الإيمان والأخلاق
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
الإيمان والأخلاق
ميادة بنت كامل آل ماضي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي شرع لنا من الدين ما وصى به نوحاً، والذي أوحى إلى عبده ورسوله محمد خاتم المرسلين وما حيّ به إبراهيم وموسى وعيسى. (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ).
الحمد الله الذي أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام دينا.
الحمد لله ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ أرسله على حين فترة من الرسل، وحاجة من البشر أيقظ به العقول من سباتها، وصرف به النفوس عن أهوائها، فكان - رضي الله عنه - بإذن ربه مصدر خير، ومبعث نور، وشمس هداية، فصلوات الله وسلامه وبركاته عليه حياً وميتا، وأفضل صلاة، وأطيب سلام وأزكى بركة، رفع في أعلى عليين درجته، وصلي ورضي على آله وأصحابه وورثة هدية.
أما بعد: أخواتي...
بما أن الناس اعتادوا في مطلع كل عام هجري جديد أن يتبادلوا التهاني والتبريكات، والدعوات الصادقات، بأن يجعله عاما مباركا مليئا بالطاعات، واعتاد الدعاة أن تكون لهم وقفات، فمنهم من يؤثر الوقفات مع النفس، لإعادة الحسابات، ومنهم من يذكر بهجرة الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلوات، ويأخذ منها العبر والعظات. وحين تأملت هذه السيرة العطرة وكنت – ولا أزال – يحرزنني حال المسلمين والمسلمات، وأقف متعجبة من تهالك الكثير على مغريات الدنيا والماديات، حيث استحكمت الأهواء والفتن والجهالات التي زينت الباطل أخدع الزينة، وشوهت الحق أقبح تشويه، وامتد حبل هذه الأهواء والفتن حتى صاد الشيطان كل القلوب إلا من شاء الله. من الذين ليس له عليهم سلطان من عباد الله المخلصين.
* أما تعجبين!! حين تجلس كثير من المؤمنات الصادقات العفيفات في حلق الذكر والهداية والعلم في كثير من دور القرآن والمساجد والمؤسسات، ثم لا تجدين أثرا عمليا واقعيا لهذا الحضور في التعاملات واللقاءات والبيوتات!
* أما تعجبين: إذا نظرت إلى عالم اليوم حيث الشبهات تغلبه وتعمه، وأما الشهوات فحدثي ولا حرج عن انتشار التبرج والسفور وقلة الحياء، وكثرة تفكك الترابط الأسري، وكثرة حالات الطلاق، وانتشار الأمراض المعدية، والأمراض النفسية، والسحر، إضافة إلى انتشار المعاملات الربوية التي تئن تحت وطئتها شعوب كثيرة وتنهار أمام جبروتها مؤسسات ودول في مناطق عديدة من العالم!!.
* أما تعجبين: أن تسمعي كلاماً قبيحاً يفطر قلبك ويخدش حياءك من مسلمة تتردد كل يوم على حلق التحفيظ حافظة أو معلمة؟!!
* أما تعجبين: من قاطعة لرحمها أو متكبرة على أخواتها وأقاربها وجيرانها، مع أنها خاتمة لكتاب الله داعية إلى دينه وشرعه؟!!
* أما تعجبين: من قوامة ليل صوامة نهار يشتكي زوجها سوء خلقها وقبيح عبارتها؟!!
* أما تعجبين: ممن رضيت لنفسها ذاك الحجاب الشرعي الساتر لسائر جسمها يصون عفتها وكرامتها، ثم لم يترك ذلك الحجاب أثرا على سلوكها فأطلقت لسانها سافراً خائضا في غيبة هذه، وقذف تلك؟!!
* أما تعجبين: ممن اتخذت دينها فخراً وتطاولاً على مسلمات مثلها نقص إيمانهن ببعض المعاصي، فرأت لنفسها الكمال وجردت ألفاظها في الاستهزاء من أخواتها المسلمات؟!!
* أما تعجبين: ممن تصبر على مشقة الحج والعمرة كل عام، ثم هي تقف بالمرصاد لكل هفوة لا تعفو عن الخطايا والزلات، يشتد غضبها ويعلو صراخها عند أدنى وأقل زلة؟!!
أما تعجبين: وتتأوهين وتنسكب دموعك حرى من أخطاء وسلوكيات قد يغض الطرف عنها إن كانت من المبتعدات عن شرع الله، أما وأن تصدر ممن يحسبن من أهل الخير والصلاح فذاك عظيم وكبير.
ومن هنا:
كان لزاما أن نقف وقفة صدق مع فهم صحيح لهذا الدين القويم، ولهذه الشريعة الغراء، ولو قارنا بين التعاليم الإسلامية وبين الأخيار من المسلمين والمسلمات في عصرنا لوجدنا بونا شاسعاً وفرقا كبيراً لا سيما في الأخلاق، والآداب، والمعاملات، وسبب ذلك يرجع إلى جهل كثير من المسلمين بإسلامهم، واقتصارهم منه على أداء الأركان الكبرى جسداً (عملا وفهماً)، لا وتركهم تدبر وفهم مقاصد هذه الأركان التي هي من صلب دينهم ومن أسس تعليمه.
أخواتي الحبيبات:
ومن هنا كانت وقفتي معكم مع إطلالة هذا العام،الذي أسال المولى القدير أن يجعله عام خير لنا أجمعين وقفة مع الإيمان والأخلاق.
لماذا الأخلاق؟
وما القيمة التي تضيفها الأخلاق لنا؟!!
كيف نرسخ في أنفسنا خلقا من الأخلاق؟
كيف نتخلق به وكيف ننميه؟
وكيف يكون خلقاً دائما لنا في سلوكنا وحياتنا؟
اعلمي:
أن النبع الأساسي الذي يزودك الأخلاق الإسلامية العظيمة إنما هو الإيمان، وحتى ندرك أهمية هذا الأسبوع وأن الإيمان لا يفصل بتاتا عن الأخلاق، سنقف مع أربع وقفات مهمات.
الوقفة الأولى: مع العبادات
تعجبين أن بعض المسلمين ظن أن العبادات أولى من الأخلاق، بل تعجبين حين فصل البعض بين الأخلاق وبين العبادات، فظهرت سلوكيات خاطئة تركت آثارها السيئة في المجتمعات الإسلامية، مما دفع منافقي هذه الأمة وأعداءها من اليهود والنصارى لترويج شائعات ترددت كثيراً على ألسنة كثير من الناس وهي: أن الغرب أحسن أخلاقاً منا في تعاملهم وأخلاقهم وبيعهم وشرائهم، بينما تجد الغش والكذب والنفاق والحلف الكاذب لبيع سلعة منتشراً بين صفوف المسلمين.
ويرد على هذه الفرية فضيلة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله فيقول: (إنهم وإن نصحوا فيما ينصحون فيه من البيع والشراء، فليس لأنهم ذوو أخلاق وإنما لأنهم عباد مادة، والإنسان كلما كان أنصح في معاملة من هذه المعاملات الدنيوية كان الناس إليه أقبل، فهم لا يفعلون ذلك لأنهم كاملو الأخلاق، لكن لأنهم أصحاب مادة. ويرون أن من أكبر الدعايات لتنمية أموالهم أن يحسنوا المعاملة. وإلا فهم كما وصفهم الله عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ﴾ . ولا أظن أحدا أصدق وصفا من وصف الله عز وجل للكافرين فإنهم شر البر، وكيف يرجى خير من قوم وصفهم الله بأنهم شر البرية.
أما النسبة لما وقع مع كثير من المسلمين من الغش، والكذب، والخيانة، وعدم الوفاء، فإن هؤلاء المسلمين نقصوا من إسلامهم وإيمانهم بقد ما خالفوا الشريعة فيه من هذه المعاملات.
ولا يعني ذلك النقص في الشريعة نفسها، فالشريعة كاملة، وهؤلاء الذين أساؤوا إلى شريعة الإسلام ثم إلى إخوانهم من المسلمين، ثم إلى من يعاملونهم من غير المسلمين هؤلاء إنما أساؤوا إلى أنفسهم فقط.
إذا لابد أن نبين للناس أن كمال الدين بكمال الخلق، وكل من كان ناقص الخلق فهو ناقص الدين.
لا تعجبي إذا إن علمت أن كثيرا من العبادات قد تصبح لا قيمة لها في موازينك! أو قد تصبح تمارين جوفاء إن هي لم تقوم أخلاقك، وتسدد أقوالك، وتهدب سلوكك، وإلى مزيد إيضاح وبيان.
أولاً: ما هو أول ركن من أركان الإسلام بعد الشهادة؟ وأول ما يحاسب عليه المرء؟
الصلاة:
ماذا يقول سبحانه عنه: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ فهل تأمر الصلاة وتنهي عن الفحشاء والمنكر؟!! لا، ولكنه تمثيل رائع لأن من صلت ولم تنته عن الفحش والمنكرات، فلا تزيدها صلاتها إلا بعدا عن الله، لأنها حينئذ تكون مصيدة للمصالح يخدع بها العباد ليثقوا به فيقابل الثقة بالغش. أما التي تعلم أن الصلاة صلة بينها وبين ربها لأنها في جميع أوقات يومها مع الله ففي بداية نور النهار ومع إطلالة الفجر تستقبل المصلية نهارها بذكر الله والصلاة، وتودع نهارها قبل النوم بالصلاة، فيظل ضميرها متجدداً، ويظل صوت الصلاة في أذنيها يذكرها أنه من العيب حقا أن تنتقل من بين يدي الله لتؤذي هذه بلسانها وتلمز هذه بعينها.
إذن الصلاة تربي الإنسان خلقيا، وعقليا، فهي تربط الإنسان بالله كما أنها تقوي إرادته وتعوده على ضبط النفس، والصبر، والمثابرة، وكان من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في افتتاح الصلاة: «اللهم أهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت».
ثانياً: الزكاة والصدقة:
﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ الزكاة والصدقة تزكي النفس، والتزكية أصلها النماء والزيادة، وبذلك تعني الزكاة التربية على حسن الخلق، إذا الزكاة تتصل بالخلق، وحين تتصدقين تتعلمين الرحمة فترحمين الضعيف والمسكين والأرملة، وفي هذا الباب أحاديث كثيرة لكفالة اليتيم، والقيام على شأن الأرامل ورحمة المساكين وإغاثة الملهوف، وتتعلمين الكرم وتتركين الكبر، هذا من حيث الصدقة المالية.
ثم هناك صدقات أخلاقية قد تعادل صدقات الأموال، فمن لم يجد مالا يتصدق به فليتصدق بسلوكيات ومعاملات تحسب له كأجور الصدقات. يقول - صلى الله عليه وسلم - : «تبسمك في وجه أخيك صدقة» فمن لم تجد مالا تتصدق به إذا لتبتسم في وجه أختها.
هذه البسمة الصادقة سوف تثمر؟ رحمة وراحة لكل أخت تبتسم في وجه أختها (تراحم، وراحة).
* يقول - صلى الله عليه وسلم -: «أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة»
* ويقول :«لقمة يضعها الزوج في زوجته صدقة».
* ويقول - صلى الله عليه وسلم - : «إرشادك الرجل في أرض الضلالة صدقة»
وهكذا فالصدقات متنوعة منها ما هو مادي ومنها ما هو معنوي. والأحاديث كثيرة في هذا الباب.
إذا: الزكاة تربية خلقية، فعن طريقها يتعلم الإنسان إطاعة الأوامر الإلهية، ومكافحة الأنانية.
ثالثا: الصيام:
يقول - صلى الله عليه وسلم -: «إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يفسق، ولا يجهل، فإن شاتمه أحد فليقل إني امرؤ صائم» إذا يوم صيامي يوم أخلاقي!! وهذا صحيح، لأنه لا يصح رفع صوت، ولا مجادلة، ولا جهل، لأني امرأة صائمة، وماذا يعني أني صائمة؟ أن صيامي يسمو بأخلاقي الإسلامية. ومن هنا كان الصوم تربية روحية خلقية كذلك، حيث يتعود الإنسان على ضبط نفسه، ومكافحة شهواته، وبذلك تتقوى الإرادة، لذلك كان يقول - صلى الله عليه وسلم - : «إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم».
رابعاً: الحج:
﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ والحج تدريب قاس لأخلاق المسلم. لأن نية الحج تتضمن أن لا يشتم ولا يفسق، حتى كلمة أف قد تكون شتيمة في الحج قد تحتاج لاستغفار وتوبة، أسبوع لنا نحن أهل المملكة وقد يكون شهراً لمن في الخارج منضبطي الأخلاق، وانظري الحكمة من تحديد أيام معلومات يكون فيها 2 مليون، نسمة مع بعضهم البعض، وعليهم أن يكونوا منضبطي الأخلاق، في مسجد نمرة، في عرفة، في مزدلفة، في الرمي، في منى، في الحرم، في السعي، وبعد هذه المدة التي تنضبط فيها أخلاق المسلم سيتعلم أن ينضبط خلقه مع أهله وجيرانه، ومجتمعه وشارعه. وصدق عليه الصلاة والسلام حين قال: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» هذا من حيث العبادات.
أما في فضائل الأعمال فأعلاها:
تلاوة القرآن: كم من الأجور تترتب على تلاوة القرآن؟ ولكن هل يكفي مجرد التلاوة؟ إن من حق القرآن علينا أن نتدبر معانيه، وأن نفهم مقاصده، ففيه ما يدل على هذه الأخلاق وتهذيبها، ويرشد إلى الآداب الإسلامية واكتسابها. ولأهمية الأخلاق في حياة المجتمع المسلم.
1- قدم ربنا سبحانه وتعالى تزكية النفس على العلم فقال جل ثناؤه في - سورة آل عمران: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ الآية. وكذلك في موضعين في الكتاب من سورة البقرة، وسورة الجمعة، وكذلك كانت تزكية النفس ركنا في دعوة أبينا إبراهيم عليه السلام أخبر الله عنه: ﴿وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ أليست التزكية تكون بمكارم الأخلاق والاستقامة على صالحها والتمسك بمعاليها؟.
2- الآية الثانية قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ إذا من مقاصد بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ضبط الأخلاق وإكمال مكارم الأخلاق، فكان يقول عليه الصلاة والسلام : «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»وفي رواية «صالح الأخلاق» فهو إذا مبعوث لخير البشر، ولهداية البشر ولصلاح البشر، ولرحمة البشر، فإذا ساد المجتمع الغفلة، والفواحش، وإضاعة الأمانات، واللهو واللعب، والحقد، والحسد، والقسوة، والكبر، والغضب، والغيظ، والابتداع، والزيغ، وقلة الحياة، وابتاع الهوى، والإسراف، والإمعة، والتنازع، والجدل والمراء، والغيبة، والنميمة، والقدوة السيئة وغير ذلك كما نراه في المجتمعات الحاضرة، فهل يكون في هذا المجتمع رحمة ؟ وهل يكون في هذا المجتمع أمن؟ إذا فلا تكون الرحمة ولا الهداية، ولا صلاح المجتمع إلا بالأخلاق.
تمثلي عمارة انعدمت فيها الثقة وحسن الجوار، وانتشر فيها الحقد، والحسد. تمثلي مدرسة انتشر فيها القدوة السيئة.
وتمثلي مستشفى انتشر فيها تمييع العمل والأنانية، ماذا يحدث؟ تفكك وتصارع وتناهب للمصالح ثم الانهيار والدمار. لن تستطيع الأمة أن ترقى بدون التآخي والتعاون، والمحبة، والإيثار، ورد عدوان الظالمين والعدل، والرحمة، والإحسان، والدفع بالتي هي أحسن.
يقول الشيخ عبد الرحمن الميداني في كتابه (الأخلاق الإسلامية وأسسها). لقد دلت التجربات الإنسانية والأحداث التاريخية، أن ارتقاء القوى المعنى للأمم والشعوب ملازم لارتقائها في سلم الأخلاق الفاضلة ومتناسب معه، وأن انهيار القوى المعنوية للأمم والشعوب ملازم لانهيار أخلاقها ومتناسب معه، فبين القوى المعنوية والأخلاق تناسب طردي دائماً صاعدين وهابطين.
مثال: (فضيلة الصدق) رجل معروف بالمزاح قام من الليل ظامئاً فلم يجد شربة ماء فصعد إلى سطح داره ونادى أهل القرية قائلا حريق أيها القوم أسعفوني بماء، فتسارع أهل القرية لنجدته ومعهم الأواني المملوءة ماءاً، فلما وصلوا إليه قالوا أين النار قال: ضاحكاً نار الظمأ قد أحرقت بطني ولم أجد شربة ماء في داري فناديتكم، فمنهم من ضحك لمزاحه، ومنهم من لامه، ثم انصرفوا عنه.
ثم كرر هذا العمل فأسرع فريق وتخلف آخر.
ثم بعد حين شبت النار حقيقة في داره فلم يستجب لندائه أحد ووقعت كارثة الحريق لأنه قطع بينه وبين مجتمعه رابطة الثقة به وهكذا الأمانة، والعفة، والرحمة، والشفقة...الخ من مكارم الأخلاق.
2-آية تجمع مكارم الأخلاق:
أنزل الله عز وجل في كتابه آية من ثلاث كلمات، تضمنت قواعد الشريعة في المأمورات والمنهيات.
* قال عنها جعفر الصادق: أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - بمكارم الأخلاق، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من قوله: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ .
* وقال ابن سعدي رحمه الله: هذه الآية جامعة لحسن الخلق مع الناس وما ينبغي في معاملتهم. وجمعت أصول الفضائل الثلاث.
(أ) ﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾ : (صلة القاطعين والعفو عن المذنبين والرفق بالمؤمنين وغير ذلك من أخلاق المطيعين) وقيل: هو الأخذ باليسر والسماحة، ودفع الحرج والمشقة عن الناس، بالأقوال والأفعال.
(ب) ﴿وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ﴾ صلة الأرحام، وتقوى الله في الحلال والحرام، وغض الأبصار، والاستعداد لدار القرار. وقيل: هو المعروف والجميل من الأفعال.
(ج) ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ الحض على التخلق بالحلم، والإعراض عن أهل الظلم، والتنزه عن منازعة السفهاء، وغير ذلك من الأخلاق الحميدة، والأفعال الرشيدة، وقيل : عدم مقابلة السفهاء والجهال بمثل فعلهم وعدم مماراتهم والحلم عنهم، والصبر على سوء أخلاقهم، والغض على ما يسوءك منهم، ومقابلتهم بالعفو والصفح.
ومما يروى من مكارم الأخلاق أورد القرطبي قصة في حلم رجل من آل بيت رسول الله كان وقافا عند هذه الآية، وهي تستحق أن يقف عندها كل من يلتمس القدوة الصالحة.
وخلاصتها: أن رجلا من مناوئي على رضي الله عنه اسمه – عصام بن المصطفى – حدث فقال:
دخلت المدينة فرأيت الحسن بن علي رضي الله عنهما، فأعجبني سمته ومنظره، وحسن روائه، فثار فيَّ الحسد الكامن في صدري على أبيه، فدنوت منه وقلت له : أنت الحسن بن علي: قال: نعم: فأقبلت عليه أسبه، وأسب أباه سبا مقذعا. حتى لم يبق لدي ما أضيفه، فنظر إلى نظرة عاطف رؤوف، ثم قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ وقال: أستغفر الله لي ولك. خفي عليك أنك لو استعنتنا أعناك، ولو استرفدتنا أرفدناك، ولو استرشدنا أرشدناك. فتوسم في وجهي الندم فقال: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ ثم سألني أمن أهل الشام أنت؟ قلت نعم، فقال: حياك الله وبياك وآداك – وبياك معناها : أدام لك التحية والرضى وآداك معناها قواك وساعدك – انبسط لنا في حوائجك وهمومك تجدنا – إن شاء الله – عند أفضل ظنك. قال عصام: فضاقت على الأرض بما رحبت ووددت أنها ساخت بي. وتسللت منه لواذًا، وما عندي في الأرض أحب إلى منه ومن أبيه.
الله أكبر، ما أكرمها من أخلاق، وما أسماها من شيم.
4- وهذه إشارات لنموذج قرآني من حشد الوصايا الأخلاقية حثا على المحمود، وتنفيرا من المذموم، انتظمت في سورة واحدة وسياق متتابع من سورة الإسراء وهي قوله عز وجل: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا * رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا * وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا * وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا * وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا﴾ .
5- بل قد أقسم الله عز وجل أحد عشر قسماً متتاليا لم يأت إلا في موضع واحد من القرآن الكريم على أن الفلاح منوط بتزكية النفوس، قال تعالى: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾ ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا﴾ إلى ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾ .
6- وانتظمت الآيات في افتتاحية (سورة المؤمنين) داعية لأعلى منزلة في الجنة، ذاكرة لنوع من العبادة تارة، لخلق من الأخلاق تارة أخرى، وبالعبادة والخلق ينال الفردوس الأعلى قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ - عبادة- ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ –خلق - ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ﴾ –عبادة- ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ﴾ -خلق- وهكذا.
7- وقد وعد الله تعالى الإساءة إلى اليتيم – وهذا خلق- من التكذيب بالدين، فقال تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ - خلق- ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ -عبادة- ﴿الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾ -خلق-.
وهكذا في مواضع شتى من سور القرآن الكريم كأواخر سورة الفرقان، وآيات من سورة لقمان، وغيرهما مما يدل على أن كمال الدين بكمال الخلق، وكل من كان ناقص الخلق، فهو ناقص الدين.
الوقفة الثانية: تعظيم شعائر الله
بداية نحن نريد تعميق الاشتياق لضبط أخلاقنا، لذلك سنظل نركز حتى يتعمق لدينا هذا المعني: ربطنا في الوقفة الأولى بين الأركان، وبين الأخلاق، وبينا أن السبب في ظهور سلوكيات خاطئة بين الناس هو سوء فهم لمعنى الإيمان بالله، وأن مفهوم الأخلاق يرتبط بالإيمان، وما ينبثق عنه، لأن الأخلاق أصل تقوم عليه أوامر الله في النفس البشرية، فإذا طوعت هذه النفس على الخلق الكريم، والسلوك القويم، فإنها لا شك راغبة في تعظيم شعائر الله والتزام منهجه، ومن أصدق من الله حديثاً، فهو القائل: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ .
ولكن لما سيء فهم هذه القاعدة نتج عن ذلك وجود انفصال شديد بين الأخلاق والعبادات بين الدين والحياة كنهج وسلوك.
مثال ذلك: من يؤدي الصلاة بأركانها، ومسنوناتها، وحرص على صيام الاثنين والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر. يحرص على عمرة في رمضان، ويقوم الليل، كل هذا طيب ومطلوب ولكن خارج حدود هذه الطاعات يكون إنساناً آخر تماماً. فأين الصفح، وعدم تتبع العثرات، وأين غض البصر عن الزلات، وأين احترام الكبير، والعطف على الصغير، وقيام كل بواجباته ومسؤولياته أين الحياء، والأمانة، والعفة، والصبر، واحترام الآخرين!؟ كل هذا عند كثير من الناس إلا من عصم الله – لا علاقة له بالدين أو العبادات والأخلاق، نوعان من الناس:
1- نوع عابد سيء الخلق.
2- نوع يُحسن التعامل مع الآخرين، لكنه مقصر فيما عليه من حقوق شرعية وواجبات دينية.
أ- فأما النموذج الأول:
فيقال له : قد ورد في صحيح مسلم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: «الدين حسن الخلق» لذا تعد الأخلاق روح الإسلام، ومن لا خلق له لا حياة لإسلامه، لأن إسلامه بلا روح وفي حديث للمصطفى - صلى الله عليه وسلم - يقسم فيه على نقص إيمان فئة من الناس؟ من هم؟ لا يصلون؟ أم الذين لا يصومون؟ تدبري إذا حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول : «والله يؤمن لا يؤمن، والله يؤمن من لم يأمن جاره بوائقه».
وذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أن امرأة تذكر من كثرة صيامها، وصدقتها، ولكنها تؤذي جيرانها بلسانه قال : «هي في النار» فهذه المرأة : انتشر صيتها لكثرة صيامها، وصلاتها، ثم هي في النار. وأخرى تذكر بقلة صيامها، وصلاتها، وأنها لا تؤذي جيرانها قال : «هي في الجنة».
وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : «إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من يتركه الناس اتقاء شره».
لذا : فقد كان الإيمان بضعا وسبعين شعبة كما بينها لنا رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - بقوله : «الإيمان بضع وستون أو سبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من شعب الإيمان».
* قال الشيخ صلاح الخالدي معلقا على هذا الحديث: (فالشهادة : قول، وإماطة الأذى عن الطريق: عمل، والحياء : خلق وسلوك، وجعل الثلاثة من الإيمان دليل على حقيقته. ومعظم شعب الإيمان هي أعمال، وقد انطلق من هذا الإمام البيهقي فألف كتاب: (شعب الإيمان) فكان الحديث جامعاً بين القول والفعل والخلق. فكيف بمن يقول لا إله إلا الله ثم يرمي علب المرطبات والقاذورات وغيرها في الشارع؟ وفي الساحات العامة والحدائق؟ هل نتخيل أن هذا يفقدنا جزءاً من إيماننا؟ بل هل نعلم أن من دلائل إيماننا إماطة الأذى، فكيف بمن يلقي الأذى؟ وانظري إن شئت إلى صالة احتفالات؟ أو ملعب، أو ساحة مدرسة، أو مرفق من المرافق العامة بعد اجتماع الناس فيه، منظر يحزن ورب الكعبة، ومظهر ينافي الإيمان، مما جعل أعداء المسلمين لا يقيمون لنا وزنا ويفتخرون علينا فيما نحن أحق وأولى منهم فيه.
تنبيه: خص الرسول - صلى الله عليه وسلم - الحياء في الحديث لتنتبه المؤمنة لهذا الخلق الرفيع الذي فقد أو كاد – إلا من رحم الله – حيث وسائل الإعلام المرئية والمسموعة فعلت أفاعيلها في حياء المسلمة.. فيقول - صلى الله عليه وسلم - : «الحياء والإيمان قرناء جميعا إذا رفع أحدهما رفع الآخر» فكم من المؤمنات العابدات الصائمات القانتات توقفت مع هذا الخلق، واقعاً عملياً في حياتها؟.
ب-النموذج الثاني من الناس:
ممن أحسن التعامل مع الآخرين مع تقصير في الحقوق الشرعية، والواجبات الدينية.
بداية ينبغي أن نميز الأخلاق عن غيرها من الصفات الإنسانية، وأن نميز أنواع السلوك التي هي آثار خلقية عن أنواع السلوك التي ليست آثارا خلقية، حتى لا يختلط علينا ما ليس من قبيل الأخلاق بما هو منها. ولدى التدبر في السلوك الإرادي للإنسان نلاحظ أنه ينقسم إلى أنواع شتى:
1- فمنه ما هو أثر من آثار خلق في النفس، محمود، أو مذموم، كالاعتراف عن حب للحق، والإنكار عن كبر وإفراط في الأنانية، والإغضاء عن حلم، والتحمل عن صبر وهكذا.
2- ومنه ما هو استجابة لغريزة من غرائز الجسد، أو النفس الفطرية ضمن حدود الحاجات الطبيعية لها: كالأكل المباح، والنوم عن حاجة إليه، والاستمتاع المباح بالجمال تلبية لطلب النفس والترويح عنها بشيء من المباحات، وأمثال ذلك.
3- ومنه ما هو من قبيل الآداب الشخصية، أو الاجتماعية، كآداب الطعام واللباس والنظافة والآداب المتعلقة بإصلاح مظاهر الجسد وإبداء كل حسن وجميل احتراماً لأذواق الناس واسترضاء لمشاعرهم. وربما يكون التزام بعض هذه الآداب أثرا من آثار خلق في النفس محمود، وربما يكون إهمالها أثراً من آثار خلق في النفس مذموم.
5- ومنه ما هو من قبيل العادات التي تتأصل في السلوك: وقد ترجع هذه العادات إلى موجه أخلاقي، أو موجه اجتماعي، أو موجه غريزي، أو موجه تكليفي، أو نحو ذلك. وقد لا تكون أكثر من ممارسات استحكمت بالعادة.
6- ومنه ما هو من قبيل التقاليد الاجتماعية، التي تسري في سلوك الأفراد بعامل التقليد المحض. من هنا كان الخلط عند كثير من الناس بين السلوك الإنساني، وبين السلوك الأخلاقي، وهذا يرجع إلى أنهم لا يملكون تحديداً واضحاً للأخلاق.
وينبغي أن لا يغيب عن بالنا أن كثيرا من الأحكام الدينية هي أحكام أخلاقية، لأن الدين يأمر بمكارم الأخلاق، وينهي عن رذائلها. فإن أي مخالفة للخالق سبحانه في أي من أوامره، أو نهي من نواهيه، سلوك مناف للخلق الكريم، لأن الفضيلة الخلقية توجب طاعة الله، وتحرم معصيته.
وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أكمل الناس إيمانا أحسنهم خلقا» فأحسن الناس خلقاً، لابد أن يكون أصدقهم إيماناً، وأخلصهم نية، وأكثرهم التزاماً بما يجب على العباد نحو ربهم من عباده، وحسن توجه له وصلة به، وأكثرهم التزاماً بحقوق الناس المادية والأدبية.
ومن المستبعد جداً أن يكون الإنسان ذا خلق كريم مع الناس، محبا للحق، معطاء متواضعاً، صبوراً عليهم، رحيماً بهم، ودوداً لهم، متسامح النفس معهم، ثم لا يكون ذا خلق كريم مع ربه، فلا يؤمن بحق ربوبيته، وألوهيته، ويذعن له بذلك ولا يؤدي واجب العبادة له، كما أنه ليس من المعقول أن يكون ذا خلق كريم مع الناس، وهو يأكل حقوقهم ويعتدي عليهم.
فالأسس الأخلاقية، والأسس الإيمانية ذات أصول نفسية واحدة لهذا نقول لا أخلاق من غير دين.
* وقال أحدهم : (إن الدين ومكارم الأخلاق هما شيء واحد لا يقبلان الانفصال، ولا يفترقان بعضهما عن بعض، فهما وحدة لا تتجزأ. إن الدين يغذي الأخلاق وينميها، وينعشها، كما أن الماء يغذي الزرع وينميه).
وهنا يتضح لنا بجلاء أن أثقل شيء في ميزان المؤمن نيته، كل ذلك من ثمرات فضائله الخلقية، ومن لم تثمر أخلاقه إيمانا وتصديقاً، وطواعية لأوامر الله ونواهيه فلا أخلاق له.
* وقد قسم ابن القيم حسن الخلق قسمين:
-أحدهما: حسن خلق مع الله.
-والثاني: حسن خلق مع الناس.
وأركانه خمسة: العلم، والجود، والصبر، وطيب العود (أن يكون خلقه الله تعالى على طبيعة منقادة، سهلة، سريعة الاستجابة لداعي الخيرات).
والركن الخامس: صحة الإسلام فهي جماع ذلك، أي جماع كل الأركان والمصحح لكل خلق حسن وبذا يتبين أن حقيقة حسن الخلق صحة الإسلام.
الوقفة الثالثة: التطبيق العلمي
وهي وقفة حد مهمة، وهي التطبيق العملي لما ذكرناه سابقا، فتفكري وتأملي رعاك الله:
إن من أهداف دراسة الأخلاق أن نتحول لأناس عمليين. وماذا يعني هذا؟
يعني أن يصدق القول العمل، فلا يكون الإيمان مجرد محاضرات له أماكن خاصة، وأجواء خاصة، وأناس مخصوصون، أو أن يكون مجرد حديث ممتع في جلسة مناسبة مع أناس ملتزمين، أو أن يكون مجرد تعبير عن شعور طيب للحظات، فإذا ما غادرنا هذه الجلسات انسلخنا منها وخالفنا ما كان نتحدث عنه وانتقلنا إلى موقع آخر مع أناس آخرين، فتنقلب حسب الميول والرغبات. وهذا الإيمان المتقلب حسب المناسبات، المتأثر بالظروف والملابسات الذي يصلح أن يكون كلاماً في المحاضرات، أو حديثاً في الجلسات والندوات لا ينفع صاحبته ولا يغني من جوع.
فالإيمان حالة دائمة ثابتة، وقيمة تملأ حياة المسلمة وواقعها، ومنهاج حياة لها في ليلها ونهارها، الإيمان الحقيقي إيمان جازم غرست شجرته في قلبها، وقطفت ثمرته، ووجدت حلاوته، وذاقت طعمه، وتبوأت منزلته، وتفيأت ظلاله، وعاشت به حياتها.
الوقفة الرابعة: الثمرة المرجوة
وهي نتاج الوقفات الثلاث وثمرتها:
نريد أن ننشئ جيلاً حسن الخلق، ولن نستطيع ذلك حتى نتخلق نحن بهذه الأخلاق، نريد رفع مستوى الأمة المسلمة والعودة بها إلى علوها، وشموخها السابق، ولن نفعل هذا حتى نحمل هم هذه الأمة، لا ينبغي أن يكون همي وهمك أزواجنا وأولادنا، وأموالنا فقط.
-نريد المعلمة المخلصة، التقية، النقية، القدوة في دينها، وأخلاقها.
-نريد الطبيبة الناصحة، الحنون، الملتزمة بشرع ربها، مدركة أنها على ثغر من ثغرات الإسلام.
-نريد الأم الودود، الولود، والمربية الواعية لدورها المقدرة عظم مسئوليتها.
أخواتي رعاكن الله:
بعد أن تبين لنا من خلال هذه الوقفات الارتباط الوثيق بين إيماننا وخلقنا، وإذا علمنا أنه لن تعود لنا عزتنا وعلونا حتى نلملم ما بعثره أعداؤنا بكل ما أتوا من مكر ودهاء ومن إفساد لأخلاق المسلمين. وغمس أبنائهم في بيئات مشحونة بالانحلال الخلقي. من هنا فإنه لا مجال لمقاومة هذا الانهيار إلا بالرجوع إلى أسس الفضيلة المتمثلة في مكارم أخلاق الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - وأن نتخذ من أخلاقه العظيمة أساساً لتزكية النفس وتهذيبها، فقد كانت حياته - صلى الله عليه وسلم - تجسيدا عمليا لكل ما يدعو الناس إليه من مكارم الأخلاق وحميد الصفات، وكانت بعثته - صلى الله عليه وسلم - في جوهرها لإتمام هذا الجانب التطبيقي المتمثل في تتميم مكارم الأخلاق قولا وفعلاً، دعوة وممارسة. لابد إذا من نقد النفس ومحاسبتها وحملها على التحلي بالفضائل والتخلي من الرذائل. ولكن.
هل الأخلاق قابلة للتغير؟، وهل تكسب الأخلاق؟، وهل يتغير الخلق المذموم إلى خلق محمود؟ هنالك أخلاق يتفضل الله عز وجل على بعض خلقه فيجبلهم عليها، ويطبعهم بها من غير كسب منهم، ولا جهد، وهذه تسمى أخلاق فطرية. فمثل هذه فضل ومنة على من أوتيها، ومن لم يؤتها مُكلف بمجاهدة نفسه، لكي يأطرها على الحق أطرا، ويجرها إلى الجنة بالسلاسل، ويلزمها بكسر هواها، وتغليب رضي الرب على ما سواه، إلى أن تصبح هذه الصفات الفاضلة خلقا مكتسبا بعد الترويض والمجاهدة، وهذه تسمى أخلاقا مكتسبة. ويحتاج الإنسان كي يكتسبها إلى أن يتكلف فعل هذه الأخلاق الفاضلة، فيؤدي تكراره لها، وتعوده عليها، إلى ترسخها في قلبه، وانقلابها مع الزمن إلى طبع ثابت، وخلق أصيل، ولذلك جاء في الحديث : «ومن يستعفف يعفه الله.. ومن يتصبر يصبره الله».
أليس الحلم بالتحلم، والعلم بالتعلم، وهكذا كل الأخلاق بالتسامح يصبح سمحاً، وبالعفو يصبح عفواً، والسعيد من وفقه الله بالصبر على المجاهدة إلى أن تتأصل فيه الأخلاق ويكتسبها.
وإليك أُخية بعض الوسائل المعينة على اكتساب الأخلاق الحميدة.
قبل أن نشرع في تعداد هذه الوسائل أهمس في أذنك أنه مهما تخلق إنسان بالأخلاق الإسلامية فإنها ستبقى صورة بلا روح، طالما لم يرد بها صاحبها وجه الله ورضاه، فليس الغرض من الأخلاق الإسلامية وجود صورتها الخارجية، التي لا تعدو أن تكون طلاء يسقط لأي حكة، وإنما تهدف الأخلاق الإسلامية إلى أن تملك على المسلم قلبه، فيدفعه إليها إيمانه، ويزيده الالتزام بها إيمانا، فمصدرها قلبي، وأصلها صلاح الباطن. وما لم تكن الأخلاق خالصة فإنها ستظهر نفاقا أو لمصالح، ثم تزول ويظهر ما وراءها من سوء الخلق. الأخلاق الإسلامية ينبغي أن تشمل جميع جوانب حياة الإنسان : مع ربه، ومع الناس، في بيته وفي عمله، وفي خلوته، وفي المجتمع، في الظاهر والباطن.. ولكن هذه الجوانب أخلاق تدعو المسلم إلى التميز بالسلوك وبصورة متكاملة.
وهذه بعض الوسائل التي تمكننا من اكتساب الخلق الكريم المحمود:
1- التدريب العملي والرياضة النفسية : ولكن من الملاحظ أنه قد يبدأ التخلق بخلق ما عملاً شاقاً على النفس، إذا لم يكن في أصل طبيعتها الفطرية، ولكنه بتدريب النفس عليه، وبالتمرس والمران يصبح سجية ثابتة، وحياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه كلها قائمة على التدريب العملي والممارسة التطبيقية.
2- المجاهدة.
3- المحاسبة.
4- التفكير في الآثار المترتبة على حسن الخلق والنظر في عواقب سوء الخلق.
5- الحذر من اليأس من إصلاح النفس.
6- علو الهمة.
7- الانغماس في بيئة صالحة.
8- القدوة الحسنة.
9- التغاضي والتغافل والإعراض عن الجاهلين.
10- استعمال المداراة.
11- أن يتخذ الناس مرآة لنفسه.
12- أن يضع المرء نفسه موضع خصمه.
13- تجنب كثرة اللوم والتعنيف على من أساء ونسيان الأذية.
14- نسيان المعروف والإحسان إلى الناس، واحتساب الأجر عند الله عز وجل.
15- قبول النصح الهادف، والنقد البناء، والتسليم بالخطأ إذا وقع، والحذر من تسويغه.
16- إدامة النظر في السيرة النبوية وفي سير الصحابة الكرام، وقراءة سير أهل الفضل والحلم، وقراءة كتب الشمائل، والكتب في الأخلاق.
أخيراً الدعاء وتزكية النفس بالطاعات.
* وبعد: لعلنا الآن في هذه العجالة فهمنا : لماذا الأخلاق؟ وما هي القيم التي تضيفها الأخلاق لنا. وحتى يتعمق تماماً هذا المفهوم إليك جملة من الأحاديث تؤكد وتركز على أهمية حسن الخلق.
* قال عليه الصلاة والسلام : «أثقل شيء في الميزان: الخلق الحسن».
* وقال - صلى الله عليه وسلم -: «أحب عباد الله إلى الله أحسنهم خلقاً».
* وقال - صلى الله عليه وسلم - : «أفضل المؤمنين أحسنهم خلقاً».
* وقال - صلى الله عليه وسلم - : «أقربكم مني مجلسا يوم القيامة: أحسنكم خلقاً».
* وقال - صلى الله عليه وسلم -: «أكمل المؤمنين إيمانا أحاسنهم خلقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون، ولا خير من لا يألف ولا يؤلف».
* وقال - صلى الله عليه وسلم - : «إن أحبكم إلى وأقربكم مني في الآخرة مجلسا أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إلى وأبعدكم مني في الآخرة أسوأكم أخلاقاً».
* وقال - صلى الله عليه وسلم - : «إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجات قائم الليل، صائم النهار».
* وقال - صلى الله عليه وسلم - «إن المسلم المسدد ليدرك درجة الصوام القوام بآيات الله، بحسن خلقه وكرم ضريبته».
* وقال - صلى الله عليه وسلم - « أنا زعيم (ضامن) بيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه» فجعل البيت العلوي جزاء لأعلى المقامات الثلاثة، وهي حسن الخلق».
* وقال - صلى الله عليه وسلم - «إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم ببسطة الوجه، وحسن الخلق».
* روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «لقد رأيت رجلا يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق، كانت تؤذي المسلمين» وفي رواية لمسلم والبخاري «بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك فأخره، فشكر الله له فغفر له».
* ومن دعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - «اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت».
* وكان دعاؤه إذا نظر في المرآة : «اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي».
* ولقد قرن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين مكارم الأخلاق وقيم الدين العليا وأخلاقه المثلى، فقرن مرة بالكرم، ومرة بالجمال، ومرة بالجود.
* فبالكرم قال - صلى الله عليه وسلم - : «إن الله تعالى جواد يحب الجود، ويحب معالي الأمور ويكره سفاسفها».
* وبالجود قال - صلى الله عليه وسلم - «إن الله تعالى جواد يحب الجود، ويحب معالي الأمور ويكره سفاسفها».
* وبالمحبة الإلهية : فكل الأحاديث السابقة ربطت مكارم الأخلاق والقيم الإسلامية بالمحبة الإلهية، وذلك لأن حب الله لهذه الأشياء هو رأس الأمر الذي تتفرع منه جميع الأخلاق والفضائل والقيم.
* وأخيراً من أقواله - صلى الله عليه وسلم - «أكثر ما يدخل الناس الجنة تقوى الله وحسن الخلق».
يفسر ابن القيم هذا الربط فيقول: ٍٍٍٍ(لأن تقوى الله تصلح ما بين العبد وبين ربه، وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه، فتقوى الله توجب له محبة الله، وحسن الخلق يدعو الناس إلى محبته).
من جملة هذه الأحاديث قد يشكل على بعض الناس فيقول: إن الإيمان بالله وحسن الصلة به من أفضل الأعمال، وكذلك توحيد الله والإخلاص له في العبادة، وإذا كانت هذه أفضل الأعمال فهي أثقل شيء في ميزان المؤمن يوم القيامة، فكيف نجمع بينها وبين حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - «ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وإن يبغض الفاحش البذئ»؟
هذا الإشكال لا يلبث أن ينحل إذا عرفنا أن الإيمان وعبادة الله مما توجبه الأسس الأخلاقية ومن أولى الواجبات التي تفرضها مكارم الأخلاق. وأن الكفر بالله ورفض عبادته وطاعته من أقبح رذائل الأخلاق لأنه إنكار للحق من عدة وجوه. فهو إنكار لربوبية الله وهو جحود لألوهية الله واستكبار عن عبادته مع أنه المنعم عليهم بالنعم الكثيرة التي لا يحصونها، وظاهر أن جحود النعمة وعدم القيام بواجب الشكر عليها من أقبح رذائل الأخلاق. فالإيمان الذي هو أثقل الفضائل عند الله تعالى هو مظهر من مظاهر الكمال الخلقي في الإنسان، وعندئذ يتضح لنا بجلاء أن أثقل شيء في ميزان المؤمن يوم القيامة حسن خلقه، لأن صدق إيمانه وسلامة يقينه وإخلاص نيته كل ذلك من ثمرات فضائله الخلقية. ولما كان الفحش والبذاءة من مظاهر الرذائل الخلقية النفسية كان الفاحش البذيء من الذين يبغضهم الله عز وجل.
* إذا قعّدي هذه القاعدة: ذلك هو شأن الأخلاق في الدين، وفي المجتمع.. هي في الدين ركن ركين، وهي في المجتمع أساس مكين.
سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب | ||
وإن كثرت منه علي الجرائم | ||
وما الناس إلا واحد من ثلاثة | ||
شريف ومشرف ومثلي مقاوم | ||
فأما الذي فوقي فأعرف قدره | ||
وأتبع فيه الحق والحق لازم | ||
وأما الذي دوني فإن قال صنتُ عن | ||
إجابته عرضي وإن لام لائم | ||
وأما الذي مثلي فإن زل أو هفا | ||
تفضلت إن الفضل بالحلم حاكم | ||
قال أبو بكر الإسماعيلي:
وإذا جلست وكان مثلك قائماً | ||
فمن المروءة أن تقوم وإن أبي | ||
وإن اتكأت وكان مثلك جالساً | ||
فمن المروءة أن تزيل المتكا | ||
وإن ركبت وكان مثلك ماشيا | ||
فمن المروءة أن مشيت كما مشى | ||
الخاتمــة
هذه معالم على الطريق تكسبين بها سعادة الدارين، وتفوزين برضى رب العالمين، ومن ثم رضى الناس فإن من أحبه الله أحبه الناس.
وإلا فالأمر واسع وهذا جهد المقل فما كان من خطأ فمن نفسي ومن الشيطان، وما كان من توفيق فهو من جود الله وفضله، فله الحمد في الأولى والآخرة وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. والله أعلم.