×
مقالة تبين بعض الآداب الإسلامية مع الوالدين، وبعض القصص في برهم، فقد كَثُر في زماننا هذا عقوق الآباء والأُمَّهات، وظهر من يرفع صوته على أبيه وأُمِّه، ومن ينظر إليهما شزرًا، ومن يحتقرهما ولا يراهما شيئًا، بل ومن يضربهما ويخرجهما من بيته أو بيتهما،


    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله الذي أمر بالبر ونهي عن العقوق، والصلاة والسلام على نبينا محمد الصادق المصدوق، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم استيفاء الحقوق.. أمَّا بعد؛

    فقد كَثُر في زماننا هذا عقوق الآباء والأُمَّهات، وظهر من يرفع صوته على أبيه وأُمِّه، ومن ينظر إليهما شزرًا، ومن يحتقرهما ولا يراهما شيئًا، بل ومن يضربهما ويخرجهما من بيته أو بيتهما.

    وقد خالف هؤلاء ما أمر الله تعالى به من برِّ الوالدين والإحسان إليهما وشكرهما واحترامهما، بل إن الله عزَّ وجلَّ قرن عبادته وحده لا شريك له بالإحسان إلى الوالدين، فقال سبحانه: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء: 23 – 24].

    قال على بن أبي طالب رضي الله عنه: لو كان في العقوق شيء أدنى من كلمة «أُفٍّ» لحرمه الله.

    وكذلك فقد قرن الله تعالى شكره بشكر الوالدين فقال: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ [لقمان: 14]. وقال سبحانه: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا﴾ [العنكبوت: 8].

    وجعل النبي ﷺ‬ عقوق الوالدين من أكبر الكبائر: وقرنه بالإشراك بالله عزَّ وجلَّ، فقال عليه الصلاة والسلام: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ (ثلاثًا): الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئًا فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور» [متفق عليه].

    وجاء رجل إلى النبي ﷺ‬ فقال: يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: «أُمُّك». قال: ثم من؟ قال: «أُمُّك». قال: ثم من؟ قال: «أُمُّك»: قال: ثم من؟ قال: «أبوك» [متفق عليه].

    وقال النبي ﷺ‬: «رَغِمَ أنفُه، ثم رَغِمَ أنفُه، ثم رَغِمَ أنفُه». قيل من يا رسول الله؟ قال: «من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما، ثم لم يدخل الجنة» [رواه مسلم]. ومعني رَغِمَ أنفُه: أي لصق بالرغام وهو التراب.

    بل إن النبي ﷺ‬ جعل برَّ الوالدين من أسباب مغفرة الذنوب، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أتى النبي ﷺ‬ رجل فقال: أذنبت ذنبًا عظيمًا، فهل لي من توبة؟ فقال ﷺ‬: «هل لك من أُمٍّ؟» قال: لا. قال: «فهل لك من خالة؟» قال: نعم. قال: «فبرَّها» [رواه الترمذي وصححه الألباني] وعند الحاكم وابن حِبَّان: «هل لك والدان؟» الحديث.

    الآداب الإسلامية مع الوالدين

    وعلى الرغم من كثرة الآيات والأحاديث في برِّ الوالدين والتحذير من عقوقهما، فإن كثيرًا من الناس لا يعرف كيف يتأدب مع والديه، ولا كيف يحرص على برِّهما والإحسان إليهما، فتراه يقع في العقوق من حيث لا يدري، فينبغي على هؤلاء أن يتعلموا الآداب الإٍسلامية مع الوالدين ومنها:

    1- العلم بعظيم حقِّهما وجليل شأنهما ورفيع قدرهما في الإسلام.

    2- التأدُّب عند مخاطبتهما وإلانة القول لهما، واختيار الكلمات والعبارات المناسبة في الحديث معهما.

    3- طاعتهما في كلِّ أمر ما لم يكن معصية، ومداراتهما فيما لا يستطيع تحقيقه من مطالبهما حتَّى لا يكون ذلك سببًا في غضبهما عليه.

    4- إدخال السرور عليهما سواء بالهدية أو بالمكافأة أو بالزيارة، أو بزف الأخبار السارَّة إليهما.

    5- العناية بهما عند كِبَرهما صحيًّا ونفسيًّا واجتماعيًّا.

    6- تعليمهما ونصحهما برفق ولين وصبر وأناة وعدم تضجُّر.

    7- كثرة زيارتهما والاتِّصال عليهما بالهاتف كل يوم لو استطاع.

    8- السلام عليهما عند الدخول عليهما وعند الخروج من عندهما، ويُستحب تقبيل أيديهما ورأسيهما.

    9- التأدب عند الحديث عنهما، فلا يقول عن والده: جاء الشايب وذهب العجوز وغير ذلك من ألفاظ التنقص فهذا من الاستهزاء والعياذ بالله.

    10- المحافظة على حقوقهما وأموالهما وأمتعتهما، وعدم أخذ شيء منها دون إذنهما.

    11- استشارتهما في كافَّة الأمور المُهمَّة والعمل بنصائحهما.

    12- كثرة الدعاء والاستغفار لهما.

    13- تجنب إزعاجهما حال نومهما والترفق بهما حال إيقاظهما.

    14- تجنب التقدم في المشي عليهما، أو الدخول والخروج والجلوس قبلهما.

    15- تجنب الاضطجاع أو مدِّ الرجل أمامهما أو الجلوس في مكان أعلى منهما.

    16- قضاء ديونهما، والتصدُّق والحجِّ والاعتمار عنهما.

    17- إيثارهما بالطيِّبات من الطعام والشراب، وعدم مدِّ اليد إلى الطعام قبلهما.

    18- إكرام صديقهما في حياتهما وبعد مماتهما.

    19- الحذر من أن يكون سببًا في إيذائهما أو شتمهما ولو عن طريق اللهو والمزاح.

    20- الإنصات إليهما وعدم قطع حديثهما، والإقبال على حديثهما بكل شوق واهتمام.

    21- إظهار الفخر بهما والانتساب إليهما ولو كانا من الفقراء.

    22- النفقة عليهما عند الحاجة.

    23- عدم تقديم الزوجة عليهما، وعدم السماح لها بانتقاصهما في حضرته أو في غيبته.

    24- تنفيذ وصيتهما وصلة أرحامهما.

    25- زيارة قبريهما بعد وفاتهما والترحُّم عليهما.

    قصص في برِّ الوالدين

    1- عن أبي مُرَّة قال: كان أبو هريرة رضي الله عنه إذا أراد أن يخرج من بيته وقف على باب أُمِّه فقال: السلام عليك يا أُمَّتاه ورحمة الله وبركاته.

    فتقول: وعليك السلام يا بُنَيَّ ورحمة الله وبركاته.

    فيقول: رحمك الله كما ربيتني صغيرًا.

    فتقول: رحمك الله كما بررتني كبيرًا.

    وإذا أراد أن يدخل صنع مثله.

    2- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رجلان من أصحاب رسول الله ﷺ‬ أبرَّ من كانا في هذه الأُمَّة بأُمِّهما: عثمان بن عفان، وحارثة بن النُّعمان رضي الله عنهما.

    فأمَّا عثمان فإنه قال: ما قدرت أن أتأمل أُمِّي منذ أسلمت.

    وأمَّا حارثة فإنه كان يُفلِّي رأس أُمَّه، ويطعمها بيده، ولم يستفهمها كلامًا قطُّ تأمر به، حتى يسأل من عندها بعد أن يخرج: ماذا أرادت أُمِّي؟!

    3- وكان أبو هريرة رضي الله عنه يحمل أُمَّه إلى المرفق [الكنيف] ويُنزلها عنه، وكانت مكفوفة.

    4- وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً من الأعراب لقيه بطريق مكة، فسلَّم عليه عبد الله بن عمر وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه.

    قال ابن دينار: فقلنا له: أصلحك الله! إنهم الأعراب، وهم يرضون باليسير. فقال عبد الله بن عمر: إنَّ أبا هذا كان ودًّا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإني سمعت رسول الله ﷺ‬ يقول: «إنَّ أبرَّ البرِّ صلة الولد أهل ودِّ أبيه» [رواه مسلم].

    5- وعن أبي بُردة قال: قدمت المدينة، فأتاني عبد الله بن عمر فقال: أتدري لِمَ أتيتك؟ قال: قلت: لا. قال: سمعت رسول الله يقول: «من أحب أن يصل أباه في قبره، فليصل إخوان أبيه بعده» وإنه كان بين أبي -عمر- وبين أبيك إخاءٌ وودٌّ، فأحببت أن أصل ذلك. [رواه ابن حِبَّان وحسَّنه الألباني].

    6- قال المأمون: لم أرَ أبرَّ من الفضل بن يحيي بأبيه، بلغ من برِّه بأبيه أن يحيي كان لا يتوضأ إلا بالماء الحارِّ، وكانا في السجن معًا، فمنعهما السجَّان من إدخال الحطب في ليلة باردة، فقام الفضل حين أخذ يحيي مضجعه إلى قمقم -إناء صغير من نحاس- كان بالسجن، فملأه بالماء، وأدناه من المصباح، فلم يزل قائمًا وهو في يده حتى أصبح. وحُكي أن السجَّان فطن لحيلة الفضل في تسخين الماء لأبيه، فمنعهما من المصباح في الليلة القابلة، فأخذ الفضل الإناء مملوءًا معه إلى فراشه، وألصقه بأحشائه، حتى أصبح وقد فتر الماء.

    7- وكانت حفصة بنت سيرين تترَّحم على ابنها هذيل وتقول: كان هذيل يعمد إلى القصب، فيقشره ويجففه في الصيف، لئلاَّ يكون له دخان، فإذا كان الشتاء جاء حتى قعد خلفي وأنا أُصلِّي، فيوقد وقودًا رفيقًا، يُنالني حرُّه، ولا يؤذيني دخانه، وكنت أقول له: يا بُنيَّ! اذهب الليلة إلى أهلك. فيقول: يا أُمَّاه! أنا أعلم ما يريدون، فأَدَعه، فرُبَّما ظلَّ كذلك حتى الصباح.

    وكان يبعث إليَّ بحَلْبة الغداة، فأقول: يا بُنيَّ! تعلم أني لا أشرب نهارًا، فيقول: أطيب اللبن ما بات في الضرع، فلا أحبُّ أن أُوثر به أحدًا عليك، فابعثي به إلى من أحببت.

    فمات هذيل، فوجدت عليه وجدًا شديدًا، وكنت أجد مع ذلك حرارة في صدري لا تكاد تسكن. قالت: فقمت ليلة أُصلِّي، فاستفتحت النحل، فأتيت إلى قوله تعالى: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 96]. فذهب عني ما كنت أجد.

    8- وكان محمد بن الحنفية يغسل رأس أمِّه بالخطمي، ويمشطها ويخضبها.

    9- وكان الحسن بن علي يخاف أن يأكل مع أُمِّه، وكان أبرُّ الناس بها، فقيل له في ذلك فقال: أخاف أن آكل معها، فتسبق عينها إلى شيء من الطعام وأنا لا أدري فآكله، فأكون قد عققتها!! وفي رواية: أخاف أن تسبق يدي يدها..

    10- ودخل رجل على ابن سيرين فوجده مُتغيِّرًا، فقال: ما شأن محمد أيشتكي؟ قالوا: لا. ولكنه هكذا يكون إذا كان عند أُمِّه.

    11- وكان محمد بن عبد الرحمن بن أبي الزناد بارًّا بأبيه، وكان أبوه إذا ناداه فلا يُجيبه وهو قاعد، بل يثب فيقوم على رأسه فيلبيه، فيأمره أبوه بحاجته، فلا يستفهمه هيبة له، حتى يسأل من فهم ذلك عنه.

    12- وكان الزبير بن هشام بارًّا بأبيه، وكان إذا أُوتي بالماء البارد في الحرِّ فذاقه ووجد برده لم يشربه وأرسله إلى أبيه.

    13- وحدَّث أنس بن النضر الأشجعي قال: استقت أم ابن مسعود رضي الله عنه ماءً في بعض الليالي، فذهب ابن مسعود فجاءها بشُربة ماءٍ، فوجدها قد ذهب بها النوم، فكره أن يوقظها، فلم يزل واقفًا عند رأسها ومعه الماء حتى أصبح.

    14- وكان ظبيان بن علي الثوري من أبرِّ الناس بأُمِّه، ولقد نامت أُمُّه ليلةً وفي صدرها عليه شيء، فقام على رجليه يكره أن يوقظها، ويكره أن يقعد، حتى إذا ضعف جاء غلامان من غلمانه، فما زال معتمدًا عليهما حتى استيقظت.

    15- وعن عون بن عبد الله أن أُمَّه نادته فأجابها، فعلا صوتُه، فأعتق رقبتين.

    16- وعن بكر بن عباس قال: بينما كانت مع منصور في مجلسه جالسًا، إذ صاحت به أُمُّه -وكانت فظة غليظة- فقالت: يا منصور! يريدك ابن هبيرة على القضاء فتأبى؟ وهو واضع لحيته على صدره ما يرفع طرفه إليها.

    17- وكان حيوة بن شريح -وهو أحد أئمة المسلمين- يقعد في حلقته يُعلِّم الناس، فتقول له أُمُّه: قُم يا حيوة فألقِ الشعير للدجاج، فيقوم ويترك المجلس.

    18- وقال سفيان بن عُيينة: قدم رجل من سفر، فصادف أُمَّه قائمة تُصلي، فكره أن يقعد وأُمُّه قائمة، فعلمت ما أراد، فطوَّلت ليؤجر.

    19- وعن أبي بُردة أنه شهد ابن عمر رضي الله عنهما ورجل يماني يطوف بالبيت قد حمل أُمَّه على ظهره وهو يقول:

    إني لها بعيرها المذلَّلُ

    إذا الرِّكابُ نفرت لا أنفرُ

    ما حَمَلَتْ وأرضَعَتْني أكثر

    اللهُ ربِّي ذو الجلال أكبرُ

    ثم التفت إلى ابن عمر وقال: أتراني قضيت حقَّها؟ فقال ابن عمر: لا، ولا بطلقة واحدةٍ من طلقاتها، ولكنَّك أحسنت والله يُثيبُك على القليل كثيرًا.

    أخي الحبيب: لتكن هذه النماذج المُضيئة حاديًا لك إلى تعظيم والديك والإحسان إليهما، ولا تنسَ قول النبي ﷺ‬: «رضا الربِّ في رضا الوالدين، وسَخْطه في سخطهما» [رواه الطبراني وصححه الألباني].

    أسأل الله تعالى أن يوفِّقَنا جميعًا للعلم النافع والعمل الصالح، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد له ربِّ العالمين.