×
وجوب صلاة الجماعة: مقالةٌ عن أهمية صلاة الجماعة; وفضلها; ووجوبها; وعقوبة تاركها; مع ذكر الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال العلماء على ذلك.

    وجوب صلاة الجماعة

    إنَّ الصلاة مع الجماعة شعيرةٌ عظيمةٌ من شعائر هذا الدِّين، وميزةٌ جليلةٌ لدين الإسلام؛ حيث شرع الله - تبارك وتعالى - لعباده هذه الصلاة، {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ} [النور: 36، 37].

    وبكلِّ خُطوةٍ يَخطُوها المسلمُ إلى المساجد يرفع بها درجة، وتكتب بها حسنة، وتُحطُّ بها عنه خطيئة، ولقد اتفق العلماء على آكدية صلاة الجماعة في المساجد؛ بل لقد تنوَّعَت الدلائل وتكاثَرَت النصوص في كتاب الله تعالى وسنة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - في وجوب الصلاة جماعة على الرجال، فهي واجبٌ عينيٌّ على الرّجال في السفر والحضر والأمن والخوف, والدّلائلُ على ذلك في كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه الصّلاة والسلام كثيرةٌ عديدةٌ.

    يقول الله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102]، فهذه الآية صريحةٌ في وجوب الصلاة مع الجماعة؛ حيث إن الله - جلّ وعلا - لم يُرخِّص لعباده في تركها في هذه الحال, حال الخوف وملاقاة الأعداء، فكيف بحال المطمئن الآمن.

    ويقول الله جلّ وعلا: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43]، فبعد أن أمر - جل وعلا - بإقامتها أَمَرَ بأن تُؤدَّى مع الراكعين؛ أي: في بيوت الله.

    وثبت في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ أَثْقَلَ صَلاَةٍ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلاَةُ الْعِشَاءِ وَصَلاَةُ الْفَجْرِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلاَةِ فَتُقَامَ ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيُصَلِّىَ بِالنَّاسِ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِى بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إِلَى قَوْمٍ لاَ يَشْهَدُونَ الصَّلاَةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ».

    فهذا الحديثُ واضحُ الدلالة على وجوب الصلاة في الجماعة، وأن نبيِّنا - عليه الصلاة والسلام - أخبر عن ثِقَلِ صلاة الجماعة على المنافقين، وأنّ الصلوات كلها ثقيلةٌ عليهم وبخاصَّة صلاتَيْ العشاء والفجر, ثم هدَّد - صلى الله عليه وسلم - المُتخلِّفين عن صلاة الجماعة بأن يُحرِّق عليهم بيوتهم بالنار، وهذه عقوبةٌ شنيعةٌ، فوَصَفَهم بالنفاق أولاً، وهدَّدهم بالتحريق بالنار ثانيًا، مما يدل دلالةً صريحةً على عِظَم جريمة المُتخلِّف عن صلاة الجماعة، وأنه مُستحقٌّ لأعظم العقوبات في الدنيا والآخرة.

    وجاء في "صحيح مسلم" من حديث أَبِي هريرة - رضي الله عنه - قَال: أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ أَعْمَى فَقَال: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّهُ لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إِلَى الْمَسْجِدِ. فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ فَيُصَلِّىَ فِى بَيْتِهِ فَرَخَّصَ لَهُ، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ فَقَال: «هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلاَةِ؟». فَقَال: نَعَمْ. قَال: «فَأَجِبْ».

    وجاء في رواية في "سنن أبي داود" بإسنادٍ ثابتٍ أن الرجل قال: «إنّي رجلٌ ضريرُ البصرِ، شاسِعُ الدار». فذكر بُعدَ داره وفقدَه للبصر, وأنه ليس له قائدٌ, فقال له النبي - عليه الصلاة والسلام -: «لا أجِدُ لَكَ رُخْصَةً»، قال - عليه الصلاة والسلام - هذه الكلمة لرجلٍ ضريرٍ، ودارُهُ بعيدةٌ عن المسجد وليس له قائدٌ، فكيف بمَن كان في صحة وعافية وإبصار وهو مجاورٌ للمسجد، وأصواتُ المُؤذِّنين تخترِقُ بيته من كل جانب، يُدعَى فلا يُجِيب، ويُؤمَر فلا يمتَثِل؟!

    وقد جاء في "سنن ابن ماجه" عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال: «من سمع النِّداءَ فلم يأتِهِ فلا صلاةَ له إلا من عُذْرٍ»؛ حديثٌ صحيحٌ.

    وهو واضحٌ في وجوب صلاة الجماعة؛ بل إن بعض العلماء ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ذهب أخذًا من هذا الحديث إلى أنّ الصلاة في غير الجماعة من غير عُذْرٍ باطلة، لقوله - عليه الصلاة والسلام -: «فلا صلاةَ له إلا من عُذْرٍ».

    والتحقيقُ الذي عليه أهل العلم: أن الصلاةَ لا تبطُل، لكن صاحبها يأثَم ويبوء بإثمٍ وسَخَطٍ من الله - جل وعلا - لتركه الصلاة مع الجماعة مع عدم العذر.

    وقد جاء في "المسند" للإمام أحمد و"سنن أبي داود" من حديث أُبَيّ بن كعبٍ - رضي الله عنه - قال: صلّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - صلاةَ الصبح فقال: «شاهد فلان؟» - أي: هل حضر فلانٌ الصلاة -, قالوا: لا, قال: «شاهد فلان؟»، قالوا: لا، قال: «شاهد فلان؟»، قالوا: لا.

    يتفقَّد الناس - عليه الصلاة والسلام - فقال: «إنّ هاتَيْن الصلاتين - يعني: صلاة الفجر والعشاء - من أثقَل الصلوات على المنافقين، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حَبْوًا».

    ومن عناية صحابة النبي - عليه الصلاة والسلام - بالصلاة جماعة عملاً بكتاب الله، وتأسِّيًا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنّ الرجل منهم يُؤتَى به يُهادَى بين الرجلين لعدم استطاعته من مرضٍ ونحوه حتى يُقامَ في الصف؛ روى مسلم في "صحيحه" عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ غَدًا مُسْلِمًا فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلاَءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ، فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ - صلى الله عليه وسلم - سُنَنَ الْهُدَى، وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى، وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِى بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ ثُمَّ يَعْمِدُ إِلَى مَسْجِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ إِلاَّ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا حَسَنَةً، وَيَرْفَعُهُ بِهَا دَرَجَةً، وَيَحُطُّ عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلاَّ مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِى الصَّفِّ".

    وجاء في "سير أعلام النبلاء" عن سعيد بن المسيب قال: "ما فاتَتْني الصلاةُ في جماعة منذ أربعين سنة".

    وفيه أيضًا أنّ الربيع بن خُثيم كان يُقاد إلى الصلاة وبه الفَالج، فقيل له: قد رُخِّص لك. قال: "إني أسمع: حيّ على الصلاة، فإن استطعتم أن تأتوها ولو حَبْوًا".

    وقال عبدالرحمن رُسْتَه: سألتُ ابنَ مهدي عن الرّجل يَبني بأهله، أيترُكُ الجماعةَ أيامًا؟ قال: "لا، ولا صلاةً واحدةً".

    "وحضرتُه صبيحةَ بُنِي على ابنته، فخرج، فأذَّن، ثم مشى إلى بابهما، فقال للجارية: قولي لهما: يخرجان إلى الصّلاة، فخرج النساء والجواري، فقلن: سبحان الله! أيُّ شيءٍ هذا؟! فقال: لا أبرَحُ حتى يخرُجا إلى الصّلاة، فخرجا بعدما صلَّى، فبَعَثَ بهما إلى مسجد خارج من الدَّرْب".

    قال الذهبي - رحمه الله -: "هكذا كان السَّلفُ في الحرص على الخير".

    وهكذا نجِد الدلائل الكثيرة في كتاب الله وسنة نبيه - عليه الصلاة والسلام - وعمل الصحابة والمسلمين قرنًا بعد قرن في التأكيد على أداء الصلاة جماعة في بيوت الله - عزّ وجلّ -.

    قال ابن القيم - رحمه الله - في كتابه "الصلاة": "ومن تأمَّل السنة حقَّ التأمُّل تبيَّن له أن فعلها في المساجد فرضٌ على الأعيان إلا لعارضٍ يجوز معه ترك الجمعة والجماعة, فترك حضور المسجد لغير عُذْرٍ؛ كترك أصل الجماعة لغير عُذْرٍ, وبهذا تتَّفِقُ جميعُ الأحاديث والآثار".

    وجاء في فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية - حرسها الله - قولهم: "وأما فعلها جماعة فواجبٌ وجوبًا عينيًّا، والأصل في ذلك الكتاب والسنة", ثم ذكروا جملةً من الأدلة من الكتاب والسنة على ذلك.

    ومع ذلك خفَّ ميزانُ الصلاة عند بعض الناس في المساجد، وتهاوَنُوا بها تهاونًا عظيمًا، والواجبُ على كلّ مسلم أن يتَّقِي اللهَ في هذه الصلاة، وأن يُحافِظَ عليها في بيوت الله، كما أمر الله - جلّ وعلا – بذلك، وكما أمر بذلك رسوله - عليه الصلاة والسلام -، وأن يتعاهَد أبناءَه بالمحافظة عليها، تحقيقًا لتقوى الله، وطلبًا لرضاه - سبحانه -.

    ونسأل الله - جلَّ وعلا - بمنِّه وكرمه ونتوسَّل إليه بأسمائه الحسنى وصفاته العُلْيا أن يجعلنا جميعًا من المُقِيمين الصّلاة في المساجد ومن ذريّاتنا، كما أمرنا بذلك ربُّنا، وأن يُعينَنَا على ذلك، وأن لا يكِلَنا إلى أنفسنا طرفة عين، إنّه - جلّ وعلا - سميعُ الدّعاء، وهو أهل الرّجاء، وهو حسبُنا ونعم الوكيل.