّه وصف الفارقليط بصفاتٍ لا تناسِب هذا الروحَ، وإنما تناسِبُ رجلًا يأتي بعدَهُ نظيرًا له، فإنه قال: "إن كنتم تحبُّوني فاحفظوا وصايايَ وأنا أطلبُ من الأب أن يعطيَكُمْ فارقليطًا آخر يَثْبُتُ معكم إلي الأبد" (3) ، فقوله "فارقليطًا آخر" دلَّ علي أنه ثانٍ لأولٍ كان قَبْلَه، وأنه لم يكن معهم في حياة المسيح، وإنما يكون بعد ذهابِه وتولِّيه عنهم. وأيضًا: فإنَّه قال: "يثبت معكم إلي الأبد". وهذا إنما يكون لِمَا يدومُ ويبقي معهم إلي آخر الدهر. ومعلومٌ: أنه لم يُرِدْ بقاءَ ذاتِهِ، فَعُلِمَ أنه بقاء شَرْعِهِ وأمْرهِ، والفارقليط الأول لم يَثْبُتْ معهم شرعُهُ ودينُه إلي الأبد. وهذا يبيِّن أنَّ الثاني صاحبُ شرعٍ لا يُنْسخ، بل يبقي إلي الأبد (4) ، بخلاف الأول. وهذا إنما ينطبق علي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. __________ (1) أخرجه البخاري في بدء الخلق، باب ذكر الملائكة: (6/ 304)، ومسلم في فضائل الصحابة، باب فضل حسان: (4/ 1935 - 1936). (2) أخرجه مسلم في الموضع السابق نفسه. (3) إنجيل يوحنا: (14/ 15). (4) هنا يبدأ سقط في "غ" مقداره ورقة، حيث جاء بعد هذا ورقة (48) مكررة وفيها قصة نجران والملاعنة.
(1/133)
وأيضًا: فإنَّه أخبر أنَّ هذا الفارقليط الذي أَخبر به، يشهد له ويعلِّمهم كلَّ شيء وأنه يذكر لهم كلَّ ما قال المسيح، وأنه يوبِّخ العالَم علي خطيئته فقال: "والفارقليط الذي يرسله أبي هو يعلمكم كل شيء وهو يذكركم كل ما قلت لكم"، وقال: "إذا جاء الفارقليط الذي أبي أرسله هو يشهد أني قلت لكم هذا حتي إذا كان تؤمنوا به، ولا تشكُّوا فيه". وقال: "إنَّ خيرًا لكم أنْ أنطلِقَ إلي أبي، إن لمِ أذهب لم يأتكم الفارقليط، فإن انطلقتُ أرسلتُهُ إليكم، فهو يوبِّخ العالم علي الخطيئة، فإنَّ لي كلامًا كثيرًا أُريد أنْ أقول لكم ولكنكم لا تستطيعون حَمْلَه، لكن إذا جاء روح الحقِّ ذاك الذي يرشدكم إلي جميع الحق، لأنه ليس ينطق من عند نفسه بل يتكلَّم بما يسمع ويخبركم بكلِّ ما يأتي ويعرِّفكم جميعَ ما للأب" (1) . فهذه الصِّفاتُ والنُّعوتُ التي تَلقَّوها عن المسيح لا تنطبق علي أمرٍ معنويٍّ في قلب بعض الناس لا يراه أحدٌ ولا يسمع كلامه، وإنما تنطبق علي مَنْ يراه الناس ويسمعون كلامه، فيشهد للمسيح، ويعلِّمهم كلَّ شيء، ويذكِّرهم كل ما قال لهم المسيح، ويوبِّخ العالَم علي الخطيئة، ويرشد الناس إلي جميع الحقِّ، ولا يَنْطِقُ مِنْ عنده، بل يتكلَّم بما يَسْمعُ، ويخبرهم بكلِّ ما يأتي، ويعرِّفهم جميعَ ما لربِّ العالمين. وهذا لا يكون مَلَكًا لا يراه أحدٌ ولا يكون هدي وعِلْمًا في قلب بعض الناس، ولا يكون إلا إنسانًا عظيم القَدْر يخاطب بما أخبر به __________ (1) العهد الجديد، إنجيل يوحنا: (16/ 7 - 15).
(1/134)
المسيح، وهذا لا يكون إلا بشرًا رسولًا، بل يكون أعظمَ مِنَ المسيح؛ فإنَّ المسيح أخبر أنه يقدر علي ما لا يقدر عليه المسيح (1) ، ويعلم ما لا يعلَمُه المسيح، ويخبر بكلِّ ما يأتي وبما يستحقُّه الربُّ، حيث قال: "إنَّ لي كلامًا كثيرًا أريد أن أقوله، ولكنكم لا تستطيعونَ حَمْلَهُ، ولكن إذا جاء روح الحقِّ، ذاك الذي يرشدكم إلي جميع الحق، لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلَّم بما يسمع، ويخبركم بكلِّ ما يأتي، ويعرِّفُكُمْ جميعَ ما للأب" (2) . فلا يستريبُ عاقلٌ أن هذه الصفات لا تنطبقُ إلا علي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وذلك لأنَّ الإخبار عن الله بما هو مُتَّصِفٌ به من الصفات، وعن ملائكته، وعن مَلَكُوتِه، وعمَّا أعدَّه في الجنة لأوليائه وفي النار لأعدائه: أمرٌ لا تحتمل عقولُ أكثرِ النَّاس معرفتَهُ علي التفصيل. قال عليٌّ -رضي الله عنه-: حَدِّثوا النَّاسَ بما يعرفون، ودَعُوا ما يُنْكِرُونَ، أتريدونَ أن يكذب اللهُ ورسولُه (3) . وقال ابن مسعود: ما مِنْ رجل يحدِّث قومًا بحديثٍ لا تبلُغُه عقولُهم إلا كان فتنةً لبعضهم (4) . وسأل رجلٌ ابنَ عباسٍ عن قوله تعالي: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ __________ (1) هنا ينتهي السقط في "غ". (2) إنجيل يوحنا: (16/ 12 - 15). (3) أخرجه البخاري في العلم، باب من خصَّ بالعلم قومًا دون قوم كراهية أن لا يفهموا: (1/ 255) دون قولها "وما ينكرون"، وهي عند الخطيب في "الجامع": (2/ 108). (4) أخرجه مسلم في المقدمة، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع: (1/ 11).
(1/135)
الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} [الطلاق: 12]. قال: ما يؤمنك أنْ لو أخبرتُك بها لكفرتَ (1) ؟ يعني: لو أخبرتك بتفسيرها لكفرتَ بها، وكفرك بها تكذيبٌ بها. فقال لهم المسيح: "إنَّ لي كلامًا كثيرًا أريد أنْ أقولَه لكم، ولكنَّكم لا تستطيعون حَمْلَه". وهو الصادق المصدوق في هذا، ولهذا ليس في الإنجيل من صفات الله تعالي وصفات مَلَكُوتِه وصفاتِ اليوم الآخر إلا أمورٌ مُجْمَلَة، وكذلك التوراة؛ ليس فيها من ذِكْر اليوم الآخر إلا أمور مجملة، مع أنَّ موسي - صلى الله عليه وسلم - كان قد سهَّل الأمر للمسيح (2) . ومع هذا فقد قال لهم المسيح: "إنَّ لي كلامًا كثيرًا أريد أنْ أقولَه لكم ولكنكم لا تستطيعونَ حَمْلَه". ثم قال: "ولكن إذا جاء روحُ الحقِّ فذاك الذي يُرْشِدُكم إلي جميع الحقِّ، وإنَّه يُخْبِرُكُم بكلِّ ما يأتي، وبجميع ما للربِّ" (3) . فدل هذا علي أنَّ "الفارقليط" هو الذي يفعل هذا دون المسيح، وكذلك كان؛ فإنَّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أرشد النَّاسَ إلي جميع الحقِّ حتي أكمل اللهُ به الدِّين وأتمَّ به النِّعمة، ولهذا كان خاتَمَ الأنبياءِ؛ فإنَّه لم يبق نبيٌّ يأتي بعده غيره، وأخبر محمد - صلى الله عليه وسلم - بكلِّ ما يأتي من أَشْراط الساعة والقيامة والحساب والصِّراط ووَزْنِ الأعمال، والجنَّةِ وأنواعِ نعيمها، والنَّار وأنواعِ عذابها. __________ (1) انظر: "تفسير الطبري": (28/ 153)، "تفسير ابن كثير" (4/ 385). (2) في "ص": "الأرض للمسيح"، وفي "غ": "مهّد الأمر ... ". (3) إنجيل يوحنا: (16/ 12 - 15).
(1/136)
ولهذا كان في القرآن تفصيل أمرِ الآخرة وذِكْرِ الجنة والنار وما يأتي، أمور كثيرة لا توجد لا في التوراة ولا في الإنجيل، وذلك تصديقُ قولِ المسيح: إنَّه يُخْبِر بكلِّ ما يأتي. وذلك يتضمَّن صِدْقَ المسيح وصِدْقَ محمد - صلى الله عليه وسلم -. وهذا معني قوله تعالي: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) } [الصافات: 35 - 37]. أي: مجيئه تصديقٌ للرُّسل قَبْلَه؛ فإنهم أخبروا بمجيئه، فجاء كما أخبروا به، فتضمن مجيئه (1) تصديقَهم، ثم شهد هو بِصِدْقِهِم، فصدَّقهم بقوله ومجيئه. ومحمدٌ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَهُ الله بين يدي السَّاعة كما قال: "بُعِثْتُ أنا والسَّاعة كهاتين، وأشار بإصبَعَيهِ السبَّابة والوسْطَى" (2) . وكان إذا ذكر الساعة علا صوتُه واحمرَّ وجهه واشتدَّ غضبه. وقال: "أنا النَّذيرُ العُرْيَانُ" (3) . فأخبر من الأمور التي تأتي في المستقبل بما لم يأتِ به نبيٌّ من الأنبياء، كما نَعَتَه به المسيحُ حيث قال: "إنه يخبركم بكلِّ ما يأتي". __________ (1) ما عدا "غ": "مجيؤه". (2) أخرجه البخاري في التفسير، سورة النازعات: (8/ 691)، ومسلم في الفتن، باب قرب الساعة: (4/ 2268). (3) أخرجه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (13/ 249 - 250)، ومسلم في الفضائل، باب شفقته علي أمته: (4/ 1788).
(1/137)
ولا يوجد مثل هذا أصلًا عن أحدٍ من الأنبياء قبل محمد - صلى الله عليه وسلم -، فضلًا عن أن يوجد عن شيء نزل علي قلب بعض الحَوارِيِّيْنَ. وأيضًا: فإنَّه قال: "ويعرِّفُكم جميعَ ما للربِّ". فبيَّن أنه يعرِّف الناس جميعَ ما لله. وذلك يتناول ما لله من الأسماء والصِّفات، وما لهُ من الحقوقِ، وما يجبُ من الإيمان به وملائكته وكتبه ورسله، بحيث يكون يأتي به جامعًا لما يستحقُّه الربُّ. وهذا لم يأتِ به غيرُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه تضمَّن ما جاء به من الكتابِ والحكمةِ. هذا كلُّه؛ وأيضًا: فإنَّ المسيح قال: "إذا جاء الفارقليط الذي أَرْسلَه أبي فهو يشهد لي، قلت لكم هذا حتي إذا كان تؤمنوا به" (1) . فأخبر أنه شهد له، وهذه صفةُ نبيٍّ بَشَّر به المسيح، ويشهد للمسيح، كما قال تعالي: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6]. وأخبر أنَّه يُوَبِّخُ العالَم علي الخطيئة، وهذا يستحيلُ حَمْلُه علي معنًى يقوم بقلب الحَوارِيِّيْنَ؛ فإنهم آمنوا به وشهدوا له قبل ذهابه، فكيف يقول إذا جاء فإنه يشهد لي ويوصيهم بالإيمان به؟ أَفَتَرَي الحواريين لم يكونوا مؤمنين بالمسيح!! فهذا مِنْ أعظمِ جَهْلِ النَّصاري وضَلَالِهِمْ؟!. وأيضًا: فإنَّه لم يوجد أحدٌ وَبَّخَ جميعَ العالَم (2) (على الخطيئةِ إلا __________ (1) إنجيل يوحنا: (15/ 26 - 27). (2) في "ب، ص، غ": "العالم من أصناف الناس".
(1/138)
محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّه أنذر جميع العالَم) (1) من أصناف الناس، ووبَّخهم علي الخطيئة من الكفر والفُسوق والعِصيان، ولم يَقْتَصِرْ علي مجرَّدِ الأمرِ والنَّهي، بل وَبَّخهم وفزَّعهم وتهدَّدَهُم. وأيضًا: فإنَّه أخبر أنّه ليس يَنْطِقُ من عنده، بل يتكلَّم بكل ما يسمع. وهذا إخبارٌ بأنَّ كلَّ ما يتكلَّم به فهو وحيٌ يسمعه، ليس هو شيئًا تعلَّمه من الناس، أو عَرَفَهُ باستنباطٍ، وهذه خاصَّة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. وأمَّا المسيح؛ فكان عنده عِلْمٌ بما جاء به موسي قَبْلَه، يشاركه به أهلُ الكتاب، تلقَّاه عمَّن قَبْلَه، ثم جاءه وحيٌ خاصٌّ (2) من الله فوقَ ما كان عندَه، قال تعالي: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) } [آل عمران: 48]. فأخبرَ -سبحانه- أنَّه يعلِّمه التوراةَ التي تعلَّمها بنو إسرائيل، وزاده تعليمَ الإنجيل الذي اختصَّ به، والكتاب -الذي هو الكتابة- ومحمدٌ - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يَعْلَمُ قَبْلَ الوحي شيئًا البتَّة، كما قال تعالي: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52]. وقال تعالي: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ( 3)} [يوسف: 3]. فلم يكن - صلى الله عليه وسلم - ينطق من تِلْقَاءِ نفسه، بل إنما كان ينطق بالوحي، __________ (1) ساقط من "غ". (2) في "ج": "خالص".
(1/139)
كما قال تعالي: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَي (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَي (4) } [النجم: 3، 4]. أي: ما نُطْقُه إلا وحيٌ يُوحَي. وهذا مطابقٌ لقول المسيح: إنَّه لا يتكلَّم من تلقاء نفسه بِل إنما يتكلم بما يُوحي إليه. والله تعالي أمره أن يبلِّغ ما أُنزل إليه، وضمِنَ له العصمةَ في تبليغ رسالاته، فلهذا أرشد الناس إلي جميع الحقِّ وألقَي للناس ما لم يمكن (1) غيرَه من الأنبياء إلقاؤه خوفًا أن يقتله قومه، وقد أخبر المسيح بأنه لم يذكر لهم جميع ما عنده، وأنَّهم لا يُطيقون حَمْلَه، وهم معترفون بأنَّه كان يخاف منهم إذا أخبرهم بحقائق الأمور. ومحمد - صلى الله عليه وسلم - أيَّده الله -سبحانه- تأييدًا لم يؤيِّده لغيره: فَعَصَمَه من الناس حتي لم يَخَفْ من شيءٍ يقوله، وأعطاه من البيان والعلم ما لم يؤتهِ غيرَه، وأيَّد أمته تأييدًا أطاقتْ به حَمْلَ ما ألقاه إليهم، فلم (2) يكونوا كأهل التوراة الذين حُمِّلوا التوراةَ ثم لم يحملوها، ولا كأهل الإنجيل الذين قال لهم المسيح: "إن لي كلامًا كثيرًا أريد أن أقوله لكم، ولكن لا تستطيعون حَمْلَه". ولا ريب أن أمة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - أكْمَلُ عقولًا، وأعْظمُ إيمانًا، وأَتمُّ تصديقًا وجهادًا، ولهذا كانت علومُهم وأعمالُهم القلبية وإيمانُهم أعْظَمَ، وكانت العباداتُ البدنيَّة لغيرهم أعظم. وأيضًا: فإنَّه أخبر عن الفارقليط أنَّه شهد (3) له، وأنَّه يعلِّمهم كلَّ __________ (1) في "غ": "يكن". (2) في "غ": "وفي سائر النسخ: "فلا". (3) في "غ": "يشهد".
(1/140)
شيء، وأنَّه يذكرهم كلَّ ما قال المسيحُ. ومعلومٌ أنَّ هذا لا يكون إلا إذا شهد له شهادةً يسمعها الناس، لا يكون هذا في قلب طائفةٍ قليلةٍ. ولم يشهد أحدٌ للمسيِح شهادةً سمعها عامَّةُ الناس إلا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإنه أظْهَرَ أمْرَ المسيحِ، وشهِدَ له بالحقِّ حتي سمع شهادتَهُ له عامةُ أهلِ الأرض، وعلموا أنَّه صدَّقَ المسيح ونزَّهه عمَّا افترته عليه اليهود وما غَلَتْ فيه النصاري، فهو الذي شهد له بالحقِّ. ولهذا لمَّا سمع النَّجاشيُّ من الصحابة ما شهد به محمد - صلى الله عليه وسلم - للمسيح قال لهم: ما زاد عيسي علي ما قلتُم هذا العودَ. وجعل الله أمةَ محمدٍ - صلي الله عليه وسلم - شُهَدَاءَ علي النَّاسِ، شهدوا عليهم بما علموا من الحقِّ، إذْ كانوا وَسَطًا عدولًا، لا يشهدون بباطلٍ، فإن الشاهد لا يكون إلا عدلًا، بخلاف مَنْ جارَ في شهادتِه فزادَ علي الحقِّ، أو نَقَصَ منه، كشهادة اليهود للنصاري في المسيح. وأيضًا: فإنَّ معني "الفارقليط" إنْ كان هو الحامد أو الحمَّاد، أو المحمود، أو الحمد (1) ، فهذا الوصفُ ظاهرٌ في محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإنه وأمَّتَهُ الحمَّادون الذين يَحْمَدُون الله علي كلِّ حالٍ، وهو صاحبُ لواءِ الحَمْد، والحمدُ مفتاح خطبتِه ومفتاحُ صلاتِه، ولمَّا كان حمَّادًا سُمِّي بمثل وَصْفِه، فهو محمَّد -وزن مكرَّم ومعظَّم ومقدَّس- وهو الذي يُحْمَدُ أكثرَ ممَّا يحمد غيره ويستحقُّ ذلك، فلمَّا كان حَمَّادًا لله كان محمدًا. وفي شعر حَسَّان: أَغَرُّ عليه للنُّبوَّةِ خَاتَمٌ ... مِنَ اللهِ مَيْمُونٌ يَلُوحُ ويَشْهَدُ __________ (1) في "غ": "محمد".
(1/141)
وضَمَّ الإلهُ اسمَ النَّبيِّ إلي اسْمِهِ ... إذَا قالَ في الخمس المؤذِّنُ أشْهَدُ وشَقَّ له مِنِ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ ... فَذُو العَرْشِ محمودٌ وهذا مُحمَّدُ (1) وأمَّا "أحمد"؛ فهو أفعل التفضيل، أي: هو أَحْمَدُ مِنْ غيرِه، أي أحق بأن يكون محمودًا أكثر من غيره، يقال: هذا أحْمدُ من هذا. أي هذا أحقُّ بأنْ يُحْمَدَ مِنْ هذا، فيكون فيه تفضيلٌ علي غيره في كونه محمودًا؛ فلفظُ "محمَّد" يقتضي زيادةً في الكميَّة، ولفظ "أحمد" يقتضي زيادةً في الكيفيَّة. ومن الناس من يقول: معناه أنَّه أكثر حَمْدًا لله من غيره. وعلي هذا: فيكون بمعني الحامد والحمَّاد، وعلي الأول: بمعني المحمود. وإنْ كان الفارقليط بمعني الحمد فهو تسمية بالمصدر، مبالغةً في كثرة الحمد، كما يقال: رجل عَدْل ورِضىً ونظائر ذلك. وبهذا يظهر سرُّ ما أخبر به القرآنُ عن المسيح من قوله: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6]، فإنَّ هذا هو معني الفارقليط كما تقدَّم. وفي التوراة ما ترجمتُه بالعربيَّة: "وأما في إسماعيل فقد قبلت دعاءك ها أنا قد باركت (فيه وأثمره وأكبره) (2) بِمُؤَذمُؤَذ" (3) هكذا هذه اللفظة __________ (1) "ديوان حسان بن ثابت"، ص (46)، ونسبه بعضهم لأبي طالب عم النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وقيل غير ذلك. (2) في "غ": "فيعلموا ثمره وأكثره". (3) في "د" "مؤذ" بالمعجمة. وفي سائر النسخ بالمهملة، وفيها (ماد ماد) وكذلك في "بذل المجهود" للسموأل ص (87). والمثبت هو الصحيح، ليكون علي وزن عمر في الضبط.
(1/142)
"مُؤَذ" علي وزن عُمَر، وقد اختلف فيها علماء أهل الكتاب. فطائفة يقولون: معناها جدًّا جدًّا. أي: كثيرًا كثيرًا. فإن كان هذا معناها فهو بشارة بمن عظم من بَنِيْهِ كثيرًا كثيرًا، ومعلومٌ أنَّه لم يعظم من بنيه أكثر مما عظم من محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقالتْ طائفةٌ أخري: بل هي صريحُ اسمِ محمَّدٍ. قالوا: ويدلُّ عليه أنَّ ألفاظ العبرانية قريبة من ألفاظ العربية؛ فهي أقرب اللغات إلي العربية، فإنهم يقولون لإسماعيل: (شماعيل، وسمعتُك: شمعتيني) (1) ، وإياه: أوثو، وقدسك: قدشيخا، وأنت: أنا (2) ، وإسرائيل: يسرائيل، فتأمَّلْ قولَه في التوراة: "قدس لي خل بخور (3) خل ريخم (بني إسرائيل باذام ويبيمالي") (4) . معناه: قَدِّسْ لي كلِّ بكْرٍ، كلَّ أولِ مولودِ رَحِمٍ في بني إسرائيل مِنْ إنسانٍ إلي بهيمةٍ لي (5) . وتأمل قوله: "نابي أقيم لاهيم تقارب أخيهم (كانوا أخا) (6) ايلاؤه شماعون (7) " فإن معناه: نبيًّا أُقيم لهم مِنْ وَسْط إخوتهم مِثْلَك به يؤمنون. وكذلك قوله: ("أنتم عابرتم بعيولي اجيخيم بنوا __________ (1) في "غ": "سمَّعيل وشمعيل شميعتها". (2) في "غ": "أنتا". (3) في "غ": "رحم". (4) في "غ": "بني يسراسيل باذام وبهمالي". (5) "سفر الخروج": (13/ 1). (6) في "غ": "كاموخا". (7) في "غ": "يسماعون".
(1/143)
عيصاه") (1) معناه: أنتم عابرون (2) في تخم إخوتكم بني العيص. ونظائرُ ذلك أكثرُ مِنْ أن تُذْكَر، فإذا أخذتَ لفظة "مُؤَد مُؤد" وجدتَها أقربَ شيء إلي لفظة محمد، وإذا أردتَ تحقيقَ ذلك فطابِقْ بين ألفاظ العبرانيَّة والعربيَّة. وكذلك يقولون: "اصبوع او لو هم هوم" أي: اصبع الله كتب له بها التوراة. ويدلُّ علي ذلك أداةُ الباء في قوله: "بمأذ مأذ" ولا يقال: أعظِّمه بِجِدًّا جِدًّا، بخلاف أعظِّمه بمحمدٍ. وكذلك هو؛ فإنه عُظِّم به وازداد به شرفًا إلى شرفه، بل تعظيمُه بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - فوقَ تعظيمِ كلِّ والد بولده العظيمِ القَدْر، فاللهُ -سبحانه- كبَّره بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. وعلي التقديرين: فالنصُّ من أظهر البشَاراتِ به؛ أمَّا علي هذا التفسير: فظاهرٌ جدًّا (3) ، وأمَّا علي التفسير الأول: فإنَّما كُبِّر إسماعيل وعُظِّم علي إسحاق جدًّا جدًّا بابنه محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. فإذا طابَقْتَ بين معني "الفارقليط" ومعني "مُوَذ مُوَذ" ومعني "محمد وأحمد" ونظرت إلي خصال الحَمْد التي فيه، وتسميةِ أمَّته بالحمَّادين، وافتتاحِ كتابه بالحمد، وافتتاحِ الصَّلاة بالحمد، (وخَتْمِ الرَّكعة بالحمد) (4) ، وكَثْرةِ خصال الحمد التي فيه، وفي أمته وفي دينه، وفي كتابه، وعرفت ما خَلَّص به العالَم من أنواع الشرك والكفر والخطايا والبدع والقول علي الله بلا علم، وما أعزَّ اللهُ به الحقَّ وأهلَه، وقمع به الباطلَ وحِزْبَه: تيقنت أنَّه الفارقليط __________ (1) في "غ": "إيتم عابرتم بعيول احيخيم بني عيصا". وانظر: "سفر التثنية": (2/ 4). (2) في "غ": "عابدون". (3) في "ص": "جدًّا جدًّا". (4) ساقط من "غ".
(1/144)
بالاعتبارات كلها. فَمَنْ هذا الذي هو روحُ الحقِّ الذي لا يتكلَّم إلا بما يُوحَي إليه؟!. ومَنْ هو العاقبُ للمسيح، والشَّاهد لما جاء به، والمصدَّق له بمجيئه؟! ومَنِ الذي أخْبَرَنا بالحوادث في الأزمنة المُسْتَقْبَلَةِ كخروج الدَّجَّال، وظهورِ الدابَّة، وطلوع الشمس من مَغْرِبها، وخروجِ يأجوج ومأجوج، ونزولِ المسيح ابن مريم، وظهورِ النَّار التي تحشُر النَّاس، وأضعاف أضعاف ذلك من الغيوب التي قبل يوم القيامة، والغيوب الواقعة (1) ؛ مِن الصّراطِ، والميزانِ، والحساب، وأخْذِ الكتب بالأيمان والشمائل، وتفاصيل ما في الجنَّة والنَّار ممَّا لم يذكر في التوراة والإنجيل = غير محمد - صلى الله عليه وسلم - (2) ؟!. ومَنِ الذي وبَّخ العالَم علي الخطايا سواه؟! ومَنِ الذي عرَّفَ الأمة ما ينبغي للهِ حقَّ التعريف غيرُه؟!. ومَنِ الذي تكلَّم في هذا الباب بما لم يُطِقْ أكثر العالَم أن يقبلوه غيره؟ حتي عَجَزَتْ عنه عقولُ كثيرٍ ممَّن صدَّقه وآمن به، فَسَامُوه أنواعَ التَّحريف والتأويل؛ لعجز عقولهم عن حَمْله -كما قال أخوه المسيح صلوات الله عليهما وسلامه-؟! ومَنِ الذي أُرسل إلي جميع الخلق بالحقِّ قولًا وعملًا واعتقادًا في __________ (1) في "ص": "الواقعة يوم القيامة". (2) هذا جواب سؤاله قبل أسطر: ومن الذي أخبرنا ... ؟
(1/145)
معرفة الله وأسمائه وصفاته وأحكامه وأفعاله وقضائه وقدره = غيرُه؟! ومَنْ هو أُرْكون العالَم الذي أتي بعد المسيح = غيرُه؟! "وأُركون العالم" هو عظيم العالَم، وكبير العالَم. وتأمَّلْ قَوْلَ المسيح في هذه البشارة التي لا ينكرونها: "إن أُركون العالم سيأتي وليس لي من الأمر شيء" = كيف هي شاهدة بنبوَّةٍ المسيح ونبوَّةِ محمد معًا؛ فإنّه لمَّا جاءَ صارَ الأمر له دون المسيح. فوَجَبَ علي العالَم كلِّهم طاعتُه والانقيادُ لأمره، وصار الأمرُ له حقيقةً. ولم يَبْقَ بأيدي النَّصاري إلا دينٌ باطِلُه أضعافُ أضعافِ حقِّه، وحقُّه منسوخٌ بما بَعَثَ اللهُ به محمدًا - صلى الله عليه وسلم -. فطابقَ قولُ المسيح قولَ أخيه محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -: "ينزل فيكم ابن مريم حكمًا عدلًا وإمامًا مقسطًا فيحكم بكتاب ربِّكم" (1) ، وقوله في اللفظ الآخر: "فأمَّكم (2) بكتاب ربِّكم". فتَطابَقَ (3) قَوْلُ الرَّسولين الكريمين، وبشَّر الأولُ بالثَّاني، وصدَّق الثاني بالأول. وتأمَّلْ قولَه في البشارة الأخري: "ألَمْ تَرَ إلي الحجر الذي أخَّره البنَّاؤون صار أُسًّا للزاوية"، كيف تجده مطابِقًا لقول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلِي __________ (1) أخرجه البخاري بنحوه، في البيوع: (4/ 414)، ومسلم في الإيمان: (1/ 135 - 136). (2) في "ص": "فيأتيكم". (3) في "ب، ص": "فطابق".
(1/146)
ومَثَلُ الأنبياء قبلي كمثل رجلٍ بني دارًا فأكلمَلَها وأتمَّها إلا مَوْضِعَ لَبِنةٍ منها فجعل النَّاس يطوفون بها ويعجبون منها، ويقولون: هلّا وُضِعَتْ تلك اللَّبِنهٌ؟! فكنتُ أنا تلك اللبنة" (1) ! وتأمَّل قولَ المسيح في هذه البشارة: "إن ذلك عجيبٌ في أعيننا". وتأمل قولَه فيها: "إن ملكوت الله سَيُؤخَذُ منكم ويُدْفَع إلي أمة أخري" كيف تجده مطابقًا لقوله تعالي: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) } [الأنبياء: 105]. وقولهِ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) } [النور: 55]. وتأمَّلْ قولَه في الفارقليط المبشَّر به: "يفشي لكم الأسرار، ويفسِّر لكم كل شيء، فإني أجيئكم بالأمثال وهو يأتيكم بالتأويل" كيف تجده مطابقًا للواقع من كل وجه ولقوله تعالي: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]. ولقوله تعالي: {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111]. وإذا تأملتَ التوراةَ والإنجيلَ والكتبَ، وتأملت القرآنَ وَجَدْتَه كالتفصيل لِمُجْمَلِهَا، والتأويلِ لأمثالها، والشَّرح لرمُوزِها. وهذا __________ (1) تقدم تخريجه في ص (31) من المقدمة.
(1/147)
حقيقةُ (1) قولِ المسيح: "أجيئكم بالأمثال ويجيئكم بالتأويل، ويفسِّر لكم كلَّ شيءٍ". وإذا تأملتَ قولَه: "وكل شيء أعدَّه الله لكم يخبركم به"، وتفاصيل ما أخبر به من الجنَّة والنار، والثواب والعقاب = تَيَقَّنْتَ صِدْقَ الرَّسولين الكريمين، ومُطابقةَ (الأَخبارِ المفصَّلَةِ) (2) من محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - للخَبَرِ المُجْمَل من أخيه المسيح. وتأمَّلْ قولَه في الفارقليط: "وهو يشهدُ لي كما شهدتُ له" (3) كيف تجده منطبقًا علي محمد بن عبد الله، وكيف تجده شاهدًا بصدق الرَّسولين، وكيف تجده صريحًا في رجل يأتي بعد المسيح يشهد له بأنَّه عبدُ اللهِ ورسولُه كما شهد له المسيح؟! فلقد أذَّن المسيحُ بنبوةِ محمد -صلوات الله وسلامه عليهما- أذانًا لم يُؤَذِّنْهُ نبيٌّ قَبْلَه، وأعلنَ بتكبير ربِّه أن يكون له صاحبةٌ أو ولد، ثم رفع صوتَه بشهادةِ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلهًا واحدًا أحدًا، فردًا صمدًا، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، ثم أعلن بشهادة أنَّ محمدًا عبده ورسوله، الشاهدُ له بنبوَّتِه، المؤيَّدُ بروحِ الحقِّ الذي لا يقول من تلقاء نفسه، بل يتكلم بما يُوحَي إليه، ويعلِّمهم كلَّ شيء ويخبرهم ما أعدَّ الله لهم. ثم رفع صوته بحيَّ علي الفلاح؛ باتباعه والإيمان به وتصديقه، وأنه __________ (1) ساقط من "غ". (2) في "غ": "الإخبار المفصَّل". (3) في الرسالة الأولي إلي أهل كُورِنْثُوس (14/ 2).
(1/148)
ليس له من الأمر معه شيء، وختم التأذين بأنَّ ملكوتَ اللهِ سيؤخذ ممَّن كذَّبه ويُدْفَع إلي أتباعه والمؤمنين به، فهَلَكَ من هَلَكَ عن بيِّنة، وعاش من عاش عن بيِّنة، فاستجاب أتباع المسيح حقًّا لهذا التأذين، وأباهُ الكافرونَ والجاحدونَ، فقال تعالي: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [آل عمران: 55]. وهذه بشارةٌ بأنَّ المسلمين لا يزالونَ فوق النَّصاري إلي يوم القيامة؛ فإن المسلمين هم أتباعُ المرسلين في الحقيقة، وأتباعُ جميع الأنبياء، لا أعداؤه. وأعداؤه عُبَّادُ الصليب الذين رَضُوا أنْ يكونَ إلَهًا مصفوعًا مصلُوبًا مقتولًا، ولم يَرْضَوا أن يكونَ نبيًّا عبدًا لله، وجيها عنده، مقرَّبًا لديه. فهؤلاء أعداؤه حقًّا، والمسلمون أتباعُه حقًّا. والمقصود: أنَّ بشارة المسيح بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فوقَ كلِّ بشارةٍ، لمَّا كان أقربَ الأنبياءِ إليه، وأَوْلاهُمْ به، وليس بينه وبينه نبيٌّ (مرسل صاحب شريعة وكتاب) (1) . فصل وتأمَّلْ قول المسيح: "إن أُرْكُون العالَم سيأتي"، وأُركون العالم: هو سيِّد العالم وعظيمه، ومَنِ الذي سادَ العالَم، وأطاعه العالَمُ بعد المسيح = غيرُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؟!. وتأمل قولَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - -وقد سئل ما أول أمرك؟ قال-: "أنا دعوة أبي __________ (1) ساقط من "ب، ج، ص".
(1/149)
إبراهيم، وبُشْري (1) عيسي" (2) . وطابِقْ بين هذا وبين هذه البشارات التي ذكرها المسيح. فمن الذي ساد العالَم باطنًا وظاهرًا، وانقادت له القلوب والأجساد، وأُطِيْع في السرِّ والعلانية، في محياه وبعد مماته في جميع الأعصار، وأفضلِ الأقاليم والأمصار، وسارت دعوته مَسِيرَ الشَّمس، وبلغٍ دينُه ما بلغ الليلُ والنَّهار، وخَرَّتْ لمجيئه الأُمم علي الأذقان، وبَطلتْ به عبادةُ الأوثان، وقامت به دعوةُ الرحمن، واضمحلَّت به دعوة الشيطان، وأذلَّ الكافرين والجاحدين، وأعزَّ المؤمنين وجاء بالحقِّ وصدَّق المرسلين، حتي أعلن بالتوحيد علي رؤوس الأشهاد، وعُبدَ اللهُ وحدَه لا شريك له، في كلِّ حاضرٍ وباد، وامتلأتْ به الأرضُ تحَميدًا وتكبيرًا (3) لله وتهليلًا، وتسبيحًا، واكتستْ به -بعد الظُّلْمِ والظَّلامِ- عَدْلًا ونُورًا. وطابقْ بين قولِ المسيح: "إن أُركون العالم سيأتيكم"، وقولِ أخيه محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -: "أنا سيِّدُ وَلَدِ آدم ولا فَخر، آدم فمن دونه تحت لوائي، وأنا خطيبُ الأنبياء إذا وَفَدُوا، وإمامُهُم إذا اجتمعوا، ومبشِّرُهم إذا أَيِسُوا، لواءُ الحمدِ بيدي، وأنا أكرمُ ولدِ آدمَ علي ربيِّ" (4) . __________ (1) في "غ": "وبشَّر بي". (2) أخرجه الإمام أحمد من حديث العرباض بن سارية: (4/ 127، 128). قال الهيثمي: "رواه أحمد والبزار والطبراني، وأحد أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح"، "مجمع الزوائد": (8/ 223). (3) ساقط من "غ". (4) أخرجه الترمذي في المناقب: (5/ 587) وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وابن ماجه في الزهد: (2/ 450).
(1/150)
فصل وفي قَوْلِ المسيح في هذه البشارة: "وليس لي من الأمر شيء" إشارةٌ إلي التوحيد وأن الأمر كلَّه لله، فتضمنت هذه البشارة أَصْلَي (1) الدِّين: إثباتُ التوحيد، وإثباتُ النبوَّة، وهذا الذي قاله المسيح مطابقٌ لِمَا جاء به أخوه محمدُ بنُ عبد الله عن ربِّه من قوله له: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128]. فمَنْ تأمَّلَ حال الرَّسولين الكريمين ودَعْولهما وجدَهما متوافِقَيْن متطابقين حَذْوَ القُذَّة بالقذة، وأنه لا يمكن التصديق بأحدهما مع التكذيب بالآخر البتَّة، وأن المكذِّب بمحمد - صلى الله عليه وسلم - أشدُّ تكذيبًا للمسيح، الذي هو المسيح ابن مريم عبد الله ورسوله، وإن آمن بمسيحٍ لا حقيقةَ له ولا وجود، وهو أبطل الباطل. وقد قال يوحنا في كتاب "أخبار الحواريين" وهو يسمونه "أفركسيس" (2): "يا أحبابي إيَّاكم أن تؤمنوا بكل روح، لكن مَيِّزوا الأرواح التي مِنْ عند الله من غيرها، واعلموا أنَّ كلَّ روح تؤمن بأن يسوع (3) المسيح قد جاء وكان جسدانيًّا فهي من عند الله، وكل روح لا تؤمن بأن المسيح قد جاء وكان جسدانيّا فليست من عند الله، بل من المسيح الكذَّاب، الذي هو الآن في العالم" (4). فالمسلمون يؤمنون بالمسيح الصَّادق الذي جاء من عند الله بالهدي ودينِ الحقِّ الذي هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلي مريم العذراء البَتُول. والنَّصاري إنما تؤمن بمسيحٍ دعا إلي عبادة نفسه وأمِّه وأنه ثالث __________ (1) في "ج": "أصل". (2) أي: "أعمال الرسل" من العهد الجديد. (3) في "غ": "يشوع". (4) "رسالة يوحنا الأولى" من العهد الجديد: (4/ 1 - 4).
(1/151)
ثلاثة، وأنه الله وابن الله، وهذا هو أخو المسيح الكذَّاب (1) -لو كان له وجود- فإنَّ المسيح الكذاب يزعم أنه الله. والنصاري في الحقيقة أتباع هذا المسيح، كما أن اليهود إنما ينتظرون خُروجَه، وهم يزعمون أنهم ينتظرون النبيَّ الذي بُشِّروا به، فعوَّضهم الشيطان بعد مجيئه من الإيمان به انتظارًا للمسيح الدجَّال. وهكذا كلُّ مَنْ أعرض عن الحقِّ يُعَوَّض عنه بالباطل. وأصل هذا: أنَّ إبليس لما أعرض عن السجود لآدم كِبْرًا أن يخضع له تعوض بذلك ذُلَّ القيادة لكلِّ فاسق ومجرم من بنيه، فلا بتلك النخوة ولا بهذه الحرفة. والنَّصاري لما أَنِفُوا أنْ يكون المسيح عبدًا لله تعوَّضوا من هذه الأنفة بأن رضُوا بجعلِه (2) مَصْفَعَةَ اليهود، ومصلوبَهم الذي يسخرون منه ويهزؤون به، ثم عقدوا له تاجًا من الشَّوك بدل تاج الملك، وساقوه في حبل إلي خشبة الصَّلْب يصفقون حوله ويرقصون. فلا بتلك الأنفة له من عبودية الله ولا بهذه النسبة له إلي أعظم الذلِّ والضيق والقهر. وكذلك أنِفُوا أن يكون للبترك والراهب زوجةٌ أو ولد وجعلوا لله ربِّ العالمين الوَلَدَ، وكذلك أنِفُوا أن يعبدوا الله وحْدَه لا شريك له ويطيعُوا عبدَه ورسولَه، ثم رضوا بعبادةِ الصليب والصُّوَر المصنوعة بالأيدي في الحيطان، وطاعةِ كلِّ مَنْ يحرِّم عليهم ما شاء ويحلِّل لهم ما شاء، ويشرع لهم من الدِّين ما شاء من تلقاء نفسه. __________ (1) ساقط من "ب، ج، ص". (2) في "غ": "أن يجعلوه".
(1/152)
ونظيرُ هذا التَّعويضِ: أَنَفَةُ الجَهْمِيَّة (1) أن يكون الله -سبحانه- فوق سماواته علي عرشه بائنًا من خلقه حتي لا يكون محصورًا -بزعمهم- في جهة معيَّنة، ثم قالوا: هو في كلِّ مكان بذاته. فحصروه في الآبار والسجونِ والأنجاسِ والأخباثِ، وعوَّضوه بهذه الأمكنةِ عن عرشه المجيد. فليتأملِ العاقلُ لَعِبَ الشيطان بعقول هذا الخلق، وضَحِكَه عليهم، واستهزاءه بهم؟!. فصل وقولُ المسيحِ: "إذا انطلقتُ أرسلته إليكم" معناه أني أُرسلُه بدعاء ربي وطلبي منه أن يرسله. كما يطلب الطالب من وليِّ الأمر أن يُرْسلَ رسولًا أو يولِّي نائبًا أو يعطيَ أحدًا، فيقول: أنا أرسلتُ هذا وولَّيتُه وأعطيتُه. يعني أنّي كنت سببًا في ذلك، فإنَّ الله سبحانه إذا قضي أن يكون الشيء فإنه يقدر له أسبابًا يكون بها. ومن تلك الأسباب: دعاءُ بعضِ عباده بأن يفعل ذلك، فيكون في ذلك من النِّعمة إجابةُ دعائه مضافًا إلي نعمته بإيجاد ما قضي كونه. ومحمدٌ قد دعا به الخليل أبوه فقال: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 129]. مع أنَّ الله -سبحانه- قد قضي بإرساله وأعلن باسمه قبل ذلك، كما قيل له: يا رسول الله: متي كنتَ نبيًّا؟ قال: "وآدمُ بينَ الرُّوحِ والجسد" (2). وقال: "إني عند الله __________ (1) أتباع الجهم بن صفوان الترمذي، الذين قالوا بنفي الصفات والتعطيل. (2) أخرجه الترمذي في المناقب: (10/ 78) وقال: "حديث حسن صحيح غريب من حديث أبي هريرة، لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، والإمام أحمد: (4/ 66)، وصححه الحاكم: (2/ 600، 609). وانظر: "مجمع الزوائد": (8/ =
(1/153)
لمكتوبٌ خَاتَمُ النبيِّيْن وإِنَّ آدم لَمُنْجَدِلٌ في طِيْنَتِهِ" (1) . وهذا كما قضي الله -سبحانه- نَصْرَه يومَ بدرٍ. ومن أسباب ذلك استعانتُه بربِّه ودعاؤه وابتهالُه بالنَّصر. وكذلك ما يقضيه من إنزال الغيث قد يجعله بسبب ابتهال عبادِه ودعائِهم وتضرُّعِهِمْ إليه، وكذلك ما يقضيه من مغفرة ورحمةٍ وهدايةٍ ونصرٍ؛ قد يسبب له أدعية يحصل بها ممن ينال ذلك أو من غيره، فلا يمتنع أن يكونَ المسيح سأل ربَّه -بعد صعوده- أنْ يُرْسِلَ أخاه محمدًا إلي العالم، ويكون ذلك من أسباب الرسالة المضافةِ إلي دعوة أبيه إبراهيم، لكنَّ إبراهيم سأل ربَّه أن يُرْسلَه في الدنيا، فلذلك ذكره الله -سبحانه-، وأما المسيح فإنما سأله بعد رَفْعِه وصعودِه إلي السماء. فصل وتأمَّلْ قَوْلَ المسيح: "إني لستُ أدَعُكم أيتامًا لأني سآتيكم عن قريب" كيف هو مطابقٌ لقول أخيه محمدِ بن عبد الله -صلوات الله وسلامه عليهما-: "ينزل فيكم ابنُ مريمَ حَكَمًا عَدْلًا، وإمامًا مُقْسِطًا، فيقتلُ __________ = 233)، "صحيح الجامع الصغير وزيادته" للألباني: (2/ 840). وقال السندي: معناه: إني قبل أن يخلق آدم. وقيل: قبل إدخال روحه جسده. (1) أخرجه الإمام أحمد: (4/ 127 - 128)، وصححه الحاكم: (2/ 418)، وابن حبان، ص (512) من موارد الظمآن، والطبري: (3/ 83)، والبغوي (1/ 107). قال الهيثمي: أحد أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح غير سعيد بن سويد. انظر: "مجمع الزوائد": (3/ 223)، "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي: (1/ 82).
(1/154)
الخِنزيْرَ، ويكسرُ الصَّليبَ، ويَضَعُ الجِزْيةَ" (1)، وأوصي أمَّته بأن "يقرئه السلام منه من لقيه منهم" (2)، وفي حديث آخر: "كيف تهلك أمة أنا في أولها وعيسي في آخرها" (3)؟ فصل وقد تقدَّم نصُّ التوراة "تجلَّي الله من طور سينا، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران" (4)، قال علماء الإسلام -وهذا لفظ أبي محمد بن قتيبة (5) -: ليس بهذا خفاء علي من تدبَّره ولا غموض؛ لأن مجيء الله من طور سينا: إنزاله التوراة علي موسي من طور سينا، كالذي هو عند أهل الكتاب وعندنا. وكذلك يجب أن يكون "إشراقه من ساعير": إنزاله الإنجيل علي المسيح، وكان المسيح من "ساعير" أرض الخليل بقرية تدعي "ناصرة"، وباسمها تسمَّي من اتَّبعه (6) "نصاري". __________ (1) أخرجه البخاري في البيوع: (4/ 414)، ومسلم في الإيمان: (1/ 135 - 136). (2) كما في حديث أنس مرفوعًا: "من أدرك منكم عيسي ابن مريم فليقرئه مني السلام" أخرجه الحاكم: (5/ 755) (دار المعرفة) قال الذهبي: فيه إسماعيل بن عياش وهو ثقة إلا أن روايته هذه عن غير أهل بلده مضطربة. (3) أخرجه ابن عساكر: (2/ 65)، والطبري: (3/ 203). وبنحوه الحاكم في "المستدرك": 3/ 43، وذكره ابن القيم في "المنار المنيف" ضمن أحاديث في بابه وقوَّى أسانيدها. وانظر: "الحاوي للفتاوي" للسيوطي: (2/ 280). (4) انظر فيما سبق ص (123). (5) في كتابه "دلائل النبوة"، أو "أعلام رسول الله المنزَّلة علي رسله" ورقة 2 مخطوط بالمكتبة الظاهرية. والنص في "الجواب الصحيح" لابن تيمية: (5/ 199) وما بعدها. (6) في "غ": "تبعه".
(1/155)
وكما وجب أن يكون إشراقه من "ساعير" بالمسيح فكذلك يجب أن يكون "استعلانه من جبال فاران": إنزالُه القرآنَ علي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وجبالُ فارانَ هي جبالُ مكةَ. قال (1) : وليس بين المسلمين وأهل الكتاب خلافٌ في أنَّ فَارانَ هي مكة. فإنِ ادَّعَوا أنها غير مكةَ؛ فليس يُنْكَر ذلك من تحريفِهم وإفكهم. قلنا: ألَيْسَ في التوراة: "أن إبراهيم أسْكَنَ هاجر وإسماعيل فاران" (2) ؟! وقلنا: دلُّونا علي الموضع الذي استعلن الله منه واسمه فاران، والنبيِّ الذي أنزل عليه كتابًا بعد المسيح؟! أَوَليس "استعلن" و"عَلَن" بمعنىً واحد، وهما ظهر وانكشف، فهل تعلمون دينًا ظهر ظهورَ دينِ الإسلام وفَشَا في مشارق الأرض ومغاربها فشوَّه؟! قال علماء الإسلام: "وساعير" جبالٌ بالشام منه ظهور نبوة المسيح، وإلي جانبه قرية بيت لحم، القرية التي ولد فيها المسيح، تسمي اليوم "ساعير" ولها جبال تسمي ساعير، وفي التوراة أنَّ نسل العيص كانوا سكانًا بساعير، وأمر الله موسي أنْ لا يؤذيهم. قال شيخ الإسلام (3) : وعلي هذا فيكون قد ذكر الجبال الثلاثة: "حراء" الذي ليس حولَ مكةَ أعلي منه، وفيه ابْتُدِيءَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بنزول الوحي عليه، وحولَه جبالٌ كثيرة، وذلك المكان يسمي فاران إلى هذا __________ (1) أي: ابن قتيبة. انظر: "أعلام رسول الله المنزلة علي رسله" لوحة (3). (2) انظر: العهد القديم، سفر التكوين: (21/ 21). (3) انظر: "الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح" لابن تيمية: (5/ 202) وما بعدها.
(1/156)
اليوم. والبريَّةُ التي بين مكةَ وطورِ سينا تسمي بريَّة فَارانَ ولا يمكن أحدًا أن يدَّعي أنه بعد المسيح نزل كتابٌ في شيء من تلك الأرض ولا بُعِثَ نبيٌ. فعُلِمَ أنه ليس المراد باستعلانه من جبال فاران إلا إرسال محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو -سبحانه- ذكر هذا في التوراة علي ترتيب الزمان (1) ؛ فذكر إنزالَ التوراةِ ثم الإنجيل، ثم القرآن. وهذه الكتب نور الله وهُداه، وقال في الأول: "جاء وظهر"، وفي الثاني: "أشرق"، وفي الثالث: "استعلن"؛ فكان مجيءُ التوراة مثل طلوع الفجر، ونزولُ الإنجيل مثل إشراق الشمس، ونزولُ القرآن بمنزلة ظهور الشمس في السماء. ولهذا قال: "واستعلن من جبال فاران" فإنَّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ظهر به نور الله وهداه في مشرق الأرض ومغربها أعْظَمَ مما ظهر بالكتابين المتقدِّمَيْن، كما يظهر نور الشمس في مشارق الأرض ومغاربها إذا استعلنت وتوسَّطتِ السماءَ (2) ، ولهذا سمَّاه الله: {وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 46]. وسمى الشمس: {سِرَاجًا وَهَّاجًا} [النبأ: 13] والخَلْقُ يحتاجون إلي السراج المنير أعْظمَ من حاجتهم إلي السراج الوهَّاج، فإن هذا يحتاجون إليه في وقت دون وقت، وأمَّا السراج المنير فيحتاجون إليه كلَّ وقت، وفي كل مكان، ليلًا ونهارًا، سرًّا وعلانيةً. وقد ذكر الله تعالي هذه الأماكن الثلاثة في قوله: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ ( 2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين: 1 - 3] فالتين والزيتون: هو في الأرض المقدَّسة التي بُعِثَ منها المسيح، وأُنزل عليه فيها الإنجيل، وطور سينين: وهو الجبل الذي كلَّم الله عليه موسي تكليمًا وناداه من __________ (1) في "غ": "الترتيب الزماني". (2) ساقط من "ب، ص، غ".
(1/157)
واديه الأيمن من البقعة المباركة من الشجرة التي فيه، وأقسم بالبلد الأمين: وهو مكةَ التي أسكن إبراهيم وإسماعيل وأمَّه فيه، وهو فاران كما تقدم، ولما كان ما في التوراة خبرًا عن ذلك أخبر به علي الترتيب الزمانيِّ، فقدَّم الأسبق، ثم الذي يليه. وأمَّا القرآن فإنَّه أقسم بها تعظيمًا لشأنها وإظهارًا لقدرته وآياته وكتبه ورسله، فأقسم بها علي وجه التدريج درجةً بعد درجةً، فبدأ بالعالي، ثم انتقل إلى أعلي منه، ثم أعلي منهما، فإنَّ أشرفَ الكتب القرآنُ، ثم التوراة، ثم الإنجيل. وكذلك الأنبياء الثلاثة (1). فصل وهذا الذي ذكره ابن قتيبة وغيره من علماء المسلمين، مَنْ (2) تأمل التوراة وجدها ناطقةً به صريحةً فيه، فإنَّ فيها: "وغدا إبراهيم فأخذ الغلام وأخذ خبزًا وسقاء من ماء ودفعه إلى هاجر وحمله عليها، وقال لها: اذهبي، فانطلقتْ هاجر، ونَفِدَ الماءُ الذي كان معها، فطرحتِ الغلامَ تحت شجرة، وجلستْ مقابلته علي مقدار رَمْيَةِ الحجر، لئلا تُبْصرَ الغلامَ حين يموت، ورفعتْ صوتها بالبكاء، وسمع اللهُ صوت الغلام حيث هو، فقال لها الملك: قومي فاحملي الغلامَ وشدِّي يدك به، فإني جاعله لأمة عظيمة، وفتح الله عينيها فبصرت ببئر ماء، فسقت الغلام، وملأت سِقَاءَهَا، وكان الله مع الغلام فتربَّى وسَكَنَ في برّيَّة فارانَ" (3). فهذا نصُّ التوراة: أن إسماعيل رُبِّي وسكن في برية "فاران" بعد أن __________ (1) ساقط من "ب، ج". (2) ساقط من "غ". (3) سفر التكوين: (21/ 14 - 21).
(1/158)
كاد يموت من العطش، وأنَّ الله سقاه من بئر ماء. وقد عُلِم بالتواتر واتفاق الأمم أن إسماعيل إنما رُبّي بمكة، وهو وأبوه إبراهيم بَنَيا البيت، فعُلِمَ قطعًا أنَّ "فاران" هي أرض مكة. ومثل هذه البشارة من كلام شمعون (1) فيما قبلوه ورضوا ترجمته: "جاء الله من جبال فاران، وامتلأتِ السمواتُ والأرض من تسبيحه وتسبيحِ أمته" (2). ولم يَخْرج أحدٌ من جبال فاران التي امتلأت السموات والأرض من تسبيحه وتسبيح أمته سوي محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّ المسيح لم يكن بأرض فاران البتَّة، وموسي إنما كُلِّم من الطور، والطور ليس من أرض فاران، وإن كانت البرية التي بين مكة والطور تسمي برّيَّة فاران فلم يُنْزِلِ الله فيها التوراةَ، وبشارةُ التوراة قد تقدَّمت بجبل الطور، وبشارة الإنجيل بجبل ساعير. فصل ونظير هذا: ما نقلوه ورضوا ترجمته في نبوة حَبْقوق: "جاء الله من التِّيْن (3) وظَهَرَ القُدُس علي جبال فاران، وامتلأتِ الأرض من تحميد أحمد، وملك بيمينه رقاب الأمم، وأَنارتِ الأرضُ لنوره، وحملت خيله __________ (1) في "غ": "سمعون" بالمهملة. (2) هذا من كلام حبقوق، الإصحاح: (3) فقرة: (3 و 4). والنص كله في "الجواب الصحيح": (5/ 221 - 222). (3) هكذا في "ص". وفي: "أعلام رسول الله المنزلة" لابن قتيبة، وفي: "الجواب الصحيح": "التيمن". وفي "قاموس الكتاب المقدس": هو اسم عبري معناه اليميني، أو الصحراء الجنوبية. وانظر ص (187) فيما سيأتي.
(1/159)
في البحر" (1). قال ابن قتيبة (2): وزاد فيه بعض أهل الكتاب: "وستنزع في قِسِيِّك أعراقا وترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواءً". وهذا إفصاحٌ باسمه وصفاته، فإنِ ادَّعوا أنه غيره، فمن أحمدُ هذا الذي امتلأت الأرض من تحميده، الذي جاء من جبال فاران فَمَلَك رقابَ الأُمم؟! (الوجه السادس) (3): قوله في الفصل التاسعِ من السفر الأول من التوراة: "إنَّ هاجر لما فارقت سارة وخاطبها المَلك فقال: يا هاجر من أين أقْبَلْتِ؟ وإلي أين تريدينَ؟ فلما شرحت له الحال قال: ارجعي فإنّي سأكثِّر ذريتك وزرعك حتي لا يُحْصَونَ، وها أنت تحبلين وتلدين ابنًا اسمه إسماعيل، لأنَّ الله قد سمع ذلك وخُضُوعَك، وولدُك يكون وحْشَ الناس، يدُه فوقَ يدِ الجميع، ويدُ الكلِّ به، ويكون مسكنُه (4) علي تخوم (5) جميع إخوته" (6). قال المستخرجون لهذه البشارة (7): معلوم أنَّ يد بني إسماعيل قبل مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - لم تكن فوق أيدي بني إسحاق، بل كان في أيدي بني إسحاق النبوَّة والكتاب، وقد دخلوا مصر زمنَ يوسفَ مع يعقوب، فلم __________ (1) "حبقوق": (3/ 3 - 5). (2) انظر كتابه: "أعلام رسول الله المنزلة علي رسله" لوحة (3). (3) في "غ": "ومن ذلك، وهو الوجه السادس". وتقدم الوجه الخامس في ص (127). (4) في "غ": "مسألته". (5) في "ج" "نحو". (6) العهد القديم، سفر التكوين: (16/ 7 - 13). (7) انظر: "أعلام رسول الله المنزلة علي رسله" لابن قتيبة لوحة (2 و 3).
(1/160)
يكن لبني إسماعيل فوقَهم يدٌ، ثم خرجوا منها لما بُعِث موسي، وكانوا مع موسي من أعزِّ أهل الأرض، ولم يكن لأحدٍ عليهم يَدٌ، ولذلك كانوا مع يوشع إلى زمن داود ومُلْكِ سليمانَ، الملكِ الذي لم يُؤْتَ أحدٌ مِثْلَه، فلم تكن يد بني إسماعيل عليهم، ثم بَعثَ اللهُ المسيحَ فكفروا به وكذَّبوه، فدمَّر عليهم تكذيبهم إياه وزال ملكهم، ولم يقم لهم بعده قائمة، وقطَّعهم الله في الأرض أُممًا. وكانوا تحت حكم الروم والفرس وقهرهم، ولم يكن يد ولد إسماعيل عليهم في هذا الحال، ولا كانت فوق يد الجميع إلى أن بعثَ اللهُ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - برسالته وأكرمه الله بنبوَّته فصارت بمبعثه يَدُ بني إسماعيل فوقَ الجميع، فلم يَبْقَ في الأرض سلطان أعزّ من سلطانهم، بحيث قهروا سلطانَ فارس والرُّوم والترك والدَّيْلم، وقهروا اليهودَ والنصاري والمجوسَ والصابئةَ وعُبَّادَ الأصنام، فظهر بذلك تأويلُ قولِه في التوراة: "ويكون يده فوق يد الجميع، ويد الكل به" (1) . وهذا أمرٌ مستمرٌّ إلى آخر الدهر. قالت اليهود: نحن لا ننكر هذا، لكن هذه بشارة بملكه وظهوره وقهره لا برسالته ونبوَّته. قال المسلمون: المُلْكُ مُلْكانِ: مُلْكٌ ليس معه نبوَّة، بل ملك (2) جبار متسلِّط، ومُلْأ نفسُه نبوَّة. والبشارة لم تقع بالملك الأول، ولاسيما إن ادَّعي صاحبه النبوة والرسالة وهو كاذبٌ مفترٍ (3) علي الله فهو من __________ (1) ساقطة من "ب، ج". (2) ساقطة من "غ". (3) في "غ": "مفتري".
(1/161)
شرِّ الخلق وأفجرهم وأكفرهم، فهذا لا تقع البشارة بِمُلْكِه وإنما يقع التحذير من فتنته كما وقع التحذير من فتنة الدجَّال، بل هذا شرٌّ من سنحاريب وبختنصر، والملوك الظَّلَمة الفجرة الذين يَكْذِبُون (1) علي الله، فالأخبار لا تكون بشارة، ولا تفرح به هاجر وإبراهيم، ولا بشَّر أحدٌ (2) بذلك، ولا يكون ذلك إثابة لها من خضوعها وذُلّها وأن الله قد سمع ذلك ويعظِّم هذا المولود ويجعله لأمة عظيمة، وهذا عند الجاحدين بمنزلة أن يقال: إنكِ ستلدين جبارًا ظالمًا طاغيًا، يقهر الناس بالباطل، ويقتل أولياء الله، ويَسْبِي حَرِيْمَهُم، ويأخذ أموالَهم بالباطل، ويبدِّل أديانَ الأنبياء، ويكذبُ علي الله، ونحو ذلك. فمن حملَ هذه البشارةَ علي هذا فهو من أعظم الخَلْق بُهْتانًا وفِرْيةً علي الله، وليس هذا بمُسْتنكَرٍ لأمة الغضب، وقَتَلَةِ الأنبياء، وقومِ البَهْتِ (3). (الوجه السابع): قول داود في الزبور (4): "سَبِّحوا الله تسبيحًا جديدًا، ليفرحْ إسرائيل بخالقه، وبيوت (5) صهيون من أجل أنّ الله اصطفي له أمته وأعطاه النصر، وسدَّد الصالحين بالكرامة يسبِّحون علي مضاجعهم، ويكبِّرون الله بأصواب مرتفعةٍ بأيديهم سيوف ذات شفرتين، __________ (1) في "غ": "لم يكذبوا". (2) في "غ": "من أخبر". (3) هذا الوجه السادس منقول من "الجواب الصحيح": (5/ 223 - 225). (4) وهذا الوجه أيضًا من "الجواب الصحيح": (5/ 226) وما بعدها. وانظر: "أعلام رسول الله" لابن قتيبة، لوحة (4). (5) في "غ": "ويتوب".
(1/162)
وينتقم (1) بهم من الأمم الذين لا يعبدونه (2) ، يُوثِقُون ملوكَهم بالقيود، وأشرافَهم بالأغلالِ" (3) . وهذه الصفات إنما تنطبق علي محمد وأمته، فهم الذين يكبِّرون الله بأصواتهم مرتفعة في أذانهم للصلوات الخمس وعلي الأماكن العالية، قال جابر: "كنَّا مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذا عَلَوْنَا كَبَّرْنَا، وإذا هبطنا سَبَّحْنَا" (4) . فوُضِعَتِ الصلاةُ علي ذلك. وهم (5) يكبِّرون الله بأصواتٍ عالية مرتفعةٍ في الأذان، وفي عيد الفطر، وعيد النَّحْر، وفي عشر ذي الحجة، وعقيب الصلوات في أيام مِنًى. وذَكَر البخاريُّ عن عمر بن الخطاب أنه كان يكبِّر بمني فيسمعه أهل المسجد فيكبِّرون بتكبيره، فيسمعهم (6) أهْلُ الأسواق فيكبِّرون، حتي ترتجَّ منى تكبيرًا (7) . وكان أبو هريرةَ وابنُ عُمر يخرجان إلى السوق أيام العشر فيكبِّران ويكبِّر الناسُ بتكبيرهما (8) ، ويكبِّرون أيضًا علي قَرَابِيْنهم وضحاياهم، وعند رَمْي الجِمَار، وعلي الصَّفا والمَرْوَة، وعند محاذاة الحَجَر الأسْوَد، __________ (1) في "غ": "لينتقم". (2) في "غ": "يعبدون". (3) العهد القديم، المزامير: (149/ 1 - 8). (4) أخرجه البخاري في الجهاد، باب التكبير إذا علا شرفًا: (6/ 135). (5) في "غ": "فهم". (6) في "غ": "فيسمعونهم". (7) أخرجه البخاري في العيدين، باب التكبير أيام منى: (2/ 461). (8) أخرجه البخاري تعليقًا في العيدين، باب فضل العمل أيام التشريق: (1/ 457).
(1/163)
وفي أدبارِ الصَّلوات الخمس. وليس هذا لأحدٍ من الأمم -لا أهل الكتاب ولا غيرهم- سواهم، فإنَّ اليهود يَجْمعون الناس بالبُوق، والنَّصاري بالناقوس، وأما تكبيرُ الله بأصوات مرتفعة، فشعار محمدِ بنِ عبد الله وأمَّتِه. وقوله: "بأيديهم سيوف ذات شفرتين" فهي السيوف العربيةُ التي فتح الصحابةُ بها البلادَ، وهي إلى اليوم معروفة لهم. وقوله: "يسبِّحون علي مضاجعهم" هو نعت للمؤمنين {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191]. ومعلوم قطعًا: أنَّ هذه البشارة لا تنطبق علي النصاري ولا تناسبهم، فإنهم لا يكبِّرون الله بأصوات مرتفعة، ولا بأيديهم سيوفٌ ذات شفرتين ينتقم الله بهم من الأمم. والنصاري تعيب مَنْ يقاتل الكفَّار بالسيف، وفيهم من يجعل هذا من أسباب التنفير عن محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولجهلهم وضلالهم لا يعلمون أنَّ موسي قاتل الكفَّار، وبعده يوشع بن نون، وبعده داود وسليمان وغيرهم من الأنبياء، وقبلهم إبراهيم الخليل -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-. (الوجه الثامن) (1): قول داود: "ومن أجل هذا باركَ اللهُ عليك إلى الأبد، فتقلَّدْ أيها الجبارُ السيفَ، لأنَّ البهاءَ لوجهك، والحمد الغالب عليك، اركب كلمة الحق، وسَمْت التألُه، فإنَّ ناموسك وشرائعك مقرونة بهيبة يمينك، وسهامك مسنونة، والأمم يخرُّون تحتك" (2). __________ (1) هذا الوجه أيضًا من "الجواب الصحيح": (5/ 237 - 238). (2) العهد القديم، المزمور: (45/ 2 - 5).
(1/164)
وليس متقلِّد السيف بعد داود من الأنبياء سوي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي خرَّتِ الأمم تحته، وقُرِنَتْ شرائعه بالهيبة: إمَّا القبول وإما الجزية، وإما السيف. وهذا مطابقٌ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "نُصِرْتُ بالرُّعب مَسِيْرَةَ شهرٍ" (1). وقد أخبر داود أنَّ لهَ ناموسًا وشرائع، وخاطبه بلفظ الجبَّار إشارة إلى قوته وقهره لأعداء الله، بخلاف المستضعف المقهور. وهو - صلى الله عليه وسلم - نبيُّ الرحمة، ونبيُّ الملحمة (2)، وأمَّتُه أشدَّاءُ علي الكفَّار رحماءُ بينهم، أذلَّة علي المؤمنين أعزَّة علي الكافرين. بخلاف الأذلّاء المقهورين المستكبرين، الذين يذلون لأعداء الله ويتكبَّرون عن قَبُولِ الحقِّ. (الوجه التاسع) (3): قول داود في مزمور آخر: "إنَّ الله سبحانه أظهرَ مِنْ صِهْيَوْنَ إكليلًا محمودًا". وضرب الإكليل مثلًا للرياسة والإمامة، ومحمود هو محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقال في صفته: "ويحوزُ من البحر إلى البحر، ومن لَدُنِ الأنهار إلى مُنقَطَع الأرض، وإنه لتَخِرُّ أهل الجزائر بين يديه علي رُكَبِهم، وتلحس أعداؤه التراب، تأتيه ملوك الفرس (4) وتسجدُ له، وتدين له الأُمم بالطاعة والانقياد، ويخلِّص المضطهد البائس ممن هو __________ (1) قطعة من حديث أخرجه البخاري في أول كتاب التيمم: (1/ 436) وفي مواضع أخري، وأخرجه مسلم في المساجد: (1/ 370 - 371). (2) في حديث حذيفة: "لقيت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في بعض طرق المدينة فقال: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا نبي الرحمة ونبي التوبة، وأنا المقفّي وأنا الحاشر ونبيّ الملاحم". رواه الترمذي في الشمائل، ص (211) مع شرح الباجوري، والبغوي في "شرح السنة": (13/ 213). (3) انظر في هذا الوجه: "الجواب الصحيح": (5/ 246 - 248)، "أعلام رسول الله المنزلة علي رسله" لابن قتيبة، لوحة (4)، "تحفة الأريب" للترجمان، ص (275 - 278). (4) في "ص": "الأرض".
(1/165)
أقوي منه، وينقذ الضعيف الذي لا ناصر له، ويرأَفُ بالمساكين والضعفاء، ويصلَّي عليه في كلِّ وقت ويبارك" (1) . ولا يشكُّ عاقل تدبَّر أمور الممالك والنبوات وعرف سيرة محمد - صلى الله عليه وسلم - وسيرة أمته من بعده: أنَّ هذه الأوصاف لا تنطبق إلا عليه وعلى أمته، لا علي المسيح ولا علي نبي غيره، فإنه جاز من البحر الرُّوميِّ إلى البحر الفارسيِّ. ومن لدن الأنهار: جَيْحُونَ وسَيْحُونَ والفُراتِ (2) إلى منقطع الأرض بالغرب. وهذا مطابقٌ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "زُوِيَتْ ليَ الأرضُ فأُرِيْتُ مشَارِقَها ومَغَارِبَها، وسَيَبْلُغُ مُلْكُ أمَّتِي ما زُوِيَ لي مِنْهَا" (3) . وهو الذي يُصَلَّي عليه ويُبَارك في كل حين وفي كلِّ صلاةٍ من الصلوات الخمس وغيرها، وهو الذي خرَّت أهل الجزائر بين يديه: أهل جزيرة العرب، وأهل الجزيرة التي بين الفراتِ ودِجْلَةَ، وأهل جزيرة الأَندَلُس، وأهل جزيرة قُبْرص، وخضعت له ملوك الفرس؛ فلم يَبْقَ فيهم إلا من أَسْلَمَ أو أدَّي الجزية عن يَدٍ وهم صَاغِرونَ، بخلاف ملوك الروم؛ فإنَّ فيهم من لم يُسْلِمْ ولم يؤدِّ الجزيةَ. فلهذا ذكر في البشارة مُلوكَ الفُرْسِ خاصَّة، ودانتْ له الأُمم التي سمعت به وبأمته، (فهم بين مؤمنٍ به، ومسالمٍ له، ومنافقٍ معه، وخائفٍ منه) (4) . __________ (1) العهد القديم: المزامير: المزمور (50). (2) في "ج": "والفرات ونيل مصر". (3) أخرجه مسلم في الفتن وأشراط الساعة، باب هلاك هذه الأمة بعضها ببعض: (4/ 2215). (4) ساقط من "غ".
(1/166)
وأنقذَ الضعفاءَ من الجبَّارين، وهذا بخلاف المسيح؛ فإنه لم يتمكَّنْ هذا التَّمَكُن في حياته (1)، ولا مَنِ اتَّبعه بعد رَفْعِه إلى السماء، ولا حَازُوا ما ذكر، ولا يُصلُّون عليه ويُبَاركونَ في اليوم والليلة، فإن القوم يَدَّعون إلاهِيَّتَهُ ويصلُّون له. (الوجه العاشر) (2): قوله في مزمور آخر: "لترتاحَ البَوادي وقُراها ولتصير أرضُ قِيْدَار مروجًا، ولتسبِّح سكانُ الكهوف ويهتفوا من قُلَلِ الجبال بحمد الربِّ، ويذيعوا تسابيحه في الجو" (3). فَمَنْ أهلُ البوادي من الأمم سوي أمةِ محمدٍ؟ ومَنْ "قِيْدَار" (4) غير ولد إسماعيل أحد أجداده - صلى الله عليه وسلم -؟ ومَنْ سُكَّان الكهوف وقُلَلِ الجبال سوي العرب؟ ومَنْ هذا الذي دام ذِكْرُه إلى الأبد غيره؟!. (الوجه الحادي عشر) (5): قوله في مزمور آخر: "إنَّ ربَّنا عظَّم محمودًا جدًّا" (6)، وفي مكان آخر: "إلهنا قُدُّوس، ومحمد قد عمَّ الأرض كلَّها فرحًا" (7). فقد نصَّ داود علي اسم محمد وبلده، وأنَّ كلمته قد عمَّتِ الأرض. __________ (1) في "غ": "كتابه". (2) انظر أيضًا: "الجواب الصحيح": (5/ 245). (3) سفر أشعياء: (42/ 10 - 13). (4) جاء في "قاموس الكتاب المقدس" ص (751): قيدار: اسم سامي معناه: قدير أو أسود. وهو ابن إسماعيل. وهو أب لأشهر قبائل العرب، وتسمي بلادهم أيضًا: بلاد قيدار. (5) انظر: "الجواب الصحيح": (5/ 239). (6) المزامير، المزمور: (48/ 1). (7) المزمور (48/ 3 و 24).
(1/167)
(الوجه الثاني عشر): قوله في الزَّبور لداود: "سَيُولَد لك ولدٌ أُدْعَي له أبًا ويُدْعَي لي ابنًا. اللهمَّ ابعثْ جَاعلَ السُّنَّة كي يعلِّم الناس أنه بشرٌ" (1). وهذه أخبارٌ عن المسيح ومحمد - صلى الله عليه وسلم - قبل ظهورهما بزمن طويل. يريد: ابعث محمدًا حتي يعلم الناس أن المسيح بشر ليس إلهًا، وأنه ابن البشر لا ابن خالق البشر، فبعث الله هادي الأمة وكاشف الغُمَّة فبيَّن للأُمم حقيقة أمر المسيح وأنه عبدٌ كريمٌ ونبيٌّ مُرْسَل، لا كما ادَّعَتْه فيه النَّصاري، ولا كما رَمَتْه به اليهود. (الوجه الثالث عشر) (2): قوله في نبوة إشعياء: "قيل لي: قم نظَّارًا فانظر ما ترى تخبر (3) به، قلت: أري راكِبَيْن مُقْبِلَيْن؛ أحدهما علي حمار. والآخر علي جمل، يقول أحدهما لصاحبه: سقطتْ بابل وأصنامُها للبحر" (4). وصاحب الحمار عندنا وعند النصارى هو (5) المسيح، وراكب الجمل هو محمد صلوات الله وسلامه عليهما، وهو أشهر بركوب الجمل من المسيح بركوب الحمار، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - سقطت أصنام بابل لا بالمسيح، ولم يزل في إقليم بابل من يعبد الأوثان من عهد إبراهيم __________ (1) المزامير: (89/ 26) دون بعض العبارات. (2) انظر: "الجواب الصحيح": (5/ 249)، "أعلام رسول الله المنزلة" لابن قتيبة، لوحة (4). (3) في "ب" صححت إلى: "تنجر". وفي "غ": "يخبر". (4) إشعياء: (21/ 6 - 10). (5) ساقطة من "غ".
(1/168)
الخليل إلى أنْ سقطتْ بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. (الوجه الرابع عشر) (1): قوله في نبوة (2) إشَعْيَاء أنه قال عن مكة: "ارفعي إلى ما حَوْلَك بَصَرَكِ، فستبهجين وتفرحين من أجل أنَّ الله تعالى يُصَيِّر إليك ذخائر البحر، وتحج إليك عساكر الأمم، حتي تعمَّ بك قطر الإبل المؤبَّلة (3)، وتضيق أرضك عن المقطرات التي تجتمع إليك، وتساق إليك كباش مَدْيَنَ، ويأتيك أهل سبأ، وتسير إليك أغنام فاران، وتخدمك رجال (4) نباوت" (5). يريد سدنة الكعبة وهم أولاد نبت ابن إسماعيل. قالوا: فهذه الصفات كلها حصلتْ لمكة (6)، فإنها حُمِلتْ إليها ذخائر البحر، وحج إليها عساكر الأمم وسيق إليها أغنام فاران هدايا وأضاحي وقرابين، وضاقت الأرض عن قطرات الإبل المؤبَّلة الحاملةِ للناس وأزْوَادِهِمْ، وأتاها أهلُ سبأ وهم أهل اليمن. (الوجه الخامس عشر) قول إشَعْيَا في مكة أيضًا: "وقد أقسمت بنفسي كقسمي أيام نوح أنّي أُغرِق الأرض بالطوفان أني لا أسخط (7) __________ (1) انظر: "الجواب الصحيح": (5/ 255). (2) في "ب، ص": "سورة". (3) في "غ": "المؤلَّفة". (4) "ب، ص": "رجل"، وساقطة من "ج"، وفي "الجواب الصحيح": "رجال مأرب". (5) إشعياء: (60/ 4 - 7). (6) في "غ": "لملكه". (7) في "غ": "لأسخط".
(1/169)
عليك ولا أرفضك، وأن الجبال تزول وأن التلاع (1) تنحط = ورحمتي عليك لا تزول" (2) . ثم قال: "يا مسكينة، يا مضطهدة! ها أنذا بانٍ بالجصِّ (3) حِجارَتَكِ، ومزيِّنُكِ بالجواهر، ومكلِّل باللؤلؤ سقفك، وبالزَّبَرْجَدِ أبوابَكِ، وتبعدين من الظلم فلا تخافي، ومن الضعف فلا تضعفي، وكل سلاح يصنعه صانع فلا يعمل فيك، وكلّ لسان ولغة تقوم معك بالخصومة تفلحين معها، ويسميك الله اسمًا جديدًا -يريد أنه سماها المسجد الحرام- فقومي فأشْرِقي فإنه قد دنا نورك، ووَقَارُ الله عليك (4) انظري بعينيك حولك، فإنهم مجتمعون يأتونك بنوك وبناتك عَدْوًا فحينئذ تشرقين وتزهرين (5) ، ويخاف عدوك، وليتسع قلبك، وكل غنم قيدار تجتمع إليك، وسادات نباوت يخدمونك" (6) . و"نباوت" (هم أولاد نبت) (7) بن إسماعيل. و"قِيدار" جدُّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو أخو نبت (8) بن إسماعيل. ثم قال: "وتفتح أبوابك الليل والنهار لا تغلق، ويتخذونك قبلة، __________ (1) في "غ, ج": "القلاع". (2) إشعياء: (54/ 9 - 10). (3) في "ب، ج، ص": "بالحسن". (4) في "غ": "عينك". (5) في "غ": "تزهدين". (6) إشعياء: (54/ 11 - 17). (7) في "غ": "هو نبث"، وفي "ب، ص": "بنت". (8) في "ب، ص": "بنت". وفي "ج": "بنته".
(1/170)
وتُدْعَيْن بعد ذلك: مدينة الرّبِّ" (1). (الوجه السادس عشر) (2): قوله أيضًا في مكة: "سري واهتزِّي أيتها العاقر التي لم تلد، وانطقي بالتسبيح، وافرحي ولم تحبلي، فإنَّ أهلك يكونون أكثر من أهلي" (3). يعني بأهله بيت المقدس، ويعني بالعاقر مكة لأنها لم تلد قبل محمد النبي - صلى الله عليه وسلم - نبيًّا (4)، ولا يجوز أن يريد بالعاقر: بيت المقدس؛ لأنه بيت الأنبياء ومعدن الوحي، وقد (ولد أنبياء كثيرًا) (5). (الوجه السابع عشر) قول إشَعْيَا أيضًا لمكة -شرفها الله-: "إني أعطي البادية كرامة لبنان وبهاء الكنزمال" (6). وهما الشام وبيت المقدس. يريد: أجعل الكرامة التي كانت هناك بالوحي، (في ظهور) (7) الأنبياء للبادية بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبالحج. ثم قال: "ويشق بالبادية مياهُ (8) وسَوَاقٍ في الأرض الفلاة، ويكون بالفيافي والأماكن العطاش ينابيع ومياه، ويصير هناك مَحَجَّة وطريق الحَرَمِ، لا يمرُّ به أنجاس الأمم، والجاهل به لا يصل (9) هناك، ولا __________ (1) إشعياء: (54/ 11 - 17). (2) انظر: "الجواب الصحيح": (5/ 259). (3) إشعياء: (54/ 1 - 3). (4) ساقطة من "غ". (5) في "د": "ولد فيه أنبياء كثيرة". (6) إشعياء: (35/ 2). (7) في "غ": "فظهور". (8) في "غ": "حياة". (9) في "ب، ص": "يضلّ".
(1/171)
يكون بها سباع ولا أُسْدٌ، ويكون هناك ممرُّ المخلصين" (1). (الوجه الثامن عشر) قول إشَعْيَا أيضًا -في كتابه- عن الحَرَمِ: "إن الذئب والجمل فيه يرتعان معًا" (2). إشارة إلى أمنه الذي خصَّه الله به دون بقاع الأرض، ولذلك سماه "البلد الأمين"، وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67]. وقال -يعدِّد نعمه علي أهله-: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)}. [سورة قريش]. (الوجه التاسع عشر): قول إِشَعْيَا أيضًا معلنًا باسم رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: "إني جعلت أمرك يا محمد بالحمد، يا قُدُّوسَ الربِّ اسمك موجودٌ من الأبد" (3). فهل بقي بعد ذلك لزائغٍ مقالٌ أو لطاعنٍ مجالٌ؟!. وقوله: "يا قدوس الرب" معناه يا من طهَّره الربُّ وخلَّصه واصطفاه. وقوله: "اسمك موجود من الأبد" مطابقٌ لقول داود في مزمور له: "اسمك موجود قبل الشمس" (4). __________ (1) إشعياء: (35/ 6 - 9). (2) إشعياء: (65/ 25). (3) انظر أيضًا: إشعياء: (12/ 1 - 5). (4) انظر: "الجواب الصحيح": (5/ 257).
(1/172)
(الوجه العشرون) قول إشَعْيَا في ذكر الحَجَر الأسود: "قال الربُّ والسيد ها أنذا مؤسس بصِهْيَونَ حَجَرًا في زاوية ركن منه، فمن كان مؤمنًا فلا يستعجلنا، وأجعلُ العدل مثلَ الشَّاقول، والصدق مثل الميزان، فيهلك الذين ولعوا بالكذب" (1). فصِهْيَوْن هي مكة عند أهل الكتاب. (وكذا كلُّ بيتٍ بني للصلاة. وصهيون أيضًا: الأرض المقدسة) (2). وهذا الحجر الأسود الذي يُقَبِّله الملوك فمن دونهم، وهو مما اختصَّ به محمد وأمته. (الوجه الحادي والعشرون) (3): قول إشَعْيَا في موضع آخر: "إنه ستملأ البادية والمدن قصورًا إلى قيدار، ومن رؤوس الجبال، وينادونهم الذين يجعلون لله الكرامة ويثنون بتسبيحه في البر والبحر". وقال (4): "ارفع علمًا لجميع الأمم من بعيد، فيصفر بهم من أقصى الأرض فإذا هم سراع يأتون" (5). وبنو قيدار هم العرب؛ لأن قيدار هو ابن إسماعيل بإجماع الناس، والعَلَم الذي يرفع هو النبوَّة، الصفير بهم: دعاؤهم من أقاصي الأرض إلى الحج، فإذا هم سرَاعٌ يأتون، وهذا مطابقٌ لقوله -عزَّ وجلَّ-: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27]. __________ (1) إشعياء: (28/ 16 - 17). (2) زيادة من "د". (3) انظر: "الجواب الصحيح": (5/ 262). (4) انظر: "الجواب الصحيح": (5/ 258). (5) إشعياء: (5/ 26).
(1/173)
(الوجه الثاني والعشرون): قول إشَعْيَا في موضع آخر: "سأبعث من الصَّبا قومًا يأتون من المشرق مجيبين أفواجًا كالصعيد كثرةً، ومثل الطَيَّان الذي يَدُوسُ برِجْلِه الطِّينَ" (1). "والصَّبَا" يأتي من نحو مطلع الشمس. بعث الله سبحانه من هناك قومًا من أهل المشرق مجيبين بالتلبية كالتراب كثرةً. وقوله: "ومثل الطيَّان الذي يدوس برِجْلِه الطين" إما أنْ يراد به الهرولة بالطواف والسعي، وإما أنْ يراد به رجالٌ قد كلَّت أرجلهم من المشي. (الوجه الثالث والعشرون): في كتاب إشَعْيَا أيضًا: "عبدي وخيرتي ورضى نفسي، أفيض عليه روحي" أو قال: "أنزل عليه روحي، فيُظْهِر في الأمم عَدْلي ويُوصِي الأمم بالوصايا، لا يَضْحكُ، ولا يُسمع صوته، يَفْتَح العيونَ (2) العُمْيَ العُوْرَ، ويُسمع الآذانَ الصُمَّ، ويحيي القلوبَ الغُلفَ، وما أعطيه لا أُعطي غيرَه، (لا يَضْعُفُ ولا يُغْلَب) (3)، ولا يميل إلى اللهو، ولا يُسْمَع في الأسواق صوتُه، ركنٌ للمتواضعين، وهو نور الله الذي لا يُطفَأ، ولا يُخْصَمُ حتى يثبت في الأرض حجّتي، وتنقطع به المعذرة" (4). فمن وُجِدَ بهذا الوصف غيرُ محمدِ بنِ عبد الله -صلوات الله وسلامه __________ (1) إشعياء: (41/ 25 - 26). (2) ساقط من "د". (3) في "ج": "لا يلعب ولا يغلب". (4) إشعياء: (42/ 7). وانظر: "أعلام رسول الله المنزلة على رسله" لابن قتيبة، لوحة (3).
(1/174)
عليه-؟ فلو اجتمع أهل الأرض لم يقدروا أن يذكروا نبيًّا جَمعَ هذه الأوصاف كلَّها -وهي باقية في أمته إلى يوم القيامة- غيره: لم يجدوا إلى ذلك سبيلًا. فقوله: "عبدي" موافق لقوله في القرآن: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23]. وقولهِ: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]، وقوله: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن: 19]. وقولهِ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1]. وقولُه: "وخيرتي ورضى نفسي" مطابقٌ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله اصْطَفَى كنانةَ من ولدِ إسماعيلَ، واصطَفَى قريشا من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريشٍ، واصْطَفَاني من بني هاشم" (1) . وقوله: "لا يضحك" مطابقٌ لوصفه الذي كان عليه - صلى الله عليه وسلم - قالت عائشة: "ما رأيت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ضاحكًا حتى تَبْدُوَ لَهَواتُه، إنَّما كان يتبسم تبسُّمًا" (2) ؛ وهذا لأنَّ كثرة الضحك من خفة الروح ونقصان العقل، بخلاف التبسُّم فإنه من حُسْنِ الخُلُق وكمال الإدراك. وأما صفته - صلى الله عليه وسلم - في بعض الكتب المتقدِّمة بأنه: "الضَّحوك القتَّال" فالمراد به: أنه لا يمنعه ضَحِكُه وحُسْنُ خلقِهِ إذا كان جدًا لله وحقًّا له، ولا يمنعه ذلك عن تبسمه في موضعه، فيعطي كلَّ حالٍ ما يليق بتلك الحال؛ فَتَرْكُ الضَّحِك بالكليّة مِنَ الكِبْر والتَّجبُّر وسُوء الخلُق. وكثرتُه مِنَ الخِفَّة __________ (1) أخرجه مسلم في الفضائل، باب نسب النبي - صلى الله عليه وسلم -: (4/ 1782). (2) أخرجه البخاري في التفسير، باب "فلما رأوه عارضًا": (8/ 578)، ومسلم في الاستسقاء، باب التعوذ عند رؤية الريح والغيم: (2/ 616 - 617).
(1/175)
والطَّيْش، والاعتدالُ بين ذلك (1) . وقوله: "أنزل عليه روحي" مطابقٌ لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] وقوله: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} [النحل: 2]. وقوله: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} [غافر: 15]. فسمَّى الوحي روحًا؛ لأن حياة القلوب والأرواح به، كما أنَّ حياة الأبدان بالأرواح. وقوله: "فيُظْهِرُ في الأُمم عَدْلي" مطابق قوله تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15]، وقوله عن أهل الكتاب: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 42]. وقوله: "يُوصِي الأُمم بالوصايا" مطابقٌ لقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] وقوله في سورة الأنعام: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} إلى قوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) }، ثم قال: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} إلى قوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}. ثم قال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ __________ (1) في "د" زيادة: "غير منكر".
(1/176)
عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 151 - 153]. ووصاياه - صلى الله عليه وسلم - هي عهودُه إلى الأمة بتقوى الله وعبادته وحده لا شريك له، والتمسُّكِ بما بعثه الله به من الهدى ودين الحق، والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه. وقوله: "ولا تسمع صوته" يعني ليس بصخَّاب له فديد (1) كحال من ليس له حِلْم ولا وَقَارٌ. وقوله: "يفتح العيونَ العُمْيَ والآذان الصُّمَّ والقلوب الغُلْفَ" إشارة إلى تكميل مراتب العلم والهدى الحاصل بدعوته في القلوب والأبصار والأسماع، فباينوا بذلك أحوال الصُّمِّ البُكْمِ العُمْي الذين لهم قلوب لا يعقلون بها، فإنَّ الهدى يصل إلى العبد من هذه الأبواب الثلاثة، وهي مغلقة عن كل أحد لا تفتح إلا على أيدي الرسِل، ففتح الله بمحمد - صلى الله عليه وسلم - الأعْيُنَ العُمْيَ فأبصرتْ بالله، والآذانَ الصُّمَّ فسَمِعتْ عن الله، والقلوبَ الغُلْفَ فعقلتْ عن الله، فانقادت لطاعته عقلًا وقولًا وعملًا، وسلكتْ سبل مرضاته ذُللًا. وقوله: "وما أعطيه فلا أعطي غيره" مطابق لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أُعطِيْتُ ما لم يُعْطَ أحدٌ من الأنبياء قبلي" (2) ويقول الملائكة لَمَّا ضربوا له المثل: "لقد أُعطي هذا النبيُّ ما لم يعط نبيٌّ قبله؛ إنَّ عَيْنَيْهِ تَنامَانِ وقَلْبُه يَقْظَانُ" (3) . __________ (1) فديد: صوت شديد وجَلَبَة. (2) أخرجه البخاري في التيمم: (1/ 436)، ومسلم في المساجد: (1/ 370 - 371). (3) أخرجه الترمذي في الأمثال؛ باب ما جاء في مثل الله عز وَجل لعباده: (8/ =
(1/177)
فمن ذلك أنه بُعث إلى الخلق عامة، وخُتم به ديوان الأنبياء، وأنزل عليه القرآن الذي لمَ ينزل من السماء كتاب يشبهه ولا يقاربه، وأنزل على قلبه محفوظًا متلوًّا، وضمن له حفظه إلى أن يأتي الله بأمره، وأُوتي جوامع الكلم، ونُصر بالرُّعْب في قلوب أعدائه وبينهما مسيرة شهر، وجُعلَت صفوف أمتَه في الصلاة على مثال صفوف الملائكة في السماء، وجُعَلَت الأرض له ولأمته مسجدًا وطهورًا، وأسْرِي به إلى أن جاوز السمَاوات السبع ورأى ما لم يَرَهُ بشرٌ قبله، ورُفع على سائر النبيين، وجُعل سيدَ ولد آدم، وانتشرت دعوته في مشارق الأرض ومغاربها، واتَّبعَه على دينه أتباعٌ أكثر من أتباع سائر النبيِّين من عهد نوح إلى المسيح، فأمَّتُه ثلثا أهل الجنة، وخصه بالوسيلة، وهي أعلى درجة في الجنة، وبالمقام المحمود الذي يَغْبطه به الأولون والآخرون، وبالشفاعة العظمى التي يتأخر عنها آدم ونوح وَإبراهيم وموسى وعيسى، وأعزَّ الله به الحقَّ وأهله عزًّا لم يُعزَّه بأحدٍ قبلَه (1) . وأذلَّ به الباطل وحزبه ذلاًّ لم يحصل بأحدٍ قَبله. وآتاه من العلم والشجاعة والصبر (2) ، والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة والعبادات القلبية والمعارف الإلهية ما لم يُؤْتَهُ نبيٌّ قبله، وجُعِلت الحسنة منه ومن أمته بعشر أمثالها (3) إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف __________ = 156 - 158) وقال: "حديث حسن غريب من هذا الوجه". والدارمي في المقدمة: (1/ 7)، والإمام أحمد: (1/ 399). (1) هذه الجملة من الخصائص والفضائل وردت بها أحاديث صحيحة كثيرة. (2) في "غ": "والصبر والسماحة"، وفي "ج": "السماحة والزهد". (3) في "د": "حسنات مثلها".
(1/178)
كثيرة، وتجاوز له عن أمته الخطأ والنسيان وما استكْرِهوا عليه، وصلَّى عليه هو وجميع ملائكته -عليهم صلوات الله وسلامه- وأمر عبادَه المؤمنين كلَّهم أن يُصلُّوا عليه ويُسلِّموا تسليمًا. وقرن اسمه باسمه فإذا ذُكِر الله ذُكر معه؛ كما في الخُطبة والتشهُّد والأذان، فلا يصحُّ لأحد أذانٌ ولا خطَبة ولا صلاة حتى يشهد أنه عبده ورسوله، ولم يجعل لأحد معه أمرًا يُطاع لا ممن قبله، ولا ممن هو كائن بعده إلى أن تطوى الدنيا ومَنْ عليها، وأغلق أبوابَ الجنَّة إلا عمَّن سلك خَلفَه واقتدى به، وجعل لواء الحمد بيده؛ فآدمُ وجميع الأنبياء تحت لوائه يوم القيامة، وجعله أولَ من تنشقُّ عنه الأرض، وأولَ شافع، وأول مشفع، وأول من يَقْرَعُ باب الجنَّة، وأولَ من يدخلُها، فلا يدخلها أحدٌ من الأولين والآخرين إلا بشفاعته. وأُعطي من اليقين والإيمان والصبر والثبات والقوة في أمر الله والعزيمة على تنفيذ أوامره، والرضى عنه والشكر له، والقنوع في مرضاته وطاعته ظاهرًا وباطنًا سرًّا وعلانيةً، في نفسه وفي الخلق = ما لم يُعْطه نبي قَبْله (1) . ومن عرف أحوال العالم وسيَر الأنبياء وأممهم تبيَّن له أنَّ الأمر فوق ذلك، فإذا كان يومُ القيامة ظهرَ للخلائق (2) منَ ذلك ما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خطر على قلب بشرٍ أنّه يكون أبدًا. وقوله: "ولا يَضْعُف ولا يُغلب" هكذا كان حاله -صلوات الله وسلامه عليه- ما ضعف في ذات الله قط، ولا في حال انفراده وقلَّة أتباعه __________ (1) في "غ": "غيره". (2) في "ج": "للخلق".
(1/179)
وكثرة أعدائه واجتماع أهل الأرض على حربه، بل هو أقوى الخلق وأثبتُهِم جأشًا وأشجعُهم قلبًا، حتى إنه يوم أحد قُتِلَ أصحابُه وجُرِحوا، وما ضعُف ولا استكان، بل خرج من الغد في طلب عدوِّه -على شدة القرح- حتى أَرْعَبَ منه العدو وكرَّ خاسئًا على كثرة عَددِهم وعُدَدِهم وضَعفِ أصحابه، وكذلك يوم حُنَيْنٍ؛ أفرد عن الناس في نَفَرٍ يسير دون العشرة، والعدو قد أحاطوا به، وهم ألوف مؤلَّفة فجعل يثب (1) في العدو ويقول: أَنَا النبيُّ لا كَذِبْ ... أَنَا ابنُ عبدِ المطَّلِبْ ويتقدم إليهم، ثم أخذ قبضة من التراب فرمى بها وجوههم فولَّوا منهزمين (2) . ومَنْ تأمَّل سيرتَه وحروبَه عَلِمَ أنّه لم يطرق العالَمَ أشجعُ منه ولا أثبت ولا أصبر، وكان أصحابُه -مع أنَّهم أشجعُ الأمم- إذا حَمِي البَأْسُ واشتدَّ الحرب اتَّقوا به وتتَرَّسُوا به فكان أقربُهم إلى العدو، وأشجَعُهم هو الذي يكون قريبًا منه (3) . وقوله: "ولا يميل إلى اللهو"، هكذا كانت سيرته، كان أَبْعَدَ الناس من اللهو واللعب، بل أمْرُه كلّه جد وحزم وعزم، مجلسه مجلس حياءٍ وكَرَمٍ وعلمٍ وإيمان ووقار وسكينة. __________ (1) في "ب, ج": "يثبت". (2) أخرجه البخاري في الجهاد والسير، باب من قال خذها وأنا ابن فلان: (6/ 164)، ومسلم في الجهاد والسير، باب غزوة حنين: (3/ 1400). (3) أخرجه مسلم في الموضع السابق: (3/ 1401).
(1/180)
وقوله: "ولا يسمع في الأسواق صوته" أي ليس من الصاخبين في الأسواق في طلب الدنيا والحرص عليها كحال أهلها الطالبين لها. وقوله: "ركن للمتواضعين" فإنَّ مَنْ تأمل سيرته وجده أعْظَم الناس تواضعًا للصغير والكبير والمسكين والأرملة والحر والعبد؛ يجلس معهم على التراب، ويُجيب دعوتَهم، ويَسمع كلامَهم، ويَنطلق مع أحدهمِ في حاجته، ويأخذ له حقَّه ممَّن لا يستطيع أن يُطالبه به، (ويَخْصِف نَعْله، ويَخِيط ثوبه) (1) . وقوله: "وهو نور الله الذي لا يُطفأ ولا يخصم حتى يثبت في الأرض حجته وينقطع به العذر" وهذا مطابق لحاله وأمره، ولِمَا شهد به القرآن في غير موضع كقوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32]. وقوله: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45، 46]. وقوله: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة: 15، 16]. وقوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء: 174]. وقوله: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]. ونظائرُه في القرآن كثيرة. __________ (1) في "غ": "ويخصف لأحدهم نعله ويخيط له ثوبه".
(1/181)
وقوله: "حتى ينقطع به العذر وتثبت به الحجة" مطابقٌ لقوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]. وقوله: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} -إلى قوله- {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} [المرسلات: 1 - 6]. وقوله: {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 47]. وقوله: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} [الأنعام: 156، 157]. فالحجة إنما قامت على الخلق بالرسل، وبهم انقطعت المعذرة، فلا يمكن من بلغتْه دعوتُهم وخالَفَها أنْ يعتذر (1) إلى الله يوم القيامة؛ إذْ ليس له عذر يُقْبَل منه. وهذه البشارة مطابقة لما في "صحيح البخاري" أنه قيل لعبد الله بن عَمْرو: أخبِرْنا ببعض صفات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التوراة، فقال: "إنه لموصوفٌ في التوراةِ ببعضِ صفتِه في القرآنِ: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}، وحِرْزًا للأمّيِّيْن، أنت عَبْدِي ورَسُولي سَمَّيْتك المتوكِّلَ، ليس بِفظٍّ ولا غليظٍ ولا سَخَّابٍ بِالأسوَاقِ، ولا يَجْزِي بالسيِّئةِ السَّيئةَ ولكن يَجْزِي بالسيِّئةِ الحَسَنَةَ ويَعْفُو ويَغْفِرُ، ولَنْ أَقْبضَهُ حتى أُقِيْمَ بهِ المِلَّةَ العَوجَاءَ، فأفتحُ به أَعْيُنًا عُمْيًا، وآذانًا صُمًّا، وقُلوبًا غُلْفًا = بأن __________ (1) في "غ": "يعذر".
(1/182)
يقولوا: لا إله إلا الله" (1) . وقوله: "إنَّ هذا في التوراة" لا يريد به التوراة المعيَّنة التي هي كتاب موسى؛ فإنَّ لفظ التوراة والإنجيل والقرآن والزبور: يُرَاد به الكتب المعيَّنة تارةً، ويُراد به الجنس تارةً. فيعبَّر بلفظ القرآن عن الزبور، وبلفظ التوراة عن القرآن، وبلفظ الإنجيل عن القرآن أيضًا. وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خُفِّفَ على دَاوُدَ -عليه السَّلامُ- القُرآنُ فكانَ مَا بينَ أنْ تُسْرَجَ دَابتُّه إلى أنْ يَرْكَبَها يقرأ القُرْآنَ" (2) فالمراد به: قرآنه، وهو الزَّبُور. وكذلك قولُه في البشارة التي في التوراة: "نبيًّا أُقيم لبني إسرائيلَ مِنْ إخوتهم، أُنْزِل عليه توراةً مِثْلَ توراةِ موسى". وكذلك في صفة أمتِه - صلى الله عليه وسلم - في الكتب المتقدِّمة "أناجيلُهم في صُدُورهم". فقوله: "أَخْبِرْني بصفة رسول الله في التوراة": إما أن يريد التوراة المعيَّنةَ أو جِنْسَ الكُتُب المتقدِّمة. وعلى التقديرين: فإجابةُ عبدِ الله بنِ عَمْرو بما هو في التوراة، أي التي هي أعمُّ من الكتاب المعين، فإن هذا الذي ذكره ليس في التوراة المعيَّنة بل هو في كتاب إِشَعْيَا كما حكيناه عنه، وقد ترجموه أيضًا بترجمةٍ أخرى فيها بعض الزيادة: "عبدي ورسولي الذي سُرَّتْ به نفسي، __________ (1) أخرجه البخاري في البيوع، باب كراهية السخب في الأسواق: (4/ 342). (2) أخرجه البخاري في الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا}: (6/ 453).
(1/183)
أُنْزِل عليه وحيي، فيظهرُ في الأُمم عدلي، ويُوصِيْهم بالوصايا، لا يَضْحَكُ، ولا يُسمع صوتُه في الأسواق، يفتح العيون العُورَ، والآذان الصُّمَّ، ويُحْيِي القلوبَ الغُلْفَ، وما أعطيه لا أعطيه أحدًا، يحمد الله حمدًا جديدًا يأتي به من أقطار الأرض، وتفرح البريَّة وسكانُها، يُهلِّلون الله على كلِّ شَرَفٍ، ويكبِّرونَهُ على كلِّ رابيةٍ، لا يَضْعُفُ، ولا يُغْلَبُ، ولا يميل إلى الهوى، مُشَفَّحٌ، ولا يُذِلُّ الصالحين الذين هم كالقصبة الضعيفة، بل يقوي الصدِّيقين، وهو رُكْنُ المتواضعين، وهو نُورُ الله الذي لا يُطْفَأ، أَثَرُ سلطانِه على كتفَيْه". وقوله: "مُشَفَّح" -بالشين المعجمة والفاء المشددة بوزن مكرم- وهي لفظة عبرانية مطابقة لاسم محمَّد معنًى ولفظًا، مقاربًا (1) كمطابقة مُؤَذ مُؤَذ، بل أشدُّ مطابقةً، ولا يمكن العرب أن يتلفظوا بها بلفظ العبرانية (2) فإنما بينَ الحاء والهاء، وفتحة الفاء بين الضمة والفتحة ولا يستريب عالِمٌ من علمائهم منصفٌ أنها مطابقة لاسم محمدٍ. قال أبو محمَّد ابن قتيبة: "مشفَّح" محمَّد بغير شك، واعتباره أنهم يقولون: شفحالاها، إذا أرادوا أن يقولوا: "الحمد لله"، وإذا كان الحمد شفحا، فمشفَّح محمد بغير شك (3) . وقد قال لي ولغيري بعض من أسلم من علمائهم: إن "مَئِذ مَئِذ" هو محمَّد، وهو بكسر الميم والهمزة، وبعضهم يفتح الميم ويدنيها __________ (1) في "ب": "مقارنًا". (2) في "غ": "العبرانيين". (3) انظر كتابه: "أعلام رسول الله المنزلة على رسله" لوحة (7).
(1/184)
من الضمة، قال: ولا يشك العلماءُ منهم بأنه محمد (وإن سكتنا عن إيراد ذلك) (1) . وإذا ضربنا عن هذا صَفْحًا، فمن هذا الذي انطبقتْ عليه وعلى أمته هذه الصفاتُ سواه؟! ومن هذا الذي أثرُ سلطانِه -وهو خاتم النبوة- على كتفيه رآه الناس عَيانًا مِثْلَ زِرِّ الحَجَلَةِ؟! فماذا بعد الحق إلا الضلال، وبعد البصيرة إلا العمى؟! {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40]. فصفاتُ هذا النبيِّ ومَخْرَجُه ومبعثُه وعلاماتُه وصفاتُ أمتِه في كتبهم يقرؤونها في كنائسهم ويدرسونها في مجالسهم، لا ينكرها منهم عَالِمٌ ولا يأباها جاهل، ولكنَّهم يقولون: لم يظهر بَعْدُ، وسيظهر ونَتَّبِعُه. قال ابن إسحاق: حدَّثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، وعن (2) سعيد بن جبير، عن ابن عباسٍ: أنَّ يهودًا كانوا يَسْتَفْتِحُونَ على الأوْس والخَزْرجَ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل مَبْعثِه، فلما بعثَه الله من العرب، كفرُوا به وجحدوا ما كانوا يقولونه فيه، فقال مُعَاذُ بن جَبَلٍ، وبشْرُ بنُ البَرَاءِ بنِ مَعْرُورٍ (ودَاود بنُ سَلَمَة) (3) : يا مَعْشَر يَهُود: اتقوا الله وَأسْلِموا فقد كنتم تَسْتفتحون علينا بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - ونحن أهلُ شركٍ، وتُخْبِرُونا بأنه نبيٌّ مبعوث، وتَصِفُونه بصفته، فقال سَلام بن مِشْكم أخو (4) بني النَّضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكره لكم. فأنزل الله عز وجل: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا __________ (1) في "غ": "وضربنا" وفي "د": "وإن سكتنا عن ذلك وضربنا". (2) في "السيرة النبوية": "أو عن ... ". (3) في "السيرة": "وأخو بني سلمة". (4) في "السيرة": "أحد".
(1/185)
عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89]. وقال أبو العالية: كان اليهود إذا استنصروا بمحمد على مشركي العرب يقولون: اللهمَّ ابعثْ هذا النبيَّ الذي نجده مكتوبًا عندنا حتى يعذّب المشركين ويَقْتُلهم، فلما بعثَ اللهُ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ورأوا أنَّه مِنْ غيرهم كفروا به (حسدًا للعرب، وهم يعلمون أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله تعالى هذه الآيات (1) : {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة/ 89] (2) . وقال ابن إسحاق: حدَّثني عاصمُ بنُ عُمَرَ بنِ قتادةَ الأنصاريُّ، عن رجال من قومه، قالوا: ومما دعانا إلى الإِسلام -مع رحمة الله وهداه- ما كنّا نَسْمع من رجال اليهود -وكنا أهل شرك أصحاب أوثان- وكانوا أهلَ كتابٍ عندهمِ عِلْمٌ ليس عندنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نِلْنَا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: قد تقارب زمانُ نبيٍّ يُبْعَثُ الآن نتبعه فنقتلكم معه (3) قَتْلَ عادٍ وإِرَم، فكنا كثيرًا ما نسمع ذلك منهم، فلما بعث الله رسولَه - صلى الله عليه وسلم - أَجَبْنَاه حين دعانا إلى الله، وعَرَفنا ما كانوا يتوعَّدُونا به، فبادرناهم إليه فآمنَّا به وكفروا به، ففينا وفيهم نزلت هذه الآيات التي في البقرة: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89] (4) . __________ (1) أخرجه ابن إسحاق في "السيرة": (1/ 547). (2) ساقط من "غ". (3) في "ج": "ونحن معه". (4) أخرجه ابن إسحاق في السيرة، "سيرة ابن هشام": (1/ 541).
(1/186)
(الوجه الرابع والعشرون): قوله في كتاب إِشَعْيَا: "أشكر حبيبي وابني أحمد". فلهذا جاء ذكره في نبوة إِشَعْيَا أكثر من غيرها من النبوات، وأعلن إِشَعْيَا بذِكْرِه ووَصْفِه ووَصْفِ أمته، ونادى بها في نبوَّته سرًّا وجهرًا لمعرفته بقدره ومنزلته عند الله. وقال إشَعْيَا أيضًا: "إنَّا سمعنا من أطراف الأرض صوت محمد". وهذا إفصاحٌ باسمه - صلى الله عليه وسلم - فَلْيُرِنَا أهلُ الكتاب نبيًّا نَصَّتِ الأنبياءُ على اسمه وصفته ونعته وسيرته وصفة أمته وأحوالهم سوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! (الوجه الخامس والعشرون): قَوْلُ حَبَقُّوق في كتابه: "إنَّ الله جاء من اليمن (1). والقُدُّوس من جبال فَارانَ، لقد أضاءتِ السماءُ من بهاءِ محمدٍ، وامتلأتِ الأرضُ من حَمْدِه، وشاع منظرُه مثل النُّور، يحوط بلادَه بعزَةٍ، تسيرُ المنايا أمامَه، وتصحب سِبَاعُ الطيرِ أجنادَهُ، قام يمسح (2) الأرض فتَضَعْضَعَتْ له الجبالُ القديمةُ وانخفضتِ الرَّوابي، فتزعزعتْ (أسوارُ مَدْيَنَ) (3)، ولقد حاز المساعي القديمة". ثم قال: "زجْرُك في الأنهار، واحتدامُ صوتك في البحار، ركبتَ الخيول، وعلوتَ مراكب الأتقياء، وستنزع في قسِيِّك أعراقًا، وترتوي السهامُ بأمرك يا محمَّد ارتواءً، ولقد رأتك الجبال فارتاعت، وانحرف __________ (1) في "الجواب الصحيح": "التِّيمِن"، وكذلك في "أعلام رسول الله" لابن قتيبة. وفي "قاموس الكتاب المقدس" ص (228): "تيمان: اسم عبري معناه اليميني أو الجنوبي. وقبيلة أيضًا ... وتيمن: الصحراء الجنوبية". (2) في "غ": "فمسح". (3) في "غ": "سور مدائن".
(1/187)
عنك شؤبوب (1) السيل، وتغيَّرت المهارى (2) تغييرًا، رفعت أيديها وجلًا وخوفًا، وسارت العساكر في بريق سهامك ولمعان نيازكك، تدوِّخ الأرضَ وتدوس الأمم؛ لأنك ظهرت لخلاص أمتك، وإنقاذ تراث آبائك" (3) . فمن رام صرف هذه البشارة عن محمد فقد رام سَتْرَ الشَّمس بالنهار وتَغْطِيةَ البحار، وأنّى يقدر على ذلك وقد وصفه بصفات عيَّنت شَخْصَهُ وأزالت عَنِ الحيران لَبْسَه؟! بل قد صرَح باسمه مرتين، حتى انكشف الصبح لمن كان ذا عَيْنَيْن، وأخبر بقوة أمته وسير المنايا أمامهم واتباع جوارح الطير آثارهم. وهذه النبوة لا تليق إلا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ولا تصلح إلا له ولا تنزل إلا عليه، فمن حاول صَرْفَها عنه فقد حاول صَرْفَ الأنهارِ العظيمة عن مجراها، وحَبْسَها عن غايتها ومنتهاها، وهيهات ما يروم المبطلون والجاحدون، ويأبى الله إلا أن يتمَّ نوره ولو كره الكافرون. فمن الذي امتلأتِ الأرضُ من حَمْدِه وحَمْدِ أمته لله في صلواتهم وخُطَبِهم وأدبار صلواتِهم وعلى السرَّاءِ والضرَّاءِ وجميع الأحوال سواء، حتى سماهم الله قبل ظهورهم الحمادين! ومن الذي كان وجهه كأن الشمس والقمر يجريان فيه في ضيائه ونوره؟! قَدْ عَوَّدَ الطيْرَ عَادَاتٍ وَثِقْنَ بِهَا ... فهُنَّ يَتْبَعْنَهُ في كلِّ مُرْتَحَلِ (4) __________ (1) الشؤبوب: الدفعة من المطر. (2) في "غ": "المهادي". والمهارى: الإبل النجائب. (3) انظر معناه في العهد القديم، حبقوق: (3/ 3 - 13). (4) لصريع الغواني، مسلم الوليد الأنصاري. انظر ديوانه ص (12)، وقد جاء البيتان في المطبوعة من "الهداية" متداخلين هكذا: =
(1/188)
لَوْ لَمْ يَقُلْ إِنِّي رسولٌ أتى ... شاهدُه في وَجْهِهِ يَنْطِقُ (1) ومن الذي سارت المنايا أمامه وصحبت سِباعُ الطير جنودَهُ لعلمها بما يقرب من ذبح الكفار لله الواحد القهار؟! يَتَطَايَرُونَ بقُرْبِهِ قربانهم ... بِدماءِ مَنْ عَلِقُوا مِنَ الكفَّارِ (2) ومن الذي تَضَعْضَعَتْ له الجبالُ وانخفضتْ له الرَّوابي، وداس الأُمم ودوَّخ العالم، وانتقضتْ بنبوته الممالِكُ، وخلَّص الأمة من الشرك والكفر والجهل والظلم سواه؟! (الوجه السادس والعشرون): قوله في كتاب حَزْقِيَل يهدِّد اليهود ويصف لهم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -: "وأنَّ الله مُظْهِرُهُمْ عليكم، وباعثٌ فيهم نبيًّا، ويُنْزِلُ عليه كتابًا، ويملِّكُهم رقابَكم فيقهرونكم ويُذِلُّونكم بالحقِّ، ويخرج رجال بني قيدار في جماعات الشعوب معهم ملائكة على خيل بيض متسلحين يوقعون بكم، وتكون عاقبتكم إلى النار" (3). فمن الذي أظهره الله على اليهود حتى قهرهم وأذلهم وأوقع بهم وأنزل عليه كتابًا؟ ومن هم بنو قِيْدَار غير بني إسماعيل الذين خرجوا معه ومعهم جماعات الشعوب؟! ومن الذي نزلت عليه وعلى أمته الملائكةُ __________ = قد عود الطير ... أتى شاهده في وجهه ينطق لو لم يقل ... فهن يتبعنه في كل مرتحل (1) أورده المصنف في "زاد المعاد": (4/ 245) ولعله له. (2) البيت لكعب بن زهير، وهو في ديوانه هكذا: يتطهرون كأنه نسكٌ لهم ..... (3) العهد القديم، حزقيال: (20/ 45 - 49). وانظر: "الجواب الصحيح": (5/ 272 - 274).
(1/189)
على خيل بِيْضٍ يومَ بدرٍ ويومَ الأحزاب ويوم حُنَيْنٍ حتى عَايَنُوها عِيَانًا تقاتل بين يديه وعن يمينه وعن شماله، حتى غلب ثلاثمائةٍ وثلاثة عشر رجلًا -ليس معهم غير فرسين- ألفَ رجلٍ مُقَنَّعين في الحديد، معدودين من فرسان العرب، فأصبحوا بين قتيل وأسير ومنهزم (1)!! (الوجه السابع والعشرون): قول دَانِيَال، وَذَكَرَهُ باسمه الصَّريح، من غير تعريضٍ ولا تلويح، وقال: "ستنزع في قِسِيِّك أعراقًا، وترتوي السِّهام بأمرك يا محمد ارتواءً" (2). وقال دَانِيَالُ النبيُّ أيضًا حين سأله بختنصَّر (3) عن تأويل رؤيا رآها ثم أنسيها: "رأيت أيها الملك صنمًا عظيمًا قائمًا بين يديك، رأسه من ذهب، وساعداه من فضة، وبطنه وفخذاه من نحاس، وساقاه من حديد (4)، ورجلاه من الخزف، فبينا أنت متعجب منه إذ أقبلت صخرة فدقت ذلك الصنم فتفتت وتلاشى وعاد رفاتًا ثم نسفته الرياح وذهب، وتحول ذلك الحجر إنسانًا عظيمًا ملأ الأرض، فهذا ما رأيت أيها الملك". فقال بخت نصر: صدقت فما تأويلها؟ قال: أنت الرأس الذي رأيته من الذهب، ويقوم بعدك ولدك وهو الذي رأيته من الفضة وهو دونك، وتقوم بعده مملكة أخرى (هي دونه __________ (1) في "ج": "ومنهزمين". (2) انظر: سفر حبقوق: (3/ 9). (3) وفي قاموس الكتاب المقدس يكتبونه: (نبوخذ نصَّر). (4) في "غ": "الحديد".
(1/190)
وهي تشبه النّحاس، وبعدها مملكة قوية مثل الحديد، وأما الرجلان اللذان رأيت من خزف فمملكة) (1) ضعيفة، وأما الحجر العظيم الذي رأيته دق الصنم ففتته فهو نبي يقيمه إله الأرض والسماء بشريعة قوية فيدق جميع ملوك الأرض وأممها حتى تمتلئ الأرض منه ومن أمته، ويدوم سلطان ذلك النبي إلى انقضاء الدنيا فهذا تعبير رؤياك أيها الملك (2). ومعلومٌ أنَّ هذا منطبقٌ على محمَّدٍ بنِ عبدِ اللهِ حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّة، لا على المسيح ولا على نبيٍّ سواه، فهو الذي بُعِث بشريعة قويَّة، ودقَّ جميع ملوك الأرض وأُمَمَها حتى امتلأتِ الأرضُ من أُمتِه، وسلطانُه دائمٌ إلى آخر الدهر، لا يقدر أحدٌ أن يزيله، كما أزال سلطانَ اليهود من الأرض، وأزال سلطانَ النَّصارى عن خيار الأرض ووسطها فصار في بعض أطرافها، وأزال سلطانَ المجوس وعُبَّاد الأصنام، وسلطانَ الصَّابِئِيْنَ (3). (الوجه الثامن والعشرون): قول دَانِيَال أيضًا: "سألتُ الله وتَضرعْتُ إليه أنْ يبين لي ما يكونُ من بني إسرائيل، وهل يتوبُ عليهم ويردُ إليهم مُلْكَهُمْ ويبعثُ فيهم الأنبياء؟ أو يجعل ذلك في غيرهم؟ فظهر لي المَلَكُ في صورةِ شابٍّ حَسَنِ الوَجْهِ فقال: السَّلام عليك يا دَانِيال، إنَّ الله يقول: إنَّ بني إسرائيل أَغْضَبُوني وتمرَدُوا عليَّ، وعبدوا من دوني آلهةً أخرى، وصاروا من بعد العلم إلى الجهل، ومِنْ بعد الصِّدق إلى __________ (1) ساقط من "غ". (2) العهد القديم، دانيال: (31/ 45). (3) انظر: "الجواب الصحيح": (5/ 275 - 277).
(1/191)
الكذب، فسلَّطْتُ عليهم بُخْتنصَّر فقتل رجالهم وسبى ذَرَاريَهم، وهدم مَسْجدَهُم، وحرَّق كتبهم، وكذلك يفعل من بعده بهم، وأَنا غير راضٍ عنهم ولا مُقِيْلهم عَثَرَاتِهِمْ، فلا يزالون في سَخَطِي حتى أبعث مسيحي ابنَ العذراء البَتُول، فأختم عليهم عند ذلك باللَّعْن والسَّخط، فلا يزالون ملعونين، عليهم الذلة والمسكنة حتى أبعث نبي بني إسماعيلَ الذي بشّرت به هاجر، وأرسلتُ إليها مَلَاكي فبشَّرها، فَأُوْحِي إلى ذلك النبيِّ، وأعلمه الأسماءَ، وأزيِّنُه بالتقوى، وأجعل البِرَّ شعارَه، والتقوى ضَمِيرَهُ، والصدقَ قَولَه، والوفاءَ طبيعتَه، والقَصْدَ سِيرتَه، والرُّشدَ سُنَّتَه، أخصه بكتاب مصدِّقٍ لما بين يديه من الكتب، وناسخٍ لبعض ما فيها، أُسْرِي به إليَّ، وأرقِّيه من سماء إلى سماء حتى يعلو فأدْنِيه وأسلِّم عليه، وأوحي إليه وأرقيه ثم أردّه إلى عبادي بالسرور والغبطة، حافظًا لما اسْتُودِعَ، صادفا بما أمر، يدعو إلى توحيدي باللِّين من القول والموعظة الحسنة، لا فظ ولا غليظ ولا صخَّاب بالأسواق، رؤوف بمن والاه، رحيمٌ بمن آمن به، خَشِنٌ على مَنْ عاداه، فيدعو قومه إلى توحيدي وعبادتي، ويخبرهم بما رأى من آياتي، فيكذِّبونه ويؤذونه" (1) . ثم سرد دَانِيَال قضيةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما أملاه عليه المَلَكُ حتى وصل آخر أيام أمته بالنفخة وانقضاء الدنيا (2) . وهذه البشارة أيضًا عند اليهود والنصارى يقرؤونها ويُقِرُّون بها، ويقولون لم يظهر صاحبها بعد. __________ (1) في مواضع متفرقة من سفر دانيال، الإصحاح (9). (2) انظر: "الجواب الصحيح": (5/ 278 - 282).
(1/192)
(قال أبو العالية: لما فتح المسلمون تُسْتَر وجدوا دَانِيَال ميتًا ووجدوا عنده مصحفًا) (1). قال أبو العالية: أنا قرأتُ ذلك المصحف، وفيه صفتكم وأخبارُكم وسيرتكم ولُحونُ كلامِكم، وكان أهل الناحية إذا أجْدَبُوا كشفوا عن قبره فَيُسْقون، فكتب أبو موسى الأشعريُّ في ذلك إلى عُمر بن الخطَّاب، فكتب عمر: أَنِ احفِرْ بالنهار ثلاثةَ عشر قبرًا وادْفِنْهُ بالليل في واحدٍ منها لئلا يُفْتَتَنَ الناس به (2). (الوجه التاسع والعشرون): قال كعب -وذكر صفةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التوراة، ويريد بها التوراةَ التي هي أعمُّ من التوراة المعيَّنة-: "أَحْمَدُ عَبْدِي المختار لا فظٌّ ولا غليظٌ ولا صَخَاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئةِ السيئةَ، يعفو ويغفر، مَولدُه بكاء، وهجرتُه طَابَا، ومُلْكُه بالشَّام، وأمَّتُه الحمَّادونَ يحمدون الله على كل نجدٍ، ويسبِّحونه في كلِّ منزلة، ويُوَضِّئون أطرافَهم، ويَأْتَزِرُونَ على أَنْصَافِهم، وهم رعاةُ الشمس، ومؤذِّنُهم في جَوِّ السماء، وصَفُّهم في القتال وصَفُّهم في الصَّلاة سواءٌ، رهبانٌ بالليل، أُسْدٌ بالنهار، ولهم دويٌ كدويِّ النَّحْل، يصلُّون الصَّلاة حيثُ ما أدركَتْهُمْ ولو على كُنَاسَةٍ" (3). (الوجه الثلاثون): قال ابن أبي الزِّنَاد: حدَّثني عبدُ الرحمنِ بنُ __________ (1) ساقط من "غ، ج، ص". (2) انظر: "تاريخ الطبري": (4/ 93)، "الأموال" لأبي عُبيد القاسم بن سلام، ص (477 - 478)، "فتوح البلدان" للبلاذري: (2/ 465 - 466)، "دلائل النبوة" للبيهقي: (1/ 284) وراجع: "الجواب الصحيح": (5/ 281 - 282). (3) انظر: العهد القديم، سفر إشعيا: (42/ 1 - 7). وانظر: "الجواب الصحيح": (5/ 282 - 283) وراجع فيما سبق ص (204 - 206).
(1/193)
الحارثِ، عن عُمر بنِ حفص -وكان من خيار الناس- قال: كان عند أبي وجَدِّي ورقة يتوارثونها قبل الإِسلام فيها: "اسم الله وقولُه الحقُّ، وقولُ الظالمينَ في تَبَار، هذا الذكر لأمةٍ تأتي في آخر الزمان؛ يئتزرون على أوساطهم، ويغسلون أطرافَهم، ويخوضون البحور إلى أعدائهم، فيهم صلاةٌ لو كانت في قومِ نوحٍ ما هَلَكُوا بالطوفان، وفي ثمودَ ما هلكوا بالصَّيْحَةِ" (1). (الوجه الحادي والثلاثون): قال إشَعْيَا وذكر قصة العرب فقال: "ويدوسون الأُمم دياسَ البيادر، وينزل البلاءُ بمشركي العرب، وينهزمون بين يدي سيوفٍ مسلولة وقِسِيٍّ موتورةٍ من شِدَّة المَلْحَمَةِ" (2). وهذا إخبارٌ عمَّا حلَّ بعَبَدَةِ الأوثان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يوم بَدْرٍ ويومَ حُنَيْنٍ، وفي غيرهما من الوقائع (3). (الوجه الثاني والثلاثون): قوله في الإنجيل الذي بأيدي النصارى عن يوحنا: "إنَّ المسيح قال للحواريِّيْنَ: مَنْ أبْغَضَنِي فقد أبغض الربَّ، ولولا أنِّي صنعتُ لهم صَنَائِعَ لم يَصْنَعْها أحدٌ لم يكن لهم ذَنْبٌ، ولكنْ مِنَ الآن بَطِرُوا فلابدَّ أن تتمَّ الكلمةُ التي في النَّاموس؛ لأنهم أبْغَضُوني مجانًا، فلو قد جاء المنحمنا هذا الذي يُرْسِله الله إليكم من عند الربِّ روح القسط، فهو شهيد عليَّ، وأنتم أيضًا؛ لأنكم قديمًا كنتم معي، هذا __________ (1) انظر: "دلائل النبوة" للبيهقي، ص (285) الطبعة القديمة، "الجواب الصحيح": (5/ 283). (2) إشعياء: (21/ 10 - 16). (3) انظر: "الجواب الصحيح": (5/ 246 - 248) و (283). "أعلام رسول الله المنزلة على رسله" لابن قتيبة، لوحة (6).
(1/194)
قولي لكم لكيلا تَشُكُّوا إذا جاء" (1). "والمنحمنا" بالسُّريانيَّة، وتفسيره بالرومية: البارقليط، وهو بالعبرانيَّة: الحماد والمحمود والحمد، كما تقدَّم. (الوجه الثالث والثلاثون): قوله في الإنجيل أيضًا: إنَّ المسيح قال لليهود: "وتقولون لو كنَّا في أيام آبائنا لم نساعدهم على قتل الأنبياء، فَأتِمُّوا كَيْلَ آبائكم يا ثَعَابيْنَ (2) بني الأفَاعي كيف لكم النَّجاة من عذابِ النار، وسأبعث إليكم أنَبياءَ وعلماءَ تقتلون منهم وتَصْلُبون وتَجْلِدُون، وتطلبونهم من مدينةٍ إلى أخرى، لتتكاملَ عليكم دماءُ المؤمنين المُهْرَقَةِ على الأرض من دم هابيل الصالح إلى دم زكريا بن برخيا الذي قتلتموه عند المذبح، إنَّه سيأتي جميع ما وصفتُ على هذه الأمة، يا أورشلم التي تقتلُ الأنبياء وترجم من بعث إليك، قد أردتُ أن أجمع بَنيْك كجمع الدَّجاجةِ فراريخَها تحت جناحيها وكرهتِ أنتِ ذلك، سَأُقْفِرُ عليكم بيتكم، وأنا أقول: لا تَرَوْني الآن حتى يأتي من يقولون له: مبارك، يأتي على اسم الله" (3). فأخبرهم المسيح أنهم لابد أن يستوفوا الصَّاع الذي قدر لهم، وأنه سيقفر عليهم (4) بيتهم، أي: يُخْلِيه منهم، وأنه يذهب عنهم فلا يرونه حتى يأتي المبارك الذي يأتي على اسم الله. فهو الذي انتقم بعده لدماء المؤمنين. __________ (1) يوحنا: (7/ 7) و (14/ 24 - 27). (2) في "ج، ص": "تابعين". (3) إنجيل متى: (23/ 30 - 39). (4) ساقط من "د".
(1/195)
وهذا نظير قوله في الموضع الآخر: "إن خيرًا لكم أن أذهب عنكم حتى يأتِيَكم الفارقليط فإنه لا يجيء ما لم أذهب". وقوله أيضًا: "ابن البشر ذاهبٌ، والفارقليط مِنْ بعده"، وفي موضع آخر: "أنا أذهب وسيأتيك الفارقليط". والفارقليط والمبارك الذي جاء بعد المسيح هو محمد - صلى الله عليه وسلم -كما تقدم تقريره. (الوجه الرابع والثلاثون) قوله في إنجيل متى: "إنه لما حبس يحيى بن زكريا بعث تلاميذه إلى المسيح وقال لهم: قولوا له: أنت إيل أم نتوقع غيرك؟ فقال المسيح: الحقَّ اليقينَ أقولُ لكم: إنه لم تَقُمِ النساءُ عن أفضلَ من يحيى بنِ زكريَّا، وإنَّ التوراة وكتب الأنبياء يتلو بعضُها بعضًا بالنّبوة والوحي حتى جاء يحيى، وأما الآن فإن شئتم فَاقْبلُوا (1) فإن إيل مزمع أن يأتي، فمن كانت له أذنان سامعتان فليستمع" (2). وهذه بشارة بمجيء الله سبحانه الذي و"إيل" بالعبرانية. ومجيئه هو مجيء رسوله وكتابه ودينه، كما في التوراة: "جاء الله من طُورِ سَيْنَاء". قال بعض عُبَّاد الصليب: إنما بشر بإلْيَاسَ النبي، وهذا لا يُنْكَر من جهل أمة الضلال وعبَّاد خشبة الصليب التي نحتتها أيدي اليهود؛ فإنَّ إلياس قد تقدم إرساله على المسيح بدهور متطاولة. __________ (1) في "غ": "فاقتلوا". (2) إنجيل متى: (11/ 9 - 15).
(1/196)
(الوجه الخامس والثلاثون): قوله في نبوة إِرْمِيَا: "قبل أن أخلقك قد عظَّمتك من قبل أن أُصوِّرك في البطن، وأرسلتك وجعلتك نبيًّا للأجناس كلهم" (1). فهذه بشارة على لسان إِرْمِيَا لمن بعده، وهو إما المسيح وإما محمد -صلوات الله وسلامه عليهما- لا يعدوهما إلى غيرهما، ومحمدٌ أَوْلَى بها؛ لأن المسيح إنما كان نبيًّا لبني إسرائيل وحدهم (2)، كما قال تعالى: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [آل عمران: 49]. والنصارى تقرُّ بهذا, ولم يَدَّعِ المسيح أنه رسول إلى جميع أجناس أهل الأرض، فإن الأنبياء من عهد موسى إلى المسيح إنما كانوا يبعثون إلى قومهم، بل عندهم في الإنجيل أنَّ المسيح قال للحواريين: "لا تسلكوا إلى سبيل الأجناس، ولكن اختصروا على الغنم الرَّابضة من نسل إسرائيل" وأما محمد بن عبد الله فهو الذي بعثه الله إلى جميع أجناس الأرض وطوائف بني آدم. وهذه البشارة مطابقةٌ لقوله تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]. ولقوله صلى الله عليه وسلم: "بعثت إلى الأسود والأحمر" (3) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وكان النبي يُبْعثُ إلى قومه خاصةً وبُعِثْتُ إلى الناس عامة" (4). وقد اعترف النصارى بهذه البشارة ولم ينكروها, لكن قال بعض __________ (1) العهد القديم، إرمياء: (1/ 4 - 6). (2) من "غ". (3) قطعة من حديث أخرجه مسلم في المساجد: (1/ 370). (4) أخرجه البخاري في التيمم: (1/ 436)، ومسلم في المساجد: (1/ 370 - 371).
(1/197)
زعمائهم: إنها بشارة بموسى بنِ عمرانَ وإلياس والْيَسَع، وإنهم سيأتون في آخر الزمان وهذا من أعظم البَهْتِ والجرأة على الله والافتراء عليه، فإنه لا يأتي من قد مات إلى يوم الميقات المعلوم. (الوجه السادس والثلاثون): قول المسيح في الإنجيل الذي بأيديهم وقد ضرب مثل الدنيا فقال: "كرجل اغترس (1) كَرْمًا وسيَّج (2) حوله، وجعل فيه مَعْصَرَة، وشيَّد فيه قصرًا، ووكل به أعوانًا، وتَغَرَّب عنه، فلما دنا أَوَانُ قطافه بعث عبده إلى أعوانه الموكَّلين بالكَرْم". ثم ضرب مثلًا للأنبياء ولنفسه، ثم للنبيِّ الموكل آخرًا بالكرم، ثم أفصح عن أمته فقال: "وأقول لكم: سَيُزَاح عنكم ملك الله وتُعْطَاه الأمة المطيعة العاملة" ثم ضرب لنبيِّ هذه الأمة مثلًا بصخرة وقال: "مَنْ سقط على هذه الصخرة سينكسر، ومنْ سقطتْ عليه يَنْهَشِمُ" (3). وهذه صفة محمّدٍ ومن ناوأه وحاربه من الناس، لا تنطبق على أحدٍ بعد المسيح سواه. (الوجه السابع والثلاثون) قول إشَعْيَاء في صحفه (4): "لِتفرحْ أرضُ البادية العطشى ولْتبتَهِج البراري والفَلَوات لأنها ستعطى بأحمد محاسن لبنان ومثل حسن الدساكير" (5). __________ (1) في "ج": "اغترت". (2) في "د": "يسبح". (3) إنجيل متى: (21/ 33 - 44). (4) في "د": "صحفة": وفي "ب, ص": "صفته". (5) إشعياء: (35/ 2).
(1/198)
وتالله ما بعد هذا إلا المكابرة وجحد الحق (1) بعدما تبين. (الوجه الثامن والثلاثون) قول حِزْقيل في صُحُفه التي بأيديهم يقول الله عز وجل -بعد ما ذكر معاصي بني إسرائيل وشبَّههم بكرمةٍ غذاها وقال: "لم تلبث الكَرْمة أن قُلِعت بالسَّخطة وِرمي بها على الأرض وأحرقت السمائم ثمارها، فعند ذلك غُرِس غرْسٌ (2) في البدو وفي الأرض المهملة العطشى وخرجت من أغصانها الفاضلة نار أكلت تلك الكرمة حتى لم يوجد فيها غصن قويٌّ ولا قضيب" (3). وهذا تصريحٌ لا تلويحٌ به - صلى الله عليه وسلم - وببلده وهي مكة العطشى المهملة من النبوَّة قَبْله من عهد إسماعيل. (الوجه التاسع والثلاثون) ما في صحف دَانِيَالْ وقد نعت الكَلْدَانِيِّيْنَ الكذَّابين فقال: "لا تمتدُّ دعوتهم ولا يتمُّ قربانهم، وأقْسَمَ الربُّ بساعده أن لا يظهر الباطل ولا يقوم لمدَّعٍ كاذب دعوةٌ أكثر من ثلاثين سنة" (4). وفي التوراة ما يشبه هذا. وهذا تصريحٌ بصحة (نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -) (5)؛ فإنَّ الذين اتَّبعوه بعد موته أضعاف أضعاف الذين اتبعوه في حياته، وهذه دعوته قد مرَّتْ عليها القرون من السنين، وهي باقية مستمرة وكذلك إلى آخر الدهر، ولم يقع __________ (1) في "غ": "الخلق". (2) من "غ". (3) انظر: العهد القديم، حزقيال: (14/ 13). (4) العهد القديم، دانيال، الإصحاح التاسع والثاني عشر. (5) في "غ": "نبوته".
(1/199)
هذا لملك (1) قط فضلًا عن كذَّاب مفترٍ (2) على الله وأنبيائه مُفْسدٍ للعالَم مُغَيِّر لدعوة الرسل، ومن ظن هذا بالله فقد ظنَّ به أسوأ الظنِّ وقَدَحَ في علمه وقدرته وحكمته. وقد جرت لي "مناظرة" بمصر مع أكبر من يشير إليه اليهود بالعلم والرياسة، فقلت له في أثناء الكلام: أنتم بتكذيبكم محمدًا - صلى الله عليه وسلم - قد شتمتم الله أعظم شتيمة. فعجب من ذلك، وقال: مثلك يقول هذا الكلام! فقلت له: اسْمعِ الآن تقريرَه: إذا قلتم: إنَّ محمدًا ملك ظالم (3) قَهَر الناسَ بسيفه، وليس برسولٍ من عند الله، وقد أقام ثلاثًا وعشرين سنة يدَّعي أنه رسول الله أرسله إلى الخلق كافة، ويقول: أمرني الله بكذا ونهاني عن كذا وأوحى إليَّ كذا، ولم يكن من ذلك شيء، ويقول: إنه أباح لي سَبْيَ ذراري مَنْ كذَّبني وخالفني ونساءَهم وغنيمةَ أموالهم وقَتْلَ رجالهم، ولم يكن من ذلك شيء، وهو يدأب في تغيير دين الأنبياء ومعاداة أممهم ونسخ شرائعهم فلا يخلو: إمَّا أن تقولوا: إن الله -سبحانه- كان يطَّلع على ذلك ويشاهده ويعلمه، أو تقولوا: إنه خفي عنه ولم يعلم به. فإن قلتم: لم يعلم به، نسبتموه إلى أقبح الجهل، وكان مَنْ عَلِمَ ذلك أعْلمَ منه. __________ (1) في "غ": "الملك". (2) في "غ، د": "مغيِّر". (3) في "د": "ظاهر".
(1/200)
وإن قلتم: بل كان ذلك كلُّه بعلمه ومشاهدته واطِّلاعه عليه، فلا يخلو إمَّا أن يكون قادرًا على تغييره والأخذ على يديه ومنعه من ذلك، أو لا: فإن لم يكن قادرًا فقد نسبتموه إلى أفجع (1) العجز المنافي للربوبية، وإن كان قادرًا وهو مع ذلك يعزُّه وينصره ويؤيِّده ويُعْلِيه ويُعْلي كلمته ويجيب دعاءَه ويمكِّنه من أعدائه ويُظْهِر على يديه من أنواع المعجزات والكرامات ما يزيد على الألف، ولا يقصده أحد بسوءٍ إلا أظْفَرَه به ولا يدعوه بدعوة إلا استجابها له، فهذا من أعظم الظلم والسَّفَه الذي لا يليق نسبته إلى آحاد العقلاء فضلًا عن ربّ الأرض والسماء، فكيف وهو يشهد (2) له بإقراره على دعوته وبتأييده وبكلامه وهذه عندكم شهادة زور وكذب! فلما سمع ذلك قال: معاذ الله أن يفعل الله هذا بكاذبٍ مفترٍ، بل هو نبيٌّ صادق، مَنِ اتَّبعه أفْلحَ وسَعِد. قلت: فمالك لا تدخل في دينه؟ قال: إنما بعث إلى الأميين الذين لا كتاب لهم، وأما نحن فعندنا كتاب نتَّبعه. قلت له: غُلِبْتَ كل الغَلَب، فإنه قد علم الخاصُّ والعام أنّه أخبر أنَّه رسول الله إلى جميع الخلق، وأنّ من لم يتَّبِعْه فهو كافرٌ من أهل الجحيم، وقاتلَ اليهودَ والنصارى وهم أهلُ كتاب، وإذا صحَّتْ رسالته وَجَبَ __________ (1) في "غ": "أقبح". (2) في "غ": "شهد".
(1/201)
تصديقُه في كلِّ ما أخبر به، فأمسك ولم يُحِرْ جوابًا. وقريب من هذه المناظرة ما جرى لبعض علماء المسلمين مع بعض اليهود ببلاد المغرب (1) . قال له المسلم: في التوراة التي بأيديكم إلى اليوم أن الله قال لموسى: "إني أُقيم لبني إسرائيل من إخوتهم نبيًّا مثلك أجعل كلامي على فيه، فمن عصاه انتقمت منه". قال له اليهودي: ذلك يوشع بن نون. فقال المسلم: هذا محال من وجوهٍ: (أحدها) أنه قال عندك في آخر التوراة: "إنه لا يقوم في بني إسرائيل نبيٌّ مثل موسى". (الثاني) أنه قال: "من إخوتهم". وإخوة بني إسرائيل إمَّا العربُ وإمّا الرُوم، فإنَّ العرب بنو إسماعيل، والروم بنو العيص، وهؤلاء إخوة بني إسرائيل. فأمَّا الروم فلم يقم منهم نبيٌّ سوى أيوب، وكان قبل موسى، فلا يجوز أن يكون هو الذي بشَّرت به التوراة، فلم يبق إلا العرب وهم بنو إسماعيل، وهم إخوة بني إسرائيل، وقد قال الله في التوراة حين ذكر إسماعيل جدَّ العرب: "إنه يضع فسطاطه في وسط بلاد إخوته" وهم بنو إسرائيل. وهذه بشارة بنبوة ابنه محمَّدٍ الذي نصب فسطاطه وملك أمته في وسط بلاد بني إسرائيل، وهي الشام التي هي مظهر ملكه كما تقدم من قوله: "وملكه بالشام". __________ (1) لعلها مناظرة أبي عبيدة الخزرجي في كتابه: بين الإسلام والمسيحية، ص (214) وما بعدها، فإن فحوى هذا الكلام فيها.
(1/202)
فقال له (1) اليهودي: فعندكم في القرآن: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [الأعراف: 85]. {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف: 65] {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} [الأعراف: 73]. والعرب تقول: يا أخا بني تميم للواحد منهم، فهكذا قوله: "أقيم لبني إسرائيل من إخوتهم". قال المسلم: الفرق بين الموضعين ظاهر، فإنه من المحال أن يقال: إن بني إسرائيل إخوة بني إسرائيل، وبني (2) تميم إخوة بني تميم، وبني (3) هاشم إخوة بني هاشم. هذا ما لا يُعْقَل في لغة أمةِ من الأمم، بخلاف قولك: زيدٌ أخو بني تميم، وهود أخو عاد. وصالحٌ أخو ثمود أي واحد منهم، فهو أخوهم في النّسَب. ولو قيل: عاد أخو عاد، وثمود أخو ثمود، ومدين أخو مدين = لكَان نقصًا، وكان نظير (قولك: بنو إسرائيل) (4) إخوة بني إسرائيل، فاعتبار أحد الموضعين بالآخر خطأ صريح (5) . قال اليهوديُّ: فقد أخبر أنه سيقيم هذا النبي لبني إسرائيل، ومحمدٌ إنما أُقيم للعرب ولم يقم لبني إسرائيل. فهذا الاختصاص يُشْعِر بأنَّه مبعوث إليهم لا إلى غيرهم. قال المسلم: هذا من دلائل صدقه (6) ، فإنه ادَّعى أنّه رسول الله إلى __________ (1) ساقطة من "غ". (2) في "غ": "بنو". (3) في "غ" "بنو". (4) ما بين القوسين ساقط من "غ". (5) في "غ": "صريحًا". (6) في "د": "متفرقة".
(1/203)
أهل الأرض، كِتابِيِّهِم وأُمّيِّهِم، ونصَّ الله في التوراة على أنّه يقيمه لهم لئلا يظنوا (1) أنَّه مرسل إلى العرب والأميِّين خاصة (2) ، والشيء يُخَصُّ بالذكر لحاجة المخاطب إلى ذِكْره لئلا يتوهم السامع أنّه غير مرادٍ باللفظ العام ولا داخلِ فيه، وللتنبيه على أنَّ ما عداه أولى بحكمه، ولغير ذلك من المقاصد، فكان في تعيين بني إسرائيل بالذكر إزالة لوهم من توهم أنه مبعوث إلى العرب خاصة، وقد قال تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} [السجدة: 3، القصص: 46]. وهؤلاء قومه ولم يَنْفِ ذلك أن يكونَ نذيرًا لغيرهم، فلو أمكنك أن تذكر عنه أنه ادَّعى أنه رسول إلى العرب خاصة لكان ذلك حجة، فأما وقد نطق كتابُه، وعرف الخاصُّ والعامُّ بأنه ادَّعى أنه مرسل إلى بني إسرائيل وغيرهم فلا حجة لك. قال اليهوديُّ: إن أسلافنا من اليهود كلّهم على أنه ادَّعى ذلك، ولكن العيسوية منا تزعم أنه نبيُّ العرب خاصة، ولسنا نقول بقولهم. ثم التفت إلى يهوديٍّ معه فقال: نحن قد جرى شأننا على اليهودية، وتالله ما أدري كيف التخلُّص من هذا العربي، إلا أنه أقل ما يجب علينا أن نأخذ به أنفسنا النهي عن ذِكْره بسوء. وقال محمد بن سعد في "الطبقات": حدَثنا مَعْنُ بنُ عيسى، حدَّثنا معاوية (3) بن صالح، عن أبي فَرْوَةَ، عن ابن عباس أنه سأل كَعْبَ الأحبار: كيف تجد نَعْتَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في التوراة؟ قال: نجده: "محمد بن عبد الله، مولده بمكة، ومُهَاجَره إلى طابة، ويكون مُلْكُه __________ (1) في "د": "يتوهموا". (2) ساقطة من "ج". (3) في "ج": "معونة"، تصحيف عن "معوية".
(1/204)
بالشام، ليس بفحَّاش ولا صخَّاب بالأسواق، ولا يكافئ السيئةَ بالسيئةِ، ولكن يعفو ويصفح" (1) . وقال عبد الله بن عبد الرحمن الدَّارميُّ: حدَّثنا الحسن بن الرَّبيع، حدثنا أبو الأحْوَص، عن الأعْمَشِ، عن أبي صالحٍ قال: قال كعب: نجد مكتوبًا في التوراة (2) : "محمد رسول الله لا فظ ولا غليظ، ولا صخَّاب بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، وأمّتُه الحمَّادون يكبرون الله على كل نجد، ويحمدونه في كلِّ منزلة، ويأتزرون على أنصافهم، ويتوضؤون على أطرافهم، مناديهم ينادي في جو السماء، صفُّهم في القتال وصفُّهم في الصلاة (سواءٌ، لهم) (3) دويٌّ كدوي النحْل، مولده بمكة، ومهاجره بطابة، وملكه بالشام" (4) . قال الدارمي: وأخبرنا زيد بن عوف، حدَّثنا أبو عوانة، عن عبد الملك بن عمير، عن ذَكْوَان أبي صالحٍ، عن كعب قال: في السطر الأول: "محمد رسول الله، عبدي المختار، لا فظٌّ ولا غليظ، ولا صخَّاب بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، مولده بمكة، وهجرته بطيبة، وملكه بالشام". وفي السطر الثاني: "محمد رسول الله، أمتُه الحمَّادون، يحمدون الله في كل حال ومنزلة، ويكبِّرونه على كلِّ شَرَفٍ، رعاة الشمس، __________ (1) "طبقات ابن سعد": (1/ 360). (2) من "د". (3) في "غ": "وسؤالهم". (4) أخرجه الدارمي في المقدمة، باب صفة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الكتب قبل مبعثه: (1/ 4 - 5).
(1/205)
يصلُّون الصلاة إذا جاء وقتها (1) ولو كانوا على رأس كناسة، يأتزرون على أوساطهم، ويوضؤون أطرافَهم، وأصواتُهم بالليل في جو السماء كأصواتِ النَّحْل" (2) . وقال عاصم بنُ عُمرَ بنِ قَتَادَةَ، عن نَمْلَةَ بن أبي نَمْلَةَ، عن أبيه قال: كانت يهود بني قريظة يدرسون ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كتبهم، ويُعلِّمون الولدان صفته واسمه ومهاجره، فلما ظهر حسدوا وبغوا وأنكروا (3) . وذكر أبو نُعَيْمٍ في "دلائل النبوة" من حديث سليمانَ بنِ سُحَيْمٍ ورُمَيْح بنِ عبد الرحمن، كلاهما عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخُدْرِيِّ عن أبيه، قال سمعت أبي مالكَ بنَ سِنَان يقول: جئت بني عبد الأشْهل يومًا لأتحدَّث فيهم -ونحن يومئذ في هدنة من الحرب- فسمعت يُوشَعَ اليهوديَّ يقول: أظلَّ خروج نبيٍّ يقال له: أحمد، يخرج من الحرم. فقال له خليفةُ بن ثعلبةَ الأشْهَليُّ -كالمستهزئ به-: ما صفته؟ فقال: رجلٌ ليس بالقصير ولا بالطويل، في عينيه حُمْرة، يلبس الشَّمْلة، ويركب الحمار، وهذا البلد مهاجره. قال: فرجعت إلى قومي بني خُدْرَةَ وأنا يومئذٍ أتعجَّب مما يقول يُوشَع، فأسمع رجلًا منا يقول: هذا وحده يقوله؟! كلُّ يهود (4) يثرب تقول هذا. __________ (1) في "غ": "وقربًا". (2) أخرجه الدارمي أيضًا في المقدمة: (1/ 5 - 6). (3) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (1/ 16). (4) في "ب": "كله ليهود".
(1/206)
قال أبي: فخرجت حتى جئت يهود بني قريظة فتذاكروا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال الزبير بن باطا: قد طلع الكوكب الأحمر الذي لم يطلع إلا بخروج نبيٍّ وظهوره، ولم يبقَ أحدٌ إلا أحمد (1) ، هذه مهاجره. قال أبو سعيد: فلما قَدِمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ أَخبره أبي هذا الخبر، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لو أسلم الزبير وذووه من رؤساء يهود لأسلمتْ يهودُ كلُّها إنما هم لهم تَبَعٌ" (2) . وقال النَّضْر بنُ سلمةَ: حدَّثنا يحيى بن إبراهيم، عن صالح بن محمد، عن أبيه، عن عاصم بنِ عمرَ بن قتادةَ، عن محمود بن لبيد، عن محمد بن مَسْلَمةَ قال: لم يكن في بني عبد الأشهل إلا يهودي واحد يقال له يوشع، فسمعته يقول وإني لغلام: قد أظلَّكم خروج نبيٍّ يُبْعث من نحو هذا البيت، ثم أشار بيده إلى نحو بيت الله الحرام، فمن أدركه فلْيصدِّقْه، فبُعِث رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فأسْلَمْنا وهو بين أظهرنا, ولم يسلم حسدًا وبغيًا (3) . قال النَّضْر: وحدثنا عبد الجبار بن سعيد، عن أبي بكر بن عبد الله العامريِّ، عن سليم بن يسار، عن عمارةَ (4) بنِ خزيمةَ بن ثابت، قال: ما كان في الأوْس والخَزْرجَ رجلٌ أوْصَفَ لمحمدٍ من أبي عامر الرَّاهب، __________ (1) ساقطة من "د". (2) انظر: "دلائل النبوة" لأبي نعيم الأصبهاني: ص (41)، "الطبقات لابن سعد": (1/ 160). (3) "دلائل النبوة" لأبي نعيم، ص (39 - 40). (4) في "غ": "حماد".
(1/207)
كان يألف اليهود ويسائلُهم عن الدِّين (1) ويخبرونه بصفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّ هذه دار هجرته، ثم خرج إلى يهود تيماء فأخبروه بمثل ذلك، ثم خرج إلى الشام فسأل النصارى فأخبروه بصفةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّ مهاجره يثرب، فرجع أبو عامر وهو يقول: أنا على دين الحنيفية، وأقام مترهبًا ولبس المسوح، وزعم أنه على دين إبراهيم وأنه ينتظر خروج النبيِّ. فلما ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة لم يخرج إليه وأقام على ما كان عليه، فلما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ حَسَدَه وبغى ونافق، وأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد: بم بُعِثْتَ؟ قال: "بالحنيفيَّة" قال: أنت تخلطها بغيرها؟ فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أتيتُ بها بيضاءَ، أين ما كان يخبرك الأحبارُ من اليهود والنصارى من صفتي"؟ فقال: لستَ الذي وَصَفُوا، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ("كذبتَ" فقال: ما كذبتُ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) (2) : "الكاذبُ أماته الله وحيدًا طريدًا" قال: آمين. ثم رجع إلى مكة وكان مع قريشٍ يتبع دينهم، وترك ما كان عليه، فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام فمات بها طريدًا غريبًا وحيدًا (3) . وقال الواقديُّ: حدَّثني محمد بن سَعْدِ الثقفيُّ وعبد الرحمن بن عبد العزيز في جماعةٍ، كل حدَّثني بطائفة من الحديث، عن المغيرةِ بنِ شُعْبَةَ أنه دخل على المُقَوْقِس وأنِّه قال له: إنَّ محمدًا نبيٌّ مُرْسَل، ولو أصاب القبطُ والرّومُ اتَّبَعُوه. قال المغيرة: فأقمتُ بالإسكندرية لا أدع كنيسةً إلا دخلتُها وسألت __________ (1) في "غ، ص": "اليهود ودينهم". (2) ما بين القوسين ساقط من "د". (3) أخرج القصة: أبو نعيم في "الدلائل": ص (41 - 42).
(1/208)
أساقفتها من قبطها ورومها عمَّا يجدون من صفة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكان أُسقُفٌ من القبط وهو رأس كنيسة أبي محنس، كانوا يأتونه بمرضاهم (فيداويهم ويدعو) (1) لهم، لم أر أحدًا قط لا (2) يصلي الخمس أشدَّ اجتهادًا منه. فقلت: أخبِرْني هل بقي أحدٌ من الأنبياء؟ قال: نعم، وهو آخرهم، ليس بينه وبين عيسى أحد، وهو نبيٌّ قد أمرنا عيسى- باتِّباعه، وهو النبيُّ الأميُ العربيُّ (اسمه أحمد) (3) ، ليس بالطويل ولا بالقصير، في عينيه حُمْرة، وليس بالأبيض ولا بالآدَم، يعفي شعره، ويلبس ما غلظ من الثياب، ويجتزي بما لَقِي من الطعام، سيفُه على عاتقه، ولا يبالي مَنْ لَاقَى، يباشر القتال بنفسه، ومعه أصحابه يَفْدُونه بأنفسهم. هم له أشد حبًّا من أولادهم وآبائهم، يخرج من أرض القَرَظ (4) ، ومن حَرَمٍ يأتي، وإلى حَرَمٍ يهاجر، إلى أرض مسبخة ونخل، يدين بدين إبراهيم، يأتزر على وسطه، ويغسل أطرافه، ويخص بما لم يخص به الأنبياء قبله، وكان النبيُّ يبعث إلى قومه ويبعث إلى الناس كافة، وجعلت له الأرض مسجدًا وطَهُورًا أينما أدركتْه الصلاة تيمَّم، وصلى، ومن كان قبلهم مشدَّدٌ عليهم لا يصلون إلا في الكنائس والبِيَعِ (5) . __________ (1) في "غ": "فيدعو". (2) ساقطة من "غ". (3) ساقط من "د". (4) في "ب، ج": "القبط". (5) أخرج القصة: الواقدي في المغازي: (2/ 596).
(1/209)
وقال الطبَرانِيُّ: حدَّثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا عبد الله بن رجاء، حدثنا المَسْعوديُّ، عن نُفَيل بن هشام بن سعيد بن زيد، عن أبيه، عن جده سعيد بن زيد، أنَّ زيد بن عمرو وورقةَ بن نوفل خرجا يلتمسان الدين حتى انتهيا إلى راهب بالمَوْصِل، فقال لزيد: من أين أقبلتَ؟ قال من بيت إبراهيم، قال: وما تلتمس؟ قال: ألتمس الدين. قال: ارجع، فإنه يوشك أن يظهر الذي تطلبُ في أرضك. فرجع وهو يقول: "لبيك حقًّا حقًّا. تعبُّدًا ورِقًّا" (1) . وقال ابن قتيبة في كتاب "الأعلام" (2) : حدَّثني يزيد بن عمرو، حدَّثنا العلاء بن الفضل، حدَّثني أبي، عن أبيه عبد الملك بن أبي سوية، عن أبي سوية، عن أبيه خليفة بن عبدة المِنْقَرِيّ، قال سألت محمد بن عَدِيٍّ: كيف سمَّاك (أبوكَ عديٌّ) (3) محمدًا؟ قال: أَمَا إني قد سألتُ أبي عمَّا سألتَنِي عنه، فقال: خرجت رابعَ أربعةٍ من بني تميم؛ أنا أحدهم، ومجاشع بن دارم، ويزيد بن عمرو بن ربيعة، وأسامة بن مالك بن جندب، (نريد ابن جَفْنَةَ) (4) الغَسَّاني، فلما قدمنا الشام نزلنا على غدير فيه شجراتٌ وقربه ديرانيٌّ فأشرف علينا، وقال: إن هذه اللغة ما هي لأهل هذه البلد. قلنا: نعم، نحن قوم من مُضَر. __________ (1) أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير": (1/ 114)، وابن إسحاق: (1/ 222) وما بعدها، وابن سعد: (1/ 160 - 161). (2) "أعلام رسول الله المنزلة على رسله" لابن قتيبة، لوحة (10 و 13). (3) ساقط من "غ". (4) في "غ" تحرفت إلى: "يزيد بن حفنة".
(1/210)
قال: من أيِّ المضريِّين؟ قلنا: من خِنْدِف. قال: أمَا إنّه سيبعث فيكم وشيكًا نبيٌّ فسارِعُوا إليه، وخذوا بحظَّكم منه ترشدوا، فإنه خاتم النبيين، واسمه محمد. فلما انصرفنا من عند ابن جفنة الغسَّاني وصِرْنا إلى أهلنا وُلِد لكل رجل منا غلام فسمَّاه محمدًا. وقال الإِمام أحمد: حدَّثنا رَوْح، حدَّثنا حمَّاد بن سلمةَ، عن عطاء بن السَّائب، عن أبي عُبَيْدَة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، قال: "دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكنيسة فإذا هو بيهود، وإذا بيهودي يقرأ عليهم التوراة، فلما أتَوا على صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - أمسكوا، وفي ناحيتها رجل مريض، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما لكم أمْسَكْتم"؟ قال المريض: إنهم أتَوا على صفة نبيٍّ فأمسكوا، ثم جاء المريض يحبو حتى أخذ التوراة، فقرأ حتى أتى على صفة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: هذه صفتك وصفةُ أمتك: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسولُ الله، ثم مات. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: "خُذُوا أخاكم" (1) . وقال محمد بن سعد: حدَّثنا محمد بن عمر، قال حدَّثني سليمان بن داود بن الحُصَيْن عن أبيه، عن عكرمةَ، عن ابن عباس، عن __________ (1) أخرجه الإِمام أحمد: (1/ 416)، والطبراني: (10/ 190)، والبيهقي في "الدلائل" (6/ 272 - 273)، وقوام السنة الأصبهاني في "الدلائل": أيضًا: (1/ 323 - 324). وقال الهيثمي في "المجمع" (8/ 231): "فيه عطاء بن السائب وقد اختلط". وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه.
(1/211)
أُبَيّ بن كعب قال: لما قَدِمَ "تُبَّع" المدينةَ ونزل بقُبَاء بعث إلى أحبار اليهود فقال: إني مخرِّب هذا البلد حتى لا تقوم بها يهودية ويرجع الأمر (إلى العرب) (1) ، فقال له شموال اليهوديُ -وهو يومئذ أعلمهم-: أيها الملك! إن هذا بلد يكون إليه مهاجر نبي من بني إسماعيل، مولده بمكة، اسمه أحمد. وهذه دار هجرته، وإن منزلك هذا الذي أنت به يكون به من القتل والجراح كثير من أصحابه وفي عدوهم، قال تُبَّع: ومن يقاتله يومئذ وهو نبي كما تزعمون؟ قال: يسير إليه قومه فيقتتلون هاهنا. قال: فأين قَبْرُه؟ قال: بهذا البلد. قال: فإذا قوتل لمن تكون الدائرة؟ قال: تكون له مرة (2) وعليه مرة، وبهذا المكان الذي أنت به تكون عليه، ويقتل أصحابه قتلًا لم يقتلوه في موطن، ثم تكون له العاقبة ويظهر فلا ينازعه هذا الأمر أحد. قال: وما صفته؟ قال: رجل ليس بالطويل ولا بالقصير، في عينيه حمرة، يركب البعير ويلبس الشملة، سيفه على عاتقه لا يبالي من لاقى من أخ أو ابن عم أو عم حتى يَظْهَر أمرُه. __________ (1) في "غ": "إليّ". (2) في "غ": "مدة".
(1/212)
قال تُبَّع: ما إلى هذه البلدة من سبيل، وما يكون خرابها على يدي. فخرج تُبَّع منصرفًا إلى اليمن. قال يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبيه: لم يمت تُبَّع حتى صدق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان يهود يثرب يخبرونه، وإن تُبَّع مات مسلمًا" (1) . وقال محمد بن سعد: حدَّثنا محمد بن عمر، حدَّثني عبد الحميد بن جعفر عن أبيه، قال كان الزبير بن بَاطَا -وكان أعلم اليهود- يقول: إني وجدت سِفْرًا كان أبي يكتمه عليَّ، فيه ذكر أحمد، نبي يخرج بأرض القَرَظ، صفتُه كذا وكذا، فتحدَّث به الزبير بعد أبيه والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبعث بعد، فما هو إلا أن سمع بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قد خرج بمكة فَعَمَد إلى ذلك السِّفْر فمحاه وكتم شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصفته، وقال: ليس به (2) . قال محمد بن عمر: (وحدَّثني الضحَّاك بن عثمان، عن مَخْرَمَةَ بنِ سليمان، عن كُرَيْب عن ابن عباس) (3) ، قال: كان يهود قريظةَ والنَّضير وفَدَك وخيبر يجدون صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - عندهم قبل أن يُبْعث، وأنَّ دار هجرته المدينة، فلما ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت أحبار يهود: ولد أحمدُ الليلةَ، هذا الكوكب قد طلع، فلما تنبأ قالوا: تنبأ أحمد قد طلع الكوكب. كانوا يعرفون ذلك ويقرُون به ويصفونه فما منعهم إلا الحسد والبغي (4) . __________ (1) "طبقات ابن سعد": (1/ 158) وما بعدها، "سيرة ابن إسحاق" ص (29 - 33) تحقيق محمد حميد الله، "تفسير البغوي": (4/ 117 - 119). (2) "الطبقات" لابن سعد: (1/ 159 - 160)، و"دلائل النبوة" لأبي نعيم: (1/ 79). (3) ساقط من "د". (4) "الطبقات": (1/ 160).
(1/213)
وقال محمد بن سعد: أخْبَرَنا علي بن محمد، عن أبي عُبَيْدةَ بن عبد الله، وعبد الله بن محمد بن عمار بن ياسر وغيره، عن هشام بن عروةَ، عن أبيه، عن عائشةَ قالت: سكن يهوديٌّ بمكة يبيع بها تجارات، فلما كانت ليلة ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في مجلس من مجالس قريش: هل كان فيكم من مولود هذه الليلة؟ قالوا: لا نعلمه. قال: انظروا يا معشر قريش وأحصوا ما أقول لكم، ولد هذه الليلة نبيُّ هذه الأمة أحمد، وبه شامة بين كتفيه فيها شعرات. فتصدع القوم من مجالسهم وهم يعجبون من حديثه، فلما صاروا في منازلهم ذكروه لأهاليهم، فقيل لبعضهم: ولد لعبد الله بن عبد المطلب الليلةَ غلامٌ وسمَّاه محمدًا. فأتوا اليهوديَّ في منزله فقالوا: علمتَ أنه ولد فينا غلام؟ فقال: أبعد خبري أم قبله؟ فقالوا: قبله، واسمه أحمد. قال: فاذهبوا بنا إليه، فخرجوا حتى أتوا أُمَّه فأخرجَتْه إليهم فرأى الشامة في ظهره، فَغُشِيَ على اليهودي ثم أفاق، وقالوا: ما لك؟ ويلك! فقال: ذهبت النبوةُ من بني إسرائيل، وخرج الكتابُ من أيديهم، فازتِ العربُ بالنبوَّة، أفَرِحْتُمْ يا معشر قريش؟! أما والله ليسطونَّ بكم سطوة يخرج نبؤها من المشرق إلى المغرب (1) . __________ (1) أخرجه ابن سعد: (1/ 162)، والحاكم: (2/ 601 - 602) وقال "حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" وتعقبه الذهبيُّ.
(1/214)
قال ابن سعد: وأخبرَنَا علي بن محمد بن علي بن مجاهد، عن محمد بن إسحاق، عن سالم (مولى عبد الله بن مطيع، عن أبي هريرة، قال: "أتى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بيت المِدْرَاس، فقال: أخْرِجوا إليَّ أعلمَكم. فقالوا) (1) : عبد الله بن صوريا، فخلا به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فناشده بدينه وبما أنعم الله عليهم وأطعمهم من المَنِّ والسَّلْوى وظلَّلهم من الغمام أتعلم أني رسول الله؟ قال: اللهمَّ نعم، وإنَّ القوم ليعرفون ما أعرفُ، وإن صفَتَك ونَعْتَكَ لمبيَّنٌ في التوراة، ولكن حسدوك. قال: فما يمنعك أنت؟ قال: أكرهُ خلاف قومي عسى أن يَتَّبِعُوك ويُسْلِموا فأُسْلِمَ" (2) . وقال أبو الشيخ الأصْبَهَانِيُّ: حدَثنا أبو يحيى الرَّازي، حدَّثنا سهل بن عثمان، حدَّثنا علي بن مُسهِر، عن داود، عن الشعبيِّ، قال: قال عمر بن الخطاب: كنت آتي اليهود عند دراستهم التوراة فأعجب من موافقة التوراة للقرآن وموافقة القرآن للتوراة، فقالوا: يا عمر ما أحدٌ أحبُّ إلينا منك لأنك تَغْشَانَا، قلتُ: إنما أجيء لأعجب من تصديق كتاب الله بعضه بعضًا، فبينا أنا عندهم ذاتَ يومٍ إذ مرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: هذا صاحبك، فقلت: أنشدكم الله وما أنزل عليكم من الكتاب أتَعْلَمون أنَّه رسول الله؟ فقال سيدهم: قد نشدكم الله فأخْبِرُوه. __________ (1) ما بين القوسين ساقط من "د". (2) طبقات ابن سعد: (1/ 164).
(1/215)
فقالوا: أنت سيدنا فأخْبِرْه. فقال: إنَّا نعلم أنه رسول الله. قلت: فأنَّى أهلككم إنْ كنتم تعلمون أنه رسول الله لِمَ لَمْ تَتَّبِعُوه؟! قالوا: إنَّ لنا عدوًّا من الملائكة، وسِلْمًا من الملائكة؛ عدوُّنا جبريل وهو مَلَكُ الفَظَاظَة والغِلْظَة، وسِلْمُنا ميكائيل وهو ملك الرأفة واللِّين. قلت: فإني أشهد ما يحل لجبريل أن يعاديَ سِلْم ميكائيل، ولا لميكائيل أن يعاديَ سِلْمَ جبريل، ولا أن يسلم عدوه، ثم قمت فاستقبلني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ألا أقرئك آيات نزلت عليَّ قَبْلُ، فتلا: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} الآية [البقرة: 97]. فقلت: والذي بعثك بالحقِّ ما جئتُ إلا لأخبرك يقول اليهود. قال عمر: فلقد رأيتُنِي أشدَّ في دين الله من حَجَر (1) . وذكر أبو نعيم من حديث عَمْرو بن عَبَسَةَ قال: رغبتُ عن آلهة قومي في الجاهلية، وعرفت أنها على الباطل، يعبدون الحجارة وهي لا تضرُّ ولا تنفع، فلقيت رجلًا من أهل الكتاب فسألته عن أفضل الدِّين؟ فقال: يخرج رجل من مكةَ ويرغب عن آلهة قومه، يأتي بأفضل الدين، فإذا __________ (1) أخرجه أيضًا الطبري: (2/ 384 - 385)، والواحدي في "أسباب النزول" ص (27 - 28)، والبغوي في "التفسير": (1/ 80)، وابن أبي شيبة: (14/ 285). وانظر: "العجاب في بيان الأسباب" لابن حجر: (1/ 293). وقال السيوطي في "الدر المنثور": (1/ 477) (تحقيق د. التركي): "مرسل صحيح الإسناد".
(1/216)
سمعتَ به فاتبعه، فلم يكن لي همٌّ إلا مكة آتيها فأسأل: هل حَدَثَ فيها خبر؟ فيقولون: لا، (فأنصرف إلى أهلي وأعترض الرُّكْبَان فأسألهم فيقولون: لا) (1) ، فإني لقاعدٌ إذْ مرَّ بي راكب فقلت: من أين جئتَ؟ قال: من مكة، قلتُ: هل حدث حَدَثٌ فيها؟ قال: نعم، رجلٌ رغب عن آلهة قومه ودعا إلى غيرها، قلت: صاحبي الذي أريد! فشددت راحلتي وجئتُ فأسلمتُ (2) . وقال عبد الغني بن سعيد: حدَّثَنا موسى بن عبد الرحمن، عن ابن جُرَيْج، عن عطاء، عن ابن عباس، وعن مقاتل عن الضحاك، عن ابن عباس: أنَّ ثمانية من أساقفة نجران قَدِمُوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم "العاقب" "والسيد" فأنزل الله تعالى: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} الآية [آل عمران: 61]. فقالوا: أخّرْنا ثلاثةَ أيام، فذهبوا إلى بني قريظةَ والنَّضِير وبني قَيْنُقَاع فاستشاروهم، فأشاروا عليهم أن يصالحوه ولا يلاعنوه، وهو النبيُّ الذي نجده في التوراة والإنجيل، فصالحوا النبي - صلى الله عليه وسلم - على ألف حُلةٍ في صفر، وألف حُلة في رجب ودراهم (3) . وقال يونس بن بُكَيْر: عن قيس بن الربيع، عن يونس بن أبي سالم، عن عِكْرمةَ: أنَّ ناسًا من أهل الكتاب آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يُبْعَثَ فلما __________ (1) ساقط من "د". (2) "دلائل النبوة" لأبي نعيم الأصبهاني: (1/ 257 - 258). (3) انظر: "السيرة النبوية": (1/ 583 - 584)، "تفسير الطبري": (6/ 479 - 480)، "تفسير البغوي": (1/ 362 - 363)، "الكافي الشاف" لابن حجر، ص (26).
(1/217)
بُعِثَ كفروا به (1) . فذلك قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [آل عمران: 106]. وقال ابن سعد: حدثنا محمد بنُ (سعد بنِ) (2) إسماعيل بنِ أبي فُدَيْك، عن موسى بن يعقوب الزَمَعِيّ، عن سهل مولى عُتَيْبَةَ أنَّه كان نصرانيًّا وكان يتيمًا في حِجْر عمِّه وكان يقرأ الإنجيل، قال: فأخذت مصحفًا لعمِّي فقرأته حتى مرَّتْ بي ورقة أنكرتُ كثافتها (3) ، فإذا هي ملصقة ففتقتُها فوجدت فيها نَعْتَ محمد - صلى الله عليه وسلم -، أنه لا قصير ولا طويل، أبيض، بين كتفيه خاتَمُ النبوة، يكثر الاحتبَاءَ، ولا يقبلُ الصدقةَ، ويركبُ الحمارَ والبعيرَ، ويَحْتَلِبُ الشاةَ، ويلبس قميصًا مُرَقَّعًا، وهو من ذرية إسماعيل، اسمه أحمد. قال: فجاء عمي فرأى الورقة (فضربني، وقال: ما لك وفتح هذه الورقة؟) (4) فقلت: فيها نعت النبيِّ أحمد، فقال: إنه لم يأتِ بعدُ (5) . وقال وهب: أوحى الله إلى إشَعْيَا أني مبتعثٌ نبيًّا أفتح به آذانًا صُمًّا وقلوبًا غُلْفًا، أجعل السكينةَ لباسَهُ، والبِرَّ شعارَهُ، والتقوى ضميرَهُ، والحكمةَ معقولَه، والوفاءَ والصِّدْق طبيعتَه، والعفو والمغفرة والمعروف خُلُقَه، والعدلَ سيرته، والحقَّ شريعتَه، والهدى إمامَه والإِسلامَ ملَّتَه، __________ (1) انظر: "دلائل النبوة" لأبي نعيم: ص (40) , "تفسير البغوي": (1/ 402). (2) ليست في "الطبقات". (3) في "الطبقات": "كتابتها". (4) ما بين القوسين ساقط من "د". (5) انظر "الطبقات" لابن سعد (1/ 363)، وانظر: "أعلام رسول الله المنزلة على رسله" لابن قتيبة، لوحة (9).
(1/218)
وأحمدَ اسمَه، أَهدي به بعد الضلالة، وأُعْلِم به بعد الجهالة، وأكثر به بعد القِلَّة، وأجمع به بعد الفُرْقة، وأؤلف به بين قلوبٍ مختلفة وأهواء متشتِّتة وأممٍ مختلفة، وأجعل أمته خير أمة، وهم رعاة الشمس، طوبى لتلك القلوب (1) . وذكر ابن أبي الدنيا من حديث عثمان بن عبد الرحمن: أنَّ رجلًا من أهل الشام من النصارى قَدِمَ مكة، فأتى على نسوةٍ قد اجتمعن في يوم عيد من أعيادهم وقد غاب أزواجهن في بعض أمورهم، فقال: يا نساء تَيْماء: إنه سيكون فيكم نبيٌّ يقال له: أحمد، أيما امرأة منكن استطاعتْ أن تكون له فراشًا فلتفعل، فحفظت خديجة حديثه. وقال عبد المنعم بن إدريس، عن أبيه، عن وَهْب، قال في قصة داود، ومما أوحى الله إليه في الزبور: "يا داود إنه سيأتي من بعدك نبيٌّ يسمى أحمد ومحمد، صادقًا سيدًا، لا أغضب عليه أبدًا, ولا يغضبني أبدًا، قد غفرت له -قبل أن يغضبني (2) - ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر، وأمتُه مرحومةٌ، أعطيتهم من النوافل مِثْلَ ما أعطيتُ الأنبياء، وافترضتُ عليهم الفرائض التي افترضتُ على الأنبياء والرسل، حتى يأتوني يوم القيامة ونورُهم مثل نور الأنبياء، وذلك أني افترضتُ عليهم أن يتطهروا لكل صلاة، كما افترضت على الأنبياء قَبْلَهم، وأمرتهم بالغُسْل من الجنابة كما أمرتُ الأنبياءَ قبلهم، وأمرتُهم بالحج كما أمرتُ الأنبياء قبلهم، وأمرتُهم بالجهاد كما أمرتُ الرسل قبلهم. يا داود إني فضَّلْتُ محمدًا وأمته على الأمم (كلها: أعطيتهم ست __________ (1) المرجع السابق. وانظر: إشعياء: (42/ 2 - 7). (2) في "ب, ص": "يعصيني".
(1/219)
خصال لم أُعطِها غيرهم من الأمم) (1) ، لا أؤاخذهم بالخطأ والنسيان، وكلُّ ذنب ركبوه على غير عَمْدٍ إذا استغفروني منه غفرته لهم، وما قدَّموا لآخرتهم من شيء طيبة به أنفسُهم عجَّلْتُه لهم أضعافا مضاعفة أفضل من ذلك، ولهم في المدخور عندي أضعافًا مضاعفة أفضل من ذلك، وأعطيتهم على المصائب -إذا صبروا واسترجعوا- الصلاةَ والرحمةَ والهدى، فإن دَعَوْني استجبتُ لهم. يا داود من لَقِيَني من أمة محمد يشهد أن لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي صادقًا بها فهو معي في جنتي وكرامتي، ومن لقيني وقد كذَّب محمدًا أو كذَّب بما جاء به واستهزأ بكتابي صَبَبْتُ عليه في قبره العذابَ صَبًّا وضربتِ الملائكةُ وجهَه ودبرَه عند منشره في قبره، ثم أدخله في الدَّرْك الأسفل من النار" (2) . وقال عفان: حدَّثَنا همَّام عن قتادةَ، عن زُرَارةَ بن أبي أَوْفى، عن مطرِّف بن مالك: أنه قال: شهدت فتح تُسْتَر مع الأشعريِّ فأصبنا قبر دَانِيَال بالسُّوس (3) -وكانوا إذا أجدبوا خرجوا فاستسقوا به- فوجدوا معه رقعة فطلبها نَصْرانيٌّ من الحيرة، يسمى نُعَيْمًا، فقرأها وفي أسفلها: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]. فأسلم مَنهم يومئذ اثنان وأربعون حَبْرًا، وذلك في خلافة معاوية، فأتحفهم معاويةُ وأعطاهم. __________ (1) ما بين القوسين ساقط من "د". (2) رواه البيهقي في "الدلائل": (1/ 380). (3) في "د، ص، ب": "بالسُّوَيْن". قال البغدادي: السُّوس بلدة بخوزستان، وجد فيها قبر دانيال فدفن في نهرها تحت الماء، وغمر قبره .. انظر: "مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع" لصفي الدين عبد المؤمن البغدادي: 2/ 755.
(1/220)
قال هَمَّام: فأخبرني بسْطَامُ بنُ مسلم: أنَّ معاويةَ بن قُرَّة قال: تذاكَرْنَا الكتاب إلى ما صار، فمرَّ علينا شَهْرُ بن حَوْشَب فدعوناه، فقال: على الخبير سقطتم: إن الكتاب كان عند كعب فلما احْتُضِرَ قال: ألا رَجُلٌ ائتمنه على أمانةٍ يؤدِّيها؟ قال شهر: فقال ابنُ عمٍّ لي يكنى أبا لبيد: أنا، فدفع إليه الكتاب، فقال: إذا بلغْتَ موضع كذا فاركب قُرْقُورًا ثم اقذف به في البحر، ففعل، فانفرج الماء فقذفه فيه ورجع إلى كعبٍ فأخبره، فقال: صدقتَ، إنَّه من التوراة التي أنزلها الله عزَّ وجلَّ (1) . ومن ذلك أخبار أُميَّةَ بن أبي الصَّلْت الثَّقَفِيِّ، ونحن نذكر بعضها. قال الزُّبير بن بَكَّار: حدثني عمي مُصْعَبٌ، عن مصعب بن عثمان، قال: كان أُمية قد نظر في الكتب وقرأها ولبس المُسُوحَ تعبُّدًا، وكان ممن ذكر إبراهيمَ وإسماعيلَ والحنيفيَّةَ، وحرَّم الخمر والأوثان، والتَمَسَ الدِّين، وطمع في النبوة؛ لأنه قرأ في الكتب أنَّ نبيًّا يُبْعَث مِنَ العرب فكان يرجو أن يكون هو، فلما بعث الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - قيل له: هذا الذي كنت تبشِّر به وتقول فيه، فحسده عدوُّ الله وقال: أنا كنت أرجو أنْ أكونَ هو. فأنزل الله -عز وجل- فيه (2) : {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) } [الأعراف: 175]. وهو الذي يقول: كل دِيْنٍ يومَ القيامةِ عِنْدَ اللهِ ... -إلَّا دِيْنَ الحَنيفة- زُوْرُ __________ (1) أخرجه البيهقي في "دلائل النبوة": (1/ 390 - 391). (2) وانظر: "تفسير البغوي": (2/ 171 - 172). وفي نزول الآية الكريمة أقوال أخرى. انظر: "تفسير الطبري": (13/ 264 - 267)، "تفسير ابن كثير": (2/ 267 - 268)، "البحر المحيط" لأبي حيان: (4/ 423)، "أسباب النزول" للواحدي: ص (261).
(1/221)
قال الزُّبير: وحدَّثني عمر بن أبي بكر المُؤمِّليّ، قال: كان أمية بن أبي الصلت يلتمس الدين ويطمع في النبوة، فخرج إلى الشام (فمرَّ بكنيسة) (1) ، وكان معه جماعة من العرب من قريش وغيرهم، فقال أمية: إنَّ لي حاجةً في هذه الكنيسة فانتظروني. فدخل الكنيسةَ ثم خرج إليهم كَاسِفًا متغيِّرًا، فرمى بنفسه، فأقاموا (2) عليه حتى سُرِّي عنه، ثم مضوا فقضوا حوائجهم، ثم رجعوا فلما صاروا إلى الكنيسة قال لهم: انتظروني، ودخل الكنيسة فأبطأَ، ثم خرج أسوأ مِنْ حاله الأول. فقال له أبو سفيان بن حرب: قد شققت على رفقتك. فقال: خَلُّوني، فإني أرتاد لنفسي وأطلب (3) لِمَعَادي، وإِنَّ هاهنا راهبًا عالمًا أخبرني أنَّه سيكون بعد عيسى ست رجفات، وقد مَضتْ منها خمسٌ وبقيتْ واحدةٌ، فخرجت وأنا أطمع أن أكون نبيًّا وأخاف أن يُخْطِئَني فأصابني ما رأيتَ، فلما رجعتُ أتيته فقال: قد كانت الرَّجفة وقد بُعِثَ نبيّ من العرب فَأَيِسْتُ من النبوة فأصابني ما رأيتَ إذْ فاتني ما كنتُ أطمع فيه (4) . قال: وقال الزُّهْرِيُّ: خرج أمية في سفر فنزلوا منزلًا، فأمَّ أميةُ وجهًا وصعد في كثيب، فرُفِعَتْ (5) له كنيسة فانتهى إليها؛ فإذا شيخ جالس، __________ (1) ساقط من "د". (2) في "د": "فأقبلوا". (3) في "غ": "أنظر". (4) انظر "تاريخ دمشق" لابن عساكر: (9/ 257 - 260)، و"الأغاني" للأصفهاني: (4/ 127) فقد ذكر القصة عن المؤمِّلي. (5) في "ب": "فوضعت".
(1/222)
فقال لأمية حين رآه: إنَّك لمتبوع فمن أين يأتيكَ رئيُّكَ؟ قال: من شِقِّي الأيسر، قال: فأيُّ الثياب أحب إليه أن تلقاه فيها؟ قال: السواد، قال: كدتَ تكون نبيَّ العرب ولستَ به، هذا خاطِرٌ من الجنِّ وليس بِمَلَكٍ، وإنَّ نبيَّ العرب صاحبُ هذا الأمر يأتيه المَلَكُ من شِقِّه الأيمن، وأَحَبُّ الثياب إليه أن يلقاه فيها: البَيَاضُ. قال الزهري: وأتى أميةُ أبا بكرِ فقال له: يا أبا بكر عَمِيَ الخَبَرُ، فهل أحسَسْتَ شيئًا؟ قال: لا والله. قال: قد وجدتُه يخرج في هذا العام. وقال عمر بن شَبَّة: سمعت خالد بن يزيدَ يقول: إنَّ أُمية وأبا سفيان ابن حرب صحباني في تجارة إلى الشام، فذكر نحو الحديث الأول، وزاد فيه: فخرج من عند الرَّاهب وهو ثقيل (1) ، فقال له أبو سفيان: إنَّ بك لَشَرًّا فما قضيتك؟ قال خير، أخبِرْني عن عتبة بن ربيعة كم سِنُّهُ؟ فذكر سِنًّا، قال: أخْبِرْني عن ماله، فذكر مالًا، (فقال له: وَضَعْتَه) (2) ، قال أبو سفيان: بل رفعتُه، فقال: إنَّ صاحب هذا الأمر ليس بشيخٍ ولا ذي مال. قال: وكان الراهب أيأسه، وأخبره أنَّ الأمر لرجلٍ من قريش. قال الزبير: وحدَّثني عمر بن أبي بكر المؤمّلي، قال: حدّثني رجل من أهل الكوفة، قال: كان أمية نائمًا فجاءه طائران، فوقع أحدهما على باب البيت، ودخل الآخر فشق عن قلبه ثم رده الطائر، فقال له الطائر الآخر: أَوَعى؟ قال: نعم. قال: أزَكا؟ قال: أبَى. وقال الزهري: دخل يومًا أمية بن أبي الصلت على أخته (3) وهي تهنأ __________ (1) في "ج": "يقتل". (2) ساقطة من "ب، ج". (3) في "غ": "أخيه وقال".
(1/223)
أُدْمًا لها، فأدركه النوم فنام على سرير في ناحية البيت. قالت: (فانشقَّ جانبٌ من السقف في البيت) (1) وإذا بطائرين قد وقع أحدهما على صدره ووقف الآخر مكانه، فشقَّ الواقعُ صَدْرَه فأخرج قلبه فشقَّه، فقال الطائر الآخر للذي على صدره: أوعى؟ قال: وَعَى؟ قال: أَقَبِلَ؟ قال: أبى، قال: فردَّ قلبه في موضعه ثم مضى، فأتْبَعَهُما أميةُ طَرْفَهُ وقال: لبَّيْكُما لبيكما ها أنذا لديكما، لا بريء فأعتذر، ولا ذو عشيرة فأنتصر. فرجع الطائر فوقع على صدره فشقَّه حتى أخرج قلبه فشقَّه، فقال الطائر الأعلى للواقع: أَوَعَى؟ قال: وَعَى، قال: أَقَبِلَ؟ قال: أَبى. ونهض فأتْبَعَهما أميةُ بصرَه فقال: لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما، لا مال لي يغنيني، ولا عشيرة تحميني. فرجع الطائر فوقع على صدره فشقَّه ثم أخرج قلبه فشقَّه، فقال الطائر الأعلى: أوعى؟ قال: وعى، قال: أَقَبِلَ؟ قال: أبى، ونهض فأتبعه أمية بصره، فقال: لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما، محفوف بالنعم محوط بالذنب. قال فرجع الطائر فوقع على صدره فشقَّه فأَخْرَجَ قلبه فشقَّه، فقال الأعلى: أَوَعَى؟ قال: وَعَى. قال: أَقَبِلَ؟ قال: أبَى. قال: ونهض فأتبعهما طَرْفَهُ قال: لبيكما لبيكما (2) ها أنا ذا لديكما. إنْ تَغْفرِ اللهمَّ تغفر جَمَّا ... وأيّ عبدٍ لك لا أَلَمَّا ثم انطبق السقف (3) وجلس أمية يمسح صدره، فقلت: يا أخي! هل __________ (1) ساقط من "د، ص". (2) في "ب، ص": "ليتكما ليتكما". (3) في "ج، غ، د": "الشقُّ".
(1/224)
تجد شيئا؟ قال: لا، ولكني أجد حرًّا في صدري، ثم أنشأ يقول: لَيْتَنِي كُنْتُ قَبْلَ ما قَدْ بَدَا لِي ... فِي قلَالِ الجبالِ أرعى الوُعُولًا اجْعَلِ الموتَ نُصْبَ عَيْنَيْكَ واحْذَرْ ... غَولَةَ الدَّهْرِ إنَّ للدَّهْرِ غُولًا (1) وقال مروان بن الحكم، عن معاوية بن أبي سفيان، (عن أبي سفيان) (2) بن حرب، قال: خرجت أنا وأُميَّة بن أبي الصَّلْت تجارًا إلى الشام، فكان كلَّما نزلنا منزلًا (3) أخرج منه سِفْرًا يقرؤه، فكنا كذلك حتى نزلنا بقرية من قرى النصارى فرأوه فعرفوه وأهدَوا له، وذهب معهم إلى بيعتهم، ثم رجع في وسط النهار فطرح نفسه، واستخرج ثوبين أسودين فلبسهما، ثم قال: يا أبا سفيان: هل لك في عالِمٍ من علماء النصارى، إليه تَنَاهى عِلْمُ الكتب تسأله عما بدا لك؟ قلت: لا، فمضى هو وحده وجاءنا بعد هَدْأة من الليل فطرح ثوبيه ثم انجدل على فراشه، فوالله ما نام ولا قام حتى أصبح، وأصبح كئيبًا حزينًا ما يكلِّمنا ولا نكلِّمه، فَسَرَيْنَا ليلتين على ما به من الهمِّ. فقلت له: ما رأيتُ مثل الذي رجعتَ به من عند صاحبك! قال: لمنقلبي. قلت: وهل لك من منقلب؟ قال: إي والله لأموتنَّ ولأُحاسبنَّ. قلت: فهل أنت قابل أماني؟ قال: على ماذا؟ قلت: على أنك لا تُبْعَثُ ولا تُحاسَب، فضحك وقال: بلى والله لتبعَثُنَّ ولتُحَاسَبُنَّ، ولتدخُلُنَّ: فريقٌ في الجنة وفريق في السعير. قلت: ففي أيِّهما أنتَ أأخبرَكَ صاحبُك؟ قال: لا علم لصاحبي بذلك فيّ ولا في نفسه. فكنا في ذلك ليلتنا يعجب منا ونضحك منه حتى قَدِمْنا غوطة __________ (1) انظر هذه الأخبار في "الأغاني": (4/ 125 - 132). (2) ساقط من "غ". (3) في "د": "قرية أو بمنزل".
(1/225)
دمشق، فبعْنَا متاعنا وأقمنا شهرين ثم ارتحلنا حتى نزلنا قرية من قرى النصارى، فلما رأوه جاؤوه وأهدَوْا له وذهب معهم إلى بيعتهم، حتى جاءنا مع نصف النهار فلبس ثوبيه الأسودين وذهب حتى جاءنا بعد هَدْأة من الليل فطرح ثوبيه ثم رمى بنفسه على فراشه، فوالله ما نام ولا قام حتى أصبح مبثوثًا (1) حزينًا لا يكلِّمنا ولا نكلِّمه، فرحلنا فسِرْنَا لياليَ، ثم قال: يا صخر حدِّثني عن عتبةَ بنِ ربيعةَ: أيجتنب المحارم والمظالم؟ قلت: إي والله. قال: أَوَ يصل الرَّحِمَ ويأمر بِصِلَتِهَا؟ قلت: نعم. قال: فكريمُ الطَّرَفيْن وسيط في العشيرة؟ قلت: نعم، قال: فهل تعلم قرشيًّا أشرفَ منه؟ قلت: لا والله. قال: أَمُحْوِجٌ هو؟ قلت: لا، بل هو ذو مال كثير. قال: كم أتى له من السنين؟ قلت: هو ابن سبعين أو قد قاربها. قال: فالسنُّ والشَّرَف أزْرَيًا به، قلت: والله بل زاده خيرًا. قال: هو ذاك، ثم إنَّ الذي رأيتَ بي أَنّي جئت هذا العَالِمَ فسألته عن هذا الذي يُنْتَظَرُ، فقال: رجل من العرب من أهل بيتٍ تحجُّه العرب. فقلت: فينا بيت تحجه العرب. قال: هو من إخوانكم وجيرانكم من قريش، فأصابني شيءٌ ما أصابني مثله إذْ خرج من يدي فَوْزُ الدنيا والآخرة، وكنت أرجو أن أكون أنا هو. فقلتُ: فصِفْهُ لي؟ فقال: رجل شاب حين (2) دخل في الكهولة، بَدْءُ أمره أنه يجتنب المحارم والمظالم، ويصل الرَّحِم ويأمر بصلتها، وهو كريم الطرفين (3) ، متوسط في العشيرة، أكثر جنده من الملائكة. قلت: وما آية ذلك؟ قال: رجفت الشام منذ هلك عيسى بنُ مريم عدَّة رجفات كلُّها فيها مصيبة، وبَقِيَتْ رجفةٌ عامة فيها مصيبة، __________ (1) في "غ": "مثبوتًا". (2) في "غ": "حتى"، وفي "د": "حيي". (3) ساقطة من "د". والطرفان هما الأب والأم.
(1/226)
يخرج على أثرها. فقلت: هذا هو الباطل، لئن بعث الله رسولًا لا يأخذه إلا مُسِنًّا شريفًا، قال أمية: والذي يُحْلَفُ به إنه لهكذا. فخرجنا حتى إذا كان بيننا وبين مكةَ ليلتان أدْرَكَنَا راكبٌ مِنْ خَلْفِنا فإذا هو يقول: أصابت الشام (من بعدكم) (1) رجفة دثر أهلها فيها أصابتهم مصائب عظيمة. فقال أمية: كيف ترى يا أبا سفيان؟ فقلت: والله ما أظنُّ صاحبك إلا صادقًا، وقَدِمْنَا مكةَ، ثم انطلقت حتى أتيتُ أرضَ الحبشة تاجرًا ومكثت فيها خمسة أشهر، ثم قدمت مكةَ فجاءني الناس يسلِّمون عليَّ، وفي آخرهم محمدٌ، وهندٌ تلاعب صبيانها، فسلم عليَّ ورحَّب بي، وسألني عن سفري ومقدمي، ثم انطلق. فقلت: والله إنَّ هذا الفتى لعجب ما جاءني من قريش أحدٌ له معي بضاعة إلا سألني عنها وما بلَغَتْ، والله إن له معي لبضاعةً ما هو بأغناهم عنها ثم ما سألني عنها. فقالت: أَوَ ما علمتَ بشأنه؟ فقلت -وفزعت-: وما شأنه؟ قالت: يزعمُ أنه رسول الله. فذكرتُ قَوْلَ النَّصراني فَوَجَمْتُ. ثم قَدِمْتُ الطائف فنزلت على أميَّةَ، فقلت: هل تذكر حديث النَّصراني؟ قال: نعم. فقلت: قد كان. قال: ومَنْ؟ قلت: محمد بن عبد الله، فتصبَّب عَرَقًا. فقلت: قد كان من أمر الرجل ما كان فاين أنت منه؟ فقال: والله لا أو من (2) بنبيٍّ من غير ثقيف أبدًا (3) . __________ (1) ساقط من "د". (2) في "د، ص": "أوتي". (3) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق": (9/ 257 - 260)، والبيهقي في "الدلائل": (2/ 116 - 117)، والطبراني في "الكبير" برقم (7262) وقال الهيثمي في "المجمع" (8/ 232): "رواه الطبراني وفيه مجاشع بن عمرو، وهو ضعيف".
(1/227)
فهذا حديث أبي سفيان عن أميَّة، وذلك حديثه عن هِرَقْل وهو في "صحيح البخاري" (1) ، وكلاهما من أعلام النُّبُوة المأخوذة عن علماء أهل الكتاب. وذكر التِّرمِذِيُّ وغيره من حديث عبدِ الرَّحمنِ بن غَزْوَانَ -وهو ثقة-: أخْبَرَنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن أبيه، قال: خرج أَبو طالب إلى الشام وخرج معه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب حَطُّوا عن رحالهم، فخرج إليهم الراهب وكانوا قبل ذلك يمرُّون به فلا يخرج إليهم ولا يلتفت. قال: فهم يحلُّون رحالهم فجعل يتخلَّلُهم الراهب حتى إذا جاء فأخذ بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: هذا سيد العالمين، هذا رسولُ ربِّ العالمين، يبعثه الله رحمةً للعالمين. فقال له أشياخ من قريش: ما عِلْمُك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم من العَقَبَةِ لم يَبْقَ شجرٌ ولا حجرٌ إلا خرَّ ساجدًا، ولا يسجدون إلا لنبيٍّ، وإني أعرفه بخَاتَمِ النبوة أسْفَلَ من غضروف كَتِفَيْه مثل التفاحة. ثم رجع فصنع لهم طعامًا فلما أتاهم به -وكان هو في رعية الإبل- قال: أرْسِلوا إليه. فأقبلَ وعليه غَمَامَةٌ تُظِلُّه (2) ، فلما دَنَا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة، فلمَّا جلس مَالَ فَيْءُ الشجرة عليه. __________ (1) "صحيح البخاري" كتاب بدء الوحي، باب حدثنا بكير: (1/ 22)، ومسلم في الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (1/ 139 - 142). (2) في "د": "مظللة".
(1/228)
فقال: انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه. قال: فبينا هو قائم عليهم وهو يناشدهم أن لا يذهبوا به إلى الروم؛ فإنَّ الروم إن رأوه عرفوه بالصفة فيقتلونه، وإذا بسبعةٍ قد أقبلوا من الروم، فاستقبلهم، وقال: ما جاء بكم؟ قالوا: بلَغَنَا أن هذا النبيَّ خارج في هذا الشهر فلم يَبْقَ طريق إلا بُعِثَ إليه بأناس، وإنا قد أُخْبِرنا خَبَرَه، فَبُعِثْنَا إلى طريقك هذا. فقال هل خلفكم أحدٌ هو خيرٌ منكم؟ قالوا: إنا قد أُخْبِرْنا خَبَرَه بطريقِكَ هذا. قال: أفرأيتم أمرًا أراد اللهُ أنْ يَقْضِيَهُ فهل يستطِيعُ أحدٌ من الناس ردَّه؟ قالوا: لا، قال: فَبَايَعُوه وأقاموا معه. قال: أنْشُدُكم باللهِ أيُّكم وليُّه؟ قالوا: أَبو طالب، فلم يزل يناشده حتى ردَّه (1) . وقد روى محمَّدُ بنُ سعدٍ هذه القصة مطوَّلة. قال ابن سعد: حدَّثَنَا محمد بن عُمرَ بنِ واقد، حدثنا محمد بن صالح وعبد الله بن جعفر الزُّبَيْرِيّ، قال محمد بن عمر: وحدّثَنا ابن أبي حبيبة عن داود بن الحصين، قال: لما خرج أَبو طالب إلى الشام وخرج معه رسول الله في - صلى الله عليه وسلم - المرة الأولى -وهو ابن ثنتي عشرة سنة-. فلما نزل الركب بُصْرَى من أرض الشام، وبها راهب يقال له بَحِيْرًا في صومعة له، وكان علماء النَّصارى يكونون في تلك الصومعة يتوارثونها عن كتاب يدرسونه، فلما نزلوا على بَحِيْرًا، وكانوا كثيرًا ما يمرون به ولا يكلِّمهم، حتى إذا كان ذلك العام ونزلوا منزلًا قريبًا من __________ (1) أخرجه الترمذي في المناقب، باب ما جاء في بدء نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم -: (5/ 59)، وقال: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه الحاكم على شرط الشيخين وتعقبه الذهبي فقال: أظنه موضوعًا، فبعضه باطل. انظر: المستدرك: (2/ 615).
(1/229)
صومعته قد كانوا ينزلونه قبل ذلك (كلَّما مَرُّوا) (1) ، فصنع لهمِ طعامًا ثم دعاهم، وإنما حمله على دعائهم أنه رآهم حين طلعوا وغمَامَة تُظِلُّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ دونهم حتى نزلوا تحت الشجرة، ثم نظر إلى تلك الغمامة أظلَّت تلك الشجرة فأخضلت أغصان الشجرة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى استظلَّ تحتها، فلما رأى بحيرًا ذلك نزل من صومعته وأمر بذلك الطعام (2) فأُتي به وأرْسَل إليهم، وقال: إني قد صنعت لكم طعامًا يا معشر قريش، وأنا أُحبُّ أن تحضروه كلُّكم، ولا تُخَلِّفوا أحدًا منكم، كبيرًا ولا صغيرًا، حرًّا ولا عبدًا، فإن هذا شيء تكرموني به. فقال رجل: إنَّ لك لشأنًا يا بحيرا ما كُنْتَ تصنعُ هذا فما شأنك اليوم؟ قال: إني أُحبُّ أن أُكْرمَكم ولكم حقٌّ. (فاجتمع القوم) (3) إليه وتخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بين القوم لحداثة سنِّه في رحالهم تحت الشجرة، فلما نظر بحيرَا إلى القوم فلم يَرَ الصفةَ التي يعرفها ويجدها عنده، وجعل ينظر فلا يرى الغَمَامَة على أحد من القوم، ويراها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال بحيرا: يا معشر قريش لا يَتَخَلَّفنَّ منكم أحد عن طعامي؟ قالوا: ما تخلَّف أحدٌ إلا غلام هو أحدث القوم سِنًّا في رحالهم، فقال: ادعوه ليحضر طعامي، فما أقْبَحَ أن تحضروا ويتخلَّفَ رجلٌ واحد مع أني أراه من أَنْفَسِكُم! فقال القوم: هو والله أوسَطُنا نسبًا، وهو ابن أخي هذا الرجل -يعنون أبا طالب- وهو من ولد عبد المطَّلِب، فقال الحارث بن عبد المطَّلب: والله إن كان بنا لَلُؤْمٌ أن __________ (1) ساقط من "د". (2) ساقط من "د". (3) في "د، ص": "فاجتمعوا".
(1/230)
يتخلَّف ابنُ عبد المطَّلِب من بيننا. ثم قام إليه فاحتضنه وأقبل به حتى أجلسه على الطعام، والغَمَامة تسير على رأسه، وجعل بَحِيْرًا يلحظُه لحظًا شديدًا، وينظر إلى أشياءَ في جسدِه قد كان يجدها عنده في صفته. فلما تفرَّقوا عن الطعام قام إليه الراهب فقال: يا غلام أسألك بحق اللَّات والعُزَّى إلا ما أخْبَرْتَنِي عمَّا أسألك؟ فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسألني باللَّات والعُزى، فواللهِ ما أبغضتُ شيئًا بعضَهُما" قال: فبالله إلا أخبرتني عمَّا أسألك عنه، قال: "سَلْنِي عما بَدَا لك". فجعل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يخبره فيوافق ذلك ما عنده، ثم جعل ينظر بين عينيه، ثم كشف عن ظهره فرأى خَاتَمَ النبوة بين كتفيه على الصفة التي عنده، فقبَّل موضع الخاتم. وقالت قريش: إنَّ لمحمدٍ عند هذا الرَّاهب لقَدْرًا. وجعل أبو طالب -لما يرى من الراهب- يخاف على ابن أخيه. فقال الرَّاهب لأبي طالب: ما هذا الغلام منك؟ قال: هو ابني. قال: ما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أَبوه حيًّا، قال: فابن أخي. قال: فما فعل أبوه؟ قال: هَلَكَ وأمُّه حُبْلى به. قال: فما فعلتْ أمُّه؟ قال: تُوُفِّيَتْ قريبًا، قال: صدقتَ، ارجعْ بابن أخيك إلى بلده، واحْذَرْ عليه اليهودَ، فوالله لئن عَرَفُوا منه ما أعرَف ليَبْغُنَّه عَنَتًا، فإنه كائنٌ لابن أخيك هذا شأنٌ عظيم نجده في كتابنا، واعلمْ أنِّي قد أدَّيتُ إليك النصيحةَ. فلما فرغوا من تجارتهم خرج به سريعًا، وكان رجال من يهود قد رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعرفوا صفته، فأرادوا أن يغتالوه، فذهبوا إلى بَحِيْرًا فذكروا له أمره. فنهاهم أشدَّ النهي، وقال لهم: أتجِدُونَ صفته؟ قالوا: نعم. قال: فما لكم إليه سبيل. فصدَّقوه وتركوه، ورجع أبو طالب فما
(1/231)
خرج به سفرًا بعد ذلك خوفًا عليه (1) . وذكر الحَاكِمُ والبَيْهَقِيُّ وغيرهما (2) من حديث عبد الله بن إدريس، عن شُرَحْبيْل بن مسلم، عن أبي أُمامةَ، عن هشام بن العاص، قال: ذهبت أنا ورجل آخر من قريش إلى هِرَقْل -صاحب الروم- ندعوه إلى الإسلام، فخرجنا حتى قدمنا غوطةَ دِمَشْقَ، فنزلنا على جَبَلَةَ بنِ الأَيْهَم الغَسَّاني، فدخلنا عليه فإذا هو على سرير له، فأرسل إلينا برسول نكلِّمه، فقلنا: لا والله لا نكلِّم رسولًا، إنا بُعِثنا إلى الملك، فإن أذِنَ لنا كلَّمناه وإلا لم نكلِّم الرسول، فرجع إليه الرسولُ فأخبره بذلك، قال: فأذِنَ لنا، فقال: تكلَّمُوا، فكلَّمه هشام بن العاص ودعاه إلى الإسلام، وإذا عليه ثياب سوداء (3) ، فقال له هشام: وما هذه التي عليك؟ فقال: لبستُها وحلفتُ أن لا أنزعها حتى أُخْرِجَكم من الشام. قلنا: ومجلسك هذا فواللهِ لنأخذنَّه منك، ولنأخذنَّ مُلكَ المَلِك الأعظم، أخْبَرَنا بذلك نبيُّنا. فقال: لستم بهم، بل هم قوم يصومون بالنهار ويفطرون (4) بالليل، فكيف صومُكم؟ فأخْبَرْنَاه، فَمُلِئ (5) وجهه سوادًا، فقال: قوموا. __________ (1) أخرجه ابن سعد: (1/ 153 - 155)، وابن هشام: (1/ 180 - 182). (2) أخرجه البيهقي في "دلائل النبوة": (1/ 386 - 390)، وقوام السنة في "الدلائل": (3/ 797)، وأَبو نعيم في "الدلائل": (1/ 50 - 55)، وذكره ابن كثير في "التفسير": (3/ 482 - 484) وقال: أورده الحافظ الكبير أبو بكر البيهقي في "دلائل النبوة" عن الحاكم إجازة، وإسناده لا بأس به. وقارن بـ "فتح الباري": (8/ 219) حيث قال: "إسناده ضعيف"، وانظر: "كنز العمال": (10/ 604)، "سبل الهدى والرشاد": (1/ 135). (3) في "غ": "سواد". (4) في "البداية والنهاية": "يقومون". (5) في "ص": "فملأ".
(1/232)
وبعث معنا رسولًا إلى الملك، فخرجْنَا حتى إذا كنا قريبًا من المدينة قال لنا الذي معنا: إنَّ دوابَّكم هذه لا تدخل مدينة المَلِك، فإن (1) شئتم حملناكم على بَرَاذِيْنَ وبِغَالٍ، قلنا: والله لا ندخل إلا عليها، فأرسَلُوا إلى الملك أنهم يأْبَوْنَ (2) . فدخلنا على رواحلنا متقلِّدين سيوفنا حتى انتهينا إلى غرفةٍ له، فأَنَخنَا في أصلها، وهو ينظر إلينا، فقلنا: "لا إله إلا الله، والله أكبر". والله يعلم لقد انتفضت (3) الغرفة حتى (صارت كأنها) (4) عِذْقٌ تَصْفِقُه الرياح، فأرسل إلينا: ليس لكم أن تجهروا علينا بدينكم. وأرسل إلينا أنِ ادخلوا، فدخلنا عليه وهو على فراشٍ له، وعنده بطارقته (5) من الروم، وكل شيء في مجلسه أحمر، وما حوله حمرة، وعليه ثياب من الحمرة. فدنونا منه فضحك، وقال: ما كان عليكم لو حَيَّيْتُموني بتحيتكم فيما بينكم؟ وإذا رجل فصيح بالعربية كثير الكلام. فقلنا: إنَّ تحيتنا فيما بيننا لا تحلُّ لك، وتحيتك التي تُحَيَّا بها لا يحلُّ لنا أن نحيِّيك بها. قال: كيف تحيتكم فيما بينكم؟ فقلنا: السلام عليكم. قال: كيف تحيُّون مَلِكَكم؟ قلنا: بها. قال: كيف يردُّ عليكم؟ قلنا: بها، قال: فما أعظم كلامكم؟ قلنا: "لا إله إلا الله والله أكبر" فلما تكلمنا بها -والله يعلم- لقد انتفضت الغرفة حتى رفع رأسه إليها. قال: فهذه الكلمة التي قلتموها حيث انتفضتِ الغرفةُ، كلَّما قلتموها في بيوتكم تنتفض عليكم بيوتكم؟ قلنا: لا، ما رأيناها فعلت هذا قط إلا عندك. __________ (1) في "غ، ص" زيادة: "فخرجنا حتى إذا قربنا من المدينة قال: إن ... ". (2) في "د": "يأتون". (3) في "ابن كثير": "تنفّضت". (4) في "غ، ص": "صار لها كأنه". (5) في "غ": "بتاركته".
(1/233)
قال: وددت أنكم كلَّما قلتموها ينتفض كل شيء عليكم وإني خرجت من نصف ملكي. قلنا: لِمَ؟ قال: لأنه يكون أيْسَرَ لشأنها وأجدر (1) أن لا تكونَ من أمر النبوة، وأن تكون من حِيَل النَّاس. ثم سَأَلنا عما أراد فأخبرناه. ثم قال: كيف صلاتكم وصومكم؟ فأخْبَرْنَاه، فقال: قوموا، فقمنا، فأمر لنا بمنزلٍ حسن ونُزُلٍ كثير) (2) ، فأقمنا ثلاثًا. فأرسل إلينا ليلًا، فدخلنا عليه، فاستعاد قولنا فأَعَدْناه، ثم دعا بشيء كهيئة الرَّبْعَةِ (3) العظيمة مذهَّبة، فيها بيوت صغار، عليها أبواب، ففتح (4) بيتًا وقُفْلًا واستخرج منه حريرة سوداء فنشرها، فماذا فيها صورةٌ حمراءُ، وإذا فيها رجلٌ ضخم العينين، عظيم الأليتين لم أر مثل طول عنقه، وإذا ليست له لحية، وإذاله ضفيرتان أحسن ما خلق الله. قال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا آدم عليه السلام، وإذا هو أكثر الناس شَعْرًا. ثم فتح بابًا آخر واستخرج منه حريرة (5) سوداء، وإذا فيها صورةٌ بيضاءُ، وإذا له شعر (6) قَطَطٌ، أحمر العينين، ضخم الهامة حَسَنُ اللحية (7) ، قال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا نوح عليه __________ (1) في "غ، ص": "وأحد". (2) ساقط من "د". (3) الإناء المربع. (4) في "د": "ففتحها". (5) في "ص": "حريرًا". (6) ساقطة من "غ". (7) في "ب، ج": "الوجه".
(1/234)
السلام. ثم فتح بابًا آخر فاستخرج منه حريرةً سوداء، وإذا فيها صورة رجل شديد البياض، حَسَنُ العينين، صَلْتُ الجبين، طويل الخدِّ أبيض اللحية كأنه يبتسم. فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال هذا إبراهيم عليه الصلاة والسلام. ثم فتح بابًا آخر فاستخرج حريرة فإذا صورةٌ بيضاء، وإذا -والله- رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: أتعرفون هذا؟ قلنا: نعم، محمد رسول الله وبَكَيْنًا. قال: والله يعلم أنه قام قائمًا، ثم جلس فقال: والله (1) إنه لهو؟ قلنا: نعم، إنَّه لَهُوَ، كأنما ننظر (2) إليه، فأمْسَك ساعةً ينظر إليها ثم قال: أَمَّا إنَّه كان آخر البيوت ولكن عجَّلْتُه لكم لأنظر ما عندكم. ثم فتح بابًا آخر فاستخرج منه حريرةً سوداء، فإذا فيها صورةٌ أدْمَاء سمحاء (3) ، وإذا رجل جَعْدٌ قَطَط، غائر العينين، حديد النظر، عابس متراكب الأسنان، مُقَلِّص الشفة، كأنه غضبان، فقال: هل تعرفون من هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا موسى بن عمران. وإلى جنبه صورةٌ تشبهه إلا أنه مُدْهَانُ الرأس عريض الجبين في عينيه قبلة (4) ، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا هارون. ثم فتح بابًا آخر فاستخرج حريرة بيضاء فإذا (فيها صورة) (5) رجل __________ (1) في "د": "آلله". (2) في "ص، غ": "ينظر". (3) في "ص، غ": "سحماء". (4) في "ب، ج": "قبل". (5) ساقط من "غ، ص".
(1/235)
آدم سَبْط ربعة كأنّه غضبان، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا لوط. (ثم فتح بابًا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء فإذا فيها صورة رجل أبيض مُشْرَب حُمْرةً، أقنى، خفيف العارضين، حسن الوجه، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا إسحاق. ثم فتح بابًا آخر فاستخرج حريرة بيضاء فيها صورة رجل تشبه إسحاق إلا أنه على شفته السفلى خَال، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا يعقوب. ثم فتح بابًا آخر فاستخرج حريرة سوداء فيها صورة رجل) (1) أبيض حسن الوجه، أقنى الأنف، حسن القامة، يعلو وجهه نور (2) ، يعرف في وجهه الخشوع، يضرب إلى الحُمْرة فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا إسماعيل جد نبيِّكم. ثم فتح بابًا آخر فاستخرج حريرة بيضاء فيها صورة كأنها صورة آدم، كأنَّ وجهه الشمس، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا يوسف. ثم فتح بابًا آخر فاستخرج حريرة بيضاء فيها صورة رجل أحمر حَمْش (3) الساقين، أخفش العينين، ضخم البطن ربعة متقلد سيفًا، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا داود. __________ (1) ما بين القوسين ساقط من "ص، غ". (2) في "ب، ج، ص": "نوره". (3) في "غ، ص": "خشن".
(1/236)
ثم فتح بابًا آخر فاستخرج حريرة بيضاء فيها صورة رجل ضخم الأليتين، طويل الرجلين، راكبًا (1) فرسًا، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا سليمان بن داود. ثم فتح بابًا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء فيها صورة بيضاء وإذا رجل شابٌّ شديد سواد اللحية، ليِّن الشعر، حسن الوجه، حسن العينين، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا عيسى. قلنا: من أين لك هذه الصور؟ لأنا نعلم أنها (على ما) (2) صُوِّرتْ عليه الأنبياء؛ لأنا رأينا صورة نبينا مثله؟ قال: إن آدم سأل ربَّه أن يُرِيَه الأنبياءَ من ولده، فأنزل عليه صورهم، وكانوا (3) في خزانة آدم عند مغرب الشمس، فاستخرجها ذو القرنين فصارت إلى دانيال. ثم قال: أما والله إن نفسي طابت بالخروج من مُلْكي وأني كنت عبدًا لأشرّكم (4) ملكةً حتى أموت. ثم أجازنا وأحسن جائزتنا، وسرَّحَنَا (5). فلما أتينا أبا بكر الصدِّيق فأخبرناه بما رأينا وما قال لنا وما أجازنا، فبكى أبو بكر، وقال: لو أراد الله به خيرًا لفعل. فصل فهذا في الإخبار بنبوته مما تلقَّاه المسلمون من أفواه علماء أهل __________ (1) في "غ، ص": "راكب". (2) في "غ، ص": "إنما". (3) في "غ، ص": "كان". (4) في "غ، ص، ب": "لأسرابكم". (5) في "غ، ص": "تسرحنا".
(1/237)
الكتاب والمؤمنين منهم. والأول فيما نقلوه (1) من كتبهم. وعلماؤهم يُقرُّون أنه في كتبهم. فالدليل بالوجه الأول يقام عليهم من كتبهم، وبهذا الوجه يقام بشهادة مَنْ لا يُتَّهم عليهم، لأنه إما من عظمائهم، وإما ممن رغب عن رياسته وماله ووجاهته فيهم، وآثر الإيمان على الكفر، والهدى على الضلال، وهو في هذا مُدَّعٍ أن علماءهم يعرفون ذلك ويُقِرُّون به، ولكن لا يُطْلِعُون جهالهم عليه. فصل فالأخبار والبشارة بنبوته - صلى الله عليه وسلم - في الكتب المتقدِّمة عُرِفَت من عدة طرق: (أحدها) ما ذكرناه. وهو قليلٌ من كثير وغَيْضٌ من فَيْض. (الثاني) إخبارُه - صلى الله عليه وسلم - لهم أنه مذكورٌ عندهم، وأنهم وُعِدُوا به، وأنَّ الأنبياء بشَّرت به، واحتجاجُه عليهم بذلك، ولو كان هذا الأمر لا وجود له البتَّة لكان مغريًا لهم بتكذيبه منفِّرًا لأتباعه، محتجًّا على دعواه بما يشهد ببطلانها. (الثالث) أنَّ هاتين الأُمَّتَيْن معترفون (2) بأنَّ الكتب القديمة بشَّرت بنبي عظيم الشأن، يخرج في آخر الزمان، نعتُه كيت وكيت، وهذا مما اتفق عليه المسلمون واليهود والنصارى. فأمَّا المسلمون؛ فلما جاءهم آمنوا به وصدَّقوه، وعرفوا أنه الحق __________ (1) في "ص، غ": "فعلوه". (2) في "ص": "معرّفوك".
(1/238)
من ربهم. وأمَّا اليهود؛ فعلماؤهم عرفوه وتيقَّنوا (1) أنه محمد بن عبد الله، فمنهم من آمن به، ومنهم من جحد (نبوته، وقالوا لأتباعه) (2) : إنه لم يخرج بعد. وأمَّا النَّصارى؛ فوضعوا بشاراتِ التوراة والنبوات التي بعدها على المسيح. ولا ريب أنَّ بعضها صريحٌ فيه، وبعضُها ممتنعٌ حمله عليه، وبعضها مُحْتَمِلٌ. وأمَّا بشارات المسيح فحملوها كلها على الحواريين، وإذا جاءهم ما يستحيل انطباقه عليهم حرَّفوه، أو سكتوا عنه وقالوا: لا ندري مَنِ المراد به؟ (الرابع) اعتراف من أسلم منهم بذلك وأنه صريح في كتبهم. وعن المسلمين الصادقين منهم تلقَّى (3) المسلمون هذه البشارات وتيقنوا صِدْقَها وصحتَها بشهادة المسلمين منهم بها -مع تباين أعصارهم وأمصارهم وكثرتهم واتفاقهم على لفظها- وهذا يفيد القطع بصحتها ولو لم يقرَّ بها أهل الكتاب، فكيف وهم مُقِرُّونَ بها، لا يجحدونها، وإنما يغالطون في تأويلها والمراد بها؟! وكلُّ واحدٍ من هذه الطرق الأربعة كافٍ في العلم بصحة هذه البشارات، وقد قدمنا أنَّ إقدامه - صلى الله عليه وسلم - على إخبارِ أصحابه وأعدائه بأنه مذكور في كتبهم بنَعْتِه وصفته، وأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم __________ (1) في "ص": "وعرفوا". (2) في "غ، ص": "بنبوته وقالوا للأتباع". (3) في "غ، ص": "تلقاء".
(1/239)
وتَكْرَاره ذلك عليهم مرةً بعد مرة في كل مجمع، وتعريفهم (1) بذلك وتوبيخهم والنداء عليهم به = من أقوى الأدلة القطعيَّة على وجوده من وجهين: "أحدهما": قيام الدليل القطعيِّ على صدقه. "الثاني": دعوته لهم بذلك إلى تصديقه، ولو لم يكن له وجود لكان ذلك من أعظم دواعي تكذيبه والتنفير عنه. فصل وهذه الطرق يسلكها من يساعدهم على أنهم لم يحرفوا ألفاظ التوراة والإنجيل، (ولم يبدِّلوا شيئا منها) (2)، فيسلكها بعض نُظَّار المسلمين معهم من غير تعرُّضٍ إلى التبديل والتحريف. وطائفة أخرى تزعُم أنهم بدَّلوا وحرَّفوا كثيرًا من ألفاظ الكتابين، مع أنَّ الغرض (3) الحامل لهم على ذلك دون الغرض الحامل لهم على تبديل البشارة برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بكثير، وأن البشارات لكثرتها لم يمكنهم إخفاؤها كلِّها وتبديلها، ففَضَحَهم ما عجزوا عن كتمانه أو تبديله. وكيف يُنْكَرُ (4) من الأمة الغضبيَّة -قَتَلَةِ الأنبياء الذين رموهم بالعظائم- أنْ يكتموا (5) نَعْتَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وصِفَتَه، وقد جحدوا نبوة المسيح ورموه وأمَّه بالعظائم، ونعتُه بالبشارة به موجودٌ في كتبهم، ومع __________ (1) في "ص": "وتفريقهم". (2) في "غ، د": "ولم يبدلوها". (3) في "ج": "العارض". (4) في "ص، غ": "تنكر". (5) في "د، غ": "ينكروا".
(1/240)
هذا أطبقوا على جحد نبوته وإنكارِ بشارة الأنبياء به، ولم يفعل بهم ما فعلَه بهم محمد - صلى الله عليه وسلم - من القتل والسَّبْي، وغنيمة الأموال، وتخريب الديار، وإجلائهم منها، فكيف لا تتواصى هذه الأمةُ بكتمان نَعْتِه وصفتِه وتُبَدِّله مِنْ كتبها؟ وقد عاب (1) الله سبحانه عليهم ذلك في غير موضع من كتابه ولعنهم عليه. ومن العجب أنهم والنصارى يقرُّون أن التوراة كانت طول مملكة بني إسرائيل عند الكاهن الأكبر الهاروني وحْدَه، واليهود تقرُّ أن السبعين كاهنًا اجتمعوا على اتِّفاقٍ من جميعهم على تبديل ثلاثةَ عَشَر حرفًا من التوراة، وذلك بعد المسيح في عهد القياصرة الذين كانوا تحت قَهْرِهِم حيث زال المُلْك عنهم، ولم (يَبْقَ لهم) (2) مَلِكٌ يخافونه ويأخذ على أيديهم (3) . ومَنْ رضي بتبديل موضع واحد من كتاب الله فلا يُؤْمَن منه تحريفُ غيره، واليهود تقرُّ أيضًا أنَّ السامرة حرَّفوا مواضع من التوراة وبدَّلوها تبديلًا ظاهرًا وزادوا ونقصوا. والسَّامرةُ تدَّعي ذلك عليهم. وأما الإنجيل؛ فقد تقدَّم أن الذي بأيدي النصارى منه أربع كتب مختلفة من تأليف أربعة رجال: يُوحَنَّا (4) ، ومَتَّى، ومَرْقُسْ، ولُوقًا، فكيف يُنْكَر تطرُّق التبديل والتحريف إليها، وعلى ما فيها من ذلك؛ فقد __________ (1) في "د": "نعى" وتصحفت في "ص، غ" إلى: "بغى". (2) في "ص": "يتولهم". (3) في "د" زيادة: "ومنهم من يقول: بلى، وهو بختنصر، حيث ألزمهم بكتابة التوراة لطائفة من جماعته". (4) في "غ، ص" يكتبها هكذا: "يُحَنَّا" و"مركش".
(1/241)
صرفهم الله عن تبديل ما ذَكَرْنا من البشارات بمحمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - وإزالتِهِ، وإن قدروا على كتمانه عن أتباعهم وجُهَّالهم. وفي التوراة التي بأيديهم من التحريف والتبديل وما لا يجوز نسبته إلى الأنبياء؛ مما لا يشكُّ (1) فيه ذو بصيرة. والتوراةُ التي أنزلها الله على موسى بريئةٌ من ذلك (2) ، ففيها عن لوطٍ -رسولِ الله- أنَّه خرج من المدينة وسكن في كهف الجبل، ومعه ابنتاه، فقالتِ الصغرى للكبرى: قد شاخ أَبونا فَارْقُدي بنا معه لنأخذ منه نسلًا، فرقدتْ معه الكبرى ثم الصغرى، ثم فَعَلَتا ذلك في الليلة الثانية وحَمَلَتَا منه بولدين: مواب (3) وعمون (4) . فهل يحسن أن يكون نبيٌّ رسولٌ كريمٌ على الله يوقعُه الله -سبحانه- في مثل هذه الفاحشة العظيمة في آخر عمره، ثم يذيعها (5) عنه ويحكيها للأمم؟! وفيها: "أنَّ الله تجلَّى لموسى في طورِ سيناء" وقال له بعد كلام كثير: "أدخل يدك في حِجرك وأخْرِجْها مبروصةً كالثلج" (6) . وهذا من النمط الأول، والله سبحانه لم يتجلَّ لموسى، وإنما أمره __________ (1) في "ج": "يكشف". (2) ذكر أبو عبيدة الخزرجي هذا التحريف وأمثلته في كتابه "بين الإسلام والمسيحية"، ص (238) وما بعدها. (3) في "غ، ص": "تواب". (4) كما جاء في سفر التكوين من العهد القديم: (19/ 30 - 37). (5) في "ب، ج": "لم يدفعها". (6) سفر الخروج: (4/ 6 - 8).
(1/242)
أن يُدْخِل يده في جيبه، وأخبره أنَّها تخرج بيضاءَ من غير سُوءٍ. أي من غير بَرَصٍ. وفيها: أنَّ هارون هو الذي صاغ لهم العجل (1) . وهذا -إن لم يكن من زياداتهم وافترائهم فهارون اسم السامري الذي صاغه- ليس هو بهارون أخي موسى. وفيها: أنَّ الله قال لإبراهيم: "اذبح ابنَك بِكْرَك إسحاقَ" (2) . وهذا من بَهْتِهم وزيادتهم في (كلام الله) (3) ، فقد جمعوا بين النقيضين، فإنَّ بكرَه هو إسماعيل؛ فإنه بِكْرُ أولاده، وإسحاق إنما بُشِّر به على الكِبَر بعد قصة الذبح. وفيها: "ورأى الله أن قد كثر فساد الآدميين في الأرض فنَدِم علىِ خلقهم، وقال سأُذهِبُ الآدميَّ الذي خلقتُ على الأرض والخشاش وطيورَ السماء؛ لأني نادم على خلقها (4) جدًّا" (5) ! تعالى الله عن إفك المفترين وعمَّا يقول الظالمون علوًّا كبيرًا. وفيها: أن الله -سبحانه وتعالى علوًّا كبيرًا- تَصَارعَ مع يعقوب فضرب به يعقوبُ الأرضَ (6) . __________ (1) سفر الخروج: (32/ 1 - 6). (2) سفر التكوين: (22/ 1 - 5). (3) في "غ، ص": "كلامهم". (4) في "ص": "خلقتها". (5) سفر التكوين: (9/ 5 - 6). (6) سفر التكوين: (32/ 24 - 29).
(1/243)
وفيها: أنَّ يهوذَا بن يعقوب النبيِّ زوَّج ولدَه الأكبرَ من امرأةٍ يقال لها: تامار، فكان يأتيها مستدبرًا، فغضب اللهُ من فِعْله فأماته، فزوَّج يهوذا ولده الآخر بها، فكان إذا دخل بها أمْنَى على الأرض، عِلْمًا بأنَّه إنْ أولدها كان أولُ الأولاد مدعوًّا باسم أخيه ومنسوبًا إلى أخيه. فكره اللهُ ذلك من فعله فأماته، فأمَرَها (1) يهوذا باللِّحاق ببيت أبيها إلى أن يَكْبر ولدُه شيلا ويَتمَّ عقله. ثم ماتت زوجة يهوذا وذهب إلى منزله (2) ليَجُزَّ غنَمَه، فلما أُخبرت تامار لبست زِيَّ الزَّواني وَجَلَّست على طريقه، فلما مرَّ بها خالها (3) زانيةً، فراودها فطالبته بالأجرة، فوعدها بجَدْيٍ ورمى عندها عصاه وخاتَمَهُ، فدخل بها فعلقت منه بولد. ومن هَذا الولد كان داود النبيّ (4) . فقد جعلوه ولد زنا، كما جعلوا المسيح ولد زنا، ولمِ يَكْفِهِمْ ذلك حتى نسبوا ذلك إلى التوراة، وكما جعلوا وَلَدَي لوط وَلدَي زنا، ثم نسبوا داود وغيره من أنبيائهم إلى ذينك الولدين. وأما فِرْيَتُهم على الله ورسله وأنبيائه، ورَمْيُهم لربِّ العالمين ورسله بالعظائم: فكثيرٌ جدًّا، كقولهم: إن الله استراح في اليوم السابع من خلق السموات والأرض (5) ، فأنزل الله -عز وجل- على رسوله تَكذِيْبَهم بقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ __________ (1) في "غ، ص": "فأمر بها". (2) في "غ، ص، ب": "منزل له". (3) في "د": "ظنّها". (4) سفر التكوين: (38/ 6 - 19). (5) سفر التكوين: (2/ 1 - 2).
(1/244)
لُغُوبٍ} [ق: 38]. أي تعب (1) . وقولهِمِ: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181]، وقولهِم: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، وقولهم: {إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} [آل عمران: 183]، وقولهم: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة: 80]، وقولهِم: إنَّ الله تعالى بكى على الطوفان حتى رَمِدَتْ عيناه وعادَتْهُ الملائكة. وقولهم الذي حكيناه آنفًا: إنَّ الله ندم على خلق بني آدم. وأدخَلُوا هذه الفريةَ في التوراة. وقولهم عن لوط: إنَّه وَطِئَ ابنتيه، وأولدهما وَلَدَيْن نسبوا إليهما جماعة من الأنبياء. وقولهم في بعض دعاء صلواتهم: انتبه كم تنامُ يا ربّ، استيقِظْ من رقدتك (2) . فتجرَّؤوا على ربِّ العالمين بهذه المناجاة القبيحة، كأنهم يَنْخُونَه (3) بذلك لِيَنْتَخِيَ لهم ويحتمي، كأنهم يخبرونه أنه قد اختار الخمول لنفسه وأحبابه، فيهزُّونه بهذا الخطاب للنَّباهة واشتهار الصِّيْت. قال بعض أكابرهم بعد إسلامه (4) : فترى أحدَهم إذا تلا هذه الكلمات في الصلاة يَقْشَعِرُّ جِلْدُه، ولا يشكُّ أنَّ كلامه يقع عند الله بموقعٍ عظيم، وأئَه يؤثر في ربِّه ويحرِّكُه ويهزُّه ويُنْخِيْهِ. __________ (1) من "د" فقط. (2) العهد القديم، المزمور: (78/ 65). (3) في "ج، ص": "يوبخونه" وفي "د": "يناجونه". (4) انظر ص (246) تعليق (9).
(1/245)
وعندهم في توراتهم: "إن موسى صَعِدَ الجبلَ مع مشايخ أمته فأبْصَرُوا اللهَ جهرة، وتحتَ (1) رِجْلَيه كرسيٌّ منظرُه كمنظر البلَّوْر" (2) . وهذا من كذبهم وافترائهم على الله وعلى التوراة. وعندهم في توراتهم: أنَّ الله -سبحانه- لما رأى فسادَ قومِ نوحٍ وأنَّ شرَّهم (قد عَظُم: نَدِمَ) (3) على خلق البشر في الأرض وشقَّ عليه (4) . وعندهم في توراتهم أيضا: أنَّ الله ندم على تمليكه شاؤول على إسرائيل (5) . وعندهم فيها: أنَّ نوحًا لما خرج من السفينة بنى بيتًا (6) مذبحًا وقرَّب عليه قَرَابيْنَ، واستنشق الله رائحة (7) القتار فقال في ذاته: لن أعاود لعنة الأرض بسَبب الناس؛ لأن خاطر البشر مطبوعٌ على الرَّدَاءة، ولن أهلك جميعَ الحيوانِ كما صنعتُ (8) . قال بعض علمائهم الراسخين في العلم ممن هداه الله إلى الإسلام (9) : "لسنا نرى أنَّ هذه الكفريات كانت في التوراة المنزَّلة على __________ (1) في "غ، ص": "تخف". (2) سفر الخروج: (24/ 9). (3) ساقط من "غ، ص". (4) سفر التكوين: (6/ 5 - 6). (5) العهد القديم، صموئيل الأول: (15/ 10). (6) في "غ": "بيته" وفي "ص": "بيتر". (7) في "ص": "رائحته". (8) سفر التكوين: (8/ 20 - 22). (9) هو الحكيم السموأل يحيى بن عباس المغربي المتوفى سنة (570 هـ) من أعاظم أحبارهم قبل إسلامه. وكتابه هو: "بذل المجهود في إفحام اليهود".
(1/246)
موسى. ولا نقول أيضا: إنَّ اليهود قصدوا تغييرها وإفسادها، بل الحقُّ أولى ما اتُّبع" (1) . وقال (2) : "ونحن نذكر حقيقة سبب تبديل التوراة، فإنَّ علماء القوم وأحبارهم يعلمون أنَّ هذه التوراة التي بأيديهم لا يَعْتقِدُ أحدٌ من علمائهم وأحبارهم أنَّها عَيْنُ التوراة المنزَّلة على موسى بنِ عِمْرَانَ البتَّةَ؛ لأن موسى صان التوراةَ عن بني إسرائيل، ولم يبثَّها فيهم خوفًا من اختلافهم من بعده في تأويل التوراة المؤدِّي إلى انقسامهم أحزابًا، وإنما سلَّمها إلى عشيرته أولاد لاوِي. قال: ودليل ذلك: قَوْلُ التوراة ما هذه ترجمته: "وكتب موسى هذه التوراةَ ودفَعَها إلى أئمة بني لَاوِي" (3) . وكان بنو هارون قضاةَ اليهود وحُكَامَهُم، لأنَّ الإمامة وخِدْمةَ القَرَابِيْن والبيت المقدَّس كانت فيهم، ولم يُبْدِ (4) موسى لبني إسرائيل من التوراة إلا نِصفَ سورةٍ ... " (5) . وقال الله لموسى عن هذه السورة: "وتكونُ لي هذه السورة شاهدة على بني إسرائيل، ولا تُنْسَى (6) هذه السورةُ من أفواه أولادهم" (7) . وأما بقية التوراة فدفعها إلى أولاد هارون وجعلها فيهم وصانها عمَّن __________ (1) "بذل المجهود" للسموأل، ص (124). (2) المصدر نفسه ص (124). (3) سفر التثنية: (31/ 9 - 13). وفي "بذل المجهود": "الأئمة بني لاوي". (4) في "بذل المجهود": "ولم يبذل". (5) هنا كلام طواه المصنف اختصارًا. (6) في "غ، ص": "نفسي". (7) سفر التثنية: (32/ 45 - 47). وانظر: "بذل المجهود" للسموأل، ص (125).
(1/247)
سواهم، فالأئمة الهارونيون هم الذين كانوا يعرفون التوراة ويحفظون أكثرها فقتلهم بُخْتَنَصَّر على دم واحد، وأحرق هيكلهم يوم استولى على بيت المقدس، ولم تكن التوراةُ محفوظةً على ألسنتهم، بل كان كلُّ واحدٍ من الهارونيين يحفظ (فصلًا من) (1) التوراة. فلما رأى عُزَيْرٌ أنَّ القوم قد أُحْرِق هيكلُهم وزالتْ دولتُهم وتفرَّق جَمْعُهم ورُفِع كتابُهم، جَمَعَ من محفوظاته ومن الفصول التي يحفظُها الكهنةُ ما لفَّق منه هذه التوراة التي بأيديهم، ولذلك بالغوا في تعظيم عُزَيْر (2) غايةَ المبالغة، وقالوا فيه ما حكاه الله عنهم في كتابه، وزعموا أنَّ النور على الأرض إلى الآن يظهر على قبره عند بطائح العراق، لأنه عَمِلَ لهم كتابًا يحفظ دينهم. فهذه التوراة التي بأيديهم -على الحقيقة- كتابُ عُزَيْر، وإن كان فيها أو أكثرها من التوراة التي أنزلها الله على موسى. قال: وهذا يدل على أنَّ الذي جمع هذه الفصول التي بأيديهم رجلٌ جاهل بصفات الربِّ تعالى، وما ينبغي له، وما لا يجوز عليه؛ فلذلك نسب إلى الربِّ تعالى ما يتقدّس ويتنزَّه عنه (3) . وهذا الرجل يُعْرَفُ عند اليهود والنصاري بعَازَر الورَّاق، ويظنُّ بعض الناس أنه الذي: {مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي __________ (1) في "ص، غ": "فضلًا عن". (2) في "غ، ص": "عزرا". (3) انتهى ما نقله المصنف عن "بذل المجهود" للسموأل من ص (125 - 134) بتصرف يسير.
(1/248)
هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} [البقرة: 259] ويقول: إنه نبي. ولا دليل على هاتين المقدمتين، ويجب التَّثَبُّت في ذلك نفيًا وإثباتًا، فإن كان هذا نبيًّا واسمه عُزَير: فقد وافق صاحبَ التوراةِ في الاسم. وبالجملة: فنحن، وكلُّ عاقلٍ، نقطع ببراءة التوراة التي أنزلها الله على كليمه موسى من هذه الأكاذيب والمستحيلات والتُّرَّهَات، كما نقطع ببراءة صلاة موسى وبني إسرائيل معه من هذا الذي يقولونه في صلاتهم اليوم (1) ، (فإنهم في العشر الأول من المحرَّم في كلِّ سنةٍ يقولون في صلاتهم) (2) ما ترجمته: "يا أبانا املك على جميع أهل الأرض؛ ليقول كل ذي نسمة؛ الله إله إسرائيل قد ملك، ومملكته في الكل متسلطة" (3) . ويقولون فيها أيضا: وسيكون لله الملك، وفي ذلك اليوم يكون الله واحدًا، واسمه واحد (4) . ويعنون بذلك أنه لا يظهر كون الملك له وكونه واحدًا إلا إذا صارت الدولة لهم، فأما مادامت الدولة لغيرهم فإنه تعالى خامل الذكر عند الأمم، مشكوك في وحدانيته، مطعون في ملكه. ومعلوم قطعًا: أنَّ موسى وربَّ موسى بريءٌ من هذه الصلاة بَرَاءتَهُ __________ (1) ساقطة من "د". (2) ساقط من "د". (3) انظر: المزمور: (103/ 19). (4) المزمور: (47/ 2 - 3).
(1/249)
من تلك التُّرَّهات (1) . وجَحْدُهُم نبوةَ محمدٍ من الكتب التي بأيديهم نَظِيْرُ جَحْدِهم نبوة المسيح، وقد صرَّحت باسمه. ففي نصِّ التوراة: "لا يزول الملك من (آل يهوذا) (2) والرَّاسم من بين ظهرانيهم إلى أن يأتي المسيح" (3) . وكانوا أصحاب دولة حتى ظهر المسيح فكذَّبوه ورَمَوْه (4) بالعظائم وبَهَتُوه وبهتوا أمَّه فدمَّر الله عليهم وأزال مُلْكَهم. وكذلك قوله: "جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن (5) من جبال فاران" (6) . فأيُّ نبوةٍ أشرقت من ساعير غير نبوة المسيح. وهم لا ينكرون ذلك، ويزعمون أنَّ قائمًا يقوم فيهم من ولد داود النبيِّ؛ إذا حرَّك شفتيه بالدعاء ماتَ جميعُ الأُمم ولا يبقى إلا اليهود. وهذا المنتظر (7) -بزعمهم- هو المسيح الذي وُعِدُوا به. قالوا: ومن علامة مجيئه أنَّ الذِّئْبَ والتَيْسَ يربضان معًا، وأنَّ البقرة والذئب يرعيان معًا (8) ، وأنَّ الأسد يأكل التِّبْنَ كالبقر. فلما بعث الله __________ (1) انظر: "بذل المجهود"، ص (145 - 146). (2) في "غ": "اليهود". (3) سفر التكوين: (46/ 1). (4) في "غ": "ودمّوه". (5) ما بين القوسين ساقط من "غ، ص". (6) تقدم هذا النص في أكثر من موضع. (7) في "غ، ص": "المستنظر". (8) في "غ، ص": "جميعًا".
(1/250)
المسيحَ كفرُوا به عند مبعثه، وأقاموا ينتظرون متى يأكل الأسدُ التِّبْنَ حتى تصحَّ لهم علامةُ مبعثِ المسيح. ويعتقدون أنَّ هذا المنتظر متى جاءهم يجمعهم بأسرهم إلى القدس، وتصير لهم الدولة، ويخلو العالَم من غيرهم، ويحجم الموتُ عن جنابهم المنيع مدةً طويلة. وقد عوضوا من الإيمان بالمسيح ابن مريم بانتظار مسيح الضلالة الدجَّال، فإنه هو الذي ينتظرونه حقًا، وهم عَسْكَرُهُ وأتْبَعُ الناس له، ويكون لهم في زمانه شوكةٌ ودولة إلى أن ينزل مسيح الهدى ابنُ مريمَ، فيقتل مُنْتَظَرَهُم، ويضع -هو وأصحابه- فيهم السيوفَ حتى يختبئ اليهوديُّ وراء الحجر والشجر، فيقولان: يا مسلم هذا يهوديٌّ ورائي تَعَالَ فَاقْتُلْه (1) . فإذا نظف الأرض منهم ومن عُبَّاد الصليب فحينئذ يرعى الذئب والكبش معًا، ويربضان (2) معًا، وترعى البقرة والذئب معًا، ويأكل الأسد التِّبْن، ويلقى الأمْنُ في الأرض (3) . __________ (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تقوم الساعة حتى ينزل فيكم ابن مريم حكمًا مقسطًا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية". أخرجه البخاري برقم (2344). وأخرج عنه أيضًا برقم (2768): "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، حتى يقول الحجر وراءه اليهودي: يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله". (2) في "ج": "يرتعان". (3) سفر إشعياء: (11/ 1 - 5). وانظر: "بذل المجهود في إفحام اليهود" للسموأل، ص (101 - 105).
(1/251)
هكذا أخبر به إشَعْيًا في نبوته وطابق (1) خَبَرُه ما أخبرَ به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح في خروجِ الدجَّال وقَتْلِ المسيح ابن مريم له، وخروج يأجوج ومأجوج في أثره ومحقهم من الأرض، وإرسالِ البركة والأَمْن في الأرض حتى ترعى الشاة والذئب، وحتى إنَّ الحيَّاتِ والسِّبَاعَ لا تَضُرُّ الناس (2) . فصلوات الله وسلامه على مَنْ جاء بالهدى والنُّورِ وتَفْصيْلِ كل شيء وبيانِهِ. فأهلُ الكتاب عندهم عن أنبيائهم حقٌّ كثير، لا يعرفونه ولا يحسنون أن يضعوه مواضعه. ولقد أكمل الله سبحانه بمحمدٍ -صلوات الله وسلامه عليه- ما أنزله على الأنبياء -عليهم السلام- من الحقِّ وبيَّنه وأَظْهَرَه لأمته، وفَصَّل على لسانه ما أجمله لهم، وشرح ما رَمَزُوا إليه، فجاء بالحقِّ وصدَّق المرسلين، وتمت به نعمة الله على عباده المؤمنين. فالمسلمون واليهود والنصارى تنتظر مسيحًا يجيء في آخر الزمان، فمسيح اليهود هو الدجال، ومسيح النصارى لا حقيقة له، فإنه عندهم إله وابن إله وخالق ومميت ومحيي، فمسيحهم الذي ينتظرونه: هو المصلوبُ المسمَّرُ (3) المكلَّل بالشوك بين اللصوص (4) ، المصفوعُ الذي __________ (1) في "ج": "مطابقًا". (2) انظر: إشعياء: (11/ 6) و (65/ 25). (3) في "غ، ص": "المستمر". (4) هي خشبات يوضع الشيء بينهما، والمقصود خشبة الصليب. وانظر فيما سبق ص (38).
(1/252)
هو مصفعة (1) اليهود، وهو عندهم ربُّ العالمين وخالق السماوات والأرضين. ومسيحُ المسلمينَ الذي ينتظرونه: هو عبد الله ورسولُه ورُوحُه، وكلمتُه ألقاها إلى مريم العذراء البَتُول، عيسى ابنُ مريم، أخو عبدِ الله ورسولِه محمدِ بن عبد الله، فيظهر دين الله وتوحيده، ويقتل أعداءَه عبَّاد الصليب الذين اتخذوه وأمه إلهين من دون الله، وأعداءَه (2) اليهودَ الذين رموه وأُمَّه بالعظائم. فهذا هو الذي ينتظره المسلمون، وهو نازل على المنارة الشرقيَّة بدمشق، واضعًا يديه على منكبي مَلَكَيْن، يراه الناس عِيَانًا بأبصارهم نازلًا من السماء، فيحكم بكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وينفذ ما أضاعه الظَّلَمَةُ والفجرة والخَوَنَةُ من دين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويحيي ما أماتوه. وتَعُود الملل كلُّها في زمانه ملةً واحدةً، وهي مِلَّتُه ومِلَّة أخيه محمد ومِلَّة أبيهما إبراهيم ومِلَّة سائر الأنبياء، وهي الإسلام الذي من يبتغي غيره دينًا فلن يُقْبَلَ منه وهو في الآخرة من الخاسرين. وقد حَمَّل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مَنْ أدركه من أمته السَّلامَ، وأمره أن يقرئه إيَّاه منه، فأخبر عن موضع نزوله بأيِّ بلدٍ وبأي مكانٍ منه، وبحالِهِ وقتَ نزوله، ومَلْبَسِه الذي كان عليه، وأنه ممصَّرتان. أي: ثوبان. وأخبر بما يفعل عند نزوله مفصَّلًا حتى كأنَّ المسلمين يشاهدونه عيانًا قبل أن يروه (3) . __________ (1) في "ص، غ": "صفعة". (2) في "ص، غ": "أعداء". (3) انظر طائفة من الأحاديث في هذا الموضوع مع دراسات موسعة في "التصريح بما تواتر في نزول المسيح" للكشميري، تحقيق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة.
(1/253)
وهذا من جملة الغيوب التي أخبر بها، فوقعت مطابقةً لخبره (1) حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّة، فهذا مُنْتَظَر المسلمين لا منتظر المغضوب عليهم ولا الضالين، ولا منتظر إخوانهم من الرَّوافِضِ المارقين. وسوف يعلم المغضوب عليهم إذا جاء منتظر المسلمين: أنَّه ليس بابن يوسف النجَّار، ولا هو ولد زِنْيَة (2) ، (ولا كان) (3) طبيبًا حاذقًا ماهرًا في صناعته استولى على العقول بصناعته، ولا كان ساحرًا ممخرقًا، ولا مُكِّنوا من صَلْبِه وتسميره وصَفْعِهِ وقَتْلِه؛ بل كانوا أَهْونَ على الله من ذلك. ويعلم الضالون أنَّه ابن البشر، وأنَّه عبد الله ورسوله، ليس بإلهٍ ولا ابن إله، وأنه بَشَّر بنبوَّة محمدٍ أخيه أولًا وحكم بشريعته ودينه آخرًا، وأنه عدو المغضوب عليهم والضالين، ووليُّ رسولِ الله وأتباعه المؤمنين، وما كان أولياؤه (4) الأرجاسَ الأنجاسَ عَبَدَةَ الصُّلْبان والصُّوَر المدهونة في الحيطان، إنْ أولياؤه إلا الموحِّدون عُبَّاد الرحمن، أهل الإسلام والإيمان، الذين نزَّهوه وأمَّه عمَّا رماهما به أعداؤهما (اليهود، ونزَّهوا ربَّه وخالِقَه ومالِكَه وسيِّده عمَّا رماه به أهل) (5) الشرك والسّبِّ للواحد المعبود. فَلْنرجِعْ إلى الجواب على طريق من يقول: إنهم غيَّرُوا ألفاظ الكتب __________ (1) في "غ، ص": "بخبره". (2) في "غ، ص": "زانية" وفي "ب، ج": "ريبة". (3) في "غ، ص": "لأن". (4) في "غ، ص": "أولياء". (5) ما بين القوسين ساقط من "غ، ص".
(1/254)
وزادوا ونقصوا. كما أجبنا على طريق من يقول: إنما غيروا معانِيَهَا وتأولوها على غير تأويلها. قال هؤلاء: نحن لا ندَّعي ولا طائفة من المسلمين أنَّ ألفاظ (1) كلِّ نسخةٍ في العالم غُيِّرَتْ وبُدِّلَتْ؛ بل من المسلمين من يقول: إنه غُيِّر بعضُ ألفاظها قبل مبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وغُيِّرتْ بعضُ النُّسَخ بعد مبعثه، ولا يقولون: إنه غُيِّرت كلُّ نسخةٍ في العالم بعد المبعث؛ بل غُيِّر البعضُ، وظهر عند كثيرٍ من الناس تلك النُّسَخُ المغيَّرَة (2) المبدَّلة دون التي لم تُبَدَّلْ، والنُّسَخُ التي لم تُبَدَّلْ موجودةٌ في العالَم. ومعلومٌ أنَّ هذا مما لا يمكن نَفْيُه والجزم بعدم وقوعه؛ فإنه لا يمكن أحدًا أن يعلم أنَّ كلَّ نسخةٍ في العالم على لفظ واحد بسائر الألسنة، ومَنِ الذي أحاط بذلك علمًا وعقلًا؟! أهل الكتاب يعلمون أنَّ أحدًا لا يمكنه ذلك. وأما من قال من المسلمين: إن التغيير وقع في أول الأمر، فإنهم قالوا: إنه وقع أولًا من عازر الورَّاق، في "التوراة" في بعض الأمور؛ إما عمدًا وإما خطأ، فإنه لم يقم دليل على عصمته، ولا أنَّ تلك الفصول التي جمعها من التوراة بعد احتراقها هي عين التوراة التي أُنزلت على موسى، وقد ذكرنا أنَّ فيها ما لا يجوز نسبته إلى الله، وأنه أنزله على رسوله وكليمه، وتَرَكْنَا كثيرًا لم نذكره. وأما الإنجيل: فهو أربعة أناجيل أُخِذَتْ عن أربعة نفر؛ اثنان منهم __________ (1) ساقطة من "د". (2) ساقطة من "ص، غ".
(1/255)
لم يَرَيَا المسيح أصلًا، وهما: مَرْقُس ولُوقَا، واثنان رأياه واجتمعا به، وهما مَتَّى ويُوحَنَّا، وكل منهم يزيد وينقص ويخالف إنجيلُه (إنجيلَ أصحابه) (1) في أشياء، وفيها ذِكْرُ القولِ ونقيضِه. ففيه أنه قال: "إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي غير مقبولة، ولكن غيري يشهد لي" (2) . وقال في موضع آخر: "إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق لأني أعلم من أين جئتُ وإلى أين أذهب" (3) . وفيه أنه لما استشعر بوثوب اليهود عليه قال: "قد جَزِعَتْ نفسي الآن فماذا أقول؟! يا أبتاه سَلِّمني من هذا الوقت" (4) . وأنه لما رفع على خشبة الصلب صاح صياحًا عظيمًا وقال: "يا إلهي! لِمَ أَسْلَمْتَنِي" (5) ؟! فكيف يجتمع هذا مع قولكم: إنه هو الذي اختار إسلام نفسه إلى اليهود ليصلبوه ويقتلوه رحمةً منه بعباده حتى فداهم بنفسه من الخطايا، وأخرج بذلك آدم ونوحًا وإبراهيم وموسى وجميع الأنبياء من جهنم بالحيلة التي دبَّرها على إبليس؟ وكيف يجزع إله العالم من ذلك؟ وكيف يسأل السلامة منه وهو الذي اختاره ورضيه؟! وكيف يشتد صياحه ويقول: "يا إلهي لِمَ __________ (1) ساقط من "غ، ص". (2) يوحنا: (5/ 31 - 32). (3) يوحنا: (8/ 14 - 15). (4) إنجيل متى: (26/ 37 - 38). (5) إنجيل متى: (27/ 46).
(1/256)
أسْلَمْتَنِي" وهو الذي أسْلَمَ نفسه؟! وكيف لم يُخَلِّصه أَبوه مع قدرته على تخليصه وإنزال صاعقة على الصليب وأهله؟! أم كان ربًّا عاجزًا مقهورًا مع اليهود؟! وفيه أيضًا: "أنَّ اليهود سألتْه أن يُظْهِر لهم برهانًا أنه المسيح، فقال: "تهدمون هذا البيت -يعني بيت المقدس- وأبنيه لكم في ثلاثة أيام، فقالوا له: بيت مبنيٌّ في خمس وأربعين سنة تبنيه أنت في ثلاثة أيام" (1) . ثم ذكرتم في الإنجيل أيضًا: أنه لما ظَفِرَت به اليهود وحُمِل إلى بلاط عامل قيصر واسْتُدْعِيَتْ (2) عليه بَيِّنةٌ أنّ شاهِدَي زُورٍ جاءا إليه وقالا: سمعناه يقول: أنا قادر على بنيان بيت المقدس في ثلاثة أيام (3) . فيالله العَجَب كيف يدَّعي أن تلك المعجزة والقدرة له ويدَّعي أنَّ الشاهدين عليه بها شاهدا زور؟! وفيه أيضًا للوقا: أن المسيح قال لرجلين من تلامذته: اذهبا إلى الحصن الذي يقابلكما، فإذا دخلتماه فستجدان فَلُوًّا (4) مربوطًا لم يركبه أحد فحُلَّاه وأقبلا به إليَّ" (5) . وقال في إنجيل مَتّى في هذه القصة: إنها كانت حمارة متبعة (6) . __________ (1) إنجيل يوحنا: (8/ 18 - 21). (2) في "غ، ص": "استرعيت". (3) إنجيل متى: (26/ 59). (4) الفَلُوّ: المُهْر يُفصل عن أمه. والجمع أفلاء، والأنثى: فلوَّة. والفِلْو لغة فيه. (5) إنجيل لوقا: (19/ 30 - 31). (6) إنجيل متى: (21/ 2 - 3). وفي "د": "متعبة".
(1/257)
وفيه أنه قال: "لا تحسبوا أني قدمت لأُصْلحَ بين أهل الأرض، لم آتِ لصلاحهم، لكن لأُلْقِي المحاربة بينهم؛ إنما قدمت لأفرِّق بين المرء وابنه، والبنت وأمها حتى يصيرَ أعداءُ المرء أهلَ بيته" (1) . ثم فيه أيضًا: "إنما قدمت لتحيوا (2) وتزدادوا خيرًا وأصلح بين الناس" (3) ، وأنه قال: "مَنْ لَطَمَ خدَّك اليمين فانصبْ له الآخر" (4) . وفيه أيضًا أنه قال: "طوبا لك يا شمعون (رأس الجماعة) (5) ، وأنا أقول: إنك ابن الحجر، وعلى هذا الحجر تبني بيعتي، فكل ما أحللتَه على الأرض يكون محلَّلًا في السماء، وما عقدتَه على الأرض يكون معقودًا في السماء" (6) . ثم فيه بعينه بعد أسطر يقول له: "اذهب يا شيطان ولا تعارض، فإنك جاهل". فكيف يكون شيطان جاهل مطاعًا في السموات؟!! وفي الإنجيل نص: "أنه لم تلد النساء مثل يحيى" (7) هذا في إنجيل مَتَّى، وفي إنجيل يُوحَنَّا: "إن اليهود بعثت إلى يحيى من يكشف عن أمره، فسألوه من هو؟ أَهُوَ المسيحُ؟ قال: لا، قالوا: نراك إلياس؟ قال: لا، قالوا: أنت نبيٌّ؟ قال: لا، قالوا: أخبِرْنَا مَنْ أنت؟ قال: أنا صوتُ __________ (1) إنجيل متى: (10/ 34 - 35). (2) في "ص، غ": "ليحيوا". (3) إنجيل يوحنا: (5/ 38 - 39). (4) إنجيل متى: (5/ 40). (5) في "غ، ب، ص": "أين الحمامة". (6) إنجيل متى: (16/ 17 - 19). (7) إنجيل متى: (11/ 11 - 12).
(1/258)
منادٍ (1) المفاوز" (2) . ولا يجوز لنبيٍّ أن ينكر نبوته؛ فإنه يكون مخبرًا بالكذب. ومن العجب أن في إنجيل مَتَّى نسبة المسيح إلى أنه ابن يوسف (3) ، فقال: عيسى بن يوسف بن فلان، ثم عدَّ إلى إبراهيم الخليل تسعة وثلاثين أبًا (4) . ثم نسبه لوقا أيضًا في إنجيله إلى يوسف، وعدَّ منه إلى إبراهيم نيَفًا وخمسين أبًا (5) . فبينا هو إله تام إذ صيَّرُوه ابن الإله، ثم جعلوه ابن يوسف النجار؟!. والمقصود: أنَّ هذا الاضطراب في "الإنجيل" يشهد بأنَّ التغيير وقع فيه قطعًا، ولا يمكن أن يكون ذلك من عند الله، (بل الاختلاف الكثير الذي فيه يدلُّ على أن ذلك الاختلافَ من عند غير الله) (6) . وأنت إذا اعتبرتَ نُسَخَهُ ونُسَخَ التوراة التي بأيدي اليهود والسَّامرة والنَّصارى رأيتَها مختلفةً اختلافًا يقطع مَنْ وقف عليه بأنَّه من جهة التغيير والتبديل. وكذلك نُسَخُ "الزبور" مختلفةٌ جدًّا. ومن المعلوم أنَّ نسخ التوراة والإنجيل إنما هي عند رؤساء اليهود __________ (1) في "ص، غ": "منادٍ في". (2) إنجيل يوحنا: (1/ 19 - 24). (3) في "ج، ص، غ": "يوسف النجار". (4) إنجيل متى: (1/ 1). (5) إنجيل لوقا: (3/ 23). (6) ما بين القوسين ساقط من "د".
(1/259)
والنصارى وليست عند عامتهم، ولا يحفظونها في صدورهم كحفظ المسلمين للقرآن، ولا يمتنع على الجماعة القليلة التواطؤُ على تغيير بعض النسخ، ولاسيما إذا كان بَقيَّئتُهم لا يحفظونها، فإذا قصدتْ طائفةٌ منهم تغيير نسخةٍ أو نُسَخٍ) (1) عندهم أمْكَنَ ذلك، ثم إذا تواطؤوا على أن لا يذكروا ذلك لعوامِّهم وأتباعهم أَمْكَنَ ذلك، وهذا واقعٌ في العالم كثيرًا. فهؤلاء اليهود تواطؤوا وتواصَوا بكتمانِ نبوَّة المسيحِ وجَحْدِ البشارة به وتحريفِهَا، واشتهر ذلك بين طائفتهم في الأرض، مشارقها ومغاربها. وكذلك تواطؤوا على أنه كان طبيبًا ساحرًا ممخرقًا ابنَ زانيةٍ، وتواصوا به مع رؤيتهم الآيات الباهرات التي أُرسل بها وعِلْمِهم أنه أبعد خَلْق الله ممّا رُمي به، وشاع ما تواطؤوا عليه وملؤوا به كتبهم شرقًا وغربًا. وكذلك تواطؤوا على أنَّ لوطًا نكح ابنتيه وأَوْلَدَهُمًا أولادًا وشاع ذلك فيهم جميعهم. وتواطؤوا على أن الله ندم وبكى على الطوفان وعضَّ أنامِلَه، وصارع يعقوب فصرعَهُ يعقوبُ، وأنه راقِدٌ عنهم، وأنهم يسألونه أن ينتبه من رقدته وشاع ذلك في جميعهم. وكذلك تواطؤوا على فصولٍ لفَّقُوها بعد زوال مملكتهم يُصَلُّون بها، لم تعرف (2) عن موسى ولا عن أحد من أتباعه، كقولهم في __________ (1) ما بين القوسين ساقط من "د". (2) في "ص، غ": "يعرف".
(1/260)
صلاتهم: "اللهمَّ اضرب ببوق عظيم لعتقنا (1) . واقبضنا جميعًا من أربعة أقطار الأرض إلى قدسك، سبحانك، يا جامع تشتيت قوم (2) إسرائيل". وقولهم فيها: "اردد حكامنا (3) منا كالأولين وسيرتنا كالابتداء، وابْنِ أورشليم قرية قدسك في أيامنا وأعزَّنا ببنائها، سبحانك، يا باني أورشليم". ولم يكن موسى وقومه يقولون في صلاتهم شيئًا من ذلك. وكذلك تواطؤهم على قولهم في صلاتهم أول العام ما حكيناه عنهم. وكذلك تواطؤهم على شرع صوم إحراق بيت المقدس وصوم حصار (4) وصوم كدليا (5) وفرضهم ذلك، وصوم صلب هامان. وقد اعترفوا بأنهم زادوها لأسباب اقتضتها، وتواطؤوا بذلك على مخالفة ما نصَّتْ عليه التوراة من قوله: "لا تزيدوا على الأمر الذي أنا موصيكم به شيئًا، ولا تنقصوا منه شيئًا" فتواطؤوا على الزيادة والنقصان وتبديل أحكام الله، كما تواطؤوا على تعطيل فريضة الرَّجْم على الزاني وهو في التوراة نصًّا (6) . وكذلك تواطؤهم على امتناع النَّسْخ على الله فيما شرعه لعباده __________ (1) في "غ، ص": "لعذقنا". (2) في "غ، ص": "قومه". (3) في "د" "حكمنا". (4) في "غ، ص": "حصاد" وفي "ج": "حصا". وصوم الحصار: ذكرى حصار بيت المقدس. (5) كان حاكمًا على فلسطين. (6) في "د": "أيضًا".
(1/261)
تمسُّكًا منهم باليهودية، وقد أكذبتهم التوراة وسائر النبوات. ومن العجائب حَجْرُهم على الله أن ينسخ ما شَرَعَه لئلا يلزم البَدَاءُ، ثم يقولون: إنه ندم وبكى على الطوفان وعاد في رأيه وندم على خلق الإنسان! وهذه مضارعة لإخوانهم من عُبَّاد الصليب الذين نزَّهوا رهبانهم عن الصاحبة والولد ثم نسبوهما إلى الفرد الصمد!! ومن ذلك تواطؤهم على أنَّ المُلْكَ يعود إليهم وترجع المِلَلُ كلُّها إلى مِلَّة اليهودية ويصيرون قاهرين لجميع أهل الملل. ومن ذلك تواطؤهم على تعطيل أحكام التوراة وفرائضها، وتركها في جُلِّ أمورهم إلا اليسير منها، وهم معترفون بذلك وأنه أكبر أسباب زوال مُلْكِهم وعِزِّهم. فكيف يُنْكَرُ (1) من طائفة تواطأت على تكذيب المسيح وجَحْدِ نبوَّته، وبَهْتِه وبَهْتِ أُمِّه، والكَذب الصريح على الله وعلى أنبيائه، وتعطيلِ أحكام الله والاستبدالِ بها، وعلى قتلهم أنبياء الله = أن تتواطأ على تحريف بعض التوراة وكتمان نَعْتِ محمدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصفته فيها. وأما أُمَّةُ الضلال وعُبَّادُ الصليب والصُّوَر المزوَّقَة في الحيطان، وإخوانُ الخنازير، وشَاتِمُو خالقهم ورزاقهم أقْبَحَ شَتْمٍ، وجاعلوه مَصْفَعَةَ اليهود، وتواطؤهم على ذلك، وعلى ضروب المستحيلات وأنواع الأباطيل، فلا إله إلا الله الذي أبرز للوجود مِثْل هذه الأمة التي هي أضلُّ من الحمير ومن جميع الأنعام السَّائمة، وخَلَّى بينهم وبين سَبِّه __________ (1) في "غ، ص": "يكبر".
(1/262)
وشَتْمِهِ وتكذيب عبده ورسوله، ومعاداةِ (1) حزبه وأوليائه، وموالاة الشيطان، والتَعوُّض بعبادةِ الصُّوَر والصُّلْبان عن عبادةِ الرحمن الرحيم (2) ، وعنِ قولِ: الله أكبر بالتصليب على الوجه، وعن قِراءة {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( 3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، باللهمَّ أعطنا خبزنا (3) الملائم لنا، وعن السجود للواحد القهَّار بالسجود للصُّوَر المدهونة في الحائط بالأحمر والأصفر واللازورد. فهذا بعض شأن (هاتين الأمتين اللتين عندهما آثار النبوة والكتاب فما الظن بسائر) (4) الأمم الذين ليس عندهم من النبوة والكتاب حِسٌّ ولا خَبَرٌ، ولا عَيْنٌ ولا أَثَر؟! __________ (1) في "ج": "وتكذيب". (2) ليست في "غ، ص". (3) في "د": "خبزنا كفافنا". (4) ما بين القوسين ساقط من "د".
(1/263)
فصل قال السائل: إن قلتم: إنَّ عبد الله بن سلَام وكَعْبَ الأَحبار ونحوهما شهدوا لنا بذلك من كتبهم؛ فهلَّا أتى ابنُ سَلَام وأصحابُه الذين أسلَمُوا بالنُّسَخ التي لهم كي تكونَ شاهدةً علينا! والجواب من وجوه: (أحدها) أن شواهدَ النُّبُوة وآياتِها لا تنحصر فيما عند أهل الكتاب من نعت (1) النبي - صلى الله عليه وسلم - وصفته، بلِ آياتها وشواهدها متنوعة متعددة جدًّا، ونَعْتُه وصفته في الكتب المتقدمة فرْدٌ من أفرادها. وجمهور أهل الأرض لم يكن إسلامهم عن الشواهد والأخبار التي في كتبهم (2)، وأكثرهم لا يعلمونها ولا (سمعوا بها) (3)، بل أسلموا للشواهد التي عاينوها والآيات التي شاهدوها، وجاءت تلك الشواهد التي عند أهل الكتاب مُقَوِّيةً عاضدةً، من باب تقوية البيِّنة وقد تمَّ النِّصَابُ بدونها. فهؤلاء العرب من أولهم إلى آخرهم لم يتوقف إسلامهمِ على معرفة ما عند أهل الكتاب من الشواهد، وإن كان ذلك قد بلغَ بَعْضهم وسمعه منهم قبل النبوة وبعدها، كما كان الأنصار يسمعون من اليهود صفةَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ونَعْتَه ومَخْرَجَه، فلمَّا عاينوه وأبصروه عَرَفُوه بالنعت الذي أخبرهم به اليهود فسبقوهم إليه، فشَرِقَ أعداءُ الله بِرِيْقِهِم وغَصُّوا بمائهم، وقالوا: __________ (1) في "د": "بعث". (2) في "غ، ص": "كتبكم". (3) في "غ، ص": "سمعوها".
(1/264)
ليس هو الذي كنا نَعِدُهُمْ به. فالعلم بنبوة محمدٍ والمسيح وموسى -صلوات الله وسلامه عليهم- لا يتوقف على (العلم بأنَّ مَن قبلهم أخبر بهم وبشَّر بنبوتهم، بل طرقُ العلم بها متعدِّدة) (1) ، فإذا عُرِفتْ نبوةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بطريقٍ من الطرق: ثبتتْ نبوتُه ووجب اتِّباعه، وإن لم يكن (2) مَنْ قَبْلَه بشَّرَ به. فإذا عُلِمَتْ نبوَّتُه بما قام عليها من البراهين؛ فإما أن يكون تبشير مَنْ قبله به لازمًا لنبوته، وإمَّا أن لا يكونَ لازمًا. فإن لم يكن لازمًا: لم يجب وقوعُه، ولا يتوقَّف تصديق النبيِّ عليه، بل يجب تصديقه بدونه. وإن كان لازمًا: عُلِمَ قطعًا أنه قد وقع، وعَدَمُ نَقْلِه إلينا لا يدلُّ على عدم وقوعه؛ إذ لا يلزم من وجود الشيء نَقْلُه العام، ولا الخاصّ، وليس كل ما أخبر به موسى (3) والمسيح وغيرهما من الأنبياء المتقدِّمين وصل إلينا، وهذا مما يعلم بالاضطرار. فلو قُدِّر أنَّ البشارة بنبوته - صلى الله عليه وسلم - ليست في الكتب الموجودة بأيديكم: لم يلزم أنْ لا يكون = (المسيحُ وغيره) (4) بشَّروا به، بل قد يبشرون ولا يُنْقَلُ، ويمكن أن يكون في كتبٍ غيرِ هذه المشهورةِ المتداولة بينكم، فلم يزل عند كلِّ أمةٍ كتبٌ لا يطَّلَع عليها إلا __________ (1) ما بين القوسين ساقط من "غ، ص". (2) في "ب، ج": "يعلم أن". (3) في "ب، ج، ص": "تعالى" ولعله سهو. (4) ساقط من "د".
(1/265)
بعض خاصتهم فضلًا عن جميع عامَّتهم، ويمكن أنه كان في بعضها فأُزِيْلَ منه وبُدِّل، ونُسِخَتِ النُّسَخ من هذه التي قد غُيِّرت واشتهرت بحيث لا يعرف غيرها، وأُخْفِي أمْرُ تلك النسخ الأولى. وهذا كلُّه ممكن، لاسيما من الأمة التي تواطأت على تبديل دين نبيِّها. وشريعته. هذا كلُّه على تقدير عدم البشارة به في شيء من كتبهم أصلًا. ونحن قد ذكرنا من البشارات به -التي في كتبهم- ما لا يمكن لمن له أدْنَى معرفةٍ منهم جَحْدُه والمكابرة فيه، وإن أمْكَنَهُم المغالطةُ بالتأويل عند رَعَاعِهِم وجُهَّالهم. (الوجه الثاني): أنَّ عبد الله بن سلام قد قابل اليهود وأوقفهم (1) بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أنَّ ذِكْرَه ونعته وصفته في كتبهم، وأنهم يعلمون أنه رسول الله، وقد شهدوا بأنه أعلمُهم وابنُ أعلمِهِمْ وخيرُهم وابنُ خَيْرِهم. فلم يضرَّ قولُهم بعد ذلك إنّه شرُّهم وابنُ شرِّهم وجاهلُهم (وابنُ جاهلِهِم) (2) ، كما إذا شهد على رجل شاهدٌ عند الحاكم، فسأله عنه فَعدَّلَه وقال: إنه مقبول الشهادة عَدْل رضى لا يشهد إلا بالحقِّ، وشهادته جائزة عليَّ. فلما أدَّى الشهادة قال: إنه كاذبٌ شاهدُ زورٍ. ومعلومٌ أنَّ هذا لا يقدح في شهادته. وأما كعب الأحبار فقد ملأ الدنيا من الأخبار بما في النبوات المتقدمة من البشارة به وصرح بها بين أظهر المسلمين واليهود والنصارى، وأذّن بها على رؤوس الملأ وصدَّقه مسلمو أهل الكتاب عليها، وأقرُّوه (3) على __________ (1) في "غ، ص": "ووافقهم". (2) ساقط من "غ، ص". (3) في "غ، ص": "أخبروا".
(1/266)
ما أخبر به، وأنه كان أوسعهم علمًا بما في كتب الأنبياء، وقد كان الصحابة يمتحنون ما ينقله ويَزِنُونَه بما يعرفون (1) صِحَّتَه فيعلمون صِدْقَه، وشهدوا له بأنه أصدق الذين يحكون لهم عن أهل الكتاب، أو مِنْ أصْدَقِهم. ونحن اليومَ ننوب عن عبد الله بن سلام، وقد أوجدناكم (2) هذه البشاراتِ في كتبكم، فهي شاهدةٌ لنا عليكم، والكتبُ بأيديكم فَأْتُوا بها فَاتْلُوها إن كنتم صادقين. وعندنا ممن وفقه الله للإسلام منكم من يوافقكم ويُقابلكم ويُحاقِقكم عليها، وإلا فاشهدوا على أنفسكم بما شهد الله وملائكتُه وأنبياؤه ورسلُه وعبادُه المؤمنون به عليكم من الكفرِ والتَّكْذيبِ، والجَحْد للحقِّ، ومعاداةِ الله ورسوله. (الوجه الثالث) أنه لو أتاكم عبد الله بن سلام بكلِّ نسخةٍ متضمِّنةٍ لغاية (3) البيان والصَّراحةِ: لكان في بَهْتِكم وعنادكم وكَذِبكم ما يدفع في وجوهها ويحرِّفُها أنواعَ التَّحريف ما وجد إليه سبيلًا، فإذَا جاءكم بما لا قِبَلَ لكم به قلتم: ليس هو، ولم يأت بعد، وقلتم: نحن لا نفارق حكم التوراة، ولا نتبع نبيَّ الأميِّيْن. وقد صرَّح أسلافكم الذين شاهدُوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وعايَنُوه أنه رسولٌ حقًّا، وأنه (المبشَّر به) (4) ، الموعودُ به على ألسنة الأنبياء المتقدمين. __________ (1) في "ب، غ، ص": "يعرّفهم". (2) في "ب، د": "وجدنا". (3) في "غ، ص": "بغاية". (4) ساقط من "ج".
(1/267)
وقال من قال منهم في وجهه: نشهد أنك نبيٌّ فقال: "ما يمنعك من اتباعي"؟ قال: إنا نخاف أن (يقتلنا يهود) (1) . وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 96، 97]. وقد جاءكم بآيات هي أعظم من بشارات الأنبياء به وأظهر؛ بحيث إنَّ كل آيةٍ منها يصلح أن يؤمنَ على مِثْلها البَشَرُ، فما زادكم ذلك إلا نُفُورًا وتكذيبًا وإباءً لقَبول الحقِّ، فلو نزَّل الله عليكم ملائكته (وكلَّمكم الموتى، وشهد له بالنبوة كلُّ رطْبٍ ويابس) (2) لغلبت عليكم الشِّقْوةُ (3) وصرتم إلى ما سبق لكم في أمِّ الكتاب. وقد رأى من كان أعقلَ منكم وأبْعَدَ من الحسد مِنْ آيات الأنبياء ما رأوا وما زادهم ذلك إلا تكذيبًا وعنادًا، فأسلافُكم وقدوتكم في تكذيب الأنبياء من الأمم لا يحصيهم إلا الله حتى كأنكم تواصيتم بذلك؛ أوصى به الأول للآخر، واقتدى فيه الآخر بالأول. قال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات: 52، 53]. وهبنا ضربنا عن إخبار الأنبياء المتقدمين صَفْحًا أفليس في الآيات والبراهين التي ظهرت على يديه ما يشهد بصحة نبوته؟ وسنذكر منها بعد الفراغ من الأجوبة طرفًا يقطع المعذرة ويقيم الحجة (4) . والله المستعان. __________ (1) في "ج": "يغلبنا اليهود". (2) ساقط من "د". (3) في "غ، ص": "الشقوق". (4) انظر فيما سيأتي القسم الثاني في تقرير نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ص (429) وما بعدها.
(1/268)
فصل وأما المسألة الخامسة فهي قول السائل: إنكم نسبتم الأمتين العظيمتين المذكورتين إلى اختيار الكفر على الإيمان للغرض المذكور؛ فابن سلام وأصحابُه أولى بذلك الغرض، لأنهم قليلون جدًّا، وأضداده كثيرون لا يحصيهم عدد. والجواب من وجوه: (أحدها) أنا قد بينَّا أنَّ جمهور هاتين الأمتين المذكورتين آمن به وصدَّقه، وقد كانوا مِلْءَ الأرض، وهذه الشامُ ومصرُ وما جاورهما واتصل بهما من أعمالهما، والجزيرةُ والمَوْصِلُ وأعمالهما، وأكثر بلاد المغرب (1)، وكثيرٌ من بلاد المشرق، كانوا كلُّهم نصارى، فأصبحت هذه البلاد كلها مسلمين، فالمتخلِّف من هاتين الأمتين عن الإيمان به أقل القليل بالإضافة إلى مَنْ آمن به وصدَّقه. وهؤلاء عبَّاد الأوثان كلُّهم أطبقوا على الإسلام إلا من كان منهم في أطراف الأرض بحيث لم تصل إليه الدعوة، (وهذه أمة المجوس توازي هاتين الأمتين كثرةً وشوكةً وعددًا) (2)، دخلوا في دينه وبقي من بقي منهم كما بقيتم أنتم تحت الذلة والجزية. (الثاني) أنا قد بينا أنَّ الغرض الحامل لهم على الكفر ليس هو مجرَّدَ المأكَلَةِ والرياسة فقط وإن كان من جملة الأغراض؛ بل منهم مَنْ حَمَلَه ذلك، ومنهم من حمله الحَسَدُ، ومنهم من حمله الكِبْر، ومنهم من حمله __________ (1) في "غ، ص": "العرب". (2) في "د": "وعدد كثير".
(1/269)
الهوى، (ومنهم من حمله محبة الآباء والأسلاف وحسن الظن) (1) بهم، ومنهم من حمله أُلْفَةُ (2) الدِّين الذي نشأ عليه وجبل بطبعه فصار انتقاله عنه كمفارقة الإنسان ما طُبع عليه. وأنت ترى هذا السبب كيف هو الغالب المستولي على أكثر بني آدم في إيثارهم ما اعتادوه من المطاعم والمشارب والملابس والمساكن والديانات على ما هو خيرٌ منه وأَوْفَقُ بكثير" (ومنهم من حَمَلَه التقليدُ والجهل) (3) ، وهم الأتباع الذين ليس لهم علم. ومنهم من حمله الخوف من فوات محبوب أو حصول مرهوب (4) . فلم ننسب (5) هاتين الأمتين إلى الغرض المذكور وحده. (الثالث) أنا قد بينَّا أنَّ الأمم الذين كانوا قبلهم (6) كانوا أكثر عددًا وأغزر عقولًا منهم، وكلُّهم اختاروا العَمَى على الهدى، والكفر على الإيمان بعد البصيرة، فلهاتين الأمتين سَلَفٌ كثير، وهم أكثر الخلق. (الرابع) أنَّ عبد الله بن سلام وذويه (7) إنما أسلموا في وقتِ شدَّةٍ من الأمر وقلةٍ من المسلمين وضعفٍ وحاجة، وأهلُ الأرضِ مُطْبقونَ على عداوتهم، واليهودُ والمشركون هم أهل الشوكة والعُدَّةَ والحَلْقة __________ (1) ما بين القوسين ساقط من "د، ص". (2) في "د": "محبة ألفة". (3) ساقط من "ب، ج". (4) في "غ، ص": "مرحوب". (5) في جميع الأصول "تنسب"، ولعلها تصحيف. (6) في "ب" صححت إلى: "عليهم" من نسخة أخرى. (7) في "د": "ومن دونه".
(1/270)
والسلاح، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إذ ذاك قد أَوَوا (1) إلى المدينة، وأعداؤهم يتطلبونهم في كل وجه، وقد بذلوا الرغائب لمن جاءهم بهم، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه وخادمهما (فاستخفوا ثلاثًا) (2) في غار تحت الأرض، ثم خرجوا بعد ثلاث على غير الطريق إلى أن قدموا المدينة، والشوكةُ والعَدد والعُدّة فيها لليهود والمشركين، فأسلم عبد الله بن سلام حين مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة لما رأى أعلام النبوة التي كان يعرفها وشاهدها فيه، وتَرَكَ الأغراضَ التي منعتِ المغضُوبَ عليهم من الإسلام؛ من الرياسة والمال والجاه بينهم. وقد شهدوا له كلهم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه رئيسهم وخيرهم وسيدهم، فَعَلِم أنهم إنْ علموا بإسلامه أخرجوه من تلك الرياسة والسيادة، فأحبَّ أن يعلم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فقال: أدْخِلْني بعضَ بيوتك وسَلْهم عنِّي، ففعل، وسألهم عنه فأخبروه أنه سيدهم ورئيسهم وعالمهم، فخرج عليهم وذكَرهم وأوقفهم على أنهم يعلمون أنه رسول الله، وقابلهم بذلك، فسبُّوه وقدحوا فيه وأنكروا رياسته وسيادته وعلمه. فلو كان عبدُ الله بن سلام ممن يؤثر عَرَضَ الدنيا والرياسة لفعل كما فعله إخوان القردة وأمةُ الغضب والقومُ البُهُتُ. وهكذا شأن من أسلم من اليهود حينئذ. وأما المتخلفون (3) فكثير منهم صرح بغرضه لخاصته وعامته، __________ (1) في "غ، ص": "أوْفَوا". (2) ساقط من "ج". (3) المثبت من "د"، وفي سائر النسخ: "المختلفون".
(1/271)
وقال: إن هؤلاء (القوم قد) (1) عظَّمونا ورأسونا وموَّلونا فلو اتبعناه لنزعوا ذلك كلَّه منا. وهذا قد رأيناه نحن في زماننا وشاهدناه عيانًا. ولقد ناظرتُ بعض علماء النصارى معظم يومٍ فلما تبيَّن له الحقُّ بُهِتَ، فقلت له -وأنا وهو خاليين-: ما يمنعك الآن من اتِّباع الحقِّ؟ فقال لي: إذا قدمت على هؤلاء الحمير -هكذا لفظه- فرشوا لنا الشِّقاق تحت حوافر دابَّتي وحكَّموني في أموالهم ونسائهم ولم يعصوني فيما آمرهم به، وأنا لا أعرف صَنْعة، ولا أحفظ قرآنًا ولا نحوًا ولا فقهًا، فلو أسلمتُ لدُرْتُ في الأسواق أتكفَّف الناس، فمن الذي يطيب نفسًا بهذا؟! فقلت: هذا لا يكون، وكيف تظن بالله أنك (إذا آثرت) (2) رضاه على هواك يخزيك ويُذِلُّك ويحوجك؟! ولو فرضنا أنَّ ذلك أصابك فما ظفرتَ به من الحق والنجاة من النار ومن سخط الله وغضبه فيه أتمُّ العِوَض عما فاتك. فقال: حتى يأذن الله. فقلت: القَدَرُ لا يُحْتَجُّ به، ولو كان القدر حُجَّةً لكان حجةً لليهود على تكذيب المسيح، وحجةً للمشركين على تكذيب الرسل، ولاسيما أنتم تكذِّبون بالقدر فكيف تحتَجُّ به؟ فقال: دعنا الآن من هذا. وأمْسَكَ. __________ (1) ساقط من "د". (2) في "د": "لو أسلمت وآثرت".
(1/272)
(الخامس) أن جوابك في نفس سؤالك؛ فإنك اعترفتَ (1) أن عبد الله ابن سلام وذويه كانوا قليلين جدًّا، وأضدادهم لا يُحْصَوْن كثرةً، ومعلوم أن الغرض الداعي لموافقة الجمهور الذين لا يحصون كثرة -وهم أولو القوة والشوكة- أقوى من الغرض الداعي لموافقة الأقلِّين المستضعفين، والله الموفق. __________ (1) في "ب، ج، ص، غ": "أعطيت".
(1/273)
فصل قال السائل (1): تدخل علينا الريبة من جهة عبد الله بن سلام وأصحابه. وهو أنكم قد بنيتم أكثر أساس (2) شرائعكم في الحلال والحرام والأمر والنهي على أحاديث عوام من الصحابة الذين ليس لهم بحثٌ في علم، ولا دراسةٌ ولا كتابةٌ قبل مبعث نبيِّكم، فابنُ سلامٍ هو وأصحابه أولى أن يؤخذ بأحاديثهم ورواياتهم، لأنهم كانوا أهل علم وبحث ودراسة وكتابة قبل مبعث نبيكم وبعده، ولا نراكم تروون عنهم من الحلال والحرام والأمر والنهي إلا شيئًا يسيرًا جدًّا، وهو ضعيف عندكم. والجواب من وجوه: (أحدها) أنَّ هذا بَهْتٌ من قائله؛ فإنا لم نَبْنِ أساس شريعتنا في الحلال والحرام والأمر والنهي إلا على كتاب ربنا المجيد الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} [فصلت: 42]، (الذي أنزله على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -) (3)، الذي تحدَّى به الأمم كلَّها على اختلاف علومها وأجناسها وطبائعها، وهو في غاية الضعف وأعداؤه طبَّقوا الأرض أن يعارضوه بمثله فيكونوا أولى بالحقِّ منه ويظهر كذبه وصدقهم فعجزوا عن ذلك، فتحدَّاهم (بأن يأتوا بعشر سور مثله فعجزوا) (4)، فتحدَّاهم بأن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا. __________ (1) في المطبوع: "وأما المسألة السادسة فهي قول السائل". (2) ساقط من "ص، غ". (3) ما بين القوسين ساقط من "ج، غ، ص". (4) ساقط من "ص".
(1/274)
هذا وأعداؤه الأدْنَون (1) إليه أفصحُ الخَلْق، وهم أهل البلاغة والفصاحة واللَّسن والنظمِ والنثر والخُطَب وأنواع الكلام، فما منهم من فاه في معارضته ببنت شَفة، وكانوا أحرص الناس على تكذيبه وأشدَّهم أذى له بالقول والفعل والتنفير عنه بكل طريق، فما نُقِل (2) عن أحد منهم سورة واحدة عارَضَهُ بها؛ إلا مسيلمة الكذاب بمثل قوله: يا ضفدع بنت ضفدعين، نقِّي كم تنِقّين، لا الشاربَ تمنعين، ولا الماء تكدِّرين. ومثل: والطَّاحنات طَحْنًا، والعاجنات عجنًا، فالخابزات خبزًا، إهَالَةً وسَمْنًا. وأمثال هذه الألفاظ التي هي بألفاظ أهل الجنون والمعتوهين أشبه منها بألفاظ العقلاء. فالمسلمون إنما بَنَوا أساس دينهم ومعالم حلالهم وحرامهم على الكتاب الذي لم ينزل من السماء كتابٌ أعظمُ منه، فيه بيان كلِّ شيء وتفصيلُ كلِّ شيء وهدًى ورحمة وشفاء لما في الصدور، به هدى الله رسولَه وأمته فهو أساس دينهم. (الثاني) أنَّ قولكم: إنَّ المسلمين بَنَوا أساس دينهم على رواية عوامٍّ من الصحابة = من أعظم البَهْت وأفحش الكذب؛ فإنَّهم وإنْ كانوا أُميِّين (3) ، فمذ بعث الله فيهم رسوله زكَّاهم وعلَّمهم الكتاب والحكمة، وفضَّلهم في العلم والعمل والهدى والمعارف الإلهية والعلوم النافعة المكمِّلة للنفوس على جميع الأمم، فلم تَبْق (4) أمَّةٌ من الأمم تُدَانيهم في __________ (1) في "ب": "الأذلون". (2) في "ب، غ، ص": "يقرّ"، وفي "ب": "نفر". (3) في "د": "أمنين". (4) في "غ، ص": "يبق".
(1/275)
فضلهم وعلومهم وأعمالهم ومعارفهم، فلو قيس ما عند جميع الأمم من معرفة وعلم وهدى وبصيرة إلى ما عندهم: لم يظهر له نسبةٌ إليه بوجهٍ ما، وإن كان غيرهم من الأمم أعلم بالحساب والهندسة، والكَمِّ المتَّصل والكم المنفصل، والنبض والقارورة والبول والغائط (1) ، ووزن الأنهار ونقوش الحيطان، ووضع الآلات العجيبة، وصناعة الكيميا، وعلم الفلاحة، وعلم الهيئة، وتسيير الكواكب، وعلم الموسيقى والألحان، وغير ذلك من العلوم (2) التي هي بين علم لا ينفع وبين ظنون كاذبة، وبين علم نَفْعُه في العاجلة وليس من زاد المعاد. فإن أردتم أنَّ الصحابة كانوا عوامَّ في أصل العلوم فنعم إذًا، "وتلك شَكاةٌ ظاهرٌ عنك عَارُها" (3) . وإن أردتم أنهم كانوا عوامَّ في العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه ودينه وشرعه وتفاصيله (واليوم الآخر وتفاصيله) (4) وتفاصيل ما بعد الموت وعلم سعادة النفوس وشقاوتها، وعلم صلاح القلوب وأمراضها = فمن بَهَتَ نبيَّهم بما بهته به وجحد نبوته ورسالته التي هي للبصائر أظهر من الشمس للأبصار = لم ينكر له أن يبهت أصحابه __________ (1) في "ج": "الفائط". وفي "غ": "القنبطة". وفي "د": "القسطة". والقُسْط: بخور معروف عند العرب. (2) ساقطة من "د". (3) هذا عجز بيت من الشعر لأبي ذؤيب الهذلي، وصدره: وعيَّرها الواشون أنّي أحبُّها ... انظر: "ديوان الهذليين" ص (21). و"ظاهر عنك": لا يعلق بك. أي إن ما عيّرها به الواشون من محبته لها ليس عارًا يستحيا منه، وإنما هو مفخرة. (4) ما بين القوسين ساقط من "غ، ص".
(1/276)
ويجحد فضلهم ومعرفتهم، وينكر ما خصَّهم الله به وميَّزهم على مَنْ قبلهم، ومن هو كائن مِنْ بعدهم إلى يوم القيامة؟! وقد كان الحواريون الذين نقلوا لأتباع المسيح معالم دينه وسيرة المسيح، لا يعلمون شيئًا (من ذلك، حتى منَّ الله بالمسيح، وشاهدوا ما خصَّه الله به من الآيات، وأظهر على يده المعجزات، وكمّل نفوسهم بالعلوم الإلهية والفضائل النفسانية، فصاروا يفعلون ما نقله الجمُّ الغفير إلينا عنهم من العجائب، ويدوِّنون العلوم. كلُّ ذلك ببركته. وكذلك هؤلاء - أعني الصحابة رضي الله عنهم) (1) . وكيف يكونون عوامَّ في ذلك وهم أذكى الناس فطرةً وأزكاهم نفوسًا، وهم يتلقَّونه غضًّا طريًّا ومحضًا لم يُشَبْ عن نبيهم، وهم أحرص الناس عليه وأشوقهم إليه، وخبر السماء يأتيهم على لسانه في ساعات الليل والنهار والحضر والسفر، وكتابُهم قد اشتمل على علومِ الأولين والآخرين، وعلمِ ما كان من المبدأ والمعاد، وتخليق العالم وأحوال الأمم الماضية، والأنبياء وسِيَرِهم وأحوالهم مع أُممهم، ودرجاتهم ومنازلهم عند الله، وعددهم، وعدد المرسلين منهم، وذِكْرِ كتبهم، وأنواع العقوبات التي عذَّب الله بها أعداءهم، وما أكرم به أتباعَهم، وذِكْرِ الملائكَة وأصنافهم وأنواعهم وما وكلوا به واستعملوا فيه، وذِكْرِ اليوم الآخر وتفاصيل أحواله، وذكر الجنة (وتفاصيل نعيمها والنار وتفاصيل عذابها) (2) ، وذكر البَرْزخَ وتفاصيل أحوال الخلق فيه (3) ، وذكر أشراط __________ (1) ما بين القوسين من "د" فقط. (2) في "غ، ص" هكذا: "والنار، وتفاصيل نعيم الجنة وتفاصيل عذاب النار". (3) من قوله "وذكر البرزخ ... " ساقط من "غ، ص".
(1/277)
الساعة والإخبار بها مفصلًا بما لم يتضمنه كتاب غيره من حين قامت الدنيا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، كما أخبر به المسيح عنه من قوله في الإنجيل وقد بشَّرهم به فقال: "وكل شيء أعدَّه الله تعالى لكم يخبركم به" (1) وفي موضع آخر منه: "ويخبركم بالحوادث والغيوب" (2) . وفي موضع آخر: "ويعلمكم كل شيء" (3) وفي موضع آخر منه: "يحيي لكم الأسرار، ويفسر لكم كل شيء، وأجيئكم بالأمثال وهو يجيئكم بالتأويل" (4) وفي موضع آخر: "إن لي كلامًا كثيرًا أريد أن أقوله لكم ولكنكم لا تستطيعون حمله، لكن إذا جاء روح الحق ذلك يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بما يسمع، ويخبركم بكل ما يأتي، ويعرفكم جميع ما للأب" (5) . فمَنْ هذا عِلمُه بشهادة المسيح، وأصحابه يتلقَّون ذلك جميعه عنه، وهم أذكى الخلق وأحفظهم وأحرصهم، كيف تدانيهم أمة من الأمم في هذه العلوم والمعارف؟. ولقد صلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا صلاةَ الصُّبْح ثم صعد المنبر فَخَطَبَهُمْ حتى خَضَرتِ الظهر، ثم نزل فصلَّى، وصعد فخطبهم حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلَّى وخطبهم حتى حضرتِ المغرب، فلم يَدَعْ شيئًا إلى قيام السَّاعة إلا أخبرهم به. فكان أَعْلَمُهم أحْفَظَهم (6) . __________ (1) إنجيل يوحنا: (16/ 13). (2) الموضع نفسه. (3) السابق: (16/ 14). (4) إنجيل يوحنا: (16/ 25). (5) إنجيل يوحنا: (16/ 12 - 13). (6) أخرجه مسلم في الفتن، باب إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما سيكون: (4/ 2217).
(1/278)
وخطبهم مرة أخرى خُطْبةً فذكَرَ بَدْأ الخلق حتى دخل أهلُ الجنَّة منازلَهم وأهلُ النار منازلهم (1) . وقال يهوديٌّ لسَلْمان: لقد علَّمكم نبيُّكم كلَّ شيء حتى الخراءة! قال: أجل (2) ؟!. فهذا اليهوديُّ كان أعلم بنبيِّنا من هذا السائل وطائفته! وكيف يُدَّعى في أصحاب نبيِّنا أنهم عوام، وهذه العلوم النافعة المبثوثة في الأمة -على كثرتها واتساعها وتفنن ضروبها- إنما هي عنهم مأخوذة، ومن كلامهم وفتاويهم مستنبطة؟ وهذا عبد الله بن عباس كان من صبيانهم وفتيانهم وقد طَبَّقَ الأرض علمًا، وبلغت فتاويه نحوًا من ثلاثين سِفْرًا، وكان بحرًا لا يَنْزِف، لو نزل به أهلُ الأرض لأوسعهم علمًا، وكان إذا أخذ في الحلال والحرام والفرائض يقول القائل: لا يحسن سواه، (فإذا أخذ في تفسير القرآن ومعانيه يقول السامع: لا يحسن سواه) (3) ، فإذا أخذ في السنَّة والرواية عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يقول القائل: لا يحسن سواه، فإذا أخذ في القصص وأخبار الأمم وسِيَر الماضين فكذلك، فإذا أخذ في أنساب العرب وقبائلها وأصولها وفروعها فكذلك، فإذا أخذ (4) في الشِّعر والغريب فكذلك (5) . __________ (1) أخرجه البخاري في بدء الخلق، باب ما جاء في قوله تعالى "وهو الذي يبدأ الخلق": (6/ 286 - 287)، ومسلم في الموضع السابق نفسه. (2) أخرجه مسلم في الطهارة: (1/ 223). (3) ساقط من "غ، ج" وكأنه انتقال نظر من الناسخ. (4) ساقطة من "ج". (5) انظر: "الاستيعاب في معرفة الأصحاب" لابن عبد البر: (3/ 939).
(1/279)
قال مجاهد: العلماء أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقال قتادة في قوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: 6]. قال: هم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - (1) . ولما حضر معاذًا الموتُ قيل له: أَوْصِنَا. قال: أجْلِسُوني، إنَّ العلم والإيمان (بمكانهما مَنِ اقتفاهما وجدهما) (2) عند أربعةِ رَهْطٍ: عند عُوَيْمر أبي الدَّرْدَاء، وعند سَلْمانَ الفَارِسيّ، وعند عبدِ الله بنِ مسعودٍ، وعند عبد اللهِ بنِ سَلَام، فإنّي سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّه عاشِرُ عَشْرةٍ في الجنَّةِ" (3) . وقال أبو إسحاق السَّبِيْعيّ: قال عبد الله: علماء الأرض ثلاثة؛ فرجل بالشام، وآخر بالكوفة، وآخر بالمدينة. فأما هذان فيَسْألان الذي بالمدينة، والذي بالمدينة لا يَسْألُهما عن شيء (4) . وقيل لعليِّ بن أبي طالب: حدِّثْنا عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: عن أيِّهم؟ قالوا: عن عبد الله بن مسعود، قال: قرأ القرآنَ وعَلِم السنَّة، ثم انتهى، وكفى بذلك. __________ (1) انظر: "تفسير البغوي": (3/ 594)، "الدر المنثور": (5/ 226). (2) ساقط من "غ، ص". (3) أخرجه الترمذي في المناقب، باب مناقب عبد الله بن سلام: (5/ 671) وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب"، وعبد الرزاق في المصنف برقم (20164). (4) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق": (13/ 173)، والذهبي في "سير أعلام النبلاء": (2/ 343) وقال: "إسناده ضعيف". والمراد بعالم الكوفة: عبد الله بن مسعود، وعالم الشام أبو الدرداء، وعالم المدينة علي بن أبي طالب، كما في رواية الذهبي.
(1/280)
قالوا: فحدِّثْنا عن حذيفةَ: قال: أعْلَمُ أصحاب محمد بالمنافقين. قالوا: فأبو ذَرٍّ؟ قال: كُنَيْفٌ (1) مُلِئَ عِلْمًا عُجِنَ فيه. قالوا: فعمَّار؟ قال: مؤمنٌ نَسِيٌّ إذا ذكَّرْتَه ذَكَر، خَلَطَ الله الإيمانَ بلحمه ودمه، ليس للنار فيه نصيب. قالوا: فأبو موسى؟ قال: صُبِغَ في العلم صبغةً. قالوا: فسَلْمان؟ قال: عَلِم العِلْم (2) الأول والآخر، بحر لا يَنْزِحُ، هو منَّا أهلَ البيت. قالوا: فحدِّثْنا عن نفسك يا أمير المؤمنين؟ قال: إيَّاها أردتم، كنت إذا سُئِلتُ أعطيتُ، وإذا سكتُّ ابتديت (3) . وقال مسروق: شافهتُ (4) أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فوجدت عِلْمَهم ينتهي إلى ستة؛ إلى عليٍّ، وعبد الله، وعمر، وزيد بن ثابت، وأبي الدرداء، وأُبيِّ بن كعب، ثم شافهت الستة فوجدت علمهم ينتهي إلى علي وعبد الله (5) . وقال مسروق: جالست أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - وكانوا كالإخاذ؛ __________ (1) في "ب": "كنف". والكنيف: الوعاء. (2) ساقطة من "ج". (3) أخرجه ابن سعد في "الطبقات": (2/ 346). (4) في "ص، ب": "شاممت" ومعناها: قاربتُ وعرفت ما عندهم بالاختبار والكشف. (5) أخرجه ابن سعد: (2/ 351)، والذهبي في "سير أعلام النبلاء": (2/ 443)، وإسناده حسن.
(1/281)
الإخاذ يُرْوي الرَّاكب، والإخاذ يُروي الرَّاكِبَيْن، والإخاذ يُرْوي (1) العشرة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم، وإنَّ عبد الله من ذلك الإخاذ (2) . وفي "الصحيح" عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بَيْنَا أنا نائمٌ أُتِيْتُ بقَدَحِ لَبَنٍ، فَشَرِبْتُ منه حتى أرى الرِّيَّ يخرجُ من أظْفَارِي، ثم أَعطَيْتُ فَضْلِيَ عُمَرَ" فقالوا: فما أوَّلْتَ ذلك يا رسولَ اللهِ، فقال: "العِلْمَ" (3) . وقال عبد الله (4) : إني لأَحْسَبُ أنَّ عمر بن الخطَّاب قد ذهب بتسعة أعشار العلم (5) . وقال عبد الله: لو أنَّ عِلْم عمرَ بنِ الخطَّاب وضع في كِفَّة الميزان، ووضع عِلْمُ أهل الأرض في كِفَّةٍ لَرَجَحَ عِلْمُ عُمَرَ (6) . وقال حذيفة بن اليمان: كأنَّ عِلْمَ الناس مع علم عمر دُسَّ في جُحْر (7) . وقال الشَّعْبِيُّ: قضاةُ هذه الأمة (8) أربعةٌ: عمر، وعليٌّ، وزيد، وأبو موسى. __________ (1) ساقط من "ب، ج". (2) أخرجه ابن سعد: (2/ 342 - 343)، والذهبي في "السِّير": (1/ 493). (3) أخرجه البخاري في العلم، باب فضل العلم: (1/ 52) (طبعة المنيرية)، ومسلم في فضائل الصحابة، باب فضائل عمر رضي الله عنه: (4/ 1859). (4) سقط هذا الأثر من "غ، ص". (5) أخرجه ابن سعد في "الطبقات": (2/ 336). (6) أخرجه ابن سعد: (2/ 336). (7) المصدر السابق نفسه. (8) ساقطة من "ج، د".
(1/282)
وقال قَبيْصَةُ بنُ جابر: ما رأيت رجلًا قط أعْلَمَ بالله، ولا أقْرَأَ لكتاب الله، ولا أفْقَهَ في دين الله مِنْ عُمَرَ (1) . وقال عليٌّ: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن، وأنا حديث السنِّ، ليس لي علم بالقضاء. فقلت: إنك تُرْسِلُني إلى قومٍ يكون فيهم الأحداث، وليس لي علم بالقضاء. قال: فضرب في صدري، وقال: "إنَّ الله سَيَهْدِي (2) قَلْبكَ ويُثَبِّتُ لسانَك". قال: فما شككت في قضاءٍ بين اثنين بعده (3) . وفي "الصحيح" عن عبد الله بن مسعود قال: كنت أرعى غنمًا لعُقْبَةَ بن أبي مُعَيْط، فمرَّ بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر، فقال لي: "يا غلام! هل من لبن؟ " فقلت: نعم، ولكني مؤتمن، قال لي: "فهل من شاةٍ لم يَنْزُ عليها الفَحْلُ"؟ قال: فأتيتُه بشاةٍ فمسح ضَرْعَهَا، فنزل لبنٌ فحَلَبَه في إناءٍ، فشَرِبَ وسَقَى أبا بكر، ثم قال للضَّرْع: "اقلُصْ" فقَلَص، قال: ثم أتيته بعد هذا، فقلت: يا رسولَ الله علِّمْني من هذا القول، فمسح رأسي، وقال: "يَرْحَمك اللهُ، إنَّك غُلَيِّمٌ (4) مُعَلَّم" (5) . __________ (1) أخرجه ابن سعد في "الطبقات": (3/ 351)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق": (5/ 450)، والذهبي في "سير أعلام النبلاء": (2/ 434). (2) في "ص، غ": "سيهديك ويهدي". (3) أخرجه أبو داود في الأقضية، باب كيفية القضاء: (4/ 11)، وابن ماجه في الأحكام، باب ذكر القضاة: (2/ 774)، والترمذي في الأحكام، باب ما جاء في القاضي ... : (3/ 618)، وأحمد في "المسند": (1/ 83). (4) في "ب، ج": "غلام". وقوله: "غُلَيِّم" تصغير غلام. و"معلَّم": موفَّق من الله تعالى للتعلُّم، أو ستكون معلِّمًا. (5) أخرجه الإمام أحمد: (1/ 379)، وابن حبان برقم (7061)، وأبو يعلى برقم =
(1/283)
وقال عُقْبَةُ بنُ عامرٍ (1) : ما أرى أحدًا أعْلَمَ بما أُنْزِل على محمدٍ من عبد الله. فقال أبو موسى: إنْ تَقُلْ ذلك فإنه كان يسمع حين لا نَسمع، ويَدْخلُ حين لا نَدْخُل (2) . وقال مَسْرُوقٌ: قال عبد الله: ما أُنْزِلَتْ سورةٌ إلا وأنا أعلم فيما أنزلت، ولو أَنّي أعلم أنَّ رجلًا أعْلَمُ بكتاب الله مني تبلُغُه الإِبِل والمَطَايَا لأتَيْتُه (3) . وقال عبدُ الله بن بُرَيْدَة في قوله عز وجل: {حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا} [محمد: 16]. قال: هو عبد الله بن مسعود (4) . وقيل لمسروق: كانت عائشة تُحْسِنُ الفَرائِضَ؟ قال: والله لقد رأيتُ الأكابرَ من أصحابِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألونها عن الفَرائِضِ (5) . وقال أبو موسى: ما أشكل علينا -أصحابَ محمد - صلى الله عليه وسلم -- حديثٌ قَطّ __________ = (5096) والطبراني في الكبير برقم (8456)، والبيهقي في "الدلائل": (8416). (1) في "غ، ص، ب": "عمر"، وفي "ج": "عتبة بن عمر". (2) أخرجه ابن سعد: (2/ 342). (3) أخرجه مسلم في فضائل الصحابة، باب فضائل عبد الله بن مسعود: (4/ 1913). (4) انظر: "تفسير البغوي": (4/ 156 - 157)، "تفسير القرطبي": (16/ 238)، "الدر المنثور": (6/ 50). (5) أخرجه الترمذي في المناقب، باب فضل عائشة رضي الله عنها: (10/ 380). وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب"، والحاكم: (4/ 11) على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
(1/284)
فَسَأَلْنَا عائشةَ إلا وَجَدْنَا عندها منه عِلْمًا (1) . وقال شَهْرُ بن حَوْشَب: كان أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - إذا تحدَّثوا وفيهم معاذ بن جبل نظروا إليه هَيْبَةً له (2) . وقال عليّ بن أبي طالب: أبو ذر وعاء مُلِئَ علمًا، ثم وُكِيَ عليه، فلم يخرج منه شيء حتى قُبِضَ (3) . وقال مسروق: قَدِمْتُ المدينة فوجدت زيد بن ثابت من الرَّاسخين في العلم (4) . ولما بلغ أبا الدرداء مَوْتُ عبدِ الله بنِ مسعودٍ قال: أما إنِّه لم يُخَلِّف بعده مِثْلَه (5) . وقال أبو الدرداء: إنَّ من الناس من أُوتي علمًا ولم يُؤْتَ حِلْمًا، وشدَّادُ بنُ أَوْسٍ ممن أُوتِيَ عِلْمًا وحِلْمًا (6) . ولما مات زيد بن ثابت قام ابن عباس على قبره، وقال: هكذا يذهب العلم (7) . __________ (1) أخرجه الترمذي في الموضع نفسه. (2) أخرجه أبو نعيم في "حلية الأولياء": (1/ 231)، وذكره ابن الجوزي في "صفة الصفوة": (1/ 495). (3) أخرجه ابن سعد: (2/ 354). (4) أخرجه ابن سعد: (2/ 36). وذكره ابن عبد البر في ترجمته من الاستيعاب. (5) انظر: "سير أعلام النبلاء": (1/ 493). (6) أبو نعيم في "الحلية": (1/ 264). (7) أخرجه ابن سعد: (2/ 361).
(1/285)
وضمَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ابنَ عباسٍ وقال: "اللهمَّ عَلِّمْه الحِكْمَةَ وتَأْوِيْلَ الكِتَاب" (1) . وقال محمد بن الحَنَفِيَّة لما مات ابن عباس: لقد مات رَبَّانِيُّ هذه الأمة (2) . وقال (عُبَيْدُ اللهِ بنُ) (3) عبدِ الله بنِ عُتْبَةَ: ما رأيتُ أحدًا أعْلَمَ بالسنَّة ولا أجْلَدَ رأيًا ولا أَثْقَبَ نَظَرًا -حين يَنْظُر- من ابن عباس (4) . وكان عُمَرُ بنُ الخطَّاب يقول له: قد طرأتْ علينا عُضَل أقضيةٍ أنت لها ولأمثالها، ثم يقول عُبَيْدُ الله: وعُمَرُ عُمَرُ في جدِّه، وحُسْنِ نظره للمسلمين (5) . وقال عطاء بن أبي رباح: ما رأيت مجلسًا قط أكْرَمَ من مجلس ابن عبَّاس: أكثر فقهًا وأعظم جفنة، وإنَّ أصحاب الفقه عنده، وأصحاب القرآن عنده، وأصحاب الشعر، يُصْدِرُهم كلَّهم في وادٍ واسع (6) . وكان عمر بن الخطاب يسأله مع الأكابر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودعَا له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يَزِيْده الله علمًا وفقهًا (7) . __________ (1) أخرجه بنحوه البخاري في فضائل الصحابة، باب ذكر ابن عباس: (7/ 100). (2) أخرجه ابن سعد: (2/ 368)، والحاكم: (3/ 535)، وابن عبد البر: (3/ 934). (3) ساقط من "غ، ص". (4) رواه ابن سعد: (2/ 368). (5) رواه ابن سعد: (2/ 369). (6) انظر: "فضائل الصحابة" للإمام أحمد: (2/ 978). (7) المرجع السابق، "الاستيعاب" لابن عبد البر: (3/ 935).
(1/286)
وقال عبد الله بن مسعود: لو أنَّ ابن عباسٍ أدرك أسْنَانَنَا ما عَشَرَه منَّا رجل. أي: ما بلغ عُشْرَه (1) . وقال ابن عباس: ما سألني أحدٌ عن مسألة إلا عرفت أنَّه فقيه أو غير فقيه. وقيل له: أنَّى أصبتَ هذا العلم؟ قال: بلسان سَؤول، وقلبٍ عَقُول. وكان يسمى البحر؛ من كثرة علمه (2) . وقال طاووس: أدركت نحو خمسين مِنْ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ذَكَرَ لهم ابنُ عبَّاسٍ شيئًا فخالفوه، لم يزل بهم حتَّى يقرِّرَهُم (3) . وقال الأَعْمَشُ: كان ابن عباس إذا رأيتَه قلتَ: أجملُ النَّاس، فإذا تكلم قلتَ: أفْصَحُ الناس، فإذا حدَّث قلتَ: أَعْلَمُ الناس (4) . وقال مجاهد: كان ابن عباس إذا فسَّرَ الشيء رأيتَ عليه النُّور. وقال ابن سيرين: كانوا يَرَوْنَ أنَّ الرجل الواحد يعلم من العلم ما لا يعلمه الناس أجمعون. قال ابن عون: فكأنَّه رآني أنكرتُ ذلك! قال: فقال: أليس أبو بكرٍ كان يَعْلَمُ ما لا يعلمُ النَّاسُ؟ ثم كان عمر يعلم ما لا يعلم الناس (5) ؟! __________ (1) أخرجه الحاكم: (3/ 537) وصححه على شرط الشيخين، وابن سعد: (2/ 366)، وابن عبد البر: (3/ 935). (2) انظر: فضائل الصحابة: (2/ 977)، حلية الأولياء: (1/ 318). (3) انظر: "سير أعلام النبلاء": (3/ 351)، "الاستيعاب في معرفة الأصحاب" لابن عبد البر: (3/ 935). (4) "سير أعلام النبلاء": (3/ 351)، "الاستيعاب في معرفة الأصحاب" لابن عبد البر: (3/ 935). (5) "طبقات ابن سعد": (2/ 336).
(1/287)
وقال عبد الله بن مسعود: لو وُضِعَ عِلْم أحياء العرب في كِفَّة وعِلْمُ عُمَرَ في كِفَّة لَرَجَحَ بهم عِلْمُ عمر. قال الأعمش: فذكروا ذلك لإبراهيم فقال: عبدُ الله إنْ كنَّا لَنَحْسبُه قد ذهب بتسعة أعشار العلم (1) . وقال سعيد بن المسيِّب: ما أعلم أحدًا من الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعْلَمَ من عُمَرَ بنِ الخطَّاب (2) . وقال الشَّعبِيُّ: قضاةُ الناس أربعة: عمر، وعليٌّ، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري (3) . وكانت عائشة رضي الله عنها مقدمة في: العلم، والفرائض، والسنن والأحكام، والحلال والحرام، والتفسير. قال عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْر: ما جالستُ أحدًا قط أعْلَمَ بقضاءِ، ولا بحديثِ الجاهليَّة، ولا أروى للشِّعر، ولا أعْلَمَ بفريضةٍ ولا طبٍّ مِنْ عائشة (4) . وقال عطاء: كانت عائشةُ أعلمَ النَّاس وأَفْقَهَ النَّاس (5) . وقال البخاريُّ في "تاريخه": روى العِلْمَ عن أبي هريرةَ ثمانمائة رجلٍ، ما بين صاحب وتابع (6) . وقال عبد الله بن مسعود: إنَّ الله نَظَرَ في قُلوب العبادِ، فوجد قَلْبَ __________ (1) تقدم قبل قليل. (2) انظر: "طبقات ابن سعد": (2/ 351). (3) تقدم قبل قليل. (4) أخرجه الحاكم: (4/ 11). وانظر: "سير أعلام النبلاء": (2/ 183). (5) المصدر نفسه. (6) انظر: "التاريخ الكبير" للبخاري: (3/ 62).
(1/288)
محمدٍ خَيْرَ قلوب العبادِ، فاصطفاه وبعثَهُ برسالتِهِ، ثم نَظَر في قلوبِ العبادِ (1) بَعْدَ قلبِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فَوَجَد (قلوبَ أصحابهِ) (2) خَيْرَ قلوبِ العبادِ، فَجُعِلُوا وُزَرَاءَه (3) . وقال ابنُ عبَّاسٍ في قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59] قال: هم أصحابُ محمد - صلى الله عليه وسلم - (4) . وقال ابنُ مسعودٍ: من كان منكم مُسْتَنًّا فليستَنَّ بمَنْ قد ماتَ؛ فإنَّ الحيَّ لا يُؤْمَنُ عليه الفِتْنَةُ، أولئك أصحابُ محمدٍ، أَبَرُّ هذه الأمة قلوبًا، وأعْمَقُها علمًا، وأقلُّها تكلُّفًا، قومٌ اختارهم الله لإقامةِ دينِه وصُحْبَةِ نبيِّه، فاعْرِفُوا لهم حقَّهم، وتَمسَّكُوا بِهَدْيهم؛ فإنَّهم كانوا على الهدى المستقيم (5) . وقد (6) أثنى اللهُ -سبحانه- عليهم بما لم يُثْنِهِ على أمةٍ من الأمم سواهم، فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} أي عُدولًا خيارًا. وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ __________ (1) في "غ، ص" بعدها: "واصطفى من بعد". (2) ساقط من "د". (3) أخرجه الإمام أحمد: (1/ 379). قال الهيثمي: "رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير ورجاله موثقون". انظر: "مجمع الزوائد": (1/ 177). (4) رواه الطبري: (20/ 2). وانظر: "تفسير البغوي": (2/ 409)، "تفسير ابن كثير": (3/ 370). (5) أخرجه أبو نعيم في "حلية الأولياء" من قول عبد الله بن عمر: (1/ 305). وانظر: "البداية والنهاية" لابن كثير: (20/ 433) (تحقيق الدكتور التركي). (6) سقط من طبعة دار القلم حتى قوله "قال الشافعي" ص (291).
(1/289)
وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]. وقال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] وهم محمد وأصحابه. وصحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أنتم تُوَفُّون سبعين أمّةً أنتم خَيْرُهَا وأكْرَمُهَا على الله - عزَّ وجلَّ" (1) . وقال تعالى (2) : {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]. وقال مالكٌ عن نافع: كان ابنُ عبَّاسٍ وابنُ عُمَر يجلسان للنَّاس عند قدوم الحاجِّ، وكنت أجلس إلى هذا يومًا وإلى هذا يومًا، فكان ابنُ عبَّاس يجيبُ ويُفْتِي في كلِّ ما يُسْأَلُ عنه، وكان ابنُ عُمَرَ يردُّ أَكْثَرَ __________ (1) أخرجه الإمام أحمد: (4/ 447)، وابن ماجه في الزهد، باب صفة أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -: (2/ 1433) والبغوي في "التفسير": (1/ 404). قال الهيثمي في "المجمع" (10/ 397): "رواه أحمد ورجاله ثقات". (2) تكررت الآية الكريمة في "غ، ص".
(1/290)
ممَّا يُفْتِي (1) . قال مالك: وسمعتُ "أنَّ مُعَاذَ بنَ جَبَل يكون أمام العلماء بِرَتْوَةٍ" (2) . يعني: يكون أمامهم يومَ القيامة برَمْيَةِ حَجَر (3) . وقال مالك: أقام ابن عُمَرَ بعد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ستين سنةً يُفْتي الناس في الموسم وغير ذلك، وكان من أئمة الدين (4) . وقال عمر لِجَرِيْرٍ: يرحمك الله إنْ كنتَ لسيِّدًا في الجاهليَّة، فقيهًا في الإسلام! وقال محمد بن المُنْكَدِر: ما قَدِمَ البَصْرَةَ أحد أفْضَلَ من عِمْرانَ بنِ حُصَيْن (5) . وكان لجابر بنِ عبد الله حلقةٌ في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُؤْخَذُ عنه العلم. والعلم إنما انتشر في الآفاقِ عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهم الذين فتحوا البلادَ بالجهادِ، والقلوبَ بالعلمِ والقرآنِ، فملؤوا الدنيا خيرًا وعِلْمًا، والناسُ اليومَ في بقايا آثارِ عِلْمهم (6) . قال الشَّافِعيُّ في "رسالته" -وقد ذكر الصحابة فعظَّمهم وأثنى عليهم __________ (1) انظر: "سير أعلام النبلاء": (3/ 222). (2) المصدر السابق: (1/ 449). (3) ساقطة من "غ، ص". (4) "سير النبلاء": (3/ 221). (5) "المستدرك" للحاكم: (3/ 472) وصححه ووافقه الذهبي. (6) إلى هنا انتهى السقط الذي أشرت إليه قبل قليل.
(1/291)
ثم قال-: وهم فوقَنا في كلِّ علمٍ واجتهادٍ، وورعٍ وعَقْلٍ، وأمر استُدْرِك به عِلمٌ، وآراؤهم لنا أحْمَدُ وأولى بنا من آرائنا، ومَنْ أدركنا ممن نرضى أو حكي لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم يعلموا فيه سنة إلى قولهم إن اجتمعوا أو قول بعضهم إن تفرَّقوا، وكذلك نقول ولم نخرج من أقاويلهم كلِّهم. وقال الشافعيُّ: وقد أثنى الله على الصحابة في التوراة والإنجيل والقرآن، وسبَقَ لهم على لسان نبيِّهم - صلى الله عليه وسلم - من الفضل ما ليس لأحدٍ بعدهم (1) . وقال أبو حنيفة: إذا جاء عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن الصحابة نختار مِنْ قولهم ولم نَخْرج عنه (2) . وقال ابن القاسم: سمعت مالكًا يقول: لما دخل أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشَّام نظر إليهم رجلٌ من أهل الكتاب فقال: ما كان أصحابُ عيسى ابنِ مريمَ الذين قُطِّعوا بالمناشير وصُلِّبوا على الخشب بأشدَّ اجتهادًا من هؤلاء (3) . __________ (1) انظر: "الرسالة" للإمام الشافعي، ص (596) وما بعدها ففيها هذا المعنى، وأشار المصنف رحمه الله إلى أن هذا في كتاب الرسالة البغدادية. انظر: "أعلام الموقعين": (1/ 80). (2) رواه الصيمري في "أخبار أبي حنيفة وصاحبيه"، ص (10 و 11)، والموفق المكي في "مناقب أبي حنيفة" ص (80 - 81)، والسيوطي في "تبييض الصحيفة"، ص (29)، وذكره الذهبي في "مناقب أبي حنيفة وصاحبيه"، ص (32 - 33). (3) انظر: "أعلام الموقعين" للمصنف رحمه الله: (2/ 309)، "الاستيعاب" لابن عبد البر: (1/ 13).
(1/292)
وقد شهد لهم الصادقُ المَصْدُوق الذي لا يَنْطِق عن الهوى: بأنهم خير القُرون على الإطلاق (1) . كما شهد لهم ربُّهم -تبارك وتعالى- بأنهم خير الأُمم على الإطلاق (2) . وعلماؤهم وتلاميذهم هم الذين ملؤوا الأرض عِلمًا، فعلماء الإسلام كلُّهم تلاميذُهم وتلاميذُ تلاميذِهم وهلمَّ جرًّا. وهؤلاء الأئمة الأربعة الذين طبَّق عِلْمُهم الأرض شرقًا وغربًا هم تلاميذُ تلاميذِهم. وخيارُ ما عندَهم ما كان عن الصحابة، وخيارُ الفقه ما كان عنهم، وأصحُّ التفسير ما أُخِذ عنهم. وأما كلامُهم في باب معرفة الله وأسمائه وصفاته، وأفعاله، وقضائه وقدره؛ ففي أعلى المراتب؛ فمن وقف عليه وعرف ما قالَتْه الأنبياءُ عَرفَ (3) أنه مشتقٌّ منه مُتَرْجَم عنه، وكلُّ علمٍ نافعٍ في الأمة فهو مُسْتنبَطٌ من كلامهم ومأخوذٌ عنهم. وهؤلاء تلاميذهم وتلاميذ تلاميذهم؛ قد طبَّقتْ تصانيفُهم وفتاويهم الأرضَ. فهذا مالكٌ جمعت فتاويه في عِدَّة أسفار، وكذلك أبو حنيفة، وهذه تصانيف الشافعيِّ تقارب المائة، وهذا الإمام أحمد بلغت فتاويه وتآليفه نحو مائة سِفْر، وفتاويه عندنا في نحو عشرين سِفْرًا، وغالب تصانيفه، بل كلُّها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن الصحابة والتابعين. __________ (1) كما في حديث: "خيركم قرني ثم الذين يلونهم ... " أخرجه البخاري في فضائل الصحابة، باب فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: (4/ 1964). (2) في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]. انظر: "تفسير البغوي": (1/ 403 - 404). (3) ساقطة من "غ، ص".
(1/293)
وهذا علَّامتهم (1) المتأخر "شيخ الإسلام ابن تيمية" جمع بعضُ أصحابِه فتاواه في ثلاثين مجلدًا ورأيتها في الديار المصريَّة. وهذه تآليف أئمة الإسلام التي لا يُحْصِيها إلا الله، وكلُّهم -من أولهم إلى آخرهم- يُقِرُّ للصحابة بالعلم والفضل، ويعترف بأن عِلْمَه بالنسبة إلى علومهم كعلومهم بالنسبة إلى علم نبيِّهم. وفي "الثقفيات" حدَّثنا قُتَيْبَةُ بن سعيد، عن سعيد بن عبد الرحمن المعافري، عن أبيه، أنَّ كعبًا رأى حَبْر اليهود يبكي، فقال له: ما يُبْكيك؟ قال: ذكرتُ بعض الأمر، فقال كعب: أَنْشُدُك الله لئن أخبرتُك ما أبكاك لتصدقنِّي؟ قال: نعم. قال: أنشُدُك الله: هل تجد في كتاب الله المنزَّل أنَّ موسى نظر في التوراة فقال: ربِّ إني أجدُ خير أمة أُخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالكتاب الأول والكتاب الآخر ويقاتلون أهل الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الدجَّال. فَاجْعَلْهُم أمتي. قال: هم أمة أحمد يا موسى؟ قال الحَبْر: نعم. قال كعب: فأنشُدُك الله، هل تجدُ في كتاب الله المنزَّل أن موسى نظر في التوراة فقال: يا ربِّ إني أجد أمةً هم الحمَّادون رعاة الشمس المحكَّمون إذا أرادوا أمرًا قالوا: نفعله إن شاء الله. فاجعلهم أمتي. قال: هم أمة أحمد يا موسى؟ قال الحبر: نعم. فقال كعب: فأنشُدُك الله أتجدُ في كتاب الله المنزَّل أن موسى نظر في التوراة فقال: يا ربّ إني أجد أمة إذا أشرف أحدهم على شَرَفٍ كبَّر الله وإذا هبط حَمِدَ الله؛ الصعيدُ طَهُورهم، والأرض لهم مسجدٌ حيثما __________ (1) في "ص، غ": "غلامهم".
(1/294)
كانوا، يتطهَّرون من الجنابة، طُهورهم بالصعيد كطُهورهم بالماء حيث لا يجدون الماء، غُرًّا محجلين من آثار الوضوء فاجعلْهم أمتي. قال: هم أمة أحمد يا موسى؟ قال الحبر: نعم. قال كعب: فأنشُدُك الله أتجد في كتاب الله أن موسى نظر في التوراة فقال: يا رب إني أجد أمةً مرحومةً ضعفاء، أورثْتَهم الكتاب فاصطفَيْتَهم لنفسك، فمنهم ظالمٌ لنفسه، ومنهم مُقْتَصِدٌ، ومنهم سابقٌ بالخيرات، فلا أجد أحدًا منهم إلا مرحومًا فاجعلْهم أمتي. قال: هم أمة أحمد يا موسى؟ قال الحبر: نعم. قال كعب: أنشُدُك الله أتجد في كتاب الله أن موسى نظر في التوراة فقال: يا رب إني أجد أمةً مصاحِفُهم في صدورهم، يصفُّون في صلاتهم كصفوف الملائكة، أصواتُهم في مساجدهم كدَوِيِّ النَّحْل، لا يدخل النارَ منهم أحدٌ إلا من بَرِئ من الحسنات مثل ما برئ الحجرُ من وَرَقِ الشجر. قال موسى: فاجعلهم أمتي. قال: هم أمة أحمد يا موسى؟ قال الحبر: نعم. فلما عجب موسى من الخير الذي أعطى الله محمدًا وأمته قال: ليتني من أصحاب محمد، فأوحى الله إليه ثلاث آيات يرضيه بهنَّ {قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} [الأعراف: 144] الآية. {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159]. {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ} [الأعراف: 145]. قال: فرضي موسى كلَّ الرِّضَا (1) . __________ (1) انظر: "تفسير البغوي": (2/ 149 - 151)، "المحرر الوجيز" لابن عطية: (6/ 85 - 87)، "تفسير ابن كثير": (2/ 249)، "الدر المنثور": (3/ 557 - 558).
(1/295)
وهذه الفصول بعضها في التوراة التي بأيديهم، وبعضها في نبوة إشَعْيَا، وبعضها في نبوة غيره. "والتوراة الأولى" (1) أعم من التوراة المعيَّنة، وقد كان الله -سبحانه- كتب لموسى في الألواح من كلِّ شيء موعظةً وتفصيلًا لكلِّ شيء، فلما كسرها رُفع منها الكثير وبقي خيرٌ كثير، فلا يقدحُ في هذا النقلِ جَهْلُ أكثر أهل الكتاب به، فلا يزال في العلم الموروث عن الأنبياء شيءٌ لا يعرفه إلا الآحاد من الناس أو الواحد. وهذه الأمةُ -على قرب عهدها بنبيها- في العلم الموروث عنه ما لا يعرفه إلا الأفراد القليلون جدًّا من أمته، وسائرُ الناس مُنْكرٌ له وجاهل به. وسمع كعبٌ رجلًا يقول: رأيت في المنام كانَّ الناس جُمِعوا للحساب؛ فدُعِي الأنبياء، فجاء مع كلِّ نبيٍّ أمتُه، ورأيت لكلِّ نبيٍّ نورَيْن، ولكلِّ من اتبعه نورًا يمشي بين يديه، فدُعِي محمد - صلى الله عليه وسلم - فإذا لكل شعرة في رأسه ووجهه نورٌ، ولكلِّ من اتبعه نوران يمشي بهما. فقال كعب: من حدَّثك بهذا؟ قال: رؤيا رأيتها في منامي. قال: أنت رأيتَ هذا في منامك؟ قال: نعم، قال: والذي نفسي بيده إنها لَصِفَةُ محمدٍ وأمته وصِفَةُ الأنبياء وأممهم، لكأنما قرأتها من كتاب الله (2) . وفي بعض الكتب القديمة: أنَّ عيسى ابن مريم صلوات الله وسلامه عليه قيل له: يا رُوْحَ الله! هل بعد هذه الأمة أمة؟: قال: نعم. قيل: وأية أمة؟ قال: أمة أحمد. قيل: يا روح الله! وما أمة أحمد؟ قال: علماء __________ (1) ساقطة من "غ، ص". (2) انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد: (1/ 347).
(1/296)
حكماء (1) أبرار أتقياء، كأنهم من الفقه أنبياء، يرضون من الله باليسير من الرزق، ويرضى الله منهم باليسير من العمل، يُدْخِلُهم الجنة بشهادة أن لا إله إلا الله. وقال كعب: علماء هذه الأمة كأنبياء بني إسرائيل. وفيه حديث مرفوع لا أعرف (2) حاله (3) . ثم نقول: وما يدريكم -مَعَاشرَ المثلِّثةِ وعبَّاد الصُّلْبان وأمةَ اللعنةِ والغضب- بالفقه والعلم؟ ومسمى (4) هذا الاسم حيث تسلبونه أصحابَ محمدٍ الذين هم وتلاميذهم كأنبياء بني إسرائيل. (وهل يميز بين العلماء والجهَّال ويَعْرف مقاديرَ العلماء إلا مَنْ هو من جملتهم ومعدودٌ في زمرتهم؟!) (5) . فأمَّا طائفةٌ شبَّه الله علماءهم بالحمير التي تحمل أسفارًا، وطائفةٌ علماؤها يقولون في الله ما لا ترضاه أمة من الأمم فيمن تعظِّمه وتجلُّه، وتأخذ دينها عن كلِّ كاذب ومُفْتَرٍ على الله وعلى أنبيائه = فمَثَلُها مَثَل عريان يحارب شاكي السلاح، ومَنْ سقف بيتِه زجاجٌ وهو يُرَاجِمُ (6) __________ (1) في "د": "حلماء". (2) في "ج": "لا أعرفه ولا أعرف ... ". (3) قال السيوطي وابن حجر والزركشي: نقله بعض العلماء على أنه حديث مرفوع، ولا أصل له، ولا يعرف في كتاب معتبر. انظر: "تمييز الطيب من الخبيث" ص (121)، "كشف الخفاء": (2/ 83). (4) في "غ، ص": "يسمي"، وفي "د": "تسمي". (5) الفقرة بين القوسين جاءت في "غ، ص" قبل قوله: ثم نقول ... (6) في "غ، ص": "يراحم" بالمهملة، وفي "د" "يزاحم".
(1/297)
أصحاب القصور بالأحجار. ولا يُسْتكثر على مَنْ قال في الله ورسوله ما قال أنْ يقول في أعلم الخَلْقِ إنِّهم عوام. فلْيَهْنِ أمة الغضب عِلْمُ "المشنا" (1) و"التلمود" وما فيهما من الكذب على الله وعلى كليمه موسى، وما يحدث لهم أحبارهم وعلماء السوء منهم كل وقت. ولتهنهم علومٌ دلَّتْهم على أن الله ندم على خلق البشر حتى شقَّ عليه، وبكى على الطوفان حتى رمد وعادته الملائكة، ودلتهم على أن يناجوا في صلاتهم بقولهم: يا إلهنا انتبه من رَقْدَتك كم تنام؟! ينخونه حتى يتنخى لهم ويعيد دولتهم. ولتهن أمة الضلال علومُهم التي فارقوا بها جميع شرائع الأنبياء وخالفوا بها المسيح خلافًا تتحققه علماؤهم في كل أمره -كما ستمر بك- وعلومهم التي قالوا بها في ربِّ العالمين ما قالوا مما كادت السموات تنشقُّ منه والأرض تنفطر والجبال تَنْهَدُّ (2) لولا أنْ أمسكها الحليم الصَّبُور. وعلومهم التي دلتهم على التثليث، وعبادة خشبة الصليب والصور المدهونة بالسيرقون والزُّنْجُفْر (3) ، ودلتهم على قول عالمهم "أفريم" أنَّ اليد التي جلبت طينة آدم هي التي علقت على الصلبوت، وأن الشبر الذي __________ (1) كتاب جمع فيه بعض علمائهم ما كانوا يتناقلونه مما لم يدون في التوراة. (2) ساقطة من "ج". (3) معدن حاصل من ازدواج الزئبق بالكبريت، ومسحوقه أحمر ناصع يستعمله المصوّرون والكتاب. انظر: "المعجم الوسيط": (1/ 404).
(1/298)
ذرعت به السموات هو الذي سمر على الخشبة، وقول عالمهم عريقودس (1) : من لم يقل: إن مريم والدة الله فهو خارج عن ولاية الله!!!. __________ (1) في "غ، ص": "عرنقوس".
(1/299)
فصل قال السائل: نرى في دينكم أكثر الفواحش فيمن هو أعلم وأفقه (في دينكم) (1)؛ كالزنا، واللواط، والخيانة، والحسد، والبخل، والغدر، والتجبر (2)، والتكبر والخيلاء، وقلة الورع واليقين، وقلة الرحمة والمروءة والحمية، وكثرة الهلع، والتكالب على الدنيا، والكسل في الخيرات. وهذا الحال يكذب لسان المقال. والجواب من وجوه: (أحدها) أن يقال: ماذا على الرُّسل الكرام من معاصي أممهم وأتباعهم؟ وهل يقدح ذلك شيئًا في نبوتهم أو يغبر وَجْه (3) رسالتهم؟! وهل سَلِمَ من الذنوب -على اختلاف أنواعها وأجناسها- إلا الرسل صلوات الله وسلامه عليهم؟! وهل يجوز رَدُّ رسالتهم وتكذيبُهم بمعصية بعض أتباعهم لهم؟! وهل هذا إلا من أقبح التعنت (4)؟! وهو بمنزلة رجل مريض (دعاه طبيب ناصح إلى سبب ينال به غاية عافيته (5)، فقال: لو كنتَ طبيبًا لم يكن فلانٌ وفلانٌ وفلانٌ (6) مرضى!) (7) وهل يلزم الرسل أن يَشْفُوا جميع المرضى بحيث لا يبقى في العالم مريض؟! هل __________ (1) ساقط من "غ، ص". (2) في "ب" إشارة إلى نسخة أخرى فيها: "الجبن". (3) في "د": "أو يوجب تغييرًا في وجه". وفي "ب": "أو يغير في وجه ... ". (4) في "د": "النعت". (5) في "ب": "عاقبته". (6) في "د": "فعلًا". (7) ما بين القوسين ساقط من "د".
(1/300)
تعنّت (1) أحد من الناس للرسل بمثل هذا التعنُّت؟! (الوجه الثاني) أن الذنوب والمعاصي أمْرٌ مشترك بين الأمم، لم تزل في العالم من طبقات بني آدم -عالمهم وجاهلهم، وزاهدهم في الدنيا وراغبهم، وأميرهم ومأمورهم- وليس ذلك أمرًا اختصَّتْ به هذه الأمة حتى يقدح به فيها وفي نبيِّها. (الوجه الثالث) أن الذنوب والمعاصي لا تنافي الإيمان بالرسل، بل يجتمع في العبدِ الإسلامُ والإيمانُ، والذنوب والمعاصي، فيكون فيه هذا وهذا. فالمعاصي لا تنافي الإيمانَ بالرسل، وإنْ قدحت في كماله وتمامه. (الوجه الرابع) أن الذنوب تغفر بالتوبة النصوح، فلو بلغت ذنوب العبد عَنَان السماء وعدد الرمل والحصا ثم تاب منها: تاب الله عليه، قال تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) } [الزمر: 53]. فهذا في حقِّ التائب؛ فإنَّ التوبة تَجُبُّ ما قَبْلَها، والتائبُ من الذنب كمن لا ذنب له، والتوحيد يكفِّر الذنوب، كما في الحديث الصحيح الإلهيِّ (2) : "ابنَ آدمَ لو لَقِيْتَنِي بِقُرَاب الأرض خَطَايا ثم لَقِيْتَني لا تشركُ بي شيئًا لَقِيْتُك بِقُرَابِها مغفرةً" (3) . __________ (1) في "ب": "يتعنت". (2) أي الحديث القدسي. وهو ما يرويه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ربِّه تبارك وتعالى. (3) أخرجه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الذكر والدعاء: (4/ 2068)، والترمذي في الدعوات، باب في فضل التوبة والاستغفار: (5/ 548 - 549).
(1/301)
فالمسلمون ذنوبهم ذنوب موحِّدٍ، إنْ قوي التوحيدُ على محو آثارها بالكلية، وإلا فما معهم من التوحيد يُخْرِجُهم من النار إذا عُذِّبوا بذنُوبِهم. وأما المشركون والكفار: فإنَّ شِرْكَهم وكُفْرَهم يُحْبِطُ حسناتهم، فلا يَلْقَون ربَّهم بحسنةٍ يرجون بها النَّجاةَ، (ولا يُغْفَرُ لهم شيء من ذنوبهم) (1) . قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]. وقال تعالى في حقِّ الكفار والمشركين: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أبى اللهُ أن يَقْبَلَ مِنْ مُشْرِكٍ عَمَلًا" (2) . فالذنوب تزول آثارها بالتوبةِ النَّصوح، والتوحيدِ الخالصِ، والحسناتِ الماحيةِ، والمصائبِ المكفِّرة لها، وشفاعةِ الشافعين في الموحِّدين، وآخر ذلك إذا عُذِّب بما يبقى عليه منها أخرجه توحِيدُه من النار؛ وأما الشرك بالله والكفر بالرسول فإنه يُحْبِط جميعَ الحسنات بحيث لا تبقى معه حسنةٌ. (الوجه الخامس) أن يقال لِمُورِد هذا السؤال إن كان من الأمة الغَضَبِيَّة إخوانِ القِرَدَة (3) : ألا يستحي من إيراد هذا السؤال مَنْ آباؤه __________ (1) في "ص": "ولا يكفر لهم شيء". وفي "د": "ولا يعقب لهم شيء من مغفرة". (2) أخرجه الإمام أحمد: (5/ 4)، وهو في الطبعة الجديدة المحققة برقم (20037): (33/ 237). قال الشيخ الأرناؤوط: إسناده حسن. (3) في "غ، ص": "القرود".
(1/302)
وأسلافه كانوا يشاهدون في كلِّ يوم من الآيات ما لم يَرَهُ غيرهم من الأمم؟! وقد فَلَق اللهُ لهم البحر وأنجاهم من عدوِّهم وما جفَّتْ أقدامهم من ماء البحر حتى قالوا لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138]؟ ولما ذهب لميقات ربه لم يُمْهِلُوه أن عبدوا بعد ذهابه العِجْلَ المَصُوغَ (1) ، وغُلِب أخوه هارون معهم ولم يقدر على الإنكار عليهم، وكانوا -مع مشاهدتهم تلك الآيات (2) والعجائب- يهمُّون برجم موسى وأخيه هارون في كثير من الأوقات والوحيُ بين أَظْهُرِهِم!! ولما نَدَبَهم إلى الجهاد قالوا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]. وآذوا موسى أنواع الأذى حتى قالوا: إنه آدَر (3) ولهذا (4) يغتسل وحده، فاغتسل (5) يومًا ووضع ثوبه على حجر ففرَّ الحجر بثوبه فَعَدَا خلفه عُرْيَانًا حتى نظر بنو إسرائيل إلى عورته فرأوه أحسن خَلْق الله متجرِّدًا (6) . ولما مات أخوه هارون قالوا: إن موسى قتله وغيَّبه. فرفعت الملائكةُ لهم تابوته بين السماء والأرض حتى عاينوه ميتًا (7) . وآثروا __________ (1) في حاشية "ب" إشارة إلى سفر (3) إصحاح (33) في الحاشية. (2) ساقطة من "د". (3) أي منتفخ الخصية. (4) في "د": "وهذا لكونه كان .. ". (5) في "ب": "واغتسل". (6) انظر: "صحيح البخاري" مع "الفتح": (6/ 436). (7) انظر: "تفسير الطبري": (22/ 52)، "تفسير البغوي": (3/ 588)، "الدر المنثور": (6/ 666)، "فتح الباري": (8/ 538).
(1/303)
العود إلى مصر وإلى العبودية ليشبعوا من أكل اللحم والبصل والقِثَّاء والعَدَس، هكذا عندهم (1) . والذي حكاه الله عنهم: أنهم آثروا (ذلك على) (2) المنِّ والسَّلْوى. وانهماكهم على الزِّنا -وموسى بين أظهرهم، وعدوُّهم بإزائهم- حتى ضعفوا عنهم ولم يظفروا بهم، وهذا معروف عندهم، وعبادتهم الأصنام بعد عصر يوشع بن نون معروف (3) . وتحيُّلهم على صيد الحيتان في يوم السبت لا تَنْسَه، حتى مُسِخوا قردة خاسئين!! وقتلهم الأنبياء بغير حق حتى قتلوا في يوم واحد سبعين نبيًّا، في أول النهار، وأقاموا السوق آخره كأنهم جزروا غنمًا. وذلك أمر معروف!! وقتلهم يحيى بن زكريا، ونشرهم إياه بالمنشار، وإصرارهم على العظائم، واتِّفاقُهم على تغيير كثير من أحكام التوراة. ورميهم لوطًا بأنه وَطِئ ابنتيه وأولدهما، ورميهم يوسف بأنّه حلَّ سراويله وجلس من امرأة العزيز مجلس المرأة من القابلة حتى انشقَّ له (4) الحائط وخرجت له كَفُّ يعقوب وهو عاضٌّ على أنامله، فقام وهرب، وهذا لو رآه أفسق الناس وأفجرهم لقام ولم يَقْضِ غرَضَه. __________ (1) انظر: "سفر الخروج": (16/ 3). (2) ساقط من "د". (3) انظر: سفر صموئيل الأول: (1/ 12). (4) ساقطة من "غ، ص".
(1/304)
وطاعتهم للخارج على ولد سليمان بن داود لما وضع لهم كبشين من ذهب فعكفت جماعتهم على عبادتهما، إلى أن جَرَتْ الحرب بينهم وبين المؤمنين الذين كانوا مع ولد سليمان، وقُتِل منهم في معركةٍ واحدة ألوفٌ مؤلَّفة. أفلا يستحي عُبَّاد الكباش والبقر من تعيير الموحِّدين بذنوبهم؟!. أَوَلا تستحي ذرية قَتَلَةِ الأنبياء من تعيير المجاهدين لأعداء الله؟! فأين ذريةُ مَنْ سيوفُ آبائهم تقطر (من دماء الأنبياء ممن تقطر سيوفُهم) (1) من دماء الكفار والمشركين؟!. أوَلَا يستحي من يقول في صلاته لربِّه: انتبه كم تنام يا رب استيقظ من رقدتك، ينخيه بذلك ويحمّيه، من تعيير من يقول في صلاته: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2 ) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. فلو بلغتْ ذنوبُ المسلمين عدد الحصا والرِّمال والتراب والأنفاس ما بلغتْ مبلغ قَتْلِ نبيٍّ واحد، ولا وصلتْ إلى قول إخوان القردة (2) : {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181] وقولهم: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30] وقولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18]. وقولهم: إنَّ الله بكى على الطوفان حتى رَمِدَ من البكاء، وجعلت الملائكةُ تعوده، وقولهم: إنه عضَّ أنامله على ذلك، وقولهم: إنه ندم على خَلْق البشر وشقَّ عليه لما رأى من معاصيهم وظلمهم. وأعظمُ من __________ (1) ساقط من "غ، ص". (2) في "غ، ص": "القرود".
(1/305)
ذلك نسبةُ هذا كلِّه إلى التوراة التي أنزلها على كَلِيْمِه. فلو بلغت ذنوبُ المسلمين ما بلغت لكانت في جنب ذلك كتفلة في بحر!! ولا تَنْس قصة أسلافهم مع شاؤول الخارجِ على داودَ؛ فإنَّ سوادهم الأعظم انضمَّ إليه وشدُّوا معه على حرب داود، ثم لما عادوا إلى طاعة داود وجاءت وفودهم وعساكرهم مستغفرين معتذرين بحيث اختصموا في السَّبْق إليه فنبغ منهم شخص ونادى بأعلى صوته: لا نصيبَ لنا في داود ولا حظَّ في شاؤول (1) ، ليَمْضِ كلٌّ منكم إلى خبائه يا إسرائيليين، فلم يكن بأوشك من أن ذهب جميع عسكر بني إسرائيل إلى أخبيتهم بسبب كلمته، ولما قتل هذا الصائح عادت العساكر جميعها إلى خدمة داود، فما كان القوم إلا مثل هَمَجٍ رَعَاع، يجمعهم طبل وتفرِّقهم عصا!!. وهذه الأمة الغضبية، وإن كانوا مفترقين افتراقًا كثيرًا، فيجمعهم فرقتان: القرَّاؤون والربانيون. وكان لهم أسلاف فقهاء، وهم صنَّفوا (2) لهم كتابين: أحدهما يسمى "المشنا" ومبلغ حجمه نحو ثمانمائة ورقة، والثاني يسمى "التلمود"، ومبلغه قريب من نصف حمل بغل. ولم يكن المؤلِّفون له في عصر واحد وإنما ألَّفوه في جيلٍ بعد جيل، فلما نظر متأخروهم إلى ذلك وأنه كلَّما مرَّ عليه الزمان زادوا فيه. وفي الزيادات المتأخرة ما ينقض كثيرًا من أوله، علموا أنهم إنْ لم يقفلوا باب الزيادة وإلا أدَّى إلى الخَلَل الفاحش؛ فقطعوا الزيادة وحظروها على فقهائهم (3) __________ (1) في "غ، ص": "شاييل". (2) في "غ، ص": "صنعوا". (3) في "غ، ص": "فقايهم".
(1/306)
وحرموا من يزيد عليه شيئًا، فوقف الكتاب على ذلك المقدار (1) . وكان فقهاؤهم قد حرَّموا عليهم -في هذين الكتابين- مؤاكلةَ مَنْ كان على غير مِلَّتهم، وحظروا عليهم أكل اللحمان من ذبائح مَنْ لم يكن على دينهم، لأنهم عَلِمُوا أنَّ دينهم لا يبقى عليهم مع كونهم تحت الذل والعبودية وقَهْر الأمم لهم إلا أنْ يصدُّوهم عن مخالطة مَنْ كان على غير مِلَّتهم، وحرَّموا عليهم مناكحتهم والأكل من ذبائحهم، ولم يُمْكِنْهم ذلك إلا بحجة يبتدعونها من أنفسهم ويَكْذِبون فيها على الله. فإن التوراة إنما حرَّمت عليهم مناكحة غيرهم من الأمم لئلا يوافقوا أزواجهم في عبادة الأصنام والكفر بالله. وإنما حرمت عليهم أكل ذبائح الأمم التي يذبحونها قربانًا للأصنام؛ لأنه سمَّى عليها غير اسم الله، فأما ما ذُكِر عليه اسمُ الله وذُبِح لله فلم تنطق التوراةُ بتحريمه البتَّة، بل نطقت بإباحة أكلهم من أيدي غيرهم من الأمم. وموسى إنما نهاهم عن مناكحة عُبَّاد الأصنام خاصة، وأكْلِ ما يذبحونه باسم الأصنام. قالوا: التوراةُ حرَّمت علينا أكل الطريفا، قيل لهم: الطريفا هي الفريسة التي يفترسها الأسد أو الذئب أو غيرهما من السِّباع، كما قال في التوراة: "ولحم في الصحراء فريسة لا تأكلوا وللكلب ألقوه" (2) . __________ (1) انظر: "بذل المجهود في إفحام اليهود" للسموأل بن يحيى المغربي، ص (183) وما بعدها، فالنص مأخوذ منه بتصرف يسير. وكذلك ما بعده. (2) العهد القديم، سفر الخروج: (22/ 31).
(1/307)
فلما نظر فقهاؤهم إلى أن التوراة غير ناطقة بتحريم مآكل الأمم عليهم إلا عُبَّاد الأصنام، وصرَّحت التوراة بأن تحريم مؤاكلتهم ومخالطتهم خوف استدراج المخالطة إلى المناكحة، والمناكحةُ قد تستتبع الانتقالَ من دينهم إلى أديانهم (1) ، وموافَقَتَهم في عبادة الأوثان. ووجدوا جميع هذا واضحًا في التوراة = اختلقوا كتابًا سموه "هلكت شحيطا" (2) . وتفسيره: علم الذباحة، ووضعوا في هذا الكتاب من الآصار والأغلال ما شغلوهم به عمَّا هم فيه من الذل والصَّغَار والخِزْي. فأمروهم (3) فيه أن ينفخوا الرِّئةَ حتى يملؤوها هواء، ويتأملوها (4) هل يخرج الهواء من ثُقْبٍ منها أم لا؟ فإن خرج منها الهواء: حرَّموه، وإن كانت بعض أطرافِ الرئة لاصقةً ببعض: لم يأكلوه. وأمروا الذي يتفقد الذبيحة أن يُدْخِل يده في بطن الذبيحة ويتأمل بأصابعه؛ فإن وَجَد القلبَ ملتصقًا إلى الظهر، أو أحد الجانبين -ولو كان الالتصاق بعرق دقيق كالشعرة-: حرَّموه ولم يأكلوه وسموه "طُرَيْفا". ومعنى هذه اللفظة عندهم أنه نجس حرام. وهذه التسمية عدوان منهم؛ فإنَّ معناها في لغتهم هي الفريسة التي يفترسها السَّبُع، ليس لها معنى في لغتهم سواه، وكذلك (5) عندهم في التوراة أنَّ إخوة يوسف لما جاؤوا بقميصه ملطَّخًا بالدم قال يعقوب في جملة كلام: "طاروف __________ (1) في "غ": "دينهم". (2) في "غ، ص": "سخيطا". (3) في "ب": "وأمروهم". (4) في "ص": "يتأملونها". وهو خطأ. (5) في "د": "ولذلك".
(1/308)
طوراف (1) يوسيف" تفسيره: وحش ردي أكله، افتراسًا افترس يوسف (2) . وفي التوراة: "ولحم في الصحراء فريسة لا تأكلوا" (3) فهذا الذي حرمته التوراة من الطريفا، وهذا نزل عليهم وهم في التِّيْه، وقد اشتدَّ قَرَمُهُم (4) إلى اللَّحم فمنعوا من أكل الفريسة والميتة. ثم اختلفوا في خرافات وهذيانات تتعلق بالرئة، وقالوا: ما كان من الذبائح سليمًا من هذه الشروط فهو "دخيا" (5) ، وتفسيره: طاهر، وما كان خارجًا عن ذلك فهو: "طريفا"، وتفسيره: نجس حرام. ثم قالوا: معنى قوله في التوراة: "لحم فريسة في الصحراء لا تأكلوه، للكلب ألقوه" يعني: إذا ذبحتم ذبيحةً، ولم توجد فيها هذه الشروط فلا تأكلوها، بل بيعوها على مَنْ ليس من أهل مِلَّتكم. قالوا: ومعنى قوله: "للكلب ألقوه" أي: لمن ليس على مِلَّتكم فهو الكلب، فأطعِمُوه إيَّاه بالثمن (6) . فتأمَّل هذا التحريفَ والكذبَ على الله وعلى التوراة وعلى موسى، وكذلك (7) كذبهم الله على لسان رسوله في تحريم ذلك فقال في السورة __________ (1) في "ب، ص": "طوارف". وفي "إفحام اليهود": "طارف طوارف يوسف". (2) سفر التكوين: (37/ 33). (3) سفر الخروج (22/ 31). (4) في "ب": "قومهم" وهو تحريف. والقَرَم: شدة الشهوة إلى اللحم. (5) في "ب": "دوحنيا". (6) انتهى ما نقله بتصرف عن "بذل المجهود في إفحام اليهود" ص (183 - 194). (7) في "د": "ولذلك".
(1/309)
المدنية التي خاطب فيها أهل الكتاب: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [النحل: 114 - 115]. وقال في سورة الأنعام: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} [الأنعام: 145 - 146]. فهذا تحريم زائد على تحريم الأربعة المتقدمة. وقال في سورة النحل وهي بعد هذه السورة نزولًا: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} [النحل: 118]. فهذا المحرَّم عليهم بنصِّ التوراة ونصِّ القرآن. فلما نظر "القرَّاؤون" منهم -وهم أصحاب عنان (1) وبنيامين- إلى هذه المُحَالات الشنيعة والافتراء الفاحش والكذب البارد على الله وعلى التوراة وعلى موسى وأنَّ أصحاب "التلمود والمشنا" (2) كذَّابون على الله وعلى التوراة وعلى موسى، وأنهم أصحاب حَماقَاتٍ ورَقَاعاتٍ، وأنَّ أتباعهم ومشايخهم يَزْعُمون أنَّ الفقهاء منهم كانوا إذا اختلفوا في مسألة من هذه المسائل وغيرها يوحي الله إليهم بصوت يسمعونه: "الحق في __________ (1) في "ب": "عايان" وفي هامشها إشارة إلى نسخة أخرى: "عانان"، وهي كذلك في "إفحام اليهود" للسموأل، ص (195). (2) في "ب، ج": "الجمارا والمشنا".
(1/310)
هذه المسألة مع الفقيه فلان" ويسمون هذا الصوت (1) : "بث قول". فلما نظر القَرَّاؤون إلى هذا الكذب المحال قالوا: قد فسق هؤلاء، ولا يجوز قَبُول (2) خبرِ فاسقٍ ولا فتواه، فخَالَفُوهم في سائر ما أصَّلوه من الأمور التي لم ينطق بها نصُّ التوراة. وأما تلك التُّرَّهَات التي ألَّفها فقهاؤهمِ الذين يسمونهم "الحخاميمِ" في علم الذباحة ورتَّبوها ونسبوها إلى الله فاطَّرَحَها القراؤون كلَّها وألغوْها، وصاروا لا يحرِّمون شيئًا من الذبائح التي يتولَّون ذبحها البتَّة، ولهم فقهاء أصحاب تصانيف إلا أنهم يبالغون في الكذب على الله، وهم أصحاب ظواهر مجردة، والأولون أصحاب استنباط وقياسات. والفرقة الثانية يقال لهم: "الربَّانِيُّون" وهم أكثر عددًا، وفيهم الحخاميم (3) الكذابون على الله الذين زعموا أنَّ الله كان يخاطب جميعهم في كل مسألة بالصوت الذي يسمونه: "بث قول". وهذه الطائفة أشدُّ اليهود عداوة لغيرهم من الأُمم، فإن الحخاميم أوْهَمُوهم بأنَّ الذبائح لا يحلُّ منها إلا ما كان على الشروط التي ذكروها، فإنَّ سائر الأمم لا تعرف هذا، وأنه شيء خُصُّوا به ومُيِّزوا بهم عمَّن سواهم. وأنَّ الله شرَّفهم به كرامةً لهم، فصار الواحد منهم ينظر إلى مَنْ ليس على نِحْلَتِه كما ينظر إلى الدَّابّة، وينظر إلى ذبائحه كما ينظر إلى الميتة. __________ (1) في "د": "الأصوات". (2) ساقطة من "ج". وفي "بذل المجهود": "الحاخاميم". (3) في "غ، ص": "الخحاميم".
(1/311)
وأما "القرّاؤون" فأكثرهم خرجوا إلى دين الإسلام، ونَفَعَهم تمسُّكُهم بالظواهر، وعدمُ تحريفها إلى أن لم يَبْق منهم إلا القليل؛ لأنهم أقرب استعدادًا لقبول الإسلام لأمرين: (أحدهما) إساءةُ ظنِّهم بالفقهاء المفترين على الله وطعنهم عليهم. (والثاني) تمسكهم بالظواهر، وعَدَمُ تحريفِها وإبطالِ معانيها. وأما أولئك "الربَّانِيّون" فإنَّ فقهاءهم وحخاميمهم (1) حصروهم في مثل سَمِّ الخِيَاط بما وضعوا لهم من (التشديدات والآصار و) (2) الأغلال المضافة إلى الآصار والأغلال التي شرعها الله عقوبةً لهم، وكان لهم في ذلك مقاصد: (منها): أنهم قصدوا بذلك مبالغتهم في (3) مضادَّة مذاهب الأمم حتى لا يختلطوا بهم، فيؤدي اختلاطُهم بهم إلى موافقتِهِم والخروجِ من السبت واليهودية. (والقصد الثاني): أنَ اليهود مُبَدَّدُون (4) في شرق الأرض وغربها وجنوبها وشمالها كما قال تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا} [الأعراف: 168]. وما من جماعة منهم في بلدة إلا إذا قَدِمَ عليهم رجلٌ من أهل دينهم __________ (1) في "غ، ص": "خحاميمهم". (2) ما بين القوسين ساقط من "غ، ص". (3) ساقطة من "غ، ص". (4) في "ب": "يشدِّدون"، وفي الحاشية إشارة إلى نسخة أخرى كما في المتن.
(1/312)
من بلاد بعيدة، يُظْهِرُ (1) لهم الخشونةَ في دينه والمبالغةَ في الاحتياط، فإن كان من فقهائهم شرع في إنكار أشياء عليهم يوهِمُهم قلَّةَ دينِهِم وعِلْمِهم، وكلَّما شدَّد عليهم قالوا: هذا هو العالم. فأعلمُهم أعظمُهم تشديدًا عليهم، فتراه أول ما ينزل عليهم لا يأكل (2) من أطعمتهم وذبائحهم، ويتأمل سكين الذبَّاح، ويشرع في الإنكار عليه ببعض أمره، ويقول: لا آكل إلا من ذبيحة يدي، فتراهم معه في عذاب، ويقولون: هذا عالِمٌ غريب قَدِم علينا. فلا يزال ينكرُ عليهم الحلال ويشدِّدُ عليهم الآصار والأغلال ويفتحُ لهم أبواب المكر والاحتيال. وكلما فعل هذا قالوا: هذا هو العالم الربَّاني والحخيم الفاضل. فإذا رآه رئيسهم قد مشى حاله، وقُبِل بينهم مقالُه وَزَنَ نفسه معه، فإذا رأى أنه ازدرى به وطعن عليه: لم يقبل منه، فإنَّ الناس في الغالب يميلون مع الغريب، وينسبه أصحابه إلى الجهل وقلة الدين، ولا يصدقونه لأنهم يرون القادم قد شدَّد عليهم وضيَّق، وكلَّما كان الرجل أعظم تضييقًا وتشديدًا كان أفْقَه (3) عندهم، فينصرف عن هذا الرأي فيأخذ في مدحه وشكره، فيقول: لقد عظَّم الله ثواب فلان؛ إذْ قوَّى ناموس الدين في قلوب هذه الجماعة وشيَّد أساسه وأحكم سياج الشرع. فيبلغ القادِمَ قولُه فيقول: ما عندكم أفقه منه، ولا أعلم بالتوراة، وإذا لقيه يقول: لقد زيَّن الله بك أهل بلدنا، ونعش بك هذه الطائفة!! وإن كان القادم عليهم حَبْرًا من أحبارهم؛ فهناك ترى العجب __________ (1) في "ب": "وظهر". (2) في "ب": زيادة "ولا يشرب" في الحاشية. (3) في "غ، ص": "أفقد".
(1/313)
العجيب من الناموس الذي تراه يعتمده والسنن التي يُحْدِثها، ولا يعترض عليه أحد، بل تراهم مُسَلِّمين له، وهو يحتلب درَّهم ويحتلب دِرْهمَهم (1) ، وإذا بلغه عن يهوديٍّ طعن عليه صبر عليه حتى يرى منه جلوسًا على قارعة الطريق يوم السبت، أو يَبلُغَه أنه اشترى مِن مسلم لبنًا أو خمرًا، أو خرج عن بعض أحكام "المشنا والتلمود" = فحرمه بين ملأ اليهود وأباحهم عِرْضه، ونَسَبه إلى الخروج عن اليهودية، فيضيقُ به البلد على هذه الحال، فلا يسعه إلا أن يُصْلِح ما بينه وبين الحَبْر بما يقتضيه الحال، فيقول لليهود: إن فلانًا قد أبصر رُشْدَه، وراجع الحقَّ، وأقلع عمَّا كان فيه، وهو اليوم يهوديٌّ على الوضع، فيعودون له بالتعظيم والإكرام (2) !!. وأذكر لك مسألة من مسائل شَرْعِهم المبدَّلِ أو المنسوخِ تُعْرَفُ بمسألة "البياما والحالوس" (3) وهي أن عندهم في التوراة: إذا أقام أخَوان في موضع واحدٍ ومات أحدهما ولم يُعْقِب ولدًا، فلا تصير امرأة الميت إلى رجل أجنبيٍّ، بل حموها (4) ينكحها، وأولُ ولدٍ يُولِدها يُنْسَب إلى أخيه الدارج، فإن أبى أن ينكحها خرجت متشكية إلى مشيخة قومه قائلة: قد أبى حَمُوْي (5) أن يستبقي اسمًا لأخيه في بني إسرائيل، ولم يُرِدْ نكاحي. فيُحْضِرُه ويكلِّفه أن يقف ويقول: ما أردتُ نكاحها، فتتناول __________ (1) يستحلب درّهم ويحتلب: يستجلبه. (2) انتهى ما نقله عن "بذل المجهود" للسموأل، ص (195 - 200). (3) في "ب، ج، د": "الجالوس" بالمعجمة. وفي "بذل المجهود" للسموأل: "الحالوص". (4) في "ب، غ، ص": "ابن حموها". (5) في "غ، ص": "ابن حموي".
(1/314)
المرأة نعله فتخرجه من رِجْله وتمسكه بيدها وتبصق في وجهه وتنادي عليه: كذا فَلْيُصْنَع بالرجل الذي لا يبني بيت أخيه. ويُدْعَى فيما بعد بالمخلوع النعل، وينتبز بَنُوه بهذا اللقب (1) . وفي هذا كالتَّلْجِئَةِ له إلى نكاحها، لأنه إذا علم أنه قد فرض على المرأة وعليه ذلك فربما استَحْيَا وخَجل من شَيْل نعله مِنْ رجْله والبصْق في وجهه ونَبْزِه باللَّقَب المُسْتَكْرَهِ الذي يبقى عليه وعلى أَولاده عَارُه، ولم يجد بُدًّا من نكاحها؛ فإن كان من الزهد فيها والكراهة لها بحيث يرى أنَّ هذا كلَّه أسْهَلُ عليه من أن يُبْتَلى بها، وهان عليه هذا كله في التخلُّص منها: لم يُكْرَه على نكاحها. هذا عندهم في التوراة؛ ونشأ لهم من ذلك فرع مرتَّبٌ عليه وهو: أنْ يكون مريدًا للمرأة (2) مُحِبًّا لها، وهي في غاية الكراهة له، فأحدثوا لهذا الفرع حكمًا في غاية الظلم والفضيحة؛ فإذا جاءت إلى الحاكم أحضروه معها ولقَّنُوها أن تقول: إنّ حَمُوْي (3) لا يقيم لأخيه اسمًا في بني إسرائيل، ولم يُرِدْ نكاحي، وهو عاشق لها -فيلزمونها بالكذب عليه وأنها أرادته فامتنع، فإذا قالت ذلك ألزمه الحاكم أن يقوم ويقول: ما أردتُ نكاحها. ونكاحُها غايةُ سُؤْله وأمنيتُه، فيأمرونه بالكذب عليها- فيخرج نعله من رجله إلا أنه لا مَسْك (4) هنا (ولا ضرب) (5) ، بل يُبْصَق __________ (1) العهد القديم، سفر التثنية: (25/ 5 - 10). (2) في "ع": "للموات". (3) في "غ، ص": "ابن حموي". (4) في "غ": "لا شك". (5) ساقط من "غ، ص".
(1/315)
في وجهه ويُنَادى عليه: هذا جزاء من لا يبني بيت أخيه (1). فلم يَكْفِهم أن كذبوا عليه حتى أقاموه مقام الخزي وألزموه بالكذب والبصاق في وجهه والعتاب على ذَنْبٍ جرَّه غيره، كما قيل: وَجُرْمٍ جَرَّهُ سُفَهَاءُ قَوْمٍ ... وحَلَّ بِغَيْرِ جَارِمِهِ العَذَابُ (2) أفَلَا يستحي من تعيير المسلمين مَنْ هذا شَرْعُه ودِيْنُه؟!. فصل ولا يستبعد اصطلاح الأمة الغضبيَّة على المُحَال واتِّفاقُهم على أنواع من الكفر والضلال، فإنَّ الدولة إذا انقرضت عن أمة باستيلاء غيرها عليها، وأَخْذِ بلادها: انطمستْ حقائقُ سالفِ أخبارِها، ودَرَسَتْ معالِمُ دينها وآثارها، وتعذَّر الوقوف على الصواب الذي كان عليه أوَّلُوها وأسْلَافُها، لأنَّ زوال الدولة عن الأمة إنما يكون بتتابعِ (3) الغارات، وخراب البلاد وإحراقِها وجلاءِ أهلها عنها، فلا تزال هذه البلايا متتابعةً عليها إلى أن تستحيلَ رسومُ دياناتها، وتضمحلَّ أصولُ شرعها، وتتلاشى قواعدُ دِيْنها. وكلَّما كانت الأمة أقْدَمَ واختلفتْ عليها الدول المُتَناوِلَةُ لها بالإذلال والصَّغَار كان حظُّها من اندراس دينها أَوْفَرَ. وهذه __________ (1) سفر التثنية: (25/ 7 - 10). وانظر: "بذل المجهود في إفحام اليهود" للسموأل ص (179 - 181). (2) البيت لأبي الطيب المتنبي، الديوان ص (954) يقول: كم جرم جناه السفهاء فعمَّ عقابُه القبيلة كلها. والبيت استشهد هنا به أيضًا السموأل بن يحيى المغربي في الموضع السابق، ص (181). (3) في "غ": "تتتابع" وفي "ب": "شايع الامارات".
(1/316)
الأمة الغضبيَّة أوْفَرُ الأمم حظًّا من ذلك؛ فإنها أقدم (1) الأمم عهدًا، واستولتْ عليها سائِرُ الأمم من الكندانيين والكَلْدانِيِّيْن والبَابِليِّين والفُرْس واليُونَان والنَّصارى. وما من هذه الأمم أمةٌ إلا وقصدتِ استئصالهم وإحْراقَ كتبهم وتَخْريبَ بلادهم، حتى لم يَبْقَ لهم مدينةٌ ولا جيش ولا حِصْنٌ إلا بأرض الحِجَاز وخَيْبَر، فأعزَّ ما كانوا هناك. فلما قام الإسلام واستعلن الربُّ تعالى من جبال فاران صادَفَهم تحت ذِمَّة الفُرْس والنَّصارى، وصادف هذه الشرذمةَ بخَيْبَرَ والمدينةِ فأذاقهم الله بالمسلمين -من القتل والسبي وتخريب الديار- ذَنُوبًا مثل ذَنُوبِ أصحابهم، وكانوا من سِبْطٍ لم يصبهم الجلاءُ، فكتبَ الله عليهم الجلَاءَ وشَتَّتهم ومزَّقَهم بالإسلام كلَّ مُمَزَّقِ. ومع هذا فلم يكونوا مع أمةٍ من الأمم أطْيَبَ منهم مع المسلمين ولا آمَنَ؛ فإنَّ الذي نالهم من النَّصارى والفُرْس وعُبَّاد الأصنام: لم يَنَلْهُم من المسلمين مثلُه. وكذلك الذي نالهم مع ملوكهم العُصَاة الذين قتلوا الأنبياء وبَالَغُوا في طلبهم وعبدوا الأصنام، وأحضروا من البلاد سَدَنَةً للأصنام لتعظيمها وتعظيم رُسُومها في العبادة، وبنوا لها البيَعَ والهياكل وعَكَفُوا على عبادتها وتركوا لها أحكام التوراة وشَرْع موسىَ أزمنةً طويلة وأعصارًا متصلة. فإذا كان هذا شأنهم مع ملوكهم، فما الظنُّ بشأنهم مع أعدائهم، أشد الأعداء عليهم، كالنصارى الذين عندهم أنَّهم قتلوا المسيح وصلبوه __________ (1) في "غ، ص": "من أقدم".
(1/317)
وصَفَعُوه وبصقوا في وجهه ووضعوا الشَّوْك على رأسه، وكالفُرْس والكَلْدَانِيِّين وغيرهم؟! وكثيرًا ما منعهم ملوك الفرس من الخِتَان وجعلوهم قُلْفًا، وكثيرًا ما منعوهم من الصلاة؛ لمعرفتهم بأنَّ مُعْظَم صلاتهم دعاءٌ على الأمم بالبَوَار وعلى بلادهم بالخراب إلا أرض كنعان، فلما رأوا أنَّ صلاتهم هكذا منعوهم من الصلاة، فرأت اليهود أنَّ الفُرْس قد جَدُّوا في منعهم من الصلاة، فاخترعوا أدعيةً مزجوا بها (1) صلاتَهم سَمَّوها "الخزانة"، وصاغوا لها ألحانًا عديدةً وصاروا يجتمعون على تلحينها وتلاوتها. والفرق بين الخزانة والصلاة: أنَّ الصلاة بغير لَحْنٍ، ويكون المصلِّي فيها وَحْدَه، والخزانة بلَحْنٍ يشاركه غيره فيه، فكانت الفُرْس إذا أنكروا ذلك عليهم قالت اليهود: نحن نُغَنِّي وننوح على أنفسنا، فيُخَلُّون بينهم وبين ذلك. وجاءت دولة الإسلام فأَمِنُوا فيها غاية الأَمْن، وتمكَّنوا من صلاتهم في كنائسهم، واستمرَّت الخزانة سُنَّةً فيهم في الأعياد والمواسم والأفراح وتعوَّضوا بها عن الصلاة. والعجب أنهم -مع ذَهابِ دولتِهم وتفرُّق شَمْلهم، وعلمهم بالغضب الممدود المستمرِّ عليَهم ومَسْخِ أسلافهم قردةً لِقَتْلِهم (2) الأنبياء، وعدوانهم في السبت، وخروجهم عن شريعة موسى والتوراة، وتعطيلهم لأحكامها -يقولون في كل يومٍ في صلاتهم: "محبةِ الدهر": __________ (1) في "غ": "من جوابها". (2) في "غ": "وقتلهم".
(1/318)
أحِبَّنا يا إلهنا! يا أبانا! أنت أبونا منقذنا! ويُمثّلون أنفسهم بعناقيد العنب، وسَائرَ الأمم بالشَّوْك المحيط بالكَرْم لحِفْظِه، وأنَّهم سيقيم اللهُ لهم نبيًّا من آل داود إذا حرَّك شفتيه بالدعاء ماتَ جميعُ الأمم، ولا يبقى على وجه الأرض إلا اليهود (1). وهو بزعمهم المسيح الذي وُعِدُوا به، وينبِّهون الله بزعمهم من رقدته في صلاتهم، وينخونه ويحمونه، تعالى الله عن إفكهم وضلالهم علوًّا كبيرًا!! وضلالُ هذه الأمة الغضبيَّة وكَذِبُها وافتراؤها على الله ودينه وأنبيائه لا مَزِيدَ عليه. وأما أكلُهم الرِّبا والسُّحْت والرّشَا، واستبدادُهم دون العالم بالخُبْث (2) والمكر والبَهْت، وشدَّةِ الحرص على الدنيا، وقسوة القلوب، والذل والصَّغار، والخِزي، والتحيُّل على الأغراض الفاسدة، ورمي البرآء بالعيوب، والطعن على الأنبياء: فأرْخَصُ شيءٍ عندَهم، وما عيَّرُوا به المسلمين -مما ذكروه ومما لمِ يذكروه- فهو في بعضهم وليس في جميعهم، ونبيُّهم وكتابُه ودينُه وشرْعُه بريءٌ منه، وما عليه من معاصي أمته وذنوبهم، فإلى الله إيابهم وعلى الله حسابهم. فصل وإن كان المعَيِّرُ للمسلمين من أمة الضلال وعُبَّاد الصليب والصُّوَر المدهونة في الحيطان والسقوف، فيقال له (3): __________ (1) الإصحاح الثامن عشر من سفر التثنية، الفقرة (15 - 19). (2) في "غ": "بالحنث". (3) لا يزال الكلام على الوجه الخامس من جواب المسألة السادسة وهذا التفريع =
(1/319)
ألا يستحي مَنْ أصْلُ دينه الذي يدين به: اعتقادُه أنَّ رب السموِات والأرض تبارك وتعالى نزل عن كرسيِّ عظمته وعرشه، ودخل في فرْجِ امرأة تأكل وتشرب وتبول وتتغوَّط وتحيض، فَالْتَحَمَ ببطنها، وأقام هناكَ تسعةَ أشهر يتلبَّط بين نَجْوٍ (1) وبَوْلٍ ودمِ طمثٍ، ثم خرج إلى القِمَاط والسَّرير، كلَّما بكى ألقَمَتْه أمُّه ثَدْيَها، ثم انتقل إلى المكتب بين الصبيان، ثم آلَ أمرُه إلى لَطْمِ اليهود خَدَّيْه، وصَفْعِهِم قَفَاه، وبَصْقِهم في وجهه، ووضْعِهِم تاجًا من الشوك على رأسه والقصبةَ في يده، استخفافًا به وانتهاكًا لحرمته؟! ثم قربوه من مركبٍ خُصَّ بالبلاء راكبُه، فشدُّوه عليه وربطوه بالحبال، وسَمَروا يديه ورجليه، وهو يصيح ويبكي ويستغيث من حَرِّ الحديد وألم الصَّلْب، هذا وهو الذي خلق السموات والأرض، وقسم الأرزاق والآجال، ولكن اقتضتْ حكمتُه ورحمتُه أن يمكِّن أعداءه من نفسه لينالوا منه ما نالوا فيستحقوا بذلك العذابَ والسَّجْنَ في الجحيم (2) ، ويَفْدِي أنبياءه ورسله وأولياءه بنفسه (3) فيخرجهم من سجن إبليس، فإنَّ روح آدم وإبراهيم ونوح وسائر النبيين عندهم كانت في سجن إبليس في النار حتى خلصها من سجنه بتمكينه أعداءه من صلبه!!!. ما قولهم في "مريم"؛ فإنهم يقولون: إنها أمُّ المسيح ابن الله في __________ = تابع لما سبق ص (302). (1) ما يخرج من البطن. (2) في هامش "ب": "جهنم". (3) ساقطة من "د".
(1/320)
الحقيقة، ووالدتُه في الحقيقة، لا أمَّ لابنِ الله إلا هي، ولا والدة له غيرها، ولا أب لابنها إلا الله، ولا ولد له سواه، وإن الله اختارها لنفسه ولولادة (1) ولده وابنه من بين سائر النساء، ولو كانت كسائر النساء لما ولدت إلا عن وطء الرجال لها، ولكن اختصَّتْ عن النساء بأنها حبلت بابن الله، وولدت ابنه الذي لا ابن له في الحقيقة غيره، ولا والد له سواه، وأنها على العرش جالسة عن يسار الربِّ -تبارك وتعالى- والدِ ابْنِهَا، وابْنُها عن يمينه. والنَّصارى يَدْعُونَها ويسألونَها سَعَةَ الرِّزق، وصحةَ البدن، وطولَ العُمُر، ومغفرةَ الذنوب، وأن تكون لهم عند ابِنها ووالدِه -الذي يعتقد عامتهم أنه زوجها، ولا ينكرون ذلك عليهم- سورًا وسَنَدًا وذُخْرًا وشفيعًا وركنًا، ويقولون في دعائهم: يا والدة الإله اشفعي لنا! وهم يعظِّمونها ويرفعونها على الملائكة وعلى جميع النبيِّيْن والمرسلين. ويسألونها ما يُسْأل الإله من العافية والرزق والمغفرة!! حتى إن "اليَعْقُوبِيَّة" (2) يقولون في مناجاتهم لها: يا مريم يا والدة الإله، كوني لنا سورًا وسندًا وذخرًا وركنًا!! "والنَّسْطُوريَّة" (3) يقولون: يا والدة المسيح كوني لنا كذلك! ويقولون لليعقوبيَّة: لا تقولوا يا والدة الإله، وقولوا: يا والدة المسيح، __________ (1) في "غ، ص": "وأولاده". (2) فرقة من النصارى منسوبة إلى أحد دعاتها وهو يعقوب البرادعي. انظر: "الملل والنحل" للشهرستاني، ص (241 - 243). (3) أتباع نسطور الحكيم من النصارى، وهو الذي تصرَّف بالأناجل بحكم رأيه، انظر: "الملل والنحل" ص (239 - 241).
(1/321)
فقالت لهم اليعقوبية: المسيح عندنا وعندكم إلهٌ في الحقيقة، فأيُّ فَرْقٍ بيننا وبينكم في ذلك؟ ولكنكم أردتم مصالحة المسلمين ومقاربتهم (1) في التوحيد. هذا؛ والأوقاح الأرجاس من هذه الأمة تعتقد أنَّ الله -سبحانه- اختار مريم لنفسه ولولده، وتخطَّاها كما يتخطَّى الرجلُ المرأة. قال النَّظَّامُ (2) -بعد أن حكى ذلك عنهم (3) -: وهم يُفْصِحون بهذا عند من يثقون به. وقد قال ابن الإخشيد (4) هذا عنهم في "المعونة"، وقال: إليه يشيرون، ألا ترون أنهم يقولون: مَنْ لم يكِن والدًا يكون عقيمًا، والعُقْم آفَةٌ وعَيْبٌ. وهذا قول جميعهم وإلى المُبَاضعَةِ يشيرون. ومَنْ خَالَطَ القوم وطاولهم وبَاطَنَهم عرف ذلك منهم، فهذا كفرهم وشركهم بربِّ العالمين ومَسَبَّتُهم له. ولهذا قال فيهم (5) أحد الخلفاء الراشدين: أهِيْنُوهم ولا تَظْلِموهم، فلقد سبُّوا الله مسبَّةً ما سبَّه إياها أحدٌ من البشر (6) . __________ (1) في "غ، ج، ب": "مقارنتهم". (2) إبراهيم بن سيار بن هانئ من أئمة المعتزلة. (3) ساقطة من "غ، ص". (4) أبو بكر أحمد بن علي من المعتزلة أيضًا، توفي سنة (326). وكتابه "المعونة" ذكره ابن النديم في "الفهرست" أثناء ترجمته له. (5) ساقطة من "د". (6) لم أجده في شيء من كتب الآثار، وأخرج نحوه الطبراني في "مسند الشاميين": (2/ 127). وقال القرافي في "الفروق" في الفرق (119): ويروى =
(1/322)
وقد أخبر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن ربِّه في الحديث الصحيح أنه قال: "شَتَمَنِي ابنُ آدمَ ولم يَكُنْ له ذلك، وكذَّبنَي ابنُ آدمَ ولم يكُنْ له ذلك، أمَّا شَتْمُه إيَّايَ فقوْلُه: اتَّخذَ اللهُ وَلَدًا، وأنا الأحَدُ الصَّمَدُ الذي لم يُوْلَدْ ولمِ يَكُنْ له كُفُوًا أحدٌ، وأمَّا تَكْذِيْبُه إيَّايَ فقولُه: لن يُعِيْدَنِي كما بَدَأنِي، ولَيْسَ أوَّلُ الخَلْقِ بأَهْوَنَ عليَّ من إعَادَتِهِ" (1). فلو أتى الموحِّدون بكل ذنب، وفَعَلُوا كلَّ قبيحٍ وارتكَبُوا كلَّ معصيةٍ ما بلغتْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ في جَنْبِ هذا الكُفْرِ العظيمِ بربِّ العَالمِيْنَ، ومَسَبَّتِهِ هذا السّبَّ، وقَوْلِ العَظَائِم فيه. فما ظنُّ هذه الطائفة بربِّ العالمِيْنَ أن يفعلَه بهم إذا لَقُوه {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106]. ويسألُ المسيحَ على رؤوس الأشْهَادِ وهم يسمعون: {يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} فيقول المسيح مكذِّبًا لهم ومتبرئًا منهم: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 116 - 117]. فصل فهذا أَصْلُ ديِنهِم وأساسُهُ الذي قام عليه، وأما فُروعُه وشرائعه فهم مخالفونَ للمسيح في جميعها، وأكثر ذلك بشهادتهم وإقرارهم، ولكن __________ = عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في "الجواب الصحيح" وغيره بلفظ آخر دون عزو. (1) أخرجه البخاري بنحوه في التفسير، سورة الإخلاص: (8/ 739).
(1/323)
يُحِيْلُون على البَتَاركَة والأسَاقِفَةِ، فإنَّ المسيح -صلوات الله وسلامه عليه- كان يتديَّنُ بالطهارة، ويغتسل من الجنابة، ويُوجِب غسل الحائض. وطوائفُ النَّصارى عندهم أنَّ ذلك كلَّه غَيرُ واجَبٍ، وأنَّ الإنسانَ يقوم مِنْ على بَطْن المرأةِ ويبول ويتغوَّط، ولا يَمَسُّ ماءً ولا يَسْتَجْمِرُ، والبَولُ والنَّجْو يَنحدِرُ على ساقه وفَخِذِه ويصلِّي كذلك وصلاتُه صحيحةٌ تامةٌ، ولو تغوَّط وبَالَ وهو يصلِّي لم يضره، فضلًا عن أنْ يَفْسُوَ أو يَضْرَطَ!! ويقولون: إنَّ الصلاةَ بالجنابة والبول والغائط أفْضَلُ من الصلاة بالطهارة، لأنها حينئذٍ أبْعَدُ من صلاة المسلمين واليهود، وأقْرَبُ إلى مخالفة الأُمَّتَيْن، ويستفتح الصلاةَ بالتَّصْليب بين عَيْنَيْه. وهذه الصلاة ربُّ العالمين بريءٌ منها. وكذلك المسيحُ وسائِرُ النبيِّيْنَ، فإن هذه بالاستهزاء أشْبَهُ منها بالعبادةِ. وحاشى المسيحَ أنْ تكونَ هذه صلاته أو صلاة أحد من الحَوَارِيِّيْن، والمسيحُ كان يقرأ في صلاته ما كان الأنبياءُ وبنو إسرائيل يقرؤونه في صلاتهم من التوراة والزبور. وطوائف النصارى إنما يقرؤون في صلاتهم كلامًا قد لَحَّنه لهم الذين يتقدَّمون ويُصلُّون بهم، يجري مجرى النَّوْح والأغاني. فيقولون: هذا قُدَّاس فلان، وهذا قُدَّاس فلانٍ، يَنْسِبُونه إلى الذين وضعوه، وهم يُصلُّون إلى الشرق. وما صلَّى المسيح إلى الشرق قط، وما صلى -إلى أن توفاه الله- إلا إلى بيت المقدس، وهي قبلةُ داودَ والأنبياءِ قَبْلَه، وقِبْلةُ بني إسرائيل. والمسيحُ اخْتَتَنَ وأوجب الخِتَانَ، كما أوجبه موسى وهارون
(1/324)
والأنبياء قبل المسيح. والمسيحُ حرَّم الخِنْزير، ولَعَن آكِلَه، وبالغ في ذَمِّه -والنصارى تُقِرُّ بذلك- ولَقِيَ الله لم يَطْعَمْ مِنْ لحمِه بوزن شعيرة، والنَّصارى تتقرَّبُ إليه بأكله. والمسيحُ ما شرع لهم هذا الصَّومَ الذي يصومونه قط، ولا صامه في عُمُره مرة واحدة، ولا أحدٌ من أصحابه، ولا صام صَوْمَ العَذَارى في عمره، ولا أكل في الصوم ما يأكلونه، ولا حرَّم فيه ما يحرِّمونه، ولا عطَّل السَّبتَ يومًا واحدًا حتى لقي الله، ولا اتَّخذ الأحدَ عيدًا قط، والنصارى تقرّ أنه رَقَى مريم المجدلانيَّة فأخرج منها سبع شياطين، وأنَّ الشياطين قالت له: أين نأوي فقال لها: اسْلُكِي هذه الدابَّة النجسة - يعني الخِنْزِيْرَ (1) . فهذه حكايةُ النَّصارى عنه، وهم يَزْعُمون أنَّ الخنزير من أطهر الدواب وأجْمَلِها. والمسيحُ سار في الذَّبائح والمناكِحِ والطَّلاقِ والمواريثِ والحدودِ سِيْرَةَ الأنبياءِ قَبْلَه. وليس عند النَّصارى على مَنْ زنى أو لاطَ (2) أو سَكِر حدٌّ في الدنيا أبدًا، ولا عذابٌ في الآخرة، لأن القُسَّ والرَّاهِبَ يَغْفِرُه لهم، فكلَّما أذْنَبَ أحدُهم ذَنْبًا أهدى للقَسِّ هديةً، أو أعطاه درهمًا أو غيره ليغفر له به! وإذا زَنَتِ امرأةُ أحدِهم بَيَّتَها عند القسَّ ليطيِّبَها له، فإذا انصرفتْ من __________ (1) انظر إنجيل لوقا: (8/ 2 - 3). (2) في "غ": "يلوط".
(1/325)
عنده وأخبرت زوجها أنَّ القَسَّ طيَّبَها؛ قَبَّل ذلك منها وتَبرَّك به!!. وهم يُقِرُّون أن المسيح قال: "إنما جئتكم لأعمل بالتوراة وبوصايا الأنبياء قَبْلي، وما جئتُ ناقضًا بل مُتَمِّمًا، ولأَنْ تقعَ السماءُ على الأرض أيْسَر عند الله مِنْ أن أنْقُضَ شيئًا من شريعة موسى، ومن نقض شيئًا من ذلك يدعى ناقضًا في مَلَكُوت السماء" (1) . وما زال هو وأصحابه كذلك إلى أن خرج من الدنيا. وقال لأصحابه: "اعملُوا بما رأيتموني أعملُ، وارضَوْا من الناس بما أرْضَيْتكم به، (ووَصُّوا الناس بما وَصَّيْتكم به) (2) ، وكونوا معهم كما كنتُ معكم، وكونوا لهم كما كنتُ لكم" (3) . وما زال أصحاب المسيح بعده على ذلك قريبًا من ثلاثمائة سنة، ثم أخذ القومُ في التغيير والتبديل والتقرُّب (4) إلى الناس بما يَهْوَوْنَ، ومكايدةِ (5) اليهود ومناقضتهم بما فيه تَرْكُ دين المسيح والانْسِلاخُ منه جملةً. فرأوا اليهودَ قد قالوا في المسيح: إنَّه ساحرٌ مجنونٌ مُمَخْرِقٌ، وَلَدُ زِنْيَةٍ، فقالوا: هو إلهٌ تامٌّ، وهو ابنُ الله!! ورأوا اليهود يَخْتَتِنُون فتركوا الخِتَانَ!! ورأوهم يبالغون في الطهارة فتركوها جملة!! ورأوهم يتجنبون مؤاكلة الحائض ومُلامَسَتَها ومخالطتَها (6) جملةً فجامَعُوها! ورأوهم __________ (1) إنجيل متى: (5/ 17 - 20). (2) ما بين القوسين ساقط من "ص، غ". (3) إنجيل متى: (23/ 3 - 6). (4) في "ج": "التقريب". (5) في "ب، ج": "وما يكره" وفي "غ": "وما تلذه". (6) ساقطة من "غ، ص".
(1/326)
يحرِّمون الخنزيرَ، فأباحوه وجَعَلُوه شِعَارَ دينِهِم، ورأوهم يحرِّمون كثيرًا من الذبائح والحيوان؛ فأباحوا ما دون الفِيل إلى البعوضة، وقالوا: كُلْ ما شئتَ (ودع ما شئتَ) (1) لا حَرَجَ، ورأوهم يستقبلون بيت المقدس في الصلاة فاستقبلوا هم الشرق، ورأوهم يحرِّمون على الله نَسْخَ شريعةٍ شَرَعَها، فجوَّزوا هم لأساقفتهم (2) وبتاركتهم أن يَنْسَخُوا ما شاؤوا، ويحلِّلوا ما شاؤوا، ويحرّموا ما شاؤوا، ورأوهم يحرِّمون السَّبت ويحفظونه فحرَّموا هُمُ الأحدَ وأحلُّوا السَّبت -مع إقرارهم بأنَّ المسيح كان يعظِّم السبت ويحفظه-، ورأوهم يَنْفِرُونَ من الصَّليب، فإنَّ (3) في التوراة "ملعون من تعلَّق بالصليب" (4) -والنصارى تقر بهذا- فعبدوا هم الصَّليبَ. كما أنَّ في التوراة تحريم الخنزير نصًّا فتعبَّدُوا هم بأَكْلِه، وفيها الأمر بالختان فتعبُّدوا هم بتَرْكه - مع إقرار النصارى بأنّ المسيح قال لأصحابه (5) : "إنما جئتَكم لأعمل بالتوراة ووصايا الأنبياء قَبْلي، وما جئت ناقضًا بل متمِّمًا، ولأن تقع السماء على الأرض أيسر عند الله من أن أنقض (شيئًا من) (6) شريعة موسى" (7) . فذهبت النصارى تنقُضُها شريعةً شريعةً في مكايدة اليهود __________ (1) ساقطة من "غ، ص". (2) في "غ، ص": "لأسقفتهم". (3) في "ب، ج": "وإن". (4) سفر التثنية: (21/ 23). (5) ساقطة من "ب": وفي "ج": "لا أصحابه". (6) ساقط من "غ، ص". (7) إنجيل متى: (5/ 17).
(1/327)
ومُغَايَظَتهم، وانْضَاف (1) إلى هذا السبب ما في كتابهم -المعروف عندهم بـ"أفركسيس" (2) -: أنَّ قومًا من النصارى خرجوا من بيت المقدس وأَتَوا أَنْطَاكِيَةَ وغيرها من الشَّام (3) فدَعَوا النَّاس إلى دين المسيح الصحيح، فَدَعَوْهُم إلى العمل بالتوراة وتحريم (4) ذبائح مَنْ ليس من أهلها، وإلى الختان وإقامة السَّبت، وتحريم الخنزير، وتحريم ما حرَّمته التوراة، فَشَقَّ ذلك على الأُمم واستثقلوه، فاجتمع النَّصارى ببيت المقدس وتشاوروا فيما يحتالون به على الأمم ليحبِّبُوهم إلى دين المسيح ويدخلوا فيه، فاتَّفق رأيُهم على مُدَاخَلةِ الأُمم والتَّرْخيصِ لهم والاختلاطِ (5) بهم، وأَكْلِ ذبائحهم، والانحطاطِ في أهوائهم، والتَّخلُّقِ بأخلاقهم وإنشاءِ شريعةٍ تكونُ بين شريعةِ الإنجيل وما عليه الأمم، وأنشؤوا في ذلك كتابًا. فهذا أحد مجامعهم الكبار. وكانوا كلَّما أرادوا إحْدَاث شيء اجتمعوا مجمعًا وافترقوا فيه على ما (6) يُرِيْدون إحْدَاثه إلى أن اجتمعوا المجمع الذي لم يجتمع لهم أكْبَرُ منه في عهد قسطنطين الرُّوميِّ ابن هيلانة الحرَّانِيَّة الفندقية، وفي زمنه بُدِّل دين المسيح، وهو الذي شادَ (7) دِينَ النَّصارى المبتَدَعَ وقام به __________ (1) في "ب، ج": "يضاف". (2) في "ب، ج": "بأقراكسيس"، وفي "غ": "بأقراكشيش". والمقصود به أعمال الرسل من العهد الجديد. (3) في "ب، ج": "بلاد الشام". (4) سقط من "ب". وفي "ج": "تحرم". (5) في "ج": "الاختلاء". (6) في "غ، ص": "كما .. " وفي "ب، ج": "عما". (7) في "غ، ص": "أساد".
(1/328)
وقَعدَ، وكان عدَّتُهم زهاء أَلْفَي رجلٍ، (فقرَّروا تقريرًا) (1) ثم رفضوه ولم يرتضوه. ثم اجتمع ثلاثمائة وثمانيةَ عَشَر رجلًا منهم -والنصارى يسمُّونهم الآباء- فقرَّروا هذا التقرير الذي هم عليه اليوم، وهو أصل الأصول عند جميع طوائفهم، لا يتمُّ لأحدٍ منهم نصرانيَّةٌ إلا به، ويسمُّونه "سنهودس" وهي "الأمانة"!! ولفظها: "نؤمن بالله الأب الواحد خالق ما يُرَى وما لا يُرى، والربُّ الواحد اليسوع المسيح ابن الله بِكْر أبيه وليس بمصنوع، إلهٌ حقٌّ من إلهٍ حقٍّ، من جوهر أبيه، الذي بيده (2) أتقنت العوالم وخلق كل شيء، الذي من أَجْلِنا -مَعْشَرَ الناس- ومِنْ أجْل خلاصنا نزل من السماء وتجسَّد من روح القدس ومن مريم البَتُول، (وحَبِلَتْ به مريم البتول) (3) وولدته، وأُخِذ وصُلِب، وقُتِل أيام فيلاطس (4) الرومي، ومات ودفن، وقام (5) في اليوم الثالث كما هو مكتوب، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مُسْتَعدّ للمجيء تارةً أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء. ونؤمن (6) بالربِّ الواحد رُوح القُدُس روحِ الحقِّ الذي يخرج من أبيه روح محبته (7) ، وبمعموديةٍ (8) واحدة لغفران الخطايا، وبجماعةٍ واحدة __________ (1) في "غ، ص": "فقدروا تقديرًا". (2) في "ج": "يده". (3) ساقط من "ج". (4) في "ص، ج": "قتلاطس". (5) في "غ": "وأقام". (6) في "ب، ج": "ويؤمن". (7) في "ج": "محييه" وفي "ب": "يحييه". (8) في "غ، ص": "لمعبودية".
(1/329)
قديسيَّة سليحية جاثليقية، وبقيام أبداننا وبالحياة الدائمة إلى أبد الآبدين". فصرَّحوا فيها بأن المسيح ربٌّ وأنه ابن الله، وأنه بِكْره ليس له ولد غيره، وأنه ليس بمصنوع؛ أي: ليس بعبد مخلوق بلَ هو ربٌّ خالق، وأنه إله حقٌّ اسْتُلَّ ووُلِد من إلهٍ حقٍّ، وأنه (مساوٍ لأبيه) (1) في الجوهر، وأنه بيده أتْقِنَتِ العوالم، وهذه اليد التي أتْقِنَت العوالم بها عندهم هي التي ذاقت حرَّ المسامير -كما صرَّحوا به في كتبهم-. وهذه ألفاظهم: قالوا: "وقد قال القدوة عندنا: إنَّ اليد التي سمرها اليهود في الخشبة هي اليد التي عجنت (2) طين آدم وخلقته، وهي اليد التي شبرت السماء، وهي اليد التي كتبت التوراة لموسى"! قالوا -وقد وصفوا صنيع اليهود به- وهذه ألفاظهم: "وإنهم لطموا (3) الإله (4) وضربوه على رأسه". قالوا: وفي بشارة الأنبياء به: أن الإله تحبل به امرأة عذراء وتَلِدُه ويُؤخَذ ويُصْلب ويُقْتل!. قالوا وأما "سنهودس" دون الأمم (5) ، قد اجتمع عليه سبعمائة من الآباء وهم القدوة فيه (6) : "إنَّ مريم حبلت بالإله وولدته وأرضعته وسقته وأطعمته". __________ (1) في "ص": "تشاء ولايته". (2) في "غ": "عجت". (3) في "غ": "لظلموا". (4) في "ب": "الآلهة". (5) هكذا في الأصول. ولم يظهر لي معناه ولعل فيه سقطًا أو تصحيفًا. (6) في "غ، ص، ب": "وفيه".
(1/330)
قالوا: وعندنا أن المسيحَ ابنُ آدم، وهو ربُّه وخالِقُه ورازِقُه، (وابنُ ولدِه إبراهيم وربُّه وخالقُه ورازقُه)، وابنُ إسرائيلَ وربُّه وخالقه ورازقه، وابن مريم وربُّها وخالِقُها ورازقُها. قالوا: وقد قال علماؤنا، ومن هو القدوة عند جميع طوائفنا: "اليسوع (1) في البدء ولم يزل كلمة، والكلمة لم تزل الله، والله هو الكلمة، فذاك الذي ولدته مريم وعاينه (2) الناس وكان بينهم هو الله وهو ابن الله وهو كلمة الله" (3) . هذه ألفاظهم. قالوا (4) : فالقديم الأزليُّ خالق السموات والأرض هو الذي عاينه الناس بأبصارهم ولمسُوه بأيديهم، وهو الذي (5) حبلت به مريم وخاطب الناس من بطنها حيث قال للأعمى: (أنت مؤمن بالله؟ قال الأعمى:) (6) ومن هو حتى أوْمِنَ به؟ قال: هو المخاطب لك (7) . فقال: آمنت بك، وخرَّ ساجدًا. قالوا: فالذي حبلت به مريم هو الله وابن الله وكلمة الله (8) . __________ (1) ما بين القوسين ساقط من "غ، ص". (2) في "ب، ج": "أيسوع". (3) في "ج": "عاتبه". (4) إنجيل يوحنا: (1/ 1 - 5). (5) ساقط من "غ، ص، د". (6) ما بين القوسين ساقط من "غ، ص". (7) في "د": "لك، ابن مريم". (8) انظر: إنجيل يوحنا: (9/ 35).
(1/331)
وقالوا (1) : وهو الذي ولد ورَضِع وفُطِم، وأُخذ وصُلب وصفع، وكُتِّفت يداه، وسُمِرَ، وبُصِق في وجهه، ومات ودُفِن، وذاق أَلَمَ الصَّلْب والتَّسمير والقتل، لأجل خلاص النصارى من خطاياهم. قالوا: وليس المسيح عند طوائفنا الثلاثة بنبيٍّ ولا عَبْدٍ صالح، بل هو ربُّ الأنبياء وخالقُهم، وباعثُهم، ومُرْسِلُهم، وناصرُهم، ومؤيِّدهم، وربُّ الملائكة. قالوا: وليس مع أمه بمعنى الخلق والتدبير واللطف (2) والمعونة، فإنه لا يكون لها بذلك مزية على سائر الإناث ولا الحيوانات. ولكنه معها بحَبَلِها به واحتواءِ بطنها عليه، فلهذا فارَقَتْ (إنَاث جميع الحيوانات) (3) وفارق ابنُها جميع الخلق (4) ، فصار الله وابنه الذي نزل من السماء وحبلت به مريم وولدته: إلهًا واحدًا، ومسيحًا واحدًا، وربًّا واحدًا وخالقًا واحدًا، لا يقع بينهما فرق، ولا يبطل الاتحاد بينهما بوجه من الوجوه، لا في حَبَلِ ولا في ولادةٍ، ولا في حالِ نومٍ ولا مرضٍ، ولا صَلْبٍ ولا موتٍ، ولا دَفنٍ، بل هو متَّحدٌ به في حال الحبل، فهو في تلك الحالَ مسيحٌ واحد، وخالقٌ واحد، وإله واحدٌ وربٌّ واحد، وفي حال الولادة كذلك، وفي حال الصلب والموت كذلك. قالوا: فمنا مَنْ يُطْلِق في لفظه وعبارته (5) حقيقةَ هذا المعنى فيقول: __________ (1) في "ب، ج": "فقالوا". (2) من "د" فقط. (3) في "غ، ص": "جميع إناث الحيوان". (4) في "غ": "الحق". (5) في "غ، ص، ب": "عبادته".
(1/332)
مريم حبلت بالإله، (وولدت الإله) (1) ، ومات الإله. ومنا من يمتنع من هذه العبارة لبشاعة لفظها ويعطي معناها وحقيقتها، ويقول: مريم حبلت بالمسيح في الحقيقة، وولدت المسيح في الحقيقة، وهي (2) أمُّ المسيح في الحقيقة، والمسيح إلهٌ في الحقيقة، وربٌّ في الحقيقة، وابنُ اللهِ في الحقيقة، وكلمةُ اللهِ في الحقيقة، لا ابنَ للهِ في الحقيقة سِواهُ، ولا أب للمسيح في الحقيقة إلا هو. قالوا: فهؤلاء (3) يوافقون في المعنى قَوْلَ مَنْ قال: حبلت بالإله، وولدت الإله، وقتل الإله، وصلب ومات ودفن، وإن منعوا اللفظ والعبارة. قالوا: وإنما مَنَعْنَا هذه العبارة (4) التي أطْلَقَها إخوانُنا، لئلا يتوهم علينا، إذا قلنا: حبلت بالإله، وولدت الإله، وألم الإله (ومات الإله) (5) = أنَّ هذا كله حل ونزل بالإله الذي هو أب، ولكنا نقول: حلَّ هذا كله ونزل بالمسيح، والمسيح عندنا وعند طوائفنا إلهٌ تام مِنْ إلهٍ تام من جوهر (6) أبيه، فنحن وإخوانُنا في الحقيقة شيءٌ واحد لا فرق بيننا إلا في العبارة فقط. قالوا: فهذا حقيقة ديننا وإيماننا، والآباءُ والقدوةُ قد __________ (1) ساقط من "غ، ص". (2) ساقط من "ج". (3) في "ج": "فيها ولاي". (4) في "غ، ج": "العبادة". (5) ساقط من "غ، ص". (6) في "غ، ص": "جواهر".
(1/333)
قالوه (1) قَبْلَنا وسَنُّوه لنا، ومهَّدوه، وهم أعلم بالمسيح منَّا. ولا تختلف المثلِّثةُ عُبَّاد الصليب من أولهم إلى آخرهم: أنَّ المسيح ليس بنبيٍّ ولا عبدٍ صالح، ولكنه إلهٌ حقٌّ من إلهٍ حقٍّ من جوهر أبيه، وأنه إلهٌ تام من إله تام، وأنه خالقُ (2) السموات والأرضين، والأولين والآخرين ورازقُهم ومُحْييهم ومُمِيتُهم، وباعثُهم من القبور، وحاشِرُهم ومحاسبهم، ومثيبهم ومعاقبهم. والنَّصارى تعتقد أنَّ الأب انخَلَع من مُلْكه كله وجَعَلَه لابنه، فهو الذي يخلق ويرزق، ويميت ويحيي، ويدبِّر أمر السموات والأرض. ألا تراهم يقولون في أمانتهم: "ابنُ الله وبكْر أبيه، وليس بمصنوع -إلى قولهم- بيده أتقنت العوالم وخلق كل شَيء -إلى قولهم- وهو مستعدٌّ للمجيء تارة أخرى لفصل القضاء بين الأموات والأحياء" ويقولون في صلواتهم ومناجاتهم: "أنت أيها المسيح اليسوع تحيينا وترزقنا وتخلق أولادنا وتقيم أجسادنا وتبعثنا وتجازينا"؟!. وقد تضمن هذا كلُّه تكذِيْبَهُم الصَّريحَ للمسيحِ، وإنْ أَوْهَمَتْهُمْ ظُنُونُهمُ الكاذبةُ أنهم يصدِّقونه؛ فإنَّ المسيح قال لهم: "إنَّ الله ربي وربُّكم، وإلهي وإلهكم" (3) فشهد على نفسه أنه عبدٌ لله مربوبٌ مصنوع، كما أنهم كذلك، وأنه مثلهم في العبودية والحاجة والفاقة إلى الله، وذكر أنَّه رسول الله إلى خلقه كما أرسل (4) الأنبياء قبله، ففي إنجيل يوحنا أن __________ (1) في "ب، غ": "قالوا". (2) في "ج": "خلق". (3) إنجيل يوحنا: (20/ 18). (4) في "ج": "أرسلت".
(1/334)
المسيح قال في دعائه: "إن الحياة الدائمة إنما تجب للناس بأن يشهدوا أنك أنتَ اللهُ الواحدُ الحقُّ وأنك أرسلتَ اليسوعَ المسيحَ" (1) . وهذه حقيقة شهادة المسلمين أنْ لا إله إلا الله وأَنَّ محمدًا رسول الله. وقال لبني (2) إسرائيل: "تريدون قتلي وأنا رجلٌ قلت لكم الحقَّ الذي سمعتُ اللهَ يقولُه" (3) . فذكر ما (4) غايَتُه أنَّه رجل بلَّغهم ما قاله الله، ولم يقلْ: وأنا إله، ولا ابن الإله، (على معنى التوالد) (5) . وقال: "إني لم أجيء لأعمل بمشيئة نفسي ولكن بمشيئة مَنْ أرسلَني" (6) وقال "إنَّ الكلام الذي تسمعونه مني (ليس من تلقاء نفسي) (7) ، ولكن من الذي أرسلني، والويل لي إنْ قلتُ شيئًا من تلقاء نفسي، (ولكن بمشيئةِ مَنْ أرسلني) (8) . وكان يواصل (9) العبادة من الصلاة والصوم ويقول: "ما جئت __________ (1) إنجيل يوحنا: (17/ 3 - 4). (2) في "ج": "النبي". (3) إنجيل يوحنا: (8/ 40). (4) ساقطة من "ب، غ، ص". (5) ساقط من "ب، ج، ص، غ". (6) إنجيل يوحنا: (7/ 16 - 19). (7) في "ب، ج": "ليس هو لي". (8) ساقط من "ب، ج". والنص في إنجيل يوحنا: (5/ 30). (9) في "ج": "يوصل".
(1/335)
لأُخْدَم إنما (1) جئت لأَخْدُمَ" (2) فأنزل نفسه بالمنزلة التي أنزله اللهُ بها وهي منزلة الخدام. وقال: "لست أدينُ العِبَاد بأعمالهم ولا أحاسِبهم (3) بأعمالهم، ولكن الذي أرسلني هو الذي يَلي ذلك منهم" (4) . كل هذا في الإنجيل الذي بأيدي النصارى (5) . وفيه أن المسيح قال: "يا ربّ قد علموا أنك قد أرسلتني، وقد ذكرت لهم اسمك" (6) (فأخبر أنَّ الله) (7) ربُّه، وأنه عبده ورسوله. وفيه: "أنَّ الله الواحد ربُّ كلِّ شيء، أرسل من أرسل من البشر إلى جميع العالَم ليُقْبِلوا إلى الحق". وفيه أنه قال: "إنَّ الأعمال التي أعمل (8) هي الشاهدات لي بأنَّ الله أرسلني إلى هذا العالَم" (9) . وفيه: "ما أبعدني وأتعبني إن أحدثت (10) شيئًا من قِبَل نفسي، ولكن __________ (1) ساقط من "غ، ص". (2) إنجيل متى: (23/ 11). (3) في "ج": "أحاسبهم حسابهم". (4) انظر: إنجيل يوحنا: (5/ 30). (5) ساقط من "ب، ج". (6) إنجيل يوحنا: (5/ 36 - 37). (7) في "غ": "فأخبره". (8) في "غ، ص": "أعملني" وفي "ج": "أعملها". (9) إنجيل يوحنا: (7/ 17 - 18). (10) في "ج": "حدث".
(1/336)
أتكلَّمُ وأجيبُ بما علَّمني ربي" (1) . وقال: "إن الله مسحني وأرسلني، وأنا عبد الله، (وإنما أعبدُ الله) (2) الواحدَ ليومِ الخلاصِ" (3) . وقال: "إنَّ الله -عز وجل- ما أكل ولا يأكل، وما شرب ولا يشرب، ولم ينم ولا ينام، وما ولد له، ولا يولد، وما رآه أحد، وما يراه أحد إلا مات" (4) . وبهذا يظهر لك سرُّ قوله تعالى في القرآن: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75]. تذكيرًا للنَّصارى بما قال لهم المسيح. وقال في دعائه لما سأل ربَّه أن يحيي الميت: "أنا أشكرك وأَحْمَدُك؛ لأنك (5) تُجيب دعائي في هذا الوقت وفي كل وقت، فأسألك أنْ تُحْيِى هذا الميت ليعلم بنو إسرائيل أنَّك أرسلتني وأنك تجيب دعائي" (6) . وفي الإنجيل أنَّ المسيح حين خرج من السامريَّة ولحق بجِلْجَال (7) __________ (1) إنجيل يوحنا: (7/ 17). (2) في "ج": "أنا عبد". (3) إنجيل لوقا: (4/ 18). (4) المواضع السابقة. (5) في "غ، ص": "أنك"، وفي "ج": "أنا أنت". (6) إنجيل يوحنا: (11/ 42 - 43). (7) كلمة عبرية معناها متدحرج. ولها عدة معاني، منها أنها اسم قرية. انظر: "قاموس الكتاب المقدس"، ص (262).
(1/337)
قال: "لم يُكْرَمْ أحدٌ من الأنبياء في وطنه" (1) فلم يزد على دعوى النبوة. وفي إنجيل لوقا: "لم يُقْبَل (2) أحدٌ من الأنبياء في وطنه فكيف تقبلونني" (3) . وفي إنجيل مرقس (4) : "أنَّ رجلًا أقبل إلى المسيح وقال: أيها المعلِّم الصالح (5) أيُّ خيرٍ أعملُ لأنالَ الحياةَ الدائمة؟ فقال له المسيح: لِمَ قلتَ صالحًا؟ إنما الصالح الله وحده، وقد عرفتَ الشروطَ؛ لا تَسْرِقْ، ولا تَزْنِ (6) ، ولا تَشْهَدْ بالزُّور، ولا تَخُنْ، وأكْرِمْ أباكَ وأمَّكَ" (7) . وفي إنجيل يوحنَّا أن اليهود لما أرادوا قَبْضَه رفع بصرَه إلى السماء وقال: "قد دَنَا الوقتُ يا إلهي فشرِّفْني لديك، واجعلْ لي سبيلًا أن أملِّك كلَّ من مَلَّكْتني الحياةَ (الدائمة، وإنما الحياة) (8) الباقية أن يؤمنوا بك إلهًا واحدًا، وبالمسيح الذيِ بعثتَ، وقد عظَّمتُك على أهل الأرض، واحتملت الذي أمَرْتَنِي به فشَرِّفْنِي" (9) فلم يدَّع سوى أنه عبد مرسل مأمور مبعوث. __________ (1) إنجيل لوقا: (4/ 24). (2) في "غ، ص": "يقتل ... تقتلونني". (3) إنجيل لوقا: (4/ 24 - 25). (4) في "ب، ج، ص": "مرقش". (5) ساقطة من "غ". (6) في "ج": "لا تزني". (7) إنجيل مرقس: (10/ 17 - 22). (8) ساقط من "ص". (9) إنجيل يوحنا: (17/ 1 - 5).
(1/338)
وفي إنجيل متى (1) : "لا تنسبوا أباكم الذي على الأرض فإنّ أباكم الذي في السماء وحده، ولا تَدْعُوا معلِّمين؛ فإنما معلِّمُكم المسيح وحده" (2) . والأب في لغتهم الربُّ المربِّي، أي: لا تقولوا إلهكم وربكم في الأرض، ولكنه في السماء، ثم أنزل نفسه بالمنزلة التي أنزله بها ربه ومالكه وهو أنَّ غايته أنه (3) يعلِّم في الأرض، وإلههم هو الذي في السماء. وفي إنجيل لوقا حين دعا الله فأحيا ولد المرأة فقالوا: "إن هذا النبي لعظيم، وإن الله قد تفقد أمته" (4) . وفي إنجيل يوحنا: أنَّ المسيح أعلنَ صوته في البيت وقال لليهود: "قد عرفتموني وموضعي، وله آتِ من ذاتي، ولكن بعثني الحقُّ وأنتم تجهلونه، فإن قلتُ: إني أجهله، كنت كاذبًا مثلكم، وأنا أعلم (وأنتم تجهلونه) (5) أني منه وهو بعثني" (6) فما زاد في دعواه على ما ادَّعاه الأنبياء، فأمسكتِ المثلَّثةُ قوله: "إني منه" وقالوا: إله حق من إله حق. وفي القرآن: {رَسُولٌ مِنَ اللهِ} [البينة: 2]، وقال هود: {وَلَكِنِّى رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ} [الأعراف: 67]. وكذلك قال صالح! ولكن أمة الضلال __________ (1) ساقط من "ج". (2) إنجيل متى: (23/ 9 - 10). (3) ساقطة من "ج". (4) إنجيل لوقا: (7/ 16). (5) زيادة من "ص". (6) إنجيل يوحنا: (7/ 28 - 30).
(1/339)
-كما أخبر الله عنهم- يَتَّبِعون (1) المتشابه ويردُّون المُحْكَمَ. وفي الإنجيل أيضا أنه قال لليهود وقد قالوا له: نحن أبناء الله، فقال: "لو كان الله أباكم لأَطَعْتُمُوني لأني رسولٌ منه خرجت مقبلًا ولم أقبل من ذاتي ولكن هو بعثني، لكنكم لا تقبلون وصيتي وتعجزون عن سماع كلامي، إنما أنتم أبناء الشيطان (2) وتريدون إتمامَ (3) شهواتِه" (4) . وفي الإنجيل أن اليهود أحاطت به وقالت له: إلى متى تُخْفِي أمرك؟ إن كُنْتَ المسيح الذي ننتظره فأَعْلِمْنَا بذلك (5) ولم تقل: إنْ كُنْتَ الله أو ابنَ الله، فإنّه لم يدَّع (6) ذلك، ولا فَهِمَه عنه أحدٌ من أعدائِه ولا أتباعِه. وفي الإنجيل أيضا: إنَّ اليهود أرادوا القبض عليه فبعثوا لذلك الأعوان (7) ، وأن الأعوان رجعوا إلى قوادهم، فقالوا لهم: لِمَ لَمْ تأخذوه؟ فقالوا: ما سمعنا آدميًّا أنصف منه، فقالت اليهود: وأنتم أيضًا مخدوعون، أترون أنه آمَنَ به أحدٌ من القوَّاد أو من رؤساء أهل الكتاب؟ فقال لهم بعض أكابرهم: أَتَرَوْنَ كتابَكم يحكمُ على أحدٍ قبل أن يسمع منه؟ فقالوا له: اكشف الكتب ترى أنه لا يجيء من جلجال نبيٌّ (8) فما __________ (1) في "ج": "يبتغون". (2) في "ب، ج": "الشياطين". (3) في "ج": "آثام". (4) إنجيل يوحنا: (8/ 41 - 47). (5) إنجيل يوحنا: (10/ 23). (6) في "ج": "يدعى". (7) في "ج": "أعوانًا". (8) إنجيل يوحنا: (7/ 45 - 47).
(1/340)
قالت اليهود ذلك إلا وقد أنزل نفسه بالمنزلة التي أنزله بها ربُّه ومالكه أنه نبيٌّ، ولو علمت من دعواه الإلهية لذكرتْ ذلك له، وأنْكَرَتْهُ (1) عليه، وكان أعظم أسباب التنفير (2) عن طاعته، لأنَّ كذبه كان يُعْلم بالحسِّ والعقل والفطرة واتفاق الأنبياء. ولقد كان يجب لله سبحانه -لو سبق في حكمته أنه يبرز لعباده، وينزل عن كرسي عظمته، ويباشرهم بنفسه- أن (لا يَدْخُل في فرج) (3) امرأة، ويقيمَ في بطنها بين البولِ والنَّجْو والدمِ عِدَّةَ أشهر. وإذْ قد فعل ذلك (لا يخرج صبيًّا صغيرًا، يرضع ويبكي، وإذْ قد فعل ذلك) (4) ، لا يأكل مع الناس ويشرب معهم وينام. وإذْ قد فعل ذلك فلا يبول ولا يتغوَّط ويمتنع من الخرأة إذْ هي مَنْقَصَة ابْتُلِيَ بها الإنسانُ في هذه الدار لنقصه وحاجته. وهو -تعالى- المختصُّ بصفات الكمال، المنعوتُ بنعوت الجلال الذي ما وسعته سمواته ولا أرضه، وكرسيُّه وسع السموات والأرض، فكيف وسعه فرج (5) امرأة. تعالى الله رب العالمين!! وكلُّكم متفقون على أن المسيح كان يأكل ويشرب ويبول ويتغوَّط وينام. فيا مَعْشَرَ المثلِّثة وعُبَّاد الصليب! أخْبِرُونا مَنْ كان الممسك للسموات والأرض حين كان ربُّها وخالقها مربوطًا على خشبة __________ (1) في "ج": "وأنكرت". (2) في "ج": "التعبير"، وفي "غ، ص": "النقير". (3) في "ج": "يدخل في بطن". (4) ما بين القوسين ساقط من "ص، غ". (5) في "ج": "بطن".
(1/341)
الصليب (1) وقد شدت يداه ورجلاه بالحبال، وسمرت اليد التي أتقنت العوالم، فهل بقيت السموات والأرض خلوًا من إلهها وفاطرها وقد جرى عليه هذا الأمر؟!. أم تقولون: استخلفَ على تدبيرها غيرَه، وهبط عن عرشه لِرَبْطِ نفسه على خشبة الصَّليب، ولِيذوقَ حرَّ المسامير، ولِيوجِبَ اللعنة على نفسه حيث قال في التوراة: "ملعونٌ ملعونٌ من تعلَّق بالصليب" (2) أم تقولون: كان هو المدبِّر لهما في تلك الحال، فكيف وقد مات ودفن؟!. أم تقولون -وهو حقيقة قولكم-: لا ندري، ولكن هذا في الكتب وقد قاله الآباء وهم القدوة، والجواب عليهم؟!. فنقول (لكم: وإلا يا) (3) معاشر المثلِّثة عُبَّاد الصليب! ما الذي دلَّكم على إلهية المسيح؟ فإن كنتم استدللتم عليها بالقبض (4) من أعدائه عليه وسَوْقِه إلى خشبة الصليب وعلى رأسه تاج من الشوك، وهم يبصقون في وجهه ويصفعونه، ثم أركبوه ذلك (5) المركب الشنيع، وشَدُّوا يديه ورجليه بالحبال، وضربوا فيها المسامير، وهو يستغيث، ويقلق ثم فاضت نفسه وأودع ضريحه، فما أصحَّه (6) من استدلالٍ عند أمثالكم ممَّنْ هم أضل من الأنعام، وهم عار على جميع الأنام!!. __________ (1) في "ج": "الصلب". (2) سفر التثنية: (21/ 23). (3) في "د، ص": "لكم وللآباء". (4) في "ب، ص": "بالقبض عليه". (5) ساقطة من "ب، ج". (6) في "د": "أقبحه".
(1/342)
وإن قلتم: إنما استدللنا على كونه إلهًا بأنه لم يولد من البشر، ولو كان مخلوقًا لكان مولودًا من البشر. فإن كان هذا الاستدلال صحيحًا فآدم إله المسيح، وهو أحقُّ بان يكون إلهًا منه، لأنه لا أمّ له ولا أب، والمسيح له أم، وحواء أيضًا اجعلوها إلهًا خامسًا لأنها لا أمّ لها، وهي أعجب من خَلْق المسيح؟! والله سبحانه قد نوعَّ خلق آدم (1) وبنيه إظهارًا لقدرته، وأنه يفعل ما يشاء، فخلق آدم لا مِنْ ذكَرٍ ولا من أنثى، وخلق زوجه حواء من ذكر لا من أنثى، وخلق عبده المسيح من أنثى لا من ذكر، وخلق سائر النوع (2) من ذكر وأنثى. وإن قلتم: استدللنا على كونه إلهًا بأنه أحيا الموتى، ولا يحييهم إلا الله فاجعلوا موسى إلهًا آخر، فإنه أتى من ذلك بشيء لم يأتِ المسيحُ بنظيره ولا ما يقاربه، وهو جَعْلُ الخشبة حيوانًا (3) عظيمًا ثعبانًا (4) ، فهذا أبلغ وأعجب من إعادة الحياة إلى جسمٍ كانت فيه أولًا. فإن قلتم: هذا غير إحياء الموتى! فهذا اليسع النبيُّ أتى بإحياء الموتى، وهم (5) يُقِرُّون بذلك، وكذلك إيليا (6) النبيُّ أيضًا أحيا صبيًّا بإذن الله، وهذا موسى قد أحيا بإذن الله السبعين الذين ماتوا من قومه، وفي كتبكم من ذلك كثير عن __________ (1) في "ج": "الشيخ". (2) في "ج": "الأنواع". (3) ساقط من "ج، ب". (4) في "غ، ص": "بعبادنا". (5) في "غ": "وهو وهم". (6) في "ب، ج": "إلياس".
(1/343)
الأنبياء والحواريين: فهل صار أحد منهم إلهًا بذلك؟!! وإن قلتم: جعلناه إلهًا للعجائب التي ظهرت على يديه؛ فعجائب موسى أعجب وأعجب، وهذا إيليا النبيُّ بارك على دقيقِ العجوز ودُهْنِها فلم يَنْفَدْ ما في جرابها من الدقيق وما في قارورتها من الدهن سَبْعَ سنين (1) !!. وإن جعلتموه إلهًا لكونه أَطْعَمَ من الأرغفة اليسيرة آلافًا من الناس (2) ؛ فهذا موسى قد أطعم أمته أربعين سنةً من المَنِّ والسَّلْوى!! وهذا محمد بن عبد الله قد أطعم العَسْكَرَ كلَّه من زادٍ يسير جدًّا حتى شبعوا وملأوا أوعيتهم (3) ، وسقاهم كلَّهم من ماءٍ يسيرٍ لا يملأ اليد (4) حتى ملأوا كلَّ سقاء في العسكر، وهذا منقول عنه بالتواتر (5) !!. وإن قلتم: جعلناه إلهًا لأنه صاح بالبحر فسكنت أمواجه؛ فقد ضرب موسى البحر بعصاه فانفلق اثني عشر طريقًا، وقام الماء بين الطرق كالحيطان، وفجَّر من الحجر الصَّلْد اثني عشر عينًا سارحة!!. وإن جعلتموه إلهًا لأنه أبرأ الأكْمَهَ والأبرصَ؛ فإحياءُ الموتى أعجب من ذلك، وآياتُ موسى ومحمدٍ -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- __________ (1) انظر: "سفر الملوك الأول": (17/ 11 - 16). (2) انظر: إنجيل يوحنا: (6/ 9 - 10). (3) أخرجه مسلم في الإيمان: (1/ 57). (4) في "ج": "يعم اليد" وفي "غ، ص": "يغير". (5) أخرجه البخاري في المغازي، باب غزوة الحديبية: (5/ 260) (الطبعة المنيرية). وانظر: "نظم المتناثر من الحديث المتواتر" للكتاني، ص (212 - 213).
(1/344)
أعْجَبُ من ذلك!!. وإن جعلتموه إلهًا لأنه ادَّعى ذلك؛ فلا يخلو: إما أن يكون الأمر كما تقولون عنه، أو يكون إنما ادَّعى العبوديةَ والافتقارَ وأنه مربوبٌ مصنوع مخلوق، فإن كان كما ادَّعيتم عليه فهو أخو المسيح الدجَّال، وليس بمؤمن ولا صادق، فضلًا عن أن يكون نبيًّا كريمًا، وجزاؤه جهنم وبئس المصير، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 29]. وكل من ادَّعى الإلهيَّة من دون الله فهو من أعظم أعداء الله كفرعون ونمرود وأمثالهما من أعداء الله، فأخرجتم (1) المسيح عن كرامة الله ونبوَّته ورسالته، وجعلتموه من أعظمِ أعداءِ الله، ولهذا كنتم أشدَّ الناس عداوةً للمسيح في صورة مُحِبٍّ مُوالٍ!! ومن أعظم ما يُعْرَفُ به كذب المسيحِ الدجَّال أنَّه يدَّعي الإلهيَّة، فيبعث اللهُ عَبْدَهُ ورسولَه مسيحَ الهدى ابنَ مريم فيقتله، ويُظْهِر للخلائق أنه كان كاذبًا مفتريًا. ولو كان إلهًا لم يقتل، فضلًا عن أن يُصْلَب ويُسَمر ويُبْصَقَ في وجهه!!. وإن كان المسيح إنما ادَّعى أنه عبدٌ ونبيٌّ ورسولٌ، كما شهدت به الأناجيل كلُّها ودلَّ عليه العَقْلُ والفِطْرَةُ وشهدتم أنتم له بالإلهيَّة -وهذا هو الواقع (2) - فلم تأتوا على إلهيَّتِهِ ببيِّنة غير تكذيبه في دعواه، وقد ذكرتم عنه في أناجيلكم في مواضعَ عديدةٍ ما يصرِّح بعبوديته وأنه مَرْبُوبٌ مخلوقٌ، وأنه ابنُ البَشَرِ، وأنّه لم يدَّعِ غير النبوة والرسالة، فكذَّبْتُمُوه في __________ (1) في "غ": "فأخرتم". (2) في "ب، ج": "قول الواقع".
(1/345)
ذلك كلِّه وصدَّقْتُم من كَذَبَ على الله وعليه (1)!!. فصل وإن قلتم: إنما جعلناه إلهًا لأنه أخبر بما يكون بعده من الأمور. فكذلك عامَّةُ الأنبياءِ، وكثيرٌ (2) من الناس: يخبر عن حوادثَ في المستقبلِ جزئية، ويكون ذلك كما أخبر به، ويقع من ذلك كثير للكُهَّان والمنجِّمِيْنَ والسَّحَرَةِ!!. فصل وإن قلتم: إنما جعلناه إلهًا لأنه سمَّى نفسَهُ ابنَ الله في غير موضع من الإنجيل كقوله: "إني ذاهبٌ إلى أبي" (3)، وإني "سائل أبي" (4)، ونحو ذلك، وابن الإله إلهٌ. قيل: فاجعلوا أنفسكم كلَّكم آلهة فإنَّ في الإنجيل في غير موضع أنه سمَّاه "أباه، وأباهم" كقوله: "أذهب إلى أبي وأبيكم" وفيه: "ولا تسبوا (5) أباكم على الأرض، فإنَّ أباكم الذي في السماء وحده" (6). وهذا كثير في الإنجيل. وهو يدلُّ على أنَّ الأب عندهم الرب!! __________ (1) في "ب": "ورسوله". (2) في "غ، ص": "بل، وكثير .. ". (3) إنجيل يوحنا: (20/ 17). (4) إنجيل يوحنا: (17/ 9). (5) في "ص": "تنسبوا". (6) إنجيل متى: (23/ 9).
(1/346)
وإن جعلتموه إلهًا لأنَّ تلاميذه ادَّعَوا ذلك له، وهم أعْلَمُ الناس به، كذبْتُم (1) أناجيلَكم التي بأيديكم، فكلُّها صريحةٌ -أظهر صراحةٍ- بأنهم ما ادَّعَوا له إلا ما ادَّعاه لنفسه من أنه عَبْدٌ. فهذا "متى" يقول في الفصل التاسع من إنجيله محتجًّا بنبوة إشَعْيَا في المسيح عن الله عز وجل: "هذا عبدي الذي اصطفيتُه، وحبيبي الذي ارتاحت نفسي له" (2) ، وفي الفصل الثامن من إنجيله: "إني أشكرك يا رب"، "ويا رب السموات والأرض" (3) . وهذا "لوقا" يقول في آخر إنجيله: "إنَّ المسيحَ عَرَضَ له ولآخرَ من تلاميذه في الطريق ملكٌ وهما محزونان. فقال لهما وهما لا يعرفانه: ما بالكما محزونَيْن؟ فقالا (4) : كأنك غريبٌ في بيت المقدس، إذْ كنت لا تعلم ما حدث فيها في هذه الأيام من أمر يسوع النَّاصريِّ؛ فإنه كان رجلًا نبيًّا قويَّا تقيًّا في قوله وفعله، عند اللهِ وعند الأمةِ (5) ، أخذوه وقتلوه" (6) ، وهذا كثير جدًّا في الإنجيل!. وإن قلتم: إنما جعلناه إلهًا لأنه صَعِدَ إلى السماء، فهذا أخنوخ (7) __________ (1) في "ب، ج": "كذبتكم". (2) إنجيل متى: (12/ 18). (3) إنجيل متى: (8/ 25). (4) في "ب، ج": "فقال". (5) في "ج": "أمته". (6) إنجيل لوقا، (24/ 15 - 21). (7) إدريس عليه السلام.
(1/347)
وإلياس قد صَعِدَا (1) إلى السماء وهما حيَّان مكرمان لم تَشُكْهُما (2) شوكةٌ، ولا طمع فيهما طامع. والمسلمون مجمعون على أنَّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - صَعِدَ إلى السماء وهو عبد محض، وهذه الملائكة تَصْعَد إلى السماء، وهذه أرواح المؤمنين تصعد إلى السماء بعد مفارقتها الأبدان، ولا تخرج (3) بذلك عن العبوديَّة، وهل كان الصُّعُود إلى السماء مخرجًا عن العبودية بوجه من الوجوه؟!!. وإن جعلتموه إلهًا لأن الأنبياء سَمَّتْه إلهًا وربًّا وسيِّدًا ونحو ذلك. فلم يزل كثيرٌ من أسماء الله -عز وجل- تقع على غيره عند جميع الأممِ وفي سائر الكتب، وما زالت الرومُ والفُرْس والهندُ والسُّرْيَانِيُّون والعِبْرَانِيُّون والقِبْطُ وغيرهم يُسمُّون (4) ملوكهم آلهةً وأربابًا. وفي السفر الأول من التوراة: "أن بني الله دخلوا على بنات الناس ورأوهنَّ بارعاتِ الجمال فتزوجوا منهنَّ" (5) ، وفي السفر الثاني من التوراة في قصة المخرج من مصر: "إني جعلتك إلهًا لفرعون" (6) ، وفي المزمور الثاني والثمانين لداود: "قام الله لجميع الآلهة" (7) . هكذا في العبرانية، وأما من نقله إلى السُّريانيَّة فإنه حرَّفه فقال: "قام الله في جماعة الملائكة" وقال في هذا المزمور وهو يخاطب قومًا بالروح: "لقد ظننت أنكم آلهة __________ (1) في "ج": "صعدوا". (2) في "غ": "يشكهما". (3) في "ب": "يخرج". (4) ساقط من "ج"، وفي "غ": "يسمو". (5) سفر التكوين: (6/ 1 - 2). (6) سفر الخروج: (7/ 1). (7) انظر: المزامير، المزمور (82).
(1/348)
وأنكم أبناء الله كلكم" (1). وقد سمَّى الله -سبحانه- عبده بالمَلِك، كما سمَّى نفسه بذلك، وسماه بالرؤوف الرحيم كما سمَّى نفسه بذلك، وسمَّاه بالعزيز وسمى نفسه بذلك (2). واسمُ الربِّ واقعٌ على غير الله تعالى في لغة أمة التوحيد، كما يقال: هذا ربُّ المنزل، ورب الإبل، وربُّ هذا المتاع. وقد قال إشَعْيَا: "عرف الثَّورُ مَنِ اقتناه، والحمار مربط ربِّه، ولم (3) يعرف بنو إسرائيل" (4). وإن جعلتموه إلهًا لأنه صنع من الطين (كهيئة الطير) (5)، أي صورةَ طائرِ، ثم (6) نفخ فيها فصارت لحمًا ودمًا وطائرًا حقيقةً، ولا يفعل هذا إلا الله. قيل: فاجعلوا موسى بن عمران إلهَ الآلهةِ؛ فإنه ألقى عصًا فصارت ثعبانًا عظيمًا، ثم أمسكها بيده فصارت عصًا كما كانت. فصل وإن قلتم: جعلناه إلهًا لشهادة الأنبياء والرسل له بذلك، قال عزرا -حيث سباهم بختنصر إلى أرض بابل إلى أربعمائة واثنين وثمانين __________ (1) المزامير، (82). (2) في "غ، ص": "كذلك". (3) في "ب، ج": "ولو لم". (4) سفر إشعياء: (1/ 1). (5) ما بين القوسين ساقط من "ب، ج، ص". (6) في "ج": "لما".
(1/349)
سنة-: "يأتي المسيح ويخلِّص الشعوب والأمم" (1) وعند انتهاء هذه المدة أتى المسيح، ومن يطيق تخليص الأمم والشعوب (2) غير الإله التام؟! قيل لكم: فاجعلوا جميع الرسل آلهةً، فإنهم خلَّصوا الأمم من الكفر والشِّرْك، وخلَّصوهم من النار بإذن الله وحده (3) . ولا شكَّ أن المسيح خلَّص مَنْ آمن به واتَّبَعَه من ذُلِّ الدنيا وعذاب الآخرة، كما خلَّص موسى بني إسرائيل من فرعونَ وقومه، وخلَّصهم بالإيمان بالله واليوم الآخر، من عذاب الآخرة، وخلَّص اللهُ سبحانه بمحمدِ بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - -عبدِه ورسوله- من الأمم والشعوب ما لم يخلِّصه نبيٌّ سواه. فإنْ وجبت بذلك الإلهيَّة لعيسى فموسى ومحمد (4) أحقُّ بها منه!! وإن قلتم: أَوْجَبْنَا له بذلك الإلهيَّة لقول إِرْمِيَاء النبيِّ عن ولادته: "وفي ذلك الزمانِ يقومُ لداودَ ابنٌ، وهو ضوء النُّور، يملك الملك، ويقيمُ الحقَّ والعدل في الأرض، ويخلِّص مَنْ آمن به من اليهود ومن بني إسرائيل ومن غيرهم، ويبقى بيتُ المَقْدِس (من غير مقاتل) (5) ، ويسمى الإله" (6) . __________ (1) العهد القديم، سفر دانيال: (9/ 25). (2) ساقط من "ب، ج، ص". (3) في "ب، ج": "الواحد القهار". (4) ليست في "ص، غ". (5) في "ب، ج": "بغير مقابل". (6) انظر: سفر إشعياء: (9/ 6 - 7).
(1/350)
فقد تقدم أن اسم الإله في الكتب المتقدمة وغيرها قد أطلق على غيره وهو بمنزلة الربِّ والسيِّد والأب، ولو كان عيسى هو الله لكان أجلَّ من أن يُقَال ويسمى: الإله، وكان يقول: وهو الله؛ فإن الله سبحانه لا يُعْرَف بمثل هذا. وفي هذا الدليل (1) -الذي جعلتموه به إلهًا- أعظمُ الأدلة على أنه عبدٌ وأنه ابنُ البشَر، فإنه قال: "يقوم لداودَ ابنٌ" فهذا الذي قام لداود هو الذي سُمِّي بالإله. فَعُلِم أن هذا الاسم لمخلوقٍ مصنوعٍ مولودٍ، لا لربِّ العالمين وخالقِ السموات والأرضين. وإن قلتم: إنما جعلناه إلهًا من جهة قول إشَعْيَا النبيِّ: "قُلْ لصِهْيَونَ يفرح ويتهلَّل، فإن الله يأتي ويخلِّص الشعوب، ويخلِّص مَنْ آمن به، ويخلِّص مدينةَ بيت المقدس، ويُظْهِر الله ذراعه الطاهر فيها لجميع الأمم المتبدِّدين، ويجعلهم أمةً واحدة، ويبصر (2) جميع أهل الأرض خلاص الله لأنه يمشي معهم وبين أيديهم ويجمعهم إله إسرائيل" (3) . قيل لهم: هذا يحتاج "أولًا" إلى أن يعلم أن ذلك في نبوة إشَعْيَا بهذا اللفظ بغير تحريفٍ للفظه، ولا غَلَطٍ في الترجمة، وهذا غير معلوم. وإن ثبت ذلك لم يكن فيه دليل على أنه إلهٌ تامٌّ، وأنه غير مصنوع ولا مخلوق، فإنه نظير ما في التوراة من قوله: "جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران" (4) ، وليس في هذا ما يدل __________ (1) ساقط من "د". (2) في "ب، ج": "ينصر". (3) إشعياء: (40/ 9 - 11). (4) سفر التثنية: (33/ 2).
(1/351)
على أنَّ موسى ومحمدًا إلهان، والمراد بهذا: مجيء دينِه وكتابِه وشرعِه وهداهُ ونورِهِ. وأما قوله: "ويظهر ذراعه الطاهر لجميع الأمم المبددين" ففي التوراة مثل هذا، وأبلغ منه في غير موضع. وأما قوله: "ويبصر (1) جميع أهل الأرض خلاص الله لأنه يمشي معهم ومن بين أيديهم"، فقد قال في التوراة في السفر الخامس لبني إسرائيل: "لا تهابوهم ولا تخافوهم؛ لأن الله ربكم السائر بين أيديكم وهو محارب عنكم" (2) . وفي موضع آخر قال موسى: "إن الشعب هو شعبك، فقال: أنا أمضي أمامك، فقال: إنْ لم (3) تمضِ أنت أمامنا وإلا فلا تُصْعِدْنَا من هاهنا، فكيف أعلم أنا وهذا الشعب أني وجدت نعمة كذا إلا بسيرك معنا؟ " (4) . وفي السفر الرابع: "إني (5) أصعدتُ هؤلاء بقدرتك فيقولون لأهل هذه الأرض الذي سمعوا منك، الله فيما بين هؤلاء القوم يرونه عينًا بعين، وغمامك تغيم (6) عليهم، ويعود غمامًا يسير بين أيديهم نهارًا، ويعود نارًا ليلًا" (7) . __________ (1) في "ب، ج": "ينصر". (2) سفر التثنية: (1/ 29). (3) ساقطة من "ج". (4) سفر الخروج: (33/ 13 - 15). (5) في "ب، ج": "إن". (6) في "ج، ص": "يقيم". (7) سفر العدد: (14/ 14).
(1/352)
وفي التوراة أيضًا: "يقول الله لموسى: إني آتٍ إليك في غلظ الغمام لكي يسمع القوم مخاطبتي لك" (1) . وفي الكتب الإلهية وكلام الأنبياء (من هذا كثير) (2) . وفيما حكى خاتم الأنبياء عن ربِّه -تبارك وتعالى- أنه قال: "ولا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقرَّبُ إليَّ بالنَّوافِلِ حتى أُحِبَّه، فإذا أحْبَبْتُهُ وكنتُ سَمْعَهُ الذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الذي يُبْصِرُ بهِ، ويَدَهُ التي يَبْطِشُ بها، ورجْلَه التي يمشي بها، فبي يَسْمَعُ، وبي يُبْصِر (3) ، وبي يَبْطِشُ، وبي يَمْشِي" (4) . وإن قلتم: جعلناه إلهًا لقول زكريا في نبوته: "افرحي يا بنت صِهْيَوْن لأني آتيك وأحلُّ فيك وأتراءَى، وتؤمن بالله في ذلك اليوم الأمم الكثيرة، ويكونون له شعبًا (5) واحدًا، ويحل هو فيهم، ويعرفون (6) أني أنا الله القويُّ الساكن فيك، ويأخذ الله في ذلك اليوم المُلْكَ من يهودا ويملك عليهم إلى الأبد" (7) . قيل لكم: إن وجبت (8) له الإلهية بهذا فَلْتَجِبْ (9) لإبراهيم وغيره __________ (1) سفر الخروج: (19/ 9). (2) في "ج": "في كثير من هذا". (3) "وبي يبصر" ليست في "ص، غ"، وليست في البخاري. (4) أخرجه البخاري في الرقاق، باب التواضع: (11/ 340 - 341). (5) في "ج": "شيعًا". (6) في "غ، ص": "يعرفني". (7) العهد القديم، زكريا: (2/ 10 - 13). (8) في "غ": "أوجبتم". (9) في "ب، ج": "فليجب".
(1/353)
من الأنبياء، فإن عند أهل الكتاب -وأنتم معهم- أنَّ الله تجلَّى لإبراهيم واسْتَعْلَنَ له وتراءى له. وأما قوله: "وأحل فيك" لم يرد سبحانه بهذا حلول ذاته -التي لا (1) تَسَعُهَا السمواتُ والأرض- في بيت المقدس، وكيف تحلُّ ذاته في مكانٍ يكون فيه مقهورًا مغلوبًا مع شرار الخلق؟! كيف (2) وقد قال: "ويعرفون أني أنا الله القوي الساكن فيك"؟!. أفَتَرَى عَرَفُوا (3) قوّتَه بالقبض عليه، وشدِّ يديه بالحبال، ورَبْطِهِ على خشبة الصليب، ودقِّ المسامير في يديه ورِجْلَيه، ووضع تاج الشوك على رأسه وهو يستغيثُ ولا يُغَاث؟! وما كان المسيح يدخل بيت المقدس إلا وهو مغلوب مقهورٌ مُسْتَخْفٍ في غالب أحواله، ولو صحَّ مجيء هذه الألفاظ صحةً لا تُدْفَع، وصحَّتْ ترجمتها كما ذكروه لكان معناها: أنَّ معرفة الله والإيمان به وذكره ودينه وشرعه حل في تلك (4) البقعة. وبيت المقدس لما ظهر فيه دين المسيح بعد رفعه حصل فيه من الإيمان بالله ومعرفته ما لم يكن قبل ذلك. وجماع الأمر: أنَّ النبوات المتقدمة والكتبَ الإلهيَّةَ لم تنطق بحرفٍ واحد يقتضي أنْ يكون ابنُ البشر إلهًا تامًا؛ إلهٌ حقٌّ من إلهٍ حقٍّ، وأنه غير مصنوعِ ولا مربوبٍ (5) ، بل لم يخصَّه إلا بما خُصَّ __________ (1) في "ج": "لم". (2) ساقطة من "ج". (3) في "غ، ص": "بموفق"، وفي "د": "يمزقوا". (4) في "ب": "ذلك". (5) ساقطة من "د".
(1/354)
به (1) أخوه وأَوْلى الناس به محمد بن عبد الله في قوله: إنه (2) عَبْدُ اللهِ ورسولُهُ وكلمَتُهُ ألقاها إِلى مَرْيَمَ وروحٌ منه. وكُتُبُ الأنبياءِ المتقدِّمةُ وسائِرُ النبوات مُوَافِقةٌ لما أخبر (3) به محمد - صلى الله عليه وسلم -، وذلك كلُّه يصدِّق بعضُه (4) بعضًا، وجميع ما تستدل به المثلِّثة عُبَّاد الصليب على إلهية المسيح من ألفاظ وكلمات في الكتب؛ فإنها مشتركة بين المسيح وغيره، كتسميته: ابنًا، وكلمةً، ورُوْحَ حقٍّ، وإلهًا. وكذلك ما أُطلق من حلول روح القدس فيه وظهور الرب فيه أو في مكانه. وقد وقع في نظير شركهم وكفرهم طوائف من المنتسبين إلى الإسلام، واشتبه عليهم ما يَحُل في قلوب العارفين من الإيمان به ومعرفته ونوره وهداه، فظنُّوا أنَّ ذلك نَفْسُ ذاتِ الربِّ، وقد قال تعالى: {وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعَلَى} [النحل: من الآية 60]. وقال: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم: 27]، وهو ما في قلوب ملائكته وأنبيائه وعباده المؤمنين من الايمان به ومعرفته ومحبته وإجلاله وتعظيمه، وهو نظير قوله: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} [البقرة: 137]. وقوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام: 3]. __________ (1) في "د، ج، ص": "خصه". (2) في "د": "هو". (3) في "ص": "خبَّر". (4) في "ج": "بعضهم".
(1/355)
وقوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 84]. فأولياء الله يعرفونه ويحبونه، ويُجلُّونه، ويقال: هو في قلوبهم، والمراد: مَحَبَّتُه ومعرفته، والمَثَلُ الأعَلى في قلوبهم، لا نَفْسُ ذاته، وهذا أمرٌ يعتاده الناس في مخاطباتهم ومحاوراتهم، يقول الإنسان لغيره: أنت في قلبي، ولا زلتَ في عيني، كما قال القائل: وَمِنْ عَجَب أنِّي أَحِنُّ إلَيْهِمُ ... وأَسْألُ عَنْهُمْ مَنْ لَقِيْتُ وَهُمْ مَعِي وتَطْلُبُهُمْ عَيْنِي وهُمْ في سَوَادِهَا (1) ... وَيَشْتَاقُهُمْ قَلْبِي وَهُمْ بَيْنَ أَضْلُعِي (2) وقال آخر في المعنى (3) : خيالُكَ في عَيْنِي وذِكْرُكَ في فَمِي ... وَمَثْواكَ في قَلْبِي (4) فَأَيْنَ تَغِيْبُ (5) وقال آخر (6) : ساكن في القلب يعمره ... لست أنساه فأذكره وقال آخر: __________ (1) في "ب، غ": "سوائها". (2) نسبهما ابن الأبَّار لمهيار الديلمي بتغيير في البيت الثاني، ونسبهما بعضهم للقاضي الفاضل. وانظر: "المدهش" لابن الجوزي: (2/ 629). (3) "في المعنى" من "ج" فقط. وفي "غ، ص": "وقال الآخر". (4) في "د": "عيني". (5) البيت لأبي الحكم ابن غلندو الإشبيلي، ذكره ياقوت في "معجم الأدباء": (3/ 1194). (6) البيت في "المدهش" (2/ 514).
(1/356)
إن قلت (1): غبت فقلبي لا يصدقني ... إذ أنت فيه -فدتك النفس- لم تغب أو قلت: ما غبت قال الطرف: ذا كذب ... فقد تحيرت بين الصدق والكذب وقال الآخر: أحن إليه وهو (2) في القلب ساكن ... فيا عجبًا ممن (3) يحن لقلبه ومَنْ غَلُظَ طَبْعُه وكثف (4) فهمه عن فهم مثل هذا لم يكثر عليه أن يفهم من ألفاظ الكتب أن ذات الله سبحانه تحل في الصورة البشرية وتتحد بها وتمتزج بها، تعالى الله عما يقول الكافرون علوًّا كبيرًا. فصل وإن قلتم: أوجبنا (5) له الإلهيَّة من قول إشَعْيَا: "مِنْ أعجبِ الأعاجيب أن ربَّ الملائكة سيولد من البشر" (6). قيل لكم: هذا مع أنه يحتاج إلى صحة هذا الكلام عن إشَعْيَا، وأنه لم يحرف بالنقل من ترجمة إلى ترجمة، وأنه كلام منقطع عما قبله وبعده ببينة = فهو دليل على أنه مخلوق مصنوع، وأنه (7) ابن البشر مولود منه، لا من الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد؟! __________ (1) في "غ": "قلتم". (2) ساقطة من "غ". (3) في "ب، ج": "لمن". (4) في "د": "كشف". (5) في "غ، ص": "أوحينا". (6) انظر: إشعياء: (7/ 14). (7) في "ب": "فإنه".
(1/357)
فصل وإن قلتم: جعلناه إلهًا من قول مَتَّى في إنجيله: "إنَّ ابن الإنسان يُرْسِلُ ملائكته ويَجْمَعُونَ كلَّ الملوك فيلقونهم في أتُّون النار" (1). قيل: هذا كالذي قبله سواء، ولم يُرِد أنَّ المسيح هو ربُّ الأرباب، ولا أنه خالق الملائكة، (وحاشى لله أن يطلق عليه أنه ربُّ الملائكة، بل) (2) هذا من أقبح الكذب والافتراء؛ بل ربُّ الملائكةِ أوصى الملائكةَ بحفظ المسيح وتأييده (3) ونصره بشهادة لوقا النبيِّ القائل عندهم: "إنَّ الله يوصي (4) ملائكته بك ليحفظوك" (5)، ثم بشهادة لوقا: "إنَّ الله أرسل له ملكًا من السماء ليُقَوِّيَه" (6). هذا الذي نطقت به الكتب، فحرَّف (7) الكذَّابون على الله وعلى مسيحه ذلك، ونسبوا إلى الأنبياء أنهم قالوا: هو رب الملائكة. وإذا شهد الإنجيل واتفاق الأنبياء والرسل أنَّ الله يوصي ملائكته بالمسيح ليحفظوه: عُلِمَ أن الملائكة والمسيح عبيدُ (8) الله مُنَفِّذون لأمره، ليسوا أربابًا ولا آلهة. __________ (1) إنجيل متى: (24/ 30). (2) ما بين القوسين ساقط من "ج". (3) في "غ، ص": "تأديبه". (4) في "غ، ص": "موصٍ". (5) إنجيل لوقا: (4/ 10 - 11). (6) إنجيل لوقا: (22/ 43). (7) في "ج": "فتحرَّف". (8) في "ب، ج": "عند".
(1/358)
وقال المسيح لتلامذته: "مَنْ قَبلَكُم (1) فقد قَبلَني، ومن قَبلَني فقد قَبِل مَنْ أرسلني" (2). وقال المسيحَ لتلامذته أيضًا: "من أنكرَني قُدَّام الناس أَنكرْتُه قدام ملائكة الله" (3). وقال للذي ضرب عَبْدَ رئيسِ الكهنة: "أغمِدْ سيفك ولا تظنَّ أني لا أستطيع أن أدعوَ الله الأبَ فيقيم لي أكثر من اثني عشر من الملائكة" (4). فهل يقول هذا من هو رب الملائكة وإلههم وخالقهم؟!. فصل وإن أوجبتم له الإلهيَّة بما نقلتموه عن إشَعْيَا: "تخرج (5) عصا من بيت نبي، وينبت (6) منها نور، ويحلُّ فيه روح القدس، روح الله، روح الكلمة والفهم، روح الحيل والقوة، روح العلم وخوف الله، وبه يؤمنون وعليه يتوكلون، ويكون لهم التاج والكرامة إلى دهر الداهرين" (7). قيل لكم: هذا الكلام -بعد المطالبة بصحة نقله عن إشَعْيَا، وصحة الترجمة له باللسان العربي وأنه لم تحرِّفه التراجم- هو حُجَّةٌ على المثلَّثة عُبَّاد الصليب، لا لهم؛ فإنَّه لا يدل على أنَ المسيح خالق السموات والأرض؛ بل يدلُّ على مثل ما دلَّ عليه القرآن، وأنَّ المسيح أُيِّد بروح __________ (1) في "غ، د، ص": "قتلكم ... قتلني ... ". (2) إنجيل متى: (10/ 40). (3) إنجيل متى: (10/ 33). (4) إنجيل متى: (26/ 53 - 54). (5) في "ب، ج": "يخرج". (6) في "د": "ويخرج". (7) سفر إشعياء: (11/ 1 - 2).
(1/359)
القدس؛ فإنه قال: ويحل فيه روح القدس روح الله، روح الكلمة والفهم، روح الحيل والقوة، روح الفهم (1) وخوف الله. ولم يقل: تحل فيه حياة الله، فضلًا عن أن يحلَّ الله فيه ويتحد به ويتخذ حجابًا من ناسوته. وهذه روح تكون مع الأنبياء والصديقين. وعندهم في التوراة: "أنَّ الذين كانوا يعملون في قبة الزمان حلَّت فيهم روح الحكمة" (2) ، وروح الفهم والعلم: هي ما يحصل به الهدى والنصر والتأييد. وقوله: "هي (3) روح الله" لا تدلُّ على أنها صفته، فضلًا عن أن يكون هو الله!! وجبريل يسمى: روح الله، والمسيح اسمه: روح الله. والمضاف إلى الله إذا كان ذاتًا قائمة بنفسها فهو إضافة مملوك إلى مالك كبيت الله، وناقة الله، وروح الله، وليس المرادَ به: بيتٌ يسكنُه، ولا ناقةٌ يركَبُهَا، ولا روحٌ قائمة به، وقد قال تعالى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22]. وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]. فهذه الروح أيَّد بها عبادَهُ المؤمنين. وأما قوله: [وبه يؤمنون وعليه يتوكلون] فهو عائد إلى الله لا إلى العصا التي نبتت (4) من بيت النبوة. __________ (1) في "د": "العلم". وهي التي سبقت في الصفحة السابقة. (2) سفر الخروج: (31/ 2). (3) ساقطة من "ص". وهي ليست في النص المنقول آنفًا. (4) في "ب، ج": "تنبت".
(1/360)
وقد جمع الله سبحانه بين هذين الأصلين في قوله: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} [الملك: 29]، (فهو عائد إلى الله) (1) وقال موسى لقومه: {يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس: 84]، وهو كثير في القرآن، وقد أخبر أنه أيده بروح العلم وخوف الله، فجمع بين العلم والخشية. وهما الأصلان اللذان جمع القرآن بينهما في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 28]. وفي قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية" (2) وهذا شأن العبد المحض، وأما الإله الحق وربُّ العالمين فلا يلحقه خوف ولا خشية ولا يعبد غيره، والمسيح كان قائمًا بأوراد العبادات لله أتَمَّ القيام!!. فصل وإنْ أوجبتم له الإلهيَّة بقول إشَعْيَا: "إنَّ غلامًا وُلِدَ لنا وإننا أعطيناه كذا وكذا، ورياستُه على عاتقيه وبين منكبيه، ويُدعى اسمه ملكًا عظيمًا عجيبًا إلهًا قويًّا مسلَّطًا رئيسًا، قوي السلامة في كل الدهور، وسلطانه كامل ليس له فناء" (3). قيل لكم: ليس في هذه البشارة ما يدلُّ على أن المراد بها المسيح بوجه من الوجوه، ولو كان المراد بها المسيح لم يدلَّ على مطلوبهم. __________ (1) ساقط من "ب، ج، ص". (2) أخرجه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من التعمق والتنازع في العلم والغلو في الدين: (9/ 175) (الطبعة المنيرية). (3) سفر إشعياء: (9/ 6 - 7).
(1/361)
أما المقام الأول: فدلالتها على محمد بن عبد الله أظهر من دلالتها على المسيح، فإنه هو الذي رياستُه على عاتِقَيْه (1) وبين منكبيه من جهتين: من جهةِ: أنَّ خاتم النبوة على بعض كتفيه (2) ، وهو من أعلام النبوة التي أخبرت به الأنبياء، وعلامة ختم ديوانهم، ولذلك كان في ظهره. ومن جهةِ: أنَّه بُعِث بالسيف الذي يتقلَّد به على عاتقه ويرفعه -إذا ضرب به- على عاتقه. ويدلُّ عليه قوله: "رئيس مسلَّط قويُّ السلامة" وهذه صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - المؤيَّدِ المنصورِ، رئيس السلامة، فإنَّ دينه الإسلام، ومن اتبعه سَلِمَ (3) مِنْ خِزْي (4) الدنيا ومن عذاب الآخرة، ومن استيلاءِ عدوّه عليه. والمسيحُ لم يسلَّط على أعدائه كما سُلِّط محمد - صلى الله عليه وسلم - بل كان أعداؤه مسلَّطين (5) عليه قاهرين له حتى عملوا به ما عملوا عند المثلِّثةِ عُبَّاد الصليب. فأين مطابقة هذه الصفات للمسيح بوجه من الوجوه؟! وهي مطابقة لمحمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - من كل وجهٍ، وهو الذي سلطانُه كاملٌ، ليس له فناء (إلى آخر الدهر. فإن قيل: إنكم لا تَدْعونَ محمدًا إلهًا، بل هو عندكم عبدٌ محض؟) (6) . __________ (1) في "ج": "عاتقه". (2) في "ج": "أكتافه". (3) في "ج": "يسلم". (4) في "د": "جزاء". (5) في "ج": "متسلطين". (6) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(1/362)
قيل لهم: نعم واللهِ، إنه لكذلك (عبدٌ محضٌ لله، والعبودية أجلُّ مراتبه) (1)، واسم "الإله" من جهة التراجم جاء، والمراد به السيِّد المطاع لا الإله المعبود الخالق الرازق. فصل وإن أوجبتم له الإلهية من قول إشَعْيَا - فيما زعمتم: "ها هي العذراء تحبل وتلد ابنًا يدعى اسمه عَمَانُويل" (2) وعمانويل كلمة عبرانية تفسيرها بالعربية: "إلهنا معنا" فقد شهد له النبيُّ أنه إله. قيل لكم: بعد ثبوت هذا الكلام وتفسيره - لا يدلُّ على أن العذراء ولدت ربَّ العالمين وخالق السموات والأرَضِيْن؛ فإنه قال: تلد ابنًا، وهذا دليل على أنه ابنٌ من جملة البنين، ليس هو رب العالمين. وأما قوله: "ويدعى اسمه عمانويل" فإنما يدل على أنه يسمى بهذا الاسم كما يسمِّي الناسُ أبناءَهم بأنواعٍ من الصفات والأسماء والأفعال والجُمَل المركَّبة من اسمين أو اسم وفعل، وكثيرٌ من أهل الكتاب يُسَمُّون أولادهم: عمانويل. ومن علمائكم من يقول: المراد بالعذراء هاهنا غير مريم، ويذكر في ذلك قصة، ويدل على هذا: أن المسيح لا يعرف اسمه "عمانويل"، وإن كان ذلك اسمه، فكونُه (3) يُسمَّى: إلهنا معنا، أو بالله حسبي، أو الله وحده، ونحو ذلك (لا يدل على أنه إله) (4). __________ (1) ما بين القوسين ساقط من "ب، ج، غ". (2) سفر إشعياء: (7/ 15). (3) في "ج": "فيكون". (4) ساقط من "ص، ب، ج".
(1/363)
وقد حرَّف بعضُ المُثَلِّثة عُبَّاد الصليب هذه الكلمة وقال: معناها "الله معنا". وردَّ عليهم بعض من أنصف (1) من علمائهم، وحكَّم رشده على هواه، وهداه الله للحق، وبصَّره مِنْ عماه وقال: أهذا هو القائل: "أنا الرب، ولا إله غيري، وأنا أحي وأميت وأخلق وأرزق" (2)؟ أم هو القائل لله: "إنك أنت الإله الحقُّ وحدك الذي أرسلت اليسوع المسيح" (3)؟! قال: والأول باطل قطعًا، والثاني هو الذي شهد به الإنجيل، ويجب تصديق الإنجيل وتكذيب مَنْ زعم أنَّ المسيح إله معبود. قال: وليس المسيح مخصوصًا بهذا الاسم، فإن "عمانويل" اسم تسمِّي به النصارى واليهود أولادهما. قال: وهذا موجود في عصرنا هذا، ومعنى هذه التسمية بينهم: شريف القدر. قال: وكذلك السُّرْيَانُ يُسمُّون أولادهم "عمانويل"، والمسلمون وغيرهم يقولون للرجل: الله معك. فإذا سُمِّي الرجل بقوله: "الله معك" كان هذا تَبرُّكًا بمعنى هذا الاسم!!. فصل وإن أوجبتم له الإلهيَّة بقول حَبقُّوقَ -فيما حكيتموه عنه-: "إنَّ الله في الأرض يتراءى ويختلط مع الناس ويمشي معهم" (4)، ويقول إِرْمِيَا __________ (1) في "ب، ج": "اتصف". (2) سفر التثنية: (32/ 39 - 40). (3) إنجيل يوحنا: (17/ 3 - 4). (4) حبقوق: (3/ 5).
(1/364)
أيضًا بعد هذا: "الله يظهر في الأرض وينقلب (1) مع البشر" (2) . قيل لكم: هذا -بعد احتياجه إلى ثبوت نبوة هذين الشخصين أولًا، وإلى ثبوت هذا النقل عنهما، وإلى مطابقة الترجمة من غير تحريف. وهذه ثلاث مقامات (3) يعزُّ عليكم إثباتها- لا يَدلُّ (4) على أنَّ المسيح هو خالق السموات والأرض، وأنه إله حق ليس بمخلوق ولا مصنوع؛ ففي التوراة ما هو من هذا الجنس وأبلغ، ولم يدلَّ ذلك على أن موسى إله ولا أنه خارج من جملة العبيد!. وقوله: "يتراءى" (5) مثل قوله: تجلَّى، وظهر، واستعلن، ونحو ذلك من ألفاظ التوراة وغيرها من الكتب الإلهية. وقد ذكر في التوراة "أن الله تجلَّى وتراءَى لإبراهيم وغيره من الأنبياء" ولم يدل ذلك على الإلهيَّة لأحدٍ منهم، ولم يزل في عرف الناس ومخاطبتهم أن يقولوا: فلان معنا، وهو بين أظهرنا ولم يمت. إذا كان عمله وسُنَّتُه وسيرته بينهم، ووصاياه يُعْمل بها بينهم. وكذلك يقول القائل لمن مات والده: ما مات من خلَّف مثلك، وأنا والدك. وإذا رأوا تلميذًا لعالم تعلَّم عِلْمَه قالوا: هذا فلان باسم أُستاذه. كما كان يقال عن عكرمة: هذا ابن عباس، وعن أبي حامدٍ: هذا الشافعيُّ. وَإِذا بعث الملك نائبًا يقوم مقامه في بلد قال الناس: جاء المَلِك، وحكم الملك، ورسم الملك. __________ (1) في "ب، ج": "يتقلب". (2) إرميا: (14/ 9). (3) في "ب، ج": "مقالات". (4) في "ب": "تدل". (5) في "ج": "يتزايى".
(1/365)
وفي الحديث الصحيح (1) الإلهيِّ: "يقولُ الله -عز وجل- يَوْمَ القِيَامَةِ: عبدي! مَرِضتُ فلم تَعُدْنِي، فيقولُ: يا ربِّ كيف أَعُودُكَ وأنتَ ربُّ العالمِيْنَ؟! قال: أما إنَّ عَبْدِي فُلانًا مَرِضَ فلم تَعُدْهُ، أمَا لو عُدْتَه لوَجَدْتَنِي عندَه. عَبْدِي! جُعْتُ فلم تُطْعِمْنِي، فيقول: ربِّ كيف أُطْعِمُك وأنت ربُّ العالمين!! قال: أما علمتَ أنَّ عبدي فلانًا اسْتَطْعَمَكَ فلم تُطْعِمْهُ، أما لو أطْعَمْتَه لوجدتَ ذلك عندي. عَبْدِي! اسْتَسْقَيْتُكَ فلم تَسْقِنِي، فيقولُ: ربِّ كيف أَسْقِيْك وأنتَ ربُّ العالمين؟! فيقول: أما إنَّ عبدي فلانًا عَطِشَ فَاسْتَسْقَاكَ فلم تَسْقِهِ، أما لو سَقَيْتَهُ لوجَدْتَ ذلك عندي" (2). وأبْلَغُ من هذا (3): قولُه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]. ومن هذا قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]. فلو استحلَّ المسلمون ما استحللتم، لكان اسْتِدْلَالُهم (4) بذلك على أن محمدًا إله من جنس استدلالكم لا فرق بينهما (5)!!. فصل وإن أوجبتم له الإلهيَّة بقوله في السفر الثالث من أسفار الملوك: "والآن يا ربَّ إله إسرائيل ليتحقق كلامك لداود، لأنه حقٌّ أن يكون أنه __________ (1) في "ج": "الشريف". (2) أخرجه مسلم في البر والصلة، باب فضل عيادة المريض: (4/ 1989). (3) في "ج": "ذلك". (4) في "د": "استدلالكم". (5) ساقطة من "ص، غ".
(1/366)
سيسكن الله مع الناس على الأرض، اسمعوا أيتها الشعوب كلُّكم، ولْتُنْصِتِ الأرضُ وكلُّ مَنْ فيها، فيكون الربُّ عليها شاهدًا، ويخرج من موضعه، وينزل، ويطأ على مشارق الأرض في شأن خطيئة بني يعقوب" (1) . قيل لكم: هذا السفر يحتاج فيه أولًا إلى أن يثبت أن الذي تكلَّم به نبيٌّ، وأن هذا لفظه، وأنَّ الترجمة مطابقةٌ له. وليس ذلك بمعلوم. وبعد ذلك: فالقول في هذا الكلام (كالقول في نظائره (2) مما ذكرتموه وما لم تذكروه، وليس في هذا الكلام) (3) ما يدلُّ على أن المسيح خالقُ السمواتِ والأرض، وأنه إلهٌ حقٌّ غير مصنوعٍ ولا مخلوقٍ، فإن قوله: "إن الله سيسكن مع الناس في الأرض" هو مثل كونه معهم، وإذا صار في الأرض نوره وهداه ودينه ونبيه كانت هذه سكناه، لا أنه بذاته المقدَّسةِ نَزَلَ عن عرشه وسكن مع أهل الأرض، ولو قُدِّر -تقدِيْرَ المُحَالَات- أنَّ ذلك واقعٌ: لم يلزم أن يكون هو المسيح، فقد سكن الرُّسل والأنبياء قَبْلَه وبعده، فما الموجب لأن يكون المسيح هو الإله دون إخوانه من المرسلين؟! أترى ذلك للقوة والسلطان الذي كان له وهو في الأرض، وقد قلتم: إنه قُبض عليه وفُعِل به ما فُعِل من غاية الإهانة والإذلال والقهر، فهذا ثمرة سكناه في الأرض مع خلقه. فإن قلتم: سُكْنَاه في الأرض: هو ظهوره في ناسوت المسيح، قيل لكم: أمَّا الظهور الممكن المعقول، وهو ظهور محبته ومعرفته ودينه __________ (1) سفر الملوك الأول: (8/ 25 - 27). (2) ساقط من "د". (3) في "ب": "نظيره".
(1/367)
وكلامه، فهذا لا فرق فيه بين ناسوت المسيح وناسوت سائر الأنبياء والمرسلين، وليس في اللفظ على هذا التقدير ما يدلُّ على اختصاصه بناسوت المسيح، وأما الظهور المستحيل الذي تأباه العقول والفِطَر والشرائع وجميع النبوات، وهو ظهور ذات الرب في ناسوت مخلوقٍ من مخلوقاته واتحادُه به، أو امتزاجُه واختلاطُه: فهذا محالٌ عقلًا وشرعًا، فلا يمكن أن تنطق به نُبوَّةٌ أصلًا. بل جميع النبوات مِنْ أولها إلى آخرها متَّفِقةٌ على أصول: (أحدها): أنَّ الله -سبحانه وتعالى- قديمٌ واحدٌ لا شريك له في ملكه، ولا نِدَّ ولا ضدَّ، ولا وزير ولا مُشِير، ولا ظهير، ولا شافع إلا من بعد إذنه. (الثاني): أئَه لا والِدَ له ولا وَلَد، ولا كُفُؤَ ولا نسيب -بوجهٍ من الوجوه- ولا زوجةَ. (الثالث): أنه غنيٌّ بذاته؛ فلا يأكل ولا يشرب، ولا يحتاج إلى شيء مما يحتاج إليه خَلْقُه بوجهٍ من الوجوه. (الرابع): أنه لا يتغيَّر ولا تعرض له الآفات؛ من الهَرَم (1) والمرض والسِّنَةِ والنَّوم والنِّسيان والنَّدمِ والخوفِ والهمِّ والحَزَنِ، ونحو ذلك. (الخامس): أنه لا يُمَاثِل (2) شيئًا من مخلوقاته، بل ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. __________ (1) في "ج": "الهموم، وفي "غ، ص": "الدم". (2) في "ب": "يمثل".
(1/368)
(السادس): أنه لا يَحُلُّ في شيء من مخلوقاته ولا يَحُلُّ في ذاته شيء منها، بل هو بَائِنٌ (1) عن خلقه بذاته، والخلق بَائِنُونَ عنه. (السابع): أنه أعظم من كلِّ شيءٍ، وأكبرُ من كلِّ شيءٍ، وفوقَ كلِّ شيء، وعَالٍ على كلِّ شيء، وليس فوقه شيء البتَّةَ. (الثامن): أنه قادر (2) على كلِّ شيء؛ فلا يعجزه شيء يريده، بل هو الفعَّال لما يريد. (التاسع): أنه عالمٌ بكل شيء؛ يعلم السِّرَّ وأخفى، ويعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ} [الأنعام: 59] ولا مُتَحرِّكَ إلا وهو يعلمه على حقيقته. (العاشر): أنه سميعٌ بصير، يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنُّنِ الحاجات، ويرى دبيب النَّمْلة السوداء على الصخرة الصمَّاء في الليلة الظلماء، فقد أحاط سَمْعُه بجميع المسموعات، وبَصَرُهُ بجميع (3) المُبْصَرَات، وعلمُه بجميع المعلومات، وقدرتُه بجميع المقدورات، ونفذت مشيئتُه في جميع البَرِيَّات، وعمت رحمتُه جميعَ المخلوقاتِ، ووسع كرسيُّه الأرضَ والسمواتِ. (الحادي عشر): أنه الشَّاهد الذي لا يغيب، ولا يستخلف أحدًا على تدبير ملكه، ولا يحتاج إلى من يرفع إليه حوائج عباده أو يعاونه __________ (1) في "ج": "كائن". (2) في "غ، ص": "قدر". (3) في "غ، ص": "لجميع".
(1/369)
عليها أو يستعطفه (1) عليهم ويسترحمه لهم. (الثاني عشر): أنه الأبديُّ الباقي الذي لا يضمحلُّ ولا يتلاشى ولا يعدم ولا يموت. (الثالث عشر): أنه المتكلِّم المكلِّم الآمر الناهي، قائلُ الحقِّ، وهادي السبيل، ومرسل الرسل، ومنزلُ الكتب، والقائمُ على كلِّ نفس بما كسبت من الخير والشر، ومجازي المحسنِ بإحسانِه، والمسيءِ بإساءتِه. (الرابع عشر): أنه الصادق في وعده وخبره، (فلا أصْدَقَ منه قيلًا) (2) ، ولا أصدق منه حديثًا، وهو لا يُخْلِف الميعادَ. (الخامس عشر): أنَّه -تعالى- صَمَدٌ بجميع معاني الصَّمَدِيَّة، فيَسْتَحِيْلُ عليه ما يناقض صَمَدِيَّتَهُ. (السادس عشر): أنَّه قُدُّوس سلام، فهو المُبَرَّأُ من كلِّ عيبٍ وآفةٍ ونَقْص. (السابع عشر): أنَّه الكامل الذي له الكمالُ المُطْلَق من جميع الوجوه. (الثامن عشر): أنه العَدْلُ الذي لا يجور ولا يَظْلِم، ولا يخاف عبادُه منه ظلمًا. فهذا ممَّا اتفقت عليه جميع الكتب والرسل، وهو من المُحْكَمِ الذي __________ (1) في "ج": "يستعطف". (2) ساقط من "غ، ص".
(1/370)
لا يجوز أن تأتيَ شريعةٌ بخلافه، ولا يخبرَ نبيٌّ بخلافه أصلًا، فَتَرَك المُثلِّثة عُبَّادُ الصليب هذا كلَّه، وتمسَّكوا بالمتشابهِ من المعانى، والمُجْمَلِ من الألفاظ، وأقوالِ من ضلُّوا من قَبْلُ، وأضَلُّوا كثيرًا وضلُّوا عن سواء السبيل. وأصولُ المثلِّثة ومقالتُهم في ربِّ العالمين تخالِفُ هذا كلَّه أشدَّ المخالفة وتبايِنُه أعْظَمَ المبايَنَةِ. فصل في أنه لو لم يظهر محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - لبطلت نبوة سائر الأنبياء. فظهورُ نبوته تصديقٌ لنبواتهم، وشهادةٌ لها بالصدق (1)، فإرسالُه من آيات الأنبياء قَبْلَه. وقد أشار -سبحانه- إلى هذا المعنى بعينه في قوله: {بَلْ جَاَءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 37]. فإن المرسلين بشَّروا به وأخبروا بمجيئه، فمجيئه هو نفس (صدق خبرهم) (2)، فكان مجيئه تصديقًا لهم؛ إذْ هو تأويل ما أخبروا به. ولا تنافي بين هذا وبين القول الآخر: إنَّ تصديقَه المرسلين شهادتُه بصِدْقِهم (3) وإيمانُه بهم، فإنه صدَّقهم بقوله ومجيئه، فشهد بصِدْقِهم بنفس مجيئهِ، وشهد بصدقهم (4) بقوله. ومثلُ هذا: قول المسيح: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ __________ (1) في "ب، ج": "بالتصديق". (2) في "ج": "صدقهم". (3) في "ب، ج": "بتصدقيهم". (4) في "ج": "بنفس مجيئه".
(1/371)
بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6]، فإن التوراة لما بشَرتْ به وبنبوته كان نَفْسُ ظهورِه تصديقًا لها، ثم بشَّر برسولٍ يأتي مِن بعده؛ فكان ظهورُ الرسول (1) المبشَّر به تصديقًا له، كما كان ظهوره تصديقًا للتوراة. فعادة الله في رسله أنَّ السابق يبشِّر باللَّاحِقِ، واللَّاحِقِ يصدِّق السابقَ. فلو لم يظهر (2) محمد بن عبد الله ولم يبعث: لَبَطَلَتْ نبوةُ الأنبياء قبله. والله سبحانه لا يخلف وَعْدَه ولا يكْذِبُ خَبَرُه. وقد كان بشَّر إبراهيمَ وهَاجَرَ بشاراتٍ بيِّناتٍ، ولم نرها تَمَّتْ ولا ظهرتْ إلا بظهور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد بُشِّرت به هاجر من ذلك بما لم تبشَّر به امرأةٌ من العالمين غير مريم ابنة عمران بالمسيح، على أنَّ مريم بُشِّرت به مرةً واحدة، وبُشِّرت هاجر بإسماعيل مرتين، وبُشِّر به إبراهيم مرارًا، ثم ذكر الله -سبحانه- هاجر (3) بعد وفاتها كالمخاطِب لها على ألسنة الأنبياء. ففي التوراة: "إن الله تعالى قال لإبراهيم: قد أجبتُ دعاءك في إسماعيل، وباركتُ عليه، وكبَّرته، وعظَّمته (جدًّا جدًّا، وسيلد ابنًا عظيمًا، وأجعل له أمة عظيمة") (4) (5) . هكذا في ترجمة بعض المترجمين وأما في الترجمة التي ترجمها اثنان وسبعون حبرًا من أحبار اليهود فإنه يقول: "وسيلد اثني عشر أمةً من __________ (1) في "ج": "الرسل". (2) في "غ، ص": "يكن". (3) ليست في "ج". (4) ما بين القوسين ساقط من "ب، ج". (5) سفر التكوين: (17/ 18 - 20).
(1/372)
الأمم" (1) . وفيها: "لما هربت هاجر من سارة تراءى لها مَلَك الله، وقال: يا هَاجَرُ (أمةَ سارة!) (2) مِنْ أين أقبلت؟ وإلى أين تذهبين؟! قالت: هربت من سيدتي. فقال لها الملك: ارجعي إلى سيدتك واخضعي لها، فإني سأكثِّر ذريَّتك وزَرْعَك حتى لا يُحْصَون كثرةً، وها أنت تحبلين وتلدين ابنًا تسمِّينه إسماعيل، لأنَّ الله قد سمع بذلك خشوعك، وهو يكون عين الناس، وتكون يَدُه فوق الجميع، ويَدُ الجميعِ مبسوطةٌ إليه بالخضوع، ويكون مَسْكَنُه على تُخُوم جميع إخوته" (3) . وفي موضع آخر قصة إسكانها وابنها إسماعيل في بَرِّيَّة فاران، وفيها: "فقال لها المَلَكُ: يا هاجر ليفرح روعك فقد سمع الله تعالى صوت الصبيِّ، قومي فَاحْمِلِيْه وتمسَّكي به؛ فإن الله جاعِلُه لأمةٍ عظيمةٍ، وإنّ الله فتح عليها. فإذا ببئر ماء، فذهبتْ وملأت المزادة (4) منه وسقت الصبيَّ منه، وكان الله معها ومع الصبي حتى تربَّى، وكان مسكنه (5) في بَرِّيَّةِ فَارَانَ" (6) . فهذه أربع بشارات خالصة (7) لأم إسماعيل؛ نزلت اثنتان منها على إبراهيم، واثنتان على هاجر. __________ (1) التكوين: (17/ 20). (2) ساقط من "ج". (3) سفر التكوين: (16/ 7 - 12). (4) في "ب، ج" تصحفت إلى: "المرأة". (5) في "غ، ص": "يسكنه". (6) سفر التكوين: (11/ 17 - 20). (7) في "ج": "خاصة".
(1/373)
وفي التوراة أيضًا بشارات أُخَر بإسماعيل وولده وأنهم أمة عظيمة جدًّا، وأن نجوم السماء تُحْصَى ولا يُحْصَون (1) ، وهذه البشارة إنما تمت بظهور محمد بن عبد الله وأمته. فإن بني إسحاق كانوا لم يزالوا مطرودين مُشَرَّدِينَ خَوَلًا للفراعنة والقِبْط حتى أنقذهم الله بنبيِّه وكليمه موسى بنِ عِمْرَانَ، وأورثهم أرض الشام فكانت كرسيَّ مملكتهم، ثم سَلَبَهم ذلك وقطَّعهم في الأرض أممًا مسلوبًا عِزُّهم ومُلْكهم؛ قد أخذتهم سيوف السودان، وعَلَتْهُمْ (2) أعلاج الحمران حتى إذا ظهر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - تَمَّت تلك النبوات، وظهرتْ تلك البشارات بعد دهر طويل، وعلت بنو إسماعيل على من حولهم فَهَشَمُوهُمْ هَشْمًا، وطحنوهم طحنًا، وانتشروا في آفاق الدنيا، ومدَّت الأمم أيْدِيَها إليهم بالذلِّ والخضوع، وعَلَوْهم عُلُوَّ الثريا فيما بين الهند والحبشة والسُّوس الأقصى وبلاد التُّرْك والصَّقَالِبَة والخَزَر، وملكوا ما بين الخافقين وحيث ملتقى أمواج البحرين، وظهر ذِكْرُ إبراهيم على ألسنة الأمم كلها، فليس صبيٌّ من بعد ظهور النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ولا امرأةٌ، ولا حرٌّ ولا عَبْد، ولا ذكرٌ ولا أنثى إلا وهو يعرف إبراهيم وآلَ إبراهيم. وأما النصرانية - وإن كانت قد ظهرتْ في أممٍ كثيرة جليلة؛ فإنه لم يكن لهم في محلِّ إسماعيل وأمه هاجر سلطانٌ ظاهر، ولا عِزٌّ قاهرٌ البتَّة، ولا صارت أيدي هذه الأمة فوق أيدي الجميع، ولا امتدَّت إليهم أيدي الأمم بالخضوع. __________ (1) في "غ، ص": "تحصى". (2) في "ص": "غلبهم".
(1/374)
وكذلك سائر ما تقدَّم من البشارات التي تفيد (1) بمجموعها العِلْم القطعيَّ بأنَّ المراد بها: محمدُ بنُ عبد الله - صلى الله عليه وسلم - وأمَّتُه، فإنَّه لو لم يقع تأويلها بظهوره - صلى الله عليه وسلم - لبطلتْ تلك النبوَّات. ولهذا لما علم الكُفَّار من أهل الكتاب أنَّه لا يمكن الإيمانُ بالأنبياء (2) المتقدِّمين إلا بالإيمان بالنبيِّ الذي بشّروا به قالوا: نحن في انتظاره ولم يجئ بعد، ولما عَلِمَ بعضُ الغلاة في كفره وتكذيبه منهم: أنَّ هذا النبيَّ في ولد إسماعيل، أنكروا أن يكون لإبراهيم ولدٌ اسمه إسماعيل، وأن هذا لم يخلقه الله! ولا يكثر على أمة البَهْتِ وإخوانِ القرود وقَتَلَةِ الأنبياء مثلُ ذلك، كما لم يكثر على المثلِّثة عُبَّاد الصليب -الذين سبُّوا رب العالمين أعظم مسبَّة- أن يطعنوا في ديننا وينتقصوا نبينا - صلى الله عليه وسلم -. فصل ونحن نبيِّن أنهم لا يمكنهم أن (3) يُثْبِتُوا للمسيح فضيلةً ولا نبوةً ولا آيةً ولا معجزة إلا بإقرارهم أنَّ محمدًا رَسول الله، وإلا فمع تكذيبه لا يمكن أن يثبت للمسيح شيءٌ من ذلك البتَّة. فنقول: إذا كفرتم -مَعَاشِرَ المثلِّثة عُبَّادَ الصَّليب- بالقرآن وبمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فمن أين لكم أن تُثْبِتُوا لعيسى فضيلةً أو معجزةً؟! ومَنْ نقل إليكم عنه آيةً أو معجزة؟! فإنكم إنما تبعتم مَنْ بعده بنَيِّفٍ على مائتين وعَشَراتٍ __________ (1) في "ب": "يقيد". (2) في "ج": "إلا بالأنبياء" وهو خطأ. (3) ساقطة من "ج".
(1/375)
من السنين، أُخْبِرْتُم عن منام رُئي فأسرعتم إلى تصديقه. وكان الأَوْلى لمن كفر بالقرآن أن ينكر وجود عيسى في العالم؛ لأنه لا يَقْبَل قَوْلَ اليهود فيه، ولاسيَّما وهم أعظم أعدائه الذين رَمَوه وأمَّه (1) بالعظائم، فأخبارُ المسيح والصليب إنما شيوخُكم فيها اليهود، وهم فيما بينهم مختلفون في أمره أعْظَمَ اختلافٍ، وأنتم مختلفون معهم في أمره! فاليهود تزعم أنَّهم حين أخذوه حَبَسُوه في السجن أربعين يومًا، وقالوا: ما كان لكم أن تحبسوه أكثر من ثلاثة أيام ثمَّ تقتلوه (2) إلا أنَّه كان يعضده أحد قواد الروم، لأنه كان يُدَاخِلُه في صناعة الطبِّ عندهم. وفي (الأناجيل التي) (3) بأيديكم: "أنَّه أُخِذ صبح يوم الجمعة وصُلِبَ في الساعة التاسعة من اليوم بعينه" (4) . فمتى تتوافقون مع اليهود في خبره. واليهود مجمعون (5) أنَّه لم يظهر له معجزة ولا بَدَتْ منه لهم آيةٌ غير أنَّه طار يومًا وقد هموا بأخذه فطار على أثره آخر منهم، فَعَلاه في طيرانه، فسقط إلى الأرض بزعمهم؟! وفي الإنجيل الذي بأيديكم -في غير موضع- ما يشهد أنَّه لا معجزةَ له ولا آية!! فمن ذلك أن فيه منصوصًا: "أن اليهود قالوا له يومًا: ماذا تفعل حتى تنتهي به إلى أمر الله تعالى؟ فقال: أمر (6) الله أن تؤمنوا __________ (1) ساقط من "غ، ص". (2) في "ج": "قتلوه". (3) في "ج": "الإنجيل الذي". (4) إنجيل متى: (27/ 45). (5) في "غ": "مجمعة". (6) في "غ، ص": "أمن".
(1/376)
بمن بعثه، فقالوا له: وما آيَتُكَ التي تُرِيْنَا ونؤمن بك، وأنت تعلم أن آباءنا قد أكلوا المنَّ والسَّلوى بالمفاوز؟ قال: إن كان أطعمكم موسى خبزًا فأنا أطعمكم خبزًا سماويًّا" (1) يريد: نعيم الآخرة. فلو عرفوا له معجزةً ما قالوا ذلك. وفي الإنجيل الذي بأيديكم أن اليهود قالت له: "ما آيتك التي نُصَدِّقك بها؟ قال: اهدموا البيت أبْنِيه لكم في ثلاثة أيام" (2) . فلو كانت اليهود تعرفُ له آيةً لم تَقُلْ هذا. ولو كان قد أظهر لهم معجزةً لذكَّرهم بها حينئذ. وفي الإنجيل الذي بأيديكم أيضًا: "أنهم جاءوا يسألونه (آية فقذفهم) (3) ، وقال: إن القبيلةَ الفاجرةَ الخبيثةَ تطلب آيةً فلا تُعْطَى ذلك" (4) . وفيه أيضًا: "أنهم كانوا يقولون له -وهو على الخشبة بظنِّكم-: إن كنت المسيح فأنْزِلْ نَفْسَك فنؤمن بك - يطلبون منه بذلك آية. فلم يفعل" (5) . فإذا كفرتم -مَعَاشِرَ المثلِّثة عُبَّادَ الصليب- بالقرآن لم يتحقَّقْ لعيسى ابنِ مريمَ آيةٌ ولا فضيلةٌ، فإنَّ أخباركم عنه وأخبار اليهود لا يلتفت إليها __________ (1) إنجيل يوحنا: (6/ 29 - 30). (2) إنجيل يوحنا: (2/ 18 - 20). (3) في "ج": "أنَّه يصدقهم". (4) إنجيل متى: (16/ 4). (5) إنجيل مرقس: (15/ 2 - 5).
(1/377)
لاختلافكم في شأنه أشد الاختلاف وعدم تيقنكم (1) لجميع أمره. وكذلك (2) اجتمعت اليهود على أنَّه لم يدَّع شيئًا من الإلهية التي نسبتم إليه أنَّه ادَّعاها، وكان أقصى مرادهم أن يدَّعي ذلك فيكون أبلغ في تسلطهم عليه، وقد ذُكر السبب في استفاضة ذلك عنه، وهو أن أحبارهم وعلماءهم لما مضى وبقي ذكره خافوا أن تصير عامتهم إليه إذْ كان على سنن تقبله قلوب الذين لا غرض لهم، فشنعوا عليه أمورًا كثيرة، ونسبوا إليه دعوى الإلهيَّة تزهيدًا للناس في أمره. ثم إنَّ اليهود عندهم من الاختلاف في أمره ما يدلُّ على عدم تيقُنِهم (3) بشيء من أخباره؛ فمنهم من يقول: إنه كان رجلًا منهم ويعرفون أباه وأمه ويَنْسُبُونه لزانية (4) ! -وحاشاه وحاشى أمَّه الصدِّيقة الطاهرة البَتُول التي لم يَقْرَعْها فَحْلٌ قط قاتلهم الله أنَّى يُؤْفَكُونَ- ويسمُّون أباه الزاني البنديرا الرُّوميَّ، وأمَّه مريم المَاشِطَة، ويزعمون أنَّ زوجها يوسف بن يهودا وجد البنديرا عندها على فراشها، وشعر (5) بذلك، فهَجَرَها وأنْكَرَ ابنها. ومن اليهود من رغب عن هذا القول وقال: إنما أبوه يوسف بن يهودا الذي كان زوجًا لمريم، ويذكرون أن السبب في استفاضة اسم الزنيم عليه (6) : أنه بينما هو يومًا مع معلِّمه يهشوع بن برخيا وسائر التلاميذ __________ (1) في "ج": "يقينكم". (2) في "ب، ج": "ولذلك". (3) في "ج": "يقينهم". (4) في "ب، ج": "لزنية". (5) في "غ": "وسعد". (6) أي على عيسى عليه السلام.
(1/378)
(في سفر، فنزلوا) (1) موضعًا، فجاءت امرأةٌ من أهله وجعلت تبالغ في كرامتهم، فقال يهشوع: ما أحسن هذه المرأة؟! يريد أفعالها، فقال عيسى -بزعمهم-: لولا عَوَرُ (2) في عينها، فصاح يهشوع وقال له: يا ممزار -ترجمته: يا زَنِيم- أتَزْنِي بالنَّظر؟! وغضب غضبًا شديدًا، وعاد إلى بيت المقدس وحرَّم اسمه ولعنه في أربعمائة قرن، فحينئذ لحق ببعض (3) قُوَّاد الروم وداخله بصناعة الطبِّ، فَقَوِيَ بذلك على اليهود وهم يومئذ في ذِمَّة قيصر تباريوش (4) ، وجعل يخالف حكم التوراة ويستدرك عليها ويُعْرض عن بعضها إلى أن كان من أمره ما كان. وطوائف من اليهود يقولون غير هذا، ويقولون: إنه كان يلاعب الصِّبْيان بالكرة، فوقعت لهم بين جماعة من مشايخ اليهود، فضَعُف الصِّبْيان عن استخراجها من بينهم حياءً من المشايخ، فقَوِي عيسى وتخطَّى رقابهم وأخذها، فقالوا له: ما نظنُّك إلا زَنِيمًا. ومن اختلاف (5) اليهود في أمره: أنهم يسمُّون أباه -بزعمهم- الذي كان خَطَب مَرْيمَ: يوسفَ بنَ يهودا النجَّار. وبعضهم يقول: إنما هو يوسف الحدَّاد. والنَّصارى تزعم أنها كانت ذاتَ بَعْلٍ وأنَّ زَوْجَها يوسفُ بنُ يعقوب. وبعضهم يقول: يوسف بن هالي (6) . وهم يختلفون أيضًا في آبائه وعددهم إلى إبراهيم، فمن مُقِلٍّ ومن مُكْثِر. __________ (1) في "د": "فنزلوا في سفر". (2) في "ب، ج": "عمش"، وفي "غ، ص": "عمى". (3) ساقطة من "ب". (4) في لوقا: "طباريوس". (5) في "د": "أخلاق". (6) في "د": "آل".
(1/379)
فهذا ما عند اليهود، وهم شيوخكم في نقل الصَّلْب وأمره، وإلا فمن المعلوم: أنَّه لم يحضُرْه أحد من النصارى، وإنما حضره (1) اليهود، وقالوا: قتلناه وصَلَبْنَاه، وهم الذين قالوا فيه ما حكيناه عنهم، فإنْ صدَّقْتُموهم في الصَّلْب فَصَدِّقُوهم في سائر ما ذكروه، وإن كذَّبْتُموهم فيما نَقَلُوه عنه فما الموجب لتصديقِهم في الصَّلْب وتكذيبِ أصْدَقِ الصَّادقين الذي قامت البراهينُ القطعيَّة على صِدْقه أنهم ما قتلوه وما صلبوه، بل صانه الله وحماه وحفظه، وكان أكرم على الله وأوْجَهَ عنده من أن يَبْتَلِيَه بما تقولون أنتم واليهود. وأما خبر ما عندكم أنتم؛ فلا نعلم أمةً من الأمم (2) أشدَّ اختلافًا في معبودها ونبيِّها ودينها منكم. فلو سألتَ الرَّجلَ وامرأتَه وابنته وأمَّه وأباه عن دينهم لأجابك كل منهم بغير جواب الآخر. ولو اجتمع عشرة منهم يتذاكرون الدِّين لتفرَّقوا عن أحدَ عَشَر مذهبًا مع اتِّفاق فِرَقِهمُ المشهورةِ (3) اليومَ على القول بالتثليث وعبادة الصليب، وأنَّ المسيح ابنَ مريمَ ليس بعبد صالح ولا نبيٍّ ولا رسولٍ، وأنه إلهٌ في الحقيقة، وأنه هو خالق السموات والأرض والملائكة والنبيِّيْن، وأنه هو الذي أَرْسَل الرُّسل، وأظهر على أيديهم المعجزات والآيات، وأنَّ للعالم إلهًا هو أبٌ والدٌ لم يزل، وأنَّ ابنه نزل من السماء وتجسَّم من روح القُدُس ومن مريم، وصار هو وابنها النَّاسُوتِيُّ (4) إلهًا واحدًا، ومسيحًا __________ (1) في "د": "حضرهم". (2) ساقط من "ب، غ، ص". (3) في "غ، ص": "المشهودة". (4) في "ج": "السوي".
(1/380)
واحدًا وخالقًا واحدًا، ورازقًا واحدًا، وحبلت به مريم وولدته، وأُخِذ وصُلِب وأَلِمَ ومات ودُفِن، وقام بعد ثلاثة أيام وصَعِدَ إلى السماء. وجلس عن يمين أبيه. قالوا: والذي ولدته مريم وعَايَنَهُ الناسُ وكان بينهم: هو الله، وهو ابن الله، وهو كلمة الله، فالقديمُ الأَزَليُّ خالق السموات والأرض هو الذي حبلت به مريم، وأقام هناك تسعةَ أشهرٍ، وهو الذي وُلِدَ ورَضَع وفُطِم، وأكل وشَرِب، وتغوَّط، وأُخِذ وصُلِب وشُدَّ بالحبال وسُمِرَتْ يداه. ثم اختلفوا: فقالت اليعقوبية -أتباع يعقوب البَرَادعيِّ ولقب بذلك لأنَّ لباسه كان من خرق بَرَادِع الدوابِّ يَرْقَعُ بعضَها ببعضٍ ويلبسها-: إنَّ المسيح طبيعةٌ واحدة منَ طبيعتين: "إحداهما" طبيعة الناسوت، "والأخرى" طبيعة اللاهوت. وأنَّ هاتين الطبيعتين تَرَكَّبتَا فصار إنسانًا واحدًا، وجوهرًا واحدًا، وشخصًا واحدًا. (فهذه الطبيعة الواحدة والشخص الواحد) (1) هو المسيح، وهو إلهٌ كلُّه، وإنسانٌ كلُّه، وهو شخص واحد، وطبيعة واحدة من طبيعتين. وقالوا: إنَّ مريم ولدتِ اللهَ، وإنَّ الله -سبحانه- قُبِضَ عليه وصُلِب، وسُمِرَ ومات، ودُفِنَ ثم عاش بعد ذلك. وقالت "الملكية" (2) -وهم الروم نسبة إلى دين الملِك لا إلى رجل __________ (1) ساقط من "ج". (2) في "غ، ص": "الملكائية".
(1/381)
يدعى ملكانا (1) هو صاحب مقالتهم كما يقوله بعض من لا علم له بذلك-: إنَّ الابن الأزَلِيَّ الذي هو الكلمةُ تجسَّدت من مريم تجسُّدًا كاملًا كسائر أجساد الناس، ورُكِّبت في ذلك الجسد نفسًا كاملة بالعقل والمعرفة والعلم كسائر أنفس الناس، وأنه صار إنسانًا بالجسد والنفس اللَّذَيْن هما من جوهر الناس، وإلهًا بجوهر اللَّاهوت كمثل أبيه لم يزل، وهو إنسان بجوهر الناس مثل إبراهيمَ وموسى وداود، وهو شخص واحدٌ لم يزد عدده، وثبت له جوهر اللَّاهوت كما لم يزل، وصحَّ له جوهر الناسوت الذي لَبِسَه ابنُ مريم، وهو شخص واحد -لم يزد عدده- وطبيعتان، ولكلِّ واحدةٍ من الطبيعتين مَشِيئةٌ كاملة، فله بلاهوته مشيئةٌ مِثْلُ الأب، وله بناسوته مشيئةٌ كمشيئة إبراهيم وداود. وقالوا: إن مريم ولدت "المسيح"، وهو اسم يجمع اللَّاهوتَ والنَّاسوتَ، وقالوا: إن الذي مات هو الذي ولدته مريمُ، وهو الذي وقع عليه الصلب والتسمير والصَّفْع والرَّبْطُ بالحبال (2) . واللَّاهوتُ لم يمت، ولم يَأْلَمْ ولم يُدْفَن. قالوا: وهو إلهٌ تام بجوهر لَاهُوتِهِ، وإنسانٌ قائم بجوهر نَاسُوتِه، وله المشيئتان: مشيئة اللَّاهوت، ومشيئة النَّاسوت. فَأَتَوا بمثل ما أتى به اليعقوبيةُ من أنَّ مريم ولدت الإلهَ إلا أنهم -بزعمهم- نزَّهوا الإله عن الموت. وإذا تدبَّرت قولهم وجدتَهُ -في الحقيقة- هو قولُ اليعقوبيَّة مع تنازعهم فيه وتناقضهم فيه، فاليعقوبية أطْرَدُ لكفرهم لفظًا ومعنىً. __________ (1) في "غ، ص": "ملكايا". (2) في "غ": "بالجبل".
(1/382)
وأما النَّسْطُوريَّة: فذهبوا إلى القول بأنَّ المسيح شخصان وطبيعتان لهما مشيئة واحدة وأنَّ طبيعة اللاهوت لما وجدت بالناسوت صار لهما إرادة واحدة، واللَّاهوت لا يقبل زيادةً ولا نقصانًا، ولا يمتزج بشيء. والنَّاسوت يقبل الزيادة والنقصان، فكان المسيحُ -بذلك- إلهًا وإنسانًا، فهو الإله بجوهر اللَّاهوت الذي لا يَقْبل الزيادة والنقصان، وهو إنسانٌ بجوهر (1) النَّاسوت الذي يقبل الزيادة والنقصان. وقالوا: إنَّ مريم ولدت المسيح بناسوته وإنَّ اللاهوت لم يفارقه قط. وكلُّ هذه الفِرَق استَنْكَفَتْ أن يكونَ المسيحُ عَبْدَ اللهِ، وهو لم يستنكف من ذلك، ورغبت به عن عبوديةِ الله، وهو لم يرغب عنها، بل أعْلى منازلِ (2) العبوديةِ عبوديةُ الله، ومحمدٌ وإبراهيمُ خيرٌ منه، وأعْلَى منازِلهما تكميلُ مراتب العبوديَّة، فاللهُ رَضِيَهُ أنْ يكونَ له عبدًا فلم ترض المثلِّثة بذلك. وقالت الأَرْيُوسيَّة منهم -: وهم أتباع أريوس- إنَّ المسيح عبد الله كسائر الأنبياء والرسل، وهو مَرْبُوبٌ مخلوقٌ مصنوع، وكان النَّجاشِيُّ على هذا المذهب. وإذا ظَفِرَت، المثلِّثة بواحدٍ من هؤلاء قتلتْه شَرَّ قِتْلة، وفعلوا به ما يُفْعَل بمن سبَّ المسيح وشتمه أعْظَمَ سبٍّ. والكلُّ من تلك الفرق الثلاث؛ عَوَامُّهم لا تفهم مقالةَ خَوَاصِّهم على حقيقتها، بل يقولون: إنَّ الله تخطَّى مريم كما يتخطَّى الرجلُ المرأةَ، وأحْبَلَها فولدت له ابنًا، ولا يعرفون تلك الهذيانات التي وضعها __________ (1) في "ص": "كجوهر". (2) في "ص": "منازله".
(1/383)
خواصُّهم، فهم يقولون: الذي تُدَنْدِنُون حولَه نحن نعتقده بغير حاجة منا إلى معرفة الأقانيم الثلاثة من الطبيعتين والمشيئتين، وذلك للتهويل والتطويل، وهم يُصَرِّحون بأنَّ مريم والدةُ الإله، والله أبوه، وهو الابن. فهذا الزوج، والزوجة، والولد. {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 88 - 95]. فهذه أقوال أعداء المسيح من اليهود والغَالِيْنَ فيه من النَّصارى المثلِّثة عُبَّاد الصليب. فبعث اللهُ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بما أزال الشُّبْهةَ في أمره وكشف الغُمَّة، وبرَّأ المسيح وأمَّه (1) من افتراء اليهود وبَهْتِهم وكَذِبهم عليهما، ونزَّه ربَّ العالمين وخالق المسيحِ وأمَّه مما افتراه عليه المثلِّثة عُبَّادُ الصليب الذين سَبُّوه أعظم السَّبِّ، فأنزَل المسيحَ أخاه بالمنزلة التي أنزله الله بها، وهي أشرف منازله، فآمن به وصدَّقه، وشهد له بأنّه عَبْدُ الله ورسولُه وروحُه وكلمتُه ألقاها إلى مريم العذراء البَتُولِ الطاهرةِ الصدِّيقة سيدةِ نساء العالمينَ في زمانها، وقرَّر معجزاتِ المسيح وآياتِه، وأخبر عن ربِّه تعالى بتَخْليد مَنْ كَفَرَ بالمسيح في النار، وأن ربَّه تعالى أكْرَمَ عَبْدَه ورسولَه ونزَّهه وصانه أن ينال إخوانُ القِرَدَةِ منه ما زعمتْه النَّصارى أنهم نالوه منه؛ بل رفعه إليه مؤيَّدًا منصورًا لم يَشُكْهُ أعداؤه بِشَوْكةٍ، ولا نالته أيديهم __________ (1) في "غ، ص": "واحد".
(1/384)
بأذى، فرفعه إليه وأسكنه سماءه، وسيُعِيْده إلى الأرض ينتقم به من مسيحِ الضَّلال وأتباعِه، ثم يَكْسرُ به الصَّليبَ، ويقتلُ به الخِنْزيرَ، ويُعْلِي به الإِسلامَ، ويَنْصُر به مِلَّةَ أخيه وأولى الناس به محمدِ بن عبد الله -عليهما أفضل الصلاة والسلام-. فإذا وضع هذا القَوْل في المسيح في كِفَّة وقَوْلُ عُبَّاد الصليب المثلِّثة في كِفَّة تبيَّن لكلِّ من له أدنى مُسْكَةٍ من عَقْلٍ ما بينهما من التفاوت، وأنَّ تفاوتَهما كتفاوتِ ما بينه وبين قول المغضوب عليهم فيه، وبالله التوفيق. فلولا محمد - صلى الله عليه وسلم - لما عَرَفْنَا أنَّ المسيح ابنَ مَرْيَمَ -الذي هو رسول الله وعبده وكلمته وروحه- موجودٌ أصلًا؛ فإنَّ هذا المسيح الذي أثْبَتَهُ اليهود مِن شِرَار خلق الله ليس بمسيح الهُدى. والمسيح الذي أَثْبَتَه النَّصارى من أبْطَلِ الباطل، لا يمكن وجوده في عقلٍ ولا فطرةٍ، ويستحيل أن يدخل في الوجود أعْظَمَ استحالةٍ، ولو صحَّ (1) وُجُودُه لبطلتْ أدلةُ العقول، ولم يَبْقَ لأحدٍ ثقةٌ بمعقولٍ أصلًا؛ فإنَّ استحالة وُجُودِه فوقَ استحالةِ جميع المُحَالات، ولو صحَّ ما يقولون (2) لَبَطَلَ العالَم واضمحلَّتِ السمواتُ والأرض، وعُدِمَتِ الملائكةُ والعَرْشُ والكرسيُّ، ولم يكن بعثٌ ولا نُشُورٌ، ولا جَنَّةٌ ولا نارٌ. ولا يستعجب من إطباق أُمَّة الضَّلال -الذين شهد الله أنهم أضلُّ من الأنعام- على ذلك، فكلُّ باطلٍ في الوجود يُنْسَبُ إلى أمةٍ من الأمم. فإنها مُطْبِقَةٌ عليه، وقد تقدم ذِكْرُ إطباقِ الأمم العظيمة -التي لا يحصيها __________ (1) في "ب، ج": "أمكن". (2) في "غ، ص": "يقول".
(1/385)
إلا الله- على الكفر والضلال بعد معاينةِ الآياتِ البَيِّنَاتِ، فَلِعُبَّادِ الصَّليب أسْوَةٌ بإخوانهم من أهل الشِّرْك والضَّلال!. فصل في ذكر استنادهم في دينهم إلى أصحاب المجامع الذين كفَّر بعضُهم بعضًا، (ولعن بعضهم بعضًا) (1)، وتَلَقِّيْهِم أُصولَ دينهم عنهم. ونحن نذكر الآن الأمر كيف ابتدأ، وتوسط، وانتهى، حتى كأنك تراه عِيَانًا (2). كان الله سبحانه قد بشَّر بالمسيح على ألسنة أنبيائه، من لَدُنْ موسى إلى زمن (3) داود ومَنْ بَعْدَه من الأنبياء. وأكْثَرُ الأنبياء تبشيرًا به: داود. وكانت اليهود تنتظره وتصدِّق به قبل مبعثه، فلما بُعث كفروا به بغيًا وحسدًا، وشرَّدُوه في البلاد، وطَرَدُوه وحَبَسُوه (4)، وهَمُّوا بقتله مرارًا إلى أن أجمعوا على القبض عليه وعلى قَتْله، فصانه اللهُ وأنقذَه من أيديهم ولم يُهنْهُ بأيديهم، وشُبِّه لهم أنهم صَلَبُوه ولم يَصْلِبُوه، كما قال تعالى: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ __________ (1) ساقط من "غ، ص". (2) انظر: "الجواب الصحيح" لابن تيمية: (4/ 183) وما بعدها، فقد لخص المصنف هذا الفصل من كلامه، ومما نقله ابن تيمية رحمه الله عن المؤرخ ابن البطريق في كتابه "نظم الجوهر" أو: "التاريخ المجموع على التحقيق والتصديق": (1/ 86) وما بعدها. (3) في "ب، ج": "لدن". (4) في "ج": "حسدوه".
(1/386)
مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 156 - 158]. وقد اخْتُلِف في معنى قوله: {وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ}. (فقيل: المعنى ولكن شُبِّه للذين صلبوه بأن ألقي شبهه على غيره فَصَلَبوا الشَّبَهَ. وقيل: المعنى) (1) ولكن شُبِّه للنَّصارى، أي: حصلت لهم الشبهة في أمره، وليس لهم علم بأنّه ما قُتِل وما صُلِبَ، ولكن لما قال أعداؤه: إنهم قتلوه وصلبوه واتَّفق رَفْعُه من الأرض وقعتِ الشبهةُ في أمره، وصدَّقهم النصارى في صلبه لِتَتِمَّ الشَّناعةُ عليهم، وكيف ما كان فالمسيح -صلوات الله وسلامه عليه- لم يُقْتَل ولم يُصْلب يقينًا لا شكَّ فيه. ثم تفرَّق الحَوَارِيُّون في البلاد -بعد رَفْعِه- على دينه ومنهاجه يَدْعُون الأمم إلى توحيد الله ودينه، والإيمان بعبده ورسوله ومسيحه، فدخل كثير من الناس في دينه ما بين ظَاهرٍ مشهور ومختفٍ مَسْتورٍ، وأعداءُ الله -اليهود- في غاية الشدة (2) والأذى لأصحابه وأتباعه، ولَقِيَ تلاميذ المسيح وأتباعُه من اليهود ومن الروم شِدَّةً شديدةً؛ من قَتْلٍ وعذابٍ، وتشريد وحبس، وغير ذلك، وكان اليهود في زمن المسيح في ذمَّة الروم، وكانوا ملوكًا عليهم، وكَتَب نائبُ الملِكِ ببيت المقدس إلى الملك يُعْلِمُه بأمر المسيح وتلاميذه، وما يفعل من العجائب الكثيرة من إبراء الأكْمَهِ والأَبْرَصِ وإحياء الموتى، فهمَّ أنْ يُؤْمِنَ به ويَتَّبِعَ دينه فلم يُتَابِعْهُ أصحابه، ثم هلك ووَلِيَ بعده ملكٌ آخر، فكان شديدًا على __________ (1) ما بين القوسين ساقط من "ص". (2) في "غ، ص": "الشرور والشدة".
(1/387)
(تلامذة المسيح) (1) . ثم مات وَوَلِيَ بعده آخر، وفي زمنه كتب "مرقس" إنْجِيْلَه بالعبرانيَّة، وفي زمانه صار إلى الإسكندرية، فدعا إلى الإيمان بالمسيح، وهو أول شخص جعل بَتْرَكًا على الإسكندرية، وصَيَّر (2) معه اثني عَشَرَ قسِّيسًا -على عدة نقباء بني إسرائيل في زمن موسى- وأمَرَهُمْ إذا مات البَتْرَكُ أن يختاروا من الاثني عشر واحدًا يجعلونه مكانه، ويضع الاثْنَا عَشَر أيْدِيَهُم على رأسه ويبرِّكونه، ثم يختارون رجلًا فاضلًا قسيسًا يصيِّرونه تمام العِدَّة. ولم يزل أمر القوم كذلك إلى زمن قسطنطين. ثم انقطع هذا الرسم واصطلحوا على أن ينصِّبوا البَتْركَ من أيِّ بلد كان من أولئك القسِّيسيْنَ أو من غيرهم، ثم سَمَّوه "بابا" (3) ومعناه: أبو الآباء. وخرج "مرقس" إلى بَرْقَةَ يدعو الناس إلى دين المسيح. ثم ملك آخر فأهاج على أتْبَاع المسيح الشَّرَّ والبلاءَ، وأخَذَهُمْ بأنواع العذاب، وفي عصره كتب "بطرس" -رئيسُ الحَوارِيِّيْن- إنجيلَ مرقس عنه بالرُّوميَّة، ونسبه إلى مرقس. وفي عصره كتب لوقا "إنجيله" بالرُّوميَّة لرجل شريف من عظماء الروم، وكتب له "الأبركسيس" الذي فيه أخبار التلاميذ (4) . وفي زمنه __________ (1) في "غ، ص": "تلامذته". (2) في "ج": "جعل". (3) في "غ، ص": "يا باس". (4) وهو المسمى أيضًا: "أعمال الرسل" مطبوع ضمن العهد الجديد. انظر: "محاضرات في النصرانية" للشيخ محمد أبو زهرة، ص "49"، "الجواب =
(1/388)
صُلِب "بطرس"، وزعموا أنَّ بطرس قال له: إن أردت أن تَصْلِبَنِي فَاصْلِبْني مُنَكَّسًا لئلا أكون مِثْلَ سيِّدي المسيح فإنَّه صُلِبَ قائمًا، وضرب عنق بولس بالسيف، وأقام بطرس بعد صعود المسيح اثنتين وعشرين سنة، وأقام "مرقس" بالإسكندريَّة وبَرْقَةَ سبع سنين يدعو الناس إلى الإيمان بالمسيح، ثم قُتِلَ بالإسكندريَّة وأُحْرِق جسدُه بالنار. ثم استمرَّتِ القياصرةُ ملوك الروم على هذه السيرة إلى أن مَلَكَ مِصْرَ قَيْصَرٌ يسمى "طيطس" (1) ، فخرَّب بيت المقدس بعد المسيح بسبعين سنة بعد أن حاصرها، وأصاب أهلَها جوعٌ عظيم، وقَتَلَ مَنْ كان بها من ذكر وأنثى حتى كانوا يَشُقُّون بطون الحُبَالى ويضربون بأطفالهنَّ الصُّخورَ، وخرَّب المدينة وأضْرَمَ فيها النار، وأُحْصِي القتلى على يده فَبَلغُوا ثلاثةَ آلافِ ألفٍ. ثم مَلَكَ ملوك آخرون؛ فكان منهم واحدٌ شديد على اليهود جدًّا فبلَّغوه أن النصارى يقولون: إن المسيح مَلِكُهم وأنَّ مُلْكَهُ يدوم إلى آخر الدهر، فاشتدَّ غضبُه وأمَرَ بقتل النصارى وأن لا يبقى في مُلْكِه (2) نصرانيٌّ. وكان "يوحنا" صاحب الإنجيل هناك فهرب، ثم أمر المَلِك بإكرامِهِمْ وتَرْكِ الاعتراض عليهم. ثم ملك بعده آخرُ فأثار على النصارى بلاءً عظيمًا، وقتل بتركَ أنطاكية برومية، وقَتَلَ أُسْقُفَّ بيت المقدس وصَلَبَهُ، وله يومئذ مائة وعشرون سنة، وأمر باستعباد النَّصارى فاشتدَّ عليهم البلاءُ إلى أن __________ = الصحيح": (4/ 189). (1) "تاريخ ابن البطريق": (1/ 99). (2) في "ب، ج": "مملكته".
(1/389)
رَحِمَتْهُمُ الرُّومُ. وقال له وزراؤُه: إنَّ لهم دينًا وشريعةً وإنه لا يَحِلُّ استعبادُهم، فكفَّ عنهم، وفي عصره كتب يوحنا إنجيله بالروميَّة، وفي ذلك العصر رجع اليهود إلى بيت المقدس، فلما كثروا وامتلأت منهم المدينة عَزَمُوا على أن يملِّكوا منهم ملكًا. فبلغ الخَبَرُ قَيْصَرَ فوجَّه إليهم جيشًا فقتل منهم من لا يُحْصَى. ثم ملك بعده آخر، وأخذ الناسَ بعبادةِ الأصنام، وقتل من النصارى خَلْقًا كثيرًا، ثم ملك بعده ابنُه، وفي زمانه قُتِلَ اليهود ببيت المقدس قتلًا ذريعًا، وخُرِّب بيت المقدس. وهربَ اليهودُ إلى مِصْرَ والشَّامِ والجبال والأغْوَار، وتقطَّعوا في الأرض. وأمر المَلِكُ أن لا يسكنَ بالمدينة يهوديٌّ، وأن يُقْتَلَ اليهودُ ويُسْتأصَلُوا، وأن يَسْكُنَ المدينة اليُونَانِيُّونَ، وامتلأت بيت المقدس من اليونانِيِّين، والنصارى ذِمَّةٌ تحت أيديهم، فرَأَوْهُمْ يأتون إلى مَزْبَلَةٍ هناك فَيُصَلُّون فيها، فمنعوهم من ذلك، وبنوا على المزبلة هيكلًا (باسم "الزهرة") (1) ، فلم يمكن النصارى بعد ذلك قِربانُ ذلك الموضع، ثم هلك هذا الملك، وقام بعده آخر، فنصَّب (2) يهودا أسْقُفًّا على بيت المقدس. قال ابن البطريق (3) : فمن يعقوب أُسقُفِّ بيت المقدس الأوّل إلى يهودا أسْقُفِّهِ هذا كانت الأساقفة الذين على بيت المقدس كلهم مختونين (4) . __________ (1) في "الجواب الصحيح": "على اسم". (2) في "غ، ص": "قصَّه". (3) "تاريخ ابن البطريق": (1/ 103) وانظر: "الجواب الصحيح": (4/ 195) وما بعدها. (4) في "ص": "مجونين"، وفي "د": "مجبوبين".
(1/390)
ثم وَلِيَ بعده آخر، وأثار على النصارى بلاء شديدًا وحربًا طويلًا ووقع في أيامه قَحْطٌ شديدٌ كاد الناس أن يَهْلَكُوا فسألوا النصارى أن يَبْتَهِلُوا إلى إلههم، فَدَعَوا وابتهلوا إلى الله فمطروا (1) وارتفع عنهم القَحْطُ والوَبَاءُ. قال ابن البِطْرِيْق (2) : وفي زمانه كتب بترك الإسكندرية إلى أُسْقُفّ بيت المقدس وبترك أنطَاكِيَة وبترك رومية في كتاب فصح النَّصارى وصومهم وكيف يستخرج من فصح اليهود، فوضعوا فيها كتبًا (3) على ما هي اليوم. قال: وذلك أن النصارى كانوا بعد صعود المسيح إذا عيَّدوا عِيْدَ الغِطَاس من الغد يصومون أربعين يومًا، (ويفطرون كما فعل المسيح، لأنه لما اعتمد بالأردن خرج إلى البريَّة فأقام بها أربعين يومًا) (4) ، وكان النَّصارى إذا أفصح اليهود عيَّدوا هم الفصح، فوضع هؤلاء البتاركة حسابًا للفصح ليكون فِطْرُهُمْ يوم الفصح، وكان المسيح يُعَيِّد مع اليهود في عيدهم، واستمرَّ على ذلك أصحابُه إلى أن ابتدعوا تغيير الصوم فلم يصوموا عَقِيْبَ الغِطَاس، بل نقلوا الصوم إلى وقتٍ لا يكون عِيْدُهم مع اليهود. ثم مات ذلك الملك وقام بعده آخر، وفي زمنه كان "جالينوس" وفي زمنه ظهرت الفُرْس وغلبت على بَابِل وآمِد وفارس. وتملَّك أردشير __________ (1) ساقطة من "ج". (2) انظر: "تاريخ ابن البطريق": (1/ 104). (3) في "ب، ج": "كتابًا". (4) ساقط من "ص، غ".
(1/391)
ابن بابك في إصطخر، وهو أول ملكٍ مَلَك على فارس في المدة الثانية. ثم مات قيصر وقام (1) بعده آخر، ثم آخر وكان شديدًا على النصارى عذَّبهم عذابًا عظيمًا (2) ، وقتل خَلْقًا كثيرًا منهم، وقتل كلَّ عالم فيهم، ثم قتل من كان بمصر والإسكندرية من النصارى، وهَدَم الكنائس، وبنى بالإسكندرية هيكلًا وسمّاه هيكل الآلهة (3) . ثم قام بعده قيصر آخر، ثم آخر وكانت النصارى في زمنه في هدوء وسلامة، (وكانت أُمُّه تحبُّ النّصارى) (4) . ثم قام بعده آخر فأثار على النصارى بلاء عظيمًا، وقتل منهم خَلْقًا كثيرًا، وأخذ الناسَ بعبادة الأصنام، وقتل من الأساقفة خلقًا كثيرًا، وقتل (5) بترك أنطاكية فلما سمع بترك بيت المقدس بقتله هرب وترك الكرسي، ثم هلك، وقام بعده آخر، ثم آخر. وفي أيام هذا ظهر "ماني" الكذَّاب، وزعم أنَّه نبيٌّ، وكان كثير الحِيَل والمَخَارِيْقِ، فأخذه بهرام ملك الفرس فشقَّه نصفين، وأخذ من أتباعه مائتي رجلٍ، فغرس رؤوسهم في الطِّين مُنَكَّسِيْن حتى ماتوا. ثم قام من بعده فيلبس فآمن بالمسيح، فوثب عليه بعض قُوَّاده فقتله. __________ (1) في "ب، ج": "وملك". (2) في "ب، ج، د": "شديدًا". (3) وهو بيت الأصنام. (4) في "د": "وكانت تحت ذمة. أي تحت أيدي الروم". (5) في "د" زيادة: "وقتل كل عالم فيهم". وليست في "الجواب الصحيح".
(1/392)
ثم قام بعده "دانقيوس (1) " (-ويسمى دقيانوس-) (2) فلقي النصارى منه بلاءً عظيمًا، وقَتَل منهم ما لا يُحْصَى، وقَتَل بترك رومية، وبنى هيكلًا عظيمًا، وجعل فيه الأصنام، وأمر أن يُسْجَد لها ويُذْبَح لها، ومن لم يفعل قُتِل، فقتل خلقًا كثيرًا من النصارى، وصُلِبوا على الهيكل، واتخذ من أولاد عظماء المدينة سبعة غلمان (3) فجعلهم خاصَّته وقدَّمهم على جميع مَنْ عنده، وكانوا لا يسجدون للأصنام، فأُعْلِم الملك بخبرهم فحبسهم ثم أطلقهم، وخرج إلى مخرج له، فأخذ الفتيةُ كلَّ ما لهم فتصدَّقوا به، ثم خرجوا إلى جبل عظيم فيه كهف كبير فاختفوا فيه، وصبَّ الله عليهم النعاس فناموا كالأموات، وأمر الملك أن يُبْنَى عليهم بابُ الكهف ليموتوا، فأخذ قائدٌ من قواده صفيحة من نحاس فكتب (4) فيها أسماءهم وقصتهم وما تمَّ مع دقيانوس وصيَّرها في صندوق من نحاس، ودفنه داخل الكهف وسدَّه. ثم مات الملك (5) . ثم قام بعده قيصر آخر، وفي زمنه جعل في أنطاكية بتركًا يسمى "بولس الشمشاطي" (6) وهو أول من ابتدع في شأن المسيح اللاهوت والناسوت، وكانت النصارى قبله كلمتُهم واحدة؛ أنَّه عبدٌ رسولٌ مخلوق مصنوع مربوب، لا يختلف فيه اثنان منهم. فقال بولس هذا __________ (1) في "الجواب الصحيح": "داقنوس". (2) ساقط من "غ، ص، ب". (3) في "د": "علماء". (4) ساقطة من "د". (5) انظر: "الجواب الصحيح": (4/ 203 - 204). وراجع "تفسير البغوي": (3/ 7 - 16)، "تفسير ابن كثير": (3/ 76) وما بعدها. (6) في "ب، غ، ص": "السمساطي" وفي "تاريخ ابن البطريق": "السميساطي".
(1/393)
-وهو أول من أفسد (دين النصارى) (1) -: إن سيدنا المسيح خَلَقَ من اللَّاهوت إنسانًا كواحد منا في جوهره، وأن ابتداء الابن من مريم، وإنه اصْطُفِي ليكون مخلِّصًا للجوهر الإنسيِّ صَحِبَتْه النعمةُ الإلهيَّة فحلَّت فيه بالمحبة والمشيئة، ولذلك سمي ابن الله. وقال: إن الله جوهرٌ واحدٌ وأُقْنُومٌ واحدٌ (2) . قال سعيد بن البِطْرِيْق (3) : وبعد موته اجتمع ثلاثة عشر أُسْقُفًّا في مدينة أنطاكية ونظروا في مقالة "بولس"، فأوجبوا عليه اللَّعْن، فلعنوه ولعنوا من يقول بقوله، وانصرفوا. ثم قام قيصر آخر فكانت (4) النصارى في زمنه يُصَلُّون في المطامير والبيوت فزعًا من الروم، ولم يكن بترك الإسكندرية يظهر خوفًا أن يقتل، فقام بارون بتركًا فلم يزل يداري الروم حتى بني بالإسكندرية كنيسة (5) . ثم قام قياصرة أُخَر، منهم اثنان تملَّكا على الروم إحدى وعشرين سنة فأثارا على النصارى بلاءً عظيمًا وعذابًا أليمًا وشدة تجلُّ عن الوصف من القتل والعذاب، واستباحة الحريم والأموال، وقتل ألوف مؤلَّفة من النصارى، وعذَّبوا مار جرجس أصناف (6) العذاب، ثم قتلوه. وفي زمنهما ضربت عنق بطرس بترك الإسكندرية، وكان له __________ (1) في "د": "النصارى وأفسد دينهم". (2) انظر: "ابن البطريق": (1/ 114)، "الجواب الصحيح": (4/ 204 - 205). (3) انظر: "تاريخ ابن البطريق": (1/ 112 - 124). (4) في "د": "فكادت". (5) في "الجواب الصحيح": "كنيسة حنا، ومار مريم". (6) في "ج": "أنواع".
(1/394)
تلميذان (1) ، وكان في زمنه "أريوس" يقول: إن الأب وحده الله الفرد الصمد، والابن مخلوق مصنوع، وقد كان الأب إذْ لم يكن الابن، فقال بطرس لتلميذَيْه: إن المسيح لعن أريوس فاحذرا أن تقبلا قوله، فإني رأيت المسيح في النوم مشقوق الثوب، فقلت: يا سيدي! من شقَّ ثوبَك؟ فقال لي: أريوس فاحذروا أن تقبلوه أو يدخل معكم الكنيسة. وبعد قتل بطرس بخمس سنين صيَّر أحد تلميذيه بتركًا على الإسكندرية فأقام ستة أشهر ومات، ولما جرى على أريوس ما جرى أظهر أنه قد رجع عن مقالته، فقبله هذا البترك، وأدخله الكنيسة، وجعله قسيسًا. ثم قام قيصر آخر فجعل يتطلب النصارى ويقتلهم حتى صبَّ الله عليه النَّقِمَة فهلك شَرَّ هلكة. ثم قام بعده قيصران: (أحدهما) مَلَك الشام وأرض الروم وبعض الشرق، (والآخر) روميةَ وما جاورها، وكانا كالسِّباع الضارية على النصارى، فَعَلَا بهم من القتل والسَّبي والجلاء ما لم يفعله بهم مَلِكٌ قبله، وملك معهما "فسطس" (2) أبو قسطنطين، وكان ديِّنًا (3) يبغَض الأصنام محبًّا للنصارى، فخرج إلى ناحية الجزيرة والرُّها، فنزل في قرية من قرى الرُّهَا فرأى هناك امرأة جميلة يقال لها "هيلانة"، وكانت قد تنصَّرت على يدي أُسْقُفّ الرُّهَا وتعلَّمت قراءة الكتب، فخطبها قسطنطين من أبيها، فزوَّجه إياها، فحبلت منه وولدت قسطنطين، فتربّى بالرُّها، __________ (1) في "غ": "تلميذ". (2) في الأصل "قسطنطين" والمثبت من "الجواب الصحيح" عن ابن البطريق. وهو الصواب. والله أعلم. (3) في "ب، ج": "مبغضًا".
(1/395)
وتعلَّم حكمة اليونان، وكان جميل الوجه قليل الشرِّ مُحبًّا للحكمة. وكان "عليانوس" (1) -ملك الروم حينئذ- رجلًا (فاجرًا، شديد البأس، مبغضًا للنصارى جدًّا، كثير القتل فيهم، مُحبًّا للنساء، لم يترك للنصارى بنتًا جميلة) (2) إلا أفسدها، وكذلك أصحابه، وكان النصارى في جهد جهيد معه، فبلغه خبر قسطنطين وأنه غلامٌ هادٍ، قليلُ الشّرِّ، كثيرُ العِلْم. وأخبره المنجِّمون والكهنة أنه سيملك مُلْكًا عظيمًا، فهمَّ بقتله. فهرب قسطنطين من الرُّها، ووصل إلى أبيه فسلَّم إليه الملك، ثم مات أبوه، وصبَّ الله على "عليانوس" أنواعًا من البلاء حتى تعجب الناس مما ناله، ورَحِمَهُ أعداؤه مما حلَّ به، فرجع إلى نفسه وقال: لعل هذا بسببِ ظلم النصارى. فكتب إلى جميع عُمَّاله أن يُطْلِقُوا (3) النصارى من الحبوس، وأن يكرموهم ويسألوهم أن يَدْعُوا له في صلواتهم، فوهب الله له العافيةَ، ورجع إلى أفضل ما كان عليه من الصحة والقوة، فلما صحَّ وقوي رجع إلى شَرٍّ مما كان عليه من الصحة (4) ، وكتب إلى عماله أن يقتلوا النصارى ولا يَدَعُوا في مملكته نصرانيًّا، ولا يسكنوا له مدينة ولا قرية، فكان القتلى يحملون على العجل ويُرْمى بهم في البحر والصحاري. وأما قيصر الآخر، الذي كان معه، فكان شديدًا على النصارى، واستعبد من كان برومية من النصارى، ونَهَبَ أموالَهم، وقتل رجالَهم __________ (1) في "الجواب الصحيح": "علانيوس". (2) ساقط من "غ، ص". (3) في "ج" تصحفت إلى: "يقتلوا". (4) ساقط من "ب، ج".
(1/396)
ونساءَهم وصبيانَهم. فلما سمع أهل رومية بقسطنطين، وأنه مبغض للشر محبٌّ للخير، وأن أهل مملكته معه في هدوء وسلامة: كتب رؤساؤهم إليه يسألونه أن يخلِّصهم من عبودية ملكهم، فلما قرأ كتبهم اغتمَّ غمًّا شديدًا، وبقي متحيرًا لا يدري كيف يصنع! قال سعيدُ بنُ البِطْريقِ (1) : فظهر له نِصْفَ النهار في السماء صليبٌ من كوكب مكتوبًا حوله: بهذا تغلب. فقال لأصحابه: رأيتم ما رأيتُ؟ قالوا: نعم. فآمن حينئذ بالنصرانية، فتجهَّز لمحاربة قيصر المذكور، وصنع صليبًا كبيرًا من ذهب وصيَّره على رأس البَنْد (2) ، وخرج (3) بأصحابه فأُعطِي النصر على قيصر، فقتل من أصحابه مقتلةً عظيمة، وهرب الملك (ومَنْ بقي من أصحابه) (4) ، فخرج أهل رومية إلى قسطنطين بالإكليل الذهب، وبكل أنواع اللهو واللعب، فتلقَّوه وفرحوا به فرحًا عظيمًا، فلما دخل المدينة أكرم النصارى وردَّهم إلى بلادهم بعد النفي والتشريد، وأقام أهلُ رومية سبعة أيام يُعَيّدون (5) للملك وللصليب. فلما سمع عليانوس جَمَع جموعَه وتجهَّز (للقتال مع) (6) قسطنطين، __________ (1) انظر: "ابن البطريق": (1/ 119)، "الجواب الصحيح": (4/ 212 - 213). (2) هو العَلَم الكبير. (3) في "غ": "عرَّج". (4) ساقط من "د". (5) في "د": "يعبدون". (6) في "د": "لقتال".
(1/397)
فلما وقعت العين في العين انهزموا وأخَذَتْهُمُ السيوف، وأفلت عليانوس فلم يزل من قرية إلى قرية حتى وصل إلى بلدة، فجمع السَّحَرَة والكَهَنَةَ والعرَّافِيْنَ الذين كان يحبُّهم (ويَقْبَل منهم) (1) ، فضرب أعناقهم لئلا يقعوا في يد قسطنطين. وتنصَّر قسطنطين، وأمر ببناء الكنائس، وأقام (2) في كل بلد، (وأن يُخرج) (3) من بيت المال الخراجُ فيما تعمل به أبنية الكنائس، وقام بدين النصرانية حتى ضرب بِجِرَانِه في زمانه، فلما تمَّ له خمس عشرة سنة من ملكه حاجَّ النصارى في أمر المسيح واضطربوا، فأمر بالمجمع في مدينة نيقية وهي التي رتبت فيها "الأمانة" بعد هذا المجمع -كما سيأتي- فأراد أريوس أن يدخل معهم فمنعه بترك الإسكندرية، وقال: إن بطرسًا قال لهم: إنَّ الله لعن أريوس فلا تَقْبَلُوه ولا تُدْخِلوه الكنيسة. وكان على مدينة أَسْيُوط من عمل مصر أُسْقُفّ يقول بقول أريوس فلعنه أيضًا، وكان بالإسكندرية هيكل عظيم على اسم زُحَل (4) ، وكان فيه صنم من نحاس يسمى ميكائيل، وكان أهل مصر والإسكندرية في اثني عشر يومًا من شهر هتور وهو تشرين الثاني يعيِّدون لذلك الصنم عيدًا عظيمًا، ويذبحون له (الذبائح الكثيرة. فلما ظهرت النصرانية بالإسكندرية أراد بُتْركُها أن يكسر الصنم __________ (1) في "ج": "وأمر". (2) ساقط من "ب، ج". (3) ساقط من "ص، ب، غ". (4) في "ب، ج": "رجل".
(1/398)
ويبطل الذبائح له) (1) ، فامتنع عليه أهلها، فاحتال عليهم بحيلة، وقال: لو جعلتم هذا العيد لميكائيل ملك الله لكان أَوْلى؛ فإن هذا الصنم لا ينفع ولا يضر! فأجابوه إلى ذلك، فكسر الصنم وجعل منه صليبًا، وسمى الهيكل كنيسة ميكائيل، فلما منع بترك الإسكندرية (أريوس من دخول الكنيسة ولعنه، خرج أريوس) (2) مستعديًا عليه ومعه أسقفان فاستغاثوا إلى قسطنطين. وقال أريوس: إنه تعدى عليَّ وأخرَجَنِي من الكنيسة ظلمًا. وسأل الملك أن يشخص بترك الإسكندرية (يناظره قُدَّام الملك، فوجَّه قسطنطين برسول إلى الإسكندرية) (3) ، فأشخص البترك وجمع بينه وبين أريوس ليناظره. فقال قسطنطين لأريوس: اشرح مقالتك. قال أريوس: أقول: إنَّ الأب كان إذْ لم يكن الابن، ثم إنه أحدث الابنَ فكان كلمةً له إلا أنه مُحْدَثٌ مخلوق، ثم فوَّض الأمر إلى ذلك الابن المسيح المسمى كلمة، فكان هو خالق السموات والأرض وما بينهما، كما قال في إنجيله إذ يقول: "وهب لي سلطانًا على السماء والأرض" فكان هو الخالق لهما بما أعطي من ذلك. ثم إن الكلمة تجسَّدت من مريم العذراء ومن روح القدس فصار ذلك مسيحًا واحدًا، فالمسيح الآن معنيان: كلمة وجسد إلا أنهما جميعًا مخلوقان. __________ (1) ساقط من "غ، ص". (2) ما بين القوسين ساقط من "ج". (3) ما بين القوسين ساقط من "ج، غ، ص".
(1/399)
فأجابه عند ذلك بترك الإسكندرية، وقال: تخبرنا الآن أيما أوجب علينا عندك: عبادة مَنْ خَلَقَنَا أو عبادة من لم يخلقنا؟ قال أريوس: بل عبادة مَنْ خَلَقَنا. فقال له البترك: فإن كان خالقنا الابن كما وصفت، وكان الابن مخلوقًا، فعبادة الابن المخلوق أوجب (1) من عبادة الأب الذي ليس بخالق، بل تصير عبادة الأب الذي خلق الابن كفرًا، وعبادة الابن المخلوق إيمانًا، وذلك من أقبح الأقاويل. فاستحسن الملك وكلُّ مَنْ حضر مقالة البترك، وشنع عندهم مقالة أريوس، ودارت بينهما أيضًا مسائل كثيرة، فأمر قسطنطينُ البَتْركَ أن يكفِّر أريوس وكلَّ من قال بمقالته. فقال له: بل يوجِّه الملك بشخص للبتاركة (2) والأساقفة حتى يكون لنا مجمعٌ، ونصنع فيه قضيةً، ويكفِّر أريوس، ويَشْرَح الدِّين، ويوضِّحه للناس (3) . فبعث (4) قسطنطينُ الملكُ إلى جميع البلدان فجمع البتاركة والأساقفة فاجتمع في مدينة نيقية بعد سنة وشهرين (5) ألفان وثمانية __________ (1) صحفت في "غ، ص" إلى "روحت". (2) في "غ، ص": "للمشاركة". (3) انظر: "الجواب الصحيح": (4/ 214 - 220). (4) انظر: "الجواب الصحيح": (4/ 220) وما بعدها، "تاريخ ابن البطريق": (1/ 114) وما بعدها. (5) في "د": "شهر".
(1/400)
وأربعون أُسْقُفًّا، فكانوا مُخْتَلِفِي الآراء، (مختَلفِي الأديان) (1) . فمنهم من يقول: المسيح ومريم إلهان من دون الله وهم المريمانية (2) . ومنهم من يقول: المسيح من الأب بمنزلة شعلة نار تعلقت من شعلة نار، فلم تنقص الأولى لإيقاد الثانية منها. ومنهم من كان يقول: لم تحبل مريم لتسعة أشهر، وإنما مرَّ نور في بطن مريم كما يمرُّ الماء في الميزاب، لأنَّ كلمة الله دخلت من أذنها وخرجت من حيث يخرج الولد من ساعتها. وهذه مقالة "ألبان" (3) وأشياعه. ومنهم من كان يقول: إن المسيح إنسان خلق من اللاهوت كواحد منا في جوهره، وإن ابتداء الابن من مريم، وإنه اصطُفي ليكون مخلِّصًا للجواهر الإنسية، صحبته النعمة الإلهية فحلَّت منه بالمحبة والمشيئة فلذلك سمي ابن الله، ويقولون: إن الله جوهر واحد وأقنوم واحد (4) يسمونه بثلاثة أسماء، ولا يؤمنون بالكلمة ولا بروح القدس وهذه مقالة بولص وأشياعه. ومنهم من كان يقول: ثلاثة آلهة لم تزل (5) ؛ صالح وطالح وعدل __________ (1) ساقط من "د". (2) في "ج": "المريانية". (3) في "غ": "اليان" بالمثناة. وهي عند ابن البطريق أيضًا. (4) ساقط من "غ، ص". (5) ساقط من "ج".
(1/401)
بينهما. وهذه مقالة مرقيون وأشياعه. ومنهم من كان يقول: ربنا هو المسيح. وهي مقالة ثلاثمائة وثمانية عشر (1) أسقفًا. قال ابن البطريق (2) : ولما سمع قسطنطين الملك مقالتهم عجب من ذلك وأخلى لهم دارًا وتقدَّم لهم بالإكرام والضيافة، وأمرهم أن يتناظروا فيما بينهم لينْظُرَ من معه الحقُّ فيتَّبِعه، فاتَّفقَ منهم ثلاثمائة (وثمانية عشر) (3) أسقفًّا على دينٍ واحد ورأي واحدٍ. وناظروا بقية الأساقفة المختلفين ففَلَجُوا عليهم في المناظرة، وكان باقي الأساقفة مختلِفِي الآراء والأديان، فصنع الملك للثلاثمائة (والثمانية عشر) (4) أسقفًّا مجلسًا عظيمًا وجلس في وَسْطِه، وأخذ خاتمه وسيفه (5) وقضيبه فدفع ذلك إليهم، وقال لهم: قد سلَّطْتُكم اليومَ على المملكة، فاصنعوا ما بَدَا لكم، وما ينبغي لكم أن تُضَيِّعوا (6) ما فيه قَوَامُ الدِّين وصلاحُ الأمة. فباركوا على الملك وقلَّدوه سيفه، وقالوا له: أظْهِرْ دين النصرانية وذُبَّ عنه، ووضعوا له أربعين كتابًا فيها السنن والشرائع، وفيها ما يصلح أن يعمل به الأساقفة، وما يصلح للملك أن يعمل بما فيها. __________ (1) في "ج": "وأربعون". وصححت في هامش "ب" إلى (313). (2) "تاريخ ابن البطريق": (1/ 126). (3) في "ج" "ثلاثة". (4) في "ج": "الثمانية وأربعون". (5) ساقطة من "ج". (6) في "غ، ب، ج": "تصنعوا".
(1/402)
وكان رئيسُ القومِ والمجمعِ والمقدَّمُ فيه بتركَ الإسكندرية وبتركَ أنْطَاكِيَة وأُسقُفَّ بيت المقدس. ووجه بترك رومية من عنده رجلين، فاتَّفق الكلُّ على لعن أريوس وأصحابه، ولعنوه وكلَّ من قال بمقالته، ووضعوا الأمانة، وقالوا: إنَّ الابن مولود من الأب قبل كون الخلائق، وإن الابن من طبيعة الأب غيرُ مخلوقٍ، واتَّفقوا على أن يكون فِصْحُ النصارى يومَ الأحد، ليكون بعد فصح اليهود، وأن لا يكون فصح اليهود مع فِصْحِهِم في يومٍ واحد، ومنعوا أن يكون للأُسْقُفّ زوجة، وذلك أن الأساقفة منذ وقت الحواريين إلى مجمع الثلاثمائة وثمانية عشر (1) كان لهم نساء، لأنهم كانوا إذا صيَّروا واحدًا أُسقفًّا وكانت له زوجة ثبتت معه ولم تتنحَّ عنه ما خلا البتاركة فإنهم لم يكن لهم نساء، ولا كانوا أيضًا يصيِّرون أحدًا له زوجةٌ بتركًا. قال: وانْصَرَفوا مكرَّمين محظوظين، وذلك في سبعة عشر سنة (2) من ملك قسطنطين الملك. وسنَّ قسطنطين الملك بعد ذلك ثلاث سُنن: إحداها: كَسْرُ الأصنام وقَتْلُ كلِّ من يعبدها. الثانية: أن لا يثبت في الديوان إلا أولاد النصارى، ويكونوا هم الأمراء والقواد. والثالثة: أن يقيم للناس جمعة (3) الفصح، والجمعة التي بعدها لا __________ (1) في "ج": "ثمانية وأربعين". (2) ساقطة من "ج، د". (3) في "د": "جمعهم".
(1/403)
يعملون فيها عملًا، ولا يكون فيها حرب (1) . وتقدَّم قسطنطين إلى أُسْقُفِّ بيت المقدس أن يطلب موضع المقبرة والصليب ويبني الكنائس، ويبدأ ببناء القيامة (2) ، فقالت هيلانة أمه: إني نذرت أن أسير إلى بيت المقدس، وأطْلُبَ المواضع المقدَّسة وأبنيها. فدفع إليها الملكُ أموالًا جزيلة، وسارت مع أُسقف بيت المقدس، فبَنَتْ كنيسةَ القيامة في موضع الصليب، وكنيسةَ قسطنطين (3) . ثم اجتمعوا بعد هذا مجمعًا عظيمًا ببيت المقدس، وكان معهم رجل دسَّه بترك القسطنطينية وجماعة معه ليسألوا بترك الإسكندرية، وكان هذا الرجل لما رجع إلى الملك أظهر أنه مخالف لأريوس، وكان يرى رأيه ويقول بمقالته، فقام الرجل وقال: (إن أريوس لم يقل) (4) إن المسيح خلق الإنسان ولكن قال: به خلقت الأشياء، لأنه كلمة الله التي بها خلقت السموات والأرض، وإنما خلق الله الأشياء بكلمته، ولم تخلق الأشياء كلمته كما قال المسيح في الإنجيل: "كل بيده كان ومن دونه لم يكن شيء" وقال: "به كانت الحياة، والحياة (5) نور البشر" وقال: "العالم به يكون" (6) . فأخبر أن الأشياء به تَكَوَّنت. __________ (1) في "د": "حرث". (2) في "د": "القبابة". وفي "ص": "القمامة". (3) انظر: "الجواب الصحيح": (4/ 226). (4) ساقط من "ج". (5) ساقطة من "غ، ج". (6) إنجيل يوحنا: (1/ 1 - 3).
(1/404)
قال ابن البطريق (1) : فهذه كانت مقالة أريوس ولكن الثلاثمائة (وثمانية عشر) (2) أسقفًّا تعدَّوا عليه وحرَّفوه (3) ظلمًا وعدوانًا، فردَّ عليه بترك الإسكندرية، وقال: أما أريوس فلم تكذب عليه الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفًّا ولا ظلموه لأنه إنما قال: الابن خالق الأشياء دون الأب، وإذا كانت الأشياء إنما خلقت بالابن دون أن يكون الأب لها خالقًا فقد أعطى أنه ما خلق منها شيئًا، وفي ذلك تكذيب قوله: "الأب يخلق، وأنا أخلق" (4) وقال: "إن أنا لم أعمل عمل أبي فلا تصدقوني" (5) ، وقال: "كما أن الأب يحيي من يشاء ويميته كذلك الابن يحيي من يشاء ويميته" (6) قالوا: فدلَّ على أنه يحيي ويخلق، وفي هذا تكذيب لمن زعم أنه ليس بخالق، وإنما خُلِقت الأشياءُ به دون أن يكون خالقًا. وأما قولك: إنَّ الأشياء كُوِّنت به؛ فإنَّا لما قلنا: لا شك أنَّ المسيح حيٌّ فَعَّال (7) ، وكان قد دلَّ بقوله: "إني أفعل الخلق والحياة" = كان قولك: به كُوِّنَتِ الأشياء إنما هو راجع في المعنى إلى أنه كوَّنَها وكانت به مكوَّنة، ولو (8) لم يكن ذلك لتناقض القولان. __________ (1) "تاريخ ابن البطريق": (1/ 131). (2) في "ب" صححت إلى "الثلاثة عشر". (3) في "ص": "جرموه". (4) إنجيل يوحنا: (5/ 17). (5) إنجيل يوحنا: (5/ 36). (6) إنجيل يوحنا: (5/ 21). (7) في "ج": "فقال". (8) ساقطة من "ج".
(1/405)
قال: وأما قول (من قال من) (1) أصحاب أريوس: إن الأب يريد الشيء فيكونه الابن والإرادة للأب، والتكوين للابن؛ فإنَّ ذلك يفسد أيضًا إذْ (2) كان الابن عنده مخلوقًا، فقد صار حظ المخلوق في الخلق أوفى من حظ الخالق فيه، وذلك أن هذا أراد وفعل، وذاك أراد ولم يفعل، فهذا أوفر حظًّا في فعله من ذلك. ولابد لهذا أن يكون في فعله لما يريد ذلك بمنزلة كل فاعل من الخلق لما يريد الخالق منه، ويكون حكمه كحكمه في الخير (3) والاختيار، فإن كان مجبورًا: فلا شيء له في الفعل. وإن كان مختارًا: فجائزٌ أن يُطَاعَ، وجائزٌ أن يعصى، وجائز أن يثاب وجائز أن يعاقب. وهذا أشنع في القول. وردَّ عليه أيضًا وقال: إن كان الخالق إنما خَلَق خَلْقَهُ بمخلوق -والمخلوقُ (4) غيرُ الخالق بلا شكٍّ- فقد زعمتم أنَّ الخالق يفعل بغيره، والفاعلُ بغيره محتاجٌ إلى متمِّمٍ ليفعل به، إذْ كان لا يتم له الفعل إلا به، والمحتاج إلى غيره منقوصٌ، والخالقُ متعالٍ عن هذا كلِّه (5) . قال: فلما دَحَضَ (6) بتركُ الإسكندرية حُجَجَ أولئك المخالفين، وظَهَر لمن حضر بطلانُ قولِهم، وتحيَّروا (7) وخجلوا فوثبوا على بترك الإسكندرية فضربوه حتى كاد يموت، فخلَّصه من أيديهم ابنُ أختِ __________ (1) ساقط من "غ، ص". (2) في "ج": "فإن". (3) في "ب، ج": "الجبر". (4) في "غ، ب، ص": "المقول". (5) في "د": "هذه الكلمة". (6) في "غ": "رخص". (7) في "ب": "تجبروا".
(1/406)
قسطنطين، وهرب بَتْركُ الإسكندرية، وصار إلى بيت المقدس من غير حضور أحدٍ من الأساقفة، ثم أصلح دهن الميرون وقدَّس الكنائس ومسحها بدهن الميرون، وسار إلى الملك فأعلمه الخبر فصرفه إلى الإسكندرية. قال ابن البطريق (1) : وأمر المَلِكُ أن لا يسكن يهوديٌّ ببيت المقدس، ولا يجوزَ بها، ومن لم يَتَنَصَّرْ قُتِل، فظهر دينُ النَّصرانيَّة، وتنصَّر من اليهود خَلْق كثير (2) . فقيل للملك: إن اليهود يتنصَّرون من خوف القتل، وهم على دينهم. فقال: كيف لنا أن نعلم ذلك منهم؟ فقال بولس البترك: إن الخنزير في التوراة حرامٌ، واليهودُ لا يأكلون لحم الخنزير، فَأْمُرْ أن تُذْبَح الخنازيرُ ويُطْبَخَ لحومها، ويطعم منها اليهود، فمن لم يأكل منه عُلِم أنه مقيمٌ على (دين اليهوديَّة) (3) . فقال الملك: إذا كان الخنزير في التوراة حرامًا فكيف يحلُّ لنا أن نأكلَه ونُطْعِمَه الناس؟ فقال له بولس: إنَّ سيدنا المسيح قد أبطل كلَّ ما في التوراة، وجاء بنواميس أُخَر، وبتوراةٍ جديدة، وهو الإنجيل، وفي إنجيله: "إن كل ما يدخل البطن فليس بحرام ولا نجس، وإنما ينجِّس الإنسان ما يخرج من فيه" (4) . وقال بولس: إنَّ بطرس رئيسَ الحَوَارِيِّيْنَ بينما هو يصلي في ست __________ (1) "تاريخ ابن البطريق": (1/ 33 - 134)، "الجواب الصحيح": (4/ 226 - 227). (2) ساقط من "غ، ص". (3) في "ج": "دينه أي اليهودية". (4) إنجيل متى: (15/ 17 - 18).
(1/407)
ساعات من النهار وقع عليه سُبَاتٌ، فنظر إلى السماء قد تفتَّحَتْ، وإذا زادٌ قد نزل من السماء حتى بلغ الأرض، وفيه كلُّ ذي أربع قوائم على الأرض من السباع والدواب وغير ذلك من طير (1) السماء، وسمع صوتًا يقول له: يا بطرس قم فَاذْبَحْ وكُلْ. فقال بطرس: يا ربّ ما أكلت شيئًا نجسًا قطُّ ولا وسخًا قط، فجاء صوتٌ (ثانٍ: كلُّ) (2) ما طهَّره الله فليس بنجس. وفي نسخة أخرى: ما طهَّره الله فلا تنجِّسْه أنت، ثم جاءه الصوت بهذا ثلاث مرات. ثم إن الزاد ارتفع إلى السماء فتعجب بطرس وتحيَّر فيما بينه وبين نفسه (3) . فأمر الملك أن تُذْبَحَ الخنازير وتُطْبخَ لحومها وتقطَّعَ صغارًا، وتُصَيَّر على أبواب الكنائس في كل مملكته يوم أحدِ الفِصْحِ، وكلُّ مَن خرج من الكنيسة يُلْقَمُ لُقْمَةً من لحم الخنازير، فمن لم يأكل منه يقتل. فقُتِل لأجل ذلك خلقٌ كثير. ثم هَلَك قسطنطين وقام (4) بعده أكبر أولاده واسمه قسطنطين، وفي أيامه اجتمع أصحاب أريوس ومن قال بمقالته إليه فحسَّنوا له دينهم ومقالتهم، وقالوا: إنَّ الثلاثمائة وثمانيةَ عَشَرَ (5) أُسْقُفًّا الذين كانوا اجتمعوا بنيقية قد أخطأوا وحادوا عن الحقِّ في قولهم: إن الابن متفق مع __________ (1) في "ب": "طيور". (2) في "ج": "بأن يأكل" وفي "ص": "بأن كُلْ". (3) انظر: "أعمال الرسل": (11/ 1 - 10). (4) في "د": "وولي". (5) في "ج": "وأربعون".
(1/408)
الأب في الجوهر. فَأْمُرْ أن لا يقالَ هذا فإنَّه خطأ. فعزم الملك على فعله، فكتب إليه أُسْقُفّ بيت المقدس أن لا يقبل قَوْلَ أصحابِ أريوس؛ فإنهم حائدون عن الحق وكُفَّار، وقد لعنهم الثلاثُمائة وثمانيةَ عشر (1) أُسقفًّا، ولَعَنُوا كلَّ من يقول بمقالتهم. فَقَبِلَ قَوْلَه. قال ابن البِطْرِيْقِ (2) : وفي ذلك الوقت أُعلنت (3) مقالةُ أريوس على قسطنطينية وأنطاكية والإسكندرية، وفي ثاني سنة من مُلْك قسطنطين هذا صار على أنطاكية بترك أريوسيٌّ، ثم بعده آخر مثله. قال (4) : وأما أهل مصر والإسكندرية وكان أكثرهم أريوسيين ومنانيين فغلبوا على كنائس مصر فأخذوها، ووثبوا على بترك الإسكندرية ليقتلوه فهرب منهم واستخفى. ثم ذكر جماعةً من البتاركة والأساقفة من طوائف النصارى وما جرى لهم مع بعضهم بعضًا، (وما تعصبت به كلُّ طائفةٍ لبتركها حتى قَتَل بعضُهم بعضًا) (5) ، واختلف النصارى أشدَّ الاختلاف، وكثرت مقالاتهم، واجتمعوا عدة مجامع، (كلُّ مجمعٍ) (6) يَلْعَنُ فيه بعضُهم __________ (1) في "ج": "وأربعون". (2) انظر: "تاريخ ابن البطريق": (1/ 135 - 136)، "الجواب الصحيح": (4/ 232) وما بعدها. (3) في "ب، ج، ص": "غلبت". (4) في "د": "قال ابن البطريق". وانظر: (1/ 136) من "التاريخ"، "الجواب الصحيح": (4/ 235). (5) ما بين القوسين ساقط من "د". (6) ساقط من "د".
(1/409)
بعضًا. ونحن نذكر بعض مجامعهم بعد هذين المجمعين. فكان لهم مجمع ثالث بعد ثمان وخمسين سنةً من المجمع الأول بنيقية، فاجتمع الوزراء والقُوَّاد إلى الملك، وقالوا: إن مقالة الناس قد فسدت وغلبت عليهم مقالة أريوس ومكدونيس، فَاكْتُبْ (1) إلى جميع الأساقفة والبتاركة أن يجتمعوا ويوضِّحوا دين النصرانية. فكتب الملك (2) إلى سائر بلاده، فاجتمع في قسطنطينية مائة وخمسون أُسْقُفًّا، فنظروا وبحثوا في مقالة أريوس فوجدوها: أن روح القدس مخلوق ومصنوع ليس بإله (3) . فقال بترك الإسكندرية: ليس روح القدس عندنا غير روح الله، وليس روح الله غير حياته، فإذا قلنا: إن روح الله مخلوق، فقد قلنا: إن حياته مخلوقة. وإذا قلنا: إن حياته مخلوقة، فقد جعلناه غير حيٍّ، وذلك كفرٌ به فَلَعَنُوا جميعُهم مَن يقولُ بهذه المقالة، ولَعَنُوا جماعةً (4) من أساقفتهم وبتاركتهم كانوا يقولون (5) بمقالاتٍ أُخَر لم يرتضوها، وبَيَّنوا أنَّ روح القدس خالق غير مخلوق، إلهٌ حقّ (من إلهٍ حقٍّ) (6) من طبيعة الأب والابن، جوهر واحد وطبيعة واحدة. وزادوا في الأمانة التي وضعتها الثلاثمائة والثمانية عشر (7) : ونؤمن بروح القدس __________ (1) في "ج، ص": "فكتب". (2) ساقطة من "غ، ص". (3) انظر: "الجواب الصحيح": (4/ 238 - 239). (4) في "ص": "جميعًا". (5) ساقطة من "ب". (6) ساقط من "غ، ص". (7) في "ج": "والثمانية وأربعون".
(1/410)
الربِّ (1) المحيي الذي من الأب (2) منبثق الذي مع الأب والابن، وهو مسجود له (3) وممجَّد. وكان في تلك الأمانة "وبروح القدس" فقط، وبينوا أنَّ الابن والأب وروح القدس ثلاثةُ أَقَانِيم، وثلاثُ وجوهٍ، وثلاثُ خواصٍّ، وأنها وحدة (4) في تثليث، وتثليث في وحدة، وبيَّنوا أن جسد المسيح بنفسٍ ناطقة عقلية. فانفضَّ هذا الجمع وقد لَعَنوا فيه كثيرًا من أساقفتهم وأشياعهم (5) . ثم بعد إحدى وخمسين سنة من هذا المجمع (6) كان لهم مجمع رابع على نسطورس. وكان رأيه أنَّ مريم ليست بوالدة الإله على الحقيقة، ولذلك (7) كان اثنان (8) : أحدهما: الإله الذي هو موجود من الأب. والآخر: إنسان وهو الموجود (9) من مريم، وأن هذا الإنسان الذي نقول (10) إنه المسيح متوحد مع ابن الإله، ويقال له: إله وابن الإله، __________ (1) ساقطة من "د". (2) في "د": "الإله". (3) في "ج": "محمود وممجد". (4) في "ج": "واحدة". (5) في "ب، ج": "أتباعهم". (6) في "ج": "الجمع". (7) في "ب، ج": "وكذلك". (8) في "ب، ص، ج": "ابنان". (9) في "الجواب الصحيح": "مولود". (10) في "ج، غ، ب": "يقال".
(1/411)
ليس على الحقيقة ولكن موهبة (1) . واتفاق الاسمين على طريق الكرامة (2) . فبلغ ذلك بتاركة سائر البلاد، فجرت بينهم مراسلات، واتفقوا على تخطئته، واجتمع منهم مائتا أسقف في مدينة أفسيس، (وهي مدينة دقيانوس) (3) . وأرسلوا إليه للمناظرة فامتنع ثلاث مرات، فأَجْمَعُوا على لعنه، فَلَعَنُوه ونَفَوْه، وبَيَّنوا (4) أن مريم ولدت إلهًا وأن المسيح إلهٌ حقٌّ من إلهٍ حقٍّ، وهو إنسان وله طبيعتان. فلما لعنوا نسطورس، ومَنْ تعصَّب له بترك أنطاكية، فجمع الأساقفة الذين قدموا معه، ونَاظَرَهم وقَطَعَهم، فتقاتلوا وتلاعنوا وجرى بينهم شر فتفاقم أمرهم، فلم يزل الملك حتى أصلح بينهم. فكتب أولئك صحيفةً: أنَّ مريم القدِّيسةَ (5) ولدت إلهًا، وهو ربنا يسوع المسيح الذي هو مع الله في الطبيعة ومع الناس في الناسوت. وأقرُّوا بطبيعتين وبوجهٍ واحد وأُقنُوم واحد، وأنْفَذُوا لَعْنَ نسطورس. فلما لعنوه ونُفِي، سارَ إلى مصر وأقام في أخميم سبع (6) سنين ومات ودفن بها، وماتت مقالته إلى أن أحياها ابنُ صَرْمَا (7) مطران نصيبين، وبثَّها في بلاد المشرق، فأكثر نصارى المشرق والعراق نَسْطُورِيَّة. فانفضَّ ذلك المجمع الرابع أيضًا __________ (1) في "غ": "لوهنه"، وفي "ج": "توهية". (2) في "الجواب الصحيح": "واتفاق الاسمين والكرامة شبيهًا بأحد الأنبياء". (3) ساقطة من "ب، ج". (4) في "ب، ج": "ثبتوا". (5) في "ج": "القدسية". (6) في "ج": "تسع". (7) في ابن البطريق: "برصوما".
(1/412)
وقد أطبقوا على لعن نسطورس وأشياعه ومن قال بمقالته (1). فصل ثم كان لهم -بعد هذا المجمع (2) - مجمعٌ خامس، وذلك أنه كان بالقسطنطينية طبيب راهب يقال له أوطيسوس يقول: إنَّ جسد المسيح ليس هو مع أجسادنا بالطبيعة. وإنَّ المسيح قبل التجسد من طبيعتين، وبعد التجسد طبيعة واحدة. وهو أول من أحدث هذه المقالة، (وهي مقالة) (3) اليعقوبية. فرحل إليه بعض الأساقفة فناظره وقَطَعَه ودَحَضَ حُجَّتَه، ثم صار إلى قسطنطينية فأخبر بَتْرَكَهَا بالمناظرة وبانقطاعه، فأرسل بتركُ القسطنطينيةِ إليه فاستحضره، وجمع جمعًا عظيمًا وناظره. فقال أوطيسوس: إنْ قلنا: إنَّ للمسيح طبيعتين فقد قلنا بقول نسطورس، ولكنا نقول: إن المسيح طبيعة واحدة وأُقْنُوم واحد، لأنه (من طبيعتين كانتا قبل التجسُّد، فلما قَبِل التجسُّد زالت عنه وصار) (4) طبيعةً واحدة وأُقنومًا واحدًا. فقال له بترك القسطنطينية: إنْ كان المسيح طبيعةً واحدةً، فالطبيعة القديمة هي الطبيعة المُحْدَثَةُ، وإن كان القديم هو المحدَثُ (فالذي لم يزل هو الذي لم يكن، ولو جاز أن يكون القديم هو المحدَث) (5) لكان __________ (1) انظر: "الجواب الصحيح": (4/ 246 - 249). "تاريخ ابن البطريق": (1/ 158). (2) ساقطة من "غ". (3) ساقطة من "ب، ج". (4) ساقط من "د". (5) ما بين القوسين ساقط من "د" لانتقال نظر الناسخ فيما يبدو.
(1/413)
القائم (1) هو القاعد والحار هو البارد، فأبى أن يرجع عن مقالته، فلعنوه. فاستعدى إلى الملك وزعم أنهم ظلموه، وسأله أن يكتب إلى جميع البتاركة للمناظرة، فاستحضر الملكُ البتاركةَ والأساقفةَ (2) من سائر البلاد إلى مدينة أفسيس فَثَبَّت بتركُ (3) الإسكندرية مقالةَ أوطيسوس، وقطع بتاركة القسطنطينية وأنطاكية وبيت المقدس وسائر البتاركة والأساقفة. وكتب إلى بترك رومية وإلى جماعة الكهنة فحرمهم ومنعهم (4) من القربان إن لم يقبلوا مقالة أوطيسوس، ففسدتِ الأمانةُ وصارت مقالة (5) أوطيسوس خاصَّةَ بمصر والإسكندرية، وهو مذهب اليعقوبية. فافترق هذا المجمع الخامس وكلُّ فريقٍ يلعن الآخر ويَحْرِمُه ويَبْرَأ من مقالته (6) . __________ (1) ساقط من "ج". (2) في "ج": "الأسقفة". (3) في "غ، ص": "بطرك". (4) في "ج": "فحرموهم ومنعوهم". (5) في "ب، ج": "المقالة مقالة ... ". (6) انظر: "تاريخ ابن البطريق": (1/ 179).
(1/414)
فصل ثم كان لهم -بعد هذا- مجمعٌ سادس في مدينة خَلْقَدُونَ، فإنَّه لما مات الملك وَلِيَ بعده مرقيون، فاجتمع إليه الأساقفة من سائر البلاد فأعلموه ما كان من ظلم ذلك المجمع وقلة الإنصاف، وأن مقالة أوطيسوس قد غلبت على الناس وأفسدت دين النصرانية. فأمر الملك باستحضار سائر (1) البتاركة والمطارنة والأساقفة إلى مدينة خَلْقَدُونَ فاجتمع فيها ستمائة وثلاثون أُسْقُفًّا فنظروا في مقالة أوطيسوس وبترك الإسكندرية الذي قطع جميع البتاركة، فأفسد الجميعُ مقالتَهُما ولعنُوهُما. وأثبتوا أن يسوع إلهٌ وإنسان في المكان مع الله باللاهوت وفي المكان معنا بالنَّاسوت، يُعْرَف بطبيعتين، (تام باللاهوت) (2)، وتام بالناسوت، ومسيح واحد. وثَبَّتوا أقوال الثلاثِمائةِ وثمانيةَ عَشَر (3) أُسْقُفًّا، وقبلوا قولهم بأن الابن مع الله في المكان، نور من نور، إله حق (من إله حق معروف بالطبيعتين، تام باللاهوت، وتام بالناسوت) (4) ولَعَنُوا أريوس. وقالوا: إن روح القدس إله، وإن الأب والابن وروح القدس واحد بطبيعة واحدة وأقانيم ثلاثة، وثَبَّتوا قول المجمع الثالث في مدينة __________ (1) ساقطة من "ج". (2) ساقط من "ص، ج". (3) في "ج": "وأربعون". (4) ساقط من "غ، ص، ب".
(1/415)
أَفْسُس (1) . أعني (2) المائتي أسقف على نسطورس. وقالوا: إن مريم العذراء ولدت إلهًا ربنا اليسوع المسيح الذي هو مع الله بالطبيعة ومع الناسوت بالطبيعة، وشهدوا أن للمسيح طبيعتين وأقنومًا واحدًا، (ووجهًا واحدًا) (3) ولعنوا نسطورس وبترك الإسكندرية، ولعنوا المجمع الثاني الذي كان بأفسيس، ثم المجمع الثالث المائتي أسقف بمدينة أفسيس أول مرة، ولعنوا نسطورس. (وبين نسطورس) (4) إلى مجمع خَلْقَدُون أحدٌ وعشرون سنة، فانفضَّ هذا المجمع وقد لعنوا من مُقَدَّميهم (5) وأساقفتهم مَنْ ذكرنا، وكفَّروهم وتبرأوا منهم ومن مقالاتهم. __________ (1) كلمة يونانية معناها "المرغوبة" وهي عاصمة المقاطعة الرومانية آسيا. ثم دخلت في مملكة الأتراك العثمانيين بعد الفتح. انظر: "قاموس الكتاب المقدس" ص (92 - 93). (2) ساقطة من "غ، ص، ب". (3) ساقط من "غ، ص". (4) ساقط من "ج". (5) في "ج، غ": "مقدمتهم".
(1/416)
فصل ثم كان لهم -بعد هذا المجمع- مجمعٌ سابعٌ في أيام أنسطاس الملك، وذلك أنَّ سورس القسطنطيني كان على رأي أوطيسوس، فجاء إلى الملك فقال: إن المجمع الخلقدوني الستمائة وثلاثين قد أخطأوا في لعن أوطيسوس (وبترك الإسكندرية) (1)، والدينُ الصحيحُ ما قالاه، فلا يُقْبَل دينٌ من سواهما، ولكنِ اكْتُبْ إلى جميع عمالك (2) أن يلعنوا (3) الستمائةَ وثلاثين، ويأخذوا الناس بطبيعةٍ واحدة ومشيئةٍ واحدة وأُقنومٍ واحدٍ، فأجابه الملك إلى ذلك. فلما بلغ ذلك إيليا بترك بيت المقدس جَمَع الرهبان ولعنوا أنسطاس الملك وسورس، ومن يقول بمقالتهما. فبلغ ذلك أنسطاس ونفاه إلى أيلة، وبعث يوحنا بتركًا على بيت المقدس، لأنَّ يوحنا كان قد ضمن له أن يلعن المجمع الخَلْقَدُونيّ الستمائة وثلاثين. فلما قدم إلى بيت المقدس اجتمع الرهبان، وقالوا: إيَّاك أن تقبل من سورس، ولكن قَاتِلْ (4) عن المجمع الخَلْقَدُونيّ ونحن معك، فضَمِنَ لهم ذلك وخالف أمْر الملك، فبلغ ذلك الملك، فأرسل قائدًا وأمره أن يأخذ يوحنا بطرح المجمع الخَلْقَدُونِيّ، فإن لم يفعل ينفيه عن الكرسي. فقدم القائد وطرح يوحنا في الحَبْس، فصار إليه الرهبان في الحبس __________ (1) ليست في المخطوط، وأثبتها من المطبوعة. (2) في "ج، ب": "أعمالك". (3) من هنا حتى المجمع العاشر ساقط من "ص". (4) في "ج": "قابل".
(1/417)
وأشاروا عليه بأن يضمن للقائد أن يفعل ذلك، فإذا حضر فَلْيُقِرَّ بلعنة مَنْ لَعَنهُ الرهبان ففعل ذلك، واجتمع الرهبان وكانوا عشرة آلاف واهب ومعهم بدرس وسابا (1) ورؤساء الديارات، فلعنوا أوطيسوس وسورس ونسطورس ومن لا يقبل المجمع الخَلْقَدُوني، وفزع رسول الملك من الرهبان، وبلغ ذلك الملك فهمَّ بنفي يوحنا، فاجتمع الرهبان والأساقفة فكتبوا إلى أنسطاس الملك أنهم لا (2) يقبلون مقالة سورس ولا أحد من المخالفين ولو أهريقت دماؤهم، وسألوه أن يكفَّ أذاه عنهم. وكتب بترك رومية إلى الملك بقبح فعله، وبلَعْنه، فانفضَّ هذا المجمع أيضًا وقد تلاعنت فيه هذه المجموع على ما وصفنا!!. وكان لسورس تلميذ يقال له: يعقوب يقول بمقالة سورس، وكان يسمى يعقوب البرادعي وإليه تنسب اليعاقبة فأفسد أمانة النصارى. ثم مات أنسطاس، ووَلِيَ قسطنطين، فردَّ كلَّ من نفاه أنسطاس الملك إلى موضعه، واجتمع الرهبان وأظهروا كتاب الملك وعيَّدوا عيدًا حسنًا بزعمهم (3) ، وأثبتوا المجمع الخلقدوني بالستمائة وثلاثين أُسْقُفًّا، ثم ولي (4) ملك آخر وكانت اليعقوبية قد غلبوا على الإسكندرية وقتلوا بتركًا لهم يقال له: بولس، كان ملكيًّا، فعلم الملك، فأرسل قائدًا ومعه عسكر عظيم إلى الإسكندرية، فدخل الكنيسة في (ثياب البترك) (5) ، __________ (1) في "ج": "شايا". (2) ساقطة من "غ". (3) ساقطة من "ب، ج". (4) ساقط من "ج". (5) في "ج": "ثبات البتركة".
(1/418)
وتقدَّم وقدَّس، فرموه بالحجارة حتى كادوا يقتلونه فانصرف. ثم أظهر لهم من بعد ثلاثة أيام أنه قد أتاه كتاب الملك، وضرب الجرس ليجتمع الناس يوم الأحد في الكنيسة، فلم يَبْقَ أحدٌ بالإسكندرية حتى حضر (1) لسماع كتاب الملك، وقد جعل بينه وبين جنده علامة إذا هو فعلها وضعوا السيف في الناس، فَصَعِدَ المنبر وقال: يا مَعْشَرَ أهل الإسكندرية! إنْ رجعتم إلى الحقِّ وتركتم مقالة اليعاقبة وإلا لن تأمنوا أن يُرْسِل إليكم المَلِكُ من يسفكُ دماءَكم. فَرَموه بالحجارة حتى خاف على نفسه أن يُقْتَلَ، فأظهر العلامة، فوضعوا السَّيفَ على كلِّ مَنْ في الكنيسة، فقُتِل دَاخِلَها وخَارِجَها أممٌ لا تُحْصَى كثرةً (2) ، حتى خاض الجند في الدماء، وهرب منهم خلق كثير، وظهرت مقالة الملكية (3) . __________ (1) ساقط من "ج". (2) في "ج": "لكثرتها". (3) انظر: "تاريخ ابن البطريق": (1/ 191 - 200).
(1/419)
فصل ثم كان لهم -بعد ذلك- مجمع ثامن، بعد المجمع الخلقدوني الذي لعن فيه اليعقوبية (1) بمائة سنة وثلاث سنين، وذلك أن أسقف مَنْبِج (-وهي بلدة شرقي حلب بالقرب منها، وهي مخسوفة الآن-) (2) كان يقول بالتناسخ وأن ليس قيامة، وكان أُسْقُفُّ الرُّها وأُسْقُفّ المَصِّيصَة وأُسْقُفٌّ آخر يقولون: إن جسد المسيح خيال غير حقيقة. فَحَشَرَهُم الملك إلى قسطنطينية، فقال لهم بَتْرَكُها: إن كان جسده خيالًا فيجب أن يكون فعله خيالًا، وقوله خيالًا، وكل جسدٍ يُعَاين لأحدٍ من الناس، أو فعلٍ، أو قولٍ فهو كذلك. وقال لأسقف مَنْبِج: إن المسيح قد قام من الموت وأعْلَمَنا أنه كذلك يقوم الناس من الموت يوم الدينونة، وقال في إنجيله: "لن تأتي الساعة حتى إن كل من في القبور إذا سمعوا قول ابن الله يجيبون" (3)، فكيف تقولون ليس قيامة؟! فأوجب عليهم الخِزْيَ واللَّعْن. وأمر الملك أن يكون لهم مجمع يلعنون فيه، واستحضر بتاركة البلاد، فاجتمع في هذا المجمع مائة وأربعة وستون أُسْقُفًّا، فلعنوا أسقف مَنْبِج وأسقف المَصِّيْصَة، وثبتوا على قول أسقف الرُّها، أن جسد المسيح حقيقةٌ لا خيال، وأنه إله تامٌّ، وإنسان تام معروف بطبيعتين ومشيئتين وفعلين، أُقنوم واحدٌ، وثَبَّتوا المجامع الأربعة التي قبلهم بعد __________ (1) في "ج": "اليعاقبة". (2) ما بين القوسين ساقط من "ب، ج". (3) إنجيل يوحنا: (5/ 24 - 25).
(1/420)
"المجمع الخَلْقَدُوني، وأن الدنيا زائلة، وأن القيامة كائنة، وأن المسيح يأتي بمجد عظيم فيدين الأحياء والأموات كما قال الثلاثمائة والثمانيةَ عَشَر (1) . __________ (1) في "ج": "والثمانية وأربعون". وفي "ص": "كما قال الستمائة و ... ". وانظر: "تاريخ ابن البطريق": (1/ 201 - 206).
(1/421)
فصل ثم كان لهم مجمع تاسع في أيام معاوية بن أبي سفيان تلاعنوا فيه، وذلك أنه كان برومية راهبٌ قدِّيس يقال له: مقسلمس، وله تلميذان فجاء إلى قسطا الوالي فوبَّخه على قُبْح مذهبه وشناعة كُفْرِه. فأمر به قسطا فقُطِعَت يداه ورجلاه، ونُزِع لسانه. وفَعَل بأحد التلميذين مثله، وضرب الآخر بالسِّياط ونفاه. فبلغ ذلك ملك قسطنطينية فأرسل إليه أن يوجِّه إليه من أفاضل الأساقفة ليعلم وجه هذه الحجة ومن الذي كان (1) ابتدأها لكيما يطرح جميعٍ الآباء القديسين كلَّ من استحق اللعنة، فبعث إليه مائةً وأربعين أُسْقُفًّا وثلاث شمامسة (2)، فلما وصلوا إلى قسطنطينية جمع الملك مائة وثمانية وستين أسقفًّا فصاروا ثلاثمائة وثمانية، وأسقطوا الشمامسة في البرطحة (3). وكان رئيس هذا المجمع بَتْرَكَ قسطنطينية وبَتْرَك أنطاكية، ولم يكن (4) لبيت (5) المقدس والإسكندرية بترك، فلعنوا مَنْ تقدَّم من __________ (1) ساقطة من "ج". (2) الشماس: هو خادم الكنيسة، ومرتبته دون القسيس. وكانت تستخدم للمسيح وخدمة الدين إلا أنها اختصت بالسبعة الرجال المشهود لهم المملوئين من الروح القدس والحكمة الذين تعينوا لخدمة الموائد. "قاموس الكتاب المقدس" ص (519). (3) قال ابن البطريق 2/ 35: (وكذلك يذكرون في الدتبيِخهَ)، ولم يذكر البرطحة. (4) ساقطة من "ب، ج". (5) في "ص": "ببيت".
(1/422)
القدِّيْسِيْنَ الذين خَالَفُوهم. وسمَّوهم واحدًا واحدًا وهم جماعة، ولعنوا أصحاب المشيئة (1) الواحدة. ولما لعنوا هؤلاء جلسوا فلخَّصوا الأمانة المستقيمة -بزعمهم- فقالوا: "نؤمن بأنَّ الواحد من اللَّاهوت (2) الابن الوحيد الذي هو الكلمة الأزلية الدائم، المستوي مع الأب الإله في الجوهر. الذي هو ربُّنا اليسوع المسيح بطبيعتين تامتين، وفعلين ومشيئتين، في أُقْنوم واحدٍ ووجهٍ واحد، يعرف تامًّا بلاهوته تامًّا (3) بناسوته. وشهدت كما شهد مجمع الخلقدونية على ما سبق أن الإله الابن في آخر الأيام (اتَّحد مع) (4) العذراء السيدة مريم القديسة جسدًا إنسانًا بنفسين، وذلك برحمة الله تعالى مُحبِّ البشر، ولم يلحقه اختلاط ولا فساد ولا فرقة ولا فصل، ولكن هو واحد يعمل بما يشبه الإنسانَ أن يعمله في طبيعته وما يشبه الإله أن يعمل في طبيعته الذي هو الابن الوحيد (5) والكلمة الأزلية المتجسدة (6) إلى أن صارت في الحقيقة لحمًا، كما يقول الإنجيل المقدس، من غير أن تنتقل عن محلِّها الأزليِّ، وليست بمتغيِّرة لكنها (7) بفعلين ومشيئتين وطبيعتين: إلهيٌّ، وإنسيٌّ، الذي بهما يكون القول الحق، وكل واحدة من الطبيعتين تعمل مع شركة صاحبتها، __________ (1) في "ص": "المسببة". (2) في "ج": "الثالوث". (3) في "ج": "قائمًا". (4) في "ج": "اتخذ من". (5) في "ب، ج": "الواحد". (6) في "ج": "المستجدة". (7) في "ج": "لكن بفعلها الأزلي".
(1/423)
مشيئتين (1) غير متضادَّتَيْن ولا متضارعتين، ولكن مع المشيئة الإنسية في المشيئة الإلهية القادرة على كل شيء. هذه شهادتهم وأمانة المجمع السادس من المجمع الخَلْقَدوني، وثبَّتوا ما ثبَّتَه الخمس مجامع التي كانت قبلهم، ولَعَنُوا من لَعَنُوه، وبين المجمع الخامس إلى هذا المجمع مائة سنة (2) . __________ (1) في "ج": "مشيئتين وطبيعتين". (2) انظر: "تاريخ ابن البطريق": (2/ 34) وما بعدها.
(1/424)
فصل ثم كان لهم مجمع عاشر (1) لما مات الملك ووَلِيَ بعده ابنُه، واجتمع فريق المجمع السادس وزعموا أنَّ اجتماعهم كان على الباطل، فجمع الملك مائة وثلاثين أُسْقُفًّا فَثبَّتوا قول المجمع السادس ولعنوا من لعنهم وخالفهم. وثبَّتوا قول المجامع الخمسة، ولعنوا من لعنوا (2) وانصرفوا (3). فانقرضت هذه المجامع والحشود، وهم علماءُ النصارى وقدماؤهم وناقِلُو الدِّين إلى المتأخرين، وإليهم يستند مَنْ بعدهم. وقد اشتملت هذه المجامع العشرة المشهورة على زهاءِ أربعةَ عَشَرَ ألفًا من الأساقفة والبتاركة والرهبان، كلُّهم يكفِّر بعضُهم بعضًا، ويلعنُ بعضُهم بعضًا. فدِيْنُهُم إنما قام على اللعنة بشهادة بعضهم على بعض، وكلٌ منهم لاعنٌ ملعونٌ. __________ (1) هنا ينتهي السقط في "ص" الذي ابتدأ من المجمع السابع كما تقدمت الإشارة إلى ذلك. (2) في "ج": "لعنهم". (3) انظر: "تاريخ ابن البطريق": (2/ 36 - 37).
(1/425)
فصل فإذا كانت هذه حال المتقدِّمين (1) مع قرب زمنهم من أيام المسيح وبقاء أخيارهم فيهم، والدولةُ دولتهم والكلمةُ لهم، وعلماؤهم إذْ ذاك أوفرُ ما كانوا، واحتفالُهم بأمر دينهم واهتمامهم به كما ترى، ثم هم مع ذلك تائهون حائرون بين لاعنٍ وملعونٍ لا يثبت لهم قَدَمٌ، ولا يتحصَّل لهم قول في معرفة معبودهم. بل كل منهم قد اتخذ إلهه هواه وباح باللَّعن والبراءة ممَّن اتَّبع سواه. = فما الظنُّ بحُثَالةِ (2) الماضين (3)، ونُفَايةِ الغَابِرين، وزُبَالةِ الحائرين، وذُرِّيَّة الضَّالين، وقد طال عليهم الأمد، وبَعُد العهد، وصار دينُهم ما يتلقَّونه (4) عن الرُّهْبان. وقوم إذا كشفت عنهم وَجَدْتَهم أشبَه شيءٍ بالأنعام، وإن كانوا في صُوَر الأنام، بل هم كما قال تعالى -ومن أصدق من الله قيلًا-: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44]. وهؤلاء هم الذين عناهم الله سبحانه بقوله: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77]. ومن أمة الضلال بشهادة الله ورسوله عليهم، وأمة اللعن بشهادتهم على نفوسهم بلعن بعضهم بعضًا. __________ (1) في "غ": "المقدمين". (2) في "ب، ج، د": "بحالة". (3) في "د": "الباقين". (4) في "د": "يلقونه"، وفي "ب، غ": "يبلغونه".
(1/426)
وقد لعنهم الله -سبحانه- على لسان رسوله في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لعن اللهُ اليهودَ والنَّصارى اتَّخَذُوا قُبُورَ أنبيائهِمْ مَسَاجِدَ - يحذِّر ما فعلوه" (1) . هذا، والكتابُ واحدٌ، والربُّ واحدٌ، والنبيُّ واحدٌ، والدعوى واحدةٌ، وكلُّهم يتمسك بالمسيح وإنجيله (2) وتلاميذه، ثم يختلفون فيه هذا الاختلاف المتباين! فمنهم من يقول: إنه إله. ومنهم من يقول: ابن الله. ومنهم من يقول: ثالث ثلاثة. ومنهم من يقول: إنه عبد. ومنهم من يقول: إنه أُقْنُوم وطبيعة. ومنهم من يقول: أُقْنومان وطبيعتان. إلى غير ذلك من المقالات التي حَكَوْها عن أسلافهم، وكلٌّ منهم يكفر صاحبه. فلو أنَّ قومًا لم يعرفوا لهم إلهًا، ثم عرض عليهم دين النصرانية هكذا، لتوقَّفوا عنه وامتنعوا من قَبُوله. فوازِنْ بينَ هذا وبينَ ما جاء به خَاتَمُ الأنبياء والرُّسل -صلوات الله __________ (1) أخرجه البخاري في الجنائز، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور: (1/ 212) (الطبعة المنيرية)، ومسلم في المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور ... : (1/ 375). (2) في "غ": "والإنجيل".
(1/427)
عليه وسلامه- تَعْلَمْ علمًا يضارعُ المحسوسات أو يزيد عليها: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19].
(1/428)
القسم الثاني في تقرير نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - بجميع أنواع الدلائل
(1/429)
فصل في أنه لا يمكن الإيمان بنبيٍّ من الأنبياء أصلًا مع جحود نبوة محمدٍ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّه من جحد نبوَّته فهو لنبوَّةِ غيره من الأنبياء أشدُّ جَحْدًا. وهذا يتبيَّن بوجوه: (أحدها) أن الأنبياء المتقدِّمين بشَّروا بنبوته، وأَمروا أُممهم بالإيمان به، فمن جحد نبوته فقد كذب الأنبياء قبله فيما أخبروا به، وخَالَفَهم فيما أَمروا وأَوْصَوا به من الإيمان به. والتَّصديقُ به لازمٌ من لوازم التصديق بهم، وإذا انتفى اللازم (1) انتفى مَلْزُومُه قطعًا. وبيان الملازمة: ما تقدَّم من الوجوه الكثيرة التي تفيد بمجموعها القَطْعَ على أنه - صلى الله عليه وسلم - قد ذُكِر في الكتب الإلهيَّة على أَلْسُن الأنبياء. وإذا ثَبَتَتِ المُلَازمةُ فانتِفَاءُ اللازم موجِبٌ لانتفاء مَلْزُومِهِ. (الوجه الثاني) أنَّ دعوة محمد بن عبد الله -صلوات الله وسلامه عليه- هي دعوة جميع المرسلين قَبْلَه من أولهم إلى آخرهم، فالمكذبُ بدعوته مكذِّبٌ بدعوة إخوانه كلِّهم، فإنَّ جميع الرسل جاؤوا بما جاء به، فإذا كذبه المكذِّبُ فقد زعم أنَّ ما جاء به باطل. وفي ذلك تكذيبُ كلِّ رسولٍ أرسله الله، وكل كتاب أنزله الله (2)، ولا يمكن أن يَعْتَقِد أنَّ ما جاء به صدق وأنه كاذبٌ مفترٍ على الله. وهذا في غاية الوضوح. __________ (1) في "ج": "الملزوم". (2) ليست في "غ".
(1/431)
وهذا بمنزلة شهود شهدوا بحقٍّ فصدَّقهم الخَصْمُ وقال: هؤلاء كلُّهم شهودٌ عدول صادقون، ثم (شهد آخرُ) (1) على شهادتهم سواء، فقال الخصم: هذه الشهادة باطلةٌ وكَذِبٌ لا أصل لها. وذلك تكذيب بشهادة جميع الشهود قطعًا، ولا يُنْجيه من تكذيبهم اعترافُه بصحة شهادتهم وأنها شهادةُ حقٍّ (مع قوله) (2) إن الشاهد بها كاذبٌ فيما شهد به. فكما أنه لو لم يظهر محمد - صلى الله عليه وسلم - لبطلت نُبُوات الأنبياء قبله، فكذلك (3) إن لم يُصَدَّقْ لم يمكن تصديقُ نبيٍّ من الأنبياء قبله. (الوجه الثالث) أن الآيات والبراهين التي دلت على صحة نبوته وصدقه أضعافُ أضعافِ آيات (4) مَنْ قَبْلَه من الرسل، فليس لنبيٍّ من الأنبياء آيةٌ توجب (5) الإيمانَ به إلا ولمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - مثلُها أو ما هو في الدلالة مثلها، وإن لم يكن من جنسها فآياتُ نبوته أعظمُ وأكبر وأبْهَرُ وأدلُّ، والعِلْمُ بنَقْلها قطعيٌّ، لقُرْبِ العهد، وكثرةِ النَّقَلة، واختلافِ أمصارهم وأعصارهم، واستحالةِ تواطئهم على الكذب. فالعِلمُ بآيات نبوته كالعِلْمِ بنفس وجوده وظهورِه وبَلَدِه، بحيث لا يمكن المكابرة في ذلك، والمكابِرُ فيه في غاية الوقاحة والبَهْت، كالمكابر في وجود ما يشاهده الناس ولم يشاهده (6) هو من البلاد __________ (1) في "غ، ص": "ثم الآخر شهد". (2) ساقط من "ب، ج، ص". (3) في "ج": "فلذلك". (4) ساقط من "ج". (5) في "غ": "يتوجب". (6) في "ج": "يشهده".
(1/432)
والأقاليم والجبال والأنهار. فإن جاز القَدْحُ في ذلك كلِّه، فالقدحُ في وجود عيسى وموسى وآياتِ نبوتهما أَجْوَزُ وأجوز، وإن امتنع القَدْح فيهما وفي آيات نبوتهما فامتناعه في محمد - صلى الله عليه وسلم - وآيات نبوته أشدُّ. ولذلك (1) لمَّا علم بعضُ علماءِ أهلِ الكتاب أنَّ الإيمان بموسى لا يتمُّ مع التكذيب بمحمد أبدًا = (كَفَر بالجميع) (2) ، وقال: ما أنزل الله على بشر من شيء، كما قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91]. قال سَعِيْدُ بنُ جُبَيْرٍ: جاء رجل من اليهود، يقال له مالكُ بنُ الصَّيف، يخاصم النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أَنشُدكَ بالذي أنزل التوراةَ على موسى، أمَا تجدُ في التوراة أنَّ الله يبغض الحَبْرَ السَّمين؟! "-وكان حبرًا سمينًا- فغضب عدوُّ الله وقال: والله (ما أنزل الله) (3) على بشرٍ من شيء. فقال له أصحابه الذين معه: ويحك ولا موسى؟ فقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء. فأنزل الله عز وجل {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} (4) الآية __________ (1) في "غ، ص": "وكذلك". (2) في "غ" تصحفت إلى: "كفرنا بجميع". (3) ساقط من "غ". (4) أخرجه الطبري: (11/ 521 - 522)، والواحدي في "أسباب النزول" ص (253)، وابن هشام في "السيرة": (1/ 547). وانظر "تفسير البغوي": (2/ 43).
(1/433)
وهذا قول عكرمة (1) . وقال محمد بن كعب: "جاء ناسٌ من اليهود إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -وهو محتب، فقالوا: يا أبا القاسم، ألا تأتينا بكتاب من السماء كما جاء به موسى ألواحًا يحملها من عند الله -عزَّ وجلَّ- فأنزل الله عز وجل (2) : {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ} الآية [النساء: 153] ". وجاء رجلٌ من اليهود فقال: ما أنزل اللهُ عليك ولا على موسى ولا على عيسى ولا على أحدٍ شيئًا، ما أنزل الله على بشير من شيء، فحلَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حُبْوته (3) ، وجعل يقول: ولا على أحد؟! (4) . وذهب جماعةٌ، منهم مجاهد، إلى أنَّ الآية نزلت في مشركي قريش، فهم الذين جَحَدُوا أصل الرسالة، وكذَّبوا بالرسل، وأما أهلُ الكتاب فلم يجحدوا نبوة موسى وعيسى. وهذا اختيار ابن جرير (5) ، قال: وهو أوْلى الأقاويل بالصواب، لأنَّ ذلك في سياق الخبر عنهم، فهو أشبه من أن يكون خبرًا عن اليهود، ولم يَجْرِ لهم ذكر يكون هذا به متصلًا، مع ما في الخبر عن من أخبر الله عنه في هذه الآية من إنكاره أن __________ (1) الطبري في الموضع السابق. (2) انظر: "تفسير البغوي": (1/ 617)، "الدر المنثور" للسيوطي: (2/ 726)، "أسباب النزول" للواحدي، ص (197). (3) احتبى: جمع بين ظهره وساقيه بعمامة ونحوها. والاسم الحَبْوَةُ، والحُبْوَة. (4) انظر المراجع السابقة. (5) "تفسير الطبري": (11/ 525).
(1/434)
يكون الله أنزل على بشر شيئًا (1) من الكتب، وليس ذلك مما تَدِيْنُ به اليهود، بل المعروف من دين اليهود الإقرارُ بصُحُف إبراهيمَ، وموسى، وزبور داود. والخبر من أول السورة إلى هذا الموضع خبرٌ عن المشركين من عَبَدَةِ الأوثان، وقوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} موصولٌ به غيرُ مفصولٍ عنه. قلت: ويقوِّي قولَه، أنَّ السورة مكيةٌ، فهي خبرٌ عن زنادقة العرب المنكرين لأصل النبوة. ولكن؛ بقي أن يقال: فكيف يحسن الردُّ عليهم بما لا يُقرُّون به من إنزال الكتاب الذي جاء به موسى؟ وكيف يقال لهم: "يَجْعَلُونَهُ قَرَاطيسَ يُبْدُوْنَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا"، ولاسيما على قراءة من قرأ بتاء الخطاب (2) ؟ وهل ذلك صالح لغير اليهود؟ فإنهم كانوا يخفون من الكتاب ما لا يوافق أهواءهم وأغراضهم، ويُبْدُون منه ما سواه، فاحتجَّ عليهم بما يُقِرُّون به من كتاب موسى، ثم وبَّخهم بأنهم خانوا الله ورسوله فيه، فأخْفَوا بعضه وأظهروا بعضه، وهذا استطراد من ذكر جَحْدِهم النبوة بالكلية، وذلك إخفاء لها وكتمان، إلى جحد بعض (3) ما أقرُّوا به من كتابهم بإخفائه وكتمانه، فتلك سجيَّةٌ لهم معروفةٌ لا تُنْكَر، إذْ مَنْ أخفى بعضَ كتابِه الذي __________ (1) في "ج": "نبيًّا" وهو تصحيف. (2) قرأ ابن كثير وأبو عمرو: "يجعلونه" و"يبدونها" و"يخفونها" بالياء جميعًا، لقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}. وقرأ الآخرون بالتاء، لقوله تعالى: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى}. انظر: "تفسير البغوي": (2/ 44). (3) ساقط من "ب، ج".
(1/435)
يقرُّ بأنه من عند الله كيف لا يجحدُ أصلَ النبوَّة؟! ثم احتج عليهم، بأنهم قد علموا بالوحي ما لم يكونوا يعلمونه هم ولا آباؤهم، ولولا الوحي الذي أنزله الله على أنبيائه ورسله لم يَصِلُوا إليه. ثم أمر رسوله أن يُجيب عن هذا السؤال، وهو قوله: {مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى}؟ فقال: {قُلِ اللَّهُ} أي: اللهُ الذي أنْزَلَه. أي: إن كفروا به وجحدوه فَصَدِّقْ به أنتَ وأقِرَّ به {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) }؟. وجوابُ هذا السؤال أن يُقال: إن الله -سبحانه وتعالى- احتجَّ عليهم بما يُقِرُّ به أهلُ الكتابَيْنِ، وهم أولو العلم دون الأمم التي لا كتاب لها. أي: إنْ جَحَدْتُمْ أصْلَ النبوَّة، وأنْ يكونَ الله أنزل على بشرٍ شيئًا، فهذا كتابُ موسى يقرُّ به أهل الكتاب، وهم أعلمُ منكم، فاسألوهم عنه. ونظائرُ هذا في القرآنِ كثيرةٌ؛ يستشهد -سبحانه- بأهل الكتاب على مُنْكِرِي النبوَّاتِ والتوحيدِ. والمعنى: إنكم إن أنكرتُم أن يكونَ اللهُ أنزلَ على بشرٍ شيئًا، فمن أنزل كتاب موسى؟ فإنْ لم تعلموا ذلك فاسألوا أهل الكتاب. وأمَّا قولُه تعالى: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا}، فمن قرأها بالياء فهو إخبارٌ عن اليهود بلفظ الغَيْبَةِ، ومن قرأها (بلفظ التاء) (1) للخطاب فهو خطابٌ لهذا الجنس الذين (2) فَعَلُوا ذلك. أي: تجعلونه يا مَنْ أُنزِلَ عليه كذلك. __________ (1) في "ب": "بالتاء". (2) في "ج، ص": "الذي".
(1/436)
وهذا من أعلام نبوته أنْ يُخْبِرَ أهلَ الكتاب بما (اعتمدوه في كتابهم) (1) ، وأنَّهم جعلوه قَرَاطِيْسَ وأبْدَوا بعضَه وأخْفَوا كثيرًا منه، وهذا لا يُعْلَم من غير جهتهم إلا بوحيٍ من الله. ولا يلزم أن يكون (2) قولُه: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ} خطابًا لمن حكى عنهم أنهم قالوا: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ}، بل هذا استطراد من الشيء إلى نَظِيْره وشِبْهِه ولَازِمِه (3) . وله نظائرُ في القرآن كثيرةٌ؛ كقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} إلى آخر الآية [المؤمنون: 12 - 14]. فاستطرد من الشخص المخلوق من الطين -وهو آدم- إلى النوع المخلوق من النطفة -وهو أولاده- وَأَوْقَعَ الضَّمِيْرَ على الجميعِ بلفظٍ واحدٍ. ومثله قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف: 189 - 190]. إلى آخر الآيات. ويشبه هذا: قولُه تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ __________ (1) ساقط من "ج". (2) ساقط من "ج". (3) في "ص": "ولزومه".
(1/437)
لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا} [الزخرف: 9 - 12]، إلى آخر الآيات. وعلى التَّقْدِيْرَيْنِ: فهؤلاء لم يَتِمَّ لهم إنكارُ نبوَّةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ومُكَابَرَتُهُم إلا بهذا الجحد والتكذيب العام، ورأوا أنَّهم إِنْ أقرُّوا ببعض النبوَّات وجحدوا نبوَّته: ظَهَرَ تَناقُضُهم وتَفْريْقُهم بين المتماثِلَيْن، وأنهم لا يمكنهم الإيمانُ بنبيٍّ وجَحْد نبوَّةِ مَنْ نُبُوَّتُه أظْهَرُ وآياتُها أكثَرُ وأعْظَمُ مِمَّن أقرُّوا به. وأخبر -سبحانه- أنَّ مَنْ جَحَدَ أن يكونَ قد أرسَلَ رُسُلَه وأنْزَلَ كُتُبَه: لم يَقْدُرْه حقَّ قَدْرِه، وأنه نَسَبَهُ (1) إلى ما لا يَلِيقُ به، بل يتعالى ويتنزَّه عنه، فإنَّ في ذلك إنكارَ ديِنهِ (2) وإلهيَّتِه ومُلْكِه وحِكْمتِه ورحمتِه، والظنَّ السيئ به؛ أنه خَلَقَ خَلْقَه عبثًا باطلًا، وأنه خَلَّاهمِ سُدًى مُهْمَلًا، وهذا يُنَافِي كمالَهُ المقدَّسَ، وهو متعالٍ عن كلِّ ما يُنَافِي كمَالَهُ. فمَنْ أنكرِ كَلامَهُ وتكليمَهُ وإرْسَالَه الرُّسلَ إلى خَلْقه، فما قَدَرَهُ حقَّ قدره، ولا عَرَفَهُ حقَّ معرفته، ولا عظَّمه حقَّ عَظَمَتِهِ، كما أنَّ مَنْ عَبَدَ معه إلهًا غيره لم يَقْدُرْه حقَّ قَدْرِهِ: مُعَطِّلٌ جاحدٌ لِصفاتِ كَمالِهِ ونُعُوتِ جَلَالِه وإرسال رسله وإنزالِ كُتُبه، ولا عظَّمه حقَّ عظمته. __________ (1) ساقطة من "ج". (2) في "ب، ج": "ربوبيته".
(1/438)
فصل ولذلك كان جَحْدُ نبوَّة خَاتَمِ أنبيائه ورُسُلِه، وتكذِيبُه: إنكارًا للربِّ -تعالى- في الحقيقة (1)، وجحودًا له، فلا يمكن الإقرارُ بربوبيَّتِه وإلهيَّتِه ومُلْكه، بل ولا بوجوده، مع تكذيبِ محمدِ بنِ عبدِ الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد أشرنا إلى ذلك في المناظرة التي تقدَّمتْ، فلا يُجَامعُ الكُفْرُ برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، الإقرارَ بالربِّ -تعالى- وصفاته أصلًا، كما لا يجامع الكفرُ (2) بالمعاد، واليومِ الآخرِ (3) الإقرارَ بوجود الصَّانع أصلًا. وقد ذكر -سبحانه- ذلك في مَوْضِعَيْن (من كتابه) (4) في سورة الرعد، في قوله: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} [الرعد: 5]. والثاني في سورة الكهف، في قوله تعالى: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} [الكهف: 35 - 38]. فالرسولُ -صلوات الله عليه- إنما جاء بتعريفِ الربِّ -تعالى- __________ (1) في "ج": "حقيقة". (2) ساقط من "ب، ج"، وفي "د": "جحد". (3) ساقطة من "ب". (4) ساقط من "ب، ج".
(1/439)
بأسمائِهِ وصفاتهِ وأفعالِه، والتعريفِ (1) بحقوقِه (2) على عباده، فمَنْ أنكر رسالاتِه (3) فقد أنكرَ الربَّ الذي دعا إليه، وحُقوقَهُ التي أمَرَ بها. بل نقول: لا يمكن الاعترافُ بالحقائق -على ما هي عليه- مع تكذيب رسوله. وهذا ظاهرٌ جدًّا لمن تأمَّل مقالاتِ أهلِ الأرض وأديانَهُمْ: فإنَّ الفلاسفة؛ لم يمكنهم (4) الاعترافُ بالملائكةِ والجنِّ والمبدأ والمعادِ، وتفاصيلهما، وتفاصيلِ صفات الرب -تعالى- وأفعاله، مع إنكار النبوات، بل والحقائق المشاهَدَةِ -التي لا يمكن إنكارُها- لم يُثْبِتُوها ما علمه، ولا أثْبَتُوا حقيقةً واحدةً على ما هى عليه البتَّة. وهَذا ثمرةُ إنكارِهم النبوَّات، فسَلَبَهُم اللهُ إدراكَ الحقائق التي زعموا أنَّ عقولَهم كافيةٌ في إدراكها، فلم يُدْرِكُوا منها شيئًا على ما هو عليه، حتى ولا الماءَ ولا الهواءَ ولا الشمس ولا غيرها. فمَنْ تأمَّلَ مذاهبَهم فيها: عَلِمَ أنَّهم لم يُدْرِكُوها (5) وإنْ عَرَفُوا من ذلك بعضَ ما خَفِيَ على غيرهم. وأما المجوس: فأضلُّ وأضلُّ. وأما عُبَّادُ الأصنام: فلا عَرَفُوا الخالقَ، ولا عرفوا حقيقةَ المخلوقاتِ، ولا مَيَّزُوا بين الشياطين والملائكة وبين الأرواحِ الطيّبةِ والخبيثةِ، وبين أحْسَنِ الحَسَنِ وأقْبَحِ القبيح، ولا عَرفوا كمالَ النفس وما __________ (1) في " د": "والعريف". (2) في "ج": "لحقوقه". (3) في "ب، غ": "رسالته". (4) في "ب، ج، غ": "يمكنها". (5) في "ج، ب": "يذكروها".
(1/440)
تَسْعَدُ به ونَقْصَها وما تَشْقى به. وأما النَّصارى: فقد عَرَفْتَ ما الذي أدركوه من مَعْبُودِهم وما وَصَفُوه به، وما الذي قَالُوه في نبيِّهِم، وكيف لم يُدْرِكوا حقيقتَهُ البتَّة، ووَصَفُوا اللهَ بما هو مِنْ أعظمِ العيوبِ والنَّقائصِ، ووصفوا عَبْدَهُ ورسولَه بما ليس له بوجهٍ من الوجوه، وما عرفوا اللهَ ولا رسولَه. والمعادُ الذي أقرُّوا به لم يُدْرِكُوا (1) حَقِيْقَتَهُ، ولم يؤمنوا بما جاءتْ به الرسل من حقيقتِهِ، إذْ لا أكْلَ عندهمِ في الجنة ولا شُرْبَ، ولا زوجةَ هناك، ولا حورَ عينٍ يلذُّ بهن الرجال كَلذَّاتهم في الدنيا، ولا عرفوا حقيقةَ أنفسِهِم وما تسعد به وتشقى. ومن لم يعرف ذلك فهو أجْدَرُ أن لا يعرف حقيقة شيءٍ كما ينبغي البته، فلا لأنْفُسِهِم عَرَفُوا، ولا لِفَاطِرهَا (2) وبارِئها، ولا لمن جعلَهُ الله سببًا في فَلاحِها وسعادتها، ولا للموجوداتِ وأنها جميعها فقيرةٌ مربوبة مصنوعةٌ -ناطقها وصامتها آدميها وجنيها وملكها- فكلُّ مَنْ في السموات والأرض عَبْدُه ومُلْكُه، وهو مخلوقٌ مصنوعٌ مربوبٌ، فقيرٌ من كلِّ وَجْهٍ. ومن لم يعرفْ هذا لم يعرف (3) شيئًا. وأمَّا اليهودُ؛ فقد حكى الله لك عن جَهْل أَسْلافِهم وغَبَاوَتهم (4) وضَلالِهم ما يدلُّ على ما وراءه (5) من ظُلُماتِ الجهلِ التي بعضُهِا فوقَ بعضٍ. ويكفي في ذلك عبادتُهم العِجْلَ الذي صَنَعَتْهُ أيديهم من ذهَبٍ، __________ (1) في "ص، غ": "يذكروا". (2) في "ب، ج": "لناظرها". (3) في "د": "يكن". (4) في "ج": "عداوتهم"، وفي "ب، ص": "عبادتهم". (5) في "ج": "رواه".
(1/441)
ومِنْ غَبَاوَتهم (1) أنْ جعلوه على صورةِ أبْلَدِ (2) الحيوان وأقلِّه فَطَانةً الذي يُضْرَبُ المَثَلُ به في قِلَّة الفَهْم. فانظرْ إلى هذه الجهالةِ والغَبَاوةِ المتجاوزةِ للحدِّ كيف عَبَدُوا مع الله إلهًا آخر، وقد شاهدوا من أدلةِ التوحيد وعظمةِ الربِّ وجَلالِه ما لم يشاهِدْه سواهم؟! وإذْ قد عزموا على اتخاذ إلهٍ دون الله فَاتَّخَذوه ونَبيُّهم حيٌّ بين أظْهُرِهِمْ لم ينتظروا موته! وإذْ قد فَعَلُوا؛ (فلم يتَّخذوه من الملائكة المقرَّبِيْنَ، ولا مِنَ الأحياءِ الناطقين، بل اتَّخذوه من الجمادات!. وإذْ قد فعلوا) (3) ؛ فلم يتَّخذوه من الجواهر العُلْوِيَّة كالشمس والقمر والنجوم، بل من الجواهر الأرْضِيَّة. وإذْ قد فعلوا؛ فلم يتَّخِذوه من الجَواهر التي خُلِقَتْ فوق الأرض عاليةً عليها كالجبال ونحوها، بل من جواهرٍ لا تكون إلا تحت الأرضِ، والصخورُ والأحجارُ عاليةٌ (4) عليها!. وإذْ قد فعلوا؛ فلم يَتَّخِذوه من (جَوْهرٍ يَسْتغني عن الصَّنْعَةِ) (5) وإدخالِ النار وتَقْليبهِ وجوهًا مختلفةً وضربِهِ بالحديد وسَبْكِهِ، بل مِنْ جَوْهرٍ يحتاج إلىَ نَيْل الأيدي له بضروبٍ مختلفةٍ، وإدخالِهِ النارَ، __________ (1) في "ب، ج": "عبادتهم". (2) في "غ، ص": "أبله". (3) ما بين القوسين ساقط من "د". (4) في "ج، ص": "غالبة". (5) في "د": "الجواهر التي تستغني عن الصيغة".
(1/442)
وإحراقِهِ (1) واستخراجِ خَبَثِهِ. وإذْ قد فعلوا؛ فلم يَصُوغُوه على تمثالِ مَلَكٍ كريمٍ، ولا نبيٍّ مُرْسَلٍ، ولا على تمثالِ جوهرٍ عُلْويٍّ لا تناله الأيدي، بل على تمثالِ حيوانٍ أرضيٍّ!. وإذْ قد فعلوا؛ فلم يصوغوه على تمثالِ أشرفِ الحيواناتِ وأقواها وأشدِّها امتناعًا من الضيم كالأسد والفيل ونحوهما، بل صاغوه على تمثال أبْلَدِ الحيوان وأَقْبَلِهِ للضيم والذلِّ، بحيث يحرث عليه الأرض، ويُسْقى عليه بالسَّواني والدواليب، ولا له قوةٌ يمتنع بها من كبيرٍ ولا صغيرٍ. فأيُّ معرفةٍ لهؤلاء بمعبودِهم ونبيِّهم وحقائقِ الموجودات؟!!. وحقيقٌ بمن سأل نبيَّه أن يجعل له إلهًا، فيعبد إلهًا مجعولًا بعد ما شاهد تلك الآيات الباهرات: أنْ لا يعرف حقيقةَ الإلهِ ولا أسماءَه وصفاتِهِ ونعوتَهُ ودِيْنَهُ، ولا يعرفَ حقيقةَ المخلوق (2) وحاجَتَهُ وفَقْرَهُ. ولو عرف هؤلاء معبودهم ورسولهم لما قالوا لنبيِّهم: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55] ولا قالوا له: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] ولا قتلوا نفسًا وطَرَحُوا المقتولَ على أبواب البُرَآءِ مِنْ قتله، ونبيُّهم حيٌّ بين أَظْهُرِهِم، وخَبَرُ السماءِ والوحيُ يأتيه صباحًا ومساءً، فكأنهم جوَّزوا أن يخفى هذا على الله (كما __________ (1) ساقطة من "د". (2) في "ج": "المخلوقات".
(1/443)
يخفى على) (1) الناس!. ولو عَرَفُوا معبودهم لما قالوا في بعض مخاطباتهم له: "يا أبانا انتبه من رقدتك، كم تنام" (2) !! ولو عَرَفوه لما سارعوا إلى محاربة أنبيائه وقَتْلِهِم وحَبْسِهم ونَفْيِهم، ولَما تحيَّلُوا على تحليل محارمه وإسْقاطِ فرائضِه بأنواع الحِيَلِ. ولقد شهدتِ التوراةُ بعدم فَطانتِهم وأنهم من الأغبياء. ولو عَرَفوه لما حَجَرُوا (3) عليه بعقولهم الفاسدةِ أنْ يأمرَ بالشيء في وقتٍ لمصلحةٍ ثم يزيلَ (4) الأمْرَ به في وقتٍ آخر، لحصولِ المصلحة وتبدُّلِه بما هو خيرٌ منه، وينهى عنه ثم يبيحه في وقتٍ آخرَ لاختلافِ الأوقاتِ والأحوالِ في المصالح والمفاسد، كما هو مشاهدٌ في أحكامه القَدَرِيَّة الكونيَّة التي لا يتمُّ نظام العالَمِ ولا مصلحتُه إلا بتبدِيْلِها (5) واختلافِها بحسب الأحوالِ والأوقاتِ والأماكنِ. فلو اعتمد طبيبٌ أن لا يُغَيِّر الأدويةَ والأغذيةَ بحسب اختلافِ الزمان والأماكن والأحوال لأهْلَكَ الحَرْثَ والنَّسْل، وعُدَّ من الجهَّال، فكيف يحجر على طبيب القلوب والأديانِ أن تتبدَّل أحكامُه بحسب اختلاف المصالح؟! وهلَ ذلك إلا قَدْحٌ في حكمتِهِ ورحمتِه، وقدرته ومُلكِه التَّامِّ، وتدبيرِه لخَلْقِه؟!!. __________ (1) ساقطة من "ج". (2) العهد القديم، المزامير: (78/ 65). (3) في "غ": "جحدوا". (4) ساقط من "ج". (5) في "ج": "تقيد لها".
(1/444)
ومن جهلهم بمعبودهم ورسولِه وأمرِه: أنهم أُمِرُوا أن يدخلوا باب المدينة التي فتحها الله عليهم سُجَّدًا ويقولوا: حِطَّة، فيدخلوا مُتَواضِعِيْنَ لله سائلين منه أن يَحُطَّ عنهم خَطَايَاهُمْ، فدخلوا يَزْحَفُون على أسْتَاهِهِم بَدَلَ السُّجُود لله، ويقولون: "هنطا سقمانا" أي حنطة سمراء. فذلك سجودهم وخشوعُهم (1) ، وهذا استغفارُهم واستقالتُهم (2) من ذنوبهم!! ومن جهلهم وغباوتهم: أنَّ الله -سبحانه- أَرَاهُمْ من آياتِ قدرته، وعظيم سلطانِه، وصِدْق رسوله، ما لا مزيد عليه ثم أنزل عليهم -بعد ذلك- كتابَهُ وعَهِدَ إليهم فيه عَهْدَهُ وأمرَهُمْ أن يأخذوه بقوةٍ فيعبدوه بما فيه، كما خلَّصهم من عبودية فِرْعَون والقِبْط؛ فأَبَوا أنْ يَقْبَلُوا ذلك وامتَنعُوا منه، فَنَتَقَ الجبلَ العظيمَ فوق (3) رؤوسهم على قَدْرِهم، وقيل لهم: إن لم تقبلوا أطْبَقْتُه عليكم. فَقَبِلُوه من تحت الجبل. قال ابن عباس: رفع الله الجبلَ فوق رؤوسهم، وبعث نارًا من قبَل وجوههم، وأتاهم البحرُ من تحتهم، ونُودُوا: إن لم تقبلوا أَرْضَخْتكم بهذا، وأحْرَقْتكم بهذا، وأغْرَقْتكم بهذا، فقبلوه، وقالوا: سمعنا وأطعنا (4) . ولولا الجبل ما أطعناك. ولمَّا أمنوا -بعد ذلك- قالوا: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا}. ومن جهلهم: أنهم شاهدوا الآياتِ ورأوا العجائب التي يُؤمِنُ على __________ (1) في "ب، ج": "خضوعهم". (2) في "ج": "استغاثتهم". (3) في "ج": "على". (4) في "ج": "عصينا" وهو خطأ.
(1/445)
بعضها البَشَرُ، ثم قالوا بعد ذلك: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} (1) [البقرة: 55]. وكان الله سبحانه قد أمر موسى أن يختار من خيارهم سبعين رجلًا لميقاته فاختارهم موسى وذهب بهم إلى الجبل، فلما دَنَا موسى من الجبل وَقَع عليه عمودُ الغمام حتى تغشَّى (2) الجبل، وقال للقوم: ادنوا. ودَنَا القومُ) (3) حتى إذا دخلوا في الحجاب وقعوا سُجَّدًا، فسمعوا الربَّ -تعالى- وهو يكلِّمُ موسى ويأمُرُه وينهاه ويعهد إليه، فلما انكشف الغَمامُ قالوا: لن نُؤمِنَ لك حتى نَرى الله جهرةً. ومِنْ جهلهم: أنَّ هارون لما مات ودَفَنَهُ موسى قالت بنو إسرائيل لموسى: أنتَ قتلتَه، حَسَدتَّه على خُلُقِه ولِيْنِه، ومحبَّةِ إسرائيل له. قال: فاختاروا سبعين رجلًا، فوقفوا على (قبر هارونَ) (4) ، فقال موسى: يا هارون أَقُتِلْتَ أم مِتَّ، قال: بل متُّ، وما قَتَلَنِي أحدٌ!! فحَسْبُك من جهالةِ أمةٍ وجفائِهم أنَّهم اتَّهموا نبيَّهم ونَسَبُوه إلى قَتْلِ أخيه، فقال موسى: ما قَتَلْتُه، فلم يصدِّقوه حتى أسمعهم كلامَه وبراءة أخيه مما رَمَوه به!! ومِنْ جهلهم: أنَّ الله -سبحانه- شبههم في حَمْلِهِم التوراةَ وعَدَمِ الفقه فيها والعملِ بها بالحمار يحملُ أسْفَارًا. وفي هذا التشبيه من النِّداء على جهالتهم وجوهٌ متعددة: __________ (1) ما بين القوسين ساقط من "غ". (2) في "ج": "غشى". (3) نهاية السقط في "غ". (4) في: "ج": "قبره".
(1/446)
(منها) أنَّ الحمار من أبْلَدِ الحيوانات التي يُضْرَبُ بها المَثلُ في البلادة (1) . (و (منها) أنَّه لو حمل غير الأسفار من طعام أو علف أو ماء لكان له به شعورٌ بخلاف الأسفار) (2) . و (منها) أنَّهم حُمِّلوها، لا أنهم حَمَلُوها طوعًا واختيارًا، بل كانوا كالمكلَّفين لما حملوه لم يرفعوا به رأسًا. و (منها) أنهم حيث حملوها تكليفًا وقهرًا لم يَرْضَوا بها، ولم يحملوها رضًا واختيارًا، وقد علموا (3) أنهم لابُدَّ لهم منها، وأنهم إنْ حملوها اختيارًا كانت لهم العاقبة في الدنيا والآخرة. و (منها) أنها مشتملةٌ على مصالحِ معاشِهم ومعادهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، فإعراضُهم عن التزام ما فيه سعادتُهم وفلاحُهم إلى ضدِّه، من غايةِ الجهل والغَبَاوة وعدمِ الَفِطَانة. ومِنْ جهلهم وقِفة معرفتهم: أنهم طلبوا، عِوَضَ المنِّ والسَّلوى -اللذين هما منْ أطيب الأطعمة وأنفعها وأوفقها للغذاء الصالح- البَقْلَ والقِثَّاءَ والثُّومَ والعَدَس والبَصَلَ، ومَنْ رضي باستبدال هذه الأغذية عوضًا عن المنِّ والسلوى لم يكثر عليه أن يستبدلَ الكُفْرَ بالإيمانِ، والضلالةَ بالهدى، والغضبَ بالرِّضى، والعقوبةَ بالرحمة. وهذه حالُ مَنْ لم يعرف ربَّه ولا كتابه ولا رسولَه ولا نَفْسَه. __________ (1) في "غ": "البلاد". (2) ما بين القوسين ساقط من "غ، ص". (3) ساقط من "غ".
(1/447)
وأمَّا نقضُهم ميثاقَهم، وتبديلُهم أحكامَ التوراة، وتحريفُهم الكَلِمَ عن مواضعه، وأكلُهم الرِّبا وقد نهوا عنه، وأكلهُم الرِّشا، واعتداؤهم في السبت حتى مُسِخوا قِرَدةً، وقَتْلُهم الأنبياءَ بغير حقٍّ، وتكذيبُهُم عيسى ابن مريم رسول الله، ورَمْيُهُم له ولأُمِّه بالعظائم، وحِرْصُهم على قتله، وتفرُّدُهم دون الأمم بالخبث والبهت، وشِدَّةُ تكالبهم على الدنيا وحرصهم عليها، وقسوة قلوبهم، وحسدهم، وكثرة سحرهم (1) = فإليه النِّهايةُ. وهذا وأضعافُه -من الجهل وفساد العقل- قليلٌ على من كذَّب رُسُلَ الله، وجَاهَرَ بمعاداتِهِ ومعاداة ملائكتِه وأنبيائِه وأهلِ ولايتِهِ. فأيُّ شيء عَرَفَ من لم يَعْرفِ اللهَ ورُسُلَه؟! وأيُّ حقيقةٍ أدرك من فاتَتْهُ هذه الحقيقة؟! وأيُّ علمٍ أو عملٍ حصل لمن فاته العِلْمُ بالله، والعملُ بمرضاته، ومعرفةُ الطريقِ الموصلةِ إليه، ومآله بعد الوصولِ إليه؟! فصل فأهلُ الأرضِ كلُّهم في ظلمات الجهلِ والغيِّ (2) إلا من أَشْرَق عليه نورُ النبوة، كما في "المسند" وغيره من حديث عبدِ الله بنِ عَمْرو، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الله خَلَقَ خَلْقَهُ في ظُلْمةٍ وألْقَى عليهم من نوره، فَمَنْ أصابَهُ من ذلك النُّور: اهتدى، ومَنْ أخطأه: ضَلَّ، فلذلك أقول: جَفَّ القَلم على عِلْمِ اللهِ" (3). __________ (1) في "ص": "سخرهم". (2) في "ج": "البغي". (3) أخرجه الإمام أحمد: (2/ 176)، والترمذي في الإيمان، باب افتراق هذه =
(1/448)
ولذلك (1) بَعَثَ اللهُ رُسُلَه (لِيُخْرِجُوا النَّاسَ) (2) من الظُّلماتِ إلى النُّور، فمَنْ أجابهم: خرجَ إلى الفَضَاءِ والنُّورِ والضِّياءِ، ومَنْ لم يُجبْهم: بَقِيَ في الضِّيق والظُّلْمَةِ التي خُلِق فيها، وهي: ظلمة الطَّبْع، وَظلمة الجهلِ، وظلمة الهوى، وظلمة الغَفْلة عن نفسه وكمالها، وما تسعد به في معاشِهَا ومَعَادِهَا. فهذه كلُّها (3) ظلماتٌ، خُلِقَ فيها العبد، فَبَعَثَ اللهُ رسلَه لإخراجه منها إلى نور (4) العِلْم والمعرفةِ والإيمان والهدى الذي لا سعادةَ للنفس بدونه البتَّة، فمن أخطاه هذا النورُ: أخطأه حظُّه وكمالُه وسعادتُه، وصار يتقلَّب في ظلماتٍ بعضُها فوق بعض، فمدخلُه ظلمةٌ، ومخرجُه ظلمةٌ، وقولُه ظلمةٌ، وعَمَلُه ظلمةٌ، وقَصْدُه ظلمةٌ، وهو متخبِّطٌ في ظلماتِ طبعِه وهواهُ وجهلِهِ، وقَلْبُه مظلمٌ، ووجهُه (5) مظلمٌ، لأنه يبقى على الظلمةِ الأصليَّةِ، ولا يناسِبُه من الأقوالِ والأعمالِ والإرادة والعقائد إلا ظلماتُها. فلو أشْرَقَ له شيءٌ من نور النبوَّة لكان بمنزلة إشراقِ الشمس على بصر (6) الخُفَّاش. __________ = الأمة: (7/ 401) وقال: "هذا حديث حسن"، والحاكم: (1/ 30 - 31). وقال: "هذا حديث صحيح تداوله الأئمة، وقد احتجا بجميع رواته، ثم لم يخرجاه، ولا أعلم له علة". وقال الذهبي: "على شرطهما ولا علة له"، وصححه ابن حبان. انظر: "موارد الظمآن" للهيثمي، ص (449). (1) في "ص، غ": "وكذلك". (2) في "غ": "للناس ليخرجوهم". (3) في "غ، ص": "جميعها". (4) ساقط من "ص، د". (5) ساقط من "ج". (6) في "ب، غ، ج": "بصائر".
(1/449)
بَصَائِرُ أَعْشَاهَا النَّهارُ بِضَوئِهِ ... وَلَاءمها قِطْعٌ من الليل مظلمُ فصل يَكَادُ نُورُ النبوَّة يُعْمِي تلك البصائر ويَخْطَفُها لشدَّتِه وضَعْفِها، فتهرب إلى الظلمات لموافقتها لها وملاءمتها إيَّاها. والمؤمنُ: عَمَلُه نورٌ، وقولُه نورٌ، ومدخلُه نورٌ، ومخرجُه نورٌ، وقَصْدُه نورٌ، فهو يتقلَّب في النور في جميع أحواله. قال الله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 35]. ثم ذَكَرَ حالَ الكُفَّار وأعمالَهم وتَقَلُّبَهُم (1) في الظُّلمات فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 39 - 40]. والحمدُ للهِ أولًا وآخرًا، وباطنًا وظاهرًا، وصلَّى اللهُ على سيِّدِنا محمدِ خاتَمِ النبيِّينَ وعلى آلِه وصَحْبه أجمعينَ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدِّينِ. والحمد لله رب العالمين (2). __________ (1) في "د": "تقلباتهم". (2) هذا ختام نسخة "د". وفي "ص": "تم الكتاب بعون الملك الوهاب". وفي =
(1/450)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . __________ = "غ" "تم الكتاب بعون الله والحمد لله تعالى على التمام والصلاة والسلام على نبيه وأصحابه الكرام .. وكتب هذا الكتاب من سائر الخطاطين لأنه حرر من الكتاب من أوله إلى آخره. خطوط خط سنة أربع وأربعون ومائة وألف". وفي "ج": تم الكتاب بحمد الله وعونه ولطفه وكرمه وحسن توفيقه كتابة، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. آمين. وكان الفراغ من تحرير هذه النسخة المباركة في يوم السبت المبارك تاسع عشر من شهر رمضان المعظم على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التحية، على يد أفقر العباد إلى رحمة الله: قاسم بن محمد الرومي بلدًا والمصري موطنًا ... ". وفي "ب": "تمَّ الكتاب المستطاب بعون الله الوهاب. كتبه الحقير الفقير إلى رحمة ربِّه القدير: مصطفى رشدي بن أحمد قليوزي، غفر ذنوبهما وستر عيوبهما الباري، في السنة خمس وسبعين ومائتين وألف. وأتمَّه في اليوم: إحدى وعشرين ربيع الأول في ليلة الجمعة، وعلى حساب أبجد سنة في غرعه في يوم كافي ليلها. سنة 1275. وأنا الفقير مصطفى رشدي وجدت قائلًا يقول: اعلم أن هذا الكتاب كتاب جليل، لكن لم ينتشر بين أهل التحصيل، لم أر ولم أسمع -مع فرط التتبع- أن أحدًا ملأ عينيه لسَنا برقه، أو كرع من حياض رياض تملكه فضلًا عن مطالعة مطالع غرره في غربه وشرقه. أحمد الله على توفيق كتابته ومطالعته من محض فضله وعنايته ونعمه".
(1/451)