التلخيصات لجل أحكام الزكاة
التصنيفات
- فقه >> العبادات >> الزكاة فضائل وأحكام
الوصف المفصل
- (1) باب الزكاة وشروط وجوبها
- (2) باب أدلة وجوب الزكاة
- (3) باب ما ورد من الآيات والأحاديث في منع الزكاة
- فصل فيما تجب فيه الزكاة من الأموال
- فصل في زكاة المعدن والواجب في الركاز
- فصل في مقدار نصب الزكاة وبيان الواجب فيها
- فصل في بيان أهل الزكاة
- فصل في أن دافع الزكاة إلى السلطان يبرأ بذلك
- فصل فيمن لا يجزي دفع الزكاة إليه
- فصل في وضع الصدقة في القرابة
- فصل في إخراج الزكاة وما ينبغي لمريد إخراجها
- فصل في جواز تعجيل الزكاة لحولين فقط وحكم نقل الزكاة من بلد إلى بلد
- فصل في بعض آداب الزكاة
- فصل في آداب القابض للزكاة
- فصل في الحث على الصدقة
- فصل في الحث على الصدقة أيضًا
- فصل الترهيب من المسألة مع الغنى
- فصل في الترهيب من المسألة
- باب صدقة الفطر
- فصل فيما يتعلق بالزكاة من الفوائد وما يتعلق بمنعها من المضار
التلخيصات لجل أحكام الزكاة
تأليف الفقير إلى عفو ربه المنان
وَقْفٌ للهِ تَعَالَىٰ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين: نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فالداعي لتأليف هذا الكتاب هو أني رأيت كثيرًا من الناس المؤدين للزكاة يجهلون كثيرًا من أحكامها ويحرصون على تصريف الذي يخرجون في رمضان؛ رغبة منهم في مزيد الأجر لفضيلة الزمان.
فرأيت من المناسب أن ألخص من كتب الفقه ما أرى أنه تتناسب قراءته مع عموم الناس، خصوصًا في الوقت الذي يقصدونه غالبًا لإخراجها، وهو شهر رمضان -شرفه الله- وعشر ذي الحجة، لما في ذلك من مضاعفة الأجر.
وحرصت على تهذيبه، والاعتناء بذكر دليله من الكتاب أو السنة أو منهما جميعًا، راجيًا من الله أن يجعله سببًا مباركًا حاثا على إخراجها والتنسخ منها دقيقها وجليلها، إنه قريب مجيب على كل شيء قدير، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، مقربا لنا ولجميع من انتفع به من المسلمين لديه في جنات النعيم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
وسميته: «التلخيصات لجل أحكام الزكاة»
بسم الله الرحمن الرحيم
(1) باب الزكاة وشروط وجوبها
أما بعد: فقد أوجب الله على المؤمنين ذوي الأموال الركوية زكاة، تدفع لمن ذكرهم الله في كتابه، وقسمها بينهم، ورتب الثواب على أدائها والعقاب على منعها، وقرنها بالصلاة في مواضع كثيرة من كتابه.
وهي أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام، المشار إليها بقوله ﷺ: «بني الإسلام على خمس» فذكر منها «وإيتاء الزكاة»، وفرضت بالمدينة.
وهي شرعًا حق واجب في مال خاص لطائفة مخصوصة في وقت مخصوص.
وشرط وجوبها خمسة أشياء:
أحدها: الإسلام، فلا تجب على كافر ولو مرتدًا، لأنها من فروع الإسلام، لما ورد عن ابن عباس أن النبي ﷺ بعث معاذا إلى اليمن فقال: «ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم» رواه البخاري.
فجعل الإسلام شرطًا لوجوب الزكاة، ولأنها أحد أركان الإسلام فلم تجب على كافر.
الثاني: الحرية، فلا تجب على عبد، لأن ما في يده لسيده، والسيد يزكي عما في يد عبده، لأنه مالك لما في يد عبده، فإن ملكه سيده وقلنا لا يملك فزكاته على سيده كذلك.
الثالث: ملك نصاب تقريبا في أثمان، وتحديدًا في غيرها.
الرابع: الملك التام فلا زكاة على السيد في دين الكتابة.
الخامس: تمام الحول إلا في الخارج من الأرض، لحديث ابن عمر أن النبي ﷺ قال: «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول». رواه الترمذي، والله أعلم، و صلى الله على محمد.
(2) باب أدلة وجوب الزكاة
قال الله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [البقرة: 43]، وقال: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [البقرة: 110].
وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ﴾ [البقرة: 267] الآية، وقال: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ [التوبة: 103]، وقال: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البينة: 5]، وقال: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾ [التوبة: 11] الآية.
وأما الأدلة من السنة فكثيرة، منها ما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت وصوم رمضان» رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ﷺ بعث معاذًا إلى اليمن فقال: «ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم» رواه البخاري.
وعن أبي أيوب t أن رجلا قال للنبي ﷺ: أخبرني بعمل يدخلني الجنة؟ قال: «ماله ماله» قال النبي ﷺ: «أرب ماله تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم».
وعن أبي هريرة t أن أعرابيًّا أتى النبي ﷺ فقال: دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة؟ قال: «تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان». قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا، فلما ولى قال النبي ﷺ: «من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا».
وعنه t قال: لما توفي رسول الله ﷺ وكان أبو بكر، وكفر من كفر من العرب، فقال عمر: كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله ﷺ: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله» فقال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله ﷺ لقاتلتهم على منعها.
قال عمر: فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق، رواه الجماعة إلا ابن ماجه، والله أعلم، وصلى الله على محمد. فصل في حكم إنكار وجوبها ومنعها بخلا أو تهاونا وتوضيح ذلك
اعلم أن من أنكر وجوبها فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون ممن يجهله، ذلك لحداثة عهده بالإسلام أو لأنه نشأ ببادية نائية عن القرى والأمصار، عرف وجوبها ولا يحكم بكفره لأنه معذور.
فإن أصر على جحده الوجوب بعد أن عرف أو كان عالمًا بوجوبها وجحده كفر إجماعًا، لأنه مكذب لله ورسوله وإجماع الأمة ولو أخرجها، وهذا إذا جحد وجوبها على الإطلاق.
وتؤخذ منه الزكاة إن كانت وجبت عليه قبل كفره واستتيب ثلاثة أيام وجوبًا كغيره من المرتدين، فإن لم يتب بأن يقر بوجوبها مع الإتيان بالشهادتين قتل كفرًا وجوبًا لقوله ﷺ: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة»، وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة. متفق عليهما.
ومن منع الزكاة بخلا أو تهاونًا أخذت منه قهرًا كدين الآدمي وكما يؤخذ العشر، ويعزر لتركه الواجب، وهي معصية لا حد فيها، ولا كفارة، فإن كان مانع الزكاة بخلا أو تهاونا جاهلا بتحريم ذلك فلا يعزر لأنه معذور.
وإن غيب ماله أو كتمه وأمكن أخذها أخذت الزكاة منه، وإن لم يمكن أخذها منه استتيب ثلاثة أيام وجوبًا، فإن تاب وأخرج كف عنه، وإن لم يخرج قتل لاتفاق الصحابة على قتل مانعي الزكاة حدًا لا كفرًا، وأخذت من تركته.
(3) باب ما ورد من الآيات والأحاديث في منع الزكاة
قال الله تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [آل عمران: 180] الآية، وقال: ﴿وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ [فصلت: 6، 7]، وقال: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ﴾ [التوبة: 34، 35]، وقال: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ [التوبة: 75- 77].
وعن أبي هريرة t قال: قال رسول الله ﷺ: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله: إما إلى الجنة، وإما إلى النار».
قيل: يا رسول الله فالإبل؟ قال: «ولا صاحب إبل لا يؤدي حقها ومن حقها حلبها يوم وردها، إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلاً واحدًا تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها كلما مرت عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله: إما إلى الجنة وإما إلى النار».
قيل: يا رسول الله فالبقر والغنم ؟ قال: «ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها شيئا ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله: إما إلى الجنة، وإما إلى النار» الحديث، رواه مسلم، والله أعلم، وصلى الله على محمد.
فصل (4)
وعن جابر t قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «ما من صاحب إبل لا يفعل فيها حقها إلا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت، وقعد لها بقاع قرقر تستن عليه بقوائمها وأخفافها، ولا صاحب بقر لا يفعل فيها حقها إلا جاءت يوم القيامة أوفر ما كانت وقعد لها بقاع قرقر تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها ليس فيها جماء ولا منكسر قرنها، ولا صاحب كنز لا يفعل فيه حقه إلا جاء كنزه يوم القيامة شجاعًا أقرع يتبعه فاتحًا فاه فإذا أتاه فر منه فيناديه خذ كنزك الذي خبأته فأنا عنه غني فإذا رأى أن لا بد له منه سلك يده في فيه فيقضمها قضم الفحل» رواه مسلم.
وفي رواية للنسائي قال: قال رسول الله ﷺ: «ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جاء يوم القيامة شجاعًا من نار، فيكوى بها جبهته وجنبه وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين الناس».
وعن جابر t قال: قال رجل: يا رسول الله، أرأيت إن أدى الرجل زكاة ماله ؟ فقال رسول الله ﷺ: «من أدى زكاة ماله فقد ذهب عنه شره» رواه الطبراني في «الأوسط»، وابن خزيمة في صحيحه، والحاكم مختصرًا: «إذا أديت زكاة مالك فقد أذهبت عنك شره» وقال: على شرط مسلم.
وروي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن امرأة أتت النبي ﷺ ومعها ابنة لها، وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب، فقال لها: «أتعطين زكاة هذا؟» قالت: لا، قال: «أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟» قال: فحذفتهما فألقتهما إلى النبي ﷺ فقالت: هما لله ورسوله، رواه أحمد وأبو داود والترمذي والدارقطني.
وعن الأحنف بن قيس t قال: جلست إلى ملأ من قريش، فجاء رجل خشن الشعر والثياب والهيئة حتى قام عليهم، فسلم ثم قال: بشر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم، ثم يوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه، ويوضع على نغض كتفيه حتى يخرج من حلمة ثديه، فيتزلزل، ثم ولى فجلس إلى سارية، وتبعته، وجلست إليه، وأنا لا أدري من هو، فقلت: لا أرى القوم إلا قد كرهوا الذي قلت.
قال: إنهم لا يعقلون شيئا قاله لي خليلي، قلت: ما خليلك؟ قال: النبي ﷺ، أتبصر أحدًا ؟ قال: فنظرت إلى الشمس ما بقي من النهار، وأنا أرى أن رسول الله ﷺ يرسلني في حاجة له، قلت: نعم. قال: ما أحب أن لي مثل أحد ذهبًا أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير، وإن هؤلاء لا يعقلون، إنما يجمعون الدنيا، لا والله لا أسألهم دنيا، ولا أستفتيهم عن دين حتى ألقى الله عز وجل، رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية مسلم أنه قال: بشر الكانزين بكي في ظهورهم يخرج من جنوبهم، وبكي من قبل أقفائهم حتى يخرج من جباههم، قال: ثم تنحى فقعد.
قال: قلت: من هذا ؟ قالوا: هذا أبو ذر، قال: فقمت إليه فقلت: ما شيء سمعتك تقول قبيل. قال: ما قلت إلا شيئا سمعته من نبيهم ﷺ، قال: قلت: ما تقول في هذا العطاء ؟ قال: خذه فإن فيه اليوم معونة، فإذا كان ثمنًا لدينك فدعه.
وروي عن أبي هريرة t قال: سمعت من عمر بن الخطاب حديثًا عن رسول الله ﷺ ما سمعته منه، وكنت أكثرهم لزوما لرسول الله ﷺ. قال عمر قال رسول الله ﷺ: «ما تلف مال في بر ولا بحر إلا بحبس الزكاة»، رواه الطبراني في الأوسط، وهو حديث غريب.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: «مانع الزكاة يوم القيامة في النار»، رواه الطبراني في «الصغير».
وروي عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله ﷺ: «ما خالطت الصدقة -أو قال:- الزكاة مالا إلا أفسدته» رواه البزار والبيهقي.
وقال الحافظ: وهذا الحديث يحتمل معنيين:
أحدهما: أن الصدقة ما تركت في مال ولم تخرج منه إلا أهلكته، ويشهد لهذا حديث عمر المتقدم: «ما تلف مال في بر ولا بحر إلا بحبس الزكاة».
والثاني: أن الرجل يأخذ الزكاة وهو غني عنها فيضعها مع ماله فتهلكه، وبهذا فسره الإمام أحمد، والله أعلم، وصلى الله على محمد.
فصل (5)
وعن عمارة بن حزم t قال: قال رسول الله ﷺ: «أربع فرضهن الله في الإسلام، فمن جاء بثلاث لم يغنين عنه شيئا حتى يأتي بهن: الصلاة، والزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت» رواه أحمد، وفي إسناده ابن لهيعة.
ورواه أيضا عن نعيم بن زياد الحضرمي مرسلا، وعن بريدة t قال: قال رسول الله ﷺ: «ما منع قوم الزكاة إلا ابتلاهم الله بالسنين» رواه الطبراني في «الأوسط»، ورواته ثقات، والحاكم والبيهقي في حديث إلا أنهما قالا: «ولا منع قوم الزكاة إلا حبس الله عنهم القطر»، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم.
ورواه ابن ماجه والبزار والبيهقي من حديث ابن عمر، ولفظ البيهقي: أن رسول الله ﷺ قال: «يا معشر المهاجرين خصال خمس إن ابتليتم بهن ونزلن بكم، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولا نقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم، فيأخذ بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل بأسهم بينهم».
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: «خمس بخمس». قيل: يا رسول الله، ما خمس بخمس ؟ قال: «ما نقض قوم العهد إلا سلط عليهم عدوهم وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الموت، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر ولا طففوا المكيال إلا حبس عنهم النبات وأخذوا بالسنين»، رواه الطبراني في «الكبير» وسنده قريب من الحسن، وله شواهد، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
فصل فيما تجب فيه الزكاة من الأموال
الأموال التي تجب فيها الزكاة أربعة:
أحدها: سائمة بهيمة الأنعام، وهي: الإبل، والبقر، والغنم، فتجب بثلاثة شروط:
أحدها: أن تتخذ للدر والنسل والتسمين.
الثاني: أن ترعى المباح أكثر الحول، لحديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده مرفوعًا: «في كل إبل سائمة في كل أربعين ابنة لبون». رواه أحمد وأبو داود والنسائي.
الثالث: أن تبلغ نصابًا.
الثاني: مما تجب فيه الزكاة: الزرع والثمار والعسل.
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ﴾ [البقرة: 267].
وعن جابر عن النبي ﷺ قال: «فيما سقت الأنهار والغيم العشور، وفيما سقي بالساقية نصف العشور». رواه أحمد ومسلم وأبو داود، وقال: «الأنهار والعيون».
وعن عتاب بن أسيد أن النبي ﷺ: «كان يبعث على الناس من يخرص عليهم كرومهم وثمارهم» رواه الترمذي وابن ماجه، وعنه أيضًا قال: «أمر رسول الله ﷺ أن يخرص العنب كما يخرص النخل، فتؤخذ زكاته زبيبا كما تؤخذ صدقة النخل تمرًا». رواه أبو داود والترمذي.
وعن سهل بن أبي حثمة قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع» رواه الخمسة إلا ابن ماجه، وأما ما جاء في زكاة العسل فعن أبي سيار قال: قلت: يا رسول الله أحم لي جبلها، قال: «فحمى لي جبلها»، رواه أحمد وابن ماجه، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي ﷺ: «أنه أخذ من العسل العشر» رواه ابن ماجه.
الثالث مما تجب فهي الزكاة: الأثمان وهي النقود من الذهب والفضة وما يقوم مقامهما من أوراق وفلوس نقدية وكذا حلي الذهب والفضة إذا بلغ نصابًا بنفسه أو بما يضم إليه من جنسه أو في حكمه ولم يكن معدًا للاستعمال ولا للإعارة، فإن أعد للاستعمال أو للإعارة فلا زكاة فيه، لما روى مالك عن نافع عن ابن عمر أنه كان يحلي بناته وجواريه الذهب ولا يخرج من حليهن الزكاة.
ورواه عبد الرزاق، أنبأنا عبيد الله، عن نافع عن ابن عمر قال: لا زكاة في الحلي.
روى مالك أيضا عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها كانت تلي بنات أخيها يتامى في حجرها فلا تخرج من حليهن الزكاة، كلاهما في «الموطأ».
أثر آخر أخرجه الدارقطني عن شريك عن علي بن سليمان، قال: سألت أنس بن مالك عن الحلي فقال: ليس فيه زكاة.
أثر آخر رواه الشافعي ثم البيهقي من جهة أبي سفيان عن عمرو بن دينار قال: سمعت ابن خالد يسأل جابر بن عبد الله عن الحلي أفيه الزكاة ؟ قال جابر: لا. فقال: وإن كان يبلغ ألف دينار؟ فقال جابر: كثير.
أثر آخر أخرجه الدارقطني عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر أنها كانت تحلي بناتها الذهب ولا تزكيه نحوا من خمسين ألفا.
قال صاحب "التنقيح" قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: خمسة من الصحابة كانوا لا يرون في الحلي زكاة: أنس بن مالك، وجابر، وابن عمر، وعائشة، وأسماء، انتهى كلامه.
وبهذا القول قال القاسم والشعبي وقتادة ومحمد بن علي وعمرة ومالك والشافعي وأبو عبيد وإسحاق وأبو ثور، وقيل فيه: الزكاة، وإن كان معدًا لذلك لظاهر الآيات وللأحاديث العامة والخاصة.
فمن الأحاديث العامة حديث أبي سعيد الخدري: «ليس فيما دون خمس أواق صدقة». أخرجاه في الصحيحين ولمسلم عن جابر نحوه.
ومن الخاصة حديث المسكتين وتقدم ما ورد عن عائشة زوج النبي ﷺ قالت: «دخل رسول الله ﷺ فرأى في يدي فتخات من ورق فقال: ما هذا يا عائشة؟» فقلت: صنعتهن أتزين لك. قال: «حسبك من النار». رواه أبو داود والدارقطني، وفي إسناده محمد بن يحيى الغافقي، وقد احتج به الشيخان وغيرهما.
وعن أم سلمة قالت: كنت ألبس أوضاحًا من ذهب فقلت: يا رسول الله أكنز هو ؟ فقال: «ما بلغ أن تؤدي زكاته فزكي فليس بكنز» رواه مالك وأبو داود.
الآثار: روى ابن أبي شيبة في مصنفه، حدثنا وكيع عن مساور الوراق قال: كتب عمر بن الخطاب t إلى أبي موسى الأشعري أن مر من قبلك من نساء المسلمين أن يزكين حليهن ولا يحملن الزيادة والهدية بينهن تقارضا. انتهى.
قال البخاري في تاريخه: هو مرسل.
أثر آخر أخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن مسعود قال: في الحلي الزكاة. انتهى من طريق عبد الرزاق ورواه الطبراني في معجمه.
أثر آخر أخرجه الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أنه كان يكتب إلى خازنه سالم أن يخرج زكاة حلي بناته كل سنة، وكما روي هذا عن عمر وابن مسعود فقد روي أيضا عن ابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وعطاء ومجاهد وعبد الله بن شداد وجابر بن زيد وابن سيرين وميمون بن مهران والزهري والثوري وأصحاب الرأي.
والذي يترجح عندي القول الأول وهو أنه إذا كان معدًا للاستعمال أو للإعارة فلا زكاة فيه لما تقدم من الأدلة، ولأنه مرصد للاستعمال المباح، ولم يرصد للنماء، والزكاة إنما شرعت في الأموال النامية والله أعلم.
الرابع مما تجب في الزكاة: عروض التجارة، وهي ما أعد للبيع والشراء من السلع التجارية كالمجوهرات ونحوها وكذلك السيارات والمكائن والأقمشة والمفروشات والأطعمة وغيرها من المنقولات والثابتات كالعقارات من أراض وبيوت ونحوها.
وإنما تجب الزكاة في قيمة عروض التجارة إذا تملكها بفعله بنية التجارة، وبلغت قيمتها نصابًا.
لما ورد عن سمرة بن جندب قال: إن رسول الله ﷺ أمرنا أن نخرج الصدقة مما نعده للبيع، رواه أبو داود، فتقوم إذا حال الحول عليها وأوله من حين بلوغ القيمة نصابًا بالأحظ للمساكين من ذهب أو فضة.
فإذا بلغت القيمة نصابًا وجب ربع العشر وإلا فلا احتج أحمد بقول عمر لحماس: أد زكاة مالك. فقال: مالي إلا جعاب وأدم، فقال: قومها وأد زكاتها، رواه أحمد وسعيد وأبو عبيد وغيرهم وهو المشهور، وكذا أموال الصيارف لأنها معدة للبيع والشراء لأجل الربح، والله أعلم، وصلى الله على محمد.
فمثلاً إذا كان للإنسان أرض للتجارة يقومها عند تمام الحول، ويخرج ربع عشر قيمتها، وإن كان له سهم من أرض أو أسهم قوم الأرض عند تمام الحول وعرف مقدار قيمة ما يملك، وأخرج ربع عشر قيمته، وكذا البيوت المعدة للتجارة تثمن عند تمام الحول، ويخرج ربع عشر قيمتها ولا يعتبر ما اشتريت به الأراضي والبيوت، بل قيمتها عند تمام الحول وإن لم تكن مشتراة للتجارة ومعدة لها فإذا بذل القسط من الأجرة أو استحقه أو بذلت كلها ابتدأ لها حولا كالراتب، فإذا تم الحول أخرج زكاة ما دار عليه الحول، وإن لم يسلم له أجرة أدى الزكاة إذا قبضها، وإن أراد أن يخرجها قبل ذلك فله ذلك، والله أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم.
فصل في زكاة المعدن والواجب في الركاز
وفي المعدن وهو كل متولد من الأرض لا من جنسها ولا نبات: كذهب وفضة وزرنيخ وبلور وعقيق وصفر ورصاص وحديد وكحل وزنيخ ومغرة وكبريت وزفت وملح وزئبق وقار ونفط ونحو ذلك إذ استخرج ربع العشر.
لعموم قوله تعالى: ﴿أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ﴾ [البقرة: 267].
وعن ابن عمر قال: أتى النبي ﷺ بقطعة من ذهب كانت أول صدقة جاءته من معدن فقال: «ما هذا؟» قالوا: صدقة من معدن لنا، فقال: «إنها ستكون معادن، وسيكون فيها شر خلق الله عز وجل» رواه الطبراني في المعجم الصغير.
ولما روى ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن غيره واحد أن النبي ﷺ أقطع بلال بن الحارث المعادن القبلية قال: «فتلك لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم». رواه أبو داود.
وقال أبو عبيد: بلاد معروفة بالحجاز ولأنه حق يحرم على أغنياء ذوي القربى ففيه الزكاة لا الخمس كسائر الزكوات.
ولا يعتبر لخمس الركاز الحول: كالزرع بشرط بلوغ النقد، وقيمة غيره نصابًا بعد سبك وتصفية: كحب وثمر، ووقت وجوبها بظهوره، ووقت استقرارها بإحرازه.
ويشترط كون مخرج معدن من أهل الزكاة، ولا يحتسب بمؤنة السبك والتصفية، ولا بمؤنة استخراج إن لم تكن دينًا، ولا يجوز إخراج زكاة معدن ذهب وفضة إلا بعد سبك وتصفية.
والركاز: الكنز من دفن الجاهلية أو من تقدم من كفار في الجملة عليه أو على بعضه علامة كفر فقط، وما كان على شيء منه علامة المسلمين أو لم تكن علامة: كالأواني والحلي والسبائك، فهو لقطة، لا يملك إلا بعد التعريف ؛ لأنه مال مسلم لم يعلم زوال ملكه عنه وتغليبا لحكم دار الإسلام.
ويجب في الركاز الخمس في الحال ولا يمنع وجوبه الدين لما في حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «العجماء جرحها جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس» متفق عليه.
ويصرف الخمس مصرف الفيء للمصالح كلها، لما روى أبو عبيد بإسناده عن الشعبي أن رجلا وجد ألف دينار مدفونة خارج المدينة، فأتى بها عمر بن الخطاب، فأخذ منها مائتي دينار، ودفع إلى الرجل بقيتها.
وجعل عمر يقسم المائتين بين من حضر من المسلمين إلى أن فضل منها فضلة، فقال: أين صاحب الدنانير؟ فقام إليه فقال عمر: خذ هذه الدنانير فهن لك، فلو كان الخمس زكاة لخص به أهل الزكاة ويجوز لواجده تفرقته بنفسه، والله أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم.
فصل في مقدار نصب الزكاة وبيان الواجب فيها
أقل نصاب ذهب عشرون مثقالا وفيها نصف مثقال، وهو ربع العشر، لحديث عائشة وابن عمر مرفوعًا ؛ أنه كان يأخذ من كل عشرين مثقالا نصف مثقال، رواه ابن ماجه.
والنصاب من الذهب بالجنيه السعودي، وكذلك بالجنيه الإفرنجي أحد عشر جنيها ونصف جنيه تقريبا.
وأقل نصاب الفضة مائتا درهم، وبالريال العربي ستة وخمسون ريالا، وبالريال الفرنسي ثلاثة وعشرون ريالا وثلث ريال تقريبا.
وأما الأوراق الموجودة فإذا ملك منها ما يقابل نصابا من الفضة وحال عليها الحول فإنه يخرج منها ربع العشر.
ونصاب الحبوب والثمار خمسة أوسق، والوسق ستون صاعًا، فيكون النصاب بالصاع النبوي ثلاثمائة صاع.
ويجب العشر فيما سقي بلا مؤنة، ونصف العشر فيما سقي بالمؤنة، وثلاثة أرباع العشر فيما سقي بالمؤنة وغيرها.
فإن تفاوت السقي بالمؤنة والسقي بغيرها اعتبر الأكثر من السقيين نفعًا ونموًا ومع الجهل العشر.
ونصاب العسل مائة وستون رطلا عراقيا وفيه العشر.
وأقل نصاب إبل خمس وفيها شاة، ثم في كل خمس شاة إلى خمس وعشرين فيجب بنت مخاض.
لحديث أنس أن أبا بكر الصديق كتب له حين وجهه إلى البحرين: بسم الله الرحمن الرحيم هذه الصدقة التي فرضها رسول الله ﷺ على المسلمين التي أمر الله بها رسوله فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سئل فوقها فلا يعط.
في أربع وعشرين من الإبل فما دون من الغنم في كل خمس شاة، فإذا بلغ خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض فإن لم يكن بنت مخاض فابن لبون ذكر.
فإذا بلغت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون أنثى، فإذا بلغ ستا وأربعين ففيها حقة طروقة الفحل.
فإذا بلغت إحدى وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة.
فإذا بلغت ستا وسبعين إلى تسعين ففيها بنت لبون.
فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الفحل، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة، رواه أبو داود والنسائي والبخاري، وقطعه في مواضع.
وأقصل نصاب بقر أهلية أو وحشية ثلاثون، وفيها تبيع وهو ماله سنة، وفي كل أربعين مسنة لها سنتان وفي ستين تبيعان، ثم في كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة.
لقول معاذ: بعثني رسول الله ﷺ أصدق أهل اليمن فأمرني أن آخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعًا، ومن كل أربعين مسنة، الحديث. رواه أحمد.
وأقل نصاب غنم أربعون وفيها شاة، وفي مائة وإحدى وعشرين شاتان، وفي مائتين وواحدة ثلاث شياه، ثم في كل مائة شاة.
ويجب الإخراج من وسط المال، ولا يجزي من الأدون، ولا يلزم الخيار إلا أن يشاء المزكي لقوله ﷺ: «وإياك وكرائم أموالهم»، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
فصل في بيان أهل الزكاة
أهل الزكاة ثمانية، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 60].
وحديث: «إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم هو فيها، فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك» رواه أبو داود.
فأولاً: الفقير، وهو من لم يجد نصف الكفاية، فهو أشد حاجة من المسكين، لأن الله بدأ به، وإنما يبدأ بالأهم فالأهم.
الثاني: المسكين وهو من يجد نصفها أو أكثرها.
الثالث: العامل عليها، كجابي وحافظ وكاتب وقاسم، لدخولهم في قوله تعالى: ﴿وَالْعَامِلِينَ﴾ وكان النبي ﷺ يبعث على الصدقة سعاة، ويعطيهم عمالتهم.
رابعًا: المؤلف، وهو السيد المطاع في عشيرته ممن يرجى إسلامه أو كف شره أو يرجى بعطيته قوة إيمانه أو جبايتها ممن لا يعطيها أو إسلام نظيره أو يرجى بعطيته نصحه في الجهاد أو في الدفع عن المسلمين.
لما روى أبو سعيد قال: بعث علي وهو باليمن بذهيبة فقسمها النبي ﷺ بين أربعة نفر: الأقرع بن حابس الحنظلي، وعيينة بن حصن الفزاري، وعلقمة بن علاثة العامري، ثم أحد بني نبهان، فغضبت قريش، وقالوا: تعطي صناديد نجد وتدعنا؟ فقال: «إني إنما فعلت ذلك لأتألفهم» متفق عليه.
قال أبو عبيد القاسم بن سلام: وإنما يؤخذ من أموال أهل اليمن صدقة، لأن النبي ﷺ أعطى صفوان بن أمية يوم حنين قبل إسلامه ترغيبا له في الإسلام، وأبا بكر أعطى عدي بن حاتم والزبرقان بن بدر مع حسن نياتهما وإسلامهما رجاء إسلام نظرائهما.
خامسًا: المكاتب، ويجوز العتق منها، لقوله تعالى: ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾ ويجوز أن يفدى بها أسيرًا مسلمًا، لأنه فك رقبة.
السادس: الغارم، وهو من تدين لإصلاح بين الناس، أو تدين لنفسه وأعسر، لدخوله في قوله: ﴿وَالْغَارِمِينَ﴾ وعن أنس مرفوعًا: «إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع» رواه أحمد وأبو داود.
وفي حديث قبيصة بن مخارق الهلالي قال: تحملت حمالة فأتيت النبي ﷺ أسأله فيها، فقال: «أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها» ثم قال: «يا قبيصة، إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها، ثم يمسك» الحديث، رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي.
السابع: في سبيل الله، وهم الغزاة المتطوعة الذين لا ديوان لهم.
الثامن: ابن السبيل، وهو الغريب المنقطع بغير بلده لحديث أبي سعيد مرفوعًا: «لا تحل الصدقة لغني إلا في سيبل الله أو ابن السبيل أو جار فقير تصدق عليه فيهدي لك أو يدعوك». رواه أبو داود.
وفي لفظ: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: للعامل عليها، ورجل اشتراها بماله، أو غارم أو غاز في سبيل الله، أو مسكين تصدق عليه فأهدى منها لغني» رواه أبو داود وابن ماجه.
فيعطى الجميع بقدر الحاجة، فيعطي من الزكاة الغازي ما يحتاج إليه لغزوه، ويعطي الفقير والمسكين ما يكفى حولا، والغارم والمكاتب ما يقضيان به دينهما وابن السبيل ما يوصله إلى بلده. وللمؤلف ما يحصل به التأليف.
وأما العامل فيعطى بقدر أجرته ولو غنيان لأن النبي ﷺ بعث عمر ساعيًا، ولم يجعل له أجرة، فلما جاء أعطاه، متفق عليه، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
فصل في أن دافع الزكاة إلى السلطان يبرأ بذلك
ويبرأ رب المال بدفع الزكاة إلى السلطان عدل فيها أو جار، لما ورد عن أنس ؛ أن رجلا قال لرسول الله ﷺ: إذا أديت الزكاة إلى رسولك فقد برئت منها إلى الله ورسوله ؟ قال: «نعم إذا أديت إلي فقد برئت منها إلى الله ورسوله، فلك أجرها، وإثمها على من بدلها» مختصرًا لأحمد.
وعن ابن مسعود أن رسول الله ﷺ قال: «إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها» قالوا: يا رسول الله ! فما تأمرنا ؟ قال: «تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم» متفق عليه.
وعن وائل بن حجر قال: سمعت رسول الله ﷺ ورجل يسأله فقال: أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعونا حقنا ويسألونا حقهم ؟ فقال: «اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم» رواه مسلم والترمذي وصححه.
وعن بشير بن الخصاصية قال: قلنا: يا رسول الله، إن قومًا من أصحاب الصدقة يعتدون علينا أفنكتم من أموالنا بقدر ما يعتدون علينا ؟ فقال: «لا». رواه أبو داود.
وقال أحمد: قيل لابن عمر إنهم يقلدون بها الكلاب ويشربون بها الخمور! قال: ادفعها إليهم، وقال سهل بن أبي صالح: أتيت سعد بن أبي وقاص فقلت: عندي مال وأريد إخراج زكاته وهؤلاء القوم على ما ترى ؟ قال: ادفعها إليهم، فأتيت ابن عمر وأبا هريرة، وأبا سعيد رضي الله عنهم فقالوا مثل ذلك، وبه قال الشعبي والأوزاعي، والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم.
فصل فيمن لا يجزي دفع الزكاة إليه
ولا يجزي دفع الزكاة للكافر غير المؤلف، لحديث معاذ: تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم، وقال ابن المنذر: أجمعوا على أن الذمي لا يعطى من الزكاة، ولا الرقيق لأن نفقته على سيده.
قال في الشرح: ولا يعطى الكافر والمملوك لا نعلم فيه خلافًا ولا للغني بمال أو كسب سوى ما تقدم لقوله ﷺ: «لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب»، وقوله: «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي»، رواهما أحمد وأبو داود.
ولا لمن تلزمه نفقته كزوجته ووالديه وإن علوا وأولاده وإن سفلوا الوارث منهم وغيره، وقال ابن المنذر: أجمعوا على أنها لا تدفع إلى الوالدين في الحال التي يجبر على النفقة عليهم.
ولأن الدفع إلى من تلزمه نفقته يغنيهم عن النفقة ويسقطها عنه فيعود النفع إليه فكأنه دفعها إلى نفسه، وقال في الاختيارات الفقهية: ويجوز صرف الزكاة إلى الوالدين وإن علوا وإلى الولد وإن سفل إذا كانوا فقراء وهو عاجز عن نفقتهم لوجود المتقضى السالم عن المعارض المقاوم، انتهى، ولا لزوج لأنها تنتفع بالدفع إليه.
وقيل: يجوز لقوله ﷺ لزينب امرأة ابن مسعود: «زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم» أخرجه البخاري، ولأنها تلزمها نفقته فلم تحرم عليه زكاتها كالأجنبي.
وأما الزوجة فلا يجوز دفع الزكاة إليها لوجوب نفقتها عليه ولا لبني هاشم لعموم قوله ﷺ: «إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما أوساخ الناس» رواه مسلم، ما لم يكونوا عمالا أو مؤلفة أو غارمين لإصلاح ذات البين، فيعطون لذلك، وكذلك مواليهم.
لحديث أبي رافع مرفوعًا: «إنا لا تحل لنا الصدقة، وإن موالي القوم منهم» رواه أبو داود والنسائي والترمذي وصححه.
فإن دفعها لغير مستحقيها وهو يجهل ثم علم لم يجزئه، ويستردها منه بنمائها لأنها لا تخفى حاله غالبًا، وإن دفعها لمن يظنه فقيرًا فبان غنيًا أجزأه لقوله ﷺ للرجلين: «إن شئتما أعطيتكما منها، ولا حظ فيها لغني».
وقال للذي سأله عن الصدقة: «إن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك» فاكتفى بالظاهر، ولأن الغني يخفى، فاعتبار حقيقته يشق.
فصل في وضع الصدقة في القرابة
يسن أن يفرق زكاته على أقاربه الذين لا تلزمه نفقتهم وعلى ذوي أرحامه على قدر حاجتهم، لما ورد عن سلمان بن عامر، قال: قال رسول الله ﷺ: «الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة» رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي.
وعن أنس قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب ماله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله ﷺ يدخل ويشرب من ماء فيها طيب.
قال أنس: فلما نزلت هذه الآية: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران: 92]. قام أبو طلحة إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، إن الله تعالى يقول: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ وإن أحب مالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله تعالى أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. فقال رسول الله ﷺ: «بخ بخ ! ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين» فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه، متفق عليه.
وتقدم قوله ﷺ لزينب امرأة ابن مسعود: «زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم».
وعن أبي أيوب قال: قال رسول الله ﷺ: «إن أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح» رواه أحمد.
وعن حكيم بن حزام t؛ أن رجلا سأل رسول الله ﷺ عن الصدقات أيُها أفضل؟ قال: «على ذي الرحم الكاشح» رواه الطبراني وأحمد، وإسناده حسن.
وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده t قال: قلت: يا رسول الله، من أبر ؟ قال: «أمك» قلت: ثم من ؟ قال: «أمك» قلت: ثم من ؟. قال: «أمك». قلت: ثم من ؟ قال: «أباك ثم الأقرب فالأقرب» رواه أبو داود والترمذي.
وقال رسول الله ﷺ: «لا يسأل رجل مولاه من فضل هو عنده فيمنعه إياه إلا دعي له يوم القيامة فضله الذي منعه شجاعًا أقرعَ» رواه أبو داود واللفظ له والنسائي والترمذي، وقال: حديث حسن.
وعن ابن عباس قال: إذا كان ذو قرابة لا تعولهم فأعطهم من زكاة مالك، وإن كنت تعولهم فلا تعطهم ولا تجعلها لمن تعول، رواه الأثرم في سننه والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
فصل في إخراج الزكاة وما ينبغي لمريد إخراجها
يجب إخراج الزكاة فورًا عند تمام الحول، ويحرم التأخير إلا لعذر، لقوله تعالى: ﴿وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ [الأنعام: 141].
وعن عقبة بن الحارث قال: صلى النبي ﷺ العصر فأسرع، ثم دخل البيت فلم يلبث أن خرج، فقلت: أو قيل له، فقال: «كنت خلفت في البيت تبرا من الصدقة فكرهت أن أبيته فقسمته». رواه البخاري.
وعن عائشة قالت: سمعت رسول الله ﷺ، يقول: «ما خالطت الصدقة مالا قط إلا أهلكته». رواه الشافعي والبخاري في تاريخه والحميدي وزاد قال: يكون قد وجبت عليك في مالك صدقة فلا تخرجها فيهلك الحلال والحرام، وقد احتج به من يرى تعلق الزكاة بالعين.
وتجب في مال الصبي والمجنون، ويخرج عنهما وليهما في مالهما.
ويشترط لإخراج الزكاة النية لحديث: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى»، فينوي الزكاة أو الصدقة الواجبة أو صدقة المال وولي الصبي والسلطان ينويان عند الحاجة.
والنية أن يعتقد أنها زكاته أو زكاة من يخرج عنه كالصبي والمجنون.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال: «من ولي يتيما له مال فليتجر به، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة» رواه الترمذي، والدارقطني وإسناده ضعيف، وله شاهد مرسل عند الشافعي.
ويستحب أن يقول معطي الزكاة عند إعطائه إلى من يريد إعطاءه منها: اللهم اجعلها مغنما ولا تجعلها مغرما، لما يروى أبو هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا أعطيت الزكاة فلا تنسوا ثوابها أن تقولوا: اللهم اجعلها مغنمًا ولا تجعلها مغرمًا»، رواه ابن ماجه ويقول آخذ الزكاة: آجرك الله فيما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت، وجعله لك طهورًا، قوله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾ [التوبة: 103].
وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان رسول الله ﷺ إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: «اللهم صل على آل فلان» فأتاه أبي بصدقته، فقال: «اللهم صل على آل أبي أوفى» متفق عليه.
وعن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا أتاكم المصدق فليصدق عنكم وهو راض» رواه مسلم، والله أعلم.
فصل في جواز تعجيل الزكاة لحولين فقط وحكم نقل الزكاة من بلد إلى بلد
ويجوز تعجيل الزكاة لحولين فقط إذا كمل النصاب، لما ورد عن علي عليه السلام أن العباس بن عبد المطلب سأل النبي ﷺ في تعجيل صدقته قبل أن تحل، فرخص له في ذلك. رواه الخمسة إلا النسائي.
وعن أبي هريرة قال: بعث رسول الله ﷺ عمر على الصدقة فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس. فقال رسول الله ﷺ: «ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله تعالى، وأما خالد فإنكم تظلمون خالدًا، وقد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله، وأما العباس فهي علي ومثلها معها»، ثم قال: «يا عمر أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه» متفق عليه.
والأفضل جعل زكاة كل مال في فقراء بلده ما لم تتشقص زكاة سائمة كأربعين ببلدين متقاربين، فيخرج في بلد واحد شاة.
ويحرم نقلها إلى بلد تقصر فيه الصلاة مع وجود مستحق لحديث معاذ «أعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم».
وعن أبي جحيفة قال: قدم علينا مصدق رسول الله ﷺ فأخذ الصدقة من أغنيائنا، فجعلها في فقرائنا، فكنت غلامًا يتيمًا فأعطاني منها قلوصًا، رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
وعن عمران بن حصين أنه استعمل على الصدقة فلما رجع قيل له: أين المال؟ قال: وللمال أرسلتني، أخذناه من حيث كنا نأخذه على عهد رسول الله ﷺ ووضعناه حيث كنا نضعه. رواه أبو داود، وابن ماجه.
وعن طاوس قال: كان في كتاب معاذ من خرج من مخلاف إلى مخلاف فإن صدقته وعشره في مخلاف عشيرته، رواه الأثرم في سننه، وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه رد زكاة أتي بها من خراسان إلى الشام إلى خراسان فإن خالف ونقلها أجزأته في قول أكثر أهل العلم.
وقيل: تنقل لمصلحة راجحة كقريب محتاج ونحوه، لما علم بالضرورة من أن النبي ﷺ كان يستدعي الصدقات من الأعراب إلى المدينة ويصرفها في فقراء المهاجرين والأنصار، أخرج النسائي من حديث عبد الله بن هلال الثقفي قال: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: كدت أقتل بعدك في عناق أو شاة من الصدقة، فقال رسول الله ﷺ: «لولا أنها تعطى فقراء المهاجرين ما أخذتها».
ووري عن الحسن والنخعي أنهما كرها نقل الزكاة من بلد إلى بلد إلا لذي قرابة، وكان أبو العالية يبعث بزكاته إلى المدينة، واختار هذا القول الشيخ تقي الدين، وقال: تحديد المنع بمسافة القصر ليس عليه دليل شرعي، وجعل محل ذلك الأقاليم فلا تنقل من إقليم إلى إقليم.
قلت: وفي وقتنا هذا من أراد الأخذ بالقول الأول في أن الزكاة لا تدفع إلا إلى فقراء البلد الذي فيه المال، فعليه أن يسأل عن فقراء البلد الذي فيه المال فيدفعها إليهم، ويحرص كل الحرص على من ليس لهم موارد وهم متعففون وأصحاب دين ليستعينوا بها على طاعة الله، دون من يأتون إليها وهم من فقراء البلدان الثانية، كما نشاهد عندنا في شهر رمضان، يأتون من البلدان الأخرى، ثم يرجعون لبلدانهم ناقلين لها إلى بلدانهم.
ومسافر بالمال يفرقها ببلد أكثر إقامته به فيه.
ومن سأل واجبًا كمن طلب شيئًا مدعيا كتابة أو غرما أو مدعيا أنه ابن سبيل أو مدعيا فقرا أو عرف بغنى، لم يقبل قوله إلا ببينة لأن الأصل عدم ما ادعاه، والبينة فيمن عرف بغنى وادعى فقرا ثلاث رجال، لما في حديث قبيصة من قوله ﷺ: «لا تحل المسألة إلا لأحد ثلاثة: رجل أصابته فاقة حتى يشهد له ثلاثة من ذوي الحجى من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقةٌ، فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش» رواه مسلم.
ومن غرم في معصية أو سافر في معصية لم تدفع إليه، إلا أن يتوب، لأنه إعانة على معصيته إلا أن يتوب، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
فصل في بعض آداب الزكاة
قال في مختصر منهاج القاصدين: اعلم أن على مريد الزكاة وظائف:
الأولى: أن يفهم المراد من الزكاة، وهو ثلاثة أشياء: ابتلاء مدعي محبة الله تعالى بإخراج محبوبه، والتنزه عن صفة البخل المهلك، وشكر نعمة المال.
والوظيفة الثانية: الإسرار بإخراجها، لكونه أبعد عن الرياء والسمعة، وفي الأظهار إذلال للفقير، فمن خاف أن يتهم بعدم الإخراج أعطى من لا يبالي من الفقراء بالأخذ بين الجماعة علانية، وأعطى غيره سرًا.
والوظيفة الثالثة: أن لا يفسدها بالمن والأذى، وذلك أن الإنسان إذا رأى نفسه محسنا إلى الفقير منعمًا عليه بالإعطاء، ربما حصل منه ذلك، ولو حقق النظر لرأى أن الفقير محسن إليه بقبول حق الله الذي هو طهر له.
وإذا استحضر مع ذلك أن إخراجه للزكاة شكر لنعمة المال، فلا يبقى بينه وبين الفقير معاملة، ولا ينبغي أن يحتقر الفقير لفقره، لأن الفضل ليس بالمال ولا النقص بعدمه.
الرابعة: أن يستصغر العطية، فإن المستعظم للفعل معجب به، وقد قيل: لا يتم المعروف إلا بثلاث: بتصغيره وتعجيله وستره.
الخامسة: أن ينتقي من ماله أحله وأجوده وأحبه إليه، أما الحل فإن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، وأما الأجود فقد قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: 267].
وينبغي أن يلاحظ في ذلك أمرين:
أحدهما: حق الله سبحانه وتعالى بالتعظيم له، فإنه أحق من اختير له، ولو أن الإنسان قدم إلى ضيفه طعامًا رديئًا لأوغر صدره.
والثاني: حق نفسه، فإن الذي يقدمه هو الذي يلقاه غدًا في القيامة، فينبغي أن يختار الأجود لنفسه.
وأما أحبه إليه فلقوله تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران: 92] وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا اشتد حبه لشيء من ماله قربه لله عز وجل، وروي أنه نزل الجحفة وهو شاك فقال: إني لأشتهي حيتانًا، فالتمسوا له، فلم يجدوا إلا حوتا، فأخذته امرأته فصنعته ثم قربته إليه، فأتى مسكين فقال ابن عمر رضي الله عنهما: خذه. فقال له أهله: سبحان الله قد عنيتنا ومعنا زاد نعطيه، فقال: إن عبد الله يحبه، وروي أن سائلا وقف بباب الربيع بن خيثم رحمه الله فقال: أطعموه سكرًا، فإن الربيع يحب السكر.
الوظيفة السادسة: أن يطلب لصدقته من تزكو به نفوسهم، وهم خصوص من عموم الأصناف الثمانية، ولهم صفات:
الأولى: التقوى، فيخص بصدقته المتقين ليصرف همهم إلى الله تعالى، وقد كان عامر بن عبد الله بن الزبير يتخير العباد وهم سجود، فيأتهم بالصرة فيها الدنانير والدراهم فيضعها عند نعالهم بحيث يحسون بها ولا يشعرون بمكانه !
فقيل له: ما يمنعك أن ترسل بها إليهم ؟ فيقول: أكره أن يتمعر وجه أحدهم إذا نظر إلى وجه رسولي أو لقيني.
الصفة الثانية: العلم، فإن في إعطاء العالم إعانته على العلم ونشر الدين، وذلك تقوية للشريعة.
الثالثة: أن يكون ممن يرى الإنعام من الله وحده ولا يلتفت إلى الأسباب إلا بقدر ما ندب إليه من شكرها.
الرابعة: أن يكون صائنًا لفقره، ساترًا لحاجته، كاتمًا للشكوى، كما قال تعالى: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ [البقرة: 273]. وهؤلاء لا يحصون في شبكة الطالب إلا بعد البحث عنهم وسؤال أهل كل محلة عمن هذه صفته.
الخامسة: أن يكون ذا عائلة أو محبوسا لمرض أو دين، فهذا من المحصرين، والتصدق عليه إطلاق لحصره.
السادسة: أن يكون من الأقارب وذوي الأرحام، فإن الصدقة عليهم صدقة وصلة، وكل من جمع من هذه الخلال خلتين أو أكثر، كان إعطاؤه أفضل على قدر ما جمع والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
فصل في آداب القابض للزكاة
لا بد أن يكون آخذ الزكاة من الأصناف الثمانية، وعليه في ذلك وظائف:
الأولى: أن يفهم أن الله تعالى أوجب صرف الزكاة إليه ليكفيه ما أهمه، ويجعل همه هما واحدا في طلب رضا الله عز وجل.
الثانية: أن يشكر المعطي ويدعو له ويثني عليه، ولكن ذلك بمقدار شكر السبب، فإن من لم يشكر الناس لم يشكر الله، كما ورد في الحديث.
ومن تمام الشكر أن لا يحتقر العطاء، وإن قل، ولا يذمه، ويغطي ما فيه من عيب، وكما أن وظيفة المعطي الاستعظام، وكل ذلك لا يناقض روية النعمة من الله، فأما من لا يرى الواسطة واسطة فهو جاهل، وإنما المنكر أن يرى الواسطة أصلا.
الوظيفة الثالثة: أن ينظر فيما يعطاه فإن لم يكن من حل لم يأخذه أصلا، لأن إخراج مال الغير ليس بزكاته، وإن كان من شبهة تورع عنه إلا أن يضيق عليه الأمر، فمن كان أكثر كسبه حرامًا فأخرج الزكاة ولم يعرف لما أخرج مالك معين. كانت الفتوى فيه أن يتصدق به، فيجوز لهذا الفقير أن يأخذ قدر حاجته عند ضيق الأمر عليه وعجزه عن الصافي.
الرابعة: أن يتوقى مواضع الشبه في قدر ما يأخذ القدر المباح له، ولا يأخذ أكثر من حاجته، فإن كان غارمًا لم يزد على مقدار الدين، أو غازيا لم يأخذ إلا مقدار ما يحتاج إليه في غزوه، وإن أخذ بالمسكنة أخذ قدر حاجته دون ما يستغني عنه، وكل ذلك موكول إلى اجتهاده، والورع ترك ما يريب.
واختلف العلماء في قدر الغنى المانع من الزكاة، والصحيح فيه أن يكون له كفاية على الدوام، إما من تجارة أو صناعة أو أجرة عقار أو غير ذلك.
وإن كان له بعض الكفاية أخذ ما يتمها، وإن لم يكن له ذلك أخذ ما يكفيه، وليكن ما يأخذه بقدر ما يكفي سنة ولا يزيد على ذلك.
وإنما اعتبر بالسنة لأنها إذا ذهبت جاء وقت الأخذ وإذا أخذ أكثر منها ضيق على الفقراء. انتهى.
فصل في الحث على الصدقة
قال تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [المنافقون: 10]، وقال: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: 3]، وقال: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ [البقرة: 245].
وقال: ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: 271]، وقال: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: 274]، وقال: ﴿قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ﴾ [إبراهيم: 31]، وقال: ﴿أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [القصص: 54] إلى غير ذلك من الآيات.
وأما الأحاديث، فعن أبي هريرة t قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ قال: يا رسول الله، أي الصدقات أعظم أجرًا؟ قال: «أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان» أخرجاه في الصحيحين.
وروى البخاري من حديث ابن مسعود t قال: قال رسول الله ﷺ: «أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله»؟ قالوا: يا رسول الله، ما منا أحد إلا ماله أحب إليه، قال: «فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر».
وفي الصحيحين من رواية أبي هريرة t أن رسول الله ﷺ قال: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يصعد إلى الله إلا الطيب، فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها، كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل».
وعن أنس بن مالك t قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الصدقة تطفئ غضب الرب، وتدفع ميتة السوء» رواه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب.
وعن أبي سعيد الخدري t قال: قال رسول الله ﷺ: «لأن يتصدق المرء في حياته بدرهم خير له من أن يتصدق بمائة عند موته» رواه أبو داود.
وعن أبي الدرداء t قال: قال رسول الله ﷺ: «مثل الذي يتصدق عند موته أو يعتق كالذي يهدي إذا شبع»، رواه أحمد والنسائي والدرامي والترمذي، وصححه.
وعن أبي ذر قال: انتهيت إلى النبي ﷺ وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني قال: «هم الأخسرون ورب الكعبة». فقلت: فداك أبي وأمي من هم ؟ قال: «هم الأكثرون أموالاً، إلا من قال هكذا وهكذا، من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، وقليل ما هم» متفق عليه.
وعن أبي هريرة t قال: قال رسول الله ﷺ: «لو كان مثل أحد ذهبا لسرني أن لا يمر علي ثلاث ليال وعندي شيء إلا شيء أرصده لدين». رواه البخاري.
وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله ﷺ: «يا ابن آدم إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك ولا تلام على كفاف وابدأ بمن تعول». رواه مسلم.
وعن عائشة رضي الله عنها أنهم ذبحوا شاة فقال النبي ﷺ: «ما بقي منها؟» قالت: ما بقي منها إلا كتفها. قال: «بقي كلها غير كتفيها»، رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
وعن عقبة بن الحارث قال: صليت وراء النبي ﷺ بالمدينة العصر، فسلم ثم قام مسرعا فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه، ففزع الناس من سرعته، فخرج عليهم فرأى أنهم قد عجبوا من سرعته، قال: «ذكرت شيئا من تبر عندنا فكرهت أن يحبسني فأمرت بقسمته» رواه البخاري.
وفي رواية: «كنت خلفت في البيت تبرا من الصدقة فكرهت أن أبيته».
وعن أبي هريرة t رفعه: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمسجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه» رواه البخاري ومسلم، وهذا لفظ البخاري.
فصل في الحث على الصدقة أيضًا
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الصدقة تطفئ غضب الرب، وتدفع ميتة السوء» رواه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب.
عن أنس t قال: سئل النبي ﷺ: أي الصدقة أفضل؟ قال: «صدقة في رمضان» رواه الترمذي، وقال: حديث غريب.
عن عبد الله بن مسعود t قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لا حسد إلا في اثنتين؛ رجل أتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل أتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها» رواه البخاري.
وعن جرير بن عبد الله t قال: كنا عند رسول الله ﷺ في صدر النهار، قال: فجاء قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله ﷺ لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً فأذن وأقام فصلى. ثم خطب فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ إلى آخر الآية ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1]، والآية التي في الحشر: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ [الحشر: 18]. «تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره» حتى قال: «ولو بشق تمرة». قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله ﷺ يتهلل كأنه مذهبة.
فقال رسول الله ﷺ: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» رواه مسلم.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه» رواه مسلم.
وعنه قال: قال رسول الله ﷺ: «يقول العبد: مالي مالي، وإنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فأقنى، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس» رواه مسلم.
وعن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «كل امرئ في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس»، قال يزيد: فكان أبو الخير مرثد لا يخطئه يوم إلا تصدق فيه بشيء ولو بكعكة أو بصلة، رواه أحمد وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم.
وعن معاذ بن جبل قال: كنت مع النبي ﷺ في سفر فذكر الحديث إلى أن قال فيه، ثم قال - يعني النبي ﷺ -: «ألا أدلك على أبواب الخير؟» قلت: بلى يا رسول الله، قال: «الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة، كما يطفئ الماء النار» رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
وعن أبي هريرة t قال: قال رسول الله ﷺ: «بينا رجل في فلاة من الأرض، فسمع صوتًا في سحابة، اسق حديقة فلان، فتنحى ذلك السحاب، فأفرغ ماءه في حرة، فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله، فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقة يحول الماء بمسحاته، فقال له: يا عبد الله، ما اسمك ؟ قال: فلان، للاسم الذي سمع في السحابة، فقال له: يا عبد الله، لم سألتني عن اسمي قال: سمعت في السحاب الذي هذا ماؤه، يقول: اسق حديقة فلان، لاسمك! فما تصنع فيها؟ قال: أما إذ قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثه، وأرد فيها ثلثه». رواه مسلم.
وعن الحسن t قال: قال رسول الله ﷺ، فيما يروي عن ربه عز وجل أنه يقول: «يا ابن آدم افرغ من كنزك عندي ولا حرق ولا غرق ولا سرق أوفيكه أحوج ما تكون إليه» رواه الطبراني والبيهقي، وقال: هذا مرسل. وقد روينا عن ابن عمر عن النبي ﷺ أنه قال: «إن الله إذا استودع شيئا حفظه».
وروي عن ميمونة بنت سعد أنها قالت: يا رسول الله أفتنا عن الصدقة ؟ فقال: «إنها حجاب من النار لمن احتسبها يبتغي بها وجه الله عز وجل» رواه الطبراني.
وعن أبي أمامة t قال: قال رسول الله ﷺ «صنائع المعروف تقي مصارع السوء وصدقة السر تطفئ غضب الرب وصلة الرحم تزيد في العمر» رواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن.
وروي عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: «صنائع المعروف تقي مصارع السوء والصدقة خفيًا تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر، وكل معروف صدقة، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، وأهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخرة، وأول من يدخل الجنة أهل المعروف» رواه الطبراني في الأوسط.
وعن أبي ذر t أن النبي ﷺ قال: «ثلاثة يحبهم الله، وثلاثة يبغضهم الله، فأما الذين يحبهم: فرجل أتى قومًا فسألهم بالله، ولم يسألهم بقرابة بينهم وبينه فمنعوه فتخلف رجل بأعقابهم فأعطاه سرًا لا يعلم بعطيته إلا الله والذي أعطاه...» الحديث. رواه أبو داود، وابن خزيمة في صحيحه، واللفظ لهما إلا ابن خزيمة لم يقل: «فمنعوه»، والنسائي والترمذي ذكره في باب كلام الحور العين.
فصل الترهيب من المسألة مع الغنى
عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله ﷺ: «إنما المسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه، فمن شاء أبقى على وجهه، ومن شاء تركه إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان أو في أمر لا يجد منه بدًا» رواه أبو داود والترمذي والنسائي.
وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: «من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح». قيل: يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: «خمسون درهما أو قيمتها من الذهب» رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي.
وعن سهب بن الحنظلية قال: قال رسول الله ﷺ: «من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار»، قال النفيلي، وهو أحد رواته في موضع آخر: وما الغنى الذي لا ينبغي معه المسألة؟ قال: قدر ما يغديه ويعشيه، وقال في موضع آخر: أن يكون له شبع يوم وليلة، رواه أبو داود.
وعن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد قال: قال رسول الله ﷺ: «من سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافًا» رواه مالك وأبو داود والنسائي.
وعن حبشي بن جنادة قال: قال رسول الله ﷺ: «إن المسألة لا تحل لغني ولا لذي مرة سوي إلا لذي فقر مدقع أو غرم مفظع، ومن سأل الناس ليثري به ماله كان خموشًا في وجه يوم القيامة، ورضفا يأكله من جهنم، فمن شاء فليقلل ومن شاء فليكثر» رواه الترمذي.
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: «من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالله أوشك الله له بالغنى: إما بموت عاجل أو غنى آجل» رواه أبو داود والترمذي.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: «لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مزعة لحم» رواه البخاري ومسلم والنسائي.
وعن أنس أن رجلاً من الأنصار أتى النبي ﷺ يسأله، فقال: «أما في بيتك شيء؟» فقال: بلى حلس نلبس بعضه، ونبسط بعضه، وقعب نشرب فيه من الماء، قال: «ائتني بهما» فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله ﷺ بيده، وقال: «من يشتري هذين؟» قال رجل: أنا آخذهما بدرهم، وقال ﷺ: «من يزيد على درهم»؟ مرتين أو ثلاثًا قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين. فأعطاهما إياه، فأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري، وقال: «اشتر بأحدهما طعامًا فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدوما فأتني به، فشد فيه رسول الله ﷺ عودا بيده، ثم قال: اذهب فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يومًا».
فذهب الرجل يحتبط ويبيع، فجاءه وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبًا وببعضها طعامًا، فقال رسول الله ﷺ: «هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع» رواه أبو داود وروى ابن ماجه: إلى يوم القيامة.
وعن ثوبان t قال: قال رسول الله ﷺ: «من يتكفل لي أن لا يسأل الناس شيئًا وأتكفل له بالجنة؟» فقلت: أنا. فكان لا يسأل أحدًا شيئا، رواه أبو داود بإسناد صحيح.
وعن أبي هريرة t قال: قال رسول الله ﷺ: «من سأل الناس تكثرًا فإنما يسأل جمرًا، فليستقل أو ليستكثر» رواه مسلم وابن ماجه.
وعن علي t قال: قال رسول الله ﷺ: «من سأل الناس عن ظهر غنى استكثر به من رضف جهنم!» قالوا: وما ظهر غنى ؟ قال: عشاء ليلة، رواه عبد الله بن أحمد في زوائده على المسند، والطبراني في الأوسط، وإسناده جيد، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
فصل في الترهيب من المسألة
عن حكيم بن حزام t قال: سألت رسول الله ﷺ فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: «يا حكيم، إن هذا المال خضر حلو، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى».
قال حكيم: فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدًا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا، فكان أبو بكر t يدعو حكيمًا ليعطيه العطاء فيأبى أن يقبل منه شيئا، ثم إن عمر t دعاه ليعطيه فأبى أن يقبله فقال: يا معشر المسلمين أشهدكم على حكيم أني أعرض عليه حقه الذي قسم الله له في هذا الفيء فيأبى أن يأخذه، ولم يرزأ حكيم أحدًا من الناس بعد النبي ﷺ حتى توفي رضي الله عنه، رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي باختصار.
وعن الزبير بن العوام t قال: قال رسول الله ﷺ: «لأن يأخذ أحدكم أحبله فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبعها فيكف بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أم منعوه» رواه البخاري وابن ماجه وغيرهما.
وعن أبي هريرة t قال: قال رسول الله ﷺ: «لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحدًا فيعطيه أو يمنعه» رواه مالك والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي.
وعن أسلم قال: قال لي عبد الله بن الأرقم: أدللني على بعير من العطايا أستحمل عليه أمير المؤمنين. قلت: نعم من إبل الصدقة، فقال عبد الله بن الأرقم: أتحب لو أن رجلا بادنًا في يوم حار غسل ما تحت إزاره ورفغيه ثم أعطاكه فشربته؟ قال: فغضبت وقلت: يغفر الله لك، لم تقول مثل هذا لي ؟ قال: فإنما الصدقة أوساخ الناس يغسلونها عنهم. رواه مالك.
وعن عمر بن الخطاب t أنه دخل على النبي ﷺ فقال: يا رسول الله رأيت فلانًا يشكر ذكر أنك أعطيته دينارين: فقال رسول الله ﷺ: «لكن فلانًا قد أعطيته ما بين العشرة إلى المائة فما شكره وما يقوله؟ إن أحدكم ليخرج من عندي بحاجته متأبطها وما هي إلا النار» قال: قلت: يا رسول الله لم تعطيهم ؟ قال: «يأبون إلا أن يسألوني، ويأبى الله لي البخل» رواه ابن حبان في صحيحه.
وعن أبي سعيد الخدري t قال: بينما رسول الله ﷺ يقسم ذهبًا إذ أتاه رجل فقال لرسول الله: أعطني فأعطاه، ثم قال: زدني فزاده ثلاث مرات، ثم ولى مدبرًا فقال رسول الله ﷺ : «يأتني الرجل فيسألني فأعطيه ثم يسألني فأعطيه ثلاث مرات ثم ولى مدبرًا وقد جعل في ثوبه نارًا إذا انقلب إلى أهله»، رواه ابن حبان في صحيحه.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الرجل يأتيني فيسألني فأعطيه فينطلق، وما يحمل في حضنه إلا النار». رواه ابن حبان في صحيحه.
وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ: «إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أعطيناه منها شيئا بطيب نفس منا وحسن طعمة منه من غير شره نفس بورك له فيه، ومن أعطيناه منها شيئا بغير طيب نفس منا وحسن طعمة منه وشره نفس كان غير مبارك له فيه». رواه ابن حبان في صحيحه، وروى أحمد والبزار منه الشطر الأخير بنحوه بإسناد حسن.
وعن معاوية بن أبي سفيان t قال: قال رسول الله ﷺ: «لا تلحفوا في المسألة فوالله لا يسألني أحد منكم شيئا فتخرج له مسألته مني شيئا وأنا له كاره فيبارك له فيما أعطيته»، رواه مسلم والنسائي والحاكم، وقال: صحيح على شرطهما.
وفي رواية لمسلم قال: وسمعت رسول الله ﷺ يقول: «إنما أنا خازن، فمن أعطيته عن طيب نفس فمبارك له فيه، ومن أعطيته عن مسألة وشره نفس كان كالذي يأكل ولا يشبع».
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: «لا تلحفوا في المسألة، فإنه من يستخرج منها شيئا بها لم يبارك له فيه» رواه أبو يعلى ورواته محتج بهم في الصحيح.
باب صدقة الفطر
زكاة الفطر صدقة واجبة بالفطر من رمضان، لما روى ابن عمر أن رسول الله ﷺ فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس صاعًا من تمر أو صاعًا من إقط أو صاعًا من شعير على كل حر وعبد، ذكر وأنثى من المسلمين، متفق عليه، وللبخاري: «والصغير والكبير من المسلمين».
وعنه أن رسول الله ﷺ أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة.
وعن أبي سعيد الخدري قال: كنا نخرج زكاة الفطر صاعًا من طعام أو صاعًا من شعير أو صاعًا من تمر أو صاعًا من إقط أو صاعًا من زبيب، متفق عليهما.
قال سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز في قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾ [الأعلى: 14]، هو زكاة الفطر، وأضيفت هذه الزكاة إلى الفطر لأنها تجب بالفطر من رمضان، وهذه يراد بها الصدقة عن البدن والنفس، كما كانت الأولى صدقة عن المال.
ومصرفها كزكاة المال لعموم: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ﴾ [التوبة: 60] الآية، ولا يمنع وجوبها دين إلا مع طلب، وهي واجبة على كل حر وعبد ذكر وأنثى من المسلمين فضل له عن قوته ومن تلزمه مؤنته يوم العيد وليلته صاع، لأن النفقة أهم فيجب البداءة بها لقوله ﷺ: «ابدأ بنفسك» رواه مسلم، وفي رواية: «وابدأ بمن تعول» رواه الترمذي.
ويعتبر كون ذلك الصاع فاضلاً عما يحتاجه لنفسه ولمن تلزمه مؤنته من مسكن وخادم ودابة وثياب بذلة ونحوه وكتب يحتاجها لنظر وحفظ، لأن هذه حوائج أصلية يحتاج إليها كالنفقة، وتلزمه عن فسه وعن من يمونه من المسلمين كزوجة عبد وولد.
لعموم حديث ابن عمر: أمر رسول الله ﷺ بصدقة الفطر عن الصغير والكبير والحر والعبد ممن تمونون. رواه الدارقطني.
فإن لم يجد لجميعهم بدأ بنفسه فزوجته فرقيقه فأمه فأبيه فولده فأقرب في ميراث ويقرع مع الاستواء.
أما دليل البداءة بالنفس فلحديث: ابدأ بنفسك ثم بمن تعول.
وأما الزوجة فلوجوب نفقتها مع الإيسار والإعسار، لأنها على سبيل المعاوضة.
وأما الرقيق فلوجوب نفقته مع الإعسار بخلاف الأقارب، لأنها صلة تجب مع الإيسار دون الإعسار.
وأما الأم فلقوله ﷺ للأعرابي حين قال له: من أبر ؟ قال: «أمك». قال: ثم من ؟ قال: «أمك»، قال: ثم من ؟ قال: «أمك». قال: ثم من ؟ قال: «أباك»، ولأنها ضعيفة عن الكسب.
وأما الأب فلما سبق، وحديث «أنت ومالك لأبيك»، وأما الولد فلقربه ووجوب نفقته في الجملة.
وأما الأقرب في الميراث فلأنه أولى من غيره كالميراث، وتسن عن الجنين لفعل عثمان t، وعن أبي قلابة قال: كان يعجبهم أن يعطوا زكاة الفطر عن الصغير والكبير، حتى عن الحمل في بطن أمه. قال ابن المنذر كل من نحفظ عنه لا يوجبها عن الجنين.
وتجب على اليتيم ويخرج عنه وليه من ماله، ولا يلزم الزوج فطرة زوجة ناشز وقت الوجوب.
ولا يلزم الزوج فطرة من لا تلزمه نفقتها كغير المدخول بها إذا لم تسلم إليه والصغيرة التي لا يمكن الاستمتاع بها.
ومن لزم غيره فطرته كالزوجة فأخرجه عن نفسه بغير إذن من وجبت عليه أجزأ.
وتجب زكاة الفطر بغروب شمس ليلة الفطر لقول ابن عباس: فرض رسول الله ﷺ صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، رواه أبو داود والحاكم، وقال: على شرط البخاري، فأضاف الصدقة إلى الفطر فكانت واجبة به، لأن الإضافة تقتضي الاختصاص، وأول فطر يقع من جميع رمضان بمغيب الشمس من ليلة الفطر.
فمن أسلم بعد الغروب أو تزوج بعده أو ولد له بعده أو ملك عبدًا بعده وكان معسرًا ثم أيسر بعد الغروب فلا فطرة.
وإن وجد ذلك بأن أسلم أو تزوج أو ولد له ولد أو ملك عبدًا أو أيسر قبل الغروب وجبت الفطرة لوجود السبب، فالاعتبار بحال الوجوب.
وإن مات قبل الغروب هو أو زوجته أو رقيقه أو قريبه أو نحوه أو أعسر أو أبان الزوجة أو أعتق العبد أو باعه أو وهبه لم تجب الفطرة لما تقدم ولا تسقط الفطرة بعد وجوبها بموت ولا غيره، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
فصل في صدقة الفطر
والأفضل إخراجها يوم العيد قبل الصلاة لما في المتفق عليه من حديث ابن عمر مرفوعًا وفي آخره وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة، وفي حديث ابن عباس من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات.
وقال سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز في قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾ [الأعلى: 14، 15] هو زكاة الفطر.
وتكره بعدها خروجًا من الخلاف، ولقوله ﷺ: «أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم». رواه سعيد بن منصور، فإذا أخرها بعد الصلاة لم يحصل الإغناء لهم في اليوم كله.
ويحرم تأخيرها عن يوم العيد مع القدرة، لأنه تأخير للحق الواجب عن وقته، وكان عليه الصلاة والسلام يقسمها بين مستحقيها بعد الصلاة، فدل على أن الأمر بتقديمها على الصلاة للاستحباب ويقضيها من أخرها، لأنه حق مالي وجب، فلا يسقط بفوات وقته كالدين.
وتجزئ قبل العيد بيومين لقول ابن عمر: كانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين، رواه البخاري وهذا إشارة على جميعهم، فيكون إجماعًا، ولأن ذلك لا يخل بالمقصود، إذ الظاهر بقاؤها أو بعضها إلى يوم العيد.
ومن وجب عليه فطرة غيره أخرجها مع فطرته مكان نفسه، لأنها طهرة له بخلاف زكاة فهي تخرج في البلد الذي فيه المال وتقدم.
وفطرة من بعضه حر وبعضه رقيق، وفطرة قن مشترك وفطرة من له أكثر من وارث أو ملحق بأكثر من واحد تقسط.
ومن عجز منهم لم يلزم الآخر سوى قسطه.
والواجب عن كل شخص صاع بر أو مثل مكيله من تمر أو زبيب أو إقط، لحديث أبي سعيد: كنا نخرج الفطر، إذ كان فينا رسول الله ﷺ، صاعًا من طعام، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من زبيب، أو صاعًا من إقط، متفق عليه.
ويجزئ دقيق البر والشعير إذا كان وزن الحب، نص عليه، واحتج على إجزائه بزيادة تفرد بها ابن عيينة من حديث أبي سعيد، أو صاعًا من دقيق، قيل لابن عيينة: إن أحدًا لا يذكره فيه، قال: بل هو فيه، رواه الدارقطني.
قال المجد: بل هو أولى بالإجزاء، لأنه كفي مؤنته كتمر منزوع نواه، ويخرج مع عدم ذلك ما يقوم مقامه من حب يقتات به كذرة، ودخن، وباقلاء، لأنه أشبه المنصوص عليه فكان أولى.
ويجوز أن يعطي الجماعة فطرهم لواحد، نص عليه، وبه قال مالك وأصحاب الرأي وابن المنذر.
وأن يعطي الواحد فطرته لجماعة، قال في الشرح: لا نعلم فيه خلافًا.
ولا يجزئ إخراج القيمة في الزكاة مطلقًا، سواء كانت في المواشي أو المعشرات لمخالفته النصوص.
ويحرم على الشخص شراء زكاته وصدقته، ولو اشتراها من غير من أخذها، لحديث عمر: لا تشتره ولا تعد في صدقتك وإن أعطاكه بدرهم، فإن العائد في صدقته كالعائد في قيئه، متفق عليه.
ويجزئ إخراج صاع مجموع من تمر وزبيب وبر وشعير وإقط، كما لو كان خالصا من أحدها.
ولا يجزئ إخراج خبز لخروجه عن الكيل والادخار، ولا يجزئ إخراج معيب كمسوس ومبلول وقديم تغير طعمه ولا مختلط بأكثر مما لا يجزئ.
والأفضل تمر لفعل ابن عمر، قال نافع: كان ابن عمر يعطي التمر إلا عامًا واحدًا أعوز التمر، فأعطى الشعير، رواه أحمد والبخاري.
وقال أبو مجلز: إن الله قد أوسع والبر أفضل، فقال: إن أصحابي سلكوا طريقًا فأنا أحب أن أسلكه، رواه أحمد واحتج به، وظاهره إن جماعة الصحابة كانوا يخرجون التمر ولأنه قوت، وأقرب تناولا، وأقل كلفة.
ويليه في الأفضلية الزبيب، لأن فيه قوتًا وحلاوة وقلة كلفة، ثم البر لأن القياس تقديمه على الكل، لكن ترك اقتداء بالصحابة في التمر وما شاركه في المعنى وهو الزبيب، ثم الأنفع في الاقتيات ودفع حاجة الفقير، ثم شعير ثم دقيق بر ثم دقيق شعير، ثم سويقهما ثم إقط.
والأفضل أن لا ينقص معطى من فطرة عن مد بر أو نصف صاع من غيره ليغنيه عن السؤال في ذلك اليوم، ولفقير إخراج فطرة وزكاة عن نفسه إلى من أخذتا منه، لأنه رد بسبب متجدد أشبه ما لو عادت إليه بميراث ما لم يكن حيلة، كأن يشترط عليه عند الإعطاء أن يردها إليه عن نفسه.
وللإمام ونائبه رد زكاة وفطرة إلى من أخذتا منه إذا لم يكن له قدر كفايته.
هذا آخر ما تيسر جمعه مما يتعلق بالزكاة ونختمه بما نقدر على جمعه ونستحضره من الفوائد المترتبة على بذل الصدقات والمضار المترتبة على منع الزكاة، والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم.
فصل فيما يتعلق بالزكاة من الفوائد وما يتعلق بمنعها من المضار
1- امتثال أمر الله ورسوله.
2- تقديم ما يحبه الله على محبة المال.
3- أن الصدقة برهان على إيمان صاحبها، كما في الحديث «والصدقة برهان».
4- شكر نعمة المتفضل على المخرج بهذا المال.
5- السلامة من وبال المال في الآخرة.
6- تنمية الأخلاق الحسنة والأعمال الصالحة.
7- التطهير من دنس الذنوب والأخلاق الرذيلة. قال تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ [التوبة: 103].
8- إضعاف مادة الحسد والحقد والبغض أو قطعها كليا.
9- تحصين المال وحفظه لحديث: «حصنوا أموالكم بالزكاة».
10- أن الصدقة دواء من الأمراض لحديث: «داووا مرضاكم بالصدقة».
11- الاتصاف بأوصاف الكرماء.
12- التمرن على البذل والعطاء.
13- أنها سبب لدفع البلاء والأسقام، لحديث: «باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطاها».
14- أنها سبب لجلب المودة، لأنها إحسان، والنفوس مجبولة على محبة من أحسن إليها.
15- أنها سبب للدعاء من الممتثلين لقوله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: 103]، وكان ﷺ إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: «اللهم صل على آل فلان».
16- أن منعها سبب لمنع القطر لحديث: «ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر».
17- الابتعاد عن الشح والبخل والفوز بالفلاح قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: 9].
18- أنها تدفع ميتة السوء كما في الحديث أن الصدقة تطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء.
19- أن المتصدق يكون في ظل الله يوم القيامة كما في حديث: «سبعة يظلهم الله في ظله...» إلخ. وفي الحديث الآخر: «وإنما يستظل المؤمن يوم القيامة في ظل صدقته».
20- الفوز بالثناء من الله، لأن الله مدح المنفقين والمتصدقين.
21- 22-23- الفوز بالأجر من الله، والأمن من الخوف والحزن، كما في الآية: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: 274].
24- أن أداء الزكاة سبب لنزول القطر، كما أن منعها سبب لحبسه.
25-أنها سبب لمحبة الله، لأن الصدقة إحسان إلى المتصدق عليه، والله يحب المحسنين.
26- السلامة من كفر نعمة الله.
27- الخروج من حقوق الله وحقوق الضعفاء.
28-29-30- أنها سبب للرزق والنصر والجبر، كما في الحديث: «وكثرة الصدقة في السر والعلانية ترزقوا وتنصروا وتجبروا».
31- أنها تطفئ عن أهلها حر القبور، كما في الحديث: «أن الصدقة لتطفئ عن أهلها حر القبور».
32- أنها تزيد في العمر كما في الحديث: «أن صدقة المسلم تزيد في العمر».
33- السلامة من اللعن الوارد في مانع الزكاة.
34- الفوز بالقرب من رحمة الله. قال تعالى: ﴿إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف: 56]، وقال عن رحمته تعالى: ﴿فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ... ﴾ [الأعراف: 156] الآية.
35- الوعد بالخلف للمنفق لحديث: «اللهم أعط منفقًا خلفًا».
36- أن في إخراج الزكاة حل للأزمات الاقتصادية وسوء الحالة الاجتماعية فلو أن أهل الأموال الزكوية تنسخوا منها ووضعوها في مواضعها لقامت المصالح الدينية والدنيوية، وزالت الضرورات واندفعت شرور الفقراء، وكان ذلك أعظم حاجز وسد يمنع عبث المفسدين، وفي الحديث: «واتقوا الشح فإنه أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم».
37- أن الله يعين المتصدق على الطاعة، ويهيئ له طرق السداد والرشاد، ويذلل له سبيل السعادة، قال تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ... ﴾ [الليل: 5- 7] إلخ.
38- 39- أن الصدقة يذهب الله بها الكبر والفخر، كما في الحديث.
40- أن الزكاة إذا خالطت المال تفسده، كما ورد بذلك الحديث المتقدم.
41- أن منع الزكاة سبب للابتلاء بالسنين كما في الحديث، قال: قال رسول الله ﷺ: «ما منع قوم الزكاة إلا ابتلاهم الله بالسنين»، رواه الطبراني في الأوسط ورواته ثقات.
42- أن من لم يؤد حق الله في ماله أنه أحد الثلاثة الذين هم أول من يدخل النار، لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «عرض علي أول ثلاثة يدخلون الجنة، وأول ثلاثة يدخلون النار، فأما أول ثلاثة يدخلون الجنة: فالشهيد، وعبد مملوك أحسن عبادة ربه ونصح لسيده، وعفيف متعفف ذو عيال، وأما أول ثلاثة يدخلون النار: فأمير مسلط، وذو ثروة من مال لا يؤدي حق الله في ماله، وفقير فخور» رواه ابن خزيمة في صحيحه،
43-44- أن الصدقة تزيد في العمر وتمنع ميتة السوء، لحديث: «إن صدقة المسلم تزيد في العمر وتمنع ميتة السوء».
45- السلامة من التطويق بالشجاع الأقرع كما في الحديث «ما من أحد لا يؤدي زكاة ماله إلا مثل له يوم القيامة شجاعًا أقرع يطوق به عنقه».
46- السلامة من صفة المنافقين لما في الحديث: «ظهرت لهم الصلاة فقبلوها، وخفيت لهم الزكاة فأكلوها، أولئك هم المنافقون». رواه البزار.
47-48- أن البلاء لا يتخطى الصدقة، وأنها تسد سبعين بابا من السوء، لما ورد عن رافع بن خديج قال: قال رسول الله ﷺ: «الصدقة تسد سبعين بابًا من السوء» رواه الطبراني في الكبير، وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: «باكروا بالصدقة، فإن البلاء لا يتخطاها»، رواه البيهقي مرفوعًا وموقوفًا على أنس.
49- أن الصدقة حجاب من النار لمن احتسبها لما ورد عن ميمونة بنت سعد أنها قالت: يا رسول الله أفتنا عن الصدقة، فقال: «إنها حجاب من النار لمن احتسبها، يبتغي بها وجه الله عز وجل». رواه الطبراني.
50- أن الله يسخر للمتصدق ما يكون سببا لنمو ماله كبركة في ماء نهر وسقي أرض، كما ورد عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله ﷺ: «بينما رجل في فلاة من الأرض، فسمع صوتًا في سحابة، اسق حديقة فلان، فتنحى ذلك السحاب، فأفرغ ماءه في حرة، فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله، فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقة يحول الماء بمسحاته، فقال له: يا عبد الله، ما اسمك؟ قال: فلان، للاسم الذي سمع في السحابة، فقال له: يا عبد الله، لم سألتني عن اسمي قال: سمعت في السحاب الذي هذا ماؤه، يقول: اسق حديقة فلان لاسمك! فما تصنع فيها؟ قال: أما إذ قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثه، وأرد فيها ثلثه». رواه مسلم.
51-أن الصدقة لا تنقص المال خلافاً لما يظنه بعض الجهال، لحديث أبي هريرة t أن رسول الله ﷺ قال: «ما نقصت صدقة من مال» الحديث رواه مسلم.
52- أن المصدقين يضاعف لهم ثواب أعمالهم، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى حيث شاء الله عز وجل. قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ [الحديد: 18].
53- أن الصدقة تطفئ غضب الرب عز وجل، كما في الحديث: «إن الصدقة لتطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء» رواه الترمذي.
54- أن منع الصدقات سبب لزوال النعم ويخرب الديار، وتأمل قصة أصحاب الجنة في سورة «ن» والقلم، وما يسطرون وقصة ثعلبة في سورة التوبة آية 75.
انتهى هذا المجموع في ضحوة الأربعاء الموافق 24/3/1383 من هجرة سيدنا محمد ﷺ والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
اللهم اجعله خالصًا لوجهك الكريم، وانفع به من قرأه، وسمعه، إنك على كل شيء قدير، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
عبد العزيز المحمد السلمان