منزلة العلماء
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
- منزلة
العلماء
- إشارة
- المقدمة
- الباب الأول: من خصال العلماء في القرآن الكريم
- الباب الثاني: من خصال العلماء في السنة
- الباب الثالث: آثار في فضل العلم وأهله
- الباب الرابع: الترهيب من إهانة العلماء أو هضم حقهم
- الباب الخامس: أمثلة على ما يصيب العلماء من الابتلاء وبيان أن العاقبة للتقوى
- الباب السادس: من تعظيم اليهود لعلمائهم وإجلالهم لهم
منزلة العلماء
عبد العزيز بن محمد السدحان
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره. ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ([1]).
}يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ{ [آل عمران: 102].
}يأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا{ [النساء: 1].
}يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا{ [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد: فإن مما لا شك فيه أن منزلة العلماء بين الناس من ارفع المنازل قدرًا وأشرفها فضلاً، فقد ذكرهم الله تعالى في كثير من الآيات، وذكرهم النبي ﷺ في أحاديث كثيرة، وقد صنف أهل العلم في هذا المبحث كثيرًا من المصنفات ما بين مختصر ومطوّل، فأحببت أن أجمع شيئًا مما تفرق من شتات كلماتهم لتقريب الفائدة.
وقد قسمت بحثي هذا إلى أبواب:-
المقدمة:
الباب الأول: من خصال العلماء في القرآن الكريم.
الباب الثاني: من خصال العلماء في السنة النبوية.
الباب الثالث: من ألآثار في فضل العلم وأهله.
الباب الرابع: الترهيب من إهانة العلماء أو هضم حقهم.
الباب الخامس: أمثلة على ما يصيب العلماء من الابتلاء والإهانة، وعقوبة من أهانهم وغيرة بعض ولاة الأمور لإهانتهم.
الباب السادس: وفيه نبذة من تعظيم اليهود لعلمائهم.
إشارة
حفلت الدولة الإسلامية، في تاريخها الطويل، بمآثر جليلة سجلها العلماء في مواقفهم الخالدة والفذة مع الحكام، تلك المواقف التي اتسمت بالصدق والجرأة، والإخلاص لله ولدينه الحنيف، فكانوا نجومًا وضّاءة يهتدي بهم الحكام والمحكومون في ظلمات الحياة...
لقد أظهر العلماء في تلك العصور، عزة الإسلام، وأبانوا فيها حقيقة الشريعة الإسلامية الغراء، صافية نقية مكينة، في صلابة موقفها من الحكام المنحرفين عنها ولو قيد أنملة، وفي معالجتها لجميع شئون الدولة التي يرأسها الحكام ويخضع لسلطانها المحكومون، كاشفين للعالم أجمع أثر صلابة الإيمان بالشريعة الغراء في النوازل والخطوب، متحملين بصبر وشجاعة ما ينتج عن الجهر بكلمة الحق عند سلطان جائر، غير هيّابين سلطان الحكام، ولا قوة الدولة ولا صولة الجند»([2]).
المقدمة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وآله وسلم، وبالله استعين، وحسبي الله ونعم الوكيل.
أما بعد:
فإن الله عز وجل وتقدست أسماؤه، اختص من خلقه من أحب، فهداهم للإيمان. ثم اختص من سائر المؤمنين من أحب، فتفضل عليهم فعلّمهم الكتاب والحكمة، وفقههم في الدين، وعلّمهم التأويل، وفضلهم على سائر المؤمنين، وذلك في كل زمان وأوان. رفعهم بالعلم، وزينهم بالحلم. بهم يعرف الحلال من الحرام، والحق من الباطل، والضار من النافع، والحسن من القبيح، فضلهم عظيم وخطرهم جزيل. ورثة الأنبياء، وقرة عين الأولياء. الحيتان في البحار لهم تستغفر، والملائكة بأجنحتها لهم تخضع. والعلماء في القيامة بعد الأنبياء تشفع. مجالسهم تفيد الحكمة، وبأعمالهم ينزجر أهل الغفلة. هم أفضل من العُبّاد، وأعلى درجة من الزهاد، حياتهم غنيمة، وموتهم مصيبة. يُذكّرون الغافل، ويعلّمون الجاهل. لا يتوقع لهم بائقة، ولا يخاف منهم غائلة. بحسن تأديبهم يتنازع المطيعون، وبجميل موعظتهم يرجع المقصرون. جميع الخلق إلى علمهم محتاج، والصحيح على من خالف بقولهم محجاج.
الطاعة لهم من جميع الخلق واجبة، والمعصية لهم محرمة. من أطاعهم رشد، ومن عصاهم عَنَد. ما ورد على أمام المسلين من أمر اشتبه عليه حتى وقف فيه فبقول العلماء يعمل، وعن رأيهم يصدر. وما ورد على أمراء المسلمين من حكم لا علم لهم به فبقولهم يعملون، وعن رأيهم يصدرون. وما أشكل على قضاة المسلمين من حكم فبقول العلماء يحكمون، وعليه يعوّلون. فهم سراج العباد، ومنار البلاد، وقوام الأمة، وينابيع الحكمة. هم غيظ الشيطان، بهم تحيا قلوب أهل الحق، وتموت قلوب أهل الزيغ. مثلهم في لأرض كمثل النجوم في السماء يهتدي بها في ظلمات البر والبحر، إذا انطمست النجوم تحيروا. وإذا أسفر عنها الظلام أبصروا ([3]).
فإن قال قائل: ما دل على ما قلت؟ قيل له: الكتاب ثم السنة. فإن قال: فاذكر منه ما إذا سمعه المؤمن سارع في طلب العلم ورغب فيما رغبه الله عز وجل ورسوله ﷺ. قيل له: أما دليل القرآن:-
الباب الأول: من خصال العلماء في القرآن الكريم
الخصلة الأولى: أنهم أشد الناس وأكثرهم خشية لله تعالى قال تعالى: }إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ{ [فاطر: 28] }ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ{ [البينة: 8].
الخصلة الثانية: أنهم خير البرية }أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ{ [البينة: 7].
قال ابن جماعة الكناني رحمه الله تعالى «فاقتضت الآيتان – }إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ{، }أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ{ أن العلماء هم الذين يخشون الله تعالى هم خير البرية فينتج أن العلماء هم خير البرية تذكرة السامع ص6.
وجاء في الحديث: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين»([4]).
الخصلة الثالثة: أن منزلتهم أرفع منزلة وأزكاها، قال تعالى:
}يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ{ [المجادلة: 11].
الخصلة الرابعة: أنهم من أولي الأمر الذين أمرنا الله عز وجل بالرجوع لهم والصدور عن قولهم، قال تعالى: }وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا{ [النساء: 83].
الخصلة الخامسة: أنه لا يساويهم أحد في منزلتهم ولا رتبتهم.
قال تعالى: }قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ{ [الزمر: 9].
الخصلة السادسة: أنهم المرجع عند السؤال والإشكال والمعضلات، قال تعالى: }فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ{ [الأنبياء: 7].
الخصلة السابعة: أنهم يعقلون من مراد الله ما لا يعقله غيرهم: }وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ{ [العنكبوت: 43]. }وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا{ [آل عمران: 7]. }لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ{ [النساء: 162]. }وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ{ [الحج: 54]. }وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ{ [سبأ: 6] }بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ{ [العنكبوت: 49].
الخصلة الثامنة: أن الله تعالى جعل شهادتهم في المرتبة الثالثة بعد شهادته ثم شهادة الملائكة، قال تعالى: }شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ{ [آل عمران: 18].
الخصلة التاسعة: أن الله لم يأمر نبيه بالتزود من شيء إلا من العلم الذي رفع الله به شأن العلماء قال تعالى: }وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا{ [طه: 114].
الخصلة العاشرة: أنهم أبصر الناس بالشر ومداخله قال تعالى:
}قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ{ [النحل: 27].
}وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ{ [القصص: 80].
الباب الثاني: من خصال العلماء في السنة
الخصلة الحادية عشرة: أنهم أولياء الله تعالى، قال تعالى: }أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ{ [يونس: 62]، وقال الرسول ﷺ: «قال الله تعالى من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب» أخرجه البخاري. قال الشافعي: إذا لم يكن العلماء أولياء الله فلا أعرف لله وليًا.
وقال النووي قال القشيري: يحتمل الولي أمرين:
الأول: أن يكون فعيلاً مبالغا في الفاعل، كالعلم بمعنى العالم والقدير بمعنى القادر. فيكون معناه، توالت طاعته من غير تخلل معصية.
الثاني: أن يكون فعيلاً بمعنى مفعول، كقتيل بمعنى مقتول وجريح بمعنى مجروح، وهو الذي يتولى الله سبحانه وتعالى حفظه وحراسته على الإدامة والتوالي ([5]).
الخصلة الثانية عشر: أن الطريق الذي سلكوه مؤدٍ إلى الجنة.
الخصلة الثالثة عشر: أن الملائكة تضع أجنحتها لهم رضا بما يصنعون.
الخصلة الرابعة عشر: أن من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في جوف الماء تستغفر لأهل العلم.
الخصلة الخامسة عشر: أن فضل العلماء على العُبّاد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب.
الخصلة السادسة عشر: أنهم ورثة الأنبياء.
الخصلة السابعة عشر: أنهم أخذوا بحظ وافر من ميراث الأنبياء.
ومجمع هذه الخصال – الثانية عشر إلى السابعة عشر ما رواه أبو الدرداء عن النبي ﷺ أنه قال: من سلك طريقا يطلب فيه علمًا سلك الله به طريقًا من طرق الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر، على سائر الكواكب وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورّثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر»([6]).
الخصلة الثامنة عشر: أن في ذهابهم مفسدة للأمة وضياعًا لها، قال ﷺ «إن الله تعالى لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رؤساء جُهّالاً فسُئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا»([7]).
الخصلة التاسعة عشر: أن بضاعتهم باقية بعد موتهم وأغلب بضاعة من سواهم زائلة. قال ﷺ: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»([8]).
الخصلة العشرون: أن أجرهم يتضاعف بتضاعف المنتفعين بعلمهم، قال ﷺ «من دل على خير فله مثقل أجر فاعله»([9]).
الخصلة الحادية والعشرون: أن مجالسهم محفوفة بالملائكة.
الخصلة الثانية والعشرون: أن الرحمة تغشى مجالسهم.
الخصلة الثالثة والعشرون: أن السكينة تنزل عليهم في مجالسهم.
الخصلة الرابعة والعشرون: أن الله تعالى يذكرهم فيمن عنده.
وهذه الخصال الأربع يجمعها قول النبي ﷺ «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفّتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده»([10]).
الخصلة الخامسة والعشرون: أن جليسهم لا يشقى بهم: [هم القوم لا يشقى بهم جليسهم...]([11]).
الخصلة السادسة والعشرون: أنهم أولى الناس بدعاء النبي ﷺ بالنضارة.
الخصلة السابعة والعشرون: أنهم المبلغون لوصية رسول الله ﷺ.
ودليل هاتين الخصلتين قول النبي ﷺ: «نضر الله امرءًا سمع منا حديثًا فأدّاه كما سمعه»([12]).
الخصلة الثامنة والعشرون: أن في تقريب السلطان واستشارته لهم والصدور عن رأيهم صلاح له ولدولته قال ﷺ «ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان. بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه وبطانة تأمره بالشر وتحضّه عليه، والمعصوم من عصمه الله»([13]).
الخصلة التاسعة والعشرون: أنهم أشد بلاء من غيرهم سوى الأنبياء قال ﷺ: «أشد الناس بلاءً الأنبياء»([14]).
الخصلة الثلاثون: أن محبة العلماء وذكرهم بالجميل من سلامة المعتقد.
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخير والأثر وأهل الفقه والنظر، لا يُذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل ([15]).
الخصلة الحادية والثلاثون: أن لهم حقًا خاصًا يجب مراعاته لهم، قال ﷺ «ليس منا من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه»([16]).
الخصلة الثانية والثلاثون: أنهم للناس كالأرض التي أنبتت الكلأ والعشب وأمسكت الماء فانتفع الناس فمنهم من أكل ومنهم من احتطب ومنهم من سقى، فالعلماء مصدر خير ونفع. قال ﷺ «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا فكانت منها بقعة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها بقعة أمسكت الماء فنفع الله به الناس فشربوا وسقوا وزرعوا..([17]).
الخصلة الثالثة والثلاثون: أنهم عدول الأمة.
الخصلة الرابعة والثلاثون: أنهم المدافعون عن الدين ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين. ويجمع هاتين الخصلتين ما ورد عن النبي ﷺ أنه قال: «يحمل هذا الدين من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين»([18]).
الباب الثالث: آثار في فضل العلم وأهله
وأما ما أثر عن السلف ومن بعدهم في فضل العلماء ومجالسهم فباب واسع جدًا لا يحصيه ديوان كاتب. فمن ذلك:-
ما ورد عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى أنه قال: كان يقال: «إن استطعت فكن عالمًا، فإن لم تستطع فكن متعلمًا، وإن لم تستطع فأحبّهم، وإن لم تستطع فلا تبغضهم»([19]).
وقال ابن مسعود t: «نعم المجلس مجلس تنشر فيه الحكمة، وترجى فيه الرحمة»([20]).
وقال علي t: «العلماء باقون ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة، وآثارهم في القلوب موجودة»([21]).
وجاء في قصيدة أبي إسحاق الالبري قوله موصيًا ابنه:
وتُفقَدُ إن جهلتُ وأنت باقٍ | وتُوجَدُ إن علِمتَ وقد فُقدِتا ([22]) |
وقال بعض الحكماء: «الدليل على فضيلة العلماء أن الناس تحبهم»([23]).
وقال أبو الأسود الدؤلي: «الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك»([24]).
وكان يقال: «مثل العلماء مثل الماء، حيث ما سقطوا نفعوا»([25]).
قال أبو مسلم الخولاني: «العلماء في الأرض مثل النجوم في السماء، إذا بدت للناس اهتدوا بها، وإذا خفيت عليهم تحيروا»([26]).
وقال وهب: «يتشعب من العلم الشرف وإن كان صاحبه دنيًّا، والعز وإن كان مهينًا، والقرب وإن كان قصيًا، والغنى وإن كان فقيرًا، والمهابة وإن كان وضيعًا»([27]).
وقال سفيان بن عيينة: «أرفع الناس عند الله منزلة من كان بين الله وبين عباده، وهم الأنبياء والعلماء»([28]).
وقال أيضًا: «لم يعط أحد في الدنيا أفضل من النبوة، وما بعد النبوة شيء أفضل من العلم والفقه. فقيل عمن هذا فقال عن الفقهاء كلهم»([29]).
وقال سهل التستري: «من أراد أن ينظر إلى مجالس الأنبياء فلينظر إلى مجالس العلماء، فاعرفوا لهم ذلك»([30]).
وقال ابن عباس t: «العلم يزيد الشريف ويُجلس المملوك على الأسرة»([31]).
وقال الشافعي: «إن لم يكن الفقهاء أولياء الله في الآخرة فليس لله ولي»([32]).
وعن هلال بن خباب قال قلت لسعيد بن جبير: يا أبا عبد الله ما علامة هلاك الناس؟ قال: «إذا هلك فقهاؤهم هلكوا»([33]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في مقدمة كتابه «رفع الملام عن الأئمة الأعلام»: «فيجب على المسلمين بعد موالاة الله تعالى ورسوله ﷺ موالاة المؤمنين كما نطق به القرآن خصوصًا العلماء، الذين هم ورثة الأنبياء، الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم يهتدي بهم في ظلمات البر والبحر وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم».
أما ما ذكره أهل العلم عن الآداب التي يسلكها المتعلم مع العالم فكثيرة جدًا فمنها «أن لا يخاطب شيخه بتاء الخطاب وكَافِهِ. ولا يناديه عن بعد، ولا يسمّيه في غيبته باسمه إلا مقرونًا بما يشعر التعظيم اللائق به كقوله: قال الشيخ أو شيخنا. وأن يعظم حرمته، ويرد غيبته ويغضب لها، فإن عجز عن ذلك قام وفارق ذلك المجلس. وأن يدعو له مدة حياته، ويرعى ذريته وأقاربه، وأن يصبر على جفوته، وأن يشكره، وأن لا يدخل عليه في غير المجلس العام إلا باستئذان. وإذا دخل عليه في غير المجلس العام، وعند الشيخ من يتحدث معه، أو كان الشيخ يصلي، أو يكتب، أو يطالع، فترك ذلك ولم يبدأه بكلام، أو بسط حديث، فليسلّم ويخرج سريعًا، إلا أن يحثه الشيخ على المكث، وإذا مكث فلا يطيل إلا أن يأمره بذلك. وأن يجلس بين يديه جلسة الأدب، ويصغي إليه ناظرًا إليه، ويقبل بكليته عليه، متعقلاً لقوله ولا يلتفت من غير ضرورة، ولا ينظر إلى يمينه، أو شماله، أو فوقه، أو قدامه، بغير حاجة، ولا سيّما عند كلامه معه، ولا يعطي الشيخ جنبه أو ظهره، ولا يكثر التنحنح من غير حاجة، وأن يحسن خطابه مع الشيخ قدر الإمكان، ولا يقاطعه في كلامه... الخ». وهذا غيض من فيض مما ذكره أهل العلم ([34]).
الباب الرابع: الترهيب من إهانة العلماء أو هضم حقهم
إن إهانة العلماء، أو ازدرائهم، أو تنقصهم، أو الاستخفاف بهم أعظم جرمًا، وأشد إثمًا من إهانة وازدراء غيرهم، وذلك لأن إهانة العلماء ليست إهانة لذواتهم فحسب، بل تتعدى ذلك إلى إهانة ما يحملونه من العلم، وما يتمثلون به من الدين والخلق.
ولهذا يخشى على من أهان أهل العلم من حلول العقوبة المعجلة به، لشناعة جرمه، وعظيم جنايته.
وهنا أسوق شيئًا من النصوص يتبين من خلالها مدى الخطورة التي تترتب على بخس العلماء حقهم، وفيها أيضًا بيان بعض صفات من استخف بالعلماء، وكونه على شفا جرف هار بوشك أن ينهار به إن لم يتب إلى الله من جرمه.
أولاً: أن من عادى العلماء فهو معادٍ لله وقد آذنه الله بالحرب. قال ﷺ: «إن الله قال: من عادي لي وليًّا فقد آذنته بالحرب»([35]).
قال ابن حجر رحمه الله تعالى: «المراد بولي الله العالم بالله المواظب على طاعته»([36]).
وقال أيضًا رحمه الله تعالى: «لا يُحكم لإنسان آذى وليًا ثم لم يعاجل بمصيبة في نفسه، أو ماله، أو ولده، بأنه سلم من انتقام الله له، فقد تكون مصيبته في غير ذلك مما هو أشد عليه كالمصيبة في الدين مثلاً»([37]).
ثانيًا: أن من أهان العلماء فقد عرّض نفسه لوعيد النبي ﷺ، المتمثل في قوله: «ليس منا من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه»([38]).
ثالثًا: أن تنقصهم والاستهزاء بهم طريق إلى الكفر كما قال تعالى: }قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66){ [التوبة: 65-66].
رابعًا: أن من اغتابهم أو رضي بغيبتهم فهو معرّض لموت القلب. قال ابن عساكر رحمه الله تعالى «اعلم وفقني الله وإياك لمرضاته، وجعلني وإياك ممن يتقيه حق تقاته: أنّ لحوم العلماء مسموعة، وعادة الله في هتك من ناوأهم معلومة، وقلّ من اشتغل في العلماء بالثلب إلى عوقب قبل موته بموت القلب. }فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ{ [النور: 63].
وذكر الثعلبي في كتاب آداب الملوك عن علي t أنه قال: «من استخف بالعلماء ذهبت آخرته»([39]).
خامسًا: أن في إبعاد السلطان للعلماء فساد له ولدولته، فكيف بإهانتهم، أو عدم قمع وزجر من أهانهم!!.
قال ﷺ «ما بعث الله من نبي، ولا استخلف من خليفة، إلا كانت له بطانتان، بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، فالمعصوم من عصمه الله»([40]).
سادسًا: أن المجتمع الذي يهان فيه العلماء مجتمع متداعٍ للتصدع والفوضى، كيف لا!! والعلماء نور للناس، بهم يقتدون، وعن رأيهم يصدرون، فهم للناس كالشمس في النهار، وكالبدر في الليل.
ولقد أحسن القائل في وصف عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى عند خروجه من بلدة مرو:
إذا سار عبد الله من مرو ليلة | فقد سار منها نجمها وهلالها |
فأي خيرٍ يرجى من مجتمع لا يرفع للعلم فيه رأس.
ولا خير في قوم يذل كرامهم | ويعظم فيهم نذلهم ويسود |
سابعا: أن في تنقص العلماء والاستخفاف بحقهم قدح في معتقد منتقصهم.
قال الطحاوي رحمه الله تعالى: «ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل»([41]).
ثامنًا: إن في إهانة العلماء، وإسقاط حقهم وكرامتهم، تنفيذ مباشر لما يسعى له اليهود، فمن مخططاتهم الرهيبة ما جاء في بروتوكولات حكماء صهيون:
وقد عنينا عناية عظيمة بالحط من كرامة رجال الدين من الأمميين ([42]) – غير اليهود – في أعين الناس، وبذلك نجحنا في الإضرار برسالتهم التي كان يمكن أن تكون عقبة كئودًا في طريقنا، وإن نفوذ رجال الدين على الناس ليتضاءل يومًا فيومًا ([43]).
ولقد أدرك اليهود وأذنابهم مدى ثقة المسلمين بعلمائهم وترسخ تلك الثقة في سويداء قلوب المسلمين، فبدأوا حملة مسعورة مستترة استعملت كل أفانين الدعاية والإشاعة وأساليب علم النفس والاجتماع لتشويه سمعة علماء الأمة حتى تكرههم الأمة وترفض من ثم الائتمار بأمرهم أو التأثر بعلمهم، وتكاتفت جهود الصليبية واليهودية ومن تبعها للإجهاز على سمعة علماء القرآن في قلوب أمة القرآن، ولم يأبه لهذه الحملة في البدء علماء الأمة ولاعامتها، ولكنها على مر السنين آتت أكلها النجسة الهدامة، وأفاقت الأمة الإسلامية على جيل جديد له نظرة جديدة جيل آمن كما أراد أعداء الإسلام بأن العلماء قوم غير صالحين قوم رجعيون، جامدون، متخلفون، متعفنون..»([44]).
فانظر رعاك الله كيف تم لليهود وأعوانهم ما أرادوا، ليس هذا فحسب بل ما زال في ديار المسلمين من أبناء المسلمين من يحذو هذا الحذو من التهكم بالعلماء، ورميهم بأقذع العبارات وأسقطها، مطبقًا بذلك ما سعت له يهود لعنها الله.
وإن ما يُرى ويسمع ويقرأ في وسائل الإعلام العالمية المختلفة فينة بعد أخرى لآكد دليل على قوة سهام تلك الحملة المسعورة على علماء المسلمين، وإليك بعض الأمثلة -وهي غيض من فيض- التي يتجلى فيها بوضوح الحط من كرامة العلماء وتمييع منزلتهم:-
فمن ذلك أنهم يقرنون لقب الشيخ بأسماء بعض الأعلام من المنحرفين والرقاصين والمخنثين، وذلك في إشاعة دعاياتهم وعروضهم الإعلامية «كالشيخ سيد درويش» «والشيخ زكريا أحمد» وأكابر المجرمين من الملحدين «الشيخ مجيب الرحمن» الذي دأبت أذاعة لندن على ذكره مقرونًا بهذا اللقب لتعلّمه لسامعيها من المسلمين تعليمًا مكرورًا لا يزال يذكره من يذكره.
وعندما نصّبت فرنسا الشيخ تاج الدين بن الشيخ بن بدر الدين الحسيني رئيسًا للجمهورية السورية، قامت عصابة من المهرجين طافت في كل حواضر البلاد السورية آنذاك لتمثل هذه الهزلية المؤلمة الهادفة: يركب مهرج عاهر على حمار «بالمقلوب» أي موجهًا ظهره لرأس الحمار ووجهه لذيله، ويضع المهرج عمامة على رأسه، ويمسك بذيل الحمار الذي يوضع على رأسه عمامة أيضًا، ويتخلع المهرج بحركات بذيئة وهو يصيح: «أنا الشيخ تاج عزوني».
وفي الفترة نفسها امتلأت جدران الحواضر السورية بمساخر «كاريكاتورات» تمثل حمارًا كتب عليه «الشيخ تاج» وقد رسموا على رأس الحمار عمامة أيضًا.
وأما في مصر فلقد أشاعوا في مجالات الإعلام «السينما والتلفزيون والجريدة والمجلة» صورة للأزهرية مضحكة وشرعية في نفس الوقت، فهو رجل يلبس ثوبًا فضفاضًا، وجبّة، وعمامة ويمتاز ببساطة وسذاجة بل وغفلة، ويتشدق بالفصيح من الكلام بأسلوب متكلف، ويتقعر بفظاظة لينفّر الناس من العربية، ويضحك الناس على نفسه وعلى الفصيح من اللغة، وتتكرر الصورة في كل مجال إعلامي دعائي ([45]).
الباب الخامس: أمثلة على ما يصيب العلماء من الابتلاء وبيان أن العاقبة للتقوى
فإمام العلماء وقدوتهم نبي الله ﷺ لم يسلم من ذلك بل ناله أكثر مما نالهم وسينالهم، قالوا ساحر، وشاعر، وكاهن، ومجنون. وقذفوا أهله وكسروا رباعيته وشجوا وجهه، وأخرجوه من بلده، وناصبوه العداوة والبغضاء، ومع ذلك يثبته ربه بقوله: }مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ{([46]).
وهكذا صحابته y، نالهم ما نالهم من الأذى، وهكذا ما زال موكب العلماء ذلك الركب الطاهر من لدن أنبياء الله تعالى إلى ساعتنا هذه، وإلى قيام الساعة تعترض مسيرته عقبات وعقبات، ولكن ثم ماذا؟.
أين أعداء العلماء؟ أين المعارضون لأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد؟ أين خصوم شيخ الإسلام؟ بل أين خصوم جميع العلماء؟ لقد مات ذكرهم بموتهم، وبقي هؤلاء بعلمهم بقاء الجبل الأشم، مرفوع الرأس نائي الصدر، }وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ{ [الأعراف: 128].
وأسوق هنا سبعة أمثلة، مثلان لبعض ما يتعرض له العلماء من أذى الفجّار والسفهاء، ومثال فيه بيان لعقوبة من وشى بالعلماء وشنع عليهم، وثلاثة أمثلة بها انتصار وغيرة من ولي الأمر على من أهان العلماء واستخف بهم. والمثال الأخير فيه مدى خطورة الاعتداء على العالم وعدم أخذ الحق له.
أما المثالان الأول والثاني فيتعلقان بعالمين أحدهما اسمه عبد الرحمن، والثاني اسمه بركات.
فأما عبد الرحمن فقد ذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء أنه كان أحد المفتين، ضربه التتار، وصبوا عليه في الشتاء ماءً باردًا فتشنج ومات رحمه الله تعالى ([47]).
وأما بركات فقد ذكر ابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب أنه توفي بسبب أنه خرج من بيته لصلاة الصبح بالجامع الأموي فلقيه اثنان وأخذا عمامته عن رأسه وضربه أحدهما على صدره، فانقطع مدة، ثم أراد الخروج إلى الجامع فما استطاع فتوضأ وصلى الصبح والضحى، وتوفي بعد صلاة الضحى، ودفن بمقبرة باب الصغير([48]).
أما المثال الثالث ففيه بيان بعض عقوبة من وشى بالعلماء ونكّل بهم. جاء في كتاب الفرق بين الفرِق ما نصه:-
ذكر صاحب تاريخ المراوزة أن ثمامة بن أشرس سعى إلى الواثق بأحمد بن نصر المروزي، وذكر له أنه يكفر من ينكر رؤية الله تعالى، ومن يقول بخلق القرآن، فاعتصم المعتصم ببدعة القدرية فقتله، ثم ندم على قتله، وعاتب ثمامة، وابن أبي دؤاد وابن الزيات في ذلك، وكانوا أشاروا عليه بقتله، فقال له ابن الزيات: إن لم يكن قتله صوابًا فقتلني الله تعالى بين الماء والنار وقال ابن أبي دؤاد: حبسني الله في جلدي أن لم يكن قتله صوابًا. وقال ثمامة: سلّط الله تعالى عليَّ السيوف إن لم تكن أنت مصيبًا في قتله. فاستجاب الله تعالى دعاء كل واحد منهم في نفسه: أما ابن الزيات فإنه دخل في الحمام وسقط في أتونه فمات بين الماء والنار، وأما ابن أبي دؤاد فإن المتوكل رحمه الله حبسه فأصابه في حبسه الفالج، فبقي في جلده محبوسًا بالفالج إلى أن مات، وأما ثمامة فإنه خرج إلى مكة فرآه الخزاعيون بين الصفا والمروة، فنادى رجل منهم فقال: يا آل خزاعة، هذا الذي سعى بصاحبكم أحمد بن نصر، وسعى في دمه، فاجتمع عليه بنو خزاعة بسيوفهم حتى قتلوه، ثم أخرجوا جيفته من الحرم فأكلته السباع خارجًا من الحرم، فكان كما قال الله تعالى: }فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا{ [الطلاق: 9]([49]).
أمثلة على ما يترتب من إهانة العلماء والانتصار لهم
دخل أنس بن مالك على الحجاج بن يوسف فلما وقف بين يديه قال له إيه إيه يا أنيس، يوم لك مع علي، ويوم لك مع ابن الزبير، ويوم لك مع ابن الأشعث، والله لأستأصلنك كما تستأصل الشاة ولأدمغنك كما تدمغ الصمغة. فقال أنس: إياي يعني الأمير أصلحه الله، قال: إياك أعني صك الله سمعك. قال أنس: إنا لله وإنا إليه راجعون، والله لولا الصبية الصغار ما باليت أي قتلة قتلت، ولا أي ميتة مت، ثم خرج من عند الحجاج فكتب إلى عبد الملك بن مروان يخبره بما قال له الحجاج، فلما قرأ عبد الملك كتاب أنس استشاط غضبًا، وشفق عجبًا، وتعاظم ذلك من الحجاج، وكان كتاب أنس إلى عبد الملك:
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين من أنس بن مالك أما بعد:
فإن الحجاج قال لي هُجرًا، وأسمعني نكرًا، ولم أكن لذلك أهلاً، فخُذ لي على يديه، فإني أمتُّ بخدمتي رسول الله ﷺ، وصحبتي إياه، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
فبعث عبد الملك إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر – وكان مصادقًا للحجاج – فقال له: دونك كتابيّ هذين فخذهما واركب البريد إلى العراق، وابدأ بأنس بن مالك صاحب رسول الله ﷺ فأرفع كتابي إليه وأبلغه مني السلام، وقل له: يا أبا حمزة قد كتبت إلى الحجاج الملعون كتابًا إذا قرأه كان أطوع لك من أمتك، وكان كتاب عبد الملك إلى أنس بن مالك:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الملك بن مروان إلى أنس بن مالك خادم رسول الله ﷺ أما بعد:
فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت من شكايتك الحجاج، وما سلطته عليك، ولا أمرته بالإساءة إليك، فإن عاد لمثلها أكتب إلي بذلك أنزل به عقوبتي، وتحسن لك معونتي، والسلام.
فلما قرأ أنس كتاب أمير المؤمنين وأخبر برسالته قال: جزى الله أمير المؤمنين عني خيرًا، وعافاه وكافأه بالجنة، فهذا كان ظني به والرجاء منه. فقال إسماعيل بن عبيد الله لأنس: يا أبا حمزة إن الحجاج عامل أمير المؤمنين، وليس بك عنه غنى، ولا بأهل بيتك، ولو جعل لك في جامعة ثم دفع إليك، فقاربه ودارِه تعش معه بخير وسلام. فقال أنس: أفعل إن شاء الله. ثم خرج إسماعيل من عند أنس فدخل على الحجاج، فقال الحجاج: مرحبًا برجل أحبه وكنت أحب لقاءه، فقال إسماعيل: أنا والله كنت أحب لقاءك في غير ما أتيتك به، فتغير لون الحجاج وخاف وقال: ما أتيتني به؟ قال: فارقت أمير المؤمنين وهو أشد الناس غضبًا عليك، ومنك بعدًا، قال: فاستوى الحجاج جالسًا مرعوبًا، فرمى إليه إسماعيل بالطومار، فجعل الحجاج ينظر فيه مرة ويعرق، وينظر إلى إسماعيل أخرى، فلما فضّه قال: قم بنا إلى أبي حمزة نعتذر إليه ونترضاه، فقال له إسماعيل: لا تعجل فقال: كيف لا أعجل وقد أتيتيني بآبدة؟ وكان في الطومار:
بسم الله الرحمن الرحيم
من أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف أما بعد، فإنك عبد طمت بك الأمور، فسموت فيها وعدوت طورك، وجاوزت قدرك، وركبت داهية إدًّا، وأردت أن تبدو لي فإن سوغتكها مضيت قدمًا، وإن لم أسوغها رجعت القهقري، فلعنك الله من عبد أخفش العينين، منفوص الجاعرتين. أنسيت مكاسب آبائك بالطائف، وحفرهم الآبار، ونقلهم الصخور على ظهورهم في المناهل، يا ابن المستفرية بعجم الزبيب، والله لأغمرنك غمر الليث الثعلب، والصقر الأرنب، وثبت على رجل من أصحاب رسول الله ﷺ بين أظهرنا، فلم تقبل له إحسانه، ولم تتجاوز له عن إساءته، جرأة منك على الرب عز وجل، واستخفافًا منك بالعهد، والله لو أن اليهود والنصارى رأت رجلاً خدم عزير بن عزرى، وعيسى بن مريم، لعظّمته وشرّفته وأكرمته وأحبته، بل لو رأوا من خدم حمار العزير، أو خدم حواري المسيح لعظموه وأكرموه، فكيف وهذا أنس بن مالك خادم رسول الله ﷺ ثماني سنين، يطلعه على سره، ويشاوره في أمره، ثم هو مع هذا بقية من بقايا أصحابه فإذا قرأت كتابي هذا فكن أطوع له من خفًة ونعله، وإلا أتاك مني سهم بكل حتف قاض، ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون ([50]).
ومما يحسن ذكره في هذا المقام كلام لسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى قاله بعد ما أُعتدى على أحد أهل العلم.
جاء في معنى كلامه رحمه الله تعالى «إن الحادث الذي حصل هو في الحقيقة مصيبة علينا وعلى الدين، وإني في غاية التكدر، وإن كان هذا الأمر – كما ذكرتم – كرامة في حقكم ومنقبة، ولكن غيرة للموقف الديني العلمي أقلقني لك، وأضجرني، وأرقني فلا حول ولا قوة إلا بالله، وأنا من حين وصلني الخبر أبرقت لجلالة الملك ولولي العهد، وأسأل الله بأسمائه وصفاته أن ينشط ولاتنا في الحق، ويقمع بهم أهل الفساد والشر إنه على كل شيء قدير»([51]).
وفي قضية أخرى خلاصتها أن إمام مسجد أمر رجلاً بالصلاة فاعتدى الرجل على الإمام بالضرب وبعد ذلك تنازل الإمام عن حقه، فلما بلغ الخبر سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله تعالى- كتب كتابًا إلى الجهة المختصة جاء فيه: إن تنازل المدعي عن المدعى عليه والسماح له يسقط حق المدعي ولكنه لا يسقط حق الله وذلك فيما يتعلق بمشادّة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، لذا فإننا نرى تعميد المدعي العام بمحاكمته وإحالة القضية إلى المحكمة المستعجلة للنظر في القضية وتقرير ما يلزم شرعًا والسلام. انتهى كلامه رحمه الله تعالى ([52]).
فانظر إلى بُعد نظر الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله تعالى- حيث لم يسقط حق الله تعالى رغم تنازل المدعي لأن حق المدعي خاص به فلا يلزم من تنازله سقوط حق الله تعالى، وهذا يدل على منزلة أهل هذه الشعيرة العظيمة – الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر – وأن مشادة أهلها ومضايقتهم معصية لله تعالى بل ويعاقب فاعلها لعظم خطيئته وجرمه.
الباب السادس: من تعظيم اليهود لعلمائهم وإجلالهم لهم
هناك طائفة من اليهود يسمى أهلها الحسيديم، وهؤلاء ينظرون إلى زعيمهم الذي يسمونه «صديق» - وهي كلمة عبرية تعني (ولي) وتجمع على صديقيم – نظرة فيها الكثير من القدسية والإجلال ويعتبرونه مرشدًا ومعلمًا وموجهًا. يعطونه ثقة كاملة ويطيعونه إطاعة مطلقة وهو الوحيد الذي يعترفون له بالذنوب ويحدّثونه بأسرارهم وعما تكنه ذخائر نفوسهم ([53]).
وجاء في بروتوكولات حكماء صهيون، «كل قرار سيتخذه أمرنا العالي سيقابل بالإجلال والطاعة دون قيد ولا شرك»([54]).
([1]) أصل هذه الرسالة كلمة ألقيت في مسجد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بالرياض بتاريخ 19/5/1412هـ.
([2]) الإسلام بين العلماء والحكام ص7.
([3]) من مقدمة كتاب، أخلاق العلماء للآجري ص15-17.
([4]) رواه البخاري ومسلم.
([5]) بستان العارفين 171-172.
([6]) رواه أحمد والأربعة عن أبي الدرداء t.
([7]) رواه أحمد والبيهقي والترمذي وابن ماجه عن ابن عمرو.
([8]) رواه مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود والبخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة t.
([9]) رواه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي عن ابن مسعود t.
([10]) رواه مسلم وأبو داود وأحمد والترمذي عن أبي هريرة t.
([11]) رواه الترمذي.
([12]) رواه أحمد وغيره.
([13]) رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري t.
([14]) رواه الترمذي وابن ماجه والدارمي عن سعد بن أبي وقاص t.
([15]) العقيدة الطحاوية ص445.
([16]) رواه أحمد والحاكم عن عبادة بن الصامت t.
([17]) رواه البخاري ومسلم.
([18]) رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله.
([19]) جامع بيان العلم 1/35.
([20]) جامع بيان العلم 1/60.
([21]) جامع بيان العلم 1/68.
([22]) ديوان الالبري ص22.
([23]) جامع بيان العلم 1/70.
([24]) جامع بيان العلم 1/71.
([25]) جامع بيان العلم 1/71.
([26]) تذكرة السماع والمتكلم ص10.
([27]) تذكرة السامع ص10-11.
([28]) الفقيه والمتفقه ص35 – تذكرة السامع ص11.
([29]) تذكرة السامع ص11.
([30]) الفقيه والمتفقه ص35.
([31]) الفقيه والمتفقه ص31.
([32]) الفقيه والمتفقة ص36.
([33]) الفقيه والمتفقة ص37.
([34]) انظر تذكرة المسامع المتكلم ص85 وما بعدها.
([35]) رواه البخاري (11/340-341) من فتح الباري.
([36]) فتح الباري 11/342.
([37]) فتح الباري 11/346-347.
([38]) رواه أحمد والحاكم عن عبادة t.
([39]) آداب الملوك للثعالبي.
([40]) متفق عليه.
([41]) العقيدة الطحاوية ص445.
([42]) هذه الكلمة «رجال الدين» تحمل مفهومًا خطيرًا ومعنى فاسدًا سقيمًا، وقد استطاع الكافر المستعمر أن يركّزه عند المصبوغين بثقافته فأصبحنا نسمعه منهم في كل مناسبة. فهذه الكلمة «رجال الدين» اصطلاح أجنبي أطلقه الغربيون على القسس والرهبان والأساقفة وصفًا لهم وتقريرًا لواقعهم وذلك حينما قامت الثورة الفكرية في أوروبا تطالب بالإصلاح والتحرر من سيطرة الكنيسة ورجالها.. انظر الإسلام بين العلماء والحكام ص26
([43]) بروتوكولات حكماء صهيون ص167.
([44]) المشايخ والاستعمار ص7-8.
([45]) الأمثلة السابقة مستقاة «بتصرف» من رسالة «المشايخ والاستعمار» تأليف حسني شيخ عثمان.
([46]) سورة فصلة آية 43.
([47]) سير أعلام النبلاء 23/348.
([48]) شذرات الذهب 8/164.
([49]) الفرق بين الفرق ص174-175.
([50]) البداية والنهاية 9 ص133-134.
([51]) فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 6/182.
([52]) فتاوي الشيخ محمد بن إبراهيم 6/182.
([53]) جريدة الحياة الأحد 25/5/1412هـ عدد 10526.
([54]) بروتوكولات حكماء صهيون ص162.