×
الصبر والتوكل على الله [ قصص واقعية ]: هذا الكتاب تحدَّث عن الصبر والتوكُّل على الله ومعناهما من خلال الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، متبوعٌ ذلك ببعض القصص الواقعية في القديم والحديث عن أثر الصبر والتوكُّل على الله في نفوس الناس.

 الصبر والتوكل على الله [ قصص واقعية ]

سامية عوض


 المقدمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد..

فقد رسم لنا الإسلام المنهج الذي تبنى عليه حياة المسلم على أسس متينة بحيث يكون دائم التعلق بالله، يستمد منه قوته وعزيمته، ويخفف بالصبر آلامه ويزيل بالثقة والتوكل خوفه وقلقه، وتطمئن باليقين نفسه، وانفرد بأن جعل هذا المنهج متكاملا لحياة المسلم الدينية والدنيوية؛ حتى يسير في هذه الأرض كما أراد الله تعالى مطمئن القلب منشرح الصدر واثقا بنصر الله متكلا عليه في كل أموره ساعيا بكل جد واجتهاد لما يعمّر دنياه وآخرته، وهذا هو المسلم القوي الذي أخبر عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه أحبُ إلى الله من المسلم الضعيف، وقد أصبح الناس في هذا الزمن يتكالبون على الدنيا ويتنافسون فيها حتى قلّ صبرهم وضعف توكلهم على بارئهم، ولم يقتفوا أثر الرسول والسلف الصالح في قوة إيمانهم وتوكلهم على الله وثباتهم وصبرهم، فقد كانوا يُعذَّبون لكي يرتدوا عن دينهم، ويضيق عليهم في معيشتهم ويحاربون من قبل أهلهم وقبيلتهم فلم يثنيهم ذلك عن تمسكهم بدينهم ورفعهم لرايته وسعيهم لنشره مهما واجههم من صعاب، وقد كانوا يوطنون أنفسهم على الرضا بالقضاء، ولا يزدادون بالمحن إلا إيمانا وتسيلما؛ لذلك أحببت أن أكتب عن الصبر والتوكل وأدعمهما بالأدلة من الكتاب والسنة، واتبعها ببعض القصص الواقعية في القديم والحديث، وأسأل الله أن ينفعني وإياكم بما فيه إنه سميع الدعاء وأهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


 الصبر

إن من أهم ما يربي الإسلام عليه المسلم هو: خلق الصبر والتوكل على الله تعالى والتي يجني ثمارها في الدنيا والآخرة.

فالصبر من أهم الأخلاق الإسلامية وهو من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، كما أنه من أصعب الأمور وأشقها على العبد، فهو حبس النفس عن التسخط والجزع، وحبس اللسان عن الشكوى لغير الله، وحبس الجوارح عن المفاسد، وهذا هو الصبر الجميل الذي لا شكوى فيه ولا جزع ولا يستطيع ذلك إلا من أعانه الله، والإسلام يحث المسلم على الصبر عند البلاء والمحن والثبات والاتزان عند المصائب، وقد مدح الله الصابرين في كتابه بقوله ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾([1]).

وقد أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن فضل الصبر وبين أنه خير للمؤمن فقال: «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خير له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له».

كما أن أقدار الله جارية وحكمه نافذ صبر العبد أو لم يصبر؛ غير أنه مع الصبر الأجر ومع الجزع الوزر.

وقال حسن البصري رحمه الله: الصبر كنز من كنوز الخير لا يعطيه الله إلا العبد الكريم.

وهو من الأمور التي يختص بها الإنسان العاقل بخلاف الحيوانات وضعاف العقول، فمن يصبر يجني ثمرة صبره من الاطمئنان والرضا والوصول للغاية والهدف المنشود وراحة القلب والفكر، وكل ذلك في الدنيا أما في الآخرة فالمسلم الصابر المحتسب يبشره الله بالأجر العظيم الذي يوفيه الله له بلا حساب، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾([2]).

وهو من أعظم العبادات التي تدل على قوة إيمان العبد ويقينه بالله واعتماده عليه لما فيه من مشقة على النفوس قال تعالى: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾([3]).

ولقد ذكر الله سبحانه وتعالى الصبر في تسعين موضعا من القرآن الكريم، وأضاف إليه كثير الخيرات والدرجات وجعلها ثمرة له، فقد يصل المسلم بصبره درجات عالية في الجنة لا يصلها بعمله، وقد يختبر الله العبد بأنواع الابتلاءات ليعلي بها درجته في الجنة، كما أن الصبر يحتاج إليه العبد في جميع أحواله في العبادات، والمعاملات، وفي الابتلاءات، وفي النعم، وفي جميع أموره الحياتية:

في العبادات: بأن يصبر على مشقتها ويحسن أداءها ويخلصها لله تعالى ويبتعد عن كل ما ينقصها.

في المعاملات: بأن يعامل الناس بالأخلاق الحسنة، ويرفق بهم، ويؤدي حقوقهم، ويتحمل إيذائهم، ويتعامل بالأمانة في البيع والشراء والإجارة والإعارة وغيرها.

في الابتلاءات: بالصبر عليها واحتساب أجرها عند الله، وعدم السخط والجزع منها، والرضا بما قدر الله عليه.

وفي النعم: بأن لا يركن إليها ولا يسرف فيها، ولا يستكثر منها حتى لا تلهيه عن عباداته، ولا يستكبر بها ويتجبر على غيره، وأن ينسبها إلى الله تعالى ويحمده عليها، ويؤدي حق الله فيها.

وفي المعاصي: بأن يبتعد عنها خوفا من الله تعالى ويبغضها فيه، ويعلم أن الله تعالى لم يحرمها إلا لضررها عليه أو على المجتمع.


 ثمرات الصبر

* الرضا بقضاء الله والطمأنينة والشعور بالسعادة كما قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (ماذا يريد أعدائي مني؟ أنا جنتي، وبستاني في صدري، أنا سجني خلوة، وقتلي شهادة، ونفيي سياحة).

* بالصبر تتحقق العزة والكرامة والتأييد من الله تعالى وهو شرط لإحباط خطط الأعداء وفشل تدبيرهم، قال تعالى: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾([4]).

* كما أنه سبب للعون والنصرة والمدد من عند الله تعالى وقهر الأعداء، قال تعالى: ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾([5]).

* كما أنه يجلب محبة الله تعالى ومعيته فالله تعالى يحب الصابرين وهو معهم بلطفه ورحمته وعونه وتأييده لهم، قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾([6])، ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾([7]).

* الصبر يورث صاحبه درجة الإمامة كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾([8]).

* إطلاق البشرى لأهل الصبر قال تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾([9]).

* إيجاب الجزاء للصابرين بأحسن أعمالهم كما قال تعالى: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾([10]).

* وفوق كل هذا النعيم المقيم في جنة عرضها السماوات والأرض يزينها ترحيب الملائكة الأبرار، قال تعالى: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾([11]).

* وأعظم من ذلك كله الفوز برضا الله تعالى ومغفرته، قال تعالى: ﴿إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾([12]).

وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: «ما أُعطي أحد عطاء خير أوسع من الصبر»([13]).


 التوكل

التوكل على الله زاد المؤمن الروحي الذي يقوي عزيمته، ويثبت أقدامه، ويدفع عنه التردد والحيرة والقلق، فبه يعلم أنه أوى إلى ركن شديد، فلا يفزع من المستقبل ويرضى بما كتب الله له، ويظل ثابت القلب مطمئن النفس لا يحزن على ما فات؛ بل يجد ويجتهد ويطلب العون من الله تعالى، ويفوض أمره إلى الله فهو حسبه وكافيه.

فحقيقة التوكل هو: صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المنافع ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة، وكلة الأمور لله وتحقيق الإيمان بأنه لا يعطي ولا يمنع ولا يضر ولا ينفع سواه..

وما من مقام يجتمع فيه العلم والعمل من أعمال القلوب إلا التوكل فهو آكد أعمال القلوب وأشرفها، و به تتحقق المنازل العليا في الجنة، و به يدخل أقوام الجنة بلا حساب ولا عذاب.

وهو مقام لا يستغني عنه الإنسان فإما أن يتوكل على الله تعالى الذي بيده تصريف الحياة وبيده النفع والضر، وهو الذي يجير ولا يجار عليه ويقهر ولا يُقهر، القادر على شيء وإما أن يتوكل على مخلوق ضعيف مثله لا يملك لنفسه فضلا عن غيره نفعا ولا ضرا ولا يملك موتا ولا حياة ولا نشورا، وقد كان السلف y يعظمون أمر التوكل ويهتمون به، وقد قال سعيد بن جبير: التوكل نصف الإيمان. وقال الفضيل بن عياض: التوكل قوام العبادة، والتوكل هو: اعتماد القلب على الله تعالى وهو سبب لقوة القلب وثباته، كما أنه يدعوا إلى حسن الظن بالله تعالى، ومن يتوكل على الله حق التوكل يكفيه الله همه ويريحه مما أهمه، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾([14]) أي كافيه. والتوكل على غير الله مذلة ومهانة، فإن الناس إذا أعطوا منّوا، وإذا منعوا أهانوا وكل ذلك مما يحزّ في نفس المؤمن ويدخل عليه الهم والغم ويحط من قدره ومن كرامته، كما أنه يقدح في توحيده فكيف يلجأ إلى عبد مثله يحتاج إلى من يعينه وينصره، ويترك القوي القادر على العون والنصرة في كل أمور الحياة، كما أن التوكل لا يعني التواكل والكسل وترك الأسباب بل لا بد من أخذ الأسباب مع الاعتماد على الله في جلب المنافع ودفع المضار، وقد قال ابن القيم: التوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم، فإن الله حسبه أي كافيه ومن كان الله كافيه فلا مطمع فيه لعدوه ولا يضره إلا أذى لا بد منه كالحر والبرد والجوع، وأما أن يضره بما يبلغ منه مراده فلا يكون أبدا.


 ثمار التوكل

* التوكل على الله تعالى يحقق الإيمان ويرسخ العقيدة، قال تعالى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾([15]).

* كما أنه يطمئن القلب ويشرح الصدر ويعظم الثقة بالله تعالى وهو سبب التأييد والنصرة من الله عز وجل قال تعالى: ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾([16]).

* وهو من أقوى الأسباب لدفع أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم، فمن تعرض للأذى والظلم فلجأ إلى الله تعالى وقال: حسبنا الله ونعم الوكيل أتاه العون من الله تعالى والنصر مهما طال زمن أو قصر، وقد أرشدنا الله إلى الاعتصام به والتوكل عليه إذا ادلهمت علينا الخطوب وضاقت علينا الأمور وبين أن العاقبة للمتقين فقال تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾([17]).

* كما أنه يورث محبة الله تعالى، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾([18]).

* والتوكل يورث الصبر الذي بهما معا يكون ملاك الأمور كلها، فما فات أحدا شيء من الخير إلا لعدم صبره وبذل جهده فيما أريد منه، أو لعدم توكله واعتماده على الله([19]).

* كما أنه يورث التمكين والثبات وقوة العزيمة، قال تعالى: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾([20]).

* كما أن التوكل يقي من تسلط الشياطين، ويدفع الحسد والسحر والعين، قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾([21]).

* وهو يورث الرضا بقضاء الله وقدره، ويورث سعة الرزق قال - صلى الله عليه وسلم -: «لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تعدوا خماصا وتروح بطانا»([22]).

* وأعظم من ذلك كله أنه سبب لدخول الجنة بلا حساب ولا عذاب كما أخبر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يدخل الجنة سبعون من أمته بلا حساب ولا عذاب، ولما سئل عنهم قال: «هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون»([23]).

أمور معينة على التوكل:

* من الأمور المعينة على التوكل على الله معرفة الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا؛ لذا فُسر التوكل بأنه المعرفة بالله.. فمن عرف أن الله هو القوي المتين القهار الجبار القادر فسوف يتوكل عليه؛ لنصره على الأعداء ودفع الظلم عنه مهما كانت قوة خصمه، ومن يعلم أن الله هو الرزاق الوهاب الجواد الكريم فسوف يتوكل عليه في طلب الرزق بعد بذل الأسباب، ومن يعلم أن الله هو المعز والمذل والخافض والرافع والمحيي والمميت فسوف يتوكل عليه في كل شؤونه، ولن يُذل نفسه إلا لله ومن يعلم أن الله سميع قريب مجيب فسوف يتوكل عليه في إجابة دعوته وتفريج همه، ومن يعلم بأن الله هو العفو الغفور الرؤوف الرحيم فإنه سوف يتوكل عليه في مغفرة الذنوب والتجاوز عن السيئات..

* ثقة العبد بربه وحسن ظنه به فمن وثق بربه سلّم أمره إليه واعتمد عليه في كل أموره، وخرج من حوله وقوته القاصرة إلى حول الله وقوته التامة.

* علم العبد بضعفه وقلة حيلته وعجزه فهو لا يملك لنفسه موتا ولا حياة ولا نشورا، ولا يملك أن يدفع عن نفسه المرض والفقر والموت، ولا يملك أن يهدي من يحب أو يدفع عنه المرض أو الموت، ولا يملك لأحد نفعا ولا ضرا إلا بإذن الله، ولو أراد الله أن يعذبه بذبابة أو بعوضة لما استطاع أن يدفع ذلك عن نفسه.

* معرفة العبد بأهمية التوكل وفضله وثماره اليانعة التي يجنيها العبد منه في الدنيا والآخرة، وقد قيل لحاتم الأصم: على ماذا بنيت أمرك في التوكل؟ قال: (علمت أن رزقي لا يأكله غيري فاطمأنت نفسي، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتي بغتة فأنا أبادره، وعلمت أني لا أخلوا من عين الله فأنا مستحي منه).

أدعية مأثورة في التوكل:

«اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت».

«اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا أقل من ذلك».

من قال -إذا خرج من بيته-: «بسم الله توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: هُديت، وكُفيت، ووُقيت، وتنحى عنه الشيطان».

«حسبي الله الذي لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم، من قالها حين يصبح وحين يمسي سبع مرات؟ كفاه الله همه، وأراحه مما أهمه»، وكان الإمام سعيد بن جبير يدعو فيقول: (اللهم إني أسألك صدق التوكل عليك، وحسن الظن بك).


 صبر الرسول - صلى الله عليه وسلم -

لقد ضرب لنا رسولنا الكريم أروع المثل في الصبر والتوكل على الله، وكانت حياته حافلة بالمواقف التي تدل على ذلك، فقد تعرض بسبب دعوته إلى الله لكثير من الإيذاء والاستهزاء والتكذيب.. فقد وصفه المشركون بالشاعر والكاهن والمجنون، وكانوا يسعون أن يصدوه عن دعوته بشتى الطرق والوسائل، ويحذروا الناس منه ويتهموه بالسحر والتفريق بين الناس، ويؤذوا أتباعه أمامه حتى يجبروه على التخلي عن دعوته رحمة بهم، لكنه كان يمر عليهم ويصبرهم ويعدهم بجنة عرضها السماء والأرض، وكم سخروا منه ومن دعوته.

رموا السَّلا، وهي أمعاء الإبل على ظهره وبين كتفيه وهو ساجد يصلي أمام الكعبة، وأخذوا يتضاحكون عليه حتى أن بعضهم يميل على بعض من شدة الضحك ولم يزلها عنه إلا ابنته فاطمة رضي الله عنها.. حاصروه - صلى الله عليه وسلم - هو وأهله وأتباعه في شعب أبي طالب حتى أكلوا أوراق الشجر من الجوع.

حاولوا إغراءه بالمال والجاه والنساء على أن يترك الدعوة، لكنه ظل صابرا محتسبا أمام التضييق والاضطهاد وأمام الإغراء والترغيب. وقال كلمته المشهورة التي تدل على عظيم صبره وثقته بالله: «والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته، أو أهلك دونه».

بقي ثلاث عشرة عاما يدعوا الناس في مكة فلم يؤمن معه إلا القليل، فلم ييأس ولم يمل من دعوة الناس إلى الله، وعندما ذهب إلى الطائف ليدعوهم إلى الله أغروا به أطفالهم وسفهاءهم؛ فرموه بالحجارة حتى أدموا قدميه وألجؤوه إلى حائط (بستان) لبني ربيعة ومع ذلك لم يدع عليهم بل دعا لهم بالهداية..

ثم يسر الله لدعوته أن تجد مكانا خصبا لتنطلق منه إلى أرجاء العالم وهي المدينة المنورة التي أكرم الله أهلها بالإسلام ونصرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فهاجر إليها واستقبله أهلها بالحفاوة والتكريم، واهتزت المدينة فرحا بقدوم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا يتسابقون لطاعته وخدمته، ويفدونه بأموالهم وأرواحهم، ويحبونه، ويحترمونه، ولا يملؤوا أعينهم منه حياء منه وإجلالا له.. كانوا يبادرون إلى بصاقه، وما يسقط من شعره فيأخذوه تبركا به..

لقد أبدله الله عزًا وكرامة ورفعة وملكا ليس كملك بقية العرب.. ومع ذلك فقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - شديد التواضع لأصحابه رحيما بهم..

وكان لصبره واعتماده على الله أكبر الأثر في نجاح دعوته والنصر في المعارك التي خاضها مع قلة العدد والعدة، فقد عاش من غزوة إلى أخرى طيلة العشر سنوات التي قضاها في المدينة فلم يجبن ولم يفشل ولم ينهزم؛ بل قابل كل ذلك بصبر لم يعرف له التاريخ مثيلا... فعوض الله صبره خيرا وانتشر الإسلام في عهده وبعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - حتى وصل إلى مشارق الأرض ومغاربها.


 الامتحان

قرب موعد الامتحان فها هي على الأبواب، الكل يجتهد ويقرأ ويصور ويدون المحاضرات إلا إحدى الأخوات فلم يكن همها الامتحان فقط، وإنما همها أكبر من ذلك فهي مرتبطة بدار لتحفيظ القرآن الكريم، ولم تكن لتقطع عنه نشاطها مهما واجهتها من ظروف ابتغاء للأجر من الله تعالى..

وقد كانت الأخوات في الدار قد قررن أن يتم جمع كمية من الأغذية والملابس نهاية كل شهر؛ لكي يتم توزيعها على المحتاجين والفقراء، كانت الكثيرات منهن يتسابقن إلى تقديم أفضل ما عندهن ومنهن من تأتي بكميات كبيرة ثم يتم توزيعها بكميات مناسبة؛ لكي تكفي لأكبر عدد من الأسر، وفي كل شهر تمتلئ الدار بأنواع من الأطعمة والملابس الجديدة وغيرها مما هو بحالة جيدة، فتأخذها هذه الأخت وتوصلها إلى من يحتاجها من الفقراء الذين تبدو عليهم آثار الفاقة والحاجة.. فتراهم يتسابقون لأخذها ويرددون الدعاء والشكر.. وكم كانت تشعر بالسعادة وهي ترى الابتسامة تعلوا وجوههم الشاحبة.. لكن الوقت هذه المرة كان قاسيا وغير مناسب فهو يوافق أيام الامتحانات وأكثر المواد صعبة.. وقفت مترددة بعض الشيء وخصوصا أن الوقت الذي ستقضيه في الذهاب لإيصال هذه المواد يقارب الساعتين، وهو وقت ثمين بالنسبة لها فهي لا تملك سوى ساعات محدودة خلال ذلك اليوم وهاتين الساعتين تعني لها الكثير فهي تحتاج لكل دقيقة منها.. فخطر ببالها أن تؤجل ذلك إلى نهاية الأسبوع لكنها قاومت هذه الفكرة واستعانت بالله تعالى وتوكلت عليه، وكانت واثقة من أن الله تعالى لن يضيع جهدها فهي تسعى لرضاه. و قد قدمت ما يحبه الله تعالى على ما تحبه لنفسها من جد واجتهاد لنيل الدرجة المطلوبة..

فذهبت لإيصال هذه المواد إلى مستحقيها.. وبعدها عادت إلى المنزل وقد ذهبت من الوقت أكثر من ساعتين ولم يبق لها سوى بضع ساعات، فاستعانت بالله وتوكلت عليه ودعته تعالى أن ييسر عليها المذاكرة ويبارك لها في الوقت..

ومن الغد بدأ الامتحان وكان قاسيا وقد استغرق أربع ساعات بسبب صعوبة الأسئلة وطولها وقد كان يوما مرهقا.. وبعد انتهاء الامتحانات وظهور النتائج علمت بأنها قد حصلت على الدرجة الكاملة، وكانت هذه النتيجة مفاجأة كبيرة لها فإنها وإن كانت تتوقع درجة مرتفعة؛ لكنها لم تكن تتوقع أن تحصل على الدرجة الكاملة وخصوصا أن عدد الطالبات اللاتي حضرن الامتحان كان كثيرا يفوق المائة، وفيهن كثير من المجدات اللاتي يفقنها في المستوى الدراسي.. ومع ذلك لم يحصلن على الدرجة الكاملة سوى اثنتين فقط؛ هي وأخرى غيرها.. سَعدت بذلك كثيرا وشعرت أن هذه نعمة من الله تعالى ومكافأة على تقديمها ما يحبه الله تعالى على ما تحبه هي.. وحمدت الله على أن حقق لها ما أرادت وتمنت، وسألته تعالى أن يتقبل أعمالها، ويغفر لها ذنوبها، وأن يعينها دوما على فعل الخير..


 الديون

تراكمت عليه الديون حتى ثقل كاهله عن حملها حاول أن يسددها من خلال شراء سيارات بالأقساط ثم سداد ما عليه.. لكنه كان كمن استعان على الرمضاء بالنار.. فازدادت عليه الديون وتضاعفت حتى عجز عن سدادها، وكان أصحاب الحقوق يطالبونه بأداء حقوقهم، أُوصدت في وجهه الأبواب.. أينما يذهب يجد مطالبا له بدين جديد أو قديم.. لم يهنأ بنوم ولا طعام فأصحاب الديون يطاردونه حتى في المنام..

استشار كثيرا من أصحابه في كيفية السداد فكان كل منهم يدلي برأيه ويشير عليه بأمر؛ لكنه لم يجد جدوى من آرائهم..

ضاقت عليه الأرض بما رحبت، فلجأ إلى الله تعالى خالق البرية العالم بحال خلقه المطلع عليهم..

رفع يديه إلى السماء بقلب خاشع ونفس منكسرة ذليلة.. وأخذ يدعو ويبتهل إلى الله تعالى أن يفرج كربته ويزيل همه وغمه، فهو المطلع عليه العليم بكل أموره وأحواله، لا يخفى عليه شيئا منها..

لقد أوصدت في وجهه الأبواب ولم يبق إلا باب الكريم المنان، فأخذ يلح بالدعاء ويتضرع لله في كل وقت، ويفوض أمره لله تعالى الرحيم بعباده السميع المجيب لمن دعاه..

بقي على ذلك الحال عدة أشهر وهو يلتزم الصبر ويأمل في فرج قريب.. ولم ييأس من إجابة دعوته ولم يقنط من رحمة ربه، وعندما دخل شهر رمضان المبارك لم يفته يوم من الأيام أن يدعو الله عند الإفطار وفي كل وقت من أوقات الإجابة بتفريج الكربة وسداد الدين.. وكان كلما حاصره أصحاب الديون تزداد ثقته بالله تعالى ويردد ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾([24]).

لم يخيب الله ظنه ففي نهاية شهر رمضان المبارك كشف الله كربته بطريقة حفظت له كرامته وحمته من أن يذل نفسه لأحد من الناس.. أو أن يأخذ من الزكاة التي كان يتحرج من الأخذ منها.. فبينما كان غارقا في خضم الأحزان والهموم؛ وإذ باتصال من أحد أصدقائه يبشره بفرج من الله تعالى.. فقد هيأ الله له من أهل الخير من فك كربته وأقرضه مبلغا كبيرا من المال لسداد دينه، وطلب منه أن لا يفكر في قضاء هذا الدين حتى يكمل قضاء كل ديونه مهما طال عليه الوقت، وأن لا يشغل باله به أبدا، حمد الله كثيرا على فرجه ورحمته به، وعلم أن هذا الرجل الكريم الذي لا تربطه به أي رابطة من معرفة أو قرابة.. والذي سخا عليه بذلك المبلغ الكبير وشعر بهمه وغمه وسعى للتخفيف عنه، ولم يكن له غرض من أغراض الدنيا، إنما كان بتوفيق الله تعالى له ورحمته به..

فقد عانى سنوات من هذا الهم الجاثم على قلبه والذي احتار في كيفية التخلص منه حتى كاد أن ييأس.. لكن  بسبب صبره وتوكله على الله وعظيم ثقته به تعالى وصدق لجوئه إليه وحسن ظنه به؛ فرج الله عنه همه وأراحه مما أهمه..


 السيل الهائج

مع إقبال الربيع وجوه البديع يحلو لنا الذهاب إلى قريتنا الجميلة حيث الهواء العليل والمناظر الطبيعية الخلابة.. والجبال الشاهقة التي تدل على عظمة الله تعالى وبديع صنعه...

خرجت بأطفالي الثلاثة متجهة إلى القرية، يقودنا والد زوجي في جو تزينه زخات المطر التي تعانق الأرض فتهتز طربًا كأنها تسبّح الخالق وتشكره على هذه الرحمة التي بها يحيى الأرض، ويسقي العباد وينعش البلاد..

وزاد من جمال ذلك الجو البديع تلك الغيوم التي غطت السماء فأكسبتها لونا ساحرا..

وفي منتصف الطريق توقفنا لأداء الظهر، ثم أكملنا طريقنا الذي يستغرق أكثر من ساعتين..

وأقبلنا على واد من أجمل الوديان في قريتنا، وكان هذا الوادي الذي لابد من تجاوزه قد غُطي قليلا بمياه السيل من آثار هذه الأمطار، وكان منظر الوادي والماء يجري فيه والجبال من حوله مع زخات المطر المنعشة والهواء العليل، يبهج النفوس، ويسر العيون..

ترددنا في البداية من قطع هذا الوادي لكننا توكلنا على الله وعزمنا على أن نقطعه؛ لنكمل طريقنا إلى القرية قبل أن يحل علينا الظلام فيصعب علنيا قطعه..

وعندما اقتربنا من نهاية الوادي، ولم يبق لنا سوى بضع أمتار لنخرج منه.. ونحن في سعادة وفرح بهذا المنظر الذي لم ندرك خطورته.. فإذا بنا نقع في منخفض لم ننتبه له فقد كانت الأرض مغطاة بالمياه..

حاولنا أن نخرج منه لكن المياه دخلت إلى السيارة وأوقفتها.. حاولنا تشغيلها مرارا وفشلنا في ذلك، فالمياه محيطة بها من جميع الجهات.. وهي تصل إلى أكثر من منتصفها حاولنا أن نخرج منها لكن لا سبيل للخروج منها، فالسيل جارف والمطر أصبح يهطل بغزارة.. التفتنا يمينا وشمالا فلم نر أحدا..

وأخذ الأطفال يصرخون من الخوف وكنت أُطمئنهم وأُخبرهم أن الله معنا.. وبعد قليل لاح لنا رجل من بعيد ناداه عمي، وأخذ يلوح له بيديه حتى انتبه له الرجل ونظر إلينا.. لكنه ذهب وتركنا فماذا يفعل رجل واحد لهذه الأسرة، وبقينا في السيارة تتأرجح بنا وسط هذا السيل الجارف الذي يزداد بزيادة هطول الأمطار.. وأصبحت المياه تدخل علينا من فتحات المكيف في السيارة.. فأسقط في أيدينا.. فلا أحد حولنا، ولا أحد يدري بنا سوى الله تعالى.. فلجأنا بالدعاء إليه أن ينقذنا مما نحن فيه، لكن المطر كان يزداد.. وكذلك السيل حتى تسبب في انقلاب السيارة على جنبها، وأصبحت السيارة تهتز وتتأرجح، والمياه تدخل علينا من كل مكان، وقد وصلت إلى منتصفنا ونحن في داخل السيارة، أما خارج السيارة فتكاد المياه أن تغطيها..

وبعد نصف ساعة تقريبا ونحن على هذا الحال ننتظر الموت في كل لحظة.. أقبل مجموعة من الرجال كان قد أخبرهم ذلك الرجل الذي استنجد به عمي وأحضروا معهم بعض الحبال ورموها علينا، فربطها عمي في مقود السيارة وربطوها هم في جذع شجرة.. فرحت لما رأيتهم وحمدت الله وتوقعت أن يقوموا بإخراجنا؛ لكنهم لم يجرؤوا على الاقتراب منا.. خصوصا وأن المطر أصبح يهطل بغزارة مما تسبب في ارتفاع مستوى السيل أكثر وأكثر.. واضطرهم إلى الفرار إلى رؤوس الجبال.. وكنت أنظر إليهم وهم يولوننا أدبارهم وأقول لهم.. أرجوكم أنقذوا الأطفال.. فقد كنت أخشى أن أراهم وهم يموتون أمامي، فقال لي عمي بعد أن رآهم هاربين وقد كان قوي الإيمان: بمن تستعينين؟ وعلى من تتوكلين؟ على بشر مثلك!! لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا!!

كلي أمرك لله.. وفوضي شأنك له تعالى فهو القادر على كل شيء الذي إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون، أما هؤلاء البشر فهم مثلك لا حول لهم ولا قوة ألحي بالدعاء واستبشري.. فالفرج قريب إن شاء الله..

فقلت: لكنهم ذهبوا ولن يساعدوننا لقد خافوا على أنفسهم فقال: إن كانوا هم قد ذهبوا فربهم وربنا موجود ولن يضيعنا، فقلت: ولكنني أخشى على الصغير الذي في يدي أن يسقط في الماء والطين الذي كان يغطينا إلى المنتصف، ونحن في داخل السيارة نرتجف من شدة البرد، والأمطار من فوقنا ما زالت تهطل بغزارة، أخشى أن لا أقوى على حمله فيسقط من يدي وأراه يموت أمامي..

فقال: استعيني بالله وتوكلي عليه واصبري فإن الفرج قريب إن شاء الله، وادعي بدعاء الكرب وأكثري من الاستغفار..

كانت كلمات عمي كالبلسم الشافي طمأن قلبي وجعلني أقطع كل أمل بالمخلوقين وأعلق أملي ورجائي بالله رب العالمين، فهو القادر على كل شيء السميع القريب المجيب فأخذنا ندعوا ونتضرع إلى الله تعالى.. ونقول: يا أرحم الراحمين يا رب العالمين خذلنا الناس وفرّوا عنا هاربين وأنت رب الناس وخالقهم والركن المتين، فكن معنا يا سميع يا مجيب وأنقذنا من الكرب العظيم.. وكنا نتوسل لله تعالى بأسمائه وصفاته وبصالح أعمالنا حتى أحسننا برقة في قلوبنا.. واطمئنان في نفوسنا.. وزال منا الخوف على أنفسنا وأطفالنا.. لكننا ما زلنا نرجو رحمة الله تعالى بإنقاذنا، فقد كان البرد يشتد فالماء والطين يغطي أرجلنا والمطر يزداد من فوقنا.. والسيارة تتأرجح في داخلها  المياه التي تكاد أن تغطيها، وكأنها في صراع معها.. ونحن في داخلها لا حول لنا ولا قوة حتى ظننا أنه الموت فأسلمنا أمرنا لله وأيقنا أن الموت حق.. لكننا لم نيأس من رحمة الله ولطفه بنا.. ولقد كنا عندما ندعو نرى السيارة تندفع من مكانها رويدا رويدا.. وكأن أحدا يدفعها، فقد كانت تندفع برفق مع سرعة السيل الجارفة التي كان يمكن لها أن تقلبها بكل سهولة!!

وكذلك الحبال التي كانت تربط السيارة بالشجرة لم تكن قوية!! وأيضا الشجرة صغيرة وضعيفة لا يمكن أن تتحمل هذا الثقل العظيم.. وكم اقتلع السيل من هي أكبر منها.. أما هي فقد بقيت متماسكة صامدة.. وقد كنا ننظر إلى السيل فنراه يدحرج الأشجار التي اقتلعها والصخور وكل من يقف أمامه كالمجرم العاتي الذي يدمّر كل شيء يقف في وجهه من أجل نفسه..

لقد كان المنظر مفزعا!!

لكننا تحلينا بالصبر وفوضنا أمرنا لله تعالى وتوكلنا عليه؛ لذلك لم نفزع من هذا المنظر على شدته فنحن نرى الناس من بعيد وقد علو رؤوس الجبال!!.. خوفا من هذا السيل العرمرم الذي غطى الوادي وهدم أسوار المزارع وأغرقها..

ونحن في طرف الوادي ليس بيننا وبين نهاية الوادي سوى بضعة أمتار.. لكن لا أحد يجرؤ على الاقتراب منا فمكاننا خطير والسيل جارف ومرتفع وفي ازدياد، بقينا على هذا الحال ساعتين تقريبا حتى ظننا إننا إن لم نهلك من الانجراف في السيل فسوف نهلك من شدة البرد..

لقد سلمنا أمرنا لله.. فها نحن بين يدي الله لا نملك من أمرنا شيئا سوى الدعاء وانتظار الفرج، والناس حولنا يبكون علينا رجال ونساء وأطفال لا حول لهم ولا قوة.. يتمنون إنقاذنا فلا يستطيعون.. ولا يملكون سوى الدعاء والتقرب في أن يقل مستوى ارتفاع السيل.. حتى يتمكنوا من الدخول فيه لإنقاذنا، ويتمنوا أن لا تكون نهايتنا مأساوية..

وبعد الساعتين التي أمضيناها على هذا الحال خف مستوى السيل وقدم رجال من القرية المجاورة كانوا يمتازون بالقوة والضخامة، وكانوا قد سمعوا بنا فأقبلوا مسرعين.. وتماسكوا كالشريط متمسكين بالحبال المربوطة بالسيارة حتى وصلوا إلينا في داخل السيارة وكان أول من أخرجوا طفلي الذي لم يتجاوز الثلاثة أشهر والذي كدت أن أسقطه في الماء من شدة الإعياء والتعب، فكانوا كمن حمل جبل من على يديّ، ثم أخرجوا بقية الأطفال وخرج عمي، ثم شددت عليّ عباءتي وغطيت وجهي بغطائي الذي امتلأ بالماء والطين وقفزت من السيارة ولم أرضَ بمساعدة أحد من الرجال وتمسكت بالحبال.. ثم نزلت إلى السيل وتمنين أن لا أحتاج إلى مساعدتهم، لكن عند نزولي للماء (السيل) وكنت قد تمسكت بالحبل جيدا فإذا بالسيل يجرفني كأنني قطعة من القماش فساعدني الرجال وأنا ممسكة بالحبل أحاول أن أمشي بنفسي حتى خرجت فحملونا بسيارة أخرى إلى منازلهم وأكرمونا.. وسخنوا لنا الماء للاستحمام وأعطونا من ملابسهم وبقينا إلى الغد عندهم..

ثم أوصلونا بسيارتهم إلى قريتنا.. فحمدنا الله الذي نجانا من هذا الكرب وخصوصا عندما رأينا السيارة التي انعدمت تماما بفعل السيل الجارف والصخور المدمرة، وعلمنا أن الله مع عبده يمده بعونه ويسبغ عليه رحمته إذا لجأ إليه وتوكل عليه.


 نفحات الرحمة

تقاذفتها الهموم والأحزان فقد ابتليت بالعديد من الأمراض وهي ما زالت في زهرة شبابها ما أعاقها عن إكمال دراستها.. ونغص عليها العيش وهي ما زالت عروس..

زارت العديد من الأطباء وتناولت الكثير من الأدوية لكن الحال لم يتغير كثيرا.. فما تكاد تخرج من مرض حتى تقع فريسة للآخر.. حتى هزل جسمها وتدهورت حالتها النفسية.

فأشار عليها بعض الأصدقاء بالذهاب إلى الرقاة (المشايخ) فذهبت إليهم؛ لكنها تعرضت لكثير من المتاعب النفسية فقد رأت في عيادتهم الكثير من الحالات التي لها الرعب والهلع مما جعلها تحجم عن الذهاب إليهم.

قاست وعانت الكثير.. وكان مما زاد من معاناتها وألمها أنها لم تنجب مع أنه مضى على زواجها العديد من السنوات..

كانت ترغب في الإنجاب مع ما تعانيه من آلام.. كانت دائما ترى نفسها محطمة، فهي لم تكمل دراستها، ولم تهنأ بزواجها، ولم ترزق بمولود يضفي على حياتها الكئيبة شيئا من المرح..

دائما تُرى منكسرة حزينة عينها تدل على آلام عميقة تخفيها.. كل من يراها يحزن عليها، ولكنها مع ذلك كانت متحلية بالصبر معتمدة على الله..

مسلمة أمرها إليه، وكان ذلك التعلق بالله يفتح أمامها الأمل في تفريج الكربة وزوال الهم والغم والمرض..

ولقد قررت بعد ما رأت عجز الأطباء والرقاة عن نفعها وعلاجها أن تترك كل الأدوية إلا الضروري منها، وأن ترقي هي نفسها، وتدعو الله تعالى، وتلح عليه فهو الفرد الصمد الذي تلجأ إليه جميع الخلائق في احتياجاتهم، ولا يحتاج هو لأحد.. وهو السميع المجيب المغيث.. الذي يسمع أنين المهمومين، وآهات المرضى والمكروبين.. وهو القادر الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.

فتعلقت بالله تعالى وتوجهت إليه بقلب خاشع ونفس منكسرة.. طرحت نفسها بين يديه، وأسلمت أمرها إليه، ورضيت بقضائه وقدره عليها؛ لكنها دعت بزوال الهم والغم والمرض..

لم تيأس ولم تمل ولم تنس أن تتصدق وتتقرب إلى الله بكل عمل صالح.. لقد قطعت رجاءها بالخلق واتجهت إلى الخالق فلم يخيبها رب البرية من يفرح بعبده إذا لجأ إليه مع غنى الله عنه، وبعد مدة ليست بالطويلة.. تحسنت حالتها شيئا فشيئا، ثم يسّر الله لها إكمال دراستها، ثم رزقها الله بالولد الذي قرّت به عينها وعوضها الله تعالى عن أيام صبرها ومعاناتها وحرمانها التي دامت سنوات عديدة، وعلمت أن من كان مع الله كان الله معه، ومن توكل على الله فلن يخيبه..


 حنين وأنين

كانت فتاة هادئة وذات أخلاق رفيعة تزوجت من رجل يماثلها في الطباع والأخلاق.. وكانت له نعم الزوجة تعرف حقوقه.. تطيعه إذا أمر.. وتسره إذا نظر.. وتكرم أهله، وتحفظ ماله..

دامت حياتهما وهما في تفاهم ووئام ولم يُعكر عليهما صفو حياتهما سوى أنه مضى على زواجهما بضع سنوات ولم يُرزقا خلالها بأطفال يضفون على حياتهما البهجة والسرور، ويملؤون حياتهما مرحا وسعادة..

فجدا في البحث عن كل باب يمكن أن يوصلهما إلى الإنجاب فلم يدعا طبيبا مشهورا، ولا أدوية شعبية، ولا عملية جراحية إلا سعوا إليها حتى أنهما سافرا للخارج من أجل العلاج، وأجريت للزوجة بعض العمليات الجراحية.. لكنها مع كل ذلك لم تر النتيجة المرغوبة..

وكم قاست الزوجة من ذلك وتحملت من الآلام النفسية والجسدية، وكم كانت تتحرق شوقا عندما ترى طفلا تلاعبه أمه وتداعبه وتتمنى أن ترى لها ابنا تلاعبه وتضاحكه وتضمه إلى صدرها، وتسقيه من حنانها، وتسعد به زوجها وتربيه على طاعة الله وطلب رضاه.. تحفظه القرآن.. وتعده ليكون داعية إلى الله تعالى.

وكم كانت تتألم حينما ترى زوجها وهو ينظر إلى الأطفال، وكلما اقترب من أحدهم أخذ يلاعبه ويداعبه، والحزن يملأ عينيه وقلبه.. فآثرت أن تقبل بزواجه مرة أخرى..

فربما يرزقه الله الولد من غيرها.. ولقد كانت هذه الفكرة قاسية عليها وخصوصا وأنها امرأة هادئة الطباع تكتم آلامها وأحزانها وتحاول أن لا تظهرها لأحد..

كما أنها تخشى أن ينصرف عنها زوجها إلى الأخرى فتبقى هي بلا زوج ولا ولد.. وخصوصا أن جميع الأطباء في داخل البلاد وخارجها أجمعوا على أنه لا أمل لها في الإنجاب..

كانت تقاوم مشاعر الرفض وتحاول أن تتغلب عليها وكلها أمل في أن يعوضها الله خيرا..

لم تتمن أكثر من أن لا يتغير عليها ودّ زوجها لها ورقته معها ومراعاته لمشاعرها.. وأن يكون أبناؤه بمثابة أبنائها.. حاولت أن تكتم مشاعرها أمام زوجها حتى لا تقلقه..

لكن آثار الحزن كانت ظاهرة عليها مهما حاولت إخفاءه، وبعد أن تزوج لم تجد سوى الله تعالى.. تبثه آلامها وأحزانها.. همها وغمها.. خوفها ورجاءها.. طرحت نفسها بين يديه.. وأسلمت أمرها إليه.. ودعته تعالى أن يزيل عنها همها ويربط على قلبها.. وأن يشغلها بطاعته عن آلامها وأحزانها.. وأن يملأ قلبها يقينا ورضا بقضائه وقدره..

لقد تذرعت بالصبر.. وأوكلت أمرها إلى الله، وكانت على ثقة من أن الله تعالى لن يخيب ظنها.. وأنه تعالى سيزيل همها.. ويعوضها خيرا في زوجها وأبنائه..

كانت تشعر بالأسى والحزن فالكل يبارك زواجه ويدعو لهم بالذرية التي حرموا منها العديد من السنوات.. وكانت كلما شعرت بذلك لجأت إلى مصلاها واتجهت إلى ربها العليم بحالها تبثه شكواها وأحزانها..

لم تشك للمخلوقين ولم تطلب مشورتهم..

لقد استغنت بالله عنهم فأغناها الله الرحيم الكريم، وأزال همها وبارك الله لها في زوجها الذي كان يرفق بها ويراعيها، ويحاول إسعادها وإخراجها مما هي فيه من حزن وألم، ورزقها الله من حيث لا تحتسب..

لم تتوقع أن ترزق بالولد بعد أن كان جميع الأطباء في خارج البلاد وداخلها قد أدخلوها في دوامة اليأس من الإنجاب، فأخلف الله ظنهم ورزقها الولد قبل الزوجة الثانية.. لما أقبلت على ربها وطرقت بابه واستغنت به عن الخلق فأغناها الله وأجاب دعاءها ورزقها الولد.


 صبر عظيم

تكالبت عليها الظروف القاسية حتى كادت أن تقع فريسة لليأس والإحباط لكن تعلقها بالله تعالى الرحيم بعباده، كان يفتح لها نوافذ الأمل في حياة أفضل، وتوكلها على الله تعالى كان مبعث قوتها وقوة عزيمتها وسكينة نفسها.

فقد تزوجت وهي صغيرة وأنجبت طفل كالقمر في بهائه، وبعد أن أكمل طفلها العامين توفي في يوم ختانه بين يديها، وكانوا قد أعدوا له وليمة كبيرة كما كان يُعمل قديما في يوم الختان، ولم ينتهوا من الوليمة بعد.. فغطت ابنها وساهمت في تجهيز الطعام، وبعد انتهاء العشاء أخبرت زوجها بما حصل وانقلب الفرح إلى عزاء..

ثم حصل خلاف بين زوجها وإخوتها مما تسبب في طلاقها بعد أن أنجبت طفلين من دون ذنب جنته فقد كانت مطيعة لزوجها بارة بأهلها، فكانت هذه صدمة أخرى لها فقد كان زوجها من أفضل الناس خلقا ودينا وعلما.. فحزنت عليه حزنا شديدا.. لكنها تماسكت وتصبرت وسألت الله العوض، فتزوجت بآخر وأنجبت منه طفلين.. فتوفي أحدهما دهسا على فراشه في فناء منزله أمام ناظري أمه.. فقد دخلت إحدى السيارات إلى فناء الدار ودهست الطفل وهو نائم على فراشه ظنا من قائد السيارة أن الفراش لم يكن به أحد.. فالطفل كان صغيرا ونحيلا.. طوت حزنها في قلبها وصبرت واسترجعت، وكانت والدتها بجانبها تصبرها وتواسيها وتشد من أزرها، وبعد مدة طلقها زوجها الثاني فقد كره المنزل بعد أن فقد ابنه فيه.. فتجرعت آلامها وصبرت واحتسبت فقد فقدت ابنها بين عشية وضحاها ثم طلقت من دونما سبب.. وبعد مدة تزوجت بآخر فرزقها الله بثلاث من الأبناء وتوفي لها ثلاثة منه آخرين بعد ولادتهم بقليل..

لقد مرت بها الكثير من المصاعب والابتلاءات.. لكنها كانت صابرة محتسبة متيقنة أن الله سيعوضها خيرا عن صبرها في الدنيا والآخرة، فهي ترجو رحمة الله وفضله وتدعوه أن يرزقها الصبر والسلوان وأن يعوضها خيرا ويعظم أجرها.. ثم توفيت والدتها التي كانت خير معين لها بعد الله تعالى على هذه الحياة.. فهي لم تفارقها أبدا طوال حياتها، وكانت تعتمد عليها في أمور كثيرة من أمور الحياة.. وقد كانت هذه المصيبة أكبر مصيبة مرت بها فقدت العديد من أبنائها وها هي الآن تفقد أعز الناس عليها وأحبهم إليها والدتها التي لم يكن لها في هذه الدنيا سواها فهي ابنتها الوحيدة. والدتها التي طالما وقفت بجانبها وساندتها، وخففت عنها مصابها، وتحملت عنها الكثير من مشاكل الحياة وأعانتها على تربية أبنائها حتى أنها كانت لهم الأم الثانية فلم يكونوا ينادوها بغير أمي، لقد كان الكثير من أقاربها يخشى عليها أن لا تتحمل هذه المصيبة العظيمة فتقع فريسة للحزن حتى تهلك، لكنها مع ذلك تماسكت واستعانت بالله تعالى أن يخفف لوعتها على فراق والدتها الحبيبة..

لقد مرت بمصائب وابتلاءات يعجز الكثير عن تحملها لكن صبرها واستعانتها بالله وطلبها الأجر منه تعالى خفف عنها مصابها وأعطاها الأمل في حياة أفضل، وقد من الله عليها بعد ذلك بأبناء بررة يتسابقون لطاعتها ويطلبون رضاها، ورزقت بأحفاد يرونها مثلا لهم في قوة الصبر والتحمل والتوكل على الله والاستعانة به تعالى..


 غَنَاء بعد عناء

قبل أربعين عاما مضى أو أكثر توفي زوجها ولم يخلف لها دينارا ولا درهما، بل خلف لها ثلاثا من البنات اللاتي ما زلن على مقاعد الدراسة.. ضاقت عليها الأرض بما رحبت.. وضاقت عليها نفسها.. فقد فقدت العائل الوحيد الذي كان ينفق عليها.. وهي امرأة عفيفة النفس لا تقبل أن تكون هي وبناتها عالة على أحد وإن كان قريب، أو تنتظر صدقات المحسنين.. فآثرت أن تعمل خادمة عند بعض الأسر الغنية.. وقد كانت تعمل لديهم في كي الملابس.. وكانت تكوي على مكواة قديمة تعمل بالفحم.. فكانت تملأ المكواة بالجمر.. ثم تذهب وتكوي به في بعض المنازل، وترجع في كل يوم ببعض الريالات التي تنفقها على بناتها ومتطلبات الدراسة وبعض احتياجاتهم الضرورية.. كان عملا شاقا عليها لكنها صابرة محتسبة متكلة على الله تعالى في أن يعينها على الإنفاق على بناتها، وتربيتهن وتعليمهن دون الحاجة لسؤال الناس حتى يكملن دراستهن..

كانت دائما تدعو الله أن يبارك لها في رزقها ويغنيها عن الخلق، وبقيت على هذا الحال حتى تخرج البنات.. ووصلن إلى أعلى المراتب في سلك التعليم فاستبدلن بمنزلهن القديم المستأجر منزلا كبيرا جميلا، وجعلن لوالدتهن مرتبا شهريا تنفق منه.. وتتصدق.. وتهدي.. لمن تحب، وأحضرن لها من يخدمها، فأصبحت بينهن تأمر فتطاع بعد أن كانت تُؤمر فتطيع، وأصبحت تُخدم بعد أن كانت تَخدم غيرها.. ولم تكن وهي في هذه النعمة تنسى فضل الله عليها ورحمته بها وكيف عوضها عن صبرها خيرا عظيما..


 فتح المدائن

لقد فتح المسلمون البلدان، ونشروا الإسلام، وحققوا انتصارات عظيمة على أعظم قوتين في ذلك العصر الفرس والروم..

وكانوا على ثقة من أن النصر لا يأتي بالقوة، ولا بكثرة العدد والعدة، ولا بالشجاعة والجرأة، وإنما يأتي النصر بالتوكل على الله والاعتماد عليه سبحانه، والصبر في ساحة القتال والإلحاح في الدعاء.. وفي عهد عمر t توسعت البلاد.. وكثرت الفتوحات.. ومنها فتح المدائن التي أعز الله فيها الإسلام والمسلمين، وأظهر لهم أنواع الكرامات فقد وقف نهر دجلة عائقا أمام تقدم المسلمين.. وكان يجب عليهم أن يعبروا نهر دجلة حتى يصلوا إلى المدائن.. ولم يكن لهم سابقة في خوض البحار.. فتوقفوا أمامه أياما، وقد كان الفرس متحصنين في المدائن مطمئنين على أن المسلمين لن يصلوا إليهم، ولم تمضي سوى أيام حتى جاء الفيضان وعم السيل وأصبح نهر دجلة يقذف بالزبد، ووقف المسلمون أمامه حائرون فهم لم يتعودوا على التعامل مع البحار والأنهار.. فوقف قائدهم سعد بن أبي وقاص وخطب فيهم قائلا بعد أن حمد الله وصلى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن عدوكم قد اعتصم منكم بهذا البحر، فلا تخلصون إليهم وهم يخلصون إليكم فيناوئونكم في سفنهم.. وقد رأيت أن تبادروا جهاد عدوكم بنياتكم قبل أن تحصركم الدنيا.. ألا وأني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم.. فقالوا جميعا عزم الله لنا ولك الرشد، فافعل.. لم يكن أحد يتوقع من قوم أنهكتهم الحروب أن يوافقوا بهذه السرعة وخاصة أنهم لم يكن لهم مع خوص البحار تجارب؛ لكنها الثقة بالله وقوة التوكل عليه جعلتهم يتخذون هذا القرار بلا تردد..

فاقتحم سعد النهر.. واقتحم المسلمون معه لم يتخلف منهم أحد.. وأمرهم سعد أن يقولوا عند العبور: نستعين بالله ونتوكل عليه، حسبنا الله ونعم الوكيل، لا حول ولا قوة إلا بالله.

وساروا على الماء وكأنهم يسيرون على الأرض، ولم يُرَ وجه الماء من كثرة الفرسان والرجالة، وقد حدث للمسلمين من الطمأنينة والأمان ما جعلهم يمرحون ويتحدثون وكأنهم في مجالسهم.. ولم يفقد المسلمون أحدا من رجالهم ولا من أمتعتهم إلا متاع أحدهم أخذه الموج، فدعا الله وقال: اللهم لا تجعلني من بينهم يذهب متاعي فرد الله متاعه.. وقد كان الفُرس على شاطئ دجلة يراقبون جيش المسلمين وينظرون ماذا سيفعلون مع تلك العقبة الكؤود.. ولم يدر بخلدهم قط أنهم سيجرؤون على اقتحام تلك اللُجة.. وبخاصة بعدما قحمهم المد، وزاد جريان السيل لكنهم اندهشوا لما رأوا كتائب المسلمين تتابع في خوض النهر الذي كان يظن ملك الفرس يزدجرد أنه حصن طبيعي يحتمي خلفه هو وجيشه، ويعتمدون عليه في صد العدو مهما كانت قوته.. وتملكهم العجب وهم يرون أفواج المسلمين يخرجون منه سالمين كما دخلوه.. فأصابهم الذعر والخوف وقال بعضهم لبعض: إنكم لا تحاربون إنسا ولكن تحاربون الجن.. فلم يواجه المسلمون إلا فرقة منهم وفر ملك الفُرس وأتباعه، وخلت المدائن من السكان.. فدخلها المسلمون وغنموا منها غنائم عظيمة واستولوا على قصور كسرى التي كانت تعج بالزخارف والنعيم والكنوز العظيمة، فنظر إليها سعد وتلا قوله تعالى: ﴿كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ﴾([25]).

وقد كان ذلك يوما عظيما وأمرا هائلا أعز الله فيه المسلمون ونصرهم على أقوى دولة من الدول العظمى في ذلك العصر، وقد جمع المسلمون الغنائم الكثيرة التي لم تر العين مثلها من قبل، وأرسلوها إلى عمر بن الخطاب في المدينة دون أن تغريهم فلما رآها عمر وفيها اللآلئ والجواهر الثمينة.. قال: إن قوما أدوا هذا لأمناء..


 الفقير

نشأ في أسرة فقيرة تكاد لا تجد ما يكفيها.. أخذ يبحث عن عمل لعله يجد ما يسد عوزه ويساعده على الإنفاق على أسرته.. كان يتمنى من الله تعالى ويدعوه أن لا يحتاج إلى أحد من الناس..

فوجد عملا في أحد المطاعم وحمد الله على ذلك، وأخذ يعمل بكل جد ونشاط وإخلاص مع ما في هذا العمل من مشقة، وما يتطلبه من جهد ووقت.. وكان كلما يصبح يذكر الله تعالى ويدعوه بالبركة والتوفيق، ثم يخرج لعمله متوكلا على الله الخالق فهو الرزاق الوهاب المعطي الكريم.. لم يدر بخلده يوما من الأيام أن يكون من الأغنياء، فقد كان ذلك بعيدا عن مخيلته وحتى عن أحلامه.. لكنه كان دائم التوكل على الله، عظيم الثقة به في أن يسد حاجته، وييسر أموره، ويغنيه عن الناس.. ومع مرور الأيام والأعوام بارك الله له في رزقه وأصبح صاحب محل.. وزاد دخله ونمت ثروته فقد كان يزكيها بالصدقة، ويخرج زكاتها بلا تأخير كما أنه لم يكن يتأخر عن محتاج قصده، ولا سائلا ببابه.. ولم يكن ينسى نعم الله عليه، فقد كان يذكر لأبنائه أيام فقره، وكيف منّ الله عليه ورزقه من حيث لا يحتسب..

ثم تنوعت تجارته وعظمت ثروته حتى أصبح من أصحاب الملايين بعد أن كان لا يملك قوت يومه، ولكن كل ذلك الغنى لم يغير منه شيئا.. فلم يزل ذلك الإنسان الطيب البار بوالديه، والذي لا يظلم أحدا، ولا يتعالى على الغير.. المتواضع في مأكله وملبسه ومسكنه..

كما كان حريصا على أن يعطي كل من يعمل لديه كامل حقوقه حتى وإن كان على خلاف شديد معه، فلم يكن يهضم لأحد حقا..

ولم يجعله هذا الثراء يغدق على أولاده بلا حساب كحال كثير من الأغنياء، بل كان يخشى عليهم الغرور والاتكال على ثروة أبيهم وعدم السعي لطلب الرزق من الله تعالى؛ لذا لم يسرف عليهم ولم يعطهم كل ما يتمنون بل جعلهم ينفقون كالمتوسط من الناس، ومن يحتاج لأكثر من ذلك فهو يعمل لديه بمقابل..

ومع ذلك فقد كان يخصص يوما في الأسبوع يطعم فيه الطعام للفقراء وغيرهم، ويوزع المواد الغذائية على الأربطة والأوقاف والأماكن التي يعلم بوجود المحتاجين فيها..

وفي شهر رمضان المبارك يقصده المئات من المحتاجين من كل مكان ينتظرون ما تجود به نفسه، فقد كان يعطي في رمضان عطاء من لا يخشى الفقر، ويفرغ نفسه وكثيرا من العاملين لديه عدة أيام قبل قدوم شهر رمضان المبارك؛ لتجهيز المواد الغذائية وتقسيمها حتى يتم توزيعها بلا مشقة على هؤلاء الفقراء الذين جاءوا إليه من مكان بعيد..

لقد توكل على الله في جميع أموره فرزقه الله من حيث لا يحتسب، وأعطاه غنى لم يطغيه ولم يغير من أخلاقه.. بل سخره لرضا الله تعالى وطاعته والإنفاق في سبيله.. فقد كان ينفق ويعطي ويتصدق، ودائما يذكر أبنائه بنعم الله عليه وكيف أنّ الله تعالى رزقه هذا الرزق الواسع بفضله وكرمه تعالى.. وبسبب جده وصبره وتوكله على الله وعلمه بأن الرزق من عند الله، يهبه لمن شاء من عباده إذا اعتمد عليه ووكل أمره إليه..


 هاجر

أوحى الله لنبيه إبراهيم وأمره أن يذهب بهاجر وابنها إسماعيل إلى مكة ذلك المكان البعيد الذي لم يكن به شيء من مظاهر الحياة، بل هو واد غير ذي زرع ولا يجاوره أحد من البشر لأمر أراده الله تعالى.. فشد إبراهيم u الرحال ومعه هاجر وابنها إسماعيل وهو رضيع من فلسطين، يهبطون واديا ويعلون آخر، ويقطعون الجبال والهضاب.. وطال بهم الطريق حتى وصلوا إلى مكان مقفر خال من مظاهر الحياة، ولا يسكنه بشر..

وفي هذا المكان الموحش وتحت لهيب الشمس المحرق.. تركها إبراهيم u هي وابنها فيه.. وقفل راجعا إلى فلسطين فجرت خلفه وتعلقت به..

وحاولت أن تستعطفه وتستدر رحمته، وقالت له: لمن تتركنا يا إبراهيم في هذا المكان الموحش؟ فلم يرد عليها!! ولم يلتفت لها!!

وواصل المسير وهي تنادي حتى يئست أن يرد عليها، فقالت: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم.. فقالت بروح المؤمن الصابر المحتسب المتوكل على الله: إذًا لن يضيعنا..

انصاعت لربها وأذعنت له وبقيت في هذا المكان الموحش الذي لا ترى فيه سوى الجبال والهضاب.. فلا أنيس ولا جليس سوى ابنها الرضيع، فضمته إلى صدرها.. وكأنها تقول له: من سيحمينا من سطو الذئاب!! وفتك الوحوش!!

وكيف ستتحمل لفح الشمس وحرارة الجو!! من سيؤنس وحشتنا ويخفف وحدتنا!! من أين نحضر طعامنا وشرابنا!! وتحت ظل أي شجرة سنسكن!! أسالت العبرات الغزيرة، وذرفت الدموع السخينة.. فهي التي تربت في قصور الملوك وفي أجمل المناطق خضرة وأرقها نسمة.. ها هي تسكن الآن في واد غير ذي زرع بلا أنيس ولا طعام تحت أشعة الشمس الحارقة.. لكنها علمت أن هذا ابتلاء من الله فعليها أن تصبر وتحتسب وتفوض أمرها لله تعالى، وعلمت علم يقين بأن الله لن يضيعها.. وأن ما حصل لها هو لحكمة أرادها..

أما إبراهيم u فقد مضى عنهم وفي قلبه حسرة ولوعة على فراق ابنه وفلذة كبده، ويثقله الإشفاق عليهما من السكن في هذا المكان المقفر لكنه صبر على البلاء.. وسلم لقضاء الله، ولما ابتعد عنهم بحيث لا يرونه اتجه إلى وجهتهم وبقلب يملؤه الثقة بوعد الله وقوة الاعتماد عليه أخذ يدعو ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾([26]).

لقد بقيت هاجر في هذا المكان وليس لديها إلا جراب من تمر وشيئا من الماء فنفد الماء والزاد، وأخذ ابنها يصرخ من الجوع والعطش، فأخذت تسعى بين الجبلين: الصفا والمروة تبحث عن الماء، والطفل يصيح ويصخب ويضرب برجليه الأرض من شدة البكاء.. فيقطع نياط قلبها.. ويحزنها بكاؤه ونحيبه، فتهرول وتجري حتى سعت سبعة أشواط بين جبلي الصفا والمروة تبحث عن الماء، وكلما علت جبل رأت سراب الماء في الآخر فتجري إليه.. حتى خارت قواها وها هي ترى وحيدها الذي تتمنى أن تفديه بروحها يكاد أن يسلم روحه ويجود بنفسه، فتعتصر ألما وحزنا.. وهي في هذه الحال لا تجد لها معينا في وحدتها ولا سلوة في مصابها إلا الله تلجأ إليه وتستعين به، فإذا بالماء ينبجس من تحت رجلي طفلها الصغيرتين.. رحماك ربي إنها رحمة الله التي تحوطها وعنايته التي تظلها.. فسقت وليدها حتى ارتوى واطمأنت عليه.. ثم شربت هي واطمأنت وحمدت الله الذي نجا ابنها بعد أن كادت تفقده من شدة العطش، لقد كانت رحمة من الله أن فجر لهم هذه العين المباركة التي هي طعام طعم وشفاء سقم.. إنها عين زمزم التي ما زالت قائمة حتى الآن يتسابق الناس إلى حوضها والشرب منها، والتي جعلها الله سبب لشفاء القلوب والأبدان برحمته ومنّه..

ولما نبع الماء في هذا المكان جذب إليه الطيور فرأتها بعض القوافل المسافرة وعلمت أن في هذا المكان ماء وإلا لما حلقت فوقه الطيور، فأصبح الناس يفدون إلى هذا المكان زرافات ووحدانا..

واستأذن بعضهم هاجر في الإقامة عندها فأذنت لهم وأنست هاجر بهم واطمأنت إلى جوارهم وشكرت الله تعالى أن جعل أفئدة من الناس تهوي إليهم، واستجاب الله دعوة إبراهيم u وبنى البيت الحرام في هذا المكان الطاهر، وأصبحت الناس تؤمه للحج والعمرة، وأكرم الله هاجر بأن أنبع لها هذه العين المباركة، وجعل سعيها بين الصفا نسكا يقوم به الحجاج والمعتمرون لا تتم عبادتهم إلا به إلى يومنا هذا.


 الأم الصابرة

خرجوا يحدوهم الشوق إلى بيت الله الحرام لأداء مناسك الحج والعمرة، خرجوا وكلهم يتمنى أن يقف أمام البيت الحرام يدعوا ويصلي ويتأمل في هذا المكان العظيم الذي طالما سمعوا عنه ولم يروه، جمعوا كل ما لديهم من مال في هذه الرحلة العظيمة.. التي تستغرق الكثير من الوقت فهم يذهبون في قوافل إلى مكة المكرمة، وهذا ما جعلهم على مدى عدة سنوات يدخرون جزء من نفقاتهم مع حاجتهم الشديدة.. لكن في سبيل أداء مناسك الحج يهون عليهم كل شيء، وهاهم يخرجون وقلوبهم تخفق شوقا وحنينا وسعادة، ويستعذبون عناء السفر الطويل من أجل الوصول إلى بيت الله الحرام، ويتمتعوا بأداء المناسك التي يصعب على كثير من المسلمين الفقراء الذين يسكنون في مشارق الأرض ومغاربها أن يؤدوها.. لطول المسافة وكثرة النفقات التي يحتاجونها..

لكن هؤلاء مع فقرهم إلا إنهم سعوا لذلك حتى تمكنوا منه، ولكن ما نغص عليهم فرحتهم أن أحد أفراد هذه العائلة الكبيرة قد أصابه الإعياء والتعب وزاد عليه الألم واشتد بسبب سوء ظروف السفر وعدم وجود الأدوية.. وفي منتصف الطريق توفي قبل أن يكحل عينيه ببيت الله الحرام ويقضي أسعد أوقاته بطاعة الله، وأداء مناسك الحج العظيمة التي طالما تمناها وحلم بها.. وخلف وراءه زوجته الثكلى وطفلين صغيرين..

لقد فجعت هذه الزوجة في زوجها الذي لم يكن معها محرم سواه واحتارت ماذا تفعل؟

فهل يمكنها العودة إلى الوطن؟ أو أنه لابد من مواصلة الطريق وهي في حداد وحزن على زوجها المتوفى..

لكن بعض أقارب زوجها ممن كان معها أشار عليها أن تكمل الطريق فلا يوجد منهم من يضحي بهذا الرحلة التي يمكن أن لا تتكرر مرة أخرى ليصحبها إلى بلادها، فعلمت أنه لابد لها من إكمال الطريق وبعد الحج تعود معهم.. بقيت معهم كالغريبة بعد أن فقدت عائلها، ولم تكن تستطيع طلب أي شيء منهم مهما كانت في حاجته إلا أن يعطوها هم أو يعطوا أطفالها.. وبعد رحلة الحج الشاقة وما فيها من متاعب وصلوا إلى بيت الله الحرام، فطرحت نفسها بين يدي الله تطلب رضاه ومغفرته وتطلب عونه ومدده، وأن يعطيها الصبر والقوة للتحمل حتى تعود إلى ديارها وأهلها، وأن يحفظ أطفالها ويقدرها على تربيتهم على الخير والصلاح..

كانت كلما حاصرها الحزن والهم والحاجة لجأت إلى الله تعالى تدعوه وتستغيث به فيخفف آلامها وأحزانها..

وبعد انتهاء الحج عاد أقارب زوجها إلى بلادهم ولم يصحبوها معهم فرارا من الإنفاق عليها وعلى أبنائها، وبقيت هي لا تدري إلى أين تذهب بأطفالها في هذا المكان الذي لا تعرف به أحدا.. أغلقت في وجهها الأبواب فلجأت إلى الله تدعوه وتستغيث به فهي غريبة ووحيدة ولا تدري كيف تعمل هي وأبنائها؟.. وكيف تطعمهم وأين تسكن بهم؟..

فلم تجد سوى أن تذهب بهم إلى أحد المطاعم ليعملوا بها.. وقالت لصاحب المطعم: أنا لا أريد منك مالا ولكن أريدك أن تطعم هؤلاء الصغار مقابل عملهم معك، وافق صاحب المطعم على عملهم لديه وأن يتكفل بإطعامهم مما يتبقى من طعام جيد، وكان يعطيهم في نهاية الدوام بعضا منه فيذهبون به لوالدتهم..

وأخذت والدتهم تبحث عن مكان تسكن فيه هي وأطفالها فوجدت عُشة صغيرة في إحدى الجبال.. فحمدت الله وسكنت فيها مع أطفالها وفي الصباح تبدأ رحلتهم الشاقة.. فالأطفال يذهبون للعمل في المطعم مع ضعفهم وصغر سنهم، والأم تبحث عن عمل في المنازل لكي تسد حاجتهم الضرورية.. وبعد البحث المضني وجدت عملا في عدد من المنازل، وكان عملا شاقا عليها ومرهقا لها لكنها صبرت وتحملت.. فقد كانت تتمنى من الله أن يوفقها لتعليم أبنائها وتربيتهم تربية صالحة.. ومع مرور الوقت جمعت الأم بعض المال وأدخلت أبنائها المدارس الأهلية التي تكلف الكثير من المال؛ لأنهم ليسوا من أهل البلاد، ولن تقبلهم المدارس الحكومية غالبا، وكانت تحرم نفسها من كل شيء وترهق نفسها بكثرة العمل؛ لكي توفر لأبنائها متطلبات الدراسة، ومما ساعدها على ذلك أن صاحب المطعم الذي يعمل به أبنائها، أصبح يعطيهم مرتبا صغيرا بعد أن رأى جد الأطفال ونشاطهم في العمل، وقد كان هذا المبلغ يساعدهم على نفقات المدرسة الكثيرة، لقد كانت الأم تدعو الله دوما أن يبارك لها في أبنائها ويكرمهم بالنجاح والتفوق ويعوضها عن صبرها خيرا من عنده، لقد كانت تعاني أشد المعاناة من مشقة العمل وصعوبته فقد كانت تعمل في أكثر من منزل في آن واحد، وتجمع المال ثم تنفقه جميعه على تعليم أبنائها الذي يتطلب الكثير من المال كلما تقدموا في المراحل الدراسية، ولم تكن تبقي لنفسها شيئا.. لكن تفوق أبنائها ورغبتها في رفع مكانتهم بالعلم وتوفيق الله لهم كان يخفف عنها الآلام ويمسح عنها الأحزان التي تلاقيها.. بقيت على هذا الحال عدة سنوات حتى تخرج أبنائها واعتلوا أرقى المناصب.. فقد كان أحدهم مهندسا والآخر طبيبا، وفتح الله عليهم من رزقه من حيث لم يحتسبوا وعوضهم خيرا عن أيام التشرد والحرمان التي ذاقوا هوانها.. وأصبحت والدتهم تفخر بهم وتعتز فقد حقق الله لها ما تمنت فقد أصبحت أم الطبيب والمهندس بعد أن كانت مشردة هي وأطفالها لا تدري أين تسكن؟.. ولا كيف تطعم صغارها؟.. وسكنت وأطفالها سنوات في عُشة يشتكي الفقر من فقرها.. تحرقهم الشمس بحرها ويقرصهم الشتاء ببرده، واشتكى جسمها الضعيف من قلة الراحة ودوام النصب، ومرت عليهم أيام لا يجدون ما يأكلون.. يمرضون فلا أحد يسأل عنهم، ويجوعون ولا أحد يطعمهم، ويحزنون ولا أحد يواسيهم..

لقد ذاقت من مرارة الحاجة والحرمان وذرفت دموع الذل والهوان ما جعلها تقدر كل نعمة أنعم الله بها عليها، وتحمد الله عليها وتتذكر الفقراء والمحتاجين والمشردين فلا تبخل عليهم.. ولقد كان اعتمادها على الله وكثرة دعاءها وعظيم صبرها أكبر الأثر في صمودها وقوتها ومواصلة طريقها الشاق للرقي بمستوى أبنائها حتى عوضها الله تعالى، فأصبحت تتحدث بنعم الله عليها وتنسب له كل فضل وخير منّ به عليها وتحمده في كل وقت.


 دموع الذل

كان ذا أسرة كبيرة ودخل محدود أثقلته متطلبات الأسرة ونفقات المدارس فأخذ يستدين حتى يفي بما يلزمه من مصاريف.. فتراكمت عليه الديون وحاصرته من كل مكان.. وازدادت عليه الهموم فقد بلغت ديونه مبلغا كبيرا لا يمكن لدخله المحدود أن يفي ولو بجزء صغير منه.. فوقف عاجزا بين متطلبات أسرته الكبيرة وبين أصحاب الديون الذين أخذوا يطالبونه بحقوقهم.. أغلقت له الدنيا أبوابها فلجأ إلى باب الواحد الأحد الذي لا يرد سائلا ولا يغلق بابه في وجه من قصده، فهو الواحد الأحد الفرد الصمد الذي تلجأ إليه جميع الخلائق لقضاء حوائجها ولا يحتاج هو لأحد..

دعاه بقلب يملؤه الثقة بالله تعالى ويفرجه ورحمته.. فأشرق له بصيص من أمل في قضاء دينه.. فقد تقدم لابنته أحد كبار التجار وعرض عليه مهرا كبيرا جدا يمكن به أن يقضي ما عليه من ديون..

فرح الأب بذلك وعرض على ابنته الكبرى الأمر فرفضت بشدة؛ لأنه أكبر منها سنا فهو في عمر والدها.. حاول الأب أن يقنعها لعلها توافق عليه وذكرّها بما عليه من ديون.. أثقلت كاهله، وطأطأت رأسه لكنها لم تلن ولم تقبل أن تضحي من أجل والدها..

لم يشاء والدها أن يجبرها فيكون سببا في تعاستها.. لكنه تمنى منها أن تقدّر ظروفه وتوافق راغبة، فالمتقدم رجل لا غبار عليه في خلق أو دين؛ لكنه كبير في السن نوعا ما وهذا شيء لا يقدح فيه.. فكثير من الرجال يتزوج في كبره ويكون زواجه ناجحا وسعيدا.. لكنها أصرت على موقفها..

فشعر أن الباب الذي يمكن أن يكون سبب لإزاحة هذا الثقل عن كاهله يكاد أن يُغلق.. فأسبل الدمع حزنا وعجزا عن دفع هذا الهم الذي يكاد يقتله وسداد هذا الدين الذي أرهقه، وقال: حسبي الله ونعم الوكيل.. فرأته ابنته الصغرى ورأت دموع العجز والحزن تنحدر على خديه، فقالت له: كفكف دموعك يا أبي لن أرضى أن تخرج هذه الدموع الغالية وأنا أستطيع أن أكفكفها عنك.. ادفعني إليه يا أبي فإني أرضى أن أكون زوجة له بشرط أن يسدد جميع ديونك.. لم يصدق الأب ما سمع.. فكررت ابنته عليه ما قالت، فسُرّ بذلك وحمد الله وأثنى على ابنته خيرا ودعا لها.. ثم تم العقد عليها لذلك الرجل، ودفع لهم مبلغا كبيرا مهرا لعروسه.. فأعطته لوالدها وقضى به ما عليه من دين، وأزاحت بذلك عن والدها الهم الذي أثقله سنوات عديدة.. لقد كانت تتمنى مثل كثير من الفتيات الشاب الذي يقاربها في السن ويكون ذا علم ودين وخلق.. الشاب الذي تكون هي أول زوجة تدخل في حياته؛ لتحيلها إلى سعادة وحبور.. والشاب الذي ترضاه لنفسها بدون ضغوط أو اضطرار.. الذي تقبله لشخصه وليس لماله حتى لا يمتن عليها بماله، ويظن أنه اشتراها به.. ثارت في نفسها مشاعر مختلطة ما بين خوف وقلق وحزن؛ لكنها لجأت إلى الله تعالى أن يمدها بعون منه ورحمة وأن يعوضها خيرا وأن يصبرها ويرزقها طاعة زوجها وإكمال حقوقه..

وحددوا موعد الزواج وقبل الزواج بأيام حصل أن زوجها سافر فجأة لعمل مهم فتأجل الزاج إلى حين عودته..

لكنه لم يعد.. فقد وافته منيته في تلك السفرة.. ولم يتم الزواج ثم ورثت زوجته التي لم يدخل بها الملايين.. وأصبحت من الأغنياء ما بين عشية وضحاها.. وهي التي ضحت بنفسها من أجل المال حتى تقضي به ما على والدها من ديون.. وهي التي لم تستطع أن تتحمل رؤية دموع العجز والذل في عيني والدها، فآثرت أن تضحي بسعادتها من أجل أن تمسح الشعور بالذل الذي يلازم والدها.. وترجع إليه الابتسامة التي فقدتها فيه منذ مدة.. لقد عوضها ربها خيرا عن صبرها وتضحيتها من أجل والدها فكفاها الأمر ورزقها من حيث لا تحتسب.. فسبحان من لا يرد سائلا ولا يخيب راج، وسبحان من يجيب من دعاه ويكفي من توكل عليه.



([1]) سورة البقرة آية 177.

([2]) سورة الزمر آية 10.

([3]) سورة آل عمران آية 186.

([4]) سورة آل عمران آية 120.

([5]) سورة آل عمران آية 125.

([6]) سورة آل عمران آية 146.

([7]) سورة الأنفال آية 46.

([8]) سورة السجدة آية 24.

([9]) سورة البقرة آية 155.

([10]) سورة النحل آية 96.

([11]) سورة الرعد آية 23-24.

([12]) سورة المؤمنون آية 111.

([13]) متفق عليه.

([14]) سورة الطلاق آية 3.

([15]) سورة المائدة آية 23.

([16]) سورة الأنفال آية 62.

([17]) سورة آل عمران آية 173-174.

([18]) سورة آل عمران آية 159.

([19]) تيسير الكريم الرحمن.

([20]) سورة آل عمران آية 160.

([21]) سورة النحل آية 99.

([22]) رواه أحمد.

([23]) رواه البخاري.

([24]) سورة الشرح آية 6.

([25]) سورة الدخان آية 25-28.

([26]) سورة إبراهيم آية 37.